أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

انقلب السحر على الساحر… وانكشفت هوية السارق

اسوأ ما يُقال اليوم، هو انّ الدولة لا تستطيع تسديد ديونها، وبالتالي، أي محاولة لربط إعادة الودائع بالديون السيادية، هو مضيعة للوقت، ولن ينجح. في الموازاة، يعرف من يقول هذا الكلام ان لا اموال في المصارف لإعادة الودائع، لأنّ هذه الاموال كانت مودعة لدى مصرف لبنان، وقد «سطت» عليها الدولة وبذّرتها. فهل تعني هذه المعادلة انّ الودائع لن تعود؟

السؤال كان مطروحاً منذ ان تظهّرت الحقيقة في شأن الطريقة التي أدّت الى تبدُّد الاموال، لكن هذا السؤال قفز الى الواجهة، بعد مذكرة ربط النزاع التي رفعتها المصارف في وجه الدولة، لمطالبتها بدفع ديونها والتزاماتها الى مصرف لبنان، لكي يتمكّن بدوره من تسديد التزاماته للمصارف، والتي تقارب الـ 80 مليار دولار، وصولاً الى أن تتمكّن المصارف نفسها من دفع الودائع الى اصحابها.

فهل صحيح انّ خطوة مقاضاة الدولة هي مجرد رفع عتب، ولذرّ الرماد في العيون، ولكي يعرف المودعون انّ الدولة هي من أنفقت اموالهم، وتبرئ المصارف ذمّتها، وكان الله يحب المحسنين؟
هذا الاستنتاج لا يقع في موقعه الصحيح. وإذا كان البعض يقيس وضعية الدولة من الناحية المالية استناداً الى ايراداتها الحالية، واستناداً كذلك الى اوضاع موظفيها الذين باتت معدلات رواتبهم لا تكفي لدفع فاتورة كهرباء، والى مشهد الادارات العامة التي تعجز عن إنجاز المعاملات بسبب افتقارها الى ادوات القرطاسية، فهو مخطئ حتماً. الدولة غنية وقادرة على دفع التزاماتها، او قسم كبير منها على الاقل. والدليل انّ هذه الدولة التي هبط موظفوها في مداخيلهم الشرعية الى مستوى الفقر المدقع، يوجد عدد كبير منهم في عداد الأثرياء الكبار. وهؤلاء لم يجمعوا ثرواتهم بالوراثة، بل بالفساد والرشاوى.

وبالتالي، اصبح معروفاً انّ تغيير إدارة الدولة بفسادها المستشري من الرأس حتى القعر، سوف يغيّر الإيرادات بنسب لا علاقة لها بالمستويات القائمة اليوم. لكن المشكلة انّ المنظومة السياسية لا تريد ان نصل الى نقطة تسليم ادارة مؤسسات واصول الدولة الى القطاع الخاص، لأنّ هذه الادارات هي مرتع لسرقة المال، وتوظيف الأزلام والمحاسيب، وتجميع الاصوات الانتخابية، وحماية الذات من السقوط.

الدولة اليوم، بما تملك من اصول، وبما تملك من مؤسسات، وبواسطة سلطة التوقيع على كل المعاملات والتراخيص والإعفاءات والامتيازات، قادرة على الانتقال من العجز السنوي الدائم، الى فائض محترم يمكن استخدامه في تسديد الديون، خصوصاً انّ المطروح جدولة طويلة الأمد قد تمتد الى عشرين سنة.

كذلك تملك الدولة الاحتياطي من الذهب والذي فاقت قيمته اليوم، بسبب ارتفاع اسعار المعدن الاصفر، اكثر من 18 مليار دولار. وبالمناسبة، هل يمكن النظر بإيجابية الى ملف الذهب، المحمي بقانون يمنع بيعه؟

المفارقة في هذا الموضوع، انّ المنظومة السياسية، تعترف من خلال هذا القانون، بعجزها عن حماية الثروات، وبعدم صلاحياتها لكي يتمّ ائتمانها على الاحتياطي الذهبي. وهذا الامر واقعي جداً، بدليل انّ الاحتياطي النقدي الذي كان موجوداً في مصرف لبنان قبل تشرين 2019، (حوالى 32 مليار دولار) تمّ تبديده، ولم يبق منه سوى 7 مليارات دولار.

المفارقة الثانية، انّ الدولة التي كانت تبحث عن السارق لتعرف اين ذهبت الاموال، وكلّفت شركة عالمية بإجراء تدقيق جنائي في مصرف لبنان، فوجئت بأنّ التقرير الجنائي يدينها دون سواها، ويشير اليها بالاصبع في عملية سرقة وهدر اموال الناس، التي كانت مودعة في مصرفها المركزي.

في كل الاحوال، الطرف الاول الذي استدرك هذه المعادلة ورفضها هو مصرف لبنان نفسه، بعد تسلّم وسيم منصوري مقدّرات ادارة المصرف مع المجلس المركزي. وكان اول قرار اتخذه في الاول من آب، اي في اليوم الاول لتسلّمه مهامه، هو وقف إقراض الدولة، ومنعها من مدّ يدها على اموال الناس. وكان هذا القرار بمثابة المواجهة الاولى التي قام بها منصوري مع الدولة. وبالتالي، فإنّ مذكرة ربط النزاع، والمقاضاة لاحقاً، التي قد تلجأ اليها المصارف، ما هي سوى استكمال لما بدأه مصرف لبنان نفسه. وبالتالي، فإنّ المصارف باتت تقف وراء منصوري وليس العكس. واصبح الاثنان في خندق واحد، لتحصيل الحقوق لأصحابها.

أما المغالون في رفض تحميل الدولة أية مسؤولية، رغم وضوح مسؤوليتها في الوقائع وفي التقارير، ومنها التدقيق الجنائي الذي طلبت إنجازه الدولة نفسها، ودفعت تكاليفه من الخزينة، لم يعد مجدياً النقاش معهم، لأنّه بات واضحاً انّ مواقفهم لا علاقة لها بالإنقاذ ومعالجة الأزمة، وإعادة حقوق الناس، بل تستند، على الأرجح، الى أهداف اخرى، يصعُب النقاش فيها.

انطوان فرح

 

“موديز” تحسّن نظرتها المستقبلية إلى لبنان: استقرار في القاع

لا يمكن أن يمر تصنيف “موديز” الجديد للبنان وتحسين نظرتها المستقبلية للبلد من دون التوقف عنده. فالتصنيف الجديد وإن كان يحمل إشارات إيجابية، إلا أنه يدفع كل من يتابع تطورات الأزمة المالية في لبنان إلى طرح تساؤلات حول دقة التصنيف وجدارته.

فتصنيف موديز الإئتماني للبنان مستقر عند مستوياته الدنيا C إلا إن نظرتها المستقبلية تغيّرت من سلبية إلى مستقرة. في وقت تعجز فيه السلطات في لبنان من تحقيق خطوة واحدة إلى الأمام على مستوى الإصلاحات والخروج من الأزمة المالية النقدية المصرفية، التي وصفها البنك الدولي بالأسوأ على مستوى العالم.

3 سنوات مرت على إعلان لبنان قراره الرسمي بالتخلف عن سداد سندات اليوربوندز. ومذاك الوقت لم يتم التفاوض مع الدائنين على أي صيغة للسداد. كما لم يتم إحراز تقدم يُذكر على صعيد التفاوض مع صندوق النقد الدولي للإلتزام ببرنامج إصلاحي، ناهيك عن تدهور كافة المؤشرات النقدية والمالية منذ سنوات وحتى اليوم.

انهيار ما بعده انهيار
في ظل كل تلك المعطيات يصبح تحسين النظرة المستقبلية لإحدى وكالات التصنيف الإئتماني أمراً مستغرباً، وغير واضح لجهة الدوافع الاقتصادية العلمية. من هنا، يُعرب الخبير المالي والنقدي المتخصص بالتصنيفات الإئتمانية غسان شماس عن صدمته بما جاء في خلاصة تقرير موديز، وتحسين نظرتها المستقبلية لتصنيف لبنان، “فالوضع الاقتصادي والمالي والنقدي في لبنان لم يتغير. أما لجهة الديون، فلبنان لم يسدد ولم يتفاوض مع الدائنين على جدولة الديون. ولم يجر أي تفاهم مع اصحاب السندات” ويقول شمّاس “لا أريد أن أكون سلبياً لكن ما أعلنته موديز عن التصنيف والنظرة المستقبلية غير منطقي بالنسبة إلى الواقع اللبناني”.

وإذ يلفت شماس في حديثه إلى “المدن” إلى أنه بتقرير موديز المذكور جرى رفع قيمة السندات السيادية بشكل هائل، علماً ان قيمة اليوروبوندز حالياً يساوي نحو 8 سنتات للدولار، يتخوّف من أن يكون هناك اجندات سياسية تجاه لبنان. فقد سبق لوكالات التصنيف الأميركية ان تلاعبت بتصنيف عدد من الدول لأسباب سياسية.

ويطرح شمّاس أفضل السيناريوهات بأن تكون وكالة التصنيف استندت في تصنيفها ونظرتها إلى معطيات مصرف لبنان، وأخذت بالاعتبار تحقيق مصرف لبنان تقدم على مستوى مالية البنك المركزي وتحسن بالاحتياطات، و”لكن هذا ليس كافياً ولا يبرّر ما جاء في تقرير موديز لجهة التصنيف ونظرتها المستقبلية للبنان”. فلا يمكن تجاهل واقع الأزمة الحالية، يقول شماس.

يلتقي الخبير الإقتصادي والمالي غابي بجاني مع شمّاس، ويرى أن من المبالغة تحسين النظرة المستقبلية للبنان معتبراً في حديثه إلى “المدن” أن الاستقرار الواقع اليوم في لبنان هو الاستقرار على الانهيار. فالوصول إلى القاع ليس بعده انهيار. وعليه، قد تكون وكالة التصنيف استندت الى استقرار الوضع على الرغم من عدم إحداث أي تقدم على مستوى الحلول “فالاستقرار في هذه الحالة لا يعني أن هناك تحسّناً أو مؤشرات ايجابية، إنما عدم بلوغ مستويات جديدة من الانهيار”.

ويذكّر بجاني بمفاصل الأزمة الاقتصادية الواقعة منذ سنوات، وعدم إحراز السلطة أية حلول، لاسيما بعد ان تعثرت وأعلنت تخلّفها عن سداد اليوروبوندز، من دون أفق أو رؤية واضحة للخطوة التالية. ويُضاف إلى كل ذلك، حسب بجاني، الفراغ السياسي والتخبط الحاصل اليوم على مستوى المؤسسات الدستورية، ما يعزّز نظرية الاستقرار في أدنى مراتب التصنيف حيث لا مرتبة أدنى عن ذلك.

قاع التصنيفات
يأتي تحسين نظرة موديز المستقبلية تجاه لبنان في وقت تستمر فيه باقي وكالات التصنيف الإئتماني، فيتش وS&P، بتصنيف لبنان عند أدنى المستويات عند SD. وهي حالة التعثر إلى جانب نظرتها المستقبلية السلبية، وهو ما يناقض تماماً ما خرجت به موديز.

وآخر تلك التصنيفات صدر في شهر آب الفائت عن وكالة S&P Global حين صنّفت الديون بالعملة الأجنبية للبنان عند “التعثر الانتقائي” مع نظرة سلبية.

وكانت وكالة موديز قد اوضحت في تقريرها حول لبنان “أن التوقعات المستقبلية المستقرة للبنان هي انعكاس لتوقعاتها بأن يظل التصنيف عند “C” في المستقبل المنظور”. وهو ما يصفه مصدر مطلع على التصنيفات الائتمانية بـ”الإرباك في التقديرات”

ويقدّر التصنيف C بأدنى المراتب حسب تصنيفات موديز الائتمانية. وتعبر عن حالة التعثر مع احتمال ضئيل لسداد أصل الديون أو الفائدة.

مع الإشارة إلى أن أبرز معايير التصنيف الائتماني السيادي للدول التي تستند إليها وكالات التصنيف الدولية، هي المالية العامة للدولة، وتشتمل على الموازنة ونمو الناتج المحلي ووضع الديون الخارجية للدولة، ومعدل التضخم، وميزان المدفوعات، والتنمية الاقتصادية والتشريعات والقوانين وبيئة الأعمال، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وتاريخ الدولة في التزامها بسداد ديونها والقطاع المصرفي، بالإضافة إلى معايير تظهر قدرة الدولة على الوفاء بديونها وسلوكها مساراً يضمن حقوق الدائنين.

وبالنظر إلى كل تلك المعايير، نجد أن لبنان أخفق في بلوغها جميعاً خلال الأزمة التي دخلت عامها الخامس، ولم يحقق أي تقدم في مسارات الإصلاح.

عزة الحاج حسن

جامعة هارفرد تؤكّد طرحنا للدولرة الشاملة للبنان: إهداء لمن يعتبر «الكنيسة القريبة ما بتِشفي»

ضمن اقتراحهم الدولرة الشاملة الرسمية، وجد الباحثون في مركز أبحاث جامعة هارفرد الذي يضم كبار الأسماء المتخصّصة بالسياسة النقدية، لا سيما منها ريكاردو هوسمان وكارمن رينهارت وهوغو بانيزا فضلاً عن باريوس، برينو، باشيكو، بان لوكنير، موسي، فانتوري… انّ المزايا المرتبطة بالانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية لها أهمية خاصة في السياق اللبناني، في حين أنّ عيوب الدولرة التي يتم الاستشهاد بها تقليدياً هي أقل أهمية، نظراً للواقع الاقتصادي اليوم في لبنان. وبالتالي، فإن الدولرة هي الخيار الأفضل، بالمقارنة مع الخيار الأكثر قابلية للتطبيق البديل: سعر صرف معوّم مُدار ضمن نظام مصرفي يعتمد بشكل كبير على الدولار، إلى جانب مصداقية سياسية محدودة وفي الحالة اللبنانية تحديداً، فإن فوائد الدولرة تفوق عيوبها.

وفي المقام الأول، فإن الدولرة الكاملة من شأنها أن تضع حداً للتضخم المفرط في لبنان. على الرغم من وجود الاستراتيجيات البديلة التي يمكن أن تخفض التضخم تدريجاً، تعتبر الدولرة هي الأكثر فعالية على الإطلاق. ولنتأمل هنا حالة الإكوادور، حيث حدث التضخم بعد الدولرة الكاملة للاقتصاد وقد انخفض معدل التضخم من 96.1% في عام 2000 إلى 2.7% في عام 2004. ومنذ ذلك الحين، شهدت الإكوادور معدل تضخم لا يتجاوز 10%. في ظل وجود سياسة مالية توسعية نسبياً.

علاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي الدولرة دورًا في تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر والتبادلات الاقتصادية، وخاصة مع الأطراف المقابلة في العالم (الخليج) حيث ترتبط معظم العملات بالدولار.
لقد تحول الاقتصاد اللبناني بالفعل إلى الدولار بحكم الأمر الواقع. منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1989، كان لدى لبنان قطاع مصرفي يعتمد على الدولار بشكل كبير. قبل عام 2019، كانت معظم الأسعار ثابتة وتمّت المعاملات بالليرة اللبنانية. ومع ذلك، منذ عام 2019، بدأ التضخم المفرط في التبادل وانهيار أسعار الفائدة، وتجميد الودائع المصرفية، تحول الاقتصاد إلى الدولرة بحكم الأمر الواقع. الأسعار، حتى بالنسبة للمعاملات اليومية الصغيرة، وأجور القطاع الخاص كلها مقوّمة بالدولار الأميركي. هذا يعنى أن الليرة لم تفقد دورها كمخزن للقيمة فحسب، بل فقدت أيضاً دورها كوسيلة للتبادل والوحدة من الحساب. وفي ظل هذه الظروف، يمكن استخراج رسوم صَك العملة من إصدار العملة المحلية وتنخفض كثيراً في حين أن ارتفاع مرونة الاستبدال بين العملة المحلية والدولار يخلق طلبًا متقلبًا على الليرة مما يعقّد السياسة النقدية (الوضع المالي الحالي المسيطر يجعل السياسة النقدية غير فعالة تماماً في إدارة التضخم). ونظراً لضخامة انخفاض قيمة العملة وانخفاض الطلب على الليرة، واستبدال العملة المحلية المتداولة بها يمكن تمويل الدولار الأميركي، ومن غير المرجّح أن يسبب هذا النوع من الديناميكيات الانكماشية التي ناقشها (كارافيلو، مارتينيز برويرا، وويرنينج، 2023).

إن الافتقار إلى المصداقية يحد من قدرة البنك المركزي على الاستجابة للصدمات الخاصة للسياسة النقدية التيسيرية. ولا تكون السياسة النقدية فعالة إلا في ظل وجود جهة ذات مصداقية للبنك المركزي والتوقعات الراسخة. ولم يكن مصرف لبنان يتمتع بالمصداقية قبل الأزمة. ولذلك اعتمدت سياسة سعر صرف ثابت وتسامحت مع مستوى مرتفع من دولرة الودائع المصرفية.

علاوة على ذلك، فحتى في السنوات الهادئة، لم يكن الربط جديراً بالمصداقية الكاملة، كما يتضِح من حقيقة الفائدة وتجاوزت أسعار الفائدة بالليرة بشكل كبير تلك التي بالدولار. ومن المرجح أن تكون هذه المشكلة أكثر أهمية في ظل نظام التعويم المُدار حيث يخشى البنك المركزي من آثار الميزانية العمومية وسيكون لتحركات أسعار الصرف تأثيرها على البنوك والحكومة والقطاع الخاص. لذلك، إنّ سياسة تعويم سعر الصرف في اقتصاد جداً مُدَولر هي خطيرة، وسوف ينطوي هذا النظام على أسعار فائدة مرتفعة للغاية، الأمر الذي سيؤدي إلى تعقيد ديناميكيات الدين، في حين أنه غير فعال في التعامل مع الديون واستقرار الاقتصاد. وفي هذا السياق، تصبح السياسة النقدية مسايرة للتقلبات الدورية إلى حد كبير، ما يؤدي إلى زيادة معدلات الفائدة لمنع الاستهلاك في الأوقات السيئة. ربما يتعيّن على البنك المركزي العودة إلى سياسة سعر صرف ثابت فعليًا لا يسمح بسياسة نقدية مستقلة كما لا يسمح بذلك أيضًا تحقيق تأثير مصداقية الدولرة الكاملة.

إن الاقتصاد اللبناني منفتح للغاية ومرتبط بشكل وثيق بالاقتصادات المربوطة بالدولار. وتتوقف تكلفة الدولرة على درجة التكامل مع دورة الأعمال في منطقة الدولار. وفي السياق اللبناني، فإنّ فترات الركود غير متزامنة مع دورة الأعمال في منطقة الدولار هي أقل احتمالاً نظراً لأن الشركاء التجاريين الرئيسيين للبلاد والبلدان المرسلة للتحويلات لديهم عملات مرتبطة بالدولار (الشكل 19). علاوة على ذلك، فإنّ سوق العمل في لبنان ضعيف للغاية ومفتوح، حيث يمارس العديد من المواطنين خيار العمل في الخارج بأعداد تتغيّر مع تغيّر التقلبات الماكرو اقتصادية ما يوفّر نوعًا من الاستقرار التلقائي.

ومن الممكن أن يؤدي التعويم المُدار إلى هشاشة مالية لأنه قد يكون عرضة للتحقيق الذاتي لتوقعات السلبية. ومن المرجّح أن يؤدي التعويم المُدار إلى فترات استحقاق قصيرة جدًا للديون، وتشاؤم فيما يتعلق بمستقبل الاقتصاد من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة، وإلى ارتفاع خدمة الدين والعجز نظراً لآجال استحقاق الديون القصيرة، وهو ما يبرر التشاؤم الأولي. وبالمثل، توفّر الدولرة ركيزة نقدية أكثر مصداقية من سعر الصرف الثابت.

ألا أنّ الدولرة الشاملة تحتاج إلى إجراء تغييرات في قانون النقد والتسليف الصادر لعام 1963 والقوانين الأخرى ذات الصلة بمصرف لبنان للسماح للإطار المؤسسي بالتوافق مع هذا الإجراء. على أن يعكس القانون الحاكم الجديد الوظائف والأدوات المحدودة التي يتمتع بها البنك المركزي بشكل كامل.

كما أنّ الاقتصاد الدولاري لن يُسمح للبنك المركزي بإصدار العملة الوطنية أو التدخل في سوق الصرف الأجنبي. ثانياً، سيتم تقليص مجالات عمل مصرف لبنان إلى السوق المفتوحة العمليات مع محفظتها من الأوراق المالية المقومة بالعملة الأجنبية وتوفير محدودية السيولة الطارئة بشكل نسبي، من خلال استخدام احتياطياتها الزائدة من العملات الأجنبية.

وأخيرا، تساهم الدول في تعزيز وظيفة المراقبة والإشراف لمصرف لبنان، حيث أن الدولرة ستتطلب صرامة أكبر في تنظيم القطاع المصرفي وانضباطه. وسيحتاج النظام المصرفي إلى تغييرات في لوائحه الاحترازية لضمان الاستقرار في ظل محدودية دور مصرف لبنان كمُقرض الملاذ الأخير كونه لا يطبع الدولار الأميركي، إنما في أفضل الأحوال يمكنه إنشاء صندوق تأمين بالدولار الأميركي تساهم به المصارف لمساندتها في حال عرفت أزمة سيولة حادة بالدولار. على الرغم من المخاطر المتعلقة بسعر الصرف تساهم الدولرة الشاملة بإزالتها، ويفترض تعديل القوانين واللوائح المهمة الأخرى لاستيعابها بشكل كامل.

وفي الاقتصاد الدولاري، ستحتاج البنوك إلى متطلبات احتياطي أعلى لضمان سيولة أموالها، والى ودائع والتزامات أخرى قصيرة الأجل. ويمكن تلبية هذه المتطلبات من خلال الودائع والاحتياطات في مصرف لبنان أو في مصارف دولية مراسلة ذات جودة عالية. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج المصارف إلى زيادة نسبة كفاية رأس المال للتأكد من قدرتها على السداد في ظل الظروف المعاكسة، ومن المقترح أن يتم رفع النسبة إلى 15%.

ونظراً للظروف اللبنانية، فإن الفوائد الإيجابية من الدولرة الرسمية تتفوّق على التكاليف المحتملة لها. أما الآلية التقنية المفصّلة فهي تتضمّن المراحل التالية:
لشراء القاعدة النقدية المقومة بالليرة اللبنانية إلى الدولار بسعر السوق الموازية، سيحتاج لبنان إلى حوالى 1.2 مليار دولار أميركي. الأصول لتحويل كافة الأموال الأجنبية المطلوبة، سيأتي تداول أرصدة الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي من الاحتياطيات التي يحتفظ بها مصرف لبنان قبل أصوله ويتم إعادة هيكلة الالتزامات. وهذا من شأنه أن يضيف إلى الاقتصاد النقدي، المقدّر بنحو 9 مليارات دولار، الدولار الأميركي المتداول حالياً.

ومع الإمكانيات المحدودة لأن يكون مصرف لبنان مُقرضاً تقليدياً كملاذ أخير، فإن مصرف لبنان سيفعل ذلك عبر اللجوء إلى أدوات أخرى مثل ارتفاع متطلبات الاحتياطي، وتوفير السيولة من خلال فتح عمليات السوق أو الوصول إلى خطوط الائتمان الدولية. الدول الدولارية التي لديها بنك مركزي تميل إلى تبنّي متطلبات احتياطي أعلى لتغطية ودائعها المصرفية ومَنع التهافت على الودائع.
إنّ متطلبات الاحتياطي المرتفعة ستكون ذات أهمية خاصة في حالة لبنان، حيث أن ثقة الجمهور في مصرف لبنان تآكلت منذ بداية الأزمة الحالية. بالإضافة إلى ذلك، سيعمل مصرف لبنان بدور محدود في عمليات السوق المفتوحة عن طريق شراء أو بيع الأوراق المالية المقومة بالعملة الأجنبية اعتماداً على احتياجات السيولة للقطاع المالي ومدى توفّر خطوط الائتمان الدولية للمساعدة.

إن متطلبات الاحتياطي الأعلى من المصارف للإيداع في مصرف لبنان يمكن أن تكون بمثابة رسوم صك العملات للدولة. واعتماداً على الحاجة إلى التمويل من خلال هذا التدبير، سيكون مصرف لبنان قد سمح لها بدفع أسعار فائدة أقل على تلك الودائع مما تكسبه من خلال استحواذ الأصول الأخرى في محفظتها، وتحويلها بشكل فعال إلى دخل. يجب استخدام هذه الأداة بحذر لأنه قد يؤدي إلى التشوهات وزيادة تكاليف الاقتراض. وسيتولى البنك المركزي مهامه كمنظّم ومنسق لنظام النقد. في حين يمكن القول انّ دورها كمقرض الملاذ الأخير سيكون محدوداً لأنها لا تملك الوصول إلى عدد غير محدود من العملات الأجنبية، لا يزال بإمكان مصرف لبنان أن يعمل كمنظم وميسّر للقطاع المصرفي، وتوفير أنظمة المقاصة بين البنوك لتسهيل المدفوعات، مع سَنّ سياسات للسيطرة على المخاطر في النظام المالي تخدم غرض دور الملاذ الأخير على المدى المتوسط والطويل، بالنظر إلى قيود السيولة التي سيواجهها مصرف لبنان عند إعادة هيكلته.

لن يقتصر دور مصرف لبنان على مُقرض السيولة، لأنّ النظام المالي سيتطلب مقاصّة للدفع وفق النظام وهيئة للمراقبة. وكما هو الحال مع المصارف المركزية في الاقتصادات الدولارية الأخرى، لن يقتصر دورها في الاقتصاد على دور مقرض الملاذ الأخير، بل سيدير أيضًا أنظمة الدفع بين المصارف وسوف يوفر خدمات المقاصة للدفع بين المؤسسات المالية المحلية وبقية العالم. بصفته كيانًا رقابيًا، سيُشرف مصرف لبنان على تطبيق معايير أعلى لكفاية نسبة رأس المال، والوصول إلى خطوط سيولة دولية عالية الجودة مع المصارف المراسلة، وأي إجراء إضافي يسمح للمصارف بتغطية ودائعها وغيرها من الالتزامات قصيرة الأجل في ميزانياتها.

د. سهام رزق الله

تحويل الودائع الى ديون وإعادة هيكلتها مع هيركات

الدراسة التي أنجزتها جامعة «هارفرد» الاميركية، وبصرف النظر عن بعض التفاصيل الواردة فيها، إلا أنها في عناوينها ومضمونها لا تختلف كثيراً عمّا يطالب به اقتصاديون لبنانيون منذ أربع سنوات، ولا تزال اقتراحاتهم مجرد صوت وصدى، ولم تتحرّك حتى الآن العقول المتحجّرة في الدولة، لحسم النقاش، والبدء في مسار الحل المطلوب للخروج من النفق.

التعمُّق في الدراسة التي قدمتها «هارفرد» لحل الأزمة يقود الى مجموعة حقائق وردت في متنها، يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
اولاً – انّ مسؤولية الخسائر المتراكمة، والتي قدّرتها الدراسة بحوالى 76 مليار دولار، ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها الدولة اولاً، من خلال تغطية ديونها وديون مصرفها المركزي. والمصارف ثانياً، عبر المساهمة في تغطية جزء من الخسائر من خلال آليات الاكتتاب في سندات الدين التي تكون قد انتقلت الى مسؤولية الدولة بالكامل. والمودع الكبير ثالثاً من خلال عملية هيركات في اطار اعادة جدولة الديون.
ثانياً – انّ عملية الفصل بين الخسائر والقطاع المصرفي ينبغي ان تحصل بشكل فوري، بحيث يتمكن القطاع من معاودة العمل بشكل طبيعي من دون الحاجة الى انتظار انجاز المعالجة. وكذلك الامر بالنسبة الى البنك المركزي، الذي سيتحوّل وضعه المالي من العجز الى الفائض، بما يسمح بإعادته الى العمل بفعالية.
ثالثاً – الحرص على مبدأ ضمان تغطية كل الودائع حتى سقف محدّد يتراوح وفق تقديرات الدراسة بين 100 و150 الف دولار.

في مقاربة واقعية لهذه الدراسة، نستطيع ان نلاحظ انّ الطروحات ليست بعيدة عمّا هو متداول اليوم. وحتى مبدأ الدولرة الشاملة ليس بعيداً عمّا يتم اعتماده اليوم، لجهة دولرة القسم الاكبر من الدورة الاقتصادية، من دون الحاجة الى الدولرة الشاملة بما يعني إلغاء العملة الوطنية. هذا الخيار قد لا يناسب البلد، طالما ان اجراءات الدولرة الجزئية، مع ضبط الكتلة النقدية بالليرة، والتنسيق مع وزارة المالية شبه كافٍ للسيطرة على سعر الصرف. وأذا أضَفنا الى هذه العناصر خطة للتعافي بالتوافق مع صندوق النقد، تصبح الحاجة الى إلغاء الليرة غير قائمة، ويمكن الاستغناء عنها، من دون المجازفة باستمرار تفلّت التضخّم.

تبقى النقطة الأهم المتعلقة بإعادة الودائع الى اصحابها. في هذا السياق، تصيب الدراسة الهدف من خلال الاعتراف بأنّ اموال المودعين موجودة دفترياً في مصرف لبنان، وغير موجودة واقعياً بسبب إنفاق هذه الاموال من قبل الدولة اللبنانية ومصرفها المركزي. ومن هنا يأتي الاقتراح بأن يتم تحويل ما يُعرف بالخسائر الى دين عام على الدولة. وبهذه الطريقة يصبح دين الدولة 107 مليارات دولار (76+31 ملياراً قيمة اليوروبوندز).

لكن الآلية التي تضعها الدراسة حول اصدار الدولة لسندات لتغطية الخسائر (76 مليار دولار)، ومن ثم اكتتاب المصارف بها لتحويلها لاحقاً الى المودعين الكبار، تعني عملياً شطب الودائع بنسبة تقارب الـ80 أو 90 %، وفقاً للنسبة التي ستُعتمد في اعادة هيكلة اليوروبندز. بمعنى آخر، ستتم تسوية مشكلة الودائع الكبيرة (فوق الـ100 الف دولار)، بالطريقة نفسها التي ستتم فيها تسوية ديون السندات الدولارية. وقد صار واضحاً انّ اعادة هيكلة اليوروبوندز لن تقود الدولة الى دفع اكثر من 10 الى 20% من قيمتها الفعلية، استنادا الى اسعارها الحالية في السوق المالي.

هذه النقطة لا تناسب اللبنانيين، لأن عملية الشطب فيها كبيرة. صحيح ان مبدأ الهيركات ينبغي ان يكون مقبولاً بالنسبة الى الودائع الكبيرة، لكن الأمر يتعلق بالنسبة المئوية للشطب وليس بالمبدأ فحسب. لذلك فإنّ ما يتمّ تداوله اليوم لجهة إنشاء مؤسسة استرداد الودائع قد يكون أفضل بكثير، خصوصاً ان كل الاطراف المعنية بالأزمة ينبغي ان تشارك بالتمويل. اي الدولة ومصرفها المركزي والمصارف نفسها. أما حصة المودعين الكبار في المساهمة، فقد تتم من خلال حسم الفوائد المرتفعة لمدة محدّدة من السنوات.

في النتيجة، قد تساعد دراسة «هارفرد» في ان تكون مرتكزاً لترسيخ الافكار المتداولة محلياً، وهي بمثابة تأكيد لمن لا تزال تُساوره الشكوك، في الطريقة التي ينبغي اعتمادها لمعالجة الأزمة. فهي تؤكد المؤكّد لجهة انّ الدولة ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها في معالجة موضوع الخسائر، واي كلام خارج هذا السياق لا يعدو كونه من النوع الشعبوي، او الكيدي، او حتى الهادِف الى مزيد من التدمير. وكل هذه الطرق لا تقود سوى الى الخراب.

 

انطوان فرح

مرحلة جديدة تتحضّر: الدولار إلى تراجع؟

بعد تحقيقه الأهداف المرجوة، تجفيف الكتلة النقدية من السوق الى حدودها الدنيا وتثبيت سعر الصرف والحفاظ على استقراره رغم الاضطرابات الامنية، تظهر أمام المصرف المركزي اليوم فرصة لخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة. فهل يُقدم عليها راهناً ليعطي اشارة بأنّ البلد متوازن رغم الاضطرابات الامنية والشلل السياسي؟ أم ينتظر انطلاق منصّة «بلومبرغ»؟ أم هدوء الجبهة الجنوبية لضمان نجاحها؟

أظهرت الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان تراجعاً في حجم النقد بالتداول اي «الكاش» او النقدي بنسبة 31.4% لتصل الى 50,405.7 مليار ليرة لبنانية في نهاية ايلول 2023، بعدما كانت 73,514 مليار ليرة لبنانية في نهاية عام 2022 و54,484.4 مليار ليرة لبنانية في نهاية أيلول 2022. فهل حجم العملة المتداولة كافٍ لتسيير الاقتصاد؟ هل وصلنا الى الحدود الدنيا؟ هل من تداعيات لهذا التراجع على سعر الصرف؟ وهل من رابط بين هذا الامر وقرار مصرف لبنان بإعادة طباعة عملة الـ 100 الف ليرة، مع العلم انّه كان هناك توجه لطبع فئات جديدة مثل الـ 250 الفاً والـ500 الف والمليون؟

في السياق، أوضح عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري لـ«لجمهورية»، انّ هذه الارقام تعكس الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها مصرف لبنان، والتي تقضي بتجفيف الليرة من السوق، لافتاً الى انّ هناك عامل ارتباط بين كل قرش يضخّه مصرف لبنان وارتفاع سعر صرف الدولار. فما حصل في مرحلة ما قبل استلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري كان مضاعفة حجم الليرة في السوق بالنسبة الى الدولار، ما ادّى الى ارتفاع سعر الصرف وصولاً الى 140 الف ليرة للدولار، لكن عندما استلم منصوري بدأ باتباع سياسة معاكسة، وهي سياسة «التنشيف» التي ترافقت مع توقف عمليات صيرفة التي كانت الممر الأساسي لضخ الليرة، تلاه اعلان منصوري عدم استعداده لتمويل الدولة. كل هذه العوامل ادّت الى فرملة ضخ الليرة.

أضاف: «انّ هدوء السوق الذي حصل في فصل الصيف سمح للحاكم بالإنابة أن يقوم بإدارة الاحتياطات forex management ما بين ضخ ليرة وسحب دولار او العكس، حتى وصلنا اليوم الى هذا الشح في العملة، بدليل ارتفاع الفائدة على «الانتربنك» /ليرة (وهي الفائدة على استدانة المصارف لليرة في ما بينها) الى 130%، وهذه النسبة المرتفعة انما تدلّ إلى اننا مستمرون بسياسة التنشيف».

لكن السؤال الأساسي، كيف تمكّن المصرف المركزي من رفع احتياطاته من العملات الاجنبية مؤخّراً، بينما يستمر بتصغير الكتلة النقدية؟ ماذا دفع مقابل هذه الليرات حتى تمكّن من سحبها من السوق بينما احتياطه من العملات الصعبة لم يتراجع لا بل زاد نصف مليار دولار؟

ورأى الخوري انّ القول انّ هذه الزيادة جاءت من حسابات الدولة وجبايتها للضرائب هو غير صحيح، لأنّ هذه الاخيرة لا علاقة لها بحجم النقد بالتداول، وهنا نتساءل: هل حصلت تحويلات خارجية «فريش» من دون ان يقابلها شراء لأسباب متعددة لا نزال نجهلها؟ هل أعادت المصارف تحويل أموال عائدة لها من الخارج الى الداخل اللبناني؟ هل تمّ اكتشاف خطأ ما في طريقة احتساب الاحتياطي؟ هل تبين انّ هناك اموالاً مكتسبة من مصدر جديد، وقد أعيد احتسابها ضمن الاحتياطات؟ التساؤلات كثيرة والاجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لكن لا بدّ من التأكيد انّه لا يمكن رفع احتياطي العملات الاجنبية من الشراء من السوق، وفي الوقت نفسه يتراجع حجم النقد بالتداول باللبناني. الّا انّ كل هذه المؤشرات ترسم صورة للمرحلة الجديدة وتتلخّص بالتالي:

طالماً انّ الفائدة على الانتربنك زادت 130% فهذا يعني انّه بات بمقدور مصرف لبنان تحسين سعر صرف الليرة لأنّها مفقودة من السوق، اي انّها مطلوبة وليست معروضة، فالمعروض اليوم هو الدولار، على عكس ما كان سائداً في السوق في المرحلة السابقة، حيث كانت الليرة معروضة والدولار مطلوب. وبناءً عليه، يُتوقع ان نبدأ بمرحلة التراجع في سعر الصرف وبهذه الطريقة سيتمكن مصرف لبنان من إعادة ترميم احتياطاته بكلفة أقل.

ورأى الخوري انّ المعادلة الراهنة تسمح لسعر الصرف بالانخفاض الى 50 الفاً، لكن الواضح انّ ما كان مطلوباً لهذه المرحلة هو تثبيت سعر الصرف وإعطاء أثر نفسي ايجابي بانتهاء لعبة الليرة / دولار.

ماذا عن المرحلة المقبلة؟ وهل كان المطلوب ربط خفض سعر الصرف بعمل «بلومبرغ» او إهدائها ايّاه كإنجاز؟ قال الخوري، اذا انطلق عمل المنصّة من دون ان يتوفّر اللبناني في السوق فحتماً سينخفض سعر الدولار مقابل الليرة وليس العكس. ورأى انّ هناك متغيّرات عدة في السوق اللبناني راهناً يجب مراقبتها والتوقف عندها. فمرحلة الحاكم السابق رياض سلامة انتهت بكل ابعادها، بحيث تمّت السيطرة على الدين العام بالمعنى المالي، واليوم ستبدأ مرحلة جدّية عنوانها اعادة ترميم المالية العامة، وهذه الخطوة تنتظر الخطة النهائية للاصلاح. وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ هذه الأزمة كما سارت اراحت كثيراً السلطة السياسية وخفّفت عنها أحمالها وعجزها المالي.

ورداً على سؤال، أكّد الخوري انّه لا يمكن للنقد بالتداول ان يتراجع أكثر مما هو عليه اليوم، لأنّه أقل من الحدّ المسموح به، وبما انّ الفائدة على الانتربنك باتت مرتفعة جداً، يتوقع الخوري استناداً الى هذين العاملين ان ندخل قريباً في مرحلة التحسّن التدريجي لسعر الدولار، بحيث سيعمد المركزي الى العودة لضخ الليرة لتكبير حجم النقد بالتداول مقابل خفض سعر الدولار، أما الحدّ الذي يمكن ان يتراجع فيحدّده السوق، والمؤشر لذلك الفائدة على الانتربنك التي يجب ان تتراجع الى ما دون 10%.

وعمّا اذا كان اعلان مصرف لبنان إصدار دفعة جديدة من فئة الـ 100 الف ليرة الى الاسواق لها دلالات مالية، لا سيما انّه كان الحديث في الفترة السابقة عن توجّه لطبع ورقة الـ 250 الفاً والـ 500 الف ليرة وحتى المليون ليرة، قال الخوري: انّ تجديد إصدار المئة الف ليرة بمواصفات جديدة وتميّزها بصغر حجمها هو دليل انّه ما عاد من حاجة حتى لإصدار فئة الـ 250 الفاً، وهذا ما يؤكّد اننا متّجهون نحو مسار تراجعي في سعر صرف الدولار مقابل الليرة.

 

التهرّب الضريبي نموذج … أدنى من مرتبة “دولة”

الانتقادات التي يتعرّض لها مشروع موازنة العام 2024، تعود في قسمٍ كبير منها الى المناخ العام المرتبط باستمرار الانهيار الاقتصادي، وعجز الدولة منذ اربع سنوات عن إطلاق مسيرة التعافي، لإعادة الاقتصاد الى وضع طبيعي، يسمح بإقرار موازنات تتماهى مع الرؤية الاقتصادية. وبالانتظار، كل الموازنات ستكون ناقصة وغير مُجدية، في غياب التوافق على مسار التعافي العام.

من خلال الضرائب والرسوم، الجديدة منها والقديمة، التي تجري محاولة لزيادتها لتتماهى مع نسَب التضخّم التي شهدها البلد، يُلاحظ انّ الحكومة تجهد لتحسين الايرادات بأي ثمن. ورغم العورات الكثيرة الواردة في المشروع الحكومي، إلا أن الطامة الكبرى تكمن في الوضع الاقتصادي القائم، حيث بات 80 % من اللبنانيين في قائمة المحتاجين الى مساعدة، بسبب تراجع قدراتهم الشرائية الى مستويات متدنية.

في الموازاة، استعاد قسم من القطاع الخاص حيويته، بفضل عوامل عدة، من اهمها:

أولاً – الاستقرار الامني (قبل عملية 7 تشرين الأول في غزة) الذي سمح بعودة المواسم السياحية، وأدّى الى دخول العملة الصعبة الى البلد.

ثانياً – قرارات مصرف لبنان التي سمحت بإعادة القروض بالليرة او باللولار، الامر الذي سمح لقسم كبير من المؤسسات بتحقيق ارباح استثنائية غير متوقعة، ساعدتها على الصمود، وربما ازدهار بعضها.

ثالثاً – الكلفة التشغيلية التي انخفضت نسبياً عمّا كانت عليه قبل أزمة الانهيار.

هذه العوامل ساعدت القطاع الخاص على استعادة نشاطه جزئياً، الامر الذي أدّى الى وقف الانكماش الذي كان قد بدأ قبل اربع سنوات.

لكن هذا التحسّن في اداء القطاع الخاص بقي هشاً، وهو معرّض للانهيار بسرعة، بسبب عدم توفّر مقومات التوسّع والصمود. وما دام القطاع المصرفي في «صالة الانتظار»، بسبب تقاعس «الدولة» عن البدء بمعالجة الأزمة النظامية (systemic crisis) التي ضربت البلد منذ اكثر من اربع سنوات، سيبقى القطاع الخاص في غرفة العناية الفائقة، ومُعرّضاً لانتكاسات خطيرة في اية لحظة. على سبيل المثال، ما فعله اصحاب بعض المؤسسات السياحية، أنهم جمعوا الارباح التي حققوها في فترة الصيف، وهم يُنفقون منها منذ 7 تشرين لضمان صمود مؤسساتهم. هذا النمط من العمل لا يمكن ان يدوم، ولا يمكن ان يبني مؤسسات قادرة على التوسّع والمنافسة، وبالتالي لا يمكن ان يؤدّي الى اقتصاد طبيعي ومزدهر. ومن دون اقتصاد طبيعي وقادر على النمو بنسب جيدة، ستبقى الأزمة قائمة، لأنّ الدولة لن تعثر على ايرادات كافية للقيام بدورها المألوف. الاقتصاد بوضعه الحالي، لا يكفي لتحقيق استقرار اجتماعي، يمكن تأمينه من خلال نظام ضرائبي مهمته اعادة توزيع الثروة لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، وضمان مقومات البنية التحتية لتقديم الخدمات للفرد والمؤسسات والمستثمرين.

ما يقوله المنتقدون اليوم، في موضوع الموازنة صحيح، لكنه يعبّر عن فشل الدولة في صياغة وبدء مشروع الانقاذ، اكثر ممّا يعكس وجود أخطاء او شوائب في الموازنة. مَن رَسَم الخطوط العريضة للموازنة، يدرك ويعترف مسبقاً بأنّ الدولة عاجزة عن اتخاذ القرارات المطلوبة للاصلاح، لذلك لجأ الى مبدأ «اذا لم يكن ما تريد، أرِدْ ما يكون». إذ يكفي ان يتم خفض التهرّب الضريبي الذي يجري تقديره حالياً بحوالى 60%، لكي تتحسّن الايرادات العامة بنسبة لا تقل عن 25 الى 30%. لكن الدولة تعترف مسبقاً بعجزها عن تنفيذ مثل هذه القرارات الامر الذي يجعلها أدنى من مرتبة «دولة». وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تنسحب على كل القرارات الاخرى التي لا تستطيع السلطات اتخاذها لأنها عاجزة عن تنفيذها.

في وضعٍ مماثل، لن يكون مُستغرباً تصدير مشاريع موازنة غير متّزنة، لأنّ الرؤية الاقتصادية التي نطالب بها جميعاً، لا يمكن حصرها بالموازنة، وإبقاء ما تبقّى على ما هو عليه. بمعنى، ان الموازنة قد تصلح لتكون بمثابة رؤية اقتصادية مستقلة الى حد ما، في الاوضاع الاقتصادية الطبيعية، لكن الامر يختلف بعض الشيء في وضع استثنائي كما هو في لبنان منذ اربع سنوات. الدولة تحتاج الى تحديد مسار التعافي والمضي به ضمن خطة خمسية او عشرية واضحة، ومن خلال هذه الخطة يمكن إيراد رؤية اقتصادية في الموازنة، تتماهى مع هذه الخطة. اما الاعتقاد انّ الموازنة لوحدها «بِتشيل الزير من البير»، فهو لا يقع في محله، وفيه الكثير من الاوهام او المزايدات او الشعبوية. مع الاشارة الى ان كل هذا الكلام لا يبرر صدور الموازنة بثغرات كالتي ظهرت في مشروع موازنة 2024، لكن هذه الثغرات يمكن للمجلس النيابي معالجتها، وهو يفعل حالياً، وهذا واجبه، ولكن الانقاذ والتعافي في مكان آخر لا يزال مغلقاً حتى الآن.

انطوان فرح

السيناريو الأفضل هو سيناريو سيئ

يسيطر التدمير والإرهاب يوماً بعد يوم في مجزرة غزة، ويدفع الثمن الباهظ الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وهناك تخوّف جدّي وخطر من توسيع بقعة الحرب نحو كل المنطقة. وإذا ما حصلت سيكون لها تأثير دراماتيكي على جميع الأصعدة. فالسيناريو الأفضل اليوم هو وقف إطلاق النار، والمرفوض من أسياد الحرب. لننظر بإيجابية وبعض التفاؤل الى ما بعد القصف والتدمير.

مهما حصل، هذه الحرب أوقفت كل عقارب المفاوضات والمحادثات ومحاولة التطبيع التي كانت تتوسع في المنطقة. فسيكون صعباً للغاية أن تُعاد المفاوضات وخصوصاً بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وبقية البلدان العربية، فتراجعت المحادثات أشواطاً إلى الخلف، لا بل جُمّدت أو حتى دُمّرت.

أما على الصعيد الإقتصادي الشرق أوسطي، فمهما حصل، فقد جُمّدت الإستثمارات، وتراجعت الحركة والتبادل التجاري، وتراجع دراماتيكياً النقل الجوي في المنطقة، وسيأخذ وقتاً طويلاً لإعادة الثقة والنمو.

أما على الصعيد الدولي، فإن هذه الحرب الجديدة صرفت الأنظار عن الحرب الأوكرانية – الروسية المتكاملة، بعيداً عن الأنظار وعدسات الكاميرا والصحافة الدولية. ولم تعد في سلّم الأولويات الدولية.

في لبنان، نسينا أو تناسينا أولوياتنا وهمومنا المعيشية والمصيرية، ولم يتحدث أحد عن الفراغات الدستورية في أعلى المناصب، بدءاً من منصب رئاسة الجمهورية الفارغ منذ سنة، والمناصب الأمنية، والمالية والنقدية، وقريباً في قيادة الجيش.

على الصعيد المالي والنقدي، لم تعد إعادة الودائع، ليس فقط في الأولويات، لكن حتى في الأحاديث، كأنها طُمرت تحت الركام. أما عمليات التنقيب المنتظرة منذ عقود، فلم يتحدث أحد بأنّها قد جُمّدت، ولم يتناول أحد أي نتائج مرجوة عنها، ولن تبدأ من جديد قبل الإستقرار التام. وهذا أمر مستبعد.

حتى لو حصل السيناريو الأفضل، وهو وقف إطلاق النار المرفوض من جهات عدة حتى اليوم والمُستبعد، حتى لو حصل، فإنّ عدم الإستقرار والمخاوف والمخاطر قد أوقفت كل عقارب التفاوض، وإعادة النمو، وإعادة بناء بلدنا المكسور والمنهوب.

في المحصّلة، هناك سيناريوهات عدة، سوداوية ومخيفة، والسيناريو الأفضل في الأفق هو وقف المدفع والتدمير والإرهاب والدماء، لكن حتى هذا السيناريو الإيجابي لن يُرجعنا إلى نقطة الصفر، لا بل سنعود أشواطاً وعقوداً إلى الوراء. فكل يوم يمرّ نتراجع خطوات كبيرة إلى الوراء، وتُطمر وتُدفن أولوياتنا الأساسية وإحترام دستورنا ومواجهة أزمتنا الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، وقد أصبح همّنا الأكبر اليوم عدم الإنزلاق في حرب جديدة، ناسين وراءنا أزمتنا الراهنة ومشاكلنا المعيشية التي ستتضاعف يوماً بعد يوم.

د. فؤاد زمكحل

إقتراحات في التداول تثير القلق والريبة

هناك حركة غير اعتيادية على المستوى المالي والنقدي، في محاولة لابتكار معالجات مؤقتة، وطرح اقتراحات تسمح بإعادة بعض الحيوية الى الوضع الاقتصادي. لكن هذه الحركة لا تخلو من الخطورة، رغم النيات الحسنة، لأنها قد تكون بديلاً هجيناً من الحل الشامل والجذري، والمنتظر منذ اكثر من أربع سنوات.

من خلال الاعمال التمهيدية الاولية التي بدأها صندوق النقد الدولي قبل اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الاول الماضي، تحضيراً للتقرير الذي يُفترض ان يصدر في العام 2024، وفق المادة الرابعة، تبيّن انّ معطيات كثيرة تبدلت في المشهد الاقتصادي اللبناني. وكان يُفترض استكمال الاعمال تمهيداً لزيارة وفد من الصندوق الى بيروت في آذار المقبل، لإنجاز كل الاعمال لإصدار التقرير المنتظر حول الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان. لكن النشاطات توقفت، وتمّ إخلاء مكتب صندوق النقد الدولي في لبنان. وبالتالي، أصبحت معظم النشاطات معلّقة، بانتظار سكوت المدفع، وعودة الوضع الى طبيعته. وبالمناسبة، مكتب صندوق النقد في بيروت هو مكتب اقليمي لدول المنطقة، وهذا يعكس بطبيعة الحال، موقع بيروت المميّز، رغم الكوارث والأزمات، بحيث انها لا تزال تُعتمد كمقر اقليمي لمؤسسات دولية. لكن استمرار الأزمات والاضطرابات قد يؤدّي الى تغيير هذا الوضع ايضاً.

في عودة الى تقرير المادة الرابعة، وفي حال تعذّر إصداره العام المقبل، في حال طال أمد الحرب في غزة، وتعذّر استكمال الدراسات المطلوبة لإصدار التقرير، فهذا يعني انّ فرص الحل الشامل ستكون مؤجّلة، على اعتبار ان مضمون هذا التقرير يُبنى عليه في تقدير الوضع المالي والاقتصادي، لإنجاز اي اتفاق مع صندوق النقد.

وما هو خطير في عمليات التأجيل المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، انها تشجّع على الاجراءات المؤقتة، والتي يمكن ان تكون مُضرّة، في حال تمّ اعتمادها كبديل من الخطة الشاملة. على سبيل المثال، جاء قرار مصرف لبنان بتوسعة قاعدة المستفيدين من التعميم 158، ليُنصف شريحة مظلومة من المودعين. لكن هذا القرار قد يصبح مشكلة في حد ذاته، في حال تبيّن ان بعض المصارف عاجزة عن تنفيذه، وفي حال تبيّن لاحقاً، انه قد يؤثّر سلباً على امكانات الحل الشامل لمشكلة الودائع.

وبالتالي، من الضروري ان يكون كل اجراء مؤقت يُتخذ اليوم، متناسقاً مع مبدأ عدم التأثير السلبي على الحل الشامل، ومن الاهم ألا تشكّل هذه الاجراءات المُجتزأة بديلاً من الحل الشامل. اليوم، هناك في الكواليس اقتراحات يتمّ درسها، تهدف الى تنشيط الوضع المالي من دون انتظار الحل النهائي. هذه الاقتراحات التي تجري تحت عنوان معالجات الضرورة، تصبح خطيرة ومميتة اذا كانت نية من يقترحها هي الاستغناء عن الحل الشامل، اي التخلي عن مشروع خطة متكاملة للتعافي تشمل الى جانب الاتفاق مع صندوق النقد، معالجة الخسائر في مصرف لبنان، واعادة تطبيع الوضع المصرفي، والتوافق على مسار حل لمشكلة الودائع. وحتى اذا كانت النية حسنة، فإنّ الخطر يكمن في ان تستفيد الدولة من الاجراءات المجتزأة، وتصرف النظر نهائياً عن المعالجات الشاملة.

وفي الحديث عن تقرير صندوق النقد تحت البند الرابع، لا بد من طرح اسئلة حول طريقة تعاطي الدولة بكل أجهزتها مع هذا التقرير الذي صدر في حزيران 2023، وكان يُفترض ان يشكّل مادة دسمة للمراجعة واتخاذ القرارات، واذا به يدخل غياهب الاهمال والنسيان، تماماً كما حصل مع تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز اند مارسال».

في تقرير صندوق النقد، ما يفيد بأن حجم الفجوة المالية في بداية العام 2020، كانت في حدود الـ20 % فقط، بما يعني ان 80 % من الودائع كان مغطّى. فهل كانت هذه الفجوة تستحق اعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020 ؟ والاهم، من المسؤول عن وصول هذه الفجوة اليوم الى ما نسبته 85 %، بما يعني ان الودائع صارت مُغطاة بنسبة 15 % فقط، بانخفاض قدره 65 %. وهل من دليل اوضح على مسؤولية «الدولة» في الافلاس والانهيار؟

وفي تقرير «الفاريز اند مارسال»، ورد انّ القرارات في مصرف لبنان كانت تُتخذ بالاجماع في المجلس المركزي، اي بموافقة مفوض الحكومة، وممثلي الدولة مثل المدير العام لوزارة المالية، ومدير عام وزارة الاقتصاد. بما يعني انّ «التمويه» في القيود المحاسبية، والذي كان يهدف الى إخفاء خسائر مصرف لبنان، كان يتمّ بموافقة المجلس المركزي مجتمعاً، بدليل انه كان يجري استبدال الخسائر بأرباح وهمية تُمنح سنوياً الى وزارة المالية، وهي حصّتها القانونية في الارباح. وهذا الامر لم يكن يجري لدعم وزارة المال، بل للتمويه ايضا، لأن الدولة كانت ستضطر الى اعادة رسملة مصرف لبنان، وفق قانون النقد والتسليف، في حال اعترفت بوجود خسائر. وهكذا يتبيّن ان الدولة ومصرفها المركزي كانا شريكين في جرم تزوير الحقائق، بهدف الاستمرار في استنزاف الاموال، وتكديس الخسائر من دون محاسبة.
يبقى السؤال، ما نفع التقارير المحاسبية والجنائية، التي تصدر تباعاً، اذا كان التعامل معها يتم على قاعدة انّ مكانها في سلّة المهملات.

صندوق النقد أكثر تفهماً والحل صار أسهل

كل المؤشرات والمعطيات تشير إلى انّ «سياسة» صندوق النقد الدولي اصبحت متفهمة اكثر للواقع اللبناني الاستثنائي، وما كان يرفضه الصندوق بالأمس، بات يقبل به اليوم، وما كان يتحاشاه بالأمس تجاوزه قبل فترة، وكسر بعض المحظورات من اجل تسهيل الامور. وبالتالي، اصبحت الكرة في ملعب اللبنانيين، وسيتحمّلون وحدهم مسؤولية إضاعة الفرصة القائمة للخروج من الانهيار المُدمّر.

منذ ان بدأت المفاوضات بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي في شأن عقد اتفاق تمويل لخطة إنقاذية للاقتصاد، كانت نقطة الخلاف الرئيسية مسألة الفجوة المالية القائمة في مصرف لبنان، وطرق معالجتها، على اعتبار انّ القرار المتعلق بهذه الفجوة يحدّد مصير المودعين. وكان واضحاً انّ الصندوق يرفض المساس بإيرادات الدولة للمساهمة في تمويل استعادة الودائع. هذا الرفض، دفع ربما الحكومة الى تقديم خطّة للتعافي خالية عملياً من برنامج واضح لاستعادة الودائع. وكان هناك نوع من التذاكي، لتحاشي الحديث عن شطبٍ للودائع، لكن مندرجات الخطة كانت ستفضي الى هذا الواقع. طبعاً، هذه النقطة بالذات، رفضها النواب، ولم يجرؤ أي حزب او تكتل مستقل على الموافقة عليها.

واعتبر البعض، انّ الزيارة الاخيرة لوفد صندوق النقد الى بيروت، كانت الاخيرة، وانّ الاتفاق مع الصندوق سقط الى غير رجعة، بعدما أدرك مسؤولو الصندوق انّ الخطة لن تمرّ في المجلس النيابي.

هذه المشهدية تبدّلت جزئياً اليوم، ومن يقارن «سياسة» الصندوق قبل ثلاث سنوات حيال الوضع اللبناني، مع مواقف وخطوات الصندوق في الفترة الأخيرة، يدرك اهمية التغييرات التي طرأت، والتي يمكن تحسّسها من خلال الحقائق التالية:

اولاً- أدخل الصندوق تعديلات على مقاربته الملف اللبناني. وفي حين كانت الاتصالات والمفاوضات تقتصر على رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة ورئاسة المجلس النيابي، وبالتنسيق مع وزارتي المال ومصرف لبنان، انتقلت منذ فترة الى التعاطي المباشر مع الاحزاب والقوى السياسية المُمثلة في المجلس النيابي. وهذا القرار احتاج الى جهد من قِبل فريق الصندوق في بيروت، لإقناع الادارة المركزية في واشنطن بضرورة سلوك هذا النهج. وبالفعل، باشر فريق عمل الصندوق لقاءات دورية مع نواب يمثلون الأحزاب والقوى السياسية كافة. وتهدف هذه الاجتماعات الى تبادل الآراء وتوضيح المواقف، ويتمّ إشراك ادارة الصندوق المركزية في النقاشات. هذا النهج ساهم في تغيير آراء ومواقف النواب من بعض المسائل، كما ساهم ايضاً في تغيير مواقف مسؤولي الصندوق من مسائل اخرى.

ثانياً- تقدّم الصندوق خطوة في اتجاه دعم فكرة إنشاء صندوق استرداد الودائع. وفي حين كان في السابق، غير متحمّس للفكرة، ولو انّه لا يعارضها طالما انّها لا تمسّ الإيرادات التي ادرجها في خطته الخمسية لتعافي المالية العامة للدولة، اصبح اليوم داعماً للخطوة، وأبدى ليونة في الموافقة على طرق تمويل صندوق الودائع.

ثالثاً- من خلال ما يتسرّب من أجواء المشاورات المستمرة، وافق الصندوق على مبدأ اقتطاع ارباح من إيرادات الدولة لتغذية الصندوق، من خلال التفاهم على ادارة جديدة لمؤسسات القطاع العام، يفترض ان تؤدي الى تحسين ايرادات الدولة. وبالتالي، وافق الصندوق على اعتماد المبدأ الذي اعتمده في اليونان، والذي ينصّ على وضع تقديرات لحجم الإيرادات، واقتطاع نسب من الإيرادات التي قد تزيد عن هذه التقديرات.

من خلال ما تقدّم، اصبحت مسؤولية اللبنانيين مضاعفة حيال الوصول الى تفاهم مع الصندوق. إذ انّ القرارات التي كانت تُصنّف موجعة للإنقاذ اصبحت وراءنا، ومنها دعم الكهرباء، وحجم القطاع العام… وبالتالي، اصبحت الأزمة الوحيدة المتبقية لإعادة الاقلاع ترتبط بالودائع. وطالما انّ هناك نوعاً من التفاهم المثلث الأضلع حالياً، بين الدولة والصندوق ومصرف لبنان والمصارف، على مبدأ اعادة الودائع، اصبح الامر اسهل. وهناك اقتراحات متعددة في شأن تمويل صندوق الودائع، بينها ضريبة ارباح المقترضين، مردود شركة ادارة اصول الدولة، نسبة من إيرادات الغاز، إعادة رسملة مصرف لبنان، ارباح المصارف المستقبلية، وقد أبدى اكثر من مصرفي الموافقة على مشاركة المصارف من خلال اقتطاع نسبة من ارباحها لا تقلّ عن 30%.

طبعاً، ولئلا تجرفنا الأوهام، لن تكون فترة استرداد الودائع قصيرة، وستمتد لـ 20 عاماً الى الأمام. وهذا الامر لا يشمل طبعاً اعادة مبلغ الـ 100 الف دولار، والذي سيتمّ في فترة اقصر بكثير. لكن فترة الـ 20 عاماً لا تعني انّ كل المودعين الكبار (فوق الـ 100 الف دولار)، سيضطرون الى انتظار عقدين للحصول على اموالهم. ذلك انّ صندوق الودائع سيُصدر الاسهم فور إنشائه، لمصلحة المودعين، تعادل قيمتها قيمة الودائع بالدولار لكل مودع، وتُدرج هذه الاسهم في البورصة. وهذا يعني انّ المودع سيمتلك حق بيع الأسهم منذ اليوم الاول. وستكون اسعار هذه الاسهم مرتبطة بالنهج الذي سيتمّ اعتماده في تمويل الصندوق. ومن البديهي انّه كلما تقدّم العمل في ضمان التمويل مع السنوات، كلما زاد الطلب على هذه الأسهم، وارتفعت اسعارها. وليس مستبعداً ان يكون الطلب مقبولاً منذ البداية، طالما انّ الامر سيترافق مع توقيع اتفاق التمويل مع صندوق النقد الدولي، بما يعني اعادة فتح ابواب التعاون والمساعدة مع المجتمع الدولي والدول المانحة. وليس مستبعداً ان يجذب الصندوق مستثمرين اجانب وصناديق استثمارية، بما يساهم في ارتفاع اسعار الاسهم الى مستويات جيدة منذ السنوات الاولى لتأسيسه.

هذه الفرصة مُتاحة اليوم للإنقاذ، ومن مسؤولية القوى السياسية والنواب الذين باتوا يتحاورون مباشرة مع صندوق النقد، الضغط في اتجاه انجاز الخطوات المطلوبة للوصول الى إقرار وبدء تنفيذ هذا المشروع.

انطوان فرح

مخاطر الفريش كاش المتعدّدة

نذكّر بألم، أننا تحوّلنا من اقتصاد مصرفي دولي مراقب داخلياً وإقليمياً ودولياً، إلى اقتصاد الكاش العشوائي والخطر. إنّ جزءا كبيرا من اللبنانيين أُجبِر على حرق ودائعه، ليبقى منها 10% من مدّخراتهم وجنى عمرهم، لتأمين لقمة العيش والأدوية والإستشفاء والحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية. والبعض استطاع إعادة هيكلة مداخيله وأعاد تكوين بعض المدّخرات من الكاش مجدداً.

السؤال الذي يطرح نفسه: ما مستقبل ومخاطر العملات الورقية وهذا الكاش المختبئ في البيوت أو في صناديق الأمان؟

نذكّر ونشدد على أن اقتصاد الكاش هو أخطر إقتصاد في العالم، إذ انه يجذب المهرّبين والمروّجين ومبيّضي الأموال، ويُهرّب المستثمرين والرياديين والمبتكرين. فإقتصاد الكاش يُحفّز الإقتصاد الأسود، ويطعن بالإقتصاد الأبيض الشفّاف.

فمن بعد إنهيار القطاع المصرفي وخصوصاً إنعدام الثقة بالمصارف والدولة، لا يجرؤ أحد على وضع سنت واحد من وديعته في قطاع مهترئ. البعض يستطيع تحويل بعض مدّخراته إلى الخارج، بعد تدقيق دقيق، من قبل ضباط الإمتثال الدولية، أما البعض الآخر، فمحكوم بتخبئة بعض الدولارات الفريش الثمينة تحت الوسادة، أو في سنديانة الحديقة، مثل أجدادنا، أو في بعض الصناديق الآمنة. فهناك مخاطر كبيرة، ليس فقط في أمانة هذه الأموال الجديدة، لكن في مستقبلها، في الإقتصاد الدولي، في صلب إعادة هيكلتها.

إن الحرب العالمية القائمة بين العملات، هي من جهة، في التنافس على مَن سيتحكّم بالسوق الدولية، وأيّ عملة تفرض سيطرتها. أما من جهة أخرى، الكل مُتفق وهناك إئتلاف دولي، لمحاربة العملات الورقية، وإستبدالها بالعملات الرقمية. فهذا التحوّل جار في سرعة مذهلة، وسنصل الى يوم ستتبخّر فيه العملات الورقية في السوق، وسيُمنع استعمالها في الأسواق. فعلينا أن نكون واعين ومدركين لهذا التحوّل السريع، لعدم الوقوع في أفخاخ جديدة ومؤذية.

من جهة أخرى، للذين يستطيعون تحويل جزء من هذه العملات الجديدة، علينا ألاّ ننسى أو نتناسى أن هناك مخاطر كبيرة من إعادة إدراج لبنان على اللائحة الرمادية جرّاء زيادة تبييض الأموال. لقد حُظّرنا من المنظمات الدولية منذ أشهر عدة حيال هذه المخاطر الجدية، ولم يُتخذ أي تدبير أو إصلاح لمنع حصول هذه الكارثة الجديدة. فشبح اللائحة الرمادية وحتى السوداء يُمكن رؤيته في الأفق.

إضافة إلى ذلك، علينا أن نزيد مخاطر المصارف المراسلة والتي لا تزال تتعامل مع المصارف اللبنانية، فهنا أيضاً مخاطر كبيرة من أن هذه المصارف المتبقية تُجبر على وقف التعامل مع المصارف اللبنانية، لأسباب الإمتثال أو الحوكمة كما الشفافية، وعدم احترام القواعد الدولية، لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

كذلك، شئنا أم أبينا إن قانون الكابيتال كونترول، الذي يتشاجرون عليه منذ نحو أربع سنوات، سيُبصر النور يوماً، وهذا «الكونترول» سيكون ليس فقط على الأموال القديمة لكن سيضم الأموال الجديدة. وهذه ستكون رصاصة الرحمة على ما تبقّى من الإقتصاد والديموقراطية وحرية التعامل.

فهناك مخاطر جدية لوضع قيود صارمة، على الفريش كاش الجديد، وإذا ما حصلت ستخلق سوقاً سوداء جديدة، وبعض الصرّافين وحيتان المال جاهزون لسحب مكاسب ونسَب عالية لتهريب الكاش من البلد، كما يحصل حتى الآن في بلدان أفريقية عدة.

أخيراً، إن السياسيين اللبنانيين، بعدما نهبوا ودائع ومؤسسات الدولة، يبقى تركيزهم اليوم على طرق عدة ومحترفة لوضع اليد على الفريش كاش الجديد، الذي أُعيد تكوينه أو الذي سُرق من الودائع.

في المحصّلة، إن المسؤولين المباشرين عن أكبر عملية نهب في تاريخ العالم، لا يُمكن أن يكونوا حتى جزءاً من الحل، لكن بعد إعادة انتخابهم من الشعب المذلول عينه، ومن دون أي محاسبة أو مساءلة أو ملاحقة، لا شك في أنهم سيتابعون عملية النهب، الفساد والسرقة، لتكوين غنائم حرب هائلة، وأعينهم مركّزة اليوم على الفريش كاش الجديد. فمن جهة إن المجتمع الدولي يتخوّف من الفريش كاش الآتي من تبييض الأموال وبمقدوره تمويل الإرهاب، ومن جهة أخرى إن السياسيين اللبنانيين يخشون من أن هذه المدّخرات ستُسحب أيضاً من بين أيديهم من دون أي استفادة.

د. فؤاد زمكحل

«المؤامرة» التي حالت فعلياً دون استخراج الغاز

ن البديهي أن تنشط نظرية المؤامرات في ملف التنقيب عن الغاز، بعدما تبيّن ان الفرنسيين والايطاليين والقطريين لم يعثروا على غاز في البئر الذي حفروه في البلوك 9. وسبق ان صُدم اللبنانيون قبل ذلك، بعدم العثور على الغاز في البلوك 4. فهل نحن فعلاً امام مؤامرة تمنع لبنان من استخراج ثرواته في البحر؟

قبل الولوج الى مناقشة نظرية المؤامرة، لا بد من توضيح مسائل تقنية، وحقائق مُثبتة من خلال التجارب التي مرّت حتى اليوم في عالم التنقيب واستخراج النفط والغاز في العالم.

اولاً، لا يعني عدم العثور على غاز في المكمن الذي اختارت الشركة المنقّبة الحفر فيه، انه لا يوجد غاز في البلوك بالكامل. تماماً كما يبقى احتمال عدم وجود غاز في البلوك قائماً، الى حين إثبات العكس.

ثانياً، ان كل المسوحات المتطورة، والتي تطورت اكثر مع الوقت، لم تنجح في رفع نسبة العثور على النفط في المساحات التي يصنّفها المسح بأنها قد تحتوي على هذه المادة اكثر من واحد على اربعة 1/4، بما يعني انه بين كل اربع آبار يتم حفرها يتم العثور على النفط في واحدة فقط. ومثل هذه التجارب قائمة في كل دول العالم التي تحفر بحثاً عن الثروة النفطية، وكان أقربها إلينا في قبرص حيث أدّى الحفر في مكامن واعدة من حيث نتائج المسوحات، الى خيبات امل بعدما تبين ان لا وجود للغاز والنفط فيها.

ثالثاً – انّ عمليات الحفر في لبنان لا تزال ضمن المعدل المتعارف عليه، اذ تمّ حفر بئرين فقط حتى الآن، ولا يزال هناك متسع من الاحتمالات قبل الوصول الى مرحلة اليأس والاستسلام.

أما نظرية المؤامرة، فإنها مُستبعدة، ولو انّ إثبات ذلك بأدلة دامغة غير ممكن، تماما كما أن القدرة على إثبات وجود مؤامرة غير ممكن ايضا بأدلة وقرائن. ولكن، الناس، خصوصا في هذه الاوضاع الاستثنائية، يميلون في غالبيتهم الى تصديق نظرية المؤامرة، ربما لأنهم يرغبون في تصديق هذا المسار، اكثر من رغبتهم في الاعتراف بالخيبة.

لكن المعطيات التي تسمح باستبعاد نظرية المؤامرة، ولو انها لن تُقنع الكثيرين، هي كالتالي:

اولاً – ان الشركات العالمية وبينها توتال وايني وقطر اينرجي، لا يمكن ان تكون أداة في مؤامرات، بصرف النظر عن الجهة المتآمرة، وتوافق على تكبّد خسائر مالية ومعنوية، فقط لخدمة المتآمرين.

ثانياً – انّ الجهود التي بُذلت لإنجاز الترسيم البحري، لا يمكن ان تدخل في اطار التسالي، بل انها تهدف فيما تهدف، الى تسهيل مهمة التنقيب عن الغاز واستخراجه.

ثالثاً – كان هناك خمس دول تضغط لتسريع عمليات الحفر والتنقيب، هي: فرنسا، ايطاليا، لبنان، قطر واسرائيل (بسبب حصولها على حصة من الغاز الموعود في البلوكات الحدودية).

رابعاً – ان عمليات الحفر في البلوك 4 او في البلوك 9، تمت بوجود شركات لبنانية، وفيها مهندسون وتقنيون شاركوا في العمل، ولو بشكل غير مباشر. وبالتالي، هؤلاء يعرفون الامور التقنية، ويستطيعون ان يدركوا اذا ما كان هناك اي تلاعب في عمليات الحفر، كيف تتم، ومتى يجب ان تتوقف.

طبعا، كل هذه المعطيات يمكن دحضها من قبل مؤيدي نظرية المؤامرة، من خلال القول ان كل ذلك كان بمثابة «تمثيليات» لعبت فيها هذه الدول والاشخاص الادوار المطلوبة منها، وان كل ما جرى هو سيناريو محبوك بإتقان لإقناع الناس بأن الامور تتم بشكل طبيعي، وان عدم العثور على الغاز مسألة حظ عاطل، ليس أكثر.

في كل الاحوال، قد يكون السؤال الأهم بالنسبة الى اللبنانيين اليوم، هل انتهى الحلم، وتوقفت عمليات البحث عن الغاز في المرحلة المقبلة؟

الجواب العلمي ان احتمالات العثور على الغاز لا تزال قائمة، وبالنسَب نفسها التي كانت عليها قبل حفر البئرين في البلوكين 4 و9. لكن، هل ستوافق الشركات على حفر المزيد من الآبار، والمجازفة بخسائر اضافية اذا لم يتم العثور على الغاز؟

في تجربة الجارة قبرص، كانت شركة «ايني» تخطط لحفر 4 آبار بحثاً عن الغاز. وعندما حفرت بئرين ولم تعثر على الغاز، قررت التوقف وعدم استكمال حفر البئرين الآخرين. انها قرارات تقديرية تقوم بها الشركات وفق حساباتها ومصالحها الاقتصادية.

في لبنان، لا يمكن التكهن منذ الان بما ستقرره «توتال» و»ايني» و»قطر اينرجي». وليس معروفا ايضا، اذا ما كان ممكناً استدراج عروض اضافية على بقية البلوكات، على أمل مشاركة شركات جديدة خارج اطار هذا التحالف الثلاثي. لكن البعض يعتقد ان «قطر اينرجي» تحديدا تستطيع ان تقوم بمبادرة تمويل عمليات حفر جديدة، اكثر من توتال وايني.

في عودة الى نظرية المؤامرة، يمكن الجزم بأنّ «المؤامرة» الأكيدة هي المتعلقة بالسلطة اللبنانية التي اوصلت البلد الى الانهيار الكامل، بحيث صار عاجزا عن تمويل ذاتي لأية عمليات حفر مستقبلية، وعاجزا ايضا عن استنساخ اية تجارب اخرى ناجحة، مثل التجربة النرويجية، التي اعتمدت اسلوب إنشاء صندوق استثماري لتمويل عمليات الحفر، بعدما فشلت الدولة في الحصول على تمويل من المصارف العالمية لتمويل هذه العمليات. لكن لبنان بشكله الحالي، عاجز عن التمويل الذاتي، وعاجز عن انشاء صناديق، لأنه لن يجد اي مستثمر يجازف مع «دولة» ليست أهلاً للثقة.

استقرار نقدي غير ثابت… إلى أين يتّجه الدولار؟

فيما يشهد سعر صرف الدولار في لبنان استقراراً في الأشهر الماضية على سعر حوالي 89 ألف ليرة، تزامن مع الموسم السياحي وما رافقه من أموال ضخمة دخلت لبنان، تتّجه موازنة 2024 إلى توحيد سعر الصرف، وهو شرط من شروط صندوق النقد الدولي لمنح قرض بحوالي 3 مليارات دولار للبنان. وبينما كان الخبراء يؤكدون أنّ اتجاه الدولار سيكون صعودياً بعد انتهاء موسم الصيف، يظهر الدولار استقراراً في سعره، على عكس هذه التوقعات. ما السبب؟

في حديث سابق له، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري أنّ “الوقت اليوم هو المناسب لتحرير وتوحيد سعر الصرف، لمعطيات عديدة أبرزها انخفاض الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، وارتفاع الجباية لدى الدولة إلى حدود 20 تريليون ليرة شهرياً، وجزء منها نقدي، وهذا ما يؤدي إلى سحب الليرة أيضاً من السوق. وتحرير سعر الصرف وتوحيده يعني أنّ سعر الدولار المقوَّم على الليرة اللبنانية يُحدَّد بحسب عمليات السوق دون تدخّل من المصرف المركزي”. بالتالي، بمجرد اتخاذ قرار توحيد سعر الصرف، تُلغى جميع أسعار الصرف المتعددة التي فرضتها التعاميم 151 و157 و158 و161.

في هذا الإطار، ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ”النهار” أنّ “الاستقرار النقدي الحالي ناتج عن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء العملات الأجنبية، إلى جانب عامل آخر له دوره في الاستقرار النقدي وهو الدولرة، فكلّما زادت، تراجع طبع الليرة إذ لم تعد تُستعمل إلا لتمويل القطاع العام”.

أيضاً، مع وجود المغتربين صيفاً وإدخالهم الدولارات، أسهموا في الاستقرار النقدي دون الحاجة الكبرى إلى تدخل مصرف لبنان بنسبة كبيرة لدعم هذا الاستقرار وبالتالي دون تكبّده تكلفة كبرى، لكن طبعاً عادة، تكون هذه التكلفة على حساب توفير الأموال هذه لاستيراد المحروقات والكهرباء وصيانة الطرقات وغيرها. فالاستقرار النقدي يكلّف الدولة كثيراً وتكلفته تراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار شهرياً.

وحتى في بلد غير منهار اقتصادياً وغنيّ، توضح منصور أنّه دائماً ما يكون تثبيت سعر صرف معيّن واستقرار النقد مكلفاً. وتنفي أن يكون لاستقرار النقد حالياً سبب سياسي، وتعطي مثالاً عن عملة الدينار الكويتي الأقوى في العالم، التي تتكبّد الكويت كلفة كبيرة لتثبيتها واستقرارها.

أمّا عن توحيد سعر الصرف وتداعياته، فهو يبدأ من تحرير العملة، أي تعريضها للعرض والطلب، وبذلك، تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى. وتحريرها يعني غياب تدخّل المركزي لتثبيتها واستقرارها. وبرأي منصور، “إقرار أي بند في الموازنة لا يعني وجوباً أنه سيُلتزم به في لبنان، وأصبح موضوع توحيد سعر الصرف في لبنان أمراً على المسؤولين تنفيذه ولو نظرياً لأنّه مطلوب من صندوق النقد الدولي. بالتالي، تداعيات موازنة 2024 محدودة جداً على العملة في بلد كلبنان، ولن تؤدي إلّا إلى بلبلة شفهية”.

فالليرة منهارة أصلاً وليس هناك أية عوامل قد تؤثر سلباً بشكل إضافي على العملة بعد، وفق منصور. فتوحيد سعر الصرف يجعل من سعر الدولار قابلاً لأن يرتفع أو ينخفض، لكنّه يبقى بسعر موحَّد غير متعدّد. لذلك، مع الدولرة الحالية، سيكون تأثير هذا الأمر ضئيلاً جداً.

ولأنّ لبنان أصبح مدولراً بامتياز، قد يكون توحيد سعر الصرف عاملاً إيجابياً، إلّا أنّ منصور لا ترى هذه الإيجابية و”الليرة لن تعود إلى الوراء”. لذا، تصرّ منصور على أنّ “مسار الدولار صعودي بمجرّد وقف تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع”.

على عكس رأي منصور، من جهته، يورد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة في حديثه لـ”النهار”، أنّ “الاستقرار النقدي في لبنان هو نتيجة ضغوط سياسية أدّت إلى لجم المضاربين”. وحتى شركات الصيرفة المرخصة لم تعد تشتري الدولار في السوق، أي إنّ المضاربين والشركات توقفوا عن شراء الدولار.

فما عظّم الأزمة على شكلها الحالي، برأي عجاقة، هو المضاربة في السوق السوداء وهذا ما يبرّر استقرار سعر الصرف مع ذهاب هذا العنصر. لكن الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الأزمة النقدية لا تزال موجودة، وهي غياب الدولارات الكافية لدى الحكومة لتسديد جميع نفقاتها. فهي بحاجة إلى الدولار لصرف رواتب القطاع العام واستيراد المحروقات وتسديد اشتراكاتها السنوية في المؤسسات الدولية وتسديد الأجور للسلك الديبلوماسي والسفارات والقنصليات. لذلك، بحسب عجاقة، “ما لم تُطبَّق الإصلاحات، فالاستقرار النقدي هذا هو استقرار غير ثابت، ونتوقّع أن تتّجه ضغوط سعر الصرف نحو الارتفاع”.

وبرأيه، “الأزمة ستتعاظم أكثر عندما سنصل إلى آخر السنة دون تمكّن مصرف لبنان من تمويل العجز المقدَّر بـ40 تريليون ليرة، هنا السؤال: ماذا ستفعل الحكومة؟”، يسأل عجاقة.

فرح نصور

طوفان… والشعرة التي قد تقصم ظهر البعير

أيّ كلامٍ في الاقتصاد في مرحلة الانتظار التي تفصلنا عن معرفة اذا ما كان «طوفان الأقصى» سيصل الى لبنان، هو بمثابة مجازفة بالنظر الى حساسية الوضع، وسهولة سوق الاتهامات في حق من يُذكّر بالوقائع. ومع ذلك، لا بدّ من التذكير والتحذير وتقدير ما قد يحدث لاحقاً.

رغم مرور حوالى 17 عاما على حرب تموز 2006، لا يزال هناك غموض في تقدير دقيق للخسائر الاقتصادية التي أصابت البلد، خصوصا ان احصاء الخسائر في حالات مماثلة لا يمكن ان يتم اختصاره بالخسائر المباشرة، بل ينبغي احتساب الخسائر غير المرئية المتعلقة بالاعاقة الدائمة التي قد تكون أصابت البلد، لجهة النظرة الى مستقبله، وما يعنيه ذلك على مستوى جذب الاستثمارات، أو هجرة المواطنين، او رسم مخططات خارج البلد للأجيال المقبلة.

وقبل الخوض في التذكير بالاضرار والخسائر، لا بد من استعادة حقائق رقمية لا نقاش فيها. اذ عندما اندلعت حرب تموز 2006، كان حجم الموازنة العامة حوالى 10 مليارات دولار، في حين ان تقديرات الانفاق اقتربت من 12 مليار دولار (استناداً الى ارقام موازنة 2005، وهي آخر موازنة أُقِرّت حتى العام 2017). وفي الانتقال الى العام 2017 وصل حجم الانفاق الحكومي المقدّر في الحكومة الى حوالى 15 مليار دولار. وفي العام 2019، السنة الأخيرة قبل الانهيار وصل حجم الانفاق الحكومي في الموازنة الى حوالى 21 مليار دولار. ووصل حجم الناتج المحلي الى ما يُقارِب 51 مليار دولار.

اليوم، هناك مشروعٌ «طموح» للحكومة تريد من خلاله اقرار موازنة تستطيع من خلالها انفاق اقل من 4 مليارات دولار، وتقدّر ايراداتها السنوية بأقل من 3 مليارات دولار. وهو مشروع قد لا يمر كما هو، وبالتالي فإنّ حجم الايرادات والانفاق سيتم خفضهما من قبل المجلس النيابي، لتخفيف حجم الضرائب الاضافية عن كاهل اللبنانيين المَسحوقين اقتصادياً في غالبيتهم (حوالى 90% من المواطنين يعانون ضيقة معيشية). وقد انخفض الناتج المحلي من 51 مليار دولار قبل الانهيار الى 18 مليار دولار حالياً.

ولا حاجة الى التذكير بالمساعدات التي تلقاها لبنان بعد حرب 2006 لكي يقف على رجليه مجدداً، ويعيد إعمار ما تهدّم، وقد يكون من المفيد نقل ما ورد في كتاب «أطلس لبنان» (Atlas du Liban)، وهو ثمرة تعاون فرنسي- لبناني. وقد جاء في احد نصوص هذا الكتاب في شأن المساعدات التي حصل عليها لبنان بعد الحرب ما يلي: «لقد تضاعفت المساعدات الدولية لإعادة الإعمار في أواخر كانون الثاني 2007، خلال المؤتمر الذي أطلق عليه إسم مؤتمر باريس الثالث، وذلك من خلال دعم إضافي لسياسة الإصلاحات التي أعلنتها الحكومة اللبنانية، وبلغت ما مجموعه 7,6 مليارات دولار. ونجد من بين المساهمين الرئيسيين المملكة العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة… وكان يجب أن تسمح هذه المبالغ الكبيرة للبنان بتسديد ديونه على المدى القصير والبدء بالإصلاحات الهيكلية التي كانت تطالب بها هذه الجهات المانحة. كانت هذه المظاهر المختلفة من التضامن الدولي من أجل لبنان استثنائية؛ ولا بد من الإشارة إلى حجم المبالغ التي تم جمعها، بعد سنوات قليلة جداً من مؤتمر باريس الثاني الذي وُعد فيه لبنان بمساعدة تبلغ 4,5 مليارات دولار، صُرف منها بالفعل حوالى 2 مليار. وتشهد هذه المساعدات بوضوح أن هذه القوى المختلفة تعتبر لبنان عنصراً في استراتيجياتها الإقليمية. وهناك فقط حوالى 10 % من هذه الأموال على شكل منح، مخصصة للحالات المالية الطارئة وللمساعدة المالية المباشرة لإعادة الإعمار».

هنا ينتهي الاقتباس، ولا بد من التذكير بأن مساعدات مالية كبيرة وصلت في الفصل الاخير من العام 2006، وساهمت كلها في اعادة اعمار جزء كبير من الدمار الذي أحدثته الحرب.

السؤال الوحيد الذي ينبغي أن يكون مطروحاً اليوم هو: ما هو حجم الاضرار الاقتصادية التي قد تحلّق بلبنان اذا وصل «الطوفان» الى اراضيه عبر بوابة الجنوب؟ ما هي مقومات الصمود والبقاء التي يتمتّع بها اللبنانيون العاديون في مواجهة وضع مماثِل؟ ما هو حجم التضامن والمساعدات التي قد يحظى بها البلد بعد انتهاء الحرب في حال وصلت إلينا؟

الاجوبة عن هذه الاسئلة تسهّل مهمة تقدير ما ينتظر اللبنانيون اذا ما وصلت نيران الحرب الى بلادهم. وفي الامثال اللبنانية الرائجة مقولة «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، وهي مقولة تهدف الى الدلالة على ان التراكمات تصل الى مرحلة يصبح فيها اضافة ضغط بسيط (شعرة) كافياً لإحداث كارثة، فما بالك اذا أضفنا الى تراكماتنا «الطوفان»؟

أنطوان فرح

«الثالوث المستحيل» نسف إستقلالية مصرف لبنان: الدولرة الزاحفة تتحكّم بمساره…

من المهمّ معرفة مبدأ «الثالوث المستحيل» في الأدبيات الاقتصادية، حيث قدّم كل من الاقتصاديين جون ماركوس فليمنغ وروبرت مونديل في مقالات عدة مختلفة بين عامي 1960 و 1963 طرحهما عمّا يُسمّى بالمعضلة الثلاثية الشهيرة أيضًا باسم Trilemma، وهو مفهوم في الاقتصاد يستحيل بموجبه على المصارف المركزية الجمع – في الوقت نفسه- بين الثلاثة الأقانيم التالية:

• سعر صرف أجنبي ثابت.

• حرّية حركة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.

• سياسة نقدية مستقلة، وتعني قدرة البنك المركزي على تحديد أسعار الفائدة بشكل مستقل.

وقد تمّت ملاحظة فشل كل الاقتصادات التي حاولت تحقيق الأهداف الثلاثة معاً.

وفقًا لـ «الثالوث المستحيل»، يمكن للبنك المركزي أن يتبع سياستين فقط من السياسات الثلاث المذكورة في وقت واحد، مع استحالة تحقّق الثالثة. مما سيضطره إلى التخلّي عن أحد الأهداف الثلاثة. لذلك لدى البنك المركزي ثلاثة خيارات لتطبيق السياسات هي:

إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سياسة نقدية مستقلة، لأنّ تحديد سعر فائدة محلي يختلف عن سعر الفائدة العالمي، من شأنه أن يقوّض سعر الصرف المستقر… وكيف إذا كان المصرف المركزي في البلد المعني أيضاً يعاني من قلّة استقلالية عملياً بسبب انغماسه في تمويل عجز الدولة وديونها بالعملة المحلية والأجنبية؟ وأكثر من ذلك، كيف الحال إذا كان المصرف المركزي هو لاعب وحيد في اقتصاد بلد يغيب فيه التصويت على الموازنات طيلة 12 عاماً!؟ ويتمّ فيه اعتماد القاعدة الاثني عشرية طيلة هذه الفترة، مع اللجوء إلى مجلس النواب للتصويت على تخطّي سقوف الإنفاق وإمداد الدولة بسلفات خزينة متواصلة، ومن ثم جرّ الجهاز المصرفي كله للانغماس بتمويل الدولة، عبر الاكتتاب بسندات خزينتها بالعملتين المحلية والأجنبية، وثم عبر هندسات مالية لشراء الوقت، بغية تحقيق إصلاحات لم تتحقّق يوماً؟ وأبعد من ذلك، كيف يكون الوضع إذا أضفنا لكل هذه العناصر، أنّ البلد المعني هو بلد جداً جداً مدولر، وسلفات الخزينة والتمويل من المصرف المركزي يتمّ تحويلها عبره إلى الدولار الأميركي لتغطية مصاريف الدولة التي معظمها بالدولار، في بلد مدولر منذ أكثر من 40 عاماً، وبشكل متزايد من أزمة نقدية الى أخرى؟

إذا حدّدت الحكومة سعر صرف ثابتًا، وسمحت بحرّية حركة رؤوس الأموال، فسيتعيّن عليها تغيير أسعار الفائدة إستجابة للضغوط الخارجية. ستحتاج الحكومة إلى زيادة أسعار الفائدة (وجذب تدفقات الأموال الساخنة) من أجل الحفاظ على قيمة العملة المحلية وتثبيت سعر الصرف الثابت. كما يعني هذا أنّه في فترات الركود، قد لا تستطيع الحكومة خفض أسعار الفائدة، لأنّها إذا فعلت ذلك فسوف تتدهور العملة الوطنية.

وإذا اختار البنك المركزي تطبيق سياسة نقدية مستقلة وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سعر صرف ثابت. كيف ذلك؟ إذا كانت الحكومة ترغب في الحفاظ على الاستقلال النقدي وسمحت بحرّية تنقل رؤوس الأموال، فستحتاج إلى السماح بسعر صرف معوّم. على سبيل المثال، إذا كانت الحكومة في مواجهة مع التضخّم يمكنها زيادة أسعار الفائدة. لكن أسعار الفائدة المرتفعة هذه قد تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة. البلدان التي ترغب في تعزيز النمو ستخفّض أسعار الفائدة، لكن أسعار الفائدة المخفّضة من شأنها أن تتسبّب في تدفق الأموال الساخنة إلى خارج البلاد، ومن ثم انخفاض سعر الصرف.

أما إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وسياسة نقدية مستقلة، لن يمكن للحكومة أن تتوقّع تدفقات رؤوس الأموال ، بل على العكس يتعيّن فرض ضوابط للتحكّم في تدفقات رؤوس الأموال. فإذا كانت الحكومة ترغب في تطبيق سعر صرف ثابت، وأيضًا تغيير أسعار الفائدة وفقًا لتفضيلاتها الخاصة، فستحتاج إلى التحكّم في تدفق الأموال إلى الخارج (فرض سقوف على شراء وبيع الأصول المالية، فرض ضرائب على المضاربات على العملة ، تحديد فترات استبقاء الأموال بالبلاد…) وقد تصل إلى ضبط حركة الاستيراد للتحكّم بنزف العملات الأجنبية الى الخارج…

فالمعروف أنّه في ظلّ حرّية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة إلى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً، وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية، ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمر واقع منذ ذلك الحين، بغرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات، كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية، طالما الحّصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

إلّا أنّ التحسينات التي كانت ممكنة ومطلوبة، كانت تكمن في معدّل سعر الصرف المناسب لعملية الربط بين العملتين، وفق تطوّر المؤشرات الماكرو-إقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، الذي يُظهّر رصيد دخول وخروج العملات الأجنبية لمختلف الأسباب بين لبنان والخارج، فضلاً عن سعر هامش تحرّك سعر الصرف ومرونة تدخّل المصرف المركزي في المحافظة عليه، بما يُبقيه ضمن مستوى مقبول من دون استنزاف كبير متواصل للاحتياطي بالعملات الأجنبية.

إنّ تدفق رأس المال، عن طريق خلق طلب زائد على النقد الوطني، يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية، ما لم يخزّن البنك المركزي جميع التدفقات الواردة في احتياطياته بالعملات الأجنبية. لبعض الوقت، إنّ المبالغة في تقييم العملة تحافظ على أسعار السلع المستوردة منخفضة، بينما في ارتفاع الأسعار يتمّ تعويض سلع التصدير من الاستثمارات المموّلة من القروض الخارجية.

قبل زيادة إنتاجية البلاد وقدرتها على التصدير واستقطاب الاستثمار والتوظيفات الخارجية، غالباً ما يظهر سعر الصرف مبالغاً فيه، تماماً كما شهده لبنان، لا سيما مع تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011 في لبنان، باستثناء سنوات الهندسات المالية عامي 2016 و2017 التي استقطبت بعض الرساميل من الخارج لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، أي لإقراض القطاع العام (بين خزينة الدولة ومصرفها المركزي). الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى ارتفاع الدين الخارجي الصافي بالعملات الأجنبية بالنسبة للاقتصاد المحلي (الناتج المحلي الإجمالي).

وبالتالي، إنّ لحظة حدوث أي خطأ في السياسات، والتوجّه المفرط لرأس المال المقترض نحو السلع غير القابلة للتداول، والمبالغة في التقييم المفرط للعملة والعجز الكبير في الحساب الجاري، في سياق ضعف في الاحتياطيات بالنسبة للديون الخارجية قصيرة الأجل، لا بدّ أن يُترجم ذلك بخطر إثارة أزمة ثقة في البلاد، وخروج جماعي مفاجئ وهائل للرساميل وانهيار سعر الصرف.

كما أنّ المصطلح العام للأزمة المالية يجمع هذه الأنواع الثلاثة للأزمات: أزمة ميزان المدفوعات، وأزمة السيولة ومعدل سعر صرف العملة، والأزمة المصرفية المحلية.

من هنا، ولتجنّب الأزمات المالية والنقدية، فإنّ حرية التنقّل الدولي المجاني لرأس المال، تتطلب نظرياً ظروف استقرار مماثلة لتلك الموجودة داخل البلدان التي تعتمدها.

أما أبرز الهواجس التي يعكسها العملاء الاقتصاديون اليوم إزاء مشروع قانون «تنظيم وضع ضوابط استثنائية وموقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية»، فهو أنّه لا يأتي من ضمن خطة استراتيجية متكاملة، في الوقت الذي يفترض أن يكون ضبط حركة الرساميل مجرد إجراء ظرفي ضمن خطة نهوض بنيوية للاقتصاد. وإن كان القرار هو ضبط السيولة المتبقية بالعملات الأجنبية، فمن الملحّ وضع خطة استراتيجية من جهة أولى لشرح سُبل ترشيد استعمال السيولة المتبقية بالدولار الأميركي، ومن جهة ثانية لكيفية تأمين استمرارية استيراد المواد الضرورية من الخارج، مما يتطلّب جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الوزارات المعنية. وتوفّر هذه الخطة الإطار الصحيح الذي يُبنى على أساسه مشروع قانون القيود المالية، ويتمّ تضمينه في الأسباب الموجبة للقانون. ومن جهة ثالثة اتخاذ القرار بشأن نظام القطع، حيث لم يعد من مفرّ من اللجوء إلى نظام الربط الصارم Hard Peg لليرة اللبنانية، وسط الارتفاع الهائل لمعدّل الدولرة الذي لا يسمح بالإبقاء على نظام الربط المرن الحالي، ولا باللجوء الى النظام الحرّ العائم، فلا يبقى سوى مجلس النقد/الدولرة الشاملة. وهذا يتطلّب اعتماد سعر صرف يتمّ على أساسه الذهاب الى الربط الصارم، مما يحتاج أيضاً كمية معيّنة من الاحتياطي بالعملات الأجنبية…

يبقى القول لمن يسأل عن فائض بميزان المدفوعات قبل البحث بإمكانية الدولرة الشاملة، انّه لو كان لدينا فوائض في ميزان المدفوعات لما كنا أساساً دخلنا في أشدّ أزمة نقدية – مالية – مصرفية – إقتصادية شاملة مع دولرة مزمنة منذ 40 عاماً، وباتت اليوم تفوق الـ 90 % !!! لا بل انّ الانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية هو الذي ساهم في الاكوادور مثلاً بتحسين ميزان المدفوعات وانتقاله من حالة العجز الى الفائض. وقد أثبتت الأدبيات الاقتصادية، أنّ من إيجابيات الدولرة الشاملة الرسمية، تفادي أزمات ميزان المدفوعات واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني مع ثبات عملته، مما يسهّل انخراطه بالاقتصاد والتجارة العالمية، وإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والحركة السياحية، بخاصة اذا كان تاريخياً مهيأً لاستقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والإنفاق السياحي…

إنّ الاجراءات الظرفية لا يمكن تنفيذها بمعزل عن الرؤيا البنيوية التي تتطلّب بدورها جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الادارات العامة المولجة. من لا ينظر لبعيد يخاطر بالوقوع مجدداً عن قريب، بل يخاطر في إمكانية النهوض عمّا قريب…

د. سهام رزق الله