أرشيف التصنيف: المقالات العامة

8 مهارات مطلوبة للعاملين المستقلين .. أجر بعضها يتجاوز 100 $ في الساعة

لا يزال العمل المستقل وسيلة شائعة لكسب المال في الولايات المتحدة سواء بدوام كامل أو جزئي، وفي استطلاع رأي حديث أجرته منصة Fiverr، أفاد 73% من الأميركيين أنهم إما سيشرعون في العمل بشكل مستقل أو سيواصلون العمل المستقل بشكل دائم.

وهناك العديد من المهارات المطلوبة للعاملين المستقلين بما في ذلك المهارات في مجال التكنولوجيا والتسويق.

وفيما يلي ثمانية من أهم المهارات المطلوبة والأجر الذي يتقاضاه العاملون المستقلون بها:

 

مصمم الغرافيك

يعمل مصممو الغرافيك بناء على طلبات العملاء وفي تصميم المواقع الإلكترونية ومنشورات الوسائط الاجتماعية وغير ذلك، وهناك “الكثير من الفرص للمصممين لاستعراض مهاراتهم.

يتقاضى مصممو الغرافيك في Upwork ما يصل إلى 125 دولاراً في الساعة.

 

تحرير الفيديو

يأخذ محررو الفيديو لقطات أصلية، ويجرون عليها التعديلات لإنشاء مقاطع تنشر على الإنترنت والتلفزيون، ويقول مسؤولون في Upwork: “يتم استخدام مهارات تحرير الفيديو أكثر فأكثر خاصة من قبل الشركات للتسويق وشرح مهامها وأنشطتها.

يتقاضى العامل المستقل في تحرير الفيديو ما يصل إلى 100 دولار في الساعة.

 

الصور والرسوم التوضيحية

يلعب مصممو الصور والرسوم التوضيحية دوراً هاماً في الأنشطة التجارية المختلفة بما في ذلك الترويج للكتب والمواقع الإلكترونية والإعلانات.

يمكن أن تكون أدواتهم رقمية باستخدام برامج التصميم الغرافيكي، أو مادية مثل لوحات القماش والطلاء أو الأقلام الملونة.

يتقاضون ما يصل إلى 75 دولارًا لكل ساعة على Upwork.

 

الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد

ينشئ هؤلاء أعمالاً ثلاثية الأبعاد لأغراض العرض التلفزيوني أو الأفلام أو الفيديو مستخدمين تقنية الرسوم المتحركة لجعلها تنبض بالحياة.

العمال المستقلون في الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد على Upwork يتقاضون ما يصل إلى 110 دولارات في الساعة.

 

تصميم العروض التقديمية

يعمل هؤلاء المصممون على برامج مثل PowerPoint و Google Slides و Keynote لإنشاء عروض تقديمية مثل منصات العروض التقديمية وعروض المبيعات والعروض الترويجية للشركات.

يتقاضى المميز بهذه المهارة ما يصل إلى 125 دولارًا في الساعة.

 

تعديل الصور

يعمل مصممو الصور على تحسين جودة الصور باستخدام برامج مثل Adobe Photoshop وPhotoDirector 365.

يتقاضون ما يصل إلى 180 دولاراً في الساعة الواحدة على Upwork.

 

القصص المصورة والرسوم المتحركة

يصمم هؤلاء رسوماً كارتونية أو قصصاً هزلية بشكل يدوي أو باستخدام الأدوات الرقمية على برامج مثل Adobe Animate و Animaker.

قد ترغب بعض الشركات في دمج الرسوم المتحركة في موادها التسويقية والإعلانية، أو في ملفاتها التعريفية عبر الإنترنت.

يتقاضى هؤلاء على Upwork ما يصل إلى 70 دولاراً في الساعة.

 

تصميم المنتجات

يتصور المحترفون في هذا اللون الفني المنتجات في مخيلاتهم ويصممونها للاستخدام والإنتاج. إنهم يصممون منتجات رقمية مثل التطبيقات والبرامج والأشياء المادية مثل الأثاث والإلكترونيات.

يتقاضون ما يصل إلى 175 دولارًا في الساعة على Upwork.

مرحلة تحول الطاقة تواجه طريقاً وعراً

تزداد التساؤلات حول إمكانية تنفيذ مرحلة تحول الطاقة بنجاح للوصول إلى تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050. وقد تصاعدت الشكوك مع النهج الذي اتبعته الدول الصناعية بتبنّي خريطة الطريق لعام 2050، دون مشاركة فعالة لشركائها من دول العالم الثالث، بالأخذ في الاعتبار مصالح وأولويات الدول النامية الكبرى، والدول المنتِجة النفطية، والدول ذات الاقتصادات الضعيفة في القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية).
من نافلة القول إن سياسات مكافحة التغير المناخي يجب أن تضم شركاء من جميع دول العالم؛ لأن القرار كونيّ يشمل جميع أرجاء الكرة الأرضية. وهذا أمر صعب، لكنه ضروري في الوقت نفسه. ورغم هذا التشاؤم الذي بدأت تتوسع رقعته في تحقيق قرارات مؤتمر باريس لمكافحة تغير المناخ 2015، هناك أيضاً تفاؤل في الوقت نفسه للإجماع العالمي على ضرورة مكافحة تغير المناخ بحلول عام 2050، قبل فوات الأوان، لكي يستطيع البشر التعامل مع هذه الظاهرة في الوقت المناسب لمعالجة آثار تغير المناخ السلبية من ذوبان جبال الجليد العملاقة في القطبين الشمالي والجنوبي، ووضع حدّ لحرائق الغابات وكهربة المركبات وتحسين طرق المواصلات لتحييد الانبعاثات الكربونية.
لقد تراكمت العقبات أمام إمكانية تحقيق هذه الإنجازات جمعاء بحلول منتصف القرن؛ نظراً للفترة القصيرة المحدَّدة للتغيير. عكفت خريطة الطريق التي رسمتها «وكالة الطاقة الدولية»، خلال صيف 2021، على الدور الذي يجب أن تلعبه الدول الصناعية من تشريع للقوانين والأنظمة لتخفيض الانبعاثات، خلال أقل من نصف قرن، بينما تحولات الطاقة السابقة تطلبت فترات أطول بكثير امتدت في بعض الأحيان إلى قرن من الزمن.
وهمش، في الوقت نفسه، دور دول العالم الثالث، ذات الأغلبية السكانية العالمية. فعلى سبيل المثال، كانت الدول الصناعية، خلال مؤتمرات «كوب» السابقة قد وعدت بتوفير القروض والمساعدات لبعض دول العالم الثالث، لكن لم يجرِ الإيفاء بدفع هذه القروض والمساعدات، مما يعني عدم قدرة عدد من دول العالم الثالث على المضيّ قدماً في مكافحة تغير المناخ بطريقة جِدّية وواسعة. وقد تكررت القرارات في مؤتمرات «كوب» المتوالية لحثّ الدول الصناعية على تنفيذ تعهداتها المالية، لكن دون جدوى تُذكَر.
المشكلة أيضاً أنه مطلوب من بعض دول العالم الثالث إنفاق الملايين، بل المليارات من الدولارات على مشروعات الطاقات المستدامة وترشيد الاستهلاك، حتى قبل أن تتوفر الكهرباء لأعداد كبيرة من السكان في هذه الدول.
كما أن خريطة طريق «الوكالة الدولية للطاقة» غضّت النظر عن مصالح وأولويات دول مجموعة «أوبك بلس»، هذه الدول التي لديها مصلحة كبرى قد تتضرر نتيجة تحول الطاقة. ورغم ذلك بادرت بعض هذه الدول المنتِجة للنفط والغاز، مثل روسيا ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، بتبنّي مشروعات باهظة الثمن تُقدَّر بمليارات الدولارات لالتقاط وتخزين الكربون من البترول لتحييد الانبعاثات، لكن رغم هذا تستمر المعارضة لأي استعمال مستقبلي للنفط والغاز، إذ إن حركات الخضر في الدول الصناعية تمانع في طرح إمكانية استعمال الوقود الهيدروكربوني مستقبلاً، ولو كان محايداً للانبعاثات. وقد استطاعت حركات الخضر «أدلجة» موضوع الوقود الهيدروكربوني، حتى بعد «تخضيره». ولا نجد حتى الآن محاولات من قِبل الدول الصناعية لمناقشة الأمر مع حركات الخضر، رغم سياسات الدول هذه في تبنّي سياسات ومشروعات لعقود مقبلة في اكتشاف حقول بترولية جديدة، ناهيك عن الاعتماد الواسع على الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء. وكلما طال تأجيل مناقشة الاستعمال المستقبلي للوقود الهيدروكربوني المحايد في الدول الصناعية نفسها (في المجالس البرلمانية ووسائل الإعلام)، ستتعقد أكثر الصعوبات للتوصل إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن.
في الوقت نفسه يزداد عدد سكان العالم بسرعة إلى 10 مليارات نسمة، ويرتفع مستوى المعيشة في الدول السكانية الكبرى، خصوصاً الصين والهند، مما يعني أن العالم سيحتاج في المستقبل المنظور إلى أكبر عدد من أنواع الطاقة المحايدة لانبعاثات الكربون، ومن ثم يتوجب ضم جميع الطاقات التي تستوفي الشروط الحيادية للانبعاثات في سلة الطاقة المستقبلية نظراً للحاجة الماسّة لهم جميعاً لازدياد الطلب على الطاقة، وهذا يعني خصوصاً النفط والغاز المحايدين للانبعاثات.
ومما زاد الطين بلة منذ العام الماضي نشوب حرب أوكرانيا. لقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى وهن نظام العولمة الذي برز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي فتح المجال للتبادلين التجاري والعلمي الواسعين بين أقطار العالم، ولا سيما الدول الكبرى نفسها. فالحاصل الآن، انسحاب وتصفية أعمال شركات الدول الكبرى من غريماتها من الدول الكبرى الأخرى. كما بدأت التشريعات والقوانين تزداد بمنع تبادل صادرات وواردات السلع الإلكترونية التي تشكل عصب الصناعات الحديثة.
ومما يزيد من مطبّات الطريق لمرحلة تحول الطاقة إقبال النظام العالمي الجديد «المتعدد الأقطاب» بفتح ملفات قديمة/ جديدة، منها تكثيف النزاعات مع الصين، والاحتجاجات لسياسات مجموعة «أوبك بلس».

وليد خدوري

قفزة في نشاط المصانع الصينية وأمريكا وأوروبا تواجهان تضخما عنيدا

نما قطاع المصانع في الصين بأسرع وتيرة في أكثر من عشر سنوات في فبراير شباط مما يدعم الآمال في تعافي الاقتصاد العالمي بينما أظهرت بيانات في الولايات المتحدة وأوروبا أن التضخم بهما لا يزال خارج السيطرة.

وفي دليل جديد على انتعاش النشاط في الصين بعد إلغاء القيود المرتبطة بجائحة كورونا، قفز مؤشر مديري مشتريات قطاع الصناعات التحويلية المنشور يوم الأربعاء إلى 52.6 نقطة الشهر الماضي مقارنة مع 50.1 في يناير كانون الثاني وكذلك أظهر مسح للقطاع الخاص تسجيل نمو للمرة الأولى في سبعة أشهر.

وقال دنكان ريجلي من (بانثيون ماكروايكونوميكس) “مؤشر مديري المشتريات الصيني فاق توقعات السوق في جميع الجوانب، مدفوعا بإعادة الفتح بعد رفع القيود المربطة بكوفيد واستئناف النشاط بعد عطلة السنة القمرية الجديدة”.

وأضاف “هذه مجموعة من البيانات المشجعة لكنها لا تزال لشهر واحد فحسب”.

وارتفعت الأسهم الآسيوية بعد تسجيلها أدنى مستوى في شهرين يوم الأربعاء. كما ارتفعت أسعار النفط العالمية مما يظهر كيف أن قوة التعافي الصيني قد تعزز التضخم العالمي من خلال زيادة الطلب على الطاقة.

* انكماش التصنيع في أمريكا

وفي الولايات المتحدة، انكمش نشاط قطاع الصناعات التحويلية للشهر الرابع على التوالي في فبراير شباط لكن هناك علامات على أن نشاط المصانع بدأ يستقر مع انتعاش مؤشر للطلبيات الجديدة من أدنى مستوى في أكثر من عامين ونصف العام.

وقال معهد إدارة التوريدات إن مؤشره لمديري المشتريات بالمصانع لم يشهد تغيرا يذكر مسجلا 47.7 الشهر الماضي من قراءة 47.4 في يناير كانون الثاني. وكان خبراء اقتصاديون توقعوا في استطلاع أجرته رويترز أن يرتفع المؤشر إلى 48 نقطة. وتشير قراءة دون مستوى 50 إلى انكماش قطاع الصناعات التحويلية الذي يمثل 11.3 بالمئة من الاقتصاد الأمريكي.

ولم يطرأ تغير يذكر على مؤشر المعهد لتسليمات الموردين عند 45.2. وتشير قراءة دون مستوى 50 إلى سرعة تسليم الطلبيات إلى المصانع.

وبالرغم من تحسن المعروض وضعف الطلب فقد ارتفع التضخم بشدة، إذ سجلت أسعار المستهلكين والمنتجين زيادات شهرية كبيرة في يناير كانون الثاني.

وقد يظل التضخم مرتفعا لفترة مع ارتفاع مؤشر معهد إدارة التوريدات لقياس الأسعار التي تدفعها المصانع إلى 51.3 في فبراير شباط من 44.5 في يناير كانون الثاني مسجلا أعلى مستوياته منذ سبتمبر أيلول.

* ارتفاع التضخم في أوروبا

وفي أوروبا، أظهرت بيانات ألمانية أن المعركة ضد التضخم لا يزال أمامها بعض الوقت. وارتفعت الأسعار في أكبر اقتصاد بالقارة 9.3 بالمئة على أساس سنوي في فبراير شباط متجاوزة توقعات المحللين بارتفاعها تسعة بالمئة ومتجاوزة كذلك زيادتها البالغة 9.2 بالمئة في يناير كانون الثاني.

وجاء ذلك بعدما أظهرت بيانات في وقت سابق من الأسبوع ارتفاع الأسعار بوتيرة أسرع من المتوقع في فرنسا وإسبانيا في تحد لوجهة النظر القائلة بأن التضخم في المنطقة قد بلغ مداه.

ومن ناحية أخرى، انخفض مؤشر ستاندرد اند بورز جلوبل العام لمديري المشتريات بالمصانع في منطقة اليورو إلى 48.5 من 48.8 لكن مؤشر الإنتاج – الذي يدخل في مؤشر مديري المشتريات المجمع والمقرر أن يصدر يوم الجمعة ويُنظر إليه باعتباره مؤشرا جيدا على حالة الاقتصاد العامة- ارتفع إلى 50.1 من 48.9.

* تباطؤ النمو في آسيا

وسجلت كل من الهند وأستراليا تباطؤا في النمو الاقتصادي في الربع المنتهي في ديسمبر كانون الأول بينما تراجعت صادرات كوريا الجنوبية في فبراير شباط للشهر الخامس على التوالي، مما يبرز تداعيات تباطؤ الطلب العالمي على المصانع في المنطقة.

وفي اليابان، تراجعت القراءة النهائية لمؤشر مديري المشتريات لبنك أو جيبون إلى 47.7 في فبراير شباط من 48.9 في أسرع وتيرة انخفاض للمؤشر في أكثر من عامين.

وجاء ذلك بعدما أظهرت بيانات هبوطا كبيرا في إنتاج المصانع اليابانية في يناير كانون الثاني بفعل تهاوي إنتاج السيارات وأشباه الموصلات، مما يلقي بظلال من الشك على وجهة نظر بنك اليابان المركزي بأن الاقتصاد في طريقه للتعافي المطرد.

وأظهرت استطلاعات أن نشاط المصانع واصل انكماشه في تايوان وماليزيا في فبراير شباط بينما نما بوتيرة أبطأ في الفلبين.

وأظهرت بيانات مؤشر مديري المشتريات في الهند نمو نشاط المصانع الهندية بأبطأ وتيرة في أربعة أشهر في فبراير شباط لكنه لا يزال قويا نسبيا بفضل طلب محلي قوي.

وأظهرت بيانات منفصلة تراجع صادرات كوريا الجنوبية 7.5 بالمئة في فبراير شباط على أساس سنوي منخفضة للشهر الخامس على التوالي لأسباب منها تهاوي صادرات أشباه الموصلات.

الدولار والعملات الوطنية

بسبب النظام الإيراني الحالي وتطلعاته النووية، والعقوبات الدولية، وميليشياته الإرهابية، وقمعه للشعب الإيراني المحب مثل كل الشعوب للحرية والمعرفة والإنسانية والحياة المرفهة، فإن الريال الإيراني هو العملة الأقل قيمة في العالم. وبسبب العقوبات المفروضة على نظام الملالي و«الحرس الثوري» و«فيلق القدس»، وقمع المظاهرات والاحتجاجات والنساء السافرات، وتدخله في الأنظمة المجاورة من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن ومياه الخليج العربي وسفن العالم التجارية، فإن إيران أصبحت دولة منبوذة وفاشلة وشبه محاصرة، وتم حرمانها من وصول نفطها إلى السوق العالمية، نتيجة العقوبات الأميركية والأوروبية الصارمة. وللعلم فإن الريال الإيراني انحدرت قيمته حالياً إلى 0.00002363 دولار أميركي، وهو رقم صعب القراءة!
الدولار الأميركي هو العملة الأكثر تداولاً واستخداماً في العالم، فهو يُستخدم بنسبة أكثر من 70 في المائة من الأوراق النقدية المستخدمة خارج الولايات المتحدة. كما أن هذا الدولار عملة احتياطية لعديد من الدول، ويعتبر فيها «عملة وطنية» غير قانونية في الأزمات الاقتصادية والمالية، مثلما حدث في لبنان والعراق وليبيا وأفغانستان.
أما الفرنك السويسري فهو العملة الأكثر استقراراً في العالم؛ لأن سويسرا لديها أدنى مستوى من الديون، وسياسة نقدية سليمة، ما يجعل اقتصادها قوياً للغاية. ولذلك يُطلق على الفرنك السويسري «عُملة الملاذ الآمن» نتيجة للجوء أصحاب الثروات الطائلة إليه، وحتى اللصوص الكبار وأصحاب الأموال السوداء المسروقة من الخزائن الحكومية الدولية في فترات الفوضى والانقلابات والثورات.
ومع كل تلك الدول تقف «جزر كايمان» في الساحل الغربي للبحر الكاريبي، وهي تابعة لبريطانيا وعاصمتها «جورج تاون» وعدد نفوسها يتراوح بين ثمانية وخمسين ألفاً وثمانية وستين ألف نسمة. وهي إقليم متخصص في غسل الأموال، ما جعلها تتصدر قائمة مخابئ الأموال المنهوبة، وهي تبذل أقصى ما في وسعها لمساعدة أغنى أغنياء العالم على إخفاء وغسل الأموال، دون ملاحقة قانونية جدية أو ضوابط رقابية. وقد أدرج وزراء مالية الاتحاد الأوروبي هذه الجزر في القائمة السوداء لملاذات التهرب الضريبي، إلى جانب جزر سيشيل وجزر بالاو. وتتعامل هذه الجزر مع أكثر من 100 ألف شركة دولية تعتبر من مراكز الأموال السرية الفاسدة؛ لكن حكومة جزر كايمان نفت هذه التهمة، وزعمت أنها «لا تعمل في السر»؛ بل تتعاون مع السلطات في جميع أنحاء العالم!
نعود إلى الدولار الذي تحول إلى مشكلة عويصة في دول مثل العراق ولبنان وإيران وأفغانستان، وروسيا بجلالة قدرها. فالدول تلجأ إلى قرار تخفيض قيمة عملاتها الوطنية لإعادة التوازن في ظروف عجز كبير، أو لتخفيف هذا العجز. ويؤدي تخفيض قيمة العملة الوطنية، كما حدث مؤخراً في العراق مثلاً، إلى جعل أسعار السلع المستوردة أعلى بالنسبة إلى السكان المقيمين، وقد يحدّ من شراء السلع المستوردة من الخارج، ويدفع إلى الإقبال على شراء منتجات وطنية رديئة الصنع، وليس لها منافس، بأسعار مقبولة بعد خفض قيمة العملة الوطنية، وانكماش رواتب المتقاعدين. إلا أن مثل هذا القرار يجب -وليس يجوز- أن يتم علاجه في أقرب انفراجة مالية؛ سواء بالاستيراد من الخارج أو تحسين الصناعة الوطنية للتنافس على السلعة، وليس إرغام المستهلكين على شراء «الهيكل العظمي» للدجاجة المحلية –مثلاً– وكتابة معلومات كاذبة عن وزنها! أو فتح مزاد علني يومي في البنك المركزي العراقي، لبيع الدولار مقابل الدينار العراقي عديم القيمة، ثم إرسال صناديق الدولارات المبيعة إلى إيران، بحجة أنها لتسديد كلفة بضائع مستوردة من طهران إلى بغداد، أو قيمة استهلاك كهرباء وهمي مستورد من إيران. يجب أن تنتهي هذه اللعبة «الإطارية» المكشوفة، فقد آن الأوان أن يتصرف المسؤولون بكامل المسؤولية عن وطن له حدود وعلم وعملة وطنية ونشيد وطني، وإيقاف أطول مسرحية فوضوية دموية فاسدة ومملة، استغرق عرضها عشرين عاماً.
لقد تعهد رئيس الوزراء العراقي الحالي بحل المشكلة، وإنعاش العملة الوطنية. الشعب العراقي في الانتظار، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة للدفاع عن دولارها المنهوب من قبل دولة إيران والموالين لها في العراق.
قبل 5 أشهر ذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» أن قوة العملة الأميركية أمر مهم؛ إذ يميل الدولار إلى فرض ضغوط انكماشية على الاقتصاد العالمي. ويلعب رأس المال الأميركي والدولار دوراً كبيراً في أن تبقى الأسواق المالية الأميركية مفتوحة، وعندما تُغير التدفقات المالية اتجاهها من أو إلى الولايات المتحدة يتأثر الجميع.
لماذا ترتفع قيمة الدولار أمام بقية العملات الرئيسية الأخرى؟ يرى محللون اقتصاديون أن قرار الاحتياطي الفيدرالي المركزي الأميركي رفع سعر الفائدة بشكل مستمر وأسرع من بقية الدول الكبرى لكبح التضخم، يؤدي إلى تعزيز العملة الأميركية، وزيادة إيرادات الودائع وصناديق المعاشات التقاعدية، ما يفيد الأميركيين عند شراء السندات الأجنبية بأسعار مناسبة وتنافسية.
وإذا راجعنا الدول الأوروبية والآسيوية الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية، أو اليابان والصين والهند، فهي غير راضية عن عملاتها، ولا ترفع أسعار الفائدة. أما الولايات المتحدة فهي راضية عن سياستها المالية، حتى لو كانت غير متحمسة لتحركاتها السياسية والعسكرية؛ لأنها قد تؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي من دون مبرر.
الدخول في كل التفاصيل اليومية لا يجدي؛ لأنها قد تتغير مع صياح الديك؛ لكن أصحاب الثروات يهتمون بها لأنها قد تؤدي إلى سكتات قلبية. وأخيراً أنا أسمع شكاوى من العراقيين الذين تأذوا اقتصادياً من رفع أسعار شراء الدولار الأميركي في البنك المركزي العراقي، وليس الأميركي، ويتساءلون: هل أصبح الدولار الأميركي عملة «وطنية» عالمية في العراق وغيره من الدول؟
وأخيراً يحتاط كثير من الدول بالذهب على حساب الدولار؛ لكن ذلك قد لا يعني أن هيمنة الدولار على نظام النقد الدولي باتت مسألة وقت، كما يقول قراصنة الجمجمة والعظمتين.

داود الفرحان

هل يمكن لأميركا الازدهار من دون حرب؟

من دون صياغة رؤية جديدة للدور الأميركي في العالم، يربط الكثيرون داخل واشنطن بين التحديات الجيوسياسية القائمة اليوم بتلك التي كانت قائمة أمس.
وفي هذا الإطار، يجري تصوير الصين باعتبارها الاتحاد السوفياتي الجديد، وتنذر الخطوات العسكرية عالية التقنية التي تتخذها الصين بوصول الولايات المتحدة للحظة تدرك حينها فجأة أنه أصبح يتعين عليها اللحاق بركب بكين التي سبقتها. وعليه، جرى إحياء «لجنة الأخطار الحالية»، التي سبق وأن حشدت الدعم العام للإنفاق العسكري أثناء «الحرب الباردة»، مع تركز أنظارها هذه المرة على الصين.
ودعماً لأوكرانيا، تراجع المخزون الأميركي من الصواريخ، ما أثار دعوات للولايات المتحدة كي تصبح من جديد «ترسانة الديمقراطية»، وذلك «لتعزيز الدفاع عن النظام الليبرالي الحر والمفتوح».
ويجري النظر إلى فلاديمير بوتين باعتباره جاسوساً سابقاً لدى جهاز الاستخبارات السوفياتية (كيه جي بي)، وزعيماً سوفياتياً لا يعرف الرحمة.
ويمكن أن تكون مسألة إثارة الصراعات الكبرى لأميركا في مواجهة الفاشستية والشيوعية، مفيدة من الناحية الخطابية. وتستحضر هذه المسألة حقبة يجري تذكرها لديناميتها الاقتصادية، ووحدة الصفوف وراء هدف واحد وروح الوطنية التي سادتها.
ومع ذلك، فإن التصورات المبسطة للماضي تميل لإضفاء طابع رومانسي على تداعيات الحرب على المجتمع الأميركي. ولا تخلو هذه الذكريات الشائكة من خطورة، فقد تحولت الحرب إلى الحل لمشكلات أميركا الاقتصادية والسياسية، بدلاً عن الانتباه إلى حقيقة الحرب: أنها عامل محوري وراء خلق هذه المشكلات.
الحقيقة أن الميول الصقورية للقادة الأميركيين تتسبب فقط في تفاقم الأزمات والمخاطر على نحو يزيد من إدمان واشنطن للحرب. ولا يزال التصعيد مستمراً في التوترات مع الصين حول تايوان وبالونات التجسس، بينما تدخل الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، مع غياب نهاية في الأفق.
ومع ذلك، فإنه نظراً لإدراكه لحدود القوة العسكرية الأميركية، تحرك الرئيس بايدن بحذر باتجاه دعم أوكرانيا، وحرص على تقدير توجهه إزاء الصين بحذر مقارنة بسلفه. كما أنه عمل على تقليص خسائر أميركا من خلال إنهاء الحملة المشؤومة لبناء الدولة في أفغانستان، إلا أن هذا لم يفلح في إسكات الجوقة داخل المؤسسة المعنية بالسياسة الخارجية التي تدعو لـ«حرب باردة» جديدة مع الصين، ومزيد من التصعيد لما تحول إلى حرب بالوكالة أمام روسيا، والعودة إلى سياسة ممارسة أقصى قدر من الضغوط على إيران.
وثمة فرضية تقليدية تقف خلف العقلية التي تدعو لتحمل عبء الاضطلاع بفرض نظام عالمي يقوم على مجموعة محددة من القواعد، وهي: الحرب، رغم مأساويتها، تحفز النشاط الاقتصادي والحماس الوطني. في الواقع، يعتبر مثل هذا الافتراض عتيق الطراز، على أفضل تقدير. اليوم، لم يعد الاقتصاد يتلقى تحفيزاً من جانب صناعات الحرب على النحو الذي عهدناه من قبل. عندما يجري خوض الحروب من جانب فيالق صغيرة من المتطوعين، ويجري تمويلها من خلال الاقتراض من مؤسسات مالية وحكومات أجنبية، أكثر عن الضرائب وسندات الحرب، لا تتكون روح عامة ملتفة حول قضية مشتركة.
في الواقع، أسهمت المغامرات العسكرية الرديئة التي تورطت فيها واشنطن الفترة الأخيرة في تراكم مستمر لديون تجاوزت 30 تريليون دولار، والتي يجري استغلالها كسلاح اليوم من قبل أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل الكونغرس، سعياً وراء تحقيق مكاسب سياسية.
وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، أصر إليوت أبرامز، الذي قاد السياسة تجاه الشرق الأوسط في ظل إدارة بوش والسياسة تجاه إيران وفنزويلا في عهد إدارة ترمب، على أن الولايات المتحدة ينبغي لها استغلال «فرص الحرب الباردة» السانحة؛ لتعزيز بناء إجماع بين الحزبين الرئيسيين بالبلاد.
ويبدو الحديث عن بناء هذا الإجماع مغرياً، لكن الحديث عن الإجماع حول الحرب ليس ما تحتاجه الولايات المتحدة أو ما سيساعدها على الازدهار، الواقع أن الانشقاق أكثر قيمة عندما تصل المخاطر مستوى الأزمة الجيوسياسية. وحدة الصف لا تعني الإجماع والتطابق، والمعارضة المنضبطة ما يفصل بين الديمقراطية التي تتحرك من الأسفل للأعلى عن الأنظمة الاستبدادية التي تتحرك من أعلى لأسفل.
الحقيقة أن الصلة الخرافية بين الحرب والوحدة المدنية لا تصمد أمام التفحص الدقيق. وفي كتابه الحاصل على جائزة «بوليتزر»، «نهاية خرافة»، تتبع غريغ غراندين الترتيب الزمني لكيف أنه بعد الحرب الأهلية، أرسل جنود الشمال والجنوب معاً إلى الحدود الغربية لتهدئة قبائل السكان الأصليين لأميركا.
وقد جرى النظر إلى هذه الحملات ضد السكان الأصليين، في جزء منها، باعتبارها سبيلاً لإعادة دمج الولايات الكونفدرالية السابقة داخل الجيش الأميركي، وجرى تصوير ذلك باعتباره «برنامج إعادة تأهيل» للجنوب.
أيضاً، جرى الترويج، إلى حد ما، للحرب الإسبانية – الأميركية والحرب العالمية الأولى باعتبار ذلك سبيلاً لتوحيد صفوف الشمال والجنوب. ومع ذلك، لم تمنع أي من هذه الحروب الانقسامات التي ظلت قائمة منذ فترة الحرب الأهلية، وصولاً إلى النقاشات الدائرة اليوم حول معالم الولايات الكونفدرالية وأعلامها.
هل سمحت الحرب العالمية الثانية لأميركا بتحقيق كامل إمكاناتها الاقتصادية والفرار من قبضة «الكساد العظيم»؟ هل أفرز الصراع أثناء «الحرب الباردة» في مواجهة تهديد شيوعي مشترك، حقبة من الوحدة والتقدم التكنولوجي؟ ومع أن هذه النوستالجيا تحمل داخلها بعض الحقيقة، فإنها تغفل بعض الحقائق التي لا تبعث على الشعور بالارتياح. من هذه الحقائق أن الولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية بصورة أساسية بدافع الانتقام، وليس لإنقاذ العالم الحر.
وساعدت الحرب في إضفاء الطابع الصناعي على البلاد، لكنَّها خلفت وراءها كثيراً من الأميركيين في حالة من الفقر والحرمان. كما أن الخرافات الشائعة حول التناغم الاجتماعي أثناء حقبة «الحرب الباردة»، تتجاهل المآسي التي خلقتها سياسات الفصل العنصري. كما أن وحدة الصف المدني التي سادت فترة هجمات 11 سبتمبر لم تصمد أمام الحروب الكارثية في العراق وأفغانستان.
وتقدم لنا التسعينات تصويراً حياً لكيف أن الرخاء والتسويات السياسية يمكن أن يزدهران عندما نتخلص من شعور زائف بغياب الأمن الوطني، والتموضع العالمي العسكري الذي غالباً ما يرافقه. في ذلك العقد، كانت مشاركة أميركا في الصراعات العالمية محدودة، وكان الهدف الرئيسي لإدارة كلينتون إعلاء صعيد السياسة الخارجية، وتعزيز التجارة.
ربما يدفع المقاولون العاملون بمجال الدفاع أن الإنفاق العسكري يخلق نشاطات ووظائف تجارية، إلا أنه بعد عقود من السياسة الخارجية التي تحمل صيغة عسكرية واضحة، ينبغي أن تحذر واشنطن من مسألة استغلال موازنة الدفاع في الإسهام في النمو الاقتصادي، خصوصاً أن الأجيال الأصغر لا ترى حاجة لمقايضة السلام مقابل الرخاء. وكشف استطلاع أجرته منذ وقت قريب المؤسسة التي أنتمي إليها، أن غالبية البالغين الأميركيين تحت سن الـ30 يدعمون إقرار موازنة دفاعية أصغر.
في اللحظة الراهنة، يبدو أن الخطر يتهدد الديمقراطية الأميركية، وتبدو الأوضاع الاقتصادية عصيبة. ومن دون إدراك حقيقة هذه الحقبة من السياسات الدولية، يميل صناع السياسات نحو النكوص إلى سبل قديمة، الأمر الذي قد يدفعهم نحو الانزلاق نحو عادة الحد من التكاليف بأقصى درجة ممكنة، والمبالغة في ميزات التورط في صراع عسكري.
ومع ذلك، تظل الحقيقة أن فكرة أن الحرب بإمكانها علاج التراجع الديمقراطي والجمود الاقتصادي متخلفة؛ لأنه في الواقع فإن الديمقراطية الأميركية مهددة والثروات مهدرة بسبب الحروب الحمقاء، التي أهدرت مخزون الثقة والموارد العامة التي كان يمكن استغلالها على نحو مثمر بالداخل، بدلاً عن استغلالها على نحو مدمر بالخارج.

مارك هنا.

ماذا يحمل المستقبل؟

مع نهاية العام الميلادي، تكثر التقارير المستشرفة للعام الميلادي المقبل، مسلّطة الضوء على عدد من الموضوعات والمجالات، ومقدّمة توقعات اقتصادية قد تبنى على خبرات أو نماذج اقتصادية أو غيرها. هذه التوقعات الاقتصادية هي عادة قديمة للاقتصاديين بشكل خاص وللبشر بشكل عام، ولم يخلُ الأدب العالمي أو العربي من هذه التكهّنات التي تهرب من الواقع لترسم مستقبلاً تختفي فيه المشكلات المعاصرة ويعيش فيه البشر برخاء.
ففي عام 1930 ميلادي، نشر الاقتصادي البريطاني «جون مينارد كينز»، وهو أحد كبار الاقتصاديين والنافذين حينها، مقالاً بعنوان «الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا» تكهّن فيه أن مستوى الحياة في البلدان المتقدمة بعد 100 عام سيكون بين 4 و8 أضعاف ما عليه اليوم. وقد كان محقاً في ذلك، فقد وصل نصيب الفرد من الناتج المحلي 6 أضعاف في الولايات المتحدة، ولكن في 80 عاماً تقريباً بدل 100 عام بين عامي 1930 و2010، هذا ما حدث في البلدان المتقدمة بالطبع، ولكن هذا التضاعف كان أكثر من ذلك في كثير من البلدان حول العالم. ذكر «كينز» في مقاله أنه إذا حدث هذا النمو فسوف تحل البشرية المشكلات الاقتصادية، أو على الأقل ستقترب من حلّها. ولكنه أضاف كذلك أن أحد أهم دوافع التطور البشري هو حل المشكلات الاقتصادية، وإذا ما حلت المشكلات الاقتصادية فستحرم البشرية من دافعها التقليدي. أحد أشهر توقعات كينز، هو أن وفرة السلع في المستقبل سوف تجعل البشر يعملون بشكل أقل ويستمتعون بأوقات الفراغ بشكل أكبر، لدرجة أن الفرد لن يحتاج للعمل لأكثر من 15 ساعة بالأسبوع.
في زمن آخر، وفي أحد أشهر التوقعات للمستقبل، رواية «النظر للوراء» التي كتبها «إدوارد بيلامي» ونشرت عام 1888، أي قبل 134 سنة. في الرواية التي تقوم أحداثها في ولاية بوسطن الأميركية، فقد البطل «جوليان» وعيه في عام 1887 لمدة 113 عاماً، ليستيقظ في عام 2000. حين أفاق «جوليان» وجد أن الولايات المتحدة تحولت إلى ما يشبه المدينة الفاضلة، بنظام اشتراكي يوفر الرخاء لجميع السكان. وجد «جوليان» مرشداً هو الدكتور «ليت» الذي شرح له التطورات التي حدثت في العصر الجديد، فساعات العمل منخفضة جداً لمن يعملون في الوظائف الوضيعة، ويتقاعد الموظفون في منتصف الأربعينات من أعمارهم، ويمكن للناس تناول الوجبات في أي من المطابخ العامة «ولم تكن حينها المطاعم منتشرة بشكلها الحالي بالطبع» ولكن الاتحاد السوفياتي طبق هذا النظام بالفعل في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أي بعد الرواية بنحو 40 عاماً. يجد البطل «جوليان» أن القدرة الإنتاجية للولايات المتحدة مملوكة للحكومة، وتوزع الخيرات على المجتمع بالتساوي. هذه التوقعات بالطبع هي نظرة مؤلف الرواية للمستقبل المزهر، والتي تنبع من كراهية للنظام الرأسمالي حينها، بميل واضح للنظام الاشتراكي. بعض تنبؤات المؤلف حدثت بشكل أو بآخر، فقد تنبأ بأن الناس سوف يستمعون للموسيقى والخطب دون مغادرة منازلهم من خلال الهاتف، كما أنه أول من تنبأ بالبطاقات الائتمانية، ولكن بشكلها الاشتراكي، حيث ذكر في روايته أن جميع أفراد المجتمع يملكون بطاقات فيها قدر متساوٍ من الرصيد، يمكّنهم من شراء احتياجاتهم.
إن قراءة التوقعات المستقبلية، لا تخلو من متعة، فهي قد تكون مبنية على خبرة واسعة ونظرة مستقبلية مستوحاة من الأحداث الماضية كما هو الحال مع مقال «كينز»، وقد تكتب ذلك بحس أدبي عالٍ وخيال إبداعي، كما هو الحال مع «بيلامي» الذي استشرف مستقبلاً خالياً من المشكلات الاقتصادية حيث يكون العمل لشغر الوقت وملء حاجة البشر للإنجاز، لا لكسب العيش والابتعاد عن الفاقة. ومع نهاية العام تكثر التقارير التي تستبصر مستقبل العام الميلادي المقبل حتى العقد المقبل، يدرك القارئ أن كثيراً من هذه التقارير لا تخلو من تحيزات مقصودة أو غير مقصودة. والمغزى الرئيس من هذه التقارير هو إلقاء الضوء على العوامل التي قد تؤثر على العام المقبل في أي من المجالات، سواء أكانت هذه العوامل اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو تقنية. الاطلاع على هذه العوامل هو الفائدة الحقيقية التي تعطي القيمة المضافة للتقارير المستقبلية، حيث يتمكن المستثمر من اتخاذ قراراته بمعرفة هذه العوامل التي تشجعه أو تثبطه عن الاستثمار في أي من المجالات. وليتذكر قارئ هذه التقارير أن «كينز» نفسه الذي توقع المستقبل الاقتصادي، كتب هذه العبارة «وضع الاقتصاديون لأنفسهم مهمة سهلة للغاية، وعديمة الجدوى كذلك، فهم لم يتمكنوا في المواسم العاصفة إلا من إخبارنا أنه عندما تنتهي العاصفة وتمضي بعيداً، يصبح المحيط مسطّحاً مرة أخرى».

د. عبد الله الردادي

3 سيناريوهات لنظام تحول الطاقة خلال 30 عاماً

يعدّ تقرير شركة «بي بي» السنوي من المصادر العالمية السنوية المهمة في أبحاث الطاقة، وذلك من خلال طرح كبار الاقتصاديين في الشركة التطورات الأساسية في قطاع الطاقة. عالج «تقرير (بي بي) لاستشراف الطاقة لعام 2023» 3 سيناريوهات لدراسة الآثار المترتبة على التحول في نظام الطاقة العالمي خلال العقود الثلاثة المقبلة. يكمن الهدف من الدراسة خلال السنوات الثلاثين المقبلة في تفهم آثار الاستراتيجيات المتبناة حالياً على مدى السرعة والطرق التي من الممكن أن يسلكها قطاع الطاقة في مرحلة تحوله هذه.
تتميز الفترة الحالية بمحورية النقاش حول أهمية تقليص الكربون والتوصل إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن. ويعلق الخبير الاقتصادي في شركة «بي بي»، سبنسر ديل، على هذه المرحلة قائلاً: «تلفت أحداث السنة الماضية أنظارنا إلى أهمية الأخذ في الحسبان أيضاً عوامل الأمن وفاتورة الطاقة للمستهلك. فمن الضروري لأي مرحلة من مراحل الطاقة أن تأخذ دائماً في الحسبان 3 عوامل أساسية لنظام الطاقة: أمن الإمدادات، وفاتورة الطاقة للمستهلك، والتخفيض الكربوني».
كان واضحاً خلال عام 2022 العلاقة العضوية والصعبة ما بين العوامل الأساسية الثلاثة أعلاه لنظام الطاقة هذا؛ فقد أدت حرب أوكرانيا إلى التركيز على أمن الطاقة نتيجة الحظر على البترول الروسي، مما أدى إلى مبادرة بعض الدول نحو الإسراع في التحول إلى الطاقات المستدامة من جهة؛ ودفع البعض الآخر إلى الاعتماد المتزايد على مصادر طاقة محلية معظمها من الوقود الأحفوري والقليل منها من مصادر أخرى.
لكن، وفي الوقت نفسه، دلت المتغيرات الطاقوية محدودة الحجم نسبياً؛ بسبب حرب أوكرانيا، بالنسبة إلى حجم قطاع الطاقة العالمي، على تأثيرها على نظام الطاقة العالمي من جهة؛ وعلى الآثار المترتبة على هذه التغييرات من التكاليف الاقتصادية والاجتماعية، مما أثار الانتباه إلى أهمية تقليص الاعتماد على الوقود الهيدروكربوني بطريقة منتظمة ومعتدلة، بحيث يتوجب الأخذ في الحسبان، ومن الضروري، عدّ الوقود الهيدروكربوني جزءاً من إمدادات الطاقة.
من الملاحظ في الوقت نفسه، أنه رغم ازدياد طموحات الحكومات إلى التخفيض الكربوني، فإن الانبعاثات الكربونية قد ارتفعت معدلاتها منذ «اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ 2015» باستثناء إغلاقات الجائحة سنة 2020. وكما هو معروف؛ فإنه كلما طالت فترة استمرار الانحباس الحراري، زادت التكاليف الاجتماعية والاقتصادية.
لقد ازدادت المحاولات في بعض الدول لدعم مرحلة تحول الطاقة هذه، فقد جرت الموافقة في الولايات المتحدة على قانون تخفيض التضخم. لكن؛ من المهم الانتباه إلى أن تحدي تحول الطاقة هذا يتطلب إنجازات أكثر، مثلاً؛ تشريع القوانين والأنظمة لتشجيع تحول الطاقات ذات الانبعاثات الكربونية وإعادة تأهيل بناها التحتية.
لقد هيمنت الآثار المترتبة على الحرب الأوكرانية على ضرورة الاستمرار في الاهتمام المشترك بالعوامل الثلاثة للمحافظة على نظام طاقة مستقر وناجح: الأمن الطاقوي، وفواتير معتدلة للمستهلك، وتخفيض الكربون.
إن التحول في النظام الطاقوي يغير معه أنواع الطلب على الطاقة… فالتخفيض الكربوني يؤدي إلى زيادة التحول إلى الطاقات المستدامة. لكن هذا سيتطلب بدوره أيضاً زيادة استعمال الهيدروجين منخفض الانبعاثات، وأيضاً استعمال الطاقات الحيوية بطريقة معتدلة، وكذلك تطوير صناعة واقتصاد الكربون.
فرغم تغير وسائل النقل البري مستقبلاً؛ نظراً إلى الاعتماد الأوسع على المركبات الكهربائية، فإنه يُتوقع أن يستمر أن يلعب النفط دوراً مهماً خلال السنوات الـ15 إلى الـ20 المقبلة. وكذلك؛ اعتماداً على سرعة تحول الطاقة، أن يلعب أيضاً الغاز دوراً مهماً في دول الاقتصادات النامية مع توسع الصناعات فيها، ناهيك بالطلب على الغاز (الوقود منخفض الانبعاثات) في الدول الصناعية.
يعدّ تقرير «بي بي» صرخة أخرى للتحذير من انفلات وتخبط النظام الطاقوي في مرحلة التحول الحالية. والتحذير الواضح في التقرير ضرورة ديناميكية، للارتباط العضوي لكل من: ضمان أمن الطاقة في نزاعات العالم متعدد الأقطاب، والمحافظة على فواتير معقولة للمستهلك بدلاً من تحميله زيادات سعرية عالية وسريعة كما يحدث فعلاً، وتخفيض الانبعاثات الكربونية في ظل تبني سلة طاقة واسعة تشمل الطاقات منخفضة الانبعاثات إلى جانب الطاقات المستدامة.

وليد خدوري

التكنولوجيا والاستسلام لعالم جديد

وادي السيليكون كما نعرفه وبشركاته التي تتبنى ثقافة الشفافية الوظيفية وتمنح موظفيها صلاحيات كبيرة وتسلسلات هرمية وامتيازات ضخمة، في طريقه إلى التلاشي بسرعة ومن غير المرجح أن يعود.
منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، بشرت شركات التكنولوجيا بنهج يركز على جعل العمال سعداء بالمزايا التي كانت تهدف إلى دمج العمل والحياة في سلاسة. وصممت هذه الشركات برامج غير محدودة للرفاهية، والعطلات، وطرحت مبادرات أعطت الأولوية للموظفين ومنحتهم مزايا قياسية. فمع حزمة الرواتب المرتفعة والأسهم، كانت الامتيازات المقدمة وسيلة ليس لكسب صراع المواهب في السوق فحسب، بل أيضاً للسيطرة على السوق. فالنمو السريع ونجاح شركات «وادي السيليكون»، الذي يرجع بعض الفضل فيه إلى الممارسات الفريدة لموظفيها، أعادا تشكيل ثقافة مكان العمل لهذا الجيل.
لكن الزمن تغير، وصناعة التكنولوجيا تواجه اقتصاداً كلياً غير متكافئ وسوق أسهم متعثرة تضع ضغوطاً على شركات التكنولوجيا العامة وتخلق بيئة أقل من مثالية للطرح للاكتتاب العام بالنسبة لشركات القطاع الخاص. ويعمل الرؤساء التنفيذيون للتكنولوجيا الآن على تحسين الربحية أكثر من النمو بأي ثمن، وأحياناً على حساب القيم التنظيمية الراسخة.
هذا التحول بات بالغ الوضوح خلال الطفرة الأخيرة لتسريح العمال في قطاع التكنولوجيا. وقد أثير الكثير من الجدل العام حول الاستبعاد التخريبي لنصف موظفي «تويتر» البالغ عددهم 7500 موظف، وهي خطوة جرت تحت قيادة مالكها الجديد، إيلون ماسك. كان التسريح عشوائياً، وكان من المؤلم مشاهدة ذلك. كان على الموظفين الذين بقوا تحمل أعباء عمل أكبر يصعب على فرق أقل عدداً القيام بها. ولكن في حين أن الغرباء قد ينظرون إلى عمليات التسريح هذه على أنها اندفاعية، فقد بدت وكأنها تهيئ البيئة لشركات التكنولوجيا الأخرى لتتبعها. ففي عام 2022، قامت شركات التكنولوجيا بتسريح أكثر من 150.000 شخص، وفي الأسابيع القليلة الأولى من عام 2023، أعلنت شركة «مايكروسوفت» الاستغناء عن 10 آلاف موظف. واستغنت «أمازون» عن ثمانية آلاف موظف فوق العدد الذي أعلنته في السابق.
وفقاً لوسائل إعلام كثيرة، تجري شركتا «ميتا» و«أمازون» تقييماً لموظفيها، وهو نهج مثير للجدل في تقييم المواهب. ففي عام 1980، ومن خلال شركة «جنرال إلكتريك» التي نشرت هذه الثقافة (على الرغم من أن الشركة تخلت عن ذلك لاحقاً)، جعلت العملية، المديرين يقيمون موظفيهم مقارنة بنظرائهم. وبشكل عام، يصنف 20 في المائة فقط من العمالة بأنهم من المواهب المميزين، فيما يصنف 10 إلى 15 في المائة بأنهم أصحاب أداء متدنٍّ. وعلى الرغم من وجود فوائد، فإن هذه الممارسة قد تخلق بيئة عمل تنافسية (تسودها الضغائن) تؤثر سلباً على جهود تحسين الموظفين. فمع تسريح العمال الوشيك، عادة ما يكون الأشخاص أصحاب التصنيف الأدنى هم أول من يرحل.
تسريح العمال جزء من عصر جديد من هيمنة المديرين، فكرة أن الإدارة هي المهيمنة وأنه يتعين عليها انتزاع السيطرة من الموظفين. فبعد عقدين من القتال من أجل المواهب، يستغل الرؤساء التنفيذيون هذه الفترة للتكيف مع سنوات من التساهل الإداري الذي تركهم مع جيل من العاملين أصحاب الصلاحيات.
في عام 2012، ولتحفيز الابتكار والمشاركة، بدأت شركة «ينكدين» برنامج حاضنة أعمال، الذي كان الميزة التي شجعت الموظفين على التوصل إلى أفكار معتمدة يمكنهم العمل عليها بدوام كامل لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر سخية حتى وفقاً لمعايير «وادي السيليكون». وأقيم الكثير من الفعاليات المهمة بغرض عرض ثقافة الشركة، وكان الموظفون يحضرون حفلات خلال العطلات يعرضون خلالها تجارب «إنستغرام» الجديدة المقبلة. ويكفي أن نعلم أن بعض سائقي شركة «أوبر» الذين حضروا لقاءات شركتهم الرسمية في عام 2015 قد حضروا عرضاً خاصاً للمطربة الأميركية بيونسيه.
يميل المديرون في مختلف القطاعات إلى ممارسة سلطتهم المكتشفة حديثاً، وذلك بإغلاق صفحة ترتيبات العمل والحوافز المتعلقة بالوباء. كان ريد هاستينغز، المؤسس المشارك لشركة «نيتفليكس» والمدير التنفيذي المشارك، قد صرح قرب بداية الوباء بأنه «لم يرَ أي إيجابيات» في العمل من المنزل، ويبدو أن الشركة لا تسمح إلا ببعض الأعمال عن بعد. وبحسب ما ورد من معلومات، فقد أخبرت شركة «تيك توك» موظفيها أنها قلصت عضوية الصالات الرياضية وسداد فواتير «واي فاي» وبدلات وجبة الغداء اليومية البالغة قيمتها 45 دولاراً للعمال الذين لا يعملون من خلال مقار الشركة، وذلك في محاولة لإعادة الانضباط إلى الشركة.
لكن لا يرى جميع الموظفين التقنيين هذه التحولات كإشارات. فقد تحدثت مؤخراً مع مديرة تسويق المنتجات بشركة «ميتا» التي تعرضت للتسريح، وكنت أتوقع أن تكون قلقة بشأن فرص عملها المستقبلي. لكن مع أجر ثلاثة أشهر حصلت عليها قبل تسريحها، واحتفاظها بمدخرات معقولة، كانت لا تزال متفائلة. ومع ما يقرب من 79 في المائة من مهندسي البرمجيات و76 في المائة من المسوقين الذين جرى تسريحهم في قطاع التكنولوجيا ونجاحهم في العثور على وظائف في غضون ثلاثة أشهر، فقد كانت على حق في أن تتفاءل.
ومع ذلك، فإن بعض الأشياء تبدو صحيحة الآن وتجعل التحول في ثقافة موظفي التكنولوجيا ليس مجرد لحظة وقتية ولكنها إعادة تعريف لكيفية إدارة شركات التكنولوجيا.
خسرت شركتا «ميتا» و«سيلزفورس» مجتمعتين أكثر من 700 مليار دولار من قيمهما السوقية العام الماضي. وتتعامل كلتا الشركتين الآن مع مستثمرين ناشطين اتخذوا مواقف بارزة في تعاملهم مع أسهمهم. ودعا النشطاء الشركات إلى خفض التكاليف، والحد من الاستثمارات غير الاستراتيجية، ولا سيما في حالة «ميتا»، وتقليص عمالتها بدرجة كبيرة. فالمديرون الآن باتت لديهم قدرة أقل في الإفراط في التعيينات أو الاستثمار في مبادرات الموظفين غير المرتبطين مباشرة بتنفيذ أعمالهم.
بالنسبة للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا ومديريها التنفيذيين، كانت السنوات العشر الماضية أشبه بـ«سباق الثيران» (مصطلح اقتصادي يعني السوق الصاعدة، على أنها فترة زمنية يشتري فيها غالبية المستثمرين، ويفوق الطلب العرض، وتكون ثقة السوق مرتفعة، والأسعار آخذة في الارتفاع). كانت أسعار الفائدة منخفضة، وبدا تمويل المشروعات بلا حدود وارتفعت التقييمات بشكل كبير. ومع كون المال متاحاً، مضى المديرون التنفيذيون قدماً بأن تابعوا الإيرادات، وزادوا من قواعد العملاء والاستثمار في عدد لا يحصى من الأشخاص (التوظيف) والمشروعات.
ومع ذلك، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأخير منذ أواخر عام 2007 واستمرار عدم اليقين في حالة السوق، يفكر المستثمرون في المزيد من الاستثمارات في الشركات ذات القواعد القوية والتدفقات النقدية. وبالنسبة للمديرين المؤسسين، هذا يعني أنه سيكون من الصعب جمع التمويل، وسيكون لدى المستثمرين توقعات أكبر للعائد على أموالهم. وبالنسبة لشركات التكنولوجيا الكبيرة والشركات الناشئة على حد سواء، لم يعد النقد متاحاً مجاناً، ويجب أن تؤتي استثمارات الموظفين ثمارها.
نحن بصدد حقبة من ضغوط المستثمرين الخارجيين، وارتفاع عقبات التمويل وتقلبات السوق بشكل عام. وهذه البيئة تتطلب من الإدارة إجراء تغييرات هيكلية في طريقة تجربة ثقافة مكان العمل مع العمل ورأس المال على حد سواء.
تُستخدم قوة التكنولوجيا حالياً مع كل صوت انتخابي، وسيتعين عليها الآن الاستسلام لعالم جديد – عالم بتوقعات عالية واستثمارات منضبطة. إن عدم التفكير في رياح التغيير سيعرض وظائف الكثير من العمال أصحاب الصلاحيات للخطر.

التحدي المتزايد للدولار!

منتصف الأسبوع الماضي مرّ إعلان برازيلي – أرجنتيني بشأن التفكير في عملة موحدة جديدة للتجارة والمعاملات البينية، من دون أن يثير كثير اهتمام على الرغم من مغزاه الرمزي المهم بالنسبة للتحديات المستقبلية التي قد تواجه الدولار الأميركي، في ظل مشاكل العلاقات الدولية الراهنة والأزمات الاقتصادية المستفحلة.
الرئيسان الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز، والبرازيلي لويس ايناسيو لولا دا سيلفا أعلنا في مؤتمر صحافي مشترك التزامهما بالعمل لتحقيق التكامل في أميركا اللاتينية، وإنشاء عملة مشتركة لأميركا الجنوبية يمكن استخدامها في المعاملات المالية والعمليات التجارية؛ بهدف «خفض تكاليف التشغيل وضعفنا الخارجي»، وذلك في إشارة واضحة إلى أن الهدف من الخطوة هو تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، الذي باتت كثير من الدول ترى أنه يجعلها عرضة للضغوط وتقلبات السياسات والاقتصاد الأميركي.
صحيح أن البرازيل والأرجنتين أكبر اقتصادين في أميركا الجنوبية، لكن هناك أصواتاً عدة تشكك في الخطوة وما إذا كانت ستقود بالفعل إلى انفصال عن الدولار الأميركي، أو إلى وحدة نقدية على غرار الاتحاد الأوروبي؛ وذلك بسبب التقلبات السياسية في المنطقة، والتباينات بين الأنظمة.
الخطوة بشكلها الراهن قد لا تعدو أن تكون مجرد إعلان نيات؛ لعدم وجود برنامج واضح، وخطوات محددة، ومدى زمني لتطبيقها. كما أن البلدين لا يعتزمان التخلي عن عُملتيهما الوطنيتين (الريال البرازيلي والبيسو الأرجنتيني)، بحيث إن العملة الجديدة المقترحة لن تكون للتداول العام، بقدر ما هي للتعاملات التجارية والمالية البينية بينهما. وحسب ما جاء في المؤتمر الصحافي للرئيسين البرازيلي والأرجنتيني، فإنه تم تكليف وزيرَي المالية إعداد مقترح بشأن المعاملات التجارية والمالية بين البلدين التي يمكن أن تتم بعملة مشتركة؛ ما يؤكد أن الخطوة لا تزال في مراحلها الأولية، وأمامها وقت قد يطول قبل أن ترى النور، هذا إذا تواصلت وبلغت مرحلة التنفيذ الفعلي.
الرئيس الأرجنتيني فرنانديز كان أكثر وضوحاً عندما اعترف بأنه ليس من الواضح بعد كيف يمكن للعملة الموحدة المقترحة أن تعمل في المنطقة، لكنه أكد أنه ونظيره البرازيلي اتفقا على أن الاعتماد على العملات الأجنبية في التجارة بينهما أمر ضار.
تجارب الماضي في أميركا الجنوبية لا تبدو مشجعة قياساً على تجربة «السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور بالأحرف الأولى الإسبانية) التي أنشأتها البرازيل والأرجنتين وباراغواي وأوروغواي قبل 32 عاماً، وانضمت إليها فنزويلا وبوليفيا لاحقاً، لكنها لم تحقق حتى اليوم هدفها في بلوغ وحدة اقتصادية أو تجارية كاملة، كما لم تتوسع وتضم بقية دول القارة الجنوبية.
الخطوة الجديدة لتبني عملة موحدة، التي أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أول من أمس، انضمامه إليها، قد تكون مجرد إعلان سياسي للتعبير عن الغضب من أميركا وسياساتها. فتصريحات الرؤساء الثلاثة (فرنانديز ولولا دا سيلفا ومادورو) التي ترافقت معها، حوت إشارات واضحة إلى الاستياء من واشنطن، ومن الضغوط التي تمارسها عليهم في قضايا مختلفة، ومن تداعيات السياسات الأميركية اقتصادياً وسياسياً على دولهم وقارتهم. فالعديد من دول أميركا الجنوبية التي عانت من اضطرابات وتوترات في علاقاتها مع واشنطن في فترات مختلفة، تذكر أيضاً أن ارتفاع سعر الفائدة بشكل كبير في الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، تسبب في أزمة ديون كارثية في أميركا اللاتينية أربكت الاقتصاد العالمي.
بغض النظر عما سيحدث بشأن الخطوة البرازيلية – الأرجنتينية – الفنزويلية الجديدة، فإنها تسلط الأضواء مجدداً على موضوع الدول التي تفكر في كيفية التحرر من قبضة الدولار الاقتصادية والسياسية، وهي ليست بالضرورة كلها دول معادية لأميركا، بل قد تكون حليفة، لكنها تريد استقلالاً يحمي مصالحها. دول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال تتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وتصنّف على أنها حليفة، لكن ذلك لم يمنعها من إنشاء تكتلها الاقتصادي ووحدتها النقدية وعملتها الموحدة (اليورو). وهناك دول أخرى عديدة بدأت تعمل على تنويع سلة عملاتها واستثماراتها الخارجية، وتقليص أصولها المالية المحفوظة بالدولار بسبب القلق من التذبذب في أسعاره، والمشاكل المزمنة في الاقتصاد الأميركي، وحجم الديون المتراكمة فيه، إضافة إلى المخاوف من تداعيات حرب أوكرانيا، والتوتر المتزايد في العلاقات الأميركية – الصينية.
لكن إنهاء هيمنة الدولار لن يكون أمراً سهلاً، ولا شك أن أميركا ستقاتل بمنتهى الشراسة للدفاع عن هذه الهيمنة التي تمثل جزءاً مهماً من قوتها الاقتصادية والاستراتيجية. فالدولار هو عملة الاحتياط النقدي الأولى، فنحو 59 في المائة من احتياطيات العملات الأجنبية في العالم محفوظة به، كما أنه يمثل العملة الأساسية لنحو 40 في المائة من التجارة الدولية، وهو بذلك يعطي لأميركا قوة هائلة ومؤثرة في الاقتصاد الدولي. وأي تذبذب في سعره ارتفاعاً أو هبوطاً يؤثر على العالم، وينعكس على أسعار الكثير من السلع، وعلى خدمة الديون بالنسبة للدول المقترضة من المؤسسات النقدية الدولية، مثلما رأينا في الأشهر القليلة الماضية عندما رفع بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بشكل متتابع لكبح جماح التضخم؛ الأمر الذي أربك الاقتصاد العالمي وانعكس سلباً على أكثرية الدول التي واجهت انخفاضاً في عملتها المحلية، وارتفاعاً في فاتورة وارداتها وفي عبء خدمة ديونها.
الحقيقة، أن الدولار يواجه تساؤلات وتحديات متزايدة، وبدأ النقاش يرتفع بشكل ملحوظ حول تأثيرات هيمنته على الاقتصاد الدولي. وأذكر في هذا المجال خطاباً قوياً ألقاه المحافظ السابق لبنك إنجلترا، مارك كارني، عام 2019، دعا فيه علناً إلى إنهاء سطوة الدولار على النظام المالي العالمي، قائلاً، إن هذه السطوة أصبحت عائقاً أمام «انتعاش اقتصادي عالمي مستدام». واقترح استبدال الدولار واستخدام عملة رقمية عالمية تتبناها البنوك المركزية في دول مختلفة «لتثبيط التأثير المهيمن للدولار الأميركي على التجارة العالمية».
هناك بالفعل من يرى أن العملات الرقمية ستمثل تهديداً جدياً لمكانة الدولار الأميركي، لا سيما في ظل التطورات التقنية التي سهلت التعاملات الرقمية. فاليوم هناك أكثر من مائة دولة تستكشف التحول للعملات الرقمية، من بينها دول عربية، بينما هناك عشر دول، أهمها الصين أطلقت بالفعل عملاتها الرقمية.
والحديث هنا عن العملات الرقمية الرسمية التي تصدرها البنوك المركزية وليس العملات المشفرة مثل بيتكوين، التي شهدت صعوداً مذهلاً خلال العقد الأخير، لكنها تلقت ضربة قوية منذ نهاية العام الماضي بعد الانهيار السريع لإحدى أكبر منصات تداولها وهي «إف تي إكس» وحدوث خسائر بمليارات الدولارات لشركات وأفراد في مختلف أرجاء العالم، حتى بدأ البعض يتحدث عن بداية نهاية هذه العملات غير الرسمية.
كثير من التوقعات تشير إلى أن الدولار الأميركي سيواجه خلال السنوات القليلة المقبلة تحديات متزايدة، لا سيما مع احتدام الصراع الدولي، وتوجه عدد من الدول مثل روسيا والصين والهند للقيام بمعاملاتها التجارية المشتركة بالروبل واليوان والروبية، وسعي بكين لتبني اليوان الرقمي في معاملاتها التجارية على نطاق أوسع مع الدول الأخرى، إضافة إلى تفكير دول مثل البرازيل والأرجنتين في إصدار عملة مشتركة للتجارة والمعاملات المالية بينهما.
أميركا بالتأكيد لن تقف متفرجة إزاء التهديدات لمكانتها، وربما لهذا السبب نرى احتدام الصراع الدولي، وتزايد المخاوف من حروب كبرى.

عثمان ميرغني

انهيار سوق الكريبتو ونهاية التفكير السحري الذي أصاب الرأسمالية

أثناء إلقائي محاضرة بصفتي أستاذاً زائراً في إحدى الأكاديميات العسكرية عندما كان سعر عملة البيتكوين الرقمية المشفرة الواحدة قد اقترب من 60 ألف دولار، سُئِلت، كما يحدث مع أساتذة الاقتصاد في كثير من الأحيان، عن رأيي في هذه العملات المشفرة، وبدلاً من التعبير عن تشكيكي المعتاد في هذا الأمر، قمت بإجراء استطلاع رأي للطلاب، فوجدت أن أكثر من نصف الحاضرين يتداولون في العملات المشفرة، وغالباً ما يجري تمويل هذا التداول عن طريق القروض.
لقد صُدِمت بالنتيجة، فكيف يمكن لهذه الفئة من الشباب أن يقضوا وقتهم ويهدروا طاقتهم بهذه الطريقة؟! كما أن هؤلاء الطلاب لم يكونوا وحدهم، حيث تبدو الرغبة في التداول في العملات المشفرة أكثر وضوحاً بين الجيل زد وجيل الألفية، إذ أصبحت تلك المجموعات مستثمرة في هذه العملات خلال السنوات الخمس عشرة الماضية بمعدلات غير مسبوقة وبتوقعات متفائلة جداً.
وقد توصلت إلى أن العملات المشفرة ليست عبارة عن أصول غريبة فحسب، ولكنها مظهر من مظاهر التفكير السحري الذي أصاب جزءاً من الجيل الذي نشأ في أعقاب الكساد الكبير، والرأسمالية الأميركية على نطاق أوسع.
ويتمثل هذا التفكير السحري في افتراض أن الظروف المفضلة ستستمر إلى الأبد دون اعتبار للتاريخ، وفي تقليل النظر للقيود، والتركيز الحصري على النتائج الإيجابية.
ولكن من أين أتت هذه الأيديولوجية؟ لقد وفّرت الفترة الاستثنائية التي شهدت معدلات فائدة منخفضة وسيولة مالية زائدة التربةَ الخصبة لازدهار هذه الأحلام الخيالية، كما سمحت التكنولوجيا المنتشرة باعتقاد أن الشركات الحديثة أو رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا، يمكنهم أن يغيروا كل شيء، وقد أدى الشعور بالغضب بعد الأزمة المالية العالمية لعام 2008 إلى تقبُّل الحلول الاقتصادية الجذرية، فضلاً عن أن خيبة الأمل من السياسات التقليدية أدت إلى نزوح الطموحات الاجتماعية إلى عالم التجارة، وأدى انتشار وباء كورونا إلى دفع كل هذه الأسباب للأمام، بينما كنا نجلس أمام الشاشات الذكية ونشعر بالملل، وما غذَّى ذلك كان الأموال التي كانت تبدو مجانية.
ولكن مع تداول البيتكوين الآن بحوالي 17 ألف دولار أميركي، ووسط انخفاض تقييمات الأسهم وتسريح العمال في قطاع التكنولوجيا، بدأت هذه الأفكار التراجع، ويبدو أن تفكك هذا التفكير السحري سيهيمن على هذا العقد بطرق مؤلمة ولكنها تصالحية في نهاية المطاف، إلا أن هذا الوضع سيكون أكثر إيلاماً للجيل الذي اعتاد تصديق هذه الأوهام.
وكان المروِّجون للعملات المشفرة قد تعهّدوا باستبدال الحكومات عن طريق استبدال العملات التقليدية، وبرفض النظام المصرفي والمالي التقليدي من خلال التمويل اللامركزي، وقالوا إنهم يمكن أن يرفضوا القبضة الخانقة المزعومة لعمالقة الإنترنت على التجارة من خلال ما يسمى بـ«Web 3.0»، وأصرّوا على أنه يمكننا رفض المسار التقليدي نحو نجاح التعليم والادخار والاستثمار من خلال التداول في «dogecoin» وهي عملة رقمية مشفرة كان يُقصد بها الدعابة، ولكن قيمتها السوقية وصلت إلى ذروتها بأكثر من 80 مليار دولار.
وتشترك هذه الوعود الوهمية والسخيفة في شعور مشترك مناهض للمؤسسات الراسخة تغذِّيها تقنية لم يفهمها معظمنا مطلقاً، فمَن الذي يحتاج إلى الحكومات أو البنوك أو الإنترنت التقليدي عندما يمكننا العمل بشكل يتجاوز الحدود؟
وقد أظهرت الأسواق المالية السائدة هذه الاتجاهات نفسها، حيث ساد التفكير السحري لدى طبقة المستثمرين الأوسع، وخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة وانعدامها تضخمت قيمة الأصول المضاربة ذات الاحتمالات المنخفضة للنجاح، وقدَّم الباعة الذين يروِّجون للعملات الرقمية المشفرة، التي حوّلت أصول المضاربة إلى طرق جديدة لجذب الجمهور دون الخضوع لعمليات التدقيق التقليدية، وعوداً أكبر مع استبعاد مخاطر أكبر، وهي السمة المميزة للجهل الموجود في التفكير السحري، وظل الكثير من المستثمرين لفترات طويلة يقومون بعمليات شراء تشبه تذاكر اليانصيب، وفاز الكثير منهم بالفعل.
ولم يكن من الممكن أن ينجو الاقتصاد الحقيقي من هذه العدوى، فقد ازدهرت الشركات من خلال توسيع نطاقها وطموحها لإشباع رغبتها في التفكير السحري، حيث جرى تصوير «WeWork» وهي شركة عادية توفر مساحات عمل مرنة، على أنها مشروع روحي يعيد تشكيل الحالة البشرية، مما رفع تقييمها بشكل كبير، كما أعادت شركتا «فيسبوك» و«جوجل» تصور نفسيهما على أنهما قوة تكنولوجية، وأعادتا تسمية علامتهما التجارية بـ«ميتا» و«ألفا»، حيث سعى كل منهما للحصول على إمكانات واسعة يمكنها من خلالها استعراض فكرة الميتافيرس، ولكنها في الواقع كانت أعمالاً إعلانية مبتذَلة (وإن كانت فعَّالة جداً)، إلا أن هذه الشركات باتت تكافح الآن مع عدد من أفكارها الخيالية.
وعلى نطاق واسع، أصبح الكثير من الشركات يتبنى مهامّ اجتماعية أوسع استجابة لرغبة المستثمرين والموظفين الشباب في استخدام رأسمالهم وتوظيفه كأدوات للتغيير الاجتماعي؛ وذلك لأن أحد المظاهر الأخرى للتفكير السحري هو اعتقاد أن أفضل الآمال لإحراز تقدم في أكبر تحدياتنا، التي تتمثل في تغير المناخ والظلم العنصري وعدم المساواة الاقتصادية، هي الشركات والاستثمارات الفردية، وليس الحشد السياسي والاهتمام بمجتمعاتنا.
وأعترف بأن هذا الفكر يعكس تجربتي الخاصة، فعلى مدار العقد الماضي، كان كوني أستاذاً للاقتصاد يعني أنه يجري سؤالي عن العملات المشفرة أو عن طرق التقييم الجديدة للشركات، وقد كان يبدو الابتسام في وجهي وتجاهلي عندما كنت أعبّر عن أفكاري التقليدية، فقد قيل لي إن كل مشكلة تجارية يمكن حلها بطرق جديدة وفعَّالة بشكل جذري من خلال تطبيق الذكاء الاصطناعي على كميات متزايدة من البيانات.
فقد تعلم الكثير من الخريجين، الذين نشأوا في هذه الفترة من التخبط المالي وطموح الشركات المتزايد، ملاحقة هذه الأشياء البراقة برأسمالهم البشري والمالي، بدلاً من الاستثمار في مسارات مستدامة، وهي العادة التي بات يَصعب غرسها في الأجيال اللاحقة.
وصحيح أنه يجب الإشادة بتبنِّي الحداثة والطموح في مواجهة المشكلات الضخمة، ولكن التنوع الشديد للسمات التي رأيناها كثيراً في السنوات الأخيرة يؤدي إلى نتائج عكسية، إلا أن أساسيات العمل لم تتغير بسبب هذه التقنيات الجديدة أو أسعار الفائدة المنخفضة، ولا يزال الطريق إلى الازدهار يتمثل في حل المشكلات بطرق جديدة تقدم قيمة مستدامة للموظفين ومقدمي رأس المال والعملاء.
ولكن المبالغة في تقديم الوعود للجيل الجديد بسبب نطاق التغيير الذي أحدثته التكنولوجيا وإمكانيات الأعمال والتمويل لن تؤدي إلا إلى شعوره بالسخط حين تتعثر هذه الوعود، وكل هؤلاء المستثمرين ومالكي العملات المشفرة الجدد سيضمرون ضغينة ضد الرأسمالية، بدلاً من إدراك العالم المنحرف الذي وُلدوا فيه.
وفي الوقت الذي تنهار فيه العملات المشفرة، فإن نهاية هذا التفكير السحري باتت تقع على عاتقنا، وهذه أخبار جيدة، وصحيح أن أصحاب المصالح سيقاومون هذا الاتجاه من خلال الاستمرار في نشر رواياتهم الخاصة، ولكن ارتفاع الأسعار والعودة إلى دورات الأعمال الروتينية سيستمران في إحداث الصحوة التي بدأت في عام 2022.
ولكن ماذا بعد؟ نأمل أن يتبع ذلك تنشيط للبراغماتية؛ فوجود أصول مضاربة من دون أية وظيفة اقتصادية هو أمر بلا قيمة، كما يجب تحسين المؤسسات القائمة، على الرغم من عيوبها، بدلاً من الاستغناء عنها.
وصحيح أن الشركات تُعدّ ذات قيمة اجتماعية لأنها تحل المشكلات وتولِّد الثروات، ولكن ينبغي عدم الوثوق بها باعتبارها المسؤولة عن التقدم، بل يجب تحقيق توازن من قِبل الدولة، فالمقايضات ستظل موجودة في كل مكان، ولن يكون هناك مفر منها، ولكن المضي قدماً وسط هذه المقايضات، بدلاً من تجاهلها، هو الحل لبدء حياة جيدة.

ميهير أ. ديساي *

أستاذ في كليتي «إدارة الأعمال» و«الحقوق» بجامعة هارفارد.

الذكاء الصناعي… هل يخذل البشرية؟

من مفارقات الحياة الكبرى أن صناع الشيء هم أول من يكتوي بناره. الشركات العملاقة في مجال الذكاء الصناعي آخذة في تسريح عمالها في حدود 10 في المائة أو أعلى قليلاً. الأرقام المعلنة من شركات مثل «أمازون» و«غوغل» و«مايكروسوفت» وغيرها، تشير إلى أزمة كبرى في مجالات عمل تلك الشركات، وهي التي تصنع الكثير من تطبيقات الذكاء الصناعي بدرجاته المختلفة، والتي كثيراً ما بشّرت بأن نشر تلك التطبيقات في مجالات الحياة المختلفة سيؤدي إلى تغيير نمط الحياة البشرية من جانب، وتحسين أوضاعها من جانب آخر، عبر تيسير إنجاز الأعمال القائمة أساساً على التعامل مع البيانات المفرطة، ويصعب على البشر أن يتعاملوا معها بسرعة وكفاءة، بينما تطبيقات الذكاء الصناعي تفعل ذلك في أسرع وقت وبكفاءة عالية. والأهم من ذلك كله هو أن بعض تلك التطبيقات يمكنها أن تتنبأ أو تتوقع في ظروف معينة بسيناريوهات أو تطورات محددة، تمثّل تنبيهاً لأصحابها لاتخاذ خطوات استباقية منعاً للخسارة أو احتوائها.
شركات التكنولوجيا الكبرى تمتلك مثل هذه التطبيقات الذكية القادرة على التوقع بناءً على تحليل إحصائي معقَّد لكمٍّ هائل من البيانات المتراكمة عبر سنوات طويلة، فلماذا لم تتوقع تلك التطبيقات حدوث أزمة قد تسبب لها خسائر بشكل أو بآخر؟ يمتد هذا التساؤل إلى أن تلك الأزمات ليست مرتبطة بقدرات الشركة وحسب، بل أيضاً بقدرات المنافسين القادرين على ابتكار برامج ذكية تفوق ما لدى الشركات العملاقة، والأمران معاً يفسران إلى حد ما قرارات تسريح نسبة لا بأس بها من العاملين المخضرمين من المبرمجين والمخترعين والمنظمين والإداريين في تلك الشركات العملاقة.
كل البيانات الصادرة عن تلك الشركات العملاقة تؤكد أن تراجع الاقتصاد هو السبب الرئيسي، وتلك إجابة منطقية إلى حدٍّ ما، ولكنها ليست إجابة كاملة الأركان، والسبب في اعتقادي أن ثمة خللاً كبيراً بات يصيب تلك الشركات من حيث اعتمادها على تطبيقات ذكية من صنعها، قدم لها تطمينات مستقبلية بأن عملها سيظل في صعود أياً كانت البيئة الكلية التي تعمل فيها تلك الشركات، ومن ثم أخذت في التوسع وفي الإسراع بإبداع برامج وتطبيقات أكثر ذكاءً تقترب من مستوى التعلم الذاتي الأولي، في حين أن البيئة الكلّية من مجتمع وقيم وأنماط حياة مختلفة ومتناقضة أحياناً، ومنافسات قاسية مع الفاعلين الآخرين، تبدو ليست مؤهلة لكل تلك التطبيقات الذكية التي يتم العمل عليها بهدف نشرها وجعلها نمط حياة جديداً للبشرية كلها، وليس فقط لمجتمعات الدول الصناعية.
يُذكر هنا أن مستوى التعلم الذاتي لبعض البرامج وتطبيقات الذكاء الصناعي قائمة أساساً على فكرتين رئيسيتين؛ الأولى أن الآلة من خلال خوارزمية معقدة ومتشابكة ومعادلات إحصائية تتوالد ذاتياً، يمكنها أن تكتسب معارف جديدة توجه عملها دون تدخُّل بشري، وهو ما يدخل في نطاق الآلات المستقلة، وأبرز استخداماتها المستقبلية يُخطط لها أن تكون عسكرية بالأساس كالروبوت المقاتل، وهناك نماذج أولية منه لدى الصين وروسيا والولايات المتحدة. أما الثانية فهي الآلات والتطبيقات التي تعتمد معادلاتها الخوارزمية أساساً على كمِّ البيانات التي تتوفر لها، سواء من خلال ما تجمعه وفقاً للتصميم الأساسي الذي أنشأ عملها، أو من خلال قاعدة بيانات خاصة تمتد لمسافة زمنية معينة ولا تتجاوز تلك المدة الزمنية، ويتم توفيرها مسبقاً بتدخل بشري. وكلا النوعين يقوم بما تُعرف بالتغذية الارتجاعية الذاتية، وهو ما يوفر مساحات من الاستجابة تختلف وفقاً لطبيعة البيانات التي تعتمد عليها. وبالتالي فإن حجم البيانات وطريقة الوصول إليها والمدى الزمني يجعل النتائج مختلفة. ففي أحد التطبيقات الذكية التي يمكنها تحرير النصوص بدقة ويُدعى «أبوت»، وهو امتداد لتطبيق «شات جي بي 2»، والذي أظهر قدرة على تقديم إجابات منطقية لمدى واسع جداً من الأسئلة البشرية، اعتمد على قاعدة بيانات تقف عند عام 2021، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلة حدثت بعد هذا التاريخ. مما يؤكد أن التطبيق الذكي، حتى وإن تعلم ذاتياً، فهو رهْنٌ بما يتاح له من بيانات يتعامل معها بقدر من الحرفية الإحصائية التي تمكّنه من استنساخ إجابات سبق أن توصل إليها البشر في حياتهم الطبيعية.
النوع الأول الذاتي يثير بدوره مشكلات أخلاقية وفكرية وفلسفية كبرى، من قبيل: هل يعاقَب الروبوت المقاتل إن أتى بفعل مُجرَّم وفق القوانين والمعاهدات الدولية التي تنظم الحرب مثلاً؟ وما هذا العقاب لآلة صماء؟ وهل يخضع مبرمجو هذه الآلة للعقاب؟ وما حجمه؟ وقِسْ على ذلك الكثير من الجدل بين العلماء في غيبة عن الرأي العام إلا فيما ندر.
القاعدة الرئيسية هنا تتعلق بحجم البيانات، ومَن يجمعها، وكيف يصل إليها، وقواعد تنظيمها، ومَن يستغلها، ولماذا؟ البيانات هي بذور المعلومات المتناهية الصغر، وعبر تراكمها تتحول إلى غنيمة كبرى، ووفقاً لعالم ذكاء صناعي صيني، فهي نفط العالم الجديد؛ تُمكِّن مالكها من تحقيق السبق في القيادة والهيمنة مع منافسيه. ومن جانب آخر فإن تلك البيانات عند معالجتها بتطبيقات الذكاء الصناعي ليس بالضرورة أن تنتج النتائج نفسها، فحجم التحيز والشفافية والشمول والهدف الضمني الذي صيغت على أساسه الخوارزمية الذكية في التطبيق المعنيّ، تلعب الدور الأكبر في تحديد النتائج المرجوّة. ولعل التطبيق الأكثر حضوراً في هذا المجال المتعلق بالتعرف على الوجوه، الذي طوّرته شركات صينية للتحكم في انتشار وباء «كوفيد» مطلع 2020 واستهدف أساساً مراقبة الجموع في كل تحركاتهم، ووفّر ذلك كماً هائلاً من البيانات للحكومة الصينية عن كل مواطن صيني تقريباً. مما يدعم الشمولية بمعناها الواسع. إيران من جانبها، بدأت تطبيق هذا البرنامج للتعرف على المحتجين والوصول إليهم واعتقالهم، مما يدعم بقاء النظام وشموليته من جانب، ويسرع إجراءات الاعتقال للمحتجين من جانب آخر، ومن ثم يُنهي أي تمرد على المدى القريب. لكنه لا يفيد في إصلاح النظام على المدى المتوسط.
بهذا المعنى يمكننا أن نفهم القلق الذي يجب أن يعتري البشر كلهم، ويدفعهم إلى البحث الجماعي لصياغة اتفاقية أو معاهدة دولية لحماية البشرية من التحيزات المقصودة في تطبيقات وبرامج الذكاء الصناعي. وبالقطع فإن الدور الأكبر الذي ستلعبه الدول الصناعية الكبرى في صياغة مثل هذه المعاهدة سيكون مشفوعاً بمصالحها ومصالح شركاتها العملاقة المدنية والعسكرية بالدرجة الأولى. أما الدول والمجتمعات الأضعف في صناعة الذكاء الصناعي فسيقلّ، إن لم ينعدم، دورها تماماً. وهنا تبدو معضلة الأطراف الأخرى، لأن أي معاهدة دولية لمجالات لا تختبرها الغالبية العظمى من الدول والمجتمعات لن تكون ذات معنى، ومن ثم ستقل فاعلية هذه الوثيقة الدولية إن تم التوصل إليها، وغالباً ستكون مجالاً لابتزاز تلك الدول لاحقاً من قِبَل الدول المحتكرة للذكاء الصناعي.

 

د. حسن أبو طالب

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

ربما قضيت الأيام الأخيرة من السنة الماضية، والأيام الأولى من العام الحالي، متابعاً بتعجب ما تناقلته وسائل الإعلام عن أوضاع الاقتصاد العالمي، وكيف أنه يتعرض لأزمات شتى متعددة ومستمرة، لم تترك مصدراً لها أو بعداً إلا شملته. وشرع المحللون يصنفون حدتها وأوجه تأثيرها على حياة الناس وأسباب معيشتهم. ثم ها هي صحف اقتصادية واسعة الانتشار، مثل «فايننشيال تايمز» اللندنية، تزف فجأة أخباراً وتقارير عن أجواء للتفاؤل، انتقلت عدواها بين جنبات منتجع دافوس السويسري؛ حيث عقد الأسبوع الماضي المنتدى الاقتصادي العالمي. وانتشرت روح الأمزجة المبتهجة؛ خصوصاً مع ارتفاع البورصات المالية العالمية بنحو 4 في المائة منذ بداية العام.
دعم هذا التوجه المتفائل نسبياً قرار الصين -كثاني أكبر كيان اقتصادي عالمي- بإنهاء سياسة «صفر- كورونا» وإعادة فتح البلاد للحياة العادية، ومعاودة النشاط الاقتصادي إنتاجاً واستهلاكاً. واحتفى البعض أيضاً بانخفاض أسعار الغاز الطبيعي بنحو 80 في المائة، بما سيخفف العبء عن ثالث أكبر تجمع اقتصادي تمثله أوروبا التي عانت أزمة طاقة حادة وتقلباً في أسعارها. وكان السبب الأخير للانطباعات الإيجابية هو أثر قانون تخفيض التضخم للولايات المتحدة الأميركية واستثماراته الموعودة والمدعومة بسخاء لتنفيذ برامج التحول الأخضر؛ خصوصاً في مجالات الطاقة والبنية الأساسية. مثل هذه المؤشرات عن الاقتصادات الثلاثة الأكبر عالمياً ستدفع المؤسسات المالية الدولية إلى تحديث لمؤشرات الاقتصاد العالمي، لتتوقع اقتصاداً عالمياً يتحاشى في مجمله فوهات الركود، ويسيطر على التضخم.
ويجب ألا نتعجب من سرعة تغير التوقعات وتوجهاتها، فقد تطرقت في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغراء في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أن «ظروف اللايقين التي يعيشها العالم تجعل احتمال حدوث التوقعات المعلنة من أنواع التخرص، وإن صدقت بعض هذه التوقعات فهي من المصادفات غير المحسوبة. ولمن لديه شك، فليراجع توقعات المؤسسات الدولية على مدار السنوات الثلاث الماضية، منذ اندلاع جائحة (كورونا) عن نمو الاقتصاد العالمي، ومعدلات التضخم، وأسعار السلع الرئيسية، كالنفط ومواد الطعام والمعادن النفيسة، وأسعار صرف العملات الرئيسية، وليحدد مدى اقترابها من الواقع المعيش».
على الرغم من ذلك، ليس لدي من شك في أن الاقتصاد الأميركي سيخرج في النهاية من أزمة التضخم الراهنة بإجراءات السياسة النقدية المتبعة، وقد يضطر البنك الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بمقدار يتراوح بين 25 و75 نقطة أساس، أي بأقل من نقطة مئوية حتى نهاية العام، ثم سيأخذ فترة لمراجعة حقيقة ما يحدث في سوق العمل بين مؤشرات تظهر متانته، ومؤشرات أخرى متعارضة تتعلق بتسريح أعداد كبيرة من العاملين في بعض الشركات الكبرى من السوق، كما سيتابع مؤشرات نمو الاقتصاد ليدفع به بعيداً عن تهديدات الركود، وسيتحقق من مدى صمود المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع العقارات، وسلامة القطاع المالي من التعرض لمخاطر زيادة القروض المتعثرة.
أما الصين، فبعد ثلاثة أعوام من الإغلاق بسبب «كوفيد» ستكون لسرعة عودتها للحياة الطبيعية آثار حميدة، برفع معدلات النمو والتشغيل بعد فترة قد يتطلبها التكيف مع الواقع الجديد، من حذر وتحفظ على مدار الشهور الأولى من هذا العام، ولكن إذا تركت الأمور تسير في أعنتها على النحو المتوقع فسيرتفع معدل نمو الاقتصاد الصيني بتأثير إيجابي على متوسط نمو الاقتصاد العالمي. ولكن هذه الزيادة في نمو الاقتصاد الصيني ستصحبها زيادة في الطلب على الطاقة والسلع الرئيسية والخامات وأسعار النقل والسفر، بما يستوجب حساب الأثر الصافي، وفقاً لمدى استجابة قطاعات الإنتاج والعرض والتوزيع، بافتراض سلامة سلاسل الإمداد من أي مربكات طبيعية، أو مفتعلة، من جراء تبني سياسات حمائية مقيدة من جانب بعض شركاء الصين التجاريين.
ربما تبدد زيادات أسعار الطاقة -بسبب معاودة الاقتصاد الصيني مسيرة نموه- مظاهر الابتهاج المبكر باحتمالات انخفاض معدلات التضخم في أوروبا؛ خصوصاً مع أجواء الحرب الدائرة في أوكرانيا، بما سيحفز استمرار البنك المركزي الأوروبي في السياسات التقييدية؛ بل سعيه للضغط على السياسات المالية العامة، حتى لا تتبنى سياسات توسعية تقوض جهوده في مكافحة التضخم. وربما ستتكرر الحالة الأوروبية مجدداً بالتأخر في التعافي؛ ليس فقط لمشكلات الطاقة والحرب، ولكن لما تعانيه القارة العجوز من تحديات ديموغرافية، بزيادة نسبة الشيخوخة، وتراجع معدل نمو السكان، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض نسب الإنفاق على الابتكار والبحث والتطوير باستثناءات محدودة.
ما يعنينا هو الأثر الصافي لهذه التغيرات، والتدافع بين الاقتصادات العالمية الكبرى، على البلدان النامية. فقد أفصحت سجلات الأزمات العالمية الأخيرة عن أن الدول النامية؛ خصوصاً ذات الدخل المتوسط منها، هي عادة الخاسر الأكبر فيها إلا قليلاً، كما أن الأشد اضطراباً وعرضة لمخاطر هذه الأزمات داخل هذه الدول متوسطة الدخل هي أسر الطبقة الوسطى. فالشرائح الغنية لديها ما يحميها من هذه الأزمات؛ بل قد تستفيد منها وفقاً لمصادر ثرواتها ودخولها، أما الشرائح الأقل دخلاً فأصبحت لها منظومة متعارف عليها لشبكات الحماية الاجتماعية والدعم العيني والنقدي، بتكاليف محددة في موازنة الدولة، والتي يمكن أن تحمي هذه الشرائح شريطة تفعيلها المبكر بكفاءة، قبل زيادة تأثير احتدام الأزمات عليهم.
وما أقصده بفخ الوسط يشمل الدول متوسطة الدخل، والتي تشكل ثلث اقتصاد العالم، وتضم 75 في المائة من سكانه، ويعيش فيها أكثر من 60 في المائة من فقراء العالم. وتنتمي إلى هذه المجموعة أغلب البلدان العربية، وأعداد متنامية من البلدان الأفريقية تشكل الثقل السكاني للقارة السمراء. وقد أشرت من قبل إلى أن الدول متوسطة الدخل لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة في الاقتراض الرخيص بعملاتها المحلية من الأسواق الدولية بلا مخاطر في سعر الصرف وتقلباته. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كالذي تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلاً. فقد حُرمت الدول متوسطة الدخل من جل التمويل الميسر بافتراض مضلل وفضفاض بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية، من خلال مواردها المحلية واستثمارات القطاع الخاص، والنفاذ إلى الأسواق المالية الدولية. فسبل التيسير لحياة الفقراء ومتوسطي الدخل مطلوبة بما يتجاوز اعتبارات التصنيف العقيمة للدول، وفقاً لشرائح دخول تختزل واقع التنمية في متوسطات مضللة، لا تأخذ في الاعتبار التفاوت الحاد في توزيع الدخل، أو مدى الهشاشة عند التعرض للصدمات.
إذن لدينا معضلتان يلخصهما فخ الوسط: مرة إذا وقعت فيه الدول متوسطة الدخل، ومرة أخرى إذا تناولنا أوضاع الطبقة الوسطى بهذه البلدان في الاعتبار. وأضيف إلى ذلك ما قد نلاحظه أيضاً من تحديات تتعرض لها المشروعات المتوسطة، فالشركات الكبرى لها الحظوة في التمويل بمعاملات تفضيلية من البنوك والأسواق المالية، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تتوفر لها حزم مساندة بدعم محلي أو خارجي، أما المشروعات المتوسطة في كثير من البلدان النامية فلا سند لها أو معين في أجواء الأزمات، فلا هي طالت حظوة الشركات الكبرى، ولا هي أصابها إغداق الداعمين للمشروعات الصغرى. ولهذا ينتشر تعبير الوسط المنسي لوصف حال من وقع تصنيفه في خانات الوسط؛ سواء كانت دولة أو شركة أو أسرة منتمية للطبقة الوسطى.
ويستلزم الأمر مراجعة لسبل تيسير التمويل في وقت الأزمات. ففيما يتعلق بالبلدان النامية تجب إعادة النظر فيما تحصل عليه من المؤسسات المالية الدولية، وشروط اقتراضها المغالية، بتيسير هذه الشروط؛ سواء من حيث التكلفة أو فترة السماح أو مدة التمويل. وقد اقترحت على سبيل المثال ألا تزيد تكلفة تمويل العمل المناخي على 1 في المائة، بفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات، وفترة سداد لا تقل عن عشرين سنة، ويمول هذا الدعم من تعهدات المائة مليار دولار الموعودة من البلدان المتقدمة التي لم تصل بكاملها أبداً للبلدان النامية. وبالنسبة للشركات المتوسطة فتجب مساندة الواعدة منها ذات المكون التكنولوجي الرائد، وصاحبة الإسهام الملموس في التشغيل والابتكار والتصدير. أما أسر الطبقة الوسطى فينظر لها على أنها سند الاستقرار المجتمعي، المحافظة على قيمه، وبين شرائحها يحدث الحراك الاجتماعي المطلوب للتقدم.
وفي عهد صعود الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، كان إذا سئل الشباب عن أي مركز اجتماعي يرغبون فيه مستقبلاً، تأتي الإجابة تلقائية برغبتهم في أن يكونوا مثل سائر الناس. ففي المجتمعات التي تشكل الطبقة الوسطى غالبية مكونات هرمها السكاني والاقتصادي، يكون طموح الفرد وتوقعه أن يكون مثل عموم الناس دون نقصان.

د. محمود محيي الدين