أرشيف التصنيف: المقالات العامة

أقوى وسيط بيانات في العالم ينتصر في الحرب ضد أميركا

خرج الرئيس بايدن من القمة التي جمعته بالرئيس الصيني شي جينبينغ في 15 نوفمبر (تشرين الثاني)، ملتزماً المضيَّ قدماً فيما أطلق عليه «المنافسة البسيطة والمباشرة» مع الصين. ومع ذلك، تبدو بكين متفوقة بالفعل على الولايات المتحدة وحلفائها في مجال واحد حاسم، ألا وهو البيانات.
في الواقع، تعد البيانات بمثابة نفط القرن الحادي والعشرين، أي المورد الذي لا غنى عنه والذي سيغذي خوارزميات الذكاء الصناعي والقوة الاقتصادية والقوة الوطنية.
أما مصدر هذه البيانات فهو منا جميعاً: سجلاتنا الصحية والتسلسلات الجينية، وعاداتنا عبر الإنترنت، وتدفق سلسلة التوريد لأعمالنا، وعدد تيرابايت من الصور التي تلتهمها الهواتف والطائرات من دون طيار والسيارات ذاتية القيادة.
تتطلب المنافسة على النفوذ العالمي في القرن الحادي والعشرين حماية هذه البيانات وتسخيرها لتحقيق مزايا تجارية وتكنولوجية وعسكرية. وحتى الآن، يبدو الفوز من نصيب الصين، بينما الغرب يشارك بالكاد.
من خلال مجموعة من القوانين واللوائح الحديثة، عمل الرئيس الصيني شي جينبينغ بجد لجعل الحزب الشيوعي الصيني أقوى وسيط بيانات في العالم. والسؤال هنا: كيف تنجز بكين ذلك؟ من خلال عزل البيانات الصينية عن العالم، وممارسة سلطة جديدة خارج الحدود الإقليمية على تدفقات البيانات العالمية ووضع الشركات الأجنبية العاملة في الصين في مأزق قانوني، وكل ذلك أثناء استيعاب بيانات البلدان الأخرى عبر وسائل مشروعة وغير مشروعة.
ويدرك شي جيداً أنه حتى إغلاق البيانات الصينية فقط، التي تمثل أنماط وسلوك نحو 1.4 مليار شخص، من شأنه أن يعيق منافسي بكين في سعيهم لتحقيق التفوق الاقتصادي العالمي.
من ناحيتها، تحدثت إدارة بايدن عن أهمية البيانات في المنافسة مع الصين، ومع ذلك لم تتضح حتى الآن معالم استراتيجية محددة في هذا الاتجاه؛ الأمر الذي يهدد خصوصية الأميركيين، والقدرة التنافسية الاقتصادية للبلاد، والأمن الوطني والمكانة العالمية المستقبلية. ومن المؤكد أن هذا سيكون هذا اختباراً أساسياً لسياسة واشنطن إزاء الصين خلال عام 2022.
إن «النقطة العمياء» لواشنطن بشأن الدور المحوري للبيانات الضخمة في مساعي تحقيق طموحات بكين والطرق التي تُستغل بها بياناتنا في خدمة تلك الطموحات أمر محير، في وقت يتزايد فيه قلق السياسيين الأميركيين حيال جمع البيانات الضخمة واستغلالها المحتمل من الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة.
ويزيد هذا الأمر حيرة أكبر؛ لأن الأميركيين يدركون كذلك السبل التي تستغل من خلالها بكين موارد الولايات المتحدة الأخرى وتحولها إلى سلاح بيدها، مثل أسواق رأس المال.
ويتضح هذا في الكيفية التي بدأت بها واشنطن أخيراً – وإن كانت متقطعة – في معالجة التدفق المدمر للذات للدولار الأميركي باتجاه أجهزة المراقبة العسكرية والعالمية في الصين. في حين أن هذا النوع من الإجراءات لا يزال في حاجة إلى التوسع بشكل كبير، فإن صانعي السياسات على الأقل لديهم الآن بعض الأدوات للحد من وصول بكين السهل إلى رأس المال الأميركي.
يختلف الأمر فيما يخص البيانات، مع اعتقاد بكين أن لها مطلق الحرية، وأن الغرب مشتت للغاية أو عاجز عن الاستجابة بشكل بنّاء. من جانبه، يفكر شي ويتصرف على نطاق ضخم، وكانت الحال كذلك منذ أيامه الأولى في السلطة.
على سبيل المثال، عام 2013، بعد فترة وجيزة من توليه الرئاسة في بكين، أعلن شي، أن «المحيط الهائل من البيانات، تماماً مثل موارد النفط أثناء فترة التحول إلى الصناعة، ينطوي على قوة إنتاجية وفرص هائلة. ومن يتحكم في تقنيات البيانات الضخمة سوف يتحكم في موارد التنمية وتكون له اليد العليا بكل تأكيد.
ومنذ ذلك الحين، تعكف بكين على بناء إطار عمل لضمان أن التراكم الجماعي للبيانات يصب باتجاه خدمة المصالح الاستراتيجية للحزب الشيوعي الصيني.
وأكدت سلسلة من القوانين التي جرى تنفيذها عام 2017 قدرة الحزب على الوصول إلى البيانات الخاصة على الشبكات الصينية، سواء في الصين أو المرتبطة بشركات صينية مثل «هواوي» في الخارج.
واليوم، سنّت بكين بهدوء مجموعة جديدة من القوانين، كان أولها قانون أمن البيانات في سبتمبر (أيلول)، تلاه في نوفمبر قانون حماية المعلومات الشخصية، الذي يتمادى إلى حد المطالبة ليس فقط بالوصول إلى البيانات الخاصة، وإنما كذلك بالسيطرة الفاعلة عليها.
ومن شأن ذلك ترك تأثير كبير على الشركات الأجنبية العاملة في الصين؛ ذلك أنه ليس فقط يجب أن تبقى بياناتهم الصينية داخل الصين وأن تكون في متناول الدولة، وإنما تطالب بكين أيضاً اليوم بالسيطرة على ما إذا كان يمكنهم إرسالها إلى مقرهم الرئيسي، إلى معمل شركة في كاليفورنيا، مثلاً، أو إلى حكومة أجنبية تقدمت بطلب لإنفاذ القانون أو طلب تنظيمي.
وربما تجرّم قوانين بكين الجديدة الامتثال للعقوبات الأجنبية المفروضة على الصين والتي تتضمن بيانات، مثل إغلاق الخدمات المصرفية أو الخدمات السحابية لكيان صيني مرتبط بتجاوزات بمجال حقوق الإنسان. في هذه الحالات، يمكن للشركات الأجنبية الامتثال للقانون الأميركي، أو يمكنها الامتثال للقانون الصيني، ولكن ليس كليهما.
ويبدو تأثير مثل هذه القوانين واضحاً، فقد اختارت «تيسلا» و«آبل» وغيرهما بناء مراكز بيانات صينية متخصصة – أحياناً بالشراكة مع كيانات تتبع الدولة الصينية؛ خوفاً من فقدان الوصول إلى السوق الاستهلاكية الصينية الضخمة. كما واجهت مؤسسة «غولدمان ساكس» ضغوطا كبيرة كي تمتنع عن إرسال مذكرات عمل إلى الولايات المتحدة.
وتأتي الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها بكين لتكمل جهودها الطويلة في شراء البيانات وسرقتها والحصول عليها بطريقة أو بأخرى من مصادر أجنبية في جميع أنحاء العالم. المؤكد أن بكين تخترق قواعد بيانات الشركات متعددة الجنسيات، وتدير برامج «توظيف المواهب» في الجامعات والشركات الأجنبية، وتشتري شركات أجنبية، مثل شركة إيطالية لتصنيع طائرات عسكرية من دون طيار. كما أنها تمول شركاتها الناشئة القائمة على البيانات في الأسواق الخارجية المفتوحة، مثل وادي السيليكون.

مات بوتينغر وديفيد فيث

سيناريوهات «أوميكرون»

خلال سنة واحدة، ومنذ ديسمبر (كانون الأول) 2020، سجلت منظمة الصحة العالمية 5 متحورات من فيروس «كورونا»؛ ابتدأت بمتحور «ألفا» الذي سُجل في بريطانيا، وانتهت بمتحور «أوميكرون» الذي سجل في جنوب أفريقيا الشهر الماضي. وعند بداية ظهور كل متحور يتكرر السلوك نفسه من الأسواق، ولكن بدرجات متباينة، بهبوط للأسواق المالية، وزيادة اختناق سلاسل الإمداد والتوريد، وزيادة القيود على المصانع، وزيادة احتمالات التضخم. ولا يبدو أن العالم تأقلم حتى الآن مع ظهور المتحورات الجديدة، فقد شهدت الأسواق العالمية هبوطاً في بداية الأسبوع الماضي ونهاية الأسبوع السابق له. ولم تظهر حتى الآن بيانات يمكن الاعتماد عليها بشأن خصائص «أوميكرون»… وعليه؛ فإن كل ما يحدث في الأسواق العالمية الآن لا يعدو مخاوف تؤججها حالة عدم التيقن التي يفرضها المتحور الجديد.
وقد صرحت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» في بيان لها بأثر المتحور الجديد في زيادة حالة عدم التيقن التي يعاني منها الاقتصاد العالمي بالفعل قبل ظهور المتحور. وزادت المنظمة من توقعاتها زيادة التضخم عام 2022 من 3.9 في المائة إلى 4.4 في المائة، مبيّنة أن أكثر من قد يتضرر من زيادة معدل التضخم هما بريطانيا والولايات المتحدة، وذلك بارتفاع التوقعات من 3.1 في المائة إلى 4.4 في المائة. كما توقعت المنظمة انخفاض معدل النمو لبعض الدول، مثل أوروبا والصين والولايات المتحدة، بينما لم تتوقع ضرر دول أخرى مثل الهند واليابان، مستنتجة أن النمو العالمي إجمالاً قد لا يتغير كثيراً العام المقبل عن التوقعات السابقة والتي أعلنتها بداية الربع الرابع من هذا العام.
وبالنظر إلى المتحورات السابقة؛ فقد وضعت المنظمة احتمالين لتأثير المتحور على التضخم: الأول أن يتسبب المتحور الجديد في مزيد من الاضطرابات في سلاسل الإمداد وأن يطيل التضخم لفترة أطول. أما الثاني فيفترض تفاقم المتحور فيكون هناك مزيد من القيود على التنقل كما حدث في بداية الوباء، وفي هذه الحالة سوف ينخفض الطلب مسبباً انحساراً سريعاً للتضخم. كما حدد «غولدمان ساكس» 4 سيناريوهات للمتحور الجديد:
الأول: أن يكون هذا المتحور مجرد إنذار كاذب، وبذلك ينتشر «أوميكرون» بسرعة أقل من سابقه متحور «دلتا»، ويكون له تأثير اقتصادي طفيف.
الثاني: أن ينتشر «أوميكرون» أسرع من سابقه، ولكنه يكون أقل فتكاً منه، والتأثير في هذه الحالة يكون متواضعاً.
الثالث: أن يكون المتحور الجديد أكثر عدوى وفتكاً من سابقه، وفي هذه الحالة يكون الأثر والانكماش الاقتصادي كبيراً.
والسيناريو الأخير هو أن يستمر المتحور الجديد في الانتشار بشكل تصاعدي؛ لكنه أقل فتكاً من متحور «دلتا»، مؤثراً بذلك على التوقعات المستقبلية، ولكن الواقع قد يتغلب على هذه التوقعات، تماماً كما حدث خلال الأشهر الماضية حيث كان التعافي العالمي أسرع من المتوقع.
وتنتظر جميع هذه التوقعات بيانات واقعية من العلماء ومن المستشفيات لتعطي صورة أوضح عن الوضع المقبل؛ لا سيما أن التخوف الأكبر للأسواق هو فرض قيود جديدة على المصانع والموانئ والشحن، مما يعني مزيداً من اختناقات سلاسل الإمداد التي تعاني قبل ظهور المتحور. كما تخشى الحكومات كذلك أن يستدعي تفاقم الوضع الاقتصادي إطلاق حزم مساعدات جديدة، وقد بلغت المساعدات التي وفرتها دول «مجموعة العشرين» نحو 10 تريليونات دولار. هذه المساعدات قد تعاني منها الدول الغربية أكثر من غيرها؛ وذلك لارتفاع الديون لديها الآن، بينما تملك الدول الآسيوية احتياطات تمكنها من إطلاق هذه المساعدات دون الاعتماد على الديون وحدها.
والأكيد أن المتحور الجديد لن يكون بالشدة نفسها لوقع بداية الوباء، فالعالم اليوم اعتاد وجود الفيروس، والدليل أن الإصابات والوفيات في هذا العام أكثر بكثير من مثيلاتها العام الماضي، ومع ذلك؛ فلم يكن التأثير على عجلة الاقتصاد بالشدة ذاتها. ولكن المخاطر قد تأتي من الإغلاق الحكومي كما يحدث في اليابان حالياً من إغلاق للحدود، أو بابتعاد طوعي من الأفراد عن التجمعات والاختلاط الاجتماعي خوفاً من العدوى، أو من زيادة في القيود المحلية كما حدث في الصين التي قد يؤثر الوضع فيها على سائر العالم بما تملكه من قوة اقتصادية وأثر كبير على سلاسل الإمداد.
إن ظهور 5 متحورات خلال عام واحد لهو دليل على أن فيروس «كورونا» لن يتوقف عن أنه تهديد لأي بلد في العالم حتى يتوقف عن أنه تهديد لجميع البلدان. وظهور متحورين من الخمسة في جنوب أفريقيا ليس محض صدفة، حيث لم تزد نسبة أخذ الجرعات على 25 في المائة. ولذلك فالحري بالحكومات – بدلاً من تغيير السياسات النقدية بوصفها حلولاً مؤقتة – الالتفات بشكل جدي إلى توفير اللقاح للدول الفقيرة التي لا يزيد معدل أخذ اللقاح فيها على 7 في المائة مقابل 65 في المائة للدول الغنية. وتوفير اللقاح للدول الفقيرة ليس تصرفاً خيرياً؛ بل هو ضرورة يحتمها واقع أن العالم اليوم في مركب واحد، فعدم توفير اللقاح يعطي فرصة لانتشار الفيروس بشكل أسرع، وبالتالي زيادة إمكانية ظهور متحورات جديدة تزيد من التقلبات الاقتصادية في العالم، وتؤخر تعافي النمو الاقتصادي.+

د. عبد الله الردادي

مع «أوميكرون»… القلق مشروع والهلع ممنوع

في قائمة المربكات الكبرى، التي تضطرب بعد ظهورها حياة البشر وتختلف أحوال معيشتهم تأثراً بها، تتربع على قمتها الجوائح والأوبئة. فبعد عامين من ظهور فيروس كورونا في ووهان بالصين، يحيي الفيروس ذكراه السنوية بمتحور جديد أُعلن عنه في جنوب أفريقيا ومنحته منظمة الصحة العالمية اسم «أوميكرون». ويشكل المتحور الجديد مع المتحور السابق عليه المعروف بـ«دلتا»، الذي ظهر في الهند في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، خطراً جديداً على صحة الإنسان واستقرار المجتمعات وتطورات اقتصاداتها.
وحتى كتابة هذه السطور ظهرت حالات متعددة للإصابة بالفيروس المتحور مرت بأفريقيا وآسيا، وتكاثرت مع اكتشافها بالاختبارات المتلاحقة في أوروبا وكندا. ولم تظهر حالات بعد في الولايات المتحدة ولكن رئيسها جو بايدن، قال إنها فقط مسألة وقت حتى يصل «أوميكرون» إلى أميركا، بما يدعو للقلق ولكنه دعا شعبه لعدم الذعر أو الهلع الذي يزيد الأمور ارتباكاً. كما ذكر بايدن بعد اجتماع مع كبير خبراء الأمراض المعدية الأشهر أنتوني فاوتشي، بأن بلاده ستتعرف على هذا المتحور وستهزمه، وأنه سيحيط الشعب بالمستجدات. ووفقاً لفاوتشي، فإن اللقاحات المتاحة توفر حماية للأشخاص الملقحين بالكامل، ولكن فريقه سيحتاج إلى أسبوعين للتعرف على مزيد من المعلومات عن مدى خطورة السلالة الجديدة وخصائصها وسبل التعامل معها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الدكتور فاوتشي إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية المألوفة منذ إعلان الجائحة، وتعزيز كل من حصل على جرعتين من اللقاح بثالثة، وأن يمتد التطعيم ليشمل الأطفال، يواجه العالم معضلتين فيما يتعلق باللقاح. أولهما عزوف الكثيرين في أميركا وأوروبا عن تلقي اللقاح لعدم ثقتهم به علمياً، أو لاقتناعهم بالمناعة الطبيعية كبديل لعملية السيطرة بفرض لقاحات، أو لتمردهم على الانصياع لأي ضوابط أو قيود باعتبارات تمسكهم بحرياتهم وسيادتهم على أجسادهم. وفي حين يتعرض فاوتشي وفريقه لهجوم شديد لتمسكه بضرورة التلقيح للبالغين، خصوصاً من سياسيين من الجنوب الأميركي من المنتمين للحزب الجمهوري، ذكرت مجلة «نيويوركر» على لسان دكتور فاوتشي رده على هذا الهجوم بأن «متحوراً فيروسياً للغباء تم التعرف عليه في تكساس! وأن هذا المتحور سريع الانتشار لديه مناعة شديدة ضد كل المعلومات». ويستمر السجال والجدل المتواصل بين من يملكون رفاهية الاختيار في الدول الغنية، ففي نهاية الأمر لديهم العلاج في منظومتهم الصحية إذا ساءت اختياراتهم، رغم ما في ذلك من مخاطر تتجاوز في تكلفتها ما تتطلبه الوقاية.
المعضلة الثانية الأكبر خطراً هي عدم العدالة في توفير اللقاحات حول العالم. وفي مقال نشر الأسبوع الماضي بصحيفة «الشرق الأوسط» الغراء بقلم جوردون براون رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، بصفته سفيراً لمنظمة الصحة العالمية لتمويل الصحة العالمية، أقر بفشل المجتمع الدولي في الوفاء بتحقيق التوزيع العادل للقاحات. فرغم أن العالم مع نهاية هذا العام سيكون قد أنتج 12 مليار لقاح، فإن 95 في المائة من البالغين في الدول الأفقر ما زالوا محرومين من اللقاح الذي تستحوذ عليه الدول الأغنى. ولن تصل أكثر من 80 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل للحد الأدنى المقرر عالمياً بتطعيم 40 في المائة من البالغين من سكان كل دولة. وهو ما حذرنا منه تكراراً منذ الإعلان رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 عن الانتصار العلمي بتطوير عدة لقاحات ناجعة في زمن قياسي. ففي حين انتصر العلم خابت الإرادة السياسية وخارت قواها المحدودة أمام جشع المستحوذين على اللقاح، الذين ستنتهي في مخازنهم صلاحية 100 مليون جرعة قبل نهاية هذا العام لن ينتفع بها فقير أو غني.
وهكذا لم تشهد الدول النامية بعد كل اجتماع دولي للتعهدات إلا اتساعاً في الفجوة بينها وبين الدول ذات اللقاحات إنتاجاً أو اقتناء، ولم تجد الدول الأفقر مع هذا الحرمان إلا سخاء في وعود لم يوف بها. فوفقاً لبراون، فإن الدول الأغنى اشترت بالفعل ما يقترب من 90 في المائة من كافة اللقاحات، كما تسيطر على 70 في المائة من توريدات المستقبل. هذا في حين أن عدد من حصلوا على اللقاح في أفريقيا يقل عن 7 في المائة وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وعن صافي حسابات الوعود، فقد أوفت الولايات المتحدة بحوالي 22 في المائة من تبرعاتها الموعودة فحسب، وهي بذلك أفضل نسبياً من أداء الاتحاد الأوروبي الذي لم يتجاوز نسبة 15 في المائة.
وتجتمع هذا الأسبوع جمعية الصحة العالمية، وينتظر منها أن تتبنى قرارات مهمة لمنع تكرار حالات الإهمال السابقة على الأوبئة التي يعقبها هلع بعد الإعلان عن تفشيها، وذلك من خلال الاستثمار في تدابير وقائية وإتاحة التمويل الكافي للعمل الصحي الدولي، والنظر فيما تتبناه إدارة منظمة الصحة العالمية من اقتراح لمعاهدة دولية جديدة تدعم التنسيق الدولي في الاستعدادات المانعة لتفشي الأوبئة، والدفع بسرعة المواجهة حال حدوثها دوت إبطاء.
ومن العجيب أنه على بعد مسافة قريبة من مقر منظمة الصحة العالمية، حيث تقبع منظمة التجارة العالمية، ما زال هناك إصرار على عدم منح الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية لما يتعلق بمواجهة جائحة من لقاح وعلاج. وضيع العالم وقتاً ثميناً منذ تقدمت جنوب أفريقيا والهند في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020 بطلب الإعفاء الذي رفضته إدارة ترمب الأميركية ودول غنية معها، ثم عاودتا الكرة ومعهما ستون من الدول النامية في شهر مايو (أيار) من هذا العام بطلب جديد، ولم يحرك هذا ساكناً رغم موافقة ما أظهرتها الولايات المتحدة منذ عدة شهور، بعدما كانت معترضة على الموافقة من قبل، لتعارضها الآن دول أوروبية بحجج واهية.
هناك ضرورة عالمية الأثر تحتم السماح للدول النامية ذات القدرة على إنتاج اللقاحات بالسير قدماً في ذلك، ولكن يعطلها التعنت بالتمسك بحقوق الملكية، وهو ما ينبغي التصدي له، وعدم الاكتفاء بوعود بقروض ميسرة أو دعم بمنح اللقاح. فالمنطق البسيط، فيما يفهم من شرح أهل الاختصاص، إما أن تكون في الدول النامية معامل وطاقات لإنتاج اللقاح وسرعة توزيعه فتصبح بذلك جزءاً من الحل، وإلا أصبحت جزءاً من المشكلة بجعلها مأوى ومكامن لخطر تحور مستمر للفيروس وعدم السيطرة سريعاً عليه؛ فلم يكن «دلتا» آخر التحورات، ولن يكون «أوميكرون» آخرها أيضاً.
ورغم ما مر به العالم من خبرة عن الأثر الاقتصادي لهذه التطورات فقد تكون هناك تساؤلات معلقة، ألخصها في حوار مفترض على طريقة الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، في مسرحيته الشهيرة في «انتظار جودو» بين بطليه إستروجان الملول المتعجل، وفلاديمير الفيلسوف الهادئ:
– ما الذي ينتظر العالم من تغيرات اقتصادية؟
* الإجابة يسيرة وليست سارة.
– أفصح بالله عليك!
* بحكم ما رأيناه من تجربة مريرة خلال العامين الماضيين علينا أن نتوقع مزيداً من عدم اليقين، وتقلباً في الأسواق مع انخفاض في معدلات النمو والتشغيل لضعف الاستثمارات، مع زيادة في التباين في الدخول والثروات لصالح الدول الأغنى المستحوذة على اللقاحات، مصحوب ذلك كله بارتفاع في معدلات التضخم في الأسعار.
– وكأنك تقرأ تقرير مريض متعدد العلات! ولكنك تقول بوجود تضخم رغم ما نراه من مظاهر الركود؟ هل يجتمعان معاً.
* العين أسيرة ما تراه. ربما ترى أنت ركوداً حيث تعيش وتعمل، ولكن الركود ليس شاملاً لكل القطاعات؛ وإن كانت هناك مخاوف مما يسمى بالركود التضخمي مثلما حدث في السبعينات باجتماع الشرين معاً، وهو ما لا أرجح حدوثه فما زال هناك نمو يقترب من 6 في المائة في هذا العام، و5 في المائة في العام المقبل.
– أرقامكم لا نراها إلا في التقارير كثيرة التعديل والتغيير.
* ملاحظتك لا بأس بها، ولكن لا تنس أنها تتحدث عن توقعات تصيب وتخطئ. كما أن الأرقام متوسطات محسوبة لإجمالي أرقام متباينة في عالم يعاني من التفاوت أصلاً.
– ولكن ما سبب هذا التضخم؟ وهل هو مؤقت أم مستمر؟
* أراك تتابع تصريحات جيروم باوال رئيس البنك الفيدرالي الأميركي ومعارضيه. هو يراه مؤقتاً وهم يرونه مستمراً.
– وكيف تراه أنت؟
* أراه تضخماً محدوداً في الدول المتقدمة سينحسر بعد حين، ولكنه سيكون غلاء في الدول الأفقر التي تفتقد نظماً شاملة للضمان الاجتماعي. فستضار بزيادة تكلفة المعروض باستمرار ارتباك سلاسل الإمداد، ولاعتمادها على سلع مستوردة بتكاليف تعلو مع انخفاض سعر الصرف، مع زيادة خدمة الديون المقترضة لشراء هذه السلع بسبب إجراءات ستتخذها الدول المتقدمة لكبح جماح التضخم عندها برفع أسعار الفائدة.
– هل هذا من العدل في شيء؟
* لا!
– تقولها ببساطة… ولكن حقاً ما العمل؟
* أو لم تسمع عن نصيحة الرئيس بايدن؟
– وماذا قال؟
* خلاصة ما قاله إن القلق مشروع والهلع ممنوع
– أحقاً قال ذلك؟ أستطيع أنا أيضاً قول مثل هذا الكلام وأكثر.
* حسناً… قله إذن!
– لا نستطيع الاستمرار هكذا.
* هذا ما تظن

د. محمود محيي الدين.
اقتصادي مصري

ما بين ميردوخ وزوكربيرغ

قبل نحو أسبوعين، عاود قطب الإعلام الشهير روبرت ميردوخ، شن هجماته على شركات التكنولوجيا العملاقة من جديد، مركزاً انتقاداته هذه المرة على شركتي «ألفا بيت» المالكة لمحرك البحث الأشهر «غوغل»، و«ميتا» المالكة لموقع «التواصل الاجتماعي» الأهم «فيسبوك».
يجسد ميردوخ حالة إعلامية فريدة بسبب النفوذ الكبير لشركته «نيوز كورب»، التي يُضرب بها المثل أحياناً على الاحتكار في مجال «الإعلام التقليدي»، والنزوع الربحي، الذي يتجاوز معايير الأداء المرعية، ويضرب بقيَم العمل الصحافي عرض الحائط، سعياً لتحقيق المصالح التجارية.
ومع ذلك، فقد وجد ميردوخ أن «غوغل» و«فيسبوك» يرتكبان مخالفات كبيرة يمكن أن تؤثر سلبياً في قدرة «وسائل الإعلام التقليدية» على الاستدامة من جانب، وأن تضر بمصالح بعض الأطراف وتقوض السلامة المجتمعية من جانب آخر.
ففي اجتماع الجمعية العمومية لحملة أسهم «نيوز كورب»، كرر قطب الإعلام الشهير انتقاداته لـ«غوغل»، لأنه يعيد نشر المواد الصحافية التي تنتجها «وسائل الإعلام التقليدية» من دون أن يدفع المقابل المناسب لها، بما يحد من قدرتها على مواصلة تمويل أعمالها. كما انتقد «فيسبوك»، لأنه «يمارس سياسة انتقائية تؤدي إلى تغييب الأصوات المحافظة، وتعكس انحيازاً لليسار والديمقراطيين»، وهو الانتقاد الذي يتكرر منذ سنوات، رغم محاولات رئيس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ الحثيثة لنفيه.
من المدهش حقاً أن تصدر تلك الانتقادات المتكررة عن ميردوخ، الذي تورطت وسائل الإعلام التي يملكها في أخطاء كبيرة، كلفته في بعض الأحيان التضحية ببعضها، كما حدث في إطار فضيحة صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد»، التي اضطر إلى إغلاقها بينما كانت في ذروة ازدهارها، بسبب تورطها في فضيحة تنصت على هواتف بعض المصادر.
ورغم وجود ميردوخ شبه الدائم على «لوحة التنشين» باعتباره هدفاً سهلاً للهجوم والنقد عند الحديث عن مدى التزام شركته بمعايير الأداء الصحافي والقيم المهنية والمؤسسية، فإن انتقاداته لشركات التكنولوجيا العملاقة تحظى بقدر من الوجاهة. وتستمد انتقادات ميردوخ وجاهتها من أن وسط «الإعلام التقليدي» الذي تعمل خلاله شركته يتمتع بميراث ضخم من آليات الضبط والتقنين وإخضاع الأداء للتقييم، وهو الأمر الذي تفتقده شركات التكنولوجيا العملاقة رغم توسعها وانتشارها ونفوذها الكبير. ففي شهر أبريل (نيسان) الماضي، تحدثت صوفي زانغ، الموظفة السابقة في «فيسبوك» إلى عدد من وسائل الإعلام عن أخطاء فادحة ترتكبها الشركة في حق الأمن القومي والسلم الأهلي لعديد الدول، بسبب عدم اتخاذها الخطوات الملائمة للحد من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
ورغم خطورة ما كشفت عنه زانغ، فإن موقعها في الشركة لم يحرك الرأي العام والحكومات والمؤسسات التشريعية بالشكل الكافي، وهو الأمر الذي تغير تغيراً جذرياً حين خرجت المسؤولة السابقة في الشركة فرانسيس هوغن، على الإعلام، مفجرة مفاجآت جديدة وصادمة في هذا الصدد.
فقد قالت هوغن في تصريحات إعلامية وفي شهادة أمام الكونغرس الأميركي، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن «فيسبوك» يُغلب اعتبارات الربحية وزيادة التفاعل على حساب سلامة المستخدمين، كما قدمت وثائق تثبت تلك الاتهامات، مطالبة زوكربيرغ بالتنحي عن رئاسة الشركة بسبب «عجزه عن اتخاذ القرارات السليمة». وكان من سوء حظ «فيسبوك» أن العاصفة التي فجرتها شهادة هوغن تزامنت مع أزمة انقطاع خدمات منصات الشركة الرئيسة، الأمر الذي جسد المحنة التي يعانيها «فيسبوك»، وعظم الشعور بخطورة وضعه الاحتكاري وأنموذج الأعمال الذي يتبعه. وفي استجابة مثيرة لتلك التطورات، صدر تصريح مهم يوجه سهام انتقاد لاذعة إلى «فيسبوك» وغيره من شركات التكنولوجيا العملاقة؛ إذ قالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن «التسريبات التي كشفتها هوغن توضح أن التنظيم الذاتي في شركات التكنولوجيا العملاقة لا يعمل».
والتنظيم الذاتي ببساطة هو مزيج من المعايير التي تحدد أنماط الأداء المناسبة لوسائل الإعلام، بما يضمن لها الحفاظ على حرية الرأي والتعبير من جانب، ويصون مصالح الجمهور والأطراف المعنية من جانب آخر.
ويُعد التنظيم الذاتي أحد المكاسب المتولدة عن تفعيل نظرية المسؤولية الاجتماعية في العمل الصحافي، ويعكس نمط التزام طوعي من قبل الناشرين والعاملين في المجال الإعلامي بمبادئ وقيم وأساليب عمل لا تُغلب الاعتبارات الربحية والدعائية على المعايير المهنية والمسؤولية تجاه الجمهور. وفي مختلف الوقائع التي كان ميردوخ عرضة خلالها للانتقاد، كان التنظيم الذاتي في مجال «الإعلام التقليدي» يعمل، ويحد من انفلاتاته، ويُقوم أداء وسائله الإعلامية، وهو أمر لم ننجح حتى الآن في أن نقنع زوكربيرغ وزملاءه بتطويره وتبنيه.

د. ياسر عبد العزيز

كيف تتعامل مع التراجعات التي تحدث في سوق الأسهم؟

التراجعات الكبيرة في مؤشرات أسواق الأسهم بنسبة 10% أو أكثر، هي حقائق لا مفر منها للمتداولين في أسواق الأسهم.

قد تحدث الانخفاضات الكبيرة في أسواق الأسهم مرة أو مرتين في العام، وربما كل عامين، وأحيانًا تتفاعل مع الأحداث الخارجية مثل الحروب أو الحوادث الإرهابية أو انتشار الأوبئة.

في بداية جائحة كورونا خلال عام 2020، رأينا أعمق وأسرع التراجعات أو كما أطلق عليها البعض “التصحيحات” في التاريخ، حيث فقد مؤشر S&P 500 نحو 30% في غضون أسابيع، لكنه نجح واستعاد هذه الخسائر بالكامل في غضون خمسة أشهر.

تكمن المشكلة في التوتر والذعر اللذان يُصيبان المتداول أثناء التراجعات، الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذه قرارات متسرعة، والتي قد تتسبب في حدوث خسائر كبيرة وضياع مكسب محتمل، إذا اللتزم بالصبر أثناء هذه التراجعات.

فيما يلي بعض الإرشادات التي يجب عليك القيام بها عندما يحدث تراجعات في سوق الأسهم.

  • تجنب متابعة الأخبار ولا تتحدث عن الأسهم مع أصدقائك 

البرامج الإخبارية التي تتابع الأسواق دقيقة بدقيقة ليست مفيدة جدًا عندما تتراجع الأسواق بقوة، لأن متابعة العديد من الأخبار السلبية في وقت قصير قد يؤثر على رؤيتك للأسهم ومستقبلها، وبالتالي قد تُصاب بالذعر وتقوم باتخاذ قرار قد يكلفك خسارة كبيرة.

تقول ليز ويستون، مؤلفة الكتب المالية مثل “Deal With Your Debt”: “بمجرد حدوث التصحيح أو الانخفاض، قلل من تعرضك للأخبار المتعلقة بالسوق وتجنب التحقق من أرصدتك، يمكن أن يؤدي الخوف إلى ردود أفعال اندفاعية، مثل البيع في حالة الخسارة الكبيرة.. وتذكر إذا لم تبع أسهمك، فأنت لم تفقدها”.

هذه الطريقة تعني أيضًا تجنب التحدث مع الأصدقاء المهووسين بالسوق، لأن قد يكون هذا هو الوقت المناسب لأخذ استراحة من الأحاديث المستمرة حول أسواق الأسهم.

  • عندما يتراجع السوق، ابق هادئًا 

يتحدث علماء السلوك عن الإدراك الحار والبارد Hot and Cold Cognition، يتضمن الإدراك البارد صياغة الأفكار واتخاذ خيارات عقلانية بناءً على الحقائق، لكن عندما نكون مضطربين، يبدأ الإدراك الساخن وتسيطر عواطفنا على قرارتنا.

إجراء تعديلات بسيطة عندما يتراجع السوق 

لا يوجد سبب قد يمنعك من إعادة تقييم اختياراتك للأسهم السابقة بناءً على معلومات السوق الجديدة أثناء التراجعات.

على سبيل المثال، ربما كنت تؤمن بأسهم التكنولوجيا قبل خمس سنوات عندما قمت ببناء محفظتك، لكنك الآن بدأت تعتقد أنها تنطوي على مخاطرة كبيرة أو أن المنظمين الحكوميين على وشك تغيير بعض القواعد التي قد تؤثر على ربحية هذه الشركات.

كما يجب عليك أن تحاول قدر الإمكان الاستفادة من التراجعات التي تحدث، ولا تدع الأزمة تذهب دون أن تستفيد منها.

فقد يكون تراجع السوق فرصة لإعادة فحص خططك وتعديلها، هذا هو التفكير البارد في العمل كما ذكرناه في الفقرة السابقة، وهو مختلف تمامًا عن الدافع العاطفي للبيع بسبب يوم سيء في سوق الأسهم.

يجب أن تفكر في الأمر من منطلق آخر، أثناء التراجعات قد يكون هذا هو الوقت الأنسب للشراء في أسهم شركات كبيرة بأسعار رخيصة، مما يجعله الوقت المثالي لاقتناص الفرص.

مثلما يحدث أثناء أيام التخفيضات التي تقوم بها محلات الملابس، فأنت تذهب سريعًا لكي تحصل على ما تريده بأقل الأسعار، فكر في الأمر بهذه الطريقة عندما تحدث تراجعات حادة في سوق الأسهم.

  • لا تندم 

عندما ترى الأسواق تتراجع تبدأ في التفكير في البيع، ثم تتراجع عن الفكرة، ويأتي اليوم التالي وتجد الأسواق مُستمرة في التراجعات، فتندم بأنك لم تبيع في اليوم السابق.

أثناء التراجعات قد يكون من الصعب عليك مقاومة شعور الرغبة في فعل شيء ما.

في هذا الحالة يجب أخذ هذه الطاقة واستغلالها في البحث أو قراءة كتب عن تاريخ الأسواق والتراجعات التي حدثت بها، فكل ما حدث في السوق قد حدث سابقًا.

عندما تشعر بالندم على شيء، يصبح هذا الوقت لأخذ كل هذا الندم وتحويله إلى شيء مفيد.

cnbc

أوروبا عدوة أوروبا

تتعرض أوروبا اليوم لأزمات عدة تجعل المتأمل في خططها المستقبلية ووضعها الحالي في حيرة من مدى إمكانية تطبيق هذه الخطط والسياسات على أرض الواقع. وتعاني أوروبا أزمات في التعدين، واليد العاملة، والطاقة، تجعل مهمتها في تحقيق الاستدامة البيئية ومحاربة التغير المناخي في غاية الصعوبة. وما يثير الاستغراب أن التوجهات السياسية لبعض الدول الأوروبية تبعد أوروبا أكثر عن أهدافها. وسوف أتناول بعض هذه الأزمات بشكل أكثر تفصيلاً…
فالأزمة الأولى التي قد تتعرض لها أوروبا خلال العقد المقبل تتعلق بوفرة المعادن، فلكي تستطيع أوروبا تصنيع توربينات الرياح والألواح الشمسية لتوليد الطاقة المتجددة، فهي بحاجة ماسّة إلى معادن مثل المغنسيوم؛ أحد العناصر الرئيسية في تصنيع الألمنيوم المستخدم في صناعة السيارات والطائرات ومكونات الأجهزة، والذي يعد أحد أهم العناصر لتخفيف أوزان السيارات لتوفير استهلاك الطاقة. وقد كانت أوروبا في يوم من الأيام أحد أكبر منتجي المغنسيوم؛ إلا إن القرارات السياسية المتعلقة بالصناعات أدت إلى اضمحلال هذه الصناعة في أوروبا. وقد أوضحت وكالة الطاقة الدولية أن الطموحات الأوروبية في محاربة التغير المناخي لا تتسق مع وفرة المعادن لديها. واليوم تعتمد أوروبا بشكل كامل تقريباً على المغنسيوم الصيني، حيث تستورد 95 في المائة من الصين، وحين تأثر الإنتاج الصيني مؤخراً بفعل أزمة الطاقة، تأثرت المصانع الأوروبية بشكل كبير نتيجة لهذا. لذلك؛ فأوروبا في حاجة ملحّة إلى بدء نشاطات التعدين لتلبية الطلب المستقبلي، ولا يبدو ذلك سهلاً في ظل التحزبات البيئية التي تهاجم أنشطة التعدين.
الأزمة الثانية هي اليد العاملة؛ فأوروبا اليوم قارة عجوز ليس لعراقتها التاريخية؛ بل لأنها أعلى قارة في معدل الأعمار، وقد ساعدت حركة المهاجرين إليها بشكل كبير في تدعيم قواها العاملة. ولكن هذا الدعم قد لا يستمر طويلاً لأسباب سياسية؛ منها حركة اليمين الأوروبي لوقف المهاجرين إلى أوروبا. والأكثر غرابة هو بعض الجماعات البيئية في أوروبا، والتي تدعو إلى تحديد النسل للحد من الانبعاثات الكربونية، مصدرة دراسات توضح الانبعاثات الكربونية التي يتسبب فيها الإنسان خلال حياته، وكيف يمكن التخفيف من هذه الانبعاثات بعدم الإنجاب. وقد أجرت صحيفة ألمانية مقابلة مع معلمة تطالب بإعطاء حوافز للإناث بنحو 50 ألف يورو لتحفيزهن على عدم الإنجاب. ومعدل الإنجاب في أوروبا في انخفاض مستمر بالفعل، فعلى سبيل المثال؛ بلغ معدل الإنجاب في بريطانيا 16 لكل ألف نسمة في عام 1958، بينما انخفض هذ الرقم إلى 11 فقط في عام 2018.
الأزمة الثالثة هي الطاقة؛ فكما هي الحال مع مناجم المعادن، حارب كثير من الدول الأوروبية (مثل هولندا وبريطانيا) مصادر الطاقة فيها بدعوى المحافظة على المناخ. ولم يكن ذلك بشكل تدريجي، بل حدث خلال سنوات قليلة، متسبباً في أزمة في الطاقة اتضحت بشكل جلي في الأشهر القليلة الماضية. وفيما لو كانت أوروبا في الماضي تعتمد بشكل جزئي على الغاز المستورد من روسيا، فهي اليوم تعتمد بشكل شبه كلي على هذا الغاز. وأوروبا لا يمكن لها الاستغناء عن الغاز الذي تعده مرحلة تحولية نحو الطاقة المتجددة، وقد تستمر في احتياج له لعقدين على الأقل.
إن المتأمل في القارة العجوز يراها تغوص في ورطة بشكل تدريجي، فهي مندفعة ومتعجلة إلى مكافحة التغير المناخي؛ بما في ذلك من فرض سياسات محلية مؤثرة على الاقتصاد. وهي – بضغط من الأحزاب البيئية – تسعى إلى فرض رسوم على المعادن الصينية بدعوى أنها ملوثة للبيئة، وقد سبق لها قبل سنوات فرض رسوم بزعم أن الصين تغرق الأسواق بمنتجات مدعومة حكومياً.
في كل الأحوال؛ فإن أوروبا لا يمكنها تحقيق أي من خططها المستقبلية دون الصين شاءت أم أبت. وقد أوضحت تقارير مؤخراً إدراك الناخب الأوروبي أنه قد يدفع فاتورة السياسات الأوروبية الجديدة، فغالبية هذه التحولات السريعة نحو الطاقة المتجددة سيجري تمويلها من أموال دافعي الضرائب، الذين دفعوا بالفعل فاتورة غير مباشرة لهذه السياسات بدفع أسعار مضاعفة للغاز المستورد.
ويبدو أن أوروبا بنفسها تناقض خططها المستقبلية، فهي تريد تصنيع معدات للطاقة المتجددة، ولكنها تحارب استيراد موادها الخام من دول ملوثة للبيئة كالصين، وهي لا تملك اليد العاملة الكافية ومعدل الأعمار فيها في ارتفاع مستمر؛ لكنها تحارب حركة المهاجرين إليها، وهي في حاجة إلى الطاقة لأغراض الصناعة والتدفئة، ولكنها تسعى إلى إغلاق شركات الطاقة ولا تحاول مسايرة روسيا موردها الأكبر للغاز، والأمر يبدو من بعيد كأن أوروبا عدوة لأوروبا.

د. عبدالله الردادى

بداية سقوط الصين: الرئيس “يقبض” على التكنولوجيا

شرع الرئيس الصيني شي جينبينغ في تنفيذ حملة إصلاحات وتغييرات في شركات كبرى، ولا سيّما التكنولوجيّة منها، مرسياً قواعد جديدة وضعتها الحكومة الصينية لمكافحة الاحتكار وفرض قيود على استخدام البيانات، وهو ما أسفر عن خسارة شركات عملاقة متخصّصة بالتجارة الإلكترونية مبالغ طائلة، أبرزها شركة “علي بابا” الشهيرة.

رأى الكاتب في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناتيوس أنّ التدابير، التي اتّخذتها الحكومة الصينية في قطاع التكنولوجيا، تنعكس في جوانب معيّنة على الولايات المتحدة، حيثُ يمكن تخيّل وجود شابّ صينيّ متميّز بهذا القطاع يدرس في ستانفورد أو يعمل لدى “غوغل”، وعند عودته إلى بلده لن تكون الفرص أمامه متاحة كما كانت من قبل، بسبب الإجراءات التي تحدّ من دور العقول وتهدف إلى إخضاع الشركات التكنولوجيّة، “بعكس وادي السيليكون، حيث لا تتبع القدرات العقلية أوامر السياسيين”.

يعاني المستثمرون من انقلاب نفّذه الرئيس الصيني في قطاع التكنولوجيا

 

وذكّر إغناتيوس بقولٍ لنابليون بونابرت حين نصح جنوده بعدم مقاطعة الخصم عندما يرتكب خطأ، موضحاً أنّ بعض الخبراء الأميركيين الضالعين بالشؤون الصينيّة يقدّمون تحذيراً مماثلاً خلال مراقبتهم تنظيم الرئيس الصيني لقطاع التكنولوجيا. لكنّهم يتساءلون في الوقت نفسه: هل تؤثّر تدابير شي جينبينغ سلباً على قطاع التكنولوجيا في الصين، أو لدى الاقتصاد الصيني من القوّة والديناميكيّة ما يمكّنه من استيعاب أخطاء يرتكبها الرئيس الذي من المتوقّع أن يُجري محادثات مع نظيره الأميركي جو بايدن قريباً؟

وباتَ واضحاً تأثّر النموّ في الصين، الذي أخذ يتباطأ، كما نشرت مجلّة “فورين أفيرز” في مقال عنونته بـ”نهاية صعود الصين”. إلا أنّ التجارب السابقة تؤكّد أنّ من الخطأ المراهنة على عدم تمكّن الصين من حلّ المشاكل، بحسب إغناتيوس الذي نقل ما قاله رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق والخبير في الشؤون الصينية كيفين رود من أنّ الحملة ستؤدّي إلى تباطؤ نموّ الشركات وليس القضاء عليها نهائيّاً.

من المؤكّد أيضاً أنّ “فقاعة الإنترنت في الصين قد تقلّصت”، وأشار إغناتيوس في هذا الإطار إلى أنّه جرى إسكات “جاك ما”، مؤسّس شركة “علي بابا”، بعدما جرؤ على انتقاد السلطات الصينية. وأوقف المنظّمون الطرح العام المخطّط لشركة التكنولوجيا الماليّة العملاقة “آنت”، ذراع علي بابا الماليّة، في تشرين الثاني الماضي. وفرضت الصين غرامة بقيمة 2.8 مليار دولار على مجموعة علي بابا بسبب اتّهامات لعملاق البيع بالتجزئة على الإنترنت بانتهاك قواعد الاحتكار.

إذاً يعاني المستثمرون من انقلاب نفّذه الرئيس الصيني في قطاع التكنولوجيا، إذ تراجعت أسهم “علي بابا” 41% خلال العام الماضي، وكذلك شركة “Didi Global” بنسبة %47 منذ تموز، و”Tencent Holdings” بنحو 40%.

التدابير التي اتّخذتها الحكومة الصينية في قطاع التكنولوجيا، تنعكس في جوانب معيّنة على الولايات المتحدة، حيثُ يمكن تخيّل وجود شابّ صينيّ متميّز بهذا القطاع

 

هكذا سيطر الحذر في الصين، بعدما كان هذا القطاع حرّاً كوادي السيليكون. فبعد تغريم علي بابا، استُدعيت شركات أخرى وأُجبرت على التعهّد بتنفيذ إصلاحات محدّدة، الأمر الذي أثار مخاوف من عودة الرئيس الصيني إلى الوراء وفرضه التغيير بقبضة حديدية وتفضيله الشركات المملوكة من الدول أو تلك التي تنصاع لسلطته بدلاً من تلك المستقلّة، وبدأ التفكير في تداعيات الإصلاحات على الاقتصاد الصيني. وقد يُرضي المديرون التقنيّون المطيعون الرئيس الصيني، لكنّ احتمالات إنتاج الأفكار الخارقة، التي تعزّز “حلم الصين”، هي التي ستتراجع.

ولفت إغناتيوس إلى مفارقة لافتة، وهي أنّ نقد الرئيس الصيني لهذا القطاع يشبه نقاشات دارت في الولايات المتحدة. إذ يعتقد أنّ نموّ الإنترنت يساهم في إنتاج مليارديرات جدد، مفاقماً عدم المساواة، فيما يسعى هو إلى إرساء “الرخاء المشترك”، منتقداً رعاية مواقع التواصل الاجتماعي للألعاب وبعض الأنشطة، بدلاً من القيام بثورة تكنولوجيّة حقيقية.

من جهته، قال المستثمر كريستوفر شرودر الذي يتواصل باستمرار مع المبتكرين الصينيّين الشباب في مجال التكنولوجيا: “الناس يراقبون، وهذه لحظة حذر”. ويشكّ شرودر في حدوث “تباطؤ لدى الشركات التكنولوجيّة الناشئة في الصين”.

وفي جلسة حول الاقتصاد الرقمي، أوضح كريستوفر جونسون، الذي عمل محلّلاً استخباريّاً ويدير الآن شركة استشارية هي “مجموعة الاستراتيجيّات الصينية”، أنّ ما قاله شي جينبينغ عن سعيه إلى أن تعتمد الصين على نفسها في التقنيّات الأساسية، وأن تتصدّر في مجال التكنولوجيا عالميّاً، يعني أنّه يركّز أقلّ على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي والتجارة الرقمية، حيث أثبت عمالقة التكنولوجيا في الصين نجاحهم، ويوجّه رسالةً مفادها أنّ على هؤلاء الانضمام إلى جناح الرئيس وإجراءاته، وإلا فسيُتركون، وفقاً لجونسون.

 

سارة ناصر

– تفكك الشركات العملاقة

تحرص الشركات على تنويع محافظها الاستثمارية لأسباب متعددة، منها تقليل المخاطر، والوصول إلى أسواق مختلفة، وزيادة فرص التكامل بين أنشطتها. وخلال عقود طويلة، قامت كبريات الشركات العالمية بعمليات استحواذ لهذه الأهداف وغيرها، حتى أصبح من الطبيعي أن تضيف الشركات أنشطة وقطاعات جديدة إلى أنشطتها، وأصبح من الصعب حصر القطاعات التي تعمل بها هذه الشركات الضخمة. ولكن الأيام الماضية شهدت حركة عكس هذا التيار، فقد أعلنت كل من «جنرال إلكتريك» و«جونسون آند جونسون» عن تفككها إلى عدة شركات متخصصة في قطاعات معينة، في موجة يبدو أنها قد تشمل عدداً من الشركات الضخمة في المستقبل القريب.
فبداية من «جنرال إلكتريك» التي تأسست منذ 129 عاماً، مشكلة رمزاً للشركات الأميركية الضخمة التي تنتهج سياسة توسعية تكتلية في القطاعات، فإنه خلال هذه السنوات استحوذت الشركة على أكثر من 50 شركة، منها 8 خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتعددت قطاعاتها من الأجهزة المنزلية حتى المحركات النفاثة. وقد وصلت في عام 2000 إلى أن تكون الشركة ذات القيمة السوقية الأعلى في العالم، بنحو 600 مليار دولار. ولكن الأمر اختلف الآن في الشركة العملاقة، فمنذ الأزمة المالية في العقد الماضي والشركة في معاناة مستمرة، انتهت بتقسيمها إلى 3 شركات منفصلة: واحدة متخصصة في قطاع الطيران، والأخرى في الطاقة المتجددة، والثالثة في قطاع الرعاية الصحية.
أما «جونسون آند جونسون» التي بدأت أعمالها منذ نحو 135 سنة، والتي تحتل المرتبة الثانية عشرة في ترتيب كبريات الشركات الأميركية، وتعد أكبر شركة رعاية صحية في العالم، من ناحية المبيعات والقيمة السوقية (نحو 434 مليار دولار)، فقد قررت تقسيم الشركة إلى شركتين منفصلتين: تتخصص إحداهما بالصيدلة والأجهزة الطبية، والأخرى في قطاع المنتجات الاستهلاكية. ويبدو الأمر مختلفاً في هذه الشركة، فسلوك كل من القطاعين اللذين قُسمت الشركة على أساسه متناقض مع الآخر، فقطاع المنتجات الاستهلاكية ذو نمو بطيء وهامش ربح منخفض، ويواجه منافسة شرسة من منافسين كُثُر، وهو ما يستدعي إنفاقاً عالياً في الإعلانات. أما قطاع الصيدلة والأجهزة الطبية، فهو قطاع يتميز بمعدل الخطر المرتفع، وترتبط به أرباح عالية جداً في حال حققت العقارات الطبية نجاحات، وهو قطاع تختلف فيه المنافسة لصعوبة الاستثمار فيه. وتزيد نسبة القطاع الطبي على قطاع المنتجات الاستهلاكية بالشركة بفارق شاسع، فقد بلغت عوائد القطاع الطبي في الشركة 13 مليار دولار في الربع الأخير وحده. ولم تزد نسبة قطاع المنتجات الاستهلاكية على 20 في المائة من إجمالي مبيعات الشركة العام المنصرم. وقد يستغرق هذا التقسيم من 18 إلى 24 شهراً، وقد شهد تفاعلاً إيجابياً من السوق، بزيادة سعر السهم نحو 1.2 في المائة بعد الإعلان.
ويبدو من إعلان الشركتين أن سياسة التكتل التي انتهجتها الشركات الأميركية في ستينات القرن الماضي لم تعد نافعة لهذا العصر. وقد كانت النظرة السائدة منذ الستينات أن الشركة الأكبر أفضل، وأن الشركة التي تنجح في إدارة قطاع معين يمكنها إدارة أي قطاع آخر بنجاح، وبالتالي يمكنها الاستحواذ على شركات أخرى. أما الآن، فإن النظرة اختلفت، والمستثمرون يرون أن الشركات التي تتخصص في قطاع محدد يمكنها التركيز بشكل أفضل على هذا القطاع، وهذا التخصص يعطيها مرونة أكبر وسرعة استجابة أعلى للأسواق ومتطلباتها. ولذلك، فإن كثيراً من الشركات بدأت بالفعل في التفكك بحسب القطاعات (مثل توشيبا)، أو بترك بعض النشاطات للتركيز على نشاطات أخرى، كما فعلت (IBM) بتركها النشاطات الخدمية، وكذلك شركات أخرى مثل (ABB) و«سيمينس»، وغيرها.
ويلاحظ أن توجه الشركات العملاقة القديمة إلى التفكك هو عكس ما تفعله الشركات التقنية الجديدة في تنويع استثماراتها وزيادة قطاعاتها، فـ«أمازون» -على سبيل المثال- تستثمر في متجرها الإلكتروني والخدمات السحابية ومتاجر الأغذية، وغيرها من الأنشطة المختلفة. وغيرها من الشركات التقنية تستثمر إضافة إلى ذلك في السيارات ذاتية القيادة، وفي الأجهزة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي. وأشبه ما يكون ذلك بدورة حياة للشركات، فهي -بعد أن تنجح في نشاطها الأساسي- تبدأ في الاستحواذ على نشاطات أخرى، مستفيدة من سيولتها النقدية الحرة، محققة نجاحات متواصلة، إلى أن تصل إلى مرحلة من الضخامة تقيدها وتفقدها مرونتها وديناميكيتها التي كانت في الأساس سبباً رئيساً في نجاحها، لتعود بعدها إلى التفكك إلى شركات متخصصة أصغر حجماً.

د. عبد الله الردادي

لماذا غيرت «فيسبوك» هويتها؟

تتباين أسباب تغيير الشركات هوياتها وأسماءها بحسب حالة الشركة، وعادة ما تغير الشركات هويتها عند اندماجها مع شركة أخرى، وذلك لكي لا تغلب هوية شركة على أخرى. ويحدث هذا التغيير كذلك مزامنة مع تغير التوجه الاستراتيجي أو الطموحات المستقبلية للشركات. ويغيّر بعض الشركات هويته سعياً لفصل أسماء منتجاتها عن الهوية العامة للشركة، خصوصاً عندما تتعدد منتجاتها، ذلك أن المنتجات تخاطب المستهلكين، بينما تخاطب الشركة المستثمرين والشركات والمشرّعين والسياسيين. وعندما غيرت «غوغل» هويتها لتصبح «ألفابت» في عام 2015، جمعت بين السببين الأخيرين، فهي أرادت أن تخرج بهويتها عن قالب محرّك البحث، لا سيما مع امتلاكها خدمات أخرى شهيرة مثل «يوتيوب» والخدمات السحابية… وغيرهما.
وعندما غيرت «فيسبوك» هويتها الأسبوع الماضي لتصبح «ميتا»، أضيفَ إلى هذه الأسباب سبب رآه العديد من النقّاد السبب الرئيسي، وهو تجنّب اسم «فيسبوك» الذي أصبح مسموماً بعدما ارتبط خلال السنوات الأخيرة بفضائح عديدة؛ منها «فضيحة كامبريدج أنالاتيكا» عام 2018، التي اتهمت بجمع بيانات شخصية لمستخدمي «فيسبوك» واستخدامها لأغراض سياسية، وكان آخرها وأكبرها منذ تأسيس الشركة قبل 17 عاماً تسرّبُ آلاف المستندات التي أظهرت أن الشركة حريصة على الربحية أكثر من حرصها على سلامة المستخدمين.
إلا إن مارك زوكربيرغ؛ مالك ومؤسس الشركة، صرّح بأن الشركة خططت لتغيير هويتها منذ 6 أشهر على الأقل؛ أي قبل هذه الفضيحة، وأن الهدف منه هو تحوّل طموحات الشركة ورغبتها في الخروج من قالب موقع «فيسبوك»، لا سيما أن الشركة تملك عدداً من التطبيقات الأخرى مثل «إنستغرام» و«واتساب»، إضافة إلى امتلاكها شركات فرعية أخرى. وهو، فيما يبدو، يشبّهُ هذا التغيير بما فعلته «غوغل» قبل 5 أعوام، ولكن هذا التشبيه لا يبدو دقيقاً على كل حال، فـ«غوغل» كانت في موقف قوة حين غيّرت هويتها، بينما لا يمكن مطلقاً وصف «فيسبوك» أو «ميتا» بأنها في موقف قوة حالياً.
إلا إن تغيير الهوية إلى «ميتا»، وبحسب التوجهات الاستراتيجية المعلنة من الشركة، يبدو في غاية المنطقية. فـ«ميتا»، بعد هذا التغيير، أصبحت تنقسم إلى قسمين، يشكّل القسم الأول منهما الأنشطة الحالية للشركة مثل «فيسبوك» و«إنستغرام» وغيرهما، بينما سوف يركّز القسم الثاني والجديد على ما يسمى «ميتافيرس»؛ وهو مفهوم يجدر بالمهتمين بالتقنية الاطلاع عليه وبشكل مكثف لما يشكله من أهمية في مستقبل التقنية. واستقت الشركة اسمها الجديد من هذا المفهوم الذي يعرّف بأنه الواقع الممتد الذي يمزج بين الواقعين الافتراضي والمعزز، والذي يمكّن المستخدمين من التفاعل في بيئة افتراضية. وتمتد أغراض هذا التفاعل من التواصل الاجتماعي إلى الألعاب وحتى العمل. أي إن زوكربيرغ من خلال مفهوم الـ«ميتافيرس» يريد خلق عالم افتراضي متكامل يمكّن المستخدمين من قضاء «حياتهم الرقمية» فيه بكل تفاصيلها من الترفيه حتى العمل.
ويراهن زوكربيرغ من خلال «ميتا» على تقنيات الـ«ميتافيرس»، وصرح بعد تغيير الهوية بأن العالم بحلول نهاية هذا العقد أو حتى بمنتصفه سوف يتحوّل إلى أجهزة الواقع المعزز مبتعداً عن الكومبيوترات الشخصية. ويرى المحللون أن إحدى كبرى نقاط ضعف «فيسبوك» سابقاً هو عدم نجاحها في صناعة الهواتف الذكية، مما أعطى منافسيها من الشركات التقنية مثل «غوغل» و«أبل» ميزات تنافسية عليها. ولذلك؛ فإن تركيز الملياردير الأميركي لا ينصب على جانب البرمجيات من الـ«ميتافيرس» فحسب؛ بل يصل إلى صناعة أجهزة الواقع الممتد ليتمكن من السيطرة على عالم الـ«ميتافيرس» بجانبي البرمجيات والأجهزة. وقد أعلنت الشركة عن نيتها مضاعفة قواها العاملة بتوظيف نحو 10 آلاف مهندس واستثمارها 10 مليارات دولار خلال عام 2022 لهذا الغرض.
إلا إن الطريق أمام «ميتا» ليست بهذه السهولة، فالصعوبات التقنية عديدة أمامها للوصول إلى هذا المستوى المتقدم من التقنية، وقد حاول العديد من الشركات استثمار تقنيات الواقع الافتراضي، إلا إن الطلب من المستخدمين كان غالباً يتركز على جانب الألعاب من هذه التقنية، ولم تستخدم بشكل جدّي في عالم الأعمال إلا بشكل محدود.
وما قد يؤثر في خطة زوكربيرغ هو إرث «فيسبوك» السيئ، والذي ارتبط خلال سنوات باستغلال معلومات المستخدمين وعدم مراقبة محتوى شبكات التواصل. وفيما لم تكن التشريعات لشبكات التواصل الاجتماعي قوية عند تأسيس «فيسبوك» قبل أكثر من عقد، فهي الآن أكثر تركيزاً وإدراكاً لأبعاد وتأثير هذه الشبكات، ولن يتساهل المشرعون مع تقنيات جديدة تعطي زوكربيرغ قوة إضافية في العوالم الافتراضية. ولذلك؛ فإن التحدي الحقيقي الذي تواجهه «ميتا» هو كسب ثقة العالم ووضع الضمانات لعدم تكرار قصة «فيسبوك». وحتى ذلك الحين؛ يجب على زوكربيرغ إصلاح شركته من الداخل، فتغيير الهوية لن يمحو المشكلات التي تعاني منها شركته.

د. عبد الله الردادي

نجاح غلاسكو مرهون بالوفاء بتعهدات باريس

أكتب هذه الكلمات وصدى الخطب في قمة غلاسكو للمناخ يدوّي في جنبات القاعة التي أتابع منها عن بعد أعمال القمة التي تعقد في إطار الأمم المتحدة مع جمع من عموم الناس وبعض الخبراء المختصين وممثلي المؤسسات المالية. منذ بدأت سلسلة هذه القمم التي ترعاها الأمم المتحدة منذ عام 1995، شهد بعضها زخماً حقق أثراً، وعانى بعضها من تكرار للتعهدات والمناشدات بلا فعل يذكر، كما تعرضت إحداها وهي قمة كوبنهاغن في عام 2009 لفشل مدوٍ استغرق المجتمع الدولي بعدها سنوات ليحشد قواه ويشحذ الهمم مستعيناً بالعلم وبعض المال. وتظل قمة باريس في عام 2015 وما ترتب عليها من اتفاق دولي ملزم لأطرافه هي المرجع لجهود مكافحة تغيرات المناخ التي تلتها.
وليس من قبيل المبالغة أو التبسيط المخل أن يكون معيار الحكم على قمة غلاسكو بالنجاح أو الفشل متعلقاً بوفائها بوعود باريس المتضمنة في اتفاقها وتعهداته. فلا يحتاج العالم لتعهدات جديدة بل بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه من دون إبطاء. وها هي التقارير العلمية تؤكد أن العالم ليس على المسار السليم نحو هدف الإبقاء على ارتفاع درجة حرارة الأرض بما لا يزيد على درجة ونصف الدرجة مئوية عن مستواها قبل الثورة الصناعية، وهو الهدف الذي اتفق عليه العلماء حماية للأرض ومن عليها وما عليها أيضاً. فرغم تعهدات باريس، تستمر الانبعاثات الضارة بالبيئة ارتفاعاً بما يفوق الحدود القصوى المسموح بها، وتتراجع أحجام التمويل المتاحة عن الحدود الدنيا التي التزمت الدول المتقدمة بها مساندة للدول النامية.
وقد عبرت كلمات لممثلي الجزر الصغيرة وسكان السواحل وأهالي تجمعات الصيادين وقرى صغيرة للمزارعين، وقاطني تخوم الغابات عن مآسٍ لفقدان الحياة أو أسباب المعيشة. فمن لم يطلع على التقارير العلمية عن تدهور أحوال المناخ والتنوع البيولوجي وزيادة التلوث البيئي ليس عليه أن ينصت لروايات الصراع اليومي مع عواقب ما وصلت إليه حياة هؤلاء البشر، بما جنته أيدي بشر آخرين بإطلاقهم مزيداً من الانبعاثات الضارة بالمناخ. وعندما علق أنتونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة على النتائج المرتقبة للقمة في ظل هذه الأوضاع المتدهورة، قال إن الفشل ليس خياراً مطروحاً على هذه القمة، بل هو قرار بالإعدام! وهناك أربع قضايا محددة سيتوقف عليها نجاح هذه القمة أو فشلها:
أولاً، وضع الدليل العملي لتنفيذ اتفاق باريس. أؤكد أنه لا حاجة بنا للاستماع إلى تعهدات جديدة حماية للمناخ، فأي تعهد جديد هو فاقد لمصداقيته منذ لحظة الإعلان عنه في عالم يعاني من فوائض في الوعود وعجز في التطبيق، فقد سبقت الكلمات الرنانة الانبعاثات الضارة إلى عنان السماء وغابت الأفعال إلا قليلاً مما هو مأمول. وسيقضي المفاوضون في غلاسكو أياماً طويلة لمحاولة الوصول إلى دليل للقواعد العملية لتفعيل مواد اتفاق باريس، بما في ذلك المادة 6 الخلافية المتعلقة بالتفاصيل الفنية بناء آليات سوق منضبطة وعادلة وكفؤة للكربون، بما في ذلك تجنب ازدواجية الحسابات، مع أهمية مراجعة المساهمات المحددة وطنياً بتخفيض الانبعاثات الضارة. وقد شدد علماء المناخ وخبراء التنمية على أهمية عدم الاكتفاء بالأهداف الصفرية بعيدة المدى نحو تحقيق الحياد الكربوني في عام 2050 أو 2060، بل يجب أن تحدث المراجعات بشكل سنوي على مستوى كل دولة بما يحقق خفض الانبعاثات بما لا يقل عن 45 في المائة بحلول عام 2030.
ولما كانت دول مجموعة العشرين تمثل 80 في المائة من الاقتصاد العالمي، وهي أيضاً مسؤولة مجتمعة عن 80 في المائة من الانبعاثات الضارة، فإن عليها عبئاً أكبر في تحمل المسؤولية.
ثانياً، الوفاء بتعهدات التمويل. تعهدت الدول المتقدمة في عام 2009 بإتاحة 100 مليار دولار لمساندة الدول النامية في تنفيذ برامجها لمكافحة تغيرات المناخ من خلال إجراءات التخفيف للانبعاثات الضارة؛ مثل اللجوء للطاقة المتجددة في توليد الكهرباء ووسائل النقل منخفضة الاستخدام للكربون وزيادة كفاءة إنتاج واستخدام الطاقة. وكذلك مساعدة هذه الدول في التكيف مع آثار تغيرات المناخ وإضرارها بالمجتمعات والقطاعات الحيوية والاقتصادية مثل تطوير المجاري المائية والمصارف الصحية وإدارة القطاع الزراعي والحفاظ على الشواطئ والغابات والمصائد وتنمية البيئة السكنية وحمايتها من التلوث. وهذه التعهدات التمويلية يجب ألا ينظر إليها من باب الهبات والعطايا، ولكن من باب العدالة في قواعد التعويض عن الضرر الذي لحق بالدول النامية وهي الأقل تلويثاً سواء بالمعيار الجاري أو التراكمي. فالدول الصناعية القديمة والجديدة هي المسؤولة عن النسبة الكبرى من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفضاء المحيط. وتشير أرقام مشروع الكربون العالمي إلى أنه منذ 1750 تحتل الولايات المتحدة النصيب الأول تراكمياً بنسبة 25 في المائة ويتلوها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين بنسبة 22 في المائة، ثم الصين بنسبة 12.7 في المائة، ثم الهند 3 في المائة، ونصيب كل الدول الأفريقية مجتمعة لا يتجاوز 3 في المائة، وفقاً لدراسة أعدها الباحث سينان أولجن صدرت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وهناك مشكلة تتعلق بكيفية حساب المائة مليار الموعودة تلك فيما يتعلق بما يجب تضمينه من تدفقات مالية مقبلة من الدول المتقدمة، فهي خليط من أنواع من التمويل تتراوح بين منح وإعانات وقروض ميسرة عامة وخاصة، وتعتمد بالأساس على تقارير تعدها الجهات المانحة. كما تفتقد لتقييم الأثر على تغيرات المناخ، وقد أشار كذلك معهد تنمية ما وراء البحار بالمملكة المتحدة إلى غياب بيانات التقييم النوعي لهذا التمويل، وفقاً لاعتبارات الشفافية والحوكمة والقدرة على توقع التدفقات.
وفي حين تشير تقارير منظمة التعاون والاقتصادي والتنمية إلى أن التمويل الفعلي قد اقترب من 80 في المائة من التعهدات في عام 2019، وهو ما أكده أيضاً التقرير الصادر منذ أيام عن وزيري البيئة في ألمانيا وكندا بتكليف من رئاسة قمة غلاسكو، فإن تقارير أوكسفام تشير إلى فروق شديدة بين ما تعده الدول المانحة تمويلاً عاماً لتغيرات المناخ، وما يمكن اعتباره تمويلاً صافياً يستهدف مكافحة تغير المناخ في الدول النامية، وأنه لم يتجاوز 22 مليار دولار في الفترة من 2017 حتى 2018، وليس 60 ملياراً تقريباً، كما تشير تقارير الجهات المانحة.
وتجدر الإشارة إلى انحياز التمويل إلى إجراءات التخفيف، إذ لم يتجاوز التمويل الموجه للتكيف وتخفيف الأضرار بالمجتمعات 21 في المائة من إجمالي التمويل المرصود. وقد دفع هذا التباين لمطالبة الدول النامية لتحقيق التساوي بين نوعي التمويل لتتحصل مجالات التمويل والاستثمار في التكيف مع آثار تغيرات المناخ على نصيب عادل. وهذا يتطلب إعداداً للمشروعات للاستفادة من هذا التمويل.
ثالثاً، الاستثمارات الجديدة والتعاون العلمي والتكنولوجي. يظل رقم المائة مليار المطلوب توجيهها سنوياً للدول النامية، حتى إذا تم الوفاء به كاملاً، غير كافٍ لمتطلبات تمويل تغيرات المناخ سواء بالنسبة للتخفيف من الانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثار التغير أو إدارة التحول المنضبط نحو الحياد الكربوني. وقد ترددت أرقام تجاوزت مضاعفات هذا الرقم لتحقيق أهداف تغيرات المناخ في الدول النامية. وقد أشار مارك كارني محافظ بنك إنجلترا المركزي الأسبق في مقال نشرته صحيفة «الفايننشيال تايمز» الأسبوع الماضي، إلى أن العالم في حاجة إلى تعبئة 100 تريليون دولار على مدار 30 سنة لتحقيق أهداف التحول نحو الحياد الكربوني من خلال نظم الطاقة المستدامة وحدها. يبدو هذا الرقم كبيراً بمتوسط سنوي يتجاوز 3 تريليونات دولار سنوياً في شكل تمويل خارجي، ولكنه يعتمد على آليات للمشاركة بين التمويل العام والخاص والدعم الفني المساند، بتمويل متاح في أصول تحت إدارة المؤسسات المالية تجاوزت 250 تريليون دولار، وفقاً لمؤسسة «بي سي جي» للاستشارات.
في كل الأحوال تحتاج الدول النامية لاستثمارات ضخمة وليست قروضاً ميسرة أو تجارية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما في ذلك هدف مواجهة تغيرات المناخ كهدف مهم وحيوي من أهدافها، ولكنه ليس الهدف الوحيد. فالدول النامية بحاجة إلى الاستثمار في البشر تعليماً ورعاية صحية، وفي البنية الأساسية والتكنولوجية جنباً إلى جنب مع الاستثمار في أبعاد الاستدامة البيئية ومواجهة تغيرات المناخ. وهذا ينبغي أن يبدأ بضبط لأولويات الإنفاق العام وإعداد موازنات الدولة لتتوافق مع متطلبات تحقيق أهداف التنمية.
رابعاً، في خضم مشاورات المفاوضين في غلاسكو هناك حاجة ماسة إلى ضبط معايير التقييم سواء لتعهدات تخفيض الانبعاثات الضارة وأهداف الحياد الكربوني أو طرق حساب تمويل الاستدامة. فهناك ازدياد في انتشار ما يعرف بظاهرة الغسل الأخضر، بادعاء حكومات وشركات ومؤسسات تمويل بتوافق مزعوم بقواعد الاستدامة والاعتبارات البيئية والحوكمة والإسهام في تحسين الآثار الاجتماعية لأنشطة وصفقات تجارية واقتصادية. وهذا يستلزم الاتفاق على معايير وقواعد منضبطة يتم تعميمها والالتزام بها عند النشر والإفصاح.
ما نتابعه في قمة غلاسكو ومشاوراتها قد يكون بداية لتطبيق تعهدات كثر الحديث عن ضرورتها لإنقاذ البشرية والحياة على الأرض، وكل ما نحتاجه هو الوفاء بهذه التعهدات فحسب. وفي ظل أجواء يكتنف العالم فيها عجز في الثقة وتوتر بين أقطابه، فإن تنفيذها أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلاً.

د. محمود محيي الدين

أرجوك لا تقل إنه «ركود تضخمي»!

مع متابعة التطورات الاقتصادية العالمية الأخيرة، وصدور التقارير السنوية للمؤسسات الدولية بشأنها، وما يدور من نقاش محتدم عن المسار الذي يأخذه الاقتصاد، تكررت الإشارة إلى ما يسمى بالركود التضخمي.
ظهر هذا المصطلح لأول مرة على لسان السياسي البريطاني المفوّه إيان ماكلاود في عام 1965 عندما كان وزير خزانة الظل لحزب المحافظين المعارض وقتها، وكان ذلك في معرض وصفه لتردي الأوضاع الاقتصادية بقوله: «نعيش اليوم في أسوأ الأوضاع فنحن لا نعاني من حالة تضخم في الأسعار فقط أو حالة ركود فحسب، ولكننا نعاني من تزامن الحالتين معاً بما يمكن اعتباره نوعاً من أنواع الركود التضخمي».
نلاحظ أن ماكلاود، رغم انتمائه للمعارضة، لم يستعمل مصطلح الكساد بدلاً من الركود. ربما يرجع هذا إلى عدم رغبته كرجل دولة في استدعاء مرحلة اقتصادية بائسة سابقة على الحرب العالمية الثانية، وكانت مع معاهدة فرساي سيئة الصياغة وشديدة الانحياز، من مسببات هذه الحرب المدمرة. ومواجهة الركود التضخمي تكتنفها صعوبات معقدة، إذ قد تسبب إجراءات مواجهة مكون الركود في اشتعال التضخم، كما قد يؤدي التعامل مع مكون التضخم إلى استفحال الركود. ولما كان التعامل مع الركود التضخمي بهذه الصعوبة، لم أستغرب ردّ فعل أحد المسؤولين في دولة متقدمة اقتصادياً أثناء اجتماع لمناقشة تقرير عن تطورات الاقتصاد العالمي، كان فيه تفنيد لإشارات محتملة لركود تضخمي بمقولته التي جعلتها عنواناً لهذا المقال، برجائه للحاضرين عدم ذكر مصطلح «الركود التضخمي» وتفضيله وصف الوضع الراهن باختناقات في الأسواق مع ارتفاعات مؤقتة في الأسعار، في محاولة لترشيد التوقعات.
وقبل انتشار هذا المصطلح كان التحليل الاقتصادي يتَّجه إلى تعارض ظاهرتي تضخم الأسعار والركود المصاحب ببطالة وعدم تزامنهما، فإما أن ينخفض التضخم على حساب معدل بطالة أكثر ارتفاعاً أو العكس.
وفي أوقات الرواج الاقتصادي، كالذي شهدته اقتصادات الدول المتقدمة منذ الثمانينات حتى الأزمة المالية العالمية في عام 2008، اتضح أنه يمكن للنمو الاقتصادي الاستمرار بفضل ارتفاع في الإنتاجية مع انخفاض مطرد في معدلات البطالة والتضخم وتحجيم للتقلبات الاقتصادية. وفسّر الاقتصادي بن بيرنانكي، الذي رأس البنك الفيدرالي الأميركي، ما حدث في هذه الفترة التي يطلق عليها فترة «الاعتدال الكبير» بـ3 أسباب، تمثلت في تغيرات هيكلية إيجابية في الاقتصاد، وتحسن في السياسات الاقتصادية المتبعة، وحسن الحظ! ولكن لم يمر من الزمن أكثر من 4 سنوات حتى واجه الاقتصاد العالمي أكبر أزمة مالية؛ والتي لا يمكن إرجاعها بحال إلى سوء الحظ وحده. فلقد أظهرت الدراسات التي أجريت عن مسببات الأزمة، فضلاً عن تقارير التحقيقات البرلمانية، إلى سوء في الرقابة وتلاعب وتدليس وفشل في الأسواق المالية في القيام بدورها المفترض.
مثلما شهد العالم هذه الحالة من الاعتدال الكبير الذي انخفضت عنده معدلات البطالة ووصلت تغيرات الأسعار السنوية إلى أدناها، فقد شهد أيضاً فترة عصيبة للركود التضخمي في عقد السبعينات من القرن الماضي بارتفاع متوسط معدلات التضخم للأسعار لما يزيد على 7.5 في المائة بسبب زيادة أسعار النفط مع زيادة في معدلات البطالة بما لا يقل عن 6 في المائة، وهذه معدلات شديدة الارتفاع بمعايير أداء الاقتصادات المتقدمة.
وكان لهذه الأزمة، وكذلك ما تم اتخاذه حيالها من إجراءات، تداعيات شديدة الوطأة على اقتصادات الدول النامية التي كانت قد توسعت في الاقتراض الخارجي ثم جاءتها ارتفاعات أسعار الفائدة العالمية بغتة، بما أحدث اضطراباً في أسعار الصرف وتقلبات في التدفقات المالية وعجزاً عن سداد الديون. وقد ترتب على ذلك اتباع إجراءات وسياسات اضطرت دول نامية لاتباعها للخروج من أزمة الديون على النحو الذي شهدته نهايات ما يعرف بالموجة العالمية الأولى للديون.
وقد شهدت الشهور الماضية ارتفاعات متوالية في معدلات زيادة أسعار لسلع متنوعة ومدخلات إنتاج، مثل القطن والأخشاب وأشباه الموصلات، والملابس الجاهزة. ويشير مقال صدر هذا الشهر لفرانسيسكا كاسيلس وبراتشي ميشرا إلى قفزات في أسعار الغذاء بنحو 40 في المائة أثناء انتشار وباء كورونا، بما سبب ضغوطاً على الدول منخفضة الدخل، التي يشكل استهلاك الطعام نسبة كبيرة من الإنفاق العائلي فيها. ومع استمرار ارتفاع أسعار الغذاء، طالبت أنجوزي أوكونجو أيويلا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية بالتزام الدول بقواعد التجارة الدولية عموماً، وبتجارة السلع الغذائية خصوصاً، وكذلك التخلي عن الإجراءات المشوهة لتيسير حركة التجارة الدولية في السلع الزراعية والغذائية.
ورصدت مجلة الإكونوميست البريطانية في موضوع الغلاف لعددين متتاليين ظاهرة شحّ المنتجات في الأسواق وما يعتريها من ارتباك لعدم ملاحقة سلاسل الإمداد لزيادة في طلب المنتجين والمستهلكين بعد الجائحة، وكذلك ارتفاع سلة أسعار النفط والفحم والغاز الطبيعي بمقدار 95 في المائة منذ مايو (أيار) الماضي. من السهل إلقاء اللوم فيما يحدث على الجائحة وما سبّبته من مربكات في خطوط الإنتاج ولوجيستيات النقل، لكن لا يمكن تجاهل ما كان متبعاً قبل الجائحة واستمر بعدها من إجراءات حمائية معوقة لحركة التجارة رفعت من الأسعار وخفضت المعروض من السلع. كما أن الإجراءات المرتجلة المتعجلة بضغوط ومزايدات سياسية شوّهت سياسات إدارة التحول نحو تخفيض الانبعاثات الكربونية. فما زالت الاستثمارات في الطاقة الجديدة والمتجددة أقل من مستواها المطلوب بما لا يقل عن النصف، كما تعاني سياسات التخارج من قطاعات الطاقة التقليدية من سوء إدارة لتخارج منضبط للوصول إلى الأهداف الصفرية للانبعاث الكربونية مع حلول عام 2050 أو 2060. وفقاً لتعهدات الدول في اتفاقية باريس للمناخ.
وأحدث هذا الارتباك المتزامن مع تخوف من الإجراءات الرقابية والقانونية انخفاضاً في الاستثمار في الوقود الأحفوري، الذي ما زال المصدر الرئيسي لما يزيد على 80 في المائة من احتياجات الطاقة الأولية بمقدار 40 في المائة منذ عام 2015، وفقاً لمجلة الإكونوميست. ومع تعقد المخاطر الجيوسياسية وارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، وفي الوقت الذي تستعد فيه مدينة غلاسكو لاستضافة قمة المناخ ومفاوضاتها، اضطرت دول أوروبية إلى إعادة تشغيل محطات طاقة كهربية تدار بالفحم بعد سنوات من إغلاقها وتعهدات بعدم العودة إليها.
لم تكن في تصاعد الضغوط التضخمية أو زيادة احتمالات ارتفاع الركود مفاجآت تذكر. فقد نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» الغراء مقالاً لكاتب هذه السطور في شهر مارس (آذار) من هذا العام عن تزايد إرهاصات عودة التضخم، أشرت فيه إلى أنه مع تخفيف القيود التي فرضت مع الجائحة سترتفع أسعار السلع والخدمات بسبب ضعف قدرة العرض على ملاحقة الطلب بعد فترة من الإغلاق الكلي والجزئي. وأشرت فيه إلى أنه على الدول الواقعة في تصنيف الوسط التحوط المبكر من أثر تغيرات مباغتة في أسعار الفائدة العالمية، تستهدف الأوراق المالية قصيرة الأجل لاحتواء توقعات التضخم، وما قد يصحب ذلك من تغيرات في أسعار الصرف وارتفاعات في التكلفة الفعلية للديون، خاصة إذا ما خُفضت تصنيفاتها الائتمانية.
وكنت قد أشرت في مقال سابق، نشر في شهر فبراير (شباط) من العام الماضي، عن هواجس الركود واحتمال دخول بعض الدول النامية في فترة قد تطول من انخفاض معدلات النمو عن المتوسط العالمي، وأن ما ذكر حينئذ عن تعافٍ سريع يأخذ مساراً في شكل حرفV أو U يرتبط بالقدرة على زيادة الإنفاق العام والتمكن من الاقتراض منخفض التكلفة، وهو ما لا يتيسر لأغلب الدول النامية.
وفي كل الأحوال، من الممكن التعامل السريع مع هواجس الركود أو إرهاصات للتضخم. ورغم صعوبة هذا، عبّر عنها الاقتصادي ماركوس برونماير، في كتابه الصادر مؤخراً عن المجتمع المرن ذي القدرة السريعة على التعامل مع الأزمات. وهو يُشبّه صانع القرار في زمن الأزمة كمن يقود دراجة هوائية تسير في ممر أعلى هُوّتين على جانبيه، يقودها بحذر، فلا يسقط يميناً حيث هوة الركود، أو يساراً حيث ينتظره فخ التضخم، ولكل من التضخم والركود أدواته المالية والنقدية وإجراءاته الهيكلية في التعامل معه. ولما كنا ما زلنا بعيدين عن هوة الركود التضخمي، وما نجده اليوم ما هو إلا إشارات مبكرة محذرة منه، فما زالت هناك فرص سانحة للتوقي منه. ولا يكون ذلك بتجاهله، أو بافتراضات سخية عن قدرات السوق لتصحيح نفسها، أو عن ميل سلوك الأشخاص لضبط توقعاتهم تلقائياً بما يبعد بهم عن الأذى. فما نعتبره اليوم مؤقتاً في ارتفاع الأسعار قد يطول مداه ما لم تتخذ في مواجهته الإجراءات النقدية المناسبة، وما نفترض أنه من العوارض المؤقتة في سلاسل الإمداد المسببة لنقص السلع والمنتجات قد يتحول إلى مشكلات هيكلية مزمنة، ما لم يتم توجيه الاستثمار في زيادة القدرات الإنتاجية وتطوير البنى الأساسية. فالوقاية المبكرة خير من العلاج المتأخر. إذ يظل كل هذا يسير التكلفة مقارنة بتكاليف علاج الركود التضخمي، الذي لن يتلاشى بمجرد تجنب ذكر اسمه إذا كان موجوداً بالفعل.

د. محمود محيي الدين

لحظة تحوّل فارقة للشرق الأوسط… تحديات وفرص لمستقبل أفضل

يستمر اقتصاد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالتعافي التدريجي في ظل تحقيق العديد من البلدان تقدماً ملحوظاً هذا العام بعد أزمة صحية واقتصادية استثنائية. ويتوقع صندوق النقد الدولي نموا للمنطقة بنسبة 4.1 في المائة في العامين الحالي والمقبل. ويشكل ذلك انتعاشاً ملموساً بالمقارنة مع الانكماش غير المسبوق في الناتج المحلي خلال العام الماضي. فهل هذا التحسن في الآفاق الاقتصادية كافٍ لوضع المنطقة على مسار التعافي المستدام والاحتوائي وحمايتها من أي صدمات جديدة؟
يتسم التعافي حالياً بالتباين بين مسارات الدول، في ظل معاناة البعض منها من موجات متكررة من تفشي الجائحة وظهور تحديات اقتصادية واجتماعية مستجدة، مثل ارتفاع معدلات التضخم وتزايد أوجه عدم المساواة، وفي حين تستمر المخاوف بشأن الندوب الاقتصادية. لذا؛ سيكون على الكثير من بلدان المنطقة مواجهة مفاضلات صعبة على صعيد القرارات الاقتصادية؛ نظراً لانحسار هامش الحركة في السياسات والاتساع المستمر في الفوارق الاجتماعية.
وبالنظر إلى المستقبل، يبقى الهدف المركزي جعل هذا التعافي لحظة تحول فارقة بالنسبة للمنطقة من خلال بناء اقتصاد أكثر تقدماً وصلابة واحتواءً لجميع فئات المجتمع.
ومن المتوقع أن ترتفع نسبة التضخم في بلدان المنطقة إلى 13 في المائة في عام 2021، بالتوازي مع ارتفاع الأسعار عالمياً، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية والطاقة. وتشكل أسعار الأغذية الآخذة في الارتفاع مصدر قلق بالغ للمنطقة لجهة تأثيرها السلبي على الفقراء والشرائح الأكثر ضعفاً بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى المخاوف التي تثيرها بشأن الأمن الغذائي. مما قد يتسبب في نشوء مخاطر قلاقل اجتماعية، لا سيما في البلدان منخفضة الدخل والدول الهشة. وعلى الرغم من أن ارتفاع التضخم يُتوقع أن يكون عابراً، فإن ذلك ليس بالأمر المضمون. ومن شأن ذلك أن يزيد من التحديات أمام البلدان التي تعاني من عجوزات مرتفعة في ماليتها العامة ومستويات عالية من الديون. وبوجه أشمل، باتت آفاق استقرار الدين أشد صعوبة في العديد من البلدان؛ مما رفع من مخاطر تعرضها لتداعيات تشنج الأوضاع المالية العالمية بصورة مفاجئة.
أما على الصعيد الاجتماعي، لا تزال معدلات التوظيف ضعيفة، وأوجه عدم المساواة إلى ازدياد بين فئات المجتمع. فقد ارتفع معدل البطالة في المنطقة إلى 11.6 في المائة في العام الماضي – وهي نسبة تفوق بكثير تلك التي كانت سائدة أثناء الأزمات السابقة. كما أن الشباب والنساء والعمال المهاجرين هم الأكثر تضرراً، وكذلك العاملون في القطاعات غير الرسمية الذين فقدوا وظائفهم، خلافاً لما كان يجري خلال الأزمات السابقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المؤسسات الصغيرة متأخرة عن الركب، حيث نحو 15 في المائة إلى 25 في المائة من الشركات يواجه احتمال إعادة الهيكلة أو التصفية.
وينبغي أن يتسم المسار المستقبلي لبلدان المنطقة بالموائمة ما بين اجتياز تحديات المدى القصير والعمل على تحويل الأزمة كقاعدة انطلاق، لتحقيق تعافٍ تحويلي واسع ومستدام.
ولا يزال يشكل التطعيم الأولوية الأكثر إلحاحاً لحماية حياة المواطنين، وهو يساهم أيضاً في تحفيز النمو، والحد من أوجه عدم المساواة. ومن الضروري توثيق التعاون الإقليمي والدولي في نشر اللقاحات، لضمان ألا يتأخر أحد عن الركب.
وستساعد إدارة حكيمة للسياسات الاقتصادية على التعامل بدقة مع المفاضلات الصعبة. فالتضخم المتصاعد يستدعي المتابعة الوثيقة، وقد تظهر الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة من منطلق وقائي في حال ارتفاع توقعات التضخم. كما سيتعين المواءمة بين الدعم المقدم من خلال السياسات المالية والنقدية على المدى القصير، وبين الجهود المبذولة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ويكتسب تعزيز أطر السياسات أهمية بالغة في إنجاح تلك الخيارات والحفاظ على مستوى الدين في حدود مستدامة.
على صعيد آخر، ثمة حاجة إلى اتخاذ خطوات جريئة لمعالجة أوجه عدم المساواة، وخلق فرص عمل، وتخفيف المخاطر الاجتماعية. كما أن هناك فرصة مهمة لتحويل اهتمامات المنطقة باتجاه دعم قطاعات الصحة والتعليم، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لبناء منظومة اجتماعية عادلة. ومن شأن تحسين فرص التدريب وتقديم حوافز للتوظيف أن يساعدا العمالة في الانتقال إلى قطاعات أكثر إنتاجية، ودعم فرص العمل للشباب ومشاركة أكبر للنساء في النشاط الاقتصادي والتنافسية. ويمكن أن تُستكمل هذه الجهود بتدابير لتقليص حجم القطاع غير الرسمي ودعم التوظيف في القطاع الخاص. وفي مسار موازٍ، من الأهمية بمكان إجراء إعادة تقييم شاملة لنشاطات المؤسسات المملوكة للدولة ونظم حوكمتها، إلى جانب إجراء إصلاح تنظيمي معزِّز للمنافسة؛ وذلك لتقليص أعبائها على المالية العامة وتشجيع النشاط الاقتصادي.
وعن كيفية الاستفادة من الفرص لتحقيق تعافٍ تحويلي نقول إنَّ أزمة الجائحة ساهمت في تسريع مسارات التحول في الاقتصاد العالمي وتشكل الاستفادة من المسارات الجديدة، كالاستثمار في التكنولوجيات الرقمية والقطاعات الصديقة المناخ والبيئة، عَصَب أي استراتيجية موجهة نحو بناء المستقبل. وقد لعبت التكنولوجية والتحول الرقمي دوراً إيجابياً أثناء الأزمة، وسيكون لنشاطهما أهمية بالغة في المستقبل وفي زيادة دعم شبكات الأمان الاجتماعي، واستحداث قطاعات جديدة تشكل رافداً للنمو، وضمان لتنافسية المنطقة عالمياً.
ويحتل تكثيف الجهود الرامية للتكيف مع تغير المناخ أهمية قصوى لبلدان المنطقة بالنظر إلى ارتفاع وتيرة الكوارث المناخية والتكاليف المرتبطة بها، وهي مرشحة لمزيد من الارتفاع في العقود القادمة. ومن شأن الاستثمارات جيدة الاستهداف أن تساعد على خلق وظائف جديدة مستدامة للأجيال القادمة، بالإضافة إلى بناء اقتصاد يتسم بالديناميكية والتنافسية.
وبالطبع، لا يتعيَّن على البلدان أن تتحمَّل هذه التحديات الجسام وحدها. فعلى سبيل المثال، قدم صندوق النقد الدولي، إلى جانب المساعدة الفنية والمشورة بشأن السياسات، دعماً تمويلياً جديداً للمنطقة بقيمة 16.6 مليار دولار منذ بداية الجائحة، وخصص لها وحدات من حقوق السحب الخاصة بقيمة 42 مليار دولار.
إنَّ عدم التحرك الاستراتيجي والسريع سيكبد المنطقة أعباء كبيرة، وسوف يحرم الأجيال القادمة من فرصة تاريخية للنهوض والازدهار. أما بالعمل معاً، يمكن أن تصبح هذه الأزمة، ذات الحجم التاريخي، بمثابة نقطة تحول نحو بناء مستقبل اقتصادي واعد وأفضل للجميع.

د. جهاد أزعور

* مدير دائرة الشرق الوسط وآسيا الوسطى