أرشيف التصنيف: المقالات العامة

ما بعد وصول النفط لثمانين دولاراً

كل شيء يحدث بسرعة هذه الأيام، وهناك كثير من القطع المتناثرة في كل مكان، والتي تحتاج إلى أن نضعها في قالب واحد حتى نفهم ماذا يحدث من حولنا، وإلى أين نسير هذا العام مع أسعار النفط؟
ولنفهم ما قد يحدث في الأشهر الستة القادمة. فلقد اجتمع وزراء الطاقة والنفط ضمن تحالف دول منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) وكبار المنتجين خارجها، التحالف المعروف باسم (أوبك+) يوم الأول من يونيو (حزيران)، وفي اجتماع قصير جداً (لم يتجاوز 25 دقيقة تقريباً) توصلوا إلى مواصلة زيادة الإنتاج التدريجي في يوليو (تموز)، والاجتماع كل شهر لمراجعة تطورات السوق، على أن يكون الاجتماع القادم في الأول من يوليو لتحديد ماذا سيفعلون بعد ذلك.
هذا الخبر كان مريحاً للسوق نوعاً ما ولكن ليس للدرجة المطلوبة، فرغم أن التحالف استجاب للتحسن في الطلب وزاد من إنتاجه فإن المضاربين والمصافي يريدون وضوحاً أكثر حيال خطة التحالف لزيادة الإنتاج على مدى الأشهر الستة القادمة وليس فقط لشهر يوليو.
حقيقةً من الصعب على التحالف اتخاذ أي قرار أكثر من القرار الشهري، وشخصياً أتمنى أن يظل التحالف يعقد اجتماعات شهرية بصورة دائمة لأن هذا التحالف الذي تقوده السعودية وروسيا هو الجهة الوحيدة القادرة على إدارة سوق النفط (لم تكن الاجتماعات الشهرية ممكنة لولا تعوُّد الجميع على الاجتماعات الافتراضية عن بُعد والتي وفّرت على الكلّ مشقة السفر إلى فيينا بصورة شهرية وجعلت من الاجتماع أمراً سهلاً في أي وقت).
وتكمن الصعوبة في أن هناك مجاهيل في السوق على مدى الأشهر الستة المقبلة. نعم هناك تحسن في الطلب وهبوط في مخزونات النفط إلى مستويات قريبة جداً من متوسط السنوات الخمس الأخيرة 2015 – 2019، إلا أن هذا التحسن على أساس بيانات أولية للطلب وهبوط في المخزونات -التي تعد المعيار المتّبع لمعرفة حالة السوق- وإحدى الركائز التي على أساسها قام التحالف بالحد من زيادة المخزونات فوق متوسط السنوات الخمس بصورة كبيرة. وهناك مجهول آخر، وهي عودة إيران لتصدير نفطها خلال الأشهر الستة القادمة إذا ما توصلت إلى اتفاق نووي مع القوة الكبرى خلال الأيام القليلة المقبلة.
والذي يرى أسعار النفط اليوم وما وصلت إليه قد ينخدع بما سوف تكون عليه في الأشهر الستة القادمة، فنفط برنت وصل إلى 70 دولاراً للبرميل في العقود الآجلة، وأصبحت هناك تكهنات بأن يكون هذا السعر هو الأرضية وليس السقف للأسعار حتى نهاية 2021، بل إن هناك توقعات كثيرة بأن نرى النفط عند 80 دولاراً في الربع الرابع من العام الجاري، وما زالت مستمرة ولم تفقد مصداقيتها حتى الآن.
نعم هناك تحسن على الطلب وهناك تراجع في المعروض، وحتى لو عادت إيران إلى إنتاجها الكامل فإن هناك سيناريوهات كثيرة من بينها سيناريو ظهور فجوة بين العرض والطلب على نفط التحالف بنحو مليوني برميل يومياً، وإذا لم تتمكن إيران من زيادة الإنتاج ستصل هذه الفجوة إلى 4 ملايين برميل يومياً.
وليست «أوبك+» وحدها التي ترى تحسناً، بل حتى إن وكالة الطاقة الدولية تتوقع أن يعود مستوى الطلب على النفط عند مستويات ما قبل جائحة «كورونا» خلال عام، وطبعاً لا أحد لديه القدرة على زيادة الإنتاج حالياً سوى التحالف وبالأخص السعودية.
كل هذه الأسعار والتوقعات الوردية ليست مبرراً لأن يتخلى التحالف عن حذره وينجرف إلى زيادة الإنتاج بشكل أكبر، لكن من حق المصافي أن تخطط لمشترياتها خلال الأشهر الستة القادمة وإلا ذهبت لشراء النفط من السوق الفورية لتخزينه خوفاً من نقص المعروض.
إذاً الدول النفطية في وضع جيد هذا العام ومداخيلها سوف تعوّض خسائر العام الماضي عندما فقد السوق 9 ملايين برميل من الطلب اليومي ووصلت أسعار النفط إلى سعر بيع بالسالب (بخسارة 37 دولاراً يدفعها البائع للمستهلك ليأخذ النفط بدلاً من تكدسه في سابقة تاريخية).
أمام هذه الصورة الجميلة لعام 2021 يجب ألا ننسى التحديات التي يحملها. العالم تغير وسيتغير للأبد، ومهما عادت الحياة لطبيعتها قبل جائحة «كورونا»، فإن الحياة لن تعود كالسابق. ستظل الاجتماعات الافتراضية وبيئات العمل عن بُعد في النمو، وستظل التجارة الإلكترونية تنمو بعد تعود المستهلكين عليها.
وفي الوقت ذاته، هناك إدارة أميركية جديدة لديها سياسة لمواجهة التغير المناخي بمستهدفات عالية جداً، وأصبح سيناريو الوصول إلى انبعاثات كربونية صافية بحلول 2050 مطلباً على مستوى الحكومات انتقل الأسبوع الماضي إلى مجالس إدارة أكبر ثلاث شركات نفط مدرجة في أسواق الأسهم العالمية. وأصبحت وكالة الطاقة تطالب بعدم الاستثمار في النفط والغاز لدعم اتفاقية باريس.
في النهاية، لنترك الحديث عن المدى البعيد قليلاً، ولنعد إلى العام الجاري ولنستمتع بالأسعار الحالية… حتى حين.

وائل مهدي

مفاتيح اقتصاد ما بعد «كورونا» ومغالقه

لم تترك أزمة «كورونا» مؤشراً رئيسياً من مؤشرات الحياة والتنمية المستدامة إلا وعصفت به، فقد أُصيب بالوباء ما يزيد على 163 مليون إنسان، توفي منهم نحو 3.4 مليون. وتؤكد مجلة «الإكونوميست» البريطانية، وفقاً لنموذج إحصائي طورته باستخدام 121 مؤشراً لتغطية فجوات الأرقام غير المتاحة، أن حقيقة أرقام الوفيات تتجاوز ثلاثة أمثال هذا الرقم عالمياً، بما جعلها تضع هذا الرقم ليكون عنوان غلاف عددها الأخير بأن هناك 10 ملايين سبب لتلقيح سكان العالم.
وفي عالم تفقد فيه الأرقام معناها يصعب اتخاذ قرار لحماية عموم الناس وتتغلب الخرافة والشائعات على العلم والحقائق. وقطعاً للشك بيقين المشاهدة لأثر اللقاح، فما من سبيل إلا التوسع العاجل في إتاحة اللقاح.
وقد ضاع من العالم ستة أشهر حاسمة في جدل ومهاترات حول مدى ضرورة إعفاء اللقاح من قيود حقوق الملكية الفكرية التي تقدمت الهند وجنوب أفريقيا، مدعومتين بعشرات من الدول النامية، بطلب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لمنظمة التجارة العالمية لإعفاء مؤقت منها، وهو ما رفضته دول متقدمة قادتها الإدارة الأميركية السابقة. وقد تطلب تفهم هذا الطلب البديهي تغيراً في الرئاسة الأميركية وسقوطاً لعشرات الملايين من البشر بين قتيل بالفيروس ومريض به، حتى يتم الإعلان عن عدم الممانعة في منح الإعفاء المؤقت وفقاً لضوابط تسمح بإنتاج اللقاح وإتاحته في الدول النامية.
وفي حين ستصل دول متقدمة عدة للمناعة المطلوبة من الوباء بنسبة 70 في المائة من مواطنيها الملقحين في خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، فإن الدول النامية بمنأى عن تحقيق هذه النسبة قبل سنوات ممتدة، إذا ما استمرت وتيرة إتاحة اللقاحات على ما هي عليه من معدلات شديدة الانخفاض، مع تخوف بأن عملية التصويت على الإعفاء في منظمة التجارة العالمية قد لا يتم قبل شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. ولا بد من فتح سريع لهذه الأبواب التي أغلقتها نوازع الاحتكار وتعقد الإجراءات في البيروقراطيات الدولية والتذرع بحجج واهية عن نقص القدرات التكنولوجية في الدول النامية والحاجة إلى اتفاقيات ضامنة لنقل المعارف وطرق الإنتاج. وإلى أن يتحقق تطور في هذا المسار، ينبغي التدعيم الفوري لآلية الكوفاكس التي تشرف عليها منظمة الصحة العالمية بتوفير التمويل اللازم لتغطية عجز مواردها المانع من فاعليتها، ولا يقل أهمية عن المال القيام بإعادة توزيع فوري لفوائض اللقاحات التي تتجاوز في بعض البلدان المتقدمة 10 أمثال احتياجاتها الفعلية لمواطنيها.
إن هذه الإجراءات العاجلة لا تأتي تحت باب محبة الخير للغير فحسب، لمن يقدّر فضائلها الإنسانية، ولكنها تأتي أيضاً وفقاً لأولويات تحقيق المصلحة الشخصية وحماية النفس. فإذا تُرك الفيروس يستشري عاتياً في الدول الأفقر والأقل تقدماً يحذر العلماء وخبراء منظمة الصحة العالمية من زيادة في تحوره، بما يهدد المناعة المكتسبة من اللقاح المتعارف عليه. كما أن ارتباط اقتصادات الدول المتقدمة من خلال سلاسل الإمداد العالمية يحتم عليها ألا تتسبب في حجب اللقاح عن مصادر خاماتها وغذائها واحتياجاتها من السلع الأولية، والمصنعة وأسواق بيع منتجاتها بما يترتب على ذلك من عرقلة تعافيها الاقتصادي الذي تتطلع إليه، ويهدد نموها واستثماراتها وفرص العمل فيها، ويرفع أسعار المنتجات ومكوناتها بما يزيد من احتمالات التضخم.
فضلاً عما سبق، فلقد ضيعت أزمة «كورونا» في أقل من سنة واحدة ما تم إنجازه في أعوام. ألم تزد أرقام من يعانون من الفقر المدقع لأول مرة منذ عام 1998 بما يتجاوز 120 مليوناً؟ ألم ترتفع نسب التلاميذ الذين يعانون من فقر التعلم بمقدار 10 في المائة في خلال عام دراسي واحد؟ ألم تتضاعف فيه أرقام من يعانون من الجوع لتصل إلى 265 مليون إنسان؟ ألم تتفاقم بسببها البطالة ليعاني منها 255 مليون عامل فقدوا أسباب الرزق في سوق العمل الرسمية وأضعاف هذا العدد في القطاع غير الرسمي في الدول النامية؟ بهذا كثرت انسدادات قنوات الاقتصاد ونضبت بعض مصادره حتى انكمش، مُعانياً من ركود غير مسبوق منذ الكساد العظيم في القرن الماضي.
لن يتحرك الاقتصاد تلقائياً ليستمر في تحقيق معدل النمو المقدر عالمياً هذا العام ليصل إلى 6 في المائة، رغم تفاوت معروف بين الدول في تحقيقه؛ إذ تلزمه مفاتيح فاعلة لمحركاته ومغالق محكمة لمعوقاته، نلخصها فيما يأتي:
1 – منع تحول زيادة تراكم الديون السيادية وقروض الشركات والقطاع العائلي إلى أزمة عالمية، من خلال منح إعفاءات لديون الدول المتعثرة وإعادة هيكلتها ووضع بناء عالمي متوازن، لمعالجة مشكلات المديونية وإدارتها في إطار أسس تمويل التنمية المستدامة.
2 – التصدي للقيود المانعة من حرية التجارة والاستثمار، ومنع اتباع الإجراءات الحمائية غير المبررة التي أدخلت العالم في حروب تجارية قبل أزمة «كورونا» مع الاستعداد عملياً لانتقال مركز ثقل الجاذبية الاقتصادية شرقاً.
3 – التوافق المبكر مع متطلبات التحول الرقمي وتأثيراته على قطاعات الإنتاج والعمل والتعليم والصحة، فضلاً عن مستحدثاته المرتقبة في شكل عملات رقمية رسمية تصدرها الدول من خلال البنوك المركزية، وتحجيم التداعيات الضارة للأصول المالية المشفرة شديدة التقلب عالية المخاطرة.
4 – الاستعداد لتطوير سوق العمل ليتعافى مسترداً ما فقده من عشرات الملايين، من خلال بطالة سببتها الجائحة مع التوافق مع ضرورات الإغلاق الجزئي ونظم العمل الهجين.
5 – المتابعة الحصيفة لتطورات أسعار السلع الاستهلاكية، خاصة بعدما شهدت ارتفاعاً في اقتصادات متقدمة ذات تأثير عالمي؛ إذ ارتفع الرقم القياسي الأميركي لأسعار المستهلكين بمقدار 4.2 في المائة، بما يعد اختباراً لما يعرف «بمعادلة استجابة» البنك الفيدرالي وحدود مرونة سياسته النقدية وخاصة أسعار الفائدة، ومدى اعتباره هذه الزيادات عارضة أم مستمرة، وتأثير ذلك كله على توقعات التضخم التي قد تكون في ظروف عدم اليقين أكبر تأثيراً في سلوك المستهلكين والمستثمرين من اعتمادهم على الأسس الموضوعية لمسارات التضخم.
6 – تغليب منافع دور الدولة الاقتصادي المباشر في دفع آليات التعافي والخروج من الركود بلا مزاحمة للاستثمارات الخاصة أو تشوية لقواعد المنافسة، مع تحديد المجالات التي يزداد فيها مضاعف الاستثمار والتشغيل والقطاعات التي تتطلب استثمارات عامة طويلة الأجل، كالبحث والتطوير ومساندة القاعدة التكنولوجية والمنتجات الحيوية، مع تفعيل نظم المشاركة مع القطاع الخاص لتخفيض الاعتماد على القروض. هذا مع ضرورة تدبير موارد حقيقية لتمويل الاستثمارات العامة من خلال إصلاحات الموازنة العامة.
7 – مراجعة منظومة تمويل التنمية من خلال صياغة الموازنة العامة وأولوياتها لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتمحيص قواعد التعاون الدولي في مجالات الضرائب ومنع التهرب منها، وتطبيق القواعد المانعة من استمرار التدفقات المالية غير المشروعة التي تتجاوز قيمتها السنوية في بعض البلدان النامية ما تحصل عليه من مساعدات واستثمارات أجنبية مجتمعة.
إنَّ هذه المفاتيح والمغالق ما هي إلا أدوات وإجراءات تتشكل معاً محددة للسياسة الاقتصادية لتسهم في تحقيق التنمية. ولكي تصاغ بإحكام أمست تحتاج لنهج جديد في تطوير الأسس والأساليب التي تقوم عليها النماذج الاقتصادية التي تستخدمها المؤسسات المحلية والدولية في تحليل أداء الاقتصاد ووضع أولوياته وتوجيهه. وقد عانت هذه النماذج من وضعها في أسر آيديولوجيات جامدة وانحيازات تجاوز العالم قيودها بسرعة تغيره التي تضاعفت مع أزمة الجائحة. إن التعافي المأمول في الاقتصاد يستلزم أن يواكبه تعافٍ في علم الاقتصاد ونماذجه التي يعتمد عليها صانع القرار وتؤثر في عموم الناس، ولن يتحقق ذلك إلا بالاعتماد على البيانات والأدلة والحقائق وتحليلها علمياً والاستفادة من نتائجها بانتهاج «البراغماتية المبدئية» التي لا تحيد عن تحقيق أهداف التنمية مع مرونة في اختيار أنسب الوسائل الناجعة لذلك، والتي ستختلف بالضرورة مع اختلاف الزمان والمكان وطبيعة الاقتصاد السياسي السائد.

د. محمود محي الدين

مستجدات دور الدولة وضرائبها وعملتها.. الفوائد . التضخم..

استوجبت الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية المتزامنة تدخلاً غير مسبوق للدولة. اتخذ هذا التدخل حزماً من الإنفاق للعام لمواجهة هذه الأزمات والتعافي منها. وفي حين يتصف إنفاق المواجهة طبيعة مؤقتة تنتهي بنهاية الأزمة الصحية بالسيطرة على انتشار الوباء، إلا أن التعافي يتطلب استثماراً عاماً مستثمراً لتنشيط الأسواق وحفز القطاع الخاص. كما تمتد استثمارات التعافي لمساندة قطاعات التعليم والرعاية الصحية، وتطوير البنية الأساسية والتكنولوجية على النحو الذي نراه الآن في الولايات المتحدة التي أنفقت 1.9 تريليون دولار وهي بصدد إنفاق 3 تريليونات أخرى في هذه المجالات بما يتجاوز 20 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام واحد. ويتجاوز الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي متوسط 10 في المائة من ناتجها وكذلك تفعل باقي الدول ذات القدرة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
استعانت هذه الدول في إنفاقها المالي بإمكانية تعبئتها لتمويل منخفض التكلفة بدعم من سياسات نقدية لبنوكها المركزية وجودة في تصنيفها الائتماني تجعل الأسواق المالية تمنحها ما تحتاج بتكاليف زهيدة. أما الدول النامية فلا تملك ترفاً مالياً أو سخاءً نقدياً فتجدها مقيدة في إنفاقها. وهي إن تجاوزت حدودها هددها التضخم المحلي ولوحت لها مؤسسة التصنيف الائتماني بعواقب الأمور وما يترتب عليها من تكاليف وأعباء في التمويل الخارجي. وبعد سنوات من التقارب الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية تجد إشارات واضحة للتباين والتفاوت لصالح الدول الأغنى التي ستشهد تعافياً أسرع من الجائحة ونمواً اقتصادياً أعلى دون أن تتعرض لأزمة مديونية؛ كتلك التي تحدق بأشباحها وتداعياتها على الدول النامية، خاصةً بعدما تسارعت معدلات نمو تراكم مديونياتها من قبل صدمة الجائحة فيما عرف بالموجة الرابعة للديون.
ستترك الأزمات الراهنة صناع القرار أمام تساؤلات هامة:
– ما هو شكل التعافي؟ فمن الأرجح أن يأخذ التعافي شكل حرف K، بما يعكس التفاوت بين الدول والقطاعات في معدلات نموها وبما يكرس عدم العدالة وينذر بتوترات اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاقتصادي.
– ما هو مستقبل العمل؟ لقد كان الحديث قبل الجائحة مشغولاً بآثار الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها على البطالة. وقد أثرت إجراءات الإغلاق الكلي والجزئي للنشاط الاقتصادي لتحجيم الوباء على سوق العمل فأضافت ما يربو على 250 مليون متعطل في السوق الرسمية وأضعاف هذا الرقم في السوق غير الرسمية. وهنا يأتي دور الاستثمارات العامة للدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي وكذلك دور سياسات الدولة في ضبط قواعد إعادة فتح المشروعات والقطاعات الاقتصادية للعمل، ومدى تفعيل نماذج التشغيل الهجين بالتفاعل الكفء بين نظم العمل التقليدية ومن خلال الوسائل الافتراضية وعبر شبكات الإنترنت.
– ما هي احتمالات عودة التضخم؟ فبعد عقدين من السيطرة على التضخم، هناك جدل محتدم حول الآثار التضخمية لحزم الإنفاق العام خاصةً في الولايات المتحدة، التي بلغ متوسط معدل التضخم فيها 1.2 في المائة في العام الماضي 2020، ولكن هذا المعدل في شهر مارس الماضي قد بلغ 2.6 في المائة. وهناك رأي يقوده لاري سمرز وزير الخزانة الأميركية الأسبق بأن حزم الإنفاق العام الأخيرة تتجاوز حجم المطلوب لتجسير الفجوات التي سببتها الجائحة وأن هذا الإنفاق سيكون تضخمياً. في حين يترقب بنك الاحتياطي الفيدرالي آثار هذا الإنفاق مفرقاً بين ما يمكن أن يكون تضخماً مؤقتاً انتقالياً أو ذا طبيعة متواصلة تستوجب التدخل. وإن كان الأمر يتطلب في كل الأحوال عدم إغفال عامل التوقعات التي تشكل سلوك المستهلكين والمدخرين والمستثمرين خاصةً في ظروف اللايقين التي تسود الأسواق.
– ما هي مسارات سعر الفائدة؟ رغم التراجع النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي فما زال الدولار يهيمن على أسواق الصرف ويشكل أكثر من 60 في المائة من احتياطي البنوك المركزية و85 في المائة من التداول في سوق العملات الدولية. ومن ثم فإن تغيرات أسعار الفائدة على الدولار ستستمر في تأثيراتها المعتادة على أسعار الفائدة للعملات الرئيسية وكذلك أسعار الصرف والتدفقات المالية خاصةً قصيرة الأجل.
وفي ظل تزايد دور الدولة يلزم حسن توجيه إنفاقها العام، فكلما كان هذا الإنفاق في «مهمة موجهة» وفقاً للاقتصادية الإيطالية – الأميركية ماريانا مازوكاتو أصبح الأثر تكافلياً ومسانداً لنمو اقتصادي أكثر شمولاً وأعلى في قيمته المضافة طويلة المدى. وقد يكون هذا الإنفاق مكثفاً للبحث والتطوير في مجالات الأبحاث الطبية والتكنولوجية أو في جهود السيطرة على الانبعاثات الضارة بالمناخ. أما إذا كان الإنفاق العام مزاحماً للقطاع الخاص مقيداً لحركة السوق مشوهاً للمنافسة فسيتجاوز ضرره نفعه، ولو بعد حين.
ويتطلب توسع الدولة في إنفاقها العام مراجعة لهيكل إيراداتها خاصةً من الضرائب. فنجد، على سبيل المثال، الإدارة الأميركية الجديدة وهي تتوسع في الإنفاق العام تراجع معدلات الضرائب على أرباح الشركات فتزيدها من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وتتخذ إجراءات لتفعيل تحصيل الضرائب، وتقترح حداً أدنى للضرائب على الشركات دولية النشاط لا يقل عن 21 في المائة عبر الحدود بما يستلزمه ذلك من اتفاقات وتنسيق دولي، كما تنظر في تغييرات في الضرائب على الأرباح الرأسمالية، بما قد يحقق في مجمله زيادة في الإيرادات الضريبية تغطي جانباً من الإنفاق المستجد وتسهم في إعادة توزيع الدخول.
من ناحية أخرى تجد تغييراً مهماً في شكل العملات لن تستقيم إدارة السياسة الاقتصادية إلا بإدراك تبعاتها على الاقتصاد والاستقرار النقدي. فقد تنامى الإقبال على الأصول المشفرة وفقاً لخوارزميات مركبة مثل البيتكوين، ولكن لا يمكن اعتبارها من العملات بحال فهي شديدة التقلب لا يمكن الاعتماد عليها كمخزن للقيمة أو وسيط مقبول ذي قوة إبراء واسع النطاق. ولكنها أتت حاملة مزايا تفهم تطور المجتمعات والتقدم في تطبيقات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات. كما أنها تستفيد من خصائص اللامركزية بين أطراف المعاملات دون وسيط أو تكلفة معاملات، بتأمين نظام «سلسلة الكتل» وقاعدة بياناته الموزعة دون تحكم من مركز واحد. وقد حاولت ابتكارات من نوع العملات المستقرة التي تستخدم تكنولوجيا الأصول المشفرة ولكنها تحاول الحفاظ على استقرارها وتحجيم تقلباتها بربطها بأصول حقيقية ذات قيمة مادية مثل النفط والذهب أو عملات دولية مثل الدولار واليورو، ومن أمثلة هذه العملات المستقرة «ليبرا» التي طورتها شركة فيسبوك مع شركاء لها وواجهت صعوبة في الحصول على الموافقات اللازمة وما زالت تحاول الحصول على الموافقات المطلوبة من خلال الشكل المعدل لها المعروف بوحدة «دايم» استناداً إلى قوة منصتها التي تضم 2.5 مليار مشترك حول العالم بدعوى تعزيز الشمول المالي. ويستلزم تفعيل العملات المستقرة موافقة صريحة من البنوك المركزية التي سترتبط بها هذه العملات وهو ما زال يواجه صعوبات.
المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو «العملات الرقمية للبنوك المركزية»، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية، ولكن الإجراءات القانونية والتطوير المؤسسي اللازم لتفعيل العملات الرقمية للبنوك المركزية يستغرق زمناً قدره البنك المركزي السويدي، المتقدم في هذا المجال، بخمس سنوات، هذا وإن قامت بالفعل البهاما بإصدارها الأول تحت مسمى «ساند دولار» ولكنه لاقتصاد صغير الحجم والتأثير. ووفقاً لمسح قام به بنك التسويات الدولية فهناك 60 في المائة من البنوك المركزية بصدد إصدار عملاتها الرقمية و14 في المائة منها في مرحلة الاختبارات التجريبية ويترقب المتعاملون ما قد يسفر عن إحراز اليوان الصيني سبقاً في هذا المضمار؛ وعندئذ ستتغير قواعد اللعبة في السوق النقدية الدولية وليس فقط في أدوار اللاعبين الرئيسيين.

د. محمود محي الدين

 

مستقبل القطاع المصرفي

هل تذكر آخر مرة زرت فيها فرع البنك؟ وكم مرة ذهبت إلى البنك لتنجز معاملاتك البنكية في آخر سنتين، مقارنة بالعشر سنوات التي سبقتها؟ هذه أسئلة تطرحها البنوك اليوم، لتعيد تقييم فروعها والحاجة إلى موظفي الفروع اليوم مقارنة بالماضي، فجل المعاملات البنكية اليوم تنجز عن طريق التطبيقات البنكية، والتي لم يكن لها وجود تقريبا قبل عشر سنوات، ولكنها اليوم تعد علامة فارقة بين البنوك في خدمة العملاء، فلم يعد البنك يحتاج إلى موظف لبق للتعامل مع العملاء، بل هو بحاجة إلى تطبيق شامل يسهل التعامل معه.
هذه التغيرات التي فرضتها التقنية على القطاع البنكي – كما فرضتها على غالبية القطاعات الأخرى – جعلت البنوك تعيد تقييم سياساتها في التوظيف، ورغم كون القطاع البنكي استفاد كثيرا من رقمنة العمليات خلال الثلاثة عقود الماضية، إلا أن أعداد الموظفين فيه استمرت في تزايد مع توسع البنوك في خدماتها. ولكن الأمر هذه المرة اختلف، فالتقنية أغنت البنوك عن الكثير من المهام التي كان يقوم بها موظفو الفروع، وما تزال هذه التقنية تزداد توسعا. في تقديم هذه الخدمات، حتى توقع قسم الإحصاء العمالي في الولايات المتحدة أن يقل عدد الموظفين في فروع البنوك في العقد القادم بنحو 15 في المائة. وتوقع تقرير آخر من صحيفة «الفايننشال تايمز» أن عدد الوظائف في القطاع البنكي الأميركي قد ينخفض 200 ألف وظيفة خلال العشر سنوات القادمة، أي ما نسبته 10 في المائة من القوى العاملة في هذا القطاع.
وقد يكون استبدال أعمال الموظفين بالتقنية أحد أسباب هذا الانخفاض، ولكنه ليس السبب الرئيس، فالسبب الرئيس هو التنافس الذي يشهده القطاع البنكي اليوم. فعلى مدى سنين طوال، كان التنافس في القطاع البنكي بين البنوك أنفسها، وكانت كل دولة تحتوي على عدد قليل من البنوك الضخمة يستولي على الحصة الأكبر من القطاع المصرفي، تاركا حصة صغيرة لعدد كبير من البنوك الصغيرة لتتنافس عليه. ولكن المنافسة اليوم اختلفت، فالبنوك اليوم تتنافس مع شركات جاءت من خارج هذا القطاع، وهي الشركات التقنية.
فمع زيادة التعاملات الرقمية، دخلت الشركات التقنية مجال المنافسة في العمليات البنكية بشكل شرس، وأصبحت لشركات مثل (باي بال) و(أبل) و(أمازون) وغيرها حصة لا يستهان بها في هذا القطاع. وسيطرة هذه الشركات على القطاع التقني يعطيها أفضلية كبرى في زيادة حصتها السوقية في القطاع المصرفي، فعلى سبيل المثال، استخدمت شركة (أبل) نفوذها من خلال أجهزة (الآيفون) للتسويق لخدمة (أبل باي)، وقد أطلقت أبل هذه الخدمة في نهاية 2014، أي قبل أقل من 7 سنوات، ولديها اليوم أكثر من 500 مليون مستخدم، وما زال لديها فرصة لزيادة هذا العدد بل ولمضاعفته، لا سيما أن أكثر من نصف مالكي أجهزة الآيفون لم يستخدموا هذه الخدمة بعد!
والبنوك كذلك تتعرض للمنافسة في قطاع التمويل، فبعد أن كان القطاع هو الممول الأكبر للاستثمارات، أصبح اليوم لا يشكل إلا ثلث القطاع التمويلي، والمنافسون في ذلك كثر، فزيادة على الشركات التقنية التي قد تمول العمليات الشرائية عبر تطبيقاتها، دخلت صناديق الاستثمار الجريئة للمنافسة بقوة، كما أصبح مفهوم الاقتصاد التشاركي أكثر تقبلا عند المستثمرين بعمليات التمويل الجماعي التي سمحت للأفراد بتمويل المشاريع بشكل مباشر بدلا من وجود البنوك كوسيط فيها.
إن القطاع البنكي يتعرض للتغير بفعل متغيرات الزمن والنهضة التقنية، إلا أن البنوك لا يمكن أن تنتهي بفعل التقنية كما هو الأمر مع الصحف الورقية أو مع سيارات الأجرة، فوجود البنوك جوهري في الاقتصاد الحديث، وهي الرابط بين الدولة والاقتصاد، إلا أن التقنية فرضت وجودها على القطاع البنكي بشكله الحالي وسببت في تغييره، فالقطاع البنكي اليوم يختلف تماما عن مثيله قبل عشر سنوات، وسوف يختلف بكل تأكيد عن شكله بعد عشر أخرى، والحكومات قد تضطر إلى إنشاء بنوك مركزية رقمية تكون موازية للبنوك المركزية الحالية للتعامل مع العمليات الرقمية وتقنينها، وهو ما قد يشكل ضررا كبيرا على القطاع البنكي، لا سيما مع زيادة التوجه نحو العمليات الرقمية والتي ساعدت الجائحة في ازدهارها. وعلى البنوك أن تسابق الزمن والشركات التقنية لفرض سيطرتها على القطاع المصرفي قبل أن يختطف هذا القطاع منها كما هو الحال مع قطاع التجزئة الذي تهاوت شركاته العملاقة خلال السنوات القليلة الماضية.

أزمة الرقائق الإلكترونية

ما زال وباء «كورونا» يلقي بظلاله على الأسواق العالمية، ولكن هذه المرة على الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، تلك القطع التي لا يمكن الاستغناء عنها في صناعات كثيرة وجوهرية مثل السيارات والهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية؛ ابتداء من محمّصات الخبز حتى غسالات الملابس. وتعاني هذه الصناعات من النقص الحالي في كميات الشرائح الإلكترونية، مما أربك عملياتها الصناعية وأثر حتى على توقعات أرباحها.
وتأثر عرض الرقائق الإلكترونية بثلاثة أسباب: أولها اختلال ميزان الطلب أثناء وباء «كورونا»، حيث توقفت مصانع السيارات عن العمل أثناء وباء «كورونا»، بينما نشطت الصناعات التقنية، مثل الأجهزة الذكية والكومبيوترات وأجهزة الألعاب بسبب زيادة الطلب عليها أثناء إجراءات الحجر الاحترازية. إلا إن الطلب عاد مرة أخرى لمصانع السيارات وبشكل أسرع من المتوقع، وهو ما لم تأخذه مصانع الرقائق الإلكترونية في الحسبان. وسبق لشركة «سامسونغ»؛ وهي من كبرى 3 شركات في تصنيع الرقائق الإلكترونية، التحذير من هذا النقص قبل نحو شهرين. كما أن هذه الصناعة تأثرت وبشكل كبير بالعقوبات الأميركية على الشركات الصينية، والتي أثرت على سلاسل الإمداد للرقائق الإلكترونية؛ مما أضعف قدراتها الإنتاجية. أما السبب الثالث فهو احتكار هذه الصناعة ضمن عدد قليل من المصانع، حيث تشكل شركات «سامسونغ» الكورية، و«إنتل» الأميركية، و«تي إس إم سي» التايوانية، النصيب الأكبر من هذه الصناعة، وعندما تأثرت هذه الشركات الثلاث تأثرت سوق الرقائق الإلكترونية بالكامل، ويتضح تأثير هذه الشركات الثلاث من معرفة أن 80 في المائة من مصانع السيارات تستورد الرقائق الإلكترونية من الشركة التايوانية «تي إس إم سي».
يذكر أن السيارة الواحدة في المتوسط تحتوي على ما بين 50 و150 من هذه الرقائق.
وبناء على هذا النقص الحاصل، فقد تتأثر مبيعات وأرباح كثير من الشركات في هذا العام، فعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أن إنتاج «فورد» للسيارات سوف يقل بنحو 1.1 مليون سيارة، مما قد يعني انخفاض أرباح الشركة بنحو 2.5 مليار دولار. كما أن مصنع «بي إم دبليو» للسيارات في بريطانيا توقف عن العمل لمدة 3 أيام بسبب هذا النقص. أما شركة «فولكس فاغن» الألمانية؛ فقد أعلنت أنها قد توقف بعض خطوط الإنتاج في المكسيك الشهر المقبل. وفي الهواتف الذكية، يُتوقع أن تنخفض مبيعات شركة «أبل» في الربع الثاني من 3 إلى 4 مليارات دولار بسبب تأثر الإنتاج في الأجهزة اللوحية والكومبيوترات.
أما بالنسبة للأفراد، فقد يكون هذا التأثر على نوعين: النوع الأول هم المستهلكون، الذين قد ترتفع عليهم تكلفة السيارات والأجهزة بسبب ارتفاع تكلفة الرقائق الإلكترونية، وبسبب نقص الإنتاج والعرض في السوق، ويتوقع أن تزيد أسعار بعض السيارات في هذه السنة مقارنة بالعام الماضي بنسبة 8.4 في المائة، وفي المتوسط قد تزيد أسعار السيارات والأجهزة بنسبة 5 في المائة. والنوع الثاني هم المستثمرون، فانخفاض الأرباح قد يؤثر بشكل واضح على أسعار الأسهم، لا سيما أن الأسواق العالمية شهدت ارتفاعاً عاماً خلال الأشهر القليلة الماضية بدعم من التفاؤل بتجاوز الوباء.
ويبدو الأمر المهم الآن هو كيفية إيجاد حل لهذا النقص في الأسواق، فالرقائق الإلكترونية ليست باهظة الثمن، وليست معقدة التصنيع، إلا إنه لا يمكن الاستغناء عنها في كثير من الصناعات، ومع ذلك؛ فإن استثمار الشركات فيها لا يتناسب مع العرض الحالي في الأسواق، ولذلك فقد أعلنت شركة «إنتل» أنها مستعدة لاستثمار ملياري دولار لبناء مصانع للرقائق الإلكترونية في الولايات المتحدة، مستندة إلى قرار الحكومة الأميركية الذي يدعم هذه الصناعات من ناحية حوافز البحث والتطوير وكذلك الحوافز الصناعية. كما أعلنت كذلك شركة «تي إس إم سي» أنها سوف تستثمر أكثر من 100 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة المقبلة في تطوير مصانعها وزيادة إنتاجيتها.
لقد كشّف الوباء جوانب قصور كثيرة في الأنظمة العالمية، وبعد أن اتضحت جوانب القصور في القطاعات الصحية، تتضح الآن آثار الوباء على سلاسل الإمداد العالمية، والتي لطالما حذر الخبراء منها، فمصنع السيارات في الولايات المتحدة يعتمد على رقائق إلكترونية من كوريا وتايلاند، وحينما اختل ميزان العرض والطلب لمدة قصيرة، اختلت معه الأسواق لفترة قد لا تكون قصيرة، وقد تمتد حتى ما بعد هذا العام إلى العام المقبل. وهو يوضح أن العالم، رغم تقدمه، ما زال ضعيفاً في كثير من جوانبه، والدليل أن صناعة جوهرية واستراتيجية مثل الرقائق الإلكترونية، تعتمد بشكل أساسي على 3 شركات فقط!

تقلص عدد سكان الصين يؤكد التوقعات المناخية

لا يزال يتعين على العالم أن يدرك التحول التكتوني (تحول تدريجي في قشرة الكرة الأرضية) الذي سيحدث عندما يبدأ عدد سكان الصين في التقلص. صحيح أن هذا الأمر الذي طال انتظاره لم يحدث في عام 2020، وفقاً للبيانات الرسمية، لكن من المحتمل أن يحدث قريباً. من المنظور المناخي، يعد انخفاض عدد السكان خبراً ساراً لأن قلة أعداد الناس تعني انخفاض الانبعاثات. وكما هو الحال مع العديد من حالات عدم اليقين المحيطة بمستقبل الكوكب، من الصعب توقع بدقة تأثير الكربون جراء انخفاض عدد السكان.
يشيخ سكان الصين بسرعة والسبب هو سياسة الطفل الواحد، لكنّ صانعي السياسة هناك يأملون في أن يؤدي إنهاء سياسة الطفل الواحد في عام 2016 إلى تشجيع المزيد من الولادات. ومع ذلك، لم يرتفع معدل المواليد في البلاد ولا يزال أقل بكثير من المستوى المطلوب لزيادة عدد السكان – ربما لأن قاعدة الطفل الواحد استمرت لفترة طويلة بات من الصعب تغيير النمط السكاني بعدها، ولأن الدخل في البلاد آخذ في الارتفاع. وقد يكون الوباء الذي تفشى خلال عام 2020 قد أدى أيضاً إلى انخفاض معدلات الخصوبة.
وستؤدي معدلات الخصوبة المنخفضة حتماً إلى انخفاض تعداد سكان الصين. ففي عام 2017، توقع مجلس الدولة الصيني أن يبلغ عدد سكان البلاد ذروته في عام 2030، وفي العام الماضي، أصدرت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية دراسة توقعت أن الانخفاض سيبدأ في عام 2027. وتشير التقارير الإخبارية التي يُفترض أنها تستند إلى بيانات التعداد الصيني، إلى أن عدد السكان قد بدأ بالفعل في الانخفاض في عام 2020. لكن الحكومة الصينية أكدت خطأ هذه التقارير، حيث تظهر البيانات الرسمية زيادة طفيفة للغاية، من 1.40 مليار في عام 2019 إلى 1.41 مليار العام الماضي. لكن من الواضح لمعظم المراقبين أن عدد السكان الصينيين سيبدأ في التقلص قريباً، إن لم يكن قد بدأ بالفعل.
يكتسب هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة لقضية المناخ، لأن الصين هي أكثر دول العالم اكتظاظاً بالسكان، والمزيد من الناس يعني المزيد من الانبعاثات وزيادة عدد السكان المعرضين لخطر تغير المناخ. وبحسب ما ورد في ورقة بحثية حديثة نشرتها مجلة «وقائع أكاديمية العلوم الوطنية الأميركية»، فإن «حجم السكان، على المدى القريب والبعيد، هو المحدد الرئيسي لسياسة المناخ: فعدد السكان الكبير يتبعه المزيد من الانبعاثات وبالتالي هناك حاجة إلى المزيد من التخفيف لتحقيق هدف مناخي معين، وهذا يعني أيضاً أن المزيد من الأشخاص في المستقبل سيكونون عرضة للتأثيرات المتعلقة بالمناخ».
إلى أي مدى نستطيع الجزم بصحة هذه الصلة؟ إن تأثير السكان على انبعاثات الكربون بلا أي سياسة أو تغييرات تكنولوجية ليس ثابتاً تماماً لجميع الأشخاص، وذلك نظراً لبعض التفاصيل المهمة؛ منها الفئة العمرية وأنماط الاستهلاك. لكن بصفة عامة، فإن تراجع عدد الناس يعني تراجع الانبعاثات نسبياً. ضع في اعتبارك مقارنات «المسارات الاجتماعية والاقتصادية المشتركة»، وهي تقديرات تُستخدم دولياً لتقييم السكان في المستقبل كما يلي: يُظهر «مسار 1» المنخفض عدد سكان العالم 8.5 مليار بحلول عام 2050، في حين أن توقعات خط الأساس «مسار 2» لتلك السنة هي 9.2 مليار، بفارق نحو 8 في المائة. وبالمثل، من المتوقع أن تنخفض انبعاثات مكافئ الكربون بنسبة 5 في المائة إلى 10 في المائة تقريباً في عام 2050، بحسب سيناريو «مسار 1» مقارنة بخط الأساس «مسار 2».
من الجدير بالملاحظة أن تأثيرات الخيارات السكانية غالباً ما يتم تقييمها على أنها أكبر من الناحية المادية من التغييرات الأخرى المنطقية التي يمكن إجراؤها للتخفيف من تغير المناخ. وتجدر الإشارة إلى ثلاثة محاذير لهذا الجانب المشرق: أولاً، تفترض التوقعات المناخية بالفعل أن عدد سكان الصين سيتقلص؛ القصد هنا هو أن التراجع يبدو أنه يحدث بسرعة أكبر مما أشارت إليه معظم التوقعات الرسمية.
يعتمد تأثير التغير السكاني البطيء أو الأسرع على اتخاذ إجراءات أخرى لحماية المناخ. ضع في اعتبارك، على سبيل المثال، سيناريو يعتمد فيه بلد ما حدوداً ملزمة للانبعاثات، ويتطلب تصريحاً قابلاً للتداول لكل وحدة من وحدات الانبعاثات. قد يمارس المزيد من الأشخاص في هذا البلد ضغطاً تصاعدياً على سعر التصاريح، لكن لن يؤثر ذلك على المستوى الإجمالي للانبعاثات، لأن ذلك سيظل مقيداً بالحدود القصوى.
وتُظهر الأمثلة الأقل تطرفاً ظاهرة مشابهة؛ إذ تتفاعل التأثيرات السكانية وتخفيف المناخ مع بعضها البعض، ما يجعل تقييم تأثير السكان وحده أكثر صعوبة. ومع ذلك، في معظم السيناريوهات، تقلص أعداد الناس يعني انبعاثات أقل.
أخيراً، ستكون هناك حاجة إلى ابتكارات تكنولوجية ضخمة لتغيير مسار الانبعاثات المناخية. ففي ظل التقنيات الحالية، وما لم نكن مستعدين لدفع أقساط بيئية عالية بشكل غير معقول في بعض الأحيان لتقليل الانبعاثات، فإن العديد من الأنشطة اليومية – ليس فقط السفر الجوي ولكن أيضاً إنتاج الصلب وشحن الحاويات – ستستمر في إخراج انبعاثات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري. وبالتالي سيكون الابتكار ضرورياً لمستقبل مناخي أفضل. لكن مع وجود عدد أقل من الناس، كما أكدت مجلة «الإيكونوميست» وغيرها، قد يكون لدينا أفكار جيدة أقل حول كيفية الابتكار. لذا فإن قلة الناس ليست بالضرورة النعمة المناخية الواضحة التي يجري طرحها غالباً.
قد تتطلب منا معالجة تغير المناخ الخوض في موضوعات محرجة محتملة، بما في ذلك الطاقة النووية والهندسة الجيولوجية. ورغم أن تأثير التركيبة السكانية قد لا يكون على رأس جدول أعمال مؤتمر غلاسكو للمناخ في وقت لاحق من العام الجاري، فإن الحقيقة القاسية هي أن الانخفاض السكاني الوشيك في الصين وفي وقت أقرب من المتوقع سيحمل لا ريب بين طياته فوائد مناخية.

 

الانفراج بين أزمة جيدة وأزمة تعيسة

مع توالي الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية تتردَّد على مسامعك مقولة متكررة منسوبة لحكمة من الصين تعني في لغتها «أن الأزمة نعمة ونقمة في آن واحد»، فتتعجب، ما بال أقوام لا يصيبهم من الأزمات إلا نقماتها، وأين تذهب هذه النعم؟ وقد تتذكر أن حكم وأمثال الأزمات ليست قاصرة على أهل الشرق؛ فمن المنسوب لونستون تشرشل الزعيم البريطاني، الذي لم تخل مسيرة حياته السياسية من أزمات وكوارث، وانتصارات أيضاً، أنه قال «إياك أن تضيع أزمة جيدة». وأصول الحكمة التشرشلية، شائعة الاستخدام في يومنا هذا، ترجع لأستاذ مدرسة انتهاز الفرص، السياسي الإيطالي الأشهر نيكولو ميكافيلي صاحب كتاب «الأمير» الصادر في عام 1532، حيث أوضح ما قد تجود به الأزمات الجيدة من فرص. وتجد عموم الناس أمام الأزمات في قلق وارتياب، وترى الساسة وصناع القرار حيال الأزمات بين منكر ومؤكد، ومستسلم ومصارع، ومدمر ومنقذ.
في أواخر الثمانينات من العقد الماضي تابعت حديثاً طريفاً كان طرفاه أستاذين من جيل الرواد الأكاديميين في الاقتصاد والعلوم السياسية، الأول هو أستاذ التخطيط الدكتور عبد الفتاح قنديل، والآخر هو الدكتور إبراهيم صقر، أستاذ العلاقات الدولية. وكان الاستماع إليهما، رحمهما الله، ممتعاً ومفيداً. وكان محور حوارهما هو طبعة جديدة من كتاب شهير صدر في أواخر الأربعينات للكاتب والروائي الأميركي تشارلز هاريسون تحت عنوان «شكراً لله لإصابتي بأزمة قلبية». وطفقا يعددان الدروس والخبرات التي جاءت في الكتاب التي كان ينشد بها الكاتب إعلام قرائه بنظام حياة أكثر انضباطاً في مراعاة الإرشادات الصحية والغذائية، وبدا لي من سياق الحديث أن أحد الأستاذين قد بدأ يشكو من علة بالقلب وأن الأزمة نذير وتوجيه لبداية طريق جديدة. ثم انتقل الحديث من الخاص إلى العام، بحكم تخصصهما، عن ضرورة الانتفاع المبكر من شرور الأزمات في صياغة السياسات العامة في إطار أن «رُبَّ ضارة نافعة». وتمر السنوات منذئذ بأزماتها الضارة والنافعة لا يفرق بين نتائجها إلا القدرة المبكرة على التعامل مع الأزمات بحسم وفاعلية.
ولم نعدم خلال العامين الماضيين من أزمات شتى سببتها جائحة كورونا وتوابعها الاقتصادية والا%D

المخالب الشيوعية للصين

استدعت الحكومة الصينية 34 شركة تقنية مالكة لمتاجر إلكترونية الأسبوع الماضي، وحذرت الحكومة الصينية هذه الشركات من اتباع الأساليب الاحتكارية، معطية إياها مهلة شهراً لتعديل أنظمتها دون عواقب قانونية. ويبدو هذا الأمر في مظهره طبيعياً، فكثير من دول العالم اليوم تحارب الاحتكار بشكل عام، واحتكار الشركات التقنية على وجه التحديد، وهو الأمر الحاصل في الولايات المتحدة ضد شركتي «فيسبوك» و«أمازون»… لكن ما الذي جعل الوضع في الصين مختلفاً؟
في بداية هذا الشهر، أعلنت الصين عن غرامة على موقع «علي بابا» بلغت 2.8 مليار دولار، وهو مبلغ تاريخي بلا شك، كانت الغرامة عقوبة على الممارسات الاحتكارية للموقع الإلكتروني الذي تشكل مبيعاته 10 في المائة من مجموع مبيعات قطاع التجزئة في الصين. واتهمت شركة «علي بابا» بإجبارها البائعين على حصر مبيعاتهم في موقعها، وذلك إما بإعطاء الحوافز المالية، أو بالعقوبات بالحرمان من استخدام منصتها الإلكترونية. ومنذ أن أعلنت التحقيقات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وحتى تاريخ إعلان الغرامة، هبطت أسهم «علي بابا» بأكثر من 13 في المائة. وبعد إعلان الغرامة التاريخية، ارتفعت أسهم الشركة 6.5 في المائة! ارتفعت ولم تنخفض، وهو دليل ارتياح السوق لهذه الغرامة وانتهاء التحقيقات، ودليل أيضاً على مخاوف السوق من أن الحكومة الصينية كان يمكنها فعل المزيد بالشركة. والأهم من ذلك كله، هو أن رد فعل السوق كان ارتياحاً لتجاوز الحكومة الصينية العداء الواضح بينها وبين «جاك ما»؛ مالك ومؤسس الشركة، أو على الأقل أن الحكومة الصينية لن تصب غضبها على «جاك ما» بعقاب شركة «علي بابا».
«جاك ما» لم يظهر بشكل علني منذ أن انتقد الحكومة الصينية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي؛ أي قبل بدء التحقيقات، ومنذ ذلك الوقت فقد أوقفت الحكومة الصينية الاكتتاب ذا الـ37 مليار دولار لـ«مجموعة آنت» المملوكة للملياردير الصيني، والتي ظهرت الشكوك حينها أنه رد فعل انتقامي للحكومة الصينية على تصريحات «جاك ما». إلا إن الحكومة الصينية استمرت في التحقيقات وإعادة صياغة القوانين المنظمة للشركات التقنية المالية، وهو ما جعل إيقاف الاكتتاب يبدو أمراً طبيعياً حتى صدور التنظيميات الجديدة، باستثناء أن الإيقاف جاء في اللحظات الأخيرة قبل الاكتتاب.
كل هذه الإجراءات الصينية قد تحمل محملاً طبيعياً كأي دولة تعيد صياغة أنظمة السوق؛ بما فيه حفظ للجميع، ولكن ما خلف ذلك، هو خوف تخفيه الحكومة الصينية من التأثير والنفوذ المتزايد للشركات التقنية الصينية. وليكن المثال «جاك ما»، الذي حاولت الحكومة الصينية تحجيمه بشكل كبير في الأشهر الأخيرة. وترى الحكومة الصينية جاك يحاول التأثير على الرأي العام والمجتمع الصيني من خلال إقراضه مجموعات إعلامية تخدم أجندته، وطالبه الحزب الحاكم (بحسب «وول ستريت جورنال» الأميركية) ببيع جميع شركاته الإعلامية. وحين ترك الملياردير الصيني منصبه الرسمي في «علي بابا» عام 2019، كان هدفه الرئيسي هو التعليم؛ ولذلك فقد ركز على جامعته «هوبان» التي أنشأها في عام 2015، وهي من أصعب الجامعات التي يمكن الحصول على قبول فيها، حتى شُبهت بجامعة «هارفارد»؛ فلكي يقبل الطالب في هذه الجامعة، يجب أن يسبق له تأسيس شركته الخاصة، التي لا يقل عدد موظفيها عن 30 موظفاً، وأن يكون دافعاً لضرائب الشركات لثلاث سنوات على الأقل محققاً عوائد تصل إلى نصف مليون دولار. هذه الجامعة بدت كأنها هي ما يريد «جاك ما» العمل عليه بقية حياته، فماذا فعلت الحكومة الصينية تجاهها؟ منعت القبول فيها للطلاب الجدد ابتداء من العام المقبل، وذلك لكيلا يستطيع جاك التأثير على الجيل المقبل من روّاد الأعمال.
إن الإجراءات الحكومية الصينية ضد شركات التقنية في آخر 6 أشهر، لا يمكن النظر إليها على أنها إجراءات بريئة بشكل مطلق. فمن الواضح أن الحكومة لا تريد أن تنسى هذه الشركات أن الصين دولة شيوعية، وأن هذه الشركات، أو هؤلاء الأثرياء، مهما كبرت ثرواتهم، أو زاد نفوذهم، أو توسعت قاعدة عملائهم، يجب أن يعرفوا أنه «لا صوت يعلو صوت الحكومة»، وأن الكلمة الأخيرة لها. واستدعاء 34 رئيساً تنفيذياً دفعة واحدة، فيه رسالة لهذه الشركات، مفادها بأن «السعيد من اتعظ بغيره»، ولا يوجد أحد من هؤلاء الرؤساء تزيد ثروته أو نفوذه على «جاك ما»، ومع ذلك فقد حدث له ما حدث.

د. عبد الله الردادي

مستجدات دور الدولة وضرائبها وعملتها

استوجبت الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية المتزامنة تدخلاً غير مسبوق للدولة. اتخذ هذا التدخل حزماً من الإنفاق للعام لمواجهة هذه الأزمات والتعافي منها. وفي حين يتصف إنفاق المواجهة طبيعة مؤقتة تنتهي بنهاية الأزمة الصحية بالسيطرة على انتشار الوباء، إلا أن التعافي يتطلب استثماراً عاماً مستثمراً لتنشيط الأسواق وحفز القطاع الخاص. كما تمتد استثمارات التعافي لمساندة قطاعات التعليم والرعاية الصحية، وتطوير البنية الأساسية والتكنولوجية على النحو الذي نراه الآن في الولايات المتحدة التي أنفقت 1.9 تريليون دولار وهي بصدد إنفاق 3 تريليونات أخرى في هذه المجالات بما يتجاوز 20 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام واحد. ويتجاوز الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي متوسط 10 في المائة من ناتجها وكذلك تفعل باقي الدول ذات القدرة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
استعانت هذه الدول في إنفاقها المالي بإمكانية تعبئتها لتمويل منخفض التكلفة بدعم من سياسات نقدية لبنوكها المركزية وجودة في تصنيفها الائتماني تجعل الأسواق المالية تمنحها ما تحتاج بتكاليف زهيدة. أما الدول النامية فلا تملك ترفاً مالياً أو سخاءً نقدياً فتجدها مقيدة في إنفاقها. وهي إن تجاوزت حدودها هددها التضخم المحلي ولوحت لها مؤسسة التصنيف الائتماني بعواقب الأمور وما يترتب عليها من تكاليف وأعباء في التمويل الخارجي. وبعد سنوات من التقارب الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية تجد إشارات واضحة للتباين والتفاوت لصالح الدول الأغنى التي ستشهد تعافياً أسرع من الجائحة ونمواً اقتصادياً أعلى دون أن تتعرض لأزمة مديونية؛ كتلك التي تحدق بأشباحها وتداعياتها على الدول النامية، خاصةً بعدما تسارعت معدلات نمو تراكم مديونياتها من قبل صدمة الجائحة فيما عرف بالموجة الرابعة للديون.
ستترك الأزمات الراهنة صناع القرار أمام تساؤلات هامة:
– ما هو شكل التعافي؟ فمن الأرجح أن يأخذ التعافي شكل حرف K، بما يعكس التفاوت بين الدول والقطاعات في معدلات نموها وبما يكرس عدم العدالة وينذر بتوترات اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاقتصادي.
– ما هو مستقبل العمل؟ لقد كان الحديث قبل الجائحة مشغولاً بآثار الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها على البطالة. وقد أثرت إجراءات الإغلاق الكلي والجزئي للنشاط الاقتصادي لتحجيم الوباء على سوق العمل فأضافت ما يربو على 250 مليون متعطل في السوق الرسمية وأضعاف هذا الرقم في السوق غير الرسمية. وهنا يأتي دور الاستثمارات العامة للدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي وكذلك دور سياسات الدولة في ضبط قواعد إعادة فتح المشروعات والقطاعات الاقتصادية للعمل، ومدى تفعيل نماذج التشغيل الهجين بالتفاعل الكفء بين نظم العمل التقليدية ومن خلال الوسائل الافتراضية وعبر شبكات الإنترنت.
– ما هي احتمالات عودة التضخم؟ فبعد عقدين من السيطرة على التضخم، هناك جدل محتدم حول الآثار التضخمية لحزم الإنفاق العام خاصةً في الولايات المتحدة، التي بلغ متوسط معدل التضخم فيها 1.2 في المائة في العام الماضي 2020، ولكن هذا المعدل في شهر مارس الماضي قد بلغ 2.6 في المائة. وهناك رأي يقوده لاري سمرز وزير الخزانة الأميركية الأسبق بأن حزم الإنفاق العام الأخيرة تتجاوز حجم المطلوب لتجسير الفجوات التي سببتها الجائحة وأن هذا الإنفاق سيكون تضخمياً. في حين يترقب بنك الاحتياطي الفيدرالي آثار هذا الإنفاق مفرقاً بين ما يمكن أن يكون تضخماً مؤقتاً انتقالياً أو ذا طبيعة متواصلة تستوجب التدخل. وإن كان الأمر يتطلب في كل الأحوال عدم إغفال عامل التوقعات التي تشكل سلوك المستهلكين والمدخرين والمستثمرين خاصةً في ظروف اللايقين التي تسود الأسواق.
– ما هي مسارات سعر الفائدة؟ رغم التراجع النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي فما زال الدولار يهيمن على أسواق الصرف ويشكل أكثر من 60 في المائة من احتياطي البنوك المركزية و85 في المائة من التداول في سوق العملات الدولية. ومن ثم فإن تغيرات أسعار الفائدة على الدولار ستستمر في تأثيراتها المعتادة على أسعار الفائدة للعملات الرئيسية وكذلك أسعار الصرف والتدفقات المالية خاصةً قصيرة الأجل.
وفي ظل تزايد دور الدولة يلزم حسن توجيه إنفاقها العام، فكلما كان هذا الإنفاق في «مهمة موجهة» وفقاً للاقتصادية الإيطالية – الأميركية ماريانا مازوكاتو أصبح الأثر تكافلياً ومسانداً لنمو اقتصادي أكثر شمولاً وأعلى في قيمته المضافة طويلة المدى. وقد يكون هذا الإنفاق مكثفاً للبحث والتطوير في مجالات الأبحاث الطبية والتكنولوجية أو في جهود السيطرة على الانبعاثات الضارة بالمناخ. أما إذا كان الإنفاق العام مزاحماً للقطاع الخاص مقيداً لحركة السوق مشوهاً للمنافسة فسيتجاوز ضرره نفعه، ولو بعد حين.
ويتطلب توسع الدولة في إنفاقها العام مراجعة لهيكل إيراداتها خاصةً من الضرائب. فنجد، على سبيل المثال، الإدارة الأميركية الجديدة وهي تتوسع في الإنفاق العام تراجع معدلات الضرائب على أرباح الشركات فتزيدها من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وتتخذ إجراءات لتفعيل تحصيل الضرائب، وتقترح حداً أدنى للضرائب على الشركات دولية النشاط لا يقل عن 21 في المائة عبر الحدود بما يستلزمه ذلك من اتفاقات وتنسيق دولي، كما تنظر في تغييرات في الضرائب على الأرباح الرأسمالية، بما قد يحقق في مجمله زيادة في الإيرادات الضريبية تغطي جانباً من الإنفاق المستجد وتسهم في إعادة توزيع الدخول.
من ناحية أخرى تجد تغييراً مهماً في شكل العملات لن تستقيم إدارة السياسة الاقتصادية إلا بإدراك تبعاتها على الاقتصاد والاستقرار النقدي. فقد تنامى الإقبال على الأصول المشفرة وفقاً لخوارزميات مركبة مثل البيتكوين، ولكن لا يمكن اعتبارها من العملات بحال فهي شديدة التقلب لا يمكن الاعتماد عليها كمخزن للقيمة أو وسيط مقبول ذي قوة إبراء واسع النطاق. ولكنها أتت حاملة مزايا تفهم تطور المجتمعات والتقدم في تطبيقات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات. كما أنها تستفيد من خصائص اللامركزية بين أطراف المعاملات دون وسيط أو تكلفة معاملات، بتأمين نظام «سلسلة الكتل» وقاعدة بياناته الموزعة دون تحكم من مركز واحد. وقد حاولت ابتكارات من نوع العملات المستقرة التي تستخدم تكنولوجيا الأصول المشفرة ولكنها تحاول الحفاظ على استقرارها وتحجيم تقلباتها بربطها بأصول حقيقية ذات قيمة مادية مثل النفط والذهب أو عملات دولية مثل الدولار واليورو، ومن أمثلة هذه العملات المستقرة «ليبرا» التي طورتها شركة فيسبوك مع شركاء لها وواجهت صعوبة في الحصول على الموافقات اللازمة وما زالت تحاول الحصول على الموافقات المطلوبة من خلال الشكل المعدل لها المعروف بوحدة «دايم» استناداً إلى قوة منصتها التي تضم 2.5 مليار مشترك حول العالم بدعوى تعزيز الشمول المالي. ويستلزم تفعيل العملات المستقرة موافقة صريحة من البنوك المركزية التي سترتبط بها هذه العملات وهو ما زال يواجه صعوبات.
المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو «العملات الرقمية للبنوك المركزية»، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية، ولكن الإجراءات القانونية والتطوير المؤسسي اللازم لتفعيل العملات الرقمية للبنوك المركزية يستغرق زمناً قدره البنك المركزي السويدي، المتقدم في هذا المجال، بخمس سنوات، هذا وإن قامت بالفعل البهاما بإصدارها الأول تحت مسمى «ساند دولار» ولكنه لاقتصاد صغير الحجم والتأثير. ووفقاً لمسح قام به بنك التسويات الدولية فهناك 60 في المائة من البنوك المركزية بصدد إصدار عملاتها الرقمية و14 في المائة منها في مرحلة الاختبارات التجريبية ويترقب المتعاملون ما قد يسفر عن إحراز اليوان الصيني سبقاً في هذا المضمار؛ وعندئذ ستتغير قواعد اللعبة في السوق النقدية الدولية وليس فقط في أدوار اللاعبين الرئيسيين.

د. محمود محيي الدين

2040… عالم أشد تنافسية

عادة ما أبدت وكالات الاستخبارات الأميركية قدرتها على التنبؤ بالكوارث على امتداد الأعوام العشرين الماضية. وبهذه الطريقة، كانت تجد هذه الوكالات سبيلاً للهروب من اللوم عن هذه الكوارث. وفي 8 أبريل (نيسان)، صدر تقرير عن مجلس الاستخبارات الوطني بعنوان «2040… عالم أشد تنافسية»، شدد على المخاطر الناجمة عن صعود الصين، ويحذر من مخاطر تواجه الاستقرار العالمي جراء التغييرات المناخية، وكذلك انتشار التكنولوجيا.
ويعتمد التقرير على معلومات من وكالات استخباراتية، بجانب معلومات عامة، ويتفحص سيناريوهات مستقبلية للعام 2040.
جدير بالذكر أن مجلس الاستخبارات الوطني يصدر تقريراً كل 4 سنوات، ومن المهم هنا أن نتذكر أن التقرير الصادر عن المجلس عام 2004 توقع حدوث جائحة عالمية تضر بالاقتصاد العالمي. ومن الممكن الاطلاع على التقرير الجديد بسهولة عبر الإنترنت.
من ناحية أخرى، وفيما يخص التقرير، يبدو من السهل استيعاب محتوياته المتعلقة بقضايا الأمن الدولي التقليدية. ومثلما الحال مع كل تقرير آخر يصدر في واشنطن في الوقت الحالي، يسلط التقرير الضوء على المنافسة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب والصين على الجانب الآخر.
إلا أنه تبعاً لما يذكره هذا التقرير الجديد، فإنه لا تكفي دراسة القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة والصين، من أجل إدراك حجم قوتهما المستقبلية، ذلك أن القدرة على تطوير تكنولوجيات وشبكات جديدة ومراكز تبادل، بما في ذلك تبادل الأموال والمعلومات، وكذلك القدرة على السيطرة على المعلومات ستكون جميعها حيوية في تحديد قوة الدول المتنافسة.
على سبيل المثال، هل ستسيطر الصين على شبكات الجيل الخامس ذات الأهمية الكبيرة، وتتمكن من وقف إرسال المعلومات إلى الدول المنافسة أو الشركات التابعة لها؟
من جهته، يتوقع التقرير ألا تأتي المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على نمط مشابه لما كانت عليه المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أثناء «الحرب الباردة» في القرن الماضي. اليوم، يملك عدد أكبر من الدول قوة ونفوذاً، مثل الهند وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان، إضافة إلى أنه ستكون هناك دول إقليمية قادرة على إحداث خلل بالاستقرار العالمي مثل إيران وكوريا الشمالية.
علاوة على ذلك، فإن هناك قدراً أكبر الآن من التجارة الحرة بين البلاد المختلفة، الأمر الذي يعزز الاستقرار. ومع ذلك، تسببت جائحة فيروس «كورونا» المستجد في إحداث خلل في التجارة والسفر، وسيكون هناك مزيد من الأوبئة مستقبلاً.
ويحذر التقرير أيضاً من ظهور تكنولوجيات عسكرية جديدة، في ظل غياب قوانين دولية تحظر استخدامها. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، اتفقت الدول العظمى على حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، من خلال إبرام معاهدة دولية بهذا المعنى عام 1925 وأخرى عام 1993.
وتبعاً لما أفاده التقرير، هناك أهداف اقتصادية جديدة وأخرى تتعلق بالبنية التحتية اليوم، لكن في ظل غياب قوانين وقواعد دولية جديدة حاكمة. وستزداد صعوبة ردع هجمات من عينة الهجمات السيبرية ضد منشآت بنية تحتية اقتصادية أو صحية أو هجمات ضد أقمار صناعية، مع احتدام المنافسة بين الدول.
ويتفحص الجزء الأكبر من التقرير التغييرات الطارئة على البيئات والتكنولوجيا والتوقعات طويلة الأمد التي تثير القلق. وطبقاً للتقرير، فإن ارتفاع درجات الحرارة حول العالم سيؤثر على جميع الدول بدرجة أكبر. كما سترتفع مستويات مياه البحار، وستعاني المناطق التي تعاني قلة الأمطار حول العالم من جفاف أكبر.
وسيتسبب نقص الماء والطعام في حدوث مزيد من الهجرات عبر الحدود. ويمكننا أن نرى هذا الأمر في أميركا الوسطى؛ حيث ترحل الأسر من مناطق زراعية، مخلفة وراءها مزارع خربة في محاولة لدخول الولايات المتحدة.
في الوقت ذاته، يشير التقرير إلى أن ارتفاع درجات الحرارة سيساعد الزراعة في عدد قليل من الدول مثل كندا. ويتوقع التقرير أن تتحمل دول نامية المعاناة الكبرى من وراء التغييرات المناخية والمنافسة على المياه، الأمر الذي سيخلق مخاطر اشتعال صراعات، مثلما نشهد في سد النهضة الإثيوبي، وربما يشتعل مزيد من الصراعات، ويقع مزيد من القلاقل خلال الأعوام العشرين المقبلة.
ويشرح التقرير كيف أن التكنولوجيا تمثل حلاً ومشكلة في الوقت ذاته فيما يخص التحديات الاقتصادية والمناخية. وتشجع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي الناس على الانضمام لمجموعات تتشارك في نفس التفكير. وعليه، أصبح هناك حوار أقل بين وجهات النظر المختلفة ومزيد من الاستقطاب السياسي والتطرف، مثلما نرى في الولايات المتحدة وأوروبا. ومع الاستقطاب تتراجع الثقة في الحكومات.
إلى جانب ذلك، فإنّ دولاً على غرار الولايات المتحدة، إلى أوروبا، إلى الصين، إلى اليابان، بحاجة إلى مزيد من الموارد لرعاية مزيد ومزيد من المواطنين من كبار السن. وربما تؤدي المخاطر الناجمة عن التغييرات المناخية أمام الاقتصادات ودخول الأسر، إلى الاستقطاب السياسي والتطرف، حتى اشتعال صراعات عنيفة داخل الدول، وفيما بينها، تبعاً لما ذكره التقرير.
في الوقت ذاته، فإن تكنولوجيات جديدة مثل الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية يمكن أن تزيد الإنتاجية الاقتصادية التي باستطاعتها توفير الموارد اللازمة للرعاية الصحية والنقل والزراعة والتعليم.
وأفاد التقرير أن المجتمعات والدول الناجحة ستتمكن من بناء إجماع اجتماعي حول إجراءات إدارة التكنولوجيا والتعامل مع التغييرات المناخية. وتكشف الجدالات الدائرة اليوم داخل الولايات المتحدة حول اللقاحات وجوازات السفر المرتبطة بالتطعيم، نمط التحديات التي يتوقع التقرير أن تصبح أكثر شيوعاً.
كما أن تزايد الابتكار التكنولوجي لإدارة التغييرات المناخية وجهود مواجهة الأوبئة سيعتمد على قدرة الولايات المتحدة والصين على إيجاد سبل للتعايش، بل التعاون، حسبما بيَّن التقرير.

روبرت فورد.

«بتكوين» تحل محل الذهب

كيف نشرح معنى «بتكوين»؟ كما ذكرت قبل أسبوعين، من الصعب استبعاد العملة الرقمية من الحسبان باعتبارها فقاعة استثمار كلاسيكية؛ لأنها – على العكس من أي معتقد تاريخي آخر شهد مكاسب كبيرة مماثلة في السعر – شكلت سلسلة من الفقاعات التي انفجرت ثم تضخمت مجدداً.
ليس من المفترض أن تقوم الفقاعات بذلك؛ إذ إنَّ الفقاعة الكبيرة الضخمة لا يمكن أن تنكمش في هدوء، بل تنفجر ولا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه أبداً.
لدى «بتكوين» العديد من أعراض هوس المضاربات، يحركها في ذلك الإثارة المطلقة التي تلهم المؤمنين بها، لكن من الصعب تحديد القيمة التي يجب أن تكون عليها الأصول الرقمية. شأن الذهب، فإنَّ القيمة الحقيقية تقع في عين الناظر. فهي ليس لها قيمة جوهرية، وفي حين ينطبق الأمر نفسه على الأوراق النقدية، فإنَّ الحكومة لا تقف وراء ذلك.
تصارع الكثير من الأشخاص مع المشكلة نفسها، وربما تكون قيمة «بتكوين» نابعة من عدم وجودها. ولفهم أفضل لذلك؛ فقط تأمل العلاقة الفردية بين الذهب وسندات الخزانة، فالدراسة والتحليل دائماً ما يثبت تغلب سندات الخزانة على الذهب عندما لا يشعر الناس بالقلق الشديد بشأن التضخم، في حين يفوز الذهب عندما تكون هناك مخاوف من التضخم، باستثناء في الوقت الحالي، حيث تراجع كلاهما.
ما الذي يدفع سعر الذهب إذن؟ جاءت دراسة تحليلية أجراها دافال جوشي، الباحث بمعهد «بي سي إيه إنك» بفكرة مختلفة مفادها أن العلاقة بين الذهب والفضة ظلت ثابتة لثلاثة قرون، واستمرت مستقرة حتى تآكلت الثقة في المعيار الذهبي ثم انهارت بعد الحرب العالمية الأولى. خلال عقود معيار الذهب الناعم لـ«اتفاقية بريتون وودز» بعد الحرب، عادت النسبة إلى مستواها القديم، لتعود إلى التحليق عالياً عقب انهيار اتفاقية «بريتون وودز» قبل 50 عاماً.
يؤكد جوشي أن هذا يدل على أن الطلب على الذهب والفضة مدفوع بالنظرة إلى تفوق الأصول «في مواجهة العملة». ولذلك؛ إذا شعر الناس بالقلق بشأن القوة الشرائية طويلة الأجل للعملات التي تصدرها الحكومة، فإنَّهم سيكونون مستعدين لدفع المزيد مقابل الذهب، في ظلّ دوره المتصور كمخزن للقيمة. كيف إذن نفسر الانخفاض المفاجئ. حجة جوشي هي أن عملة «بتكوين» ارتفعت كبديل للأصول. لقد حاز ذلك الانتشار بسبب الأفكار التحررية المناهضة للحكومة التي رافقت العملة الرقمية منذ إنشائها. فزيادة حجم «بتكوين» لتصبح معروفة بشكل أفضل وسهولة الحصول عليها الآن يجعلها منافساً أكثر قابلية للتطبيق مقارنة بالمعدن البراق.
لم يجرِ تحويل كل الأموال التي تترك الذهب إلى عملة «بتكوين»، بل بعضها فقط. ويبدو أن المؤسسات تتخذ قراراً بتخصيص بعض الأموال لعملة «بتكوين» كتحوط ضد الانهيار النقدي. (السندات الصينية هي وجهة مهمة أخرى). وظهرت قوة «بتكوين» في الأشهر القليلة الماضية على الرغم من التراجع الواضح في عمليات البحث على «غوغل» عن المصطلح.
يتماشى أداء «بتكوين» خلال العام الماضي بشكل مباشر مع التحركات في عوائد السندات. فعندما ترتفع العائدات، ترتفع كذلك «بتكوين»؛ مما يعني أن العملة الرقمية تستفيد مباشرة من «تجارة الانكماش»، أو الاعتقاد بأن التضخم قادم.
يُظهر تحليل أكثر علمية أجرته شركة الأبحاث البريطانية «كوانت إنسايت المحدودة»، أن الحساسية الرئيسية لعملة «بتكوين» تكمن في معدلات التضخم. الشيء نفسه ينطبق على الذهب، والاختلاف في الوقت الحالي هو أن «بتكوين» يرتبط ارتباطاً إيجابياً بنقطة التعادل (النقطة التي لا يتحقق فيها مكسب أو خسارة)، ويكسب عندما ترتفع المخاوف بشأن التضخم، في حين أن الذهب يرتبط بها ارتباطاً سلبياً.
وبحسب تشارلز موريس، الخبير بشركة «باي تري»، فإن «بتكوين» تتحرك مثل سهم النمو، على عكس الذهب. ويبدو أن «بتكوين» لديها كل شيء؛ فهي واحدة من الأصول القليلة التي يبدو أنها تستفيد من ارتفاع عائد السندات – وعلى عكس الأسهم والسندات الدفاعية، يعتبر كل من «بتكوين» والذهب حساسين للتضخم، لكن الذهب يكون أسعد حظاً عندما يواجه العالم دوامة هبوط. في المقابل، تفضل «بتكوين» اقتصاداً أقوى عندما يرتفع العائد، وهو المكان الذي نحن فيه اليوم.
لذلك؛ يبدو أن الدافع الحالي لعملة «بتكوين» هو محاولة للحماية من انخفاض قيمة العملة عن طريق تحول مُقاس من الذهب، والذي يُعتبر الأصل الأضعف ضد العملات الورقية في الوقت الحالي.
إذا كان هذا هو ما يحفز الناس على شراء «بتكوين»، مع عودة المخاوف من الانحدار والتضخم الذي يحدث عقب الانهيارات، يبقى السؤال حول كيفية تقييمها بالضبط. ينظر جوشي إلى مزايا الأصول المواجهة للأوراق المالية باعتبارها مرتبطة بقدرتها على تجنب الخسائر الفادحة. ويمكن أن يكون للذهب أيضاً عمليات سحب كبيرة، ولكن لا شيء مثل الخسائر الكبيرة التي تلحقها عملة بتكوين» بشكل دوري بحامليها قبل الارتفاع مرة أخرى. ونظراً لأن انخفاضات عملة «بتكوين» غالباً ما تكون أكبر بثلاث مرات؛ فإنه يمكن معادلة المخاطرة عن طريق الاحتفاظ بثلاثة أضعاف الذهب مثل «بتكوين».

هل «بتكوين» بديل حقيقي مباشر للذهب؟ إنه عرض صعب التعامل معه. فأنا مثلاً الآن أكتب هذا المقال وفي إصبعي خاتم صغير جداً من الذهب. أنا واثق من أنني لن أستبدل خاتم زواجي بواحد مصنوع من «بتكوين». فالذهب على الأقل له استخدام جوهري كمادة خام للمجوهرات المرغوبة بشدة.
لقد صُممت «بتكوين» ببراعة بحيث يجري تقليل المعروض من العملات الجديدة بمرور الوقت، وبالتالي، فإن انخفاض الأسعار سيقلل من الحافز لإنفاق الأموال على زيادة العرض. ويمكن للتأثيرات الشبكية أيضاً أن تجعل العملة أكثر فائدة – فكلما تم تطوير المزيد من التطبيقات، زادت سهولة استخدامها، وأصبحت عملة قابلة للتطبيق.
في الوقت الحالي، تلبي عملة «بتكوين» طلباً على مجموعة واسعة من البدائل للعملات الورقية في وقت يشكك فيه الكثيرون بشدة في السياسة النقدية، في حين تقدم وعداً بذلك النمو المثير الذي حققته الأسهم التقنية. من المفهوم أنه سيكون هناك طلب كبير على مثل هذه الأصول. ورغم قوة الطلب، فإنه أيضاً مدعوم من تلك القوى العالمية الأخرى في الأسواق التي تخشى عليه من الضياع. ومع ذلك، إذا لم يحدث الانكماش فقد يكون من الأفضل أيضاً الاستعداد لارتفاع آخر في «بتكوين».

جون اوثرز.