أرشيف التصنيف: المقالات العامة
البتكوين… هل يكون مستقبلها زاهراً؟
ما شكل الأموال في المستقبل؟ يعتقد ولدي البالغ من العمر 9 سنوات أنها سوف تكون العملة «روبوكس». وبالنسبة لأمثالنا العالقين في متحف البشرية المعروف باسم مرحلة البلوغ والنضج، فإن «روبوكس» هي العملة التي يستخدمها اللاعبون في ألعاب «روبلوكس» الكومبيوترية. فإن منحت توماس ولدي حفنة من الدولارات لاستمالته للقيام ببعض الأعمال المنزلية الخفيفة، فإنه يمتعض على الفور ويبدو غير مهتم أو عابئ. لكن إن عرضت عليه بعضاً من عملة «روبوكس»، فهناك قصة مختلفة تماماً.
يبلغ سعر الصرف الحالي نحو 80 مقابل الدولار. ومن ثم، فإن أردت تشجيع ولدي على غسل الصحون مثلاً، فإنني أحتاج إلى الدخول على الإنترنت وشراء 2000 «روبوكس» مقابل 25 دولاراً. ويجري ذلك عن طريق إدخال بيانات بطاقتي الائتمانية على أحد مواقع الإنترنت، وهو وسيلة من وسائل التعريض الذاتي التي لا تشكل لي مشكلة على الإطلاق. ومع ذلك، فإن توماس يقوم بغسل الصحون فعلاً، ثم يقوم بإنفاق بقية عملات «روبوكس» الخاصة به على الإنترنت في أمور مهمة بالنسبة إلى الصبي الصغير تماماً.
تعدّ عملة «روبوكس» شكلاً واحداً من أشكال عدة للأموال الحديثة الموجودة في عالم ألعاب الفيديو على شبكة الإنترنت الموازي لعالمنا الحقيقي المعاصر. فإن كان أطفالك يعرفون لعبة «فورتنايت»، فربما تحتم عليك في وقت من الأوقات أن تشتري لهم عملة «فيندربكس» حتى يواصلوا اللعب. وأموال ألعاب الفيديو، بدورها، مجموعة فرعية من وسائل السداد الإلكترونية التي لا حصر لها والمنتشرة حالياً على شبكة الإنترنت.
أصاب مؤلفو روايات الخيال العلمي في فهم كثير من الأمور بشكلها الصحيح حول المستقبل؛ من الأوبئة، إلى السيارات الطائرة، إلى الذكاء الصناعي. غير أنه لا أحد على الإطلاق قد أدرك إمكانات مستقبل الأموال بصورة صحيحة. ففي كتاب ويليام غيبسون «نيورومانسر» لعام 1984، استمر التعامل في المستقبل بالأموال الورقية المعروفة، غير أن استخداماتها اقتصرت على المعاملات غير المشروعة في نهاية المطاف. وفي فيلم «سنو كاش» من إنتاج نيل ستيفنسون لعام 1992، تسبب التضخم الاقتصادي المفرط في تدمير الدولار الأميركي، لدرجة أنه في كومبتون بولاية كاليفورنيا، يسير الناس في الشوارع وهم يدفعون عربات اليد التي تتراكم فوقها الملايين من أوراق البنكنوت التي جمعوها من مجاري العواصف.
تُعرف فئة التريليون دولار باسم «إد ميز»، وفئة الكوادريليون باسم «غيبر»، في حين أننا نحن أبناء جيل الطفرة السكانية ما زلنا نقتات على تصريحات المدعي العام الأميركي الأسبق والرئيس الذي تولى الرئاسة في ثمانينات القرن الماضي. وفي عقود المستقبل البائس المقبلة، تقوم السلع السهلة المتاحة مثل الرصاصات أو أغطية الزجاجات مقام الأموال المؤقتة، تماماً كما كانت السجائر في ألمانيا المحتلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة.
إن كان هناك مؤلف آخر للخيال العلمي قد أحسن التنبؤ بمستقبل الأموال في العقود المقبلة، فربما قد فاتني ذلك. ومما يؤسف له، أن الافتقار لمثل هذه التوقعات بات يؤثر حالياً على صناع السياسات في الولايات المتحدة؛ الأمر الذي يجعل الهيمنة المالية في العالم أكثر عُرضة لتحديات جسيمة محتملة؛ بل ومقبلة. فلا يقتصر الأمر على مجرد إقلال السلطات النقدية الأميركية من أهمية تلك التهديدات على هيمنة وتفوق الدولار الأميركي من خلال مزيج العملات الرقمية المشفرة والمدفوعات الإلكترونية التي تتزعمها الصين على مستوى العالم راهناً. كما أنهم يتعاملون في الصين مع المبتكرات المالية القائمة على قواعد البيانات المتسلسلة، والتي توفر أفضل البدائل المالية المتاحة لليوان الإلكتروني الصيني، بأنها مثل أدوات جمع العملات في محفلهم الخاص!
ولنبدأ بطرح تصورات مستقبل الأموال الذي لم يتوقعه أحد من قبل.
ففي عام 2008، أطلق المدعو ساتوشي ناكاموتو عملته الرقمية الغامضة «بتكوين» من خلال دراسة بحثية مجهولة المصدر ولا علاقة لها بالخيال العلمي من قريب أو بعيد. تلك العملة التي تسمح بإرسال المدفوعات عبر شبكة الإنترنت مباشرة من طرف واحد إلى طرف آخر، من دون المرور عبر أي مؤسسة مالية رسمية كانت. وفي جوهر الأمر؛ فإن «بتكوين» دفتر أستاذ محاسبي تتقاسمه شبكة من الكومبيوترات المتقدمة من دون قائد واضح. ولسداد المدفوعات عن طريق «بتكوين»، فإنك تبعث برسالة موقعة من طرفك تخول نقل الملكية إلى المفاتح العامة للمتسلم. ثم يجري جمع المعاملات معاً وإضافتها إلى دفتر الأستاذ في صورة كتل، وتوجد لكل عقدة في الشبكة الكومبيوترية نسخة كاملة من قواعد البيانات المتسلسلة في جميع الأوقات. ويمكن للعقدة الواحدة إضافة كتلة جديدة إلى التسلسل (مع الحصول على مكافأة «بتكوين» في المقابل) وذلك عن طريق حل التشفير المحدد بواسطة بروتوكول «بتكوين» نفسه، الذي يستهلك مقداراً من الطاقة للمعالجة وفك التشفير.
وتحصل العقد التي نجحت في حل التشفير على مكافأة من رسوم المعاملات، وكذلك بمزيد من عملات «بتكوين». ويطرأ تخفيض على هذه المكافأة إلى النصف مرة كل 4 سنوات، حتى يبلغ إجمالي عدد عملات بتكوين 21 مليون عملة، وبعد ذلك لن يتم إنشاء عملات جديدة. وكما قلت في مقال سابق، كانت هناك أسباب وجيهة وراء ترك «بتكوين» المضاربة على الذهب، في الوقت الذي كان فيه فيروس «كورونا» المستجد يعيث فساداً بالأرض وسكانها منذ العام الماضي. ومنذ أكثر من عام أو نحوه، عندما جرى بيع نحو أغلب الأصول المالية مع التراجع الملحوظ في شدة الوباء، انخفض سعر الدولار الأميركي مقابل «بتكوين» إلى 3858 دولاراً، وأنا أقول إن السعر الحقيقي هو 58746 دولاراً.
والسبب الحقيقي وراء نجاح «بتكوين» هو استقلاليتها وسيادتها الذاتية، وأنه ما من أحد يملك السيطرة عليها، وليس هناك حيتان يملكون الأموال الضخمة منها، ولا حتى المعدنون يستطيعون الخروج بالمبالغ المفرطة من وراء التداول فيها. كذلك؛ لأنها تحافظ على ندرتها النسبية (إذ إن رقم 21 مليوناً منها هو المبلغ النهائي). وفوق كل شيء، فإنها عملة رقمية مشفرة وذكية. ومع كل يوم يستمر ذلك النظام الرقمي في العمل، فإنه لا يتعرض للقرصنة أو الاختراق، ولا يتعطل أو ينهار. وتشير التوقعات إلى أنها وجدت لتبقى وتستمر، لا سيما مع الضغوط الناشئة على المتداولين والمعدنين الذين يتحدون أنفسهم وسواهم من خلال المحاولات المحمومة لامتلاك مزيد من تلك العملات.
خلال العام الماضي، ابتاعت مجموعة من الشركات التكنولوجية العملاقة، من شاكلة «سكوير»، و«باي بال»، و«تيسلا»، كومة من عملات «بتكوين». وظهر كثير من المستثمرين الكبار، من أمثال بول تيودور جونز، وستان دروكنميللر، وبيل ميللر، بوصفهم أبرز المستثمرين في «بتكوين». ربما الأهم من ذلك، أن الناس بدأوا يتعاملون مع «بتكوين» على أنها جزء شرعي من النظام المالي العام. وبدأت شركة «بي إن واي ميلون» المصرفية الاستثمارية التعامل مع «بتكوين»، وكذلك شركة «ماستر كارد» العالمية. وصارت هناك عقود آجلة، وخيارات متنوعة، للتعامل مع «بتكوين» بصورة جيدة. وكان هذا النوع من التبني والاعتماد هو الذي أدى إلى رفع سعر «بتكوين»؛ تلك العملية الكبيرة والمعقدة التي تستلزم كثيراً من العمل.
نيال فيرغسون
جودة الاستثمارات الأجنبية
في عالم اليوم، يتنافس كثير من الدول في جذب الاستثمارات الأجنبية إليها، مقدمة الإعفاءات الضريبية واليد العاملة الماهرة والأنظمة القانونية الضامنة والبيئة الاجتماعية المناسبة… وغيرها من عوامل الجذب التي تشجع الشركات الأجنبية على ممارسة أنشطتها في تلك الدول. ولا يشك في الاستثمار الأجنبي بما يجلبه من منافع اقتصادية للدول، تتمثل في توفير الوظائف للسكان المحليين، وزيادة التنافسية في القطاع الخاص، ونقل الخبرات من الشركات الأجنبية، إضافة إلى ما يشكله من أهمية في تكامل الاقتصاد العالمي وفتح الآفاق للاستثمار خارج الحدود. إلا إن الاستثمارات الأجنبية ليست نافعة بشكل مطلق؛ بل إن بعض الاستثمارات الأجنبية تجلب الضرر للدول أكثر من النفع، ولذلك يحرص كثير من الدول على جودة الاستثمارات الأجنبية الواردة إليها، وتحدد شروطاً لهذه الاستثمارات بما فيه مصلحة للطرفين.
ويمكن تقسيم جودة الاستثمارات الأجنبية بحسب أهداف التنمية المستدامة إلى خمسة أقسام:
القسم الأول يُعنى بالإنتاجية والابتكار، ويعني ذلك أن تزيد الاستثمارات الأجنبية من الإنتاجية في البلد وأن تحسن من أنشطتها الابتكارية بما تجلبه له من خبرات ومعارف ونقل للتقنيات. ويرتبط القسم الثاني بما هو متعارف عليه من توفير للوظائف ذات الجودة العالية والأمن الوظيفي المرتفع. كما تشترط أهداف التنمية المستدامة أن ترفع الاستثمارات الأجنبية من مهارات اليد العاملة فيها، لا أن تجلب اليد العاملة الماهرة من الخارج دون نقل لهذه المهارات للمواطنين. أما القسم الرابع؛ فيعنى بالمساواة الاجتماعية والعرقية. وينظر القسم الأخير في المحافظة على البيئة من خلال استخدام الطاقة النظيفة أو غيرها من الممارسات البيئية الصحيحة.
وتعد هذه الأقسام الخمسة مجرد أمثلة على الأهداف التي تنظر فيها الدول عند جلب الاستثمارات الأجنبية، فقد يحدد بعض الدول القطاعات التي ترغب في جذب استثمارات أجنبية فيها، وقد تحد أو تمنع قطاعات محددة، مثل بعض الصناعات أو الموارد الطبيعية أو البنية التحتية… أو غيرها، لأسباب منها أسباب أمنية، أو المحافظة على القطاعات الاستراتيجية من سيطرة الشركات الأجنبية، أو حماية القطاع الخاص المحلي، أو تحفيز المنشآت الصغيرة. وقد تشترط اشتراطات معقدة تحفظ لها حقوقها في بعض القطاعات شديدة الجاذبية، مثل الموارد الطبيعية؛ كأن تشترط حصة من الموارد لزيادة الآثار الاقتصادية أو الاجتماعية.
وتختلف الدول في اشتراطاتها على الاستثمارات الأجنبية الواردة، وتعدّ أبرز المعايير المشترطة حجم الوظائف الموفرة، وقيمة وحجم الاستثمار الأجنبي الوارد وما يضيفه للناتج القومي، ومعدل الرواتب للوظائف الموفرة للمواطنين، وما إذا كان فرع الشركة مقراً إقليمياً أم عالمياً. كما يعطي كثير من الدول الأفضلية للاستثمارات الأجنبية التي تساهم في زيادة الصادرات وذلك لإعطاء القيمة المضافة اقتصادياً. وتعطي أخرى أفضلية للشركات التي تركز على أنشطة البحث والتطوير والتي تجلب معها منافع اقتصادية واجتماعية علاوة على استدامة استثمارات هذه الشركات التي تركز على الاستثمارات طويلة المدى مثل البحث والتطوير.
وتعطي الدول أفضلية في بعض القطاعات بحسب توجهها الاستراتيجي، فعلى سبيل المثال، تعطي تشيلي أولوية في الاستثمارات الأجنبية لقطاعات الأغذية والبنية التحتية والسياحة، وتفضل نيجيريا الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الاتصالات والكهرباء والمواصلات، وتميّز المجر الاستثمارات في قطاعات صناعة السيارات والإلكترونيات، أما فيتنام فتحاول جذب الاستثمارات في قطاع التقنيات الزراعية.
إن المنفعة الموجودة في الاستثمارات الأجنبية تعود على الطرفين (الشركات الأجنبية والحكومات)، ويمكن للحكومات استخدام الاستثمارات الأجنبية أداة استراتيجية وفعالة لتحقيق مستهدفاتها المستقبلية، سواء أكانت هذه المستهدفات بتطوير قطاعات محددة، أم بالارتقاء بالتنافسية المحلية، أم حتى لبناء شراكات سياسية مثمرة. أما انجذاب الشركات الأجنبية لدولة ما، فهو أمر مرهون وبشكل مباشر بمعرفة عوامل جذب الشركات الأجنبية والتميز في هذه العوامل، وإذا ما تمكنت الدول من تجاوز هذه النقطة بنجاح، فسيكون قدوم الشركات الأجنبية لها مسألة وقت، ويمكن حينها للدول استخدام هذه الاستثمارات لتحقيق أجندتها الوطنية.
د. عبدالله الردادي.
مقاومات و دفاعات : يورو + داكس
التخطيط للتعامل مع وباء أزلي
على امتداد العام الماضي، ساد افتراض ـ جرى التعبير عنه بعض الأحيان صراحة، وفي أغلب الأحوال ضمناً ـ وشكل هذا أساس تفكيرنا جميعاً إزاء الجائحة: مفاده بأنه عند نقطة ما، ستتلاشى الجائحة، وحينها «سنعود إلى حياتنا الطبيعية».
الحقيقة أن هذا الأساس خاطئ بدرجة تكاد تكون مؤكدة، ذلك أن فيروس «سارس ـ كوف ـ 2»، بما يتسم به من مراوغة، ربما يصبح عدونا الأزلي، تماماً مثل الإنفلونزا لكن على نحو أسوأ. وحتى إذا تلاشى هذا الفيروس نهاية المطاف، فإن حياتنا وروتين أعمالنا بحلول ذلك الوقت ستكون قد تبدلت على نحو يتعذر التراجع عنه. وعليه، فإن «العودة للوراء» لن تكون خياراً ممكناً حينها، وإنما سيكون السبيل الوحيد المضي قدماً ـ لكن نحو ماذا تحديداً؟
في الواقع، تتلاشى غالبية الأوبئة بمجرد أن يحقق السكان مناعة القطيع، ولا يجد العامل الممرض أمامه سوى القليل للغاية من الأجساد كمضيف له من أجل تكاثره الذاتي. وتتحقق مناعة القطيع هذه من خلال مزيج من المناعة الطبيعية داخل الأشخاص الذين تعافوا من العدوى واللقاح فيما يخص باقي السكان.
إلا أنه في حالة «سارس ـ كوف ـ 2»، توحي التطورات الأخيرة أننا ربما لا نصل لمناعة القطيع أبداً، بل وحتى الولايات المتحدة التي تقود غالبية الدول الأخرى بمجال اللقاحات، وشهدت موجات تفش ضخمة للوباء بالفعل، ربما لا تصل لهذه النقطة. ويعد هذا الأمر النتيجة الأساسية التي خلص إليها تحليل عقده كريستوفر موراي من جامعة واشنطن، وبيتر بيوت من مدرسة لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة.
ويكمن السبب الرئيسي وراء ذلك في الظهور المستمر لسلالات جديدة تتصرف وكأنها فيروسات جديدة تماماً. وكشفت تجربة سريرية جرت في جنوب أفريقيا أن الأشخاص في مجموعة «البلاسيبو»، أو الدواء الوهمي، ممن سبقت لهم الإصابة بإحدى سلالات فيروس كورونا المستجد لم تكن لديهم أي مناعة، في مواجهة السلالة الجديدة المتحورة وأصيبوا بالعدوى من جديد.
ووردت تقارير مشابهة من أجزاء من البرازيل التي شهدت موجات هائلة من تفشي الوباء، وبالتالي عانت من تجدد الجائحة وقتاً بعد آخر.
وعليه، يصبح اللقاح السبيل الوحيد أمامنا للمضي قدماً نحو إنجاز مناعة قطيع دائمة. ويقتضي الإنصاف الإقرار بأن بعض اللقاحات الموجودة اليوم أبدت فاعلية إلى حد ما في مواجهة بعض السلالات الجديدة. ومع هذا، فإنه بمرور الوقت ستصبح اللقاحات بلا حول ولا قوة في مواجهة الطفرات الجديدة المقبلة.
بطبيعة الحال، تعمل الجهات المنتجة للقاحات بالفعل بدأب على إنتاج لقاحات جديدة. بصورة خاصة، يمكن تحديث اللقاحات المعتمدة على التكنولوجيا الثورية المتمثلة في تلقيح الحامض النووي الريبوزي المرسال التي سبق وأن وصفتها، على نحو أسرع عن أي لقاح آخر في التاريخ. ومع ذلك، تبقى هناك حاجة لإنتاج المصل وشحنه وتوزيعه وحقن الأفراد به.
ولا يمكننا إنجاز هذه العملية بسرعة كافية، ولا أن تغطي الكوكب بسرعة كافية. ومع أن البعض منا ربما يفلح في الفوز بجولة إقليمية أو جولتين في مواجهة الفيروس، من خلال توزيع اللقاح على سكان منطقة بعينها ـ مثلما فعلت إسرائيل، على سبيل المثال، فإن التطور لا يأبه بالمكان الذي يعمل فيه، ويعمد الفيروس إلى التكاثر في أي مكان يجد فيه أجساداً دافئة لم تحصل على اللقاح بها خلايا تمكنه من إعادة إنتاج الحامض النووي الريبوزي الخاص به. ومع خلق الفيروس لنسخ من نفسه، يقع من وقت لآخر في أخطاء تشفيرية. وتتحول بعض هذه الأخطاء إلى فرص للتحول إلى مزيد من الطفرات.
وتظهر مثل هذه الطفرات في كل مكان، وثمة قدر كبير من الانتقال للفيروس جارٍ من حولنا. واكتسبت سلالة بريطانية وأخرى جنوب أفريقية وواحدة برازيلية على الأقل سمعة واسعة سيئة بطبيعة الحال، لكنني اطلعت على تقارير حول ظهور سلالات أخرى في كاليفورنيا وأوريغون وغيرهما. وإذا تفحصنا عينات من عدد أكبر من المناطق، من المحتمل أن نعثر على المزيد من السلالات.
وعليه، ينبغي لنا افتراض أن الفيروس يتحور بسرعة كبيرة بالفعل، داخل الكثير من الدول الفقيرة التي لم تتلق حتى يومنا هذا أي جرعات لقاحات على الإطلاق، حتى وإن مكنتها البنى الهرمية السكانية التي يغلب عليها الشباب لديها في إبقاء معدلات الوفيات قيد السيطرة، الأمر الذي يغطي بدوره على حدة موجات تفشي الجائحة على المستويات المحلية.
الشهر الماضي، حرص أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، على تذكير العالم بأن 75 في المائة من جميع جرعات اللقاحات جرى توزيعها داخل 10 دول فقط، بينما لم تحصل 130 دولة ولو على جرعة واحدة.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن مسألة تطور عامل ممرض في حد ذاتها ليست بالأمر المثير للدهشة أو القلق، ذلك أنه من بين الأنماط المعتادة تطور الفيروسات بمرور الوقت على نحو يجعلها أشد عدوى، لكن أقل ضراوة. وعلى أي حال، فإن عدم الإجهاز على الكائن المضيف بفاعلية يحمل في طياته ميزة في إطار الانتخاب الطبيعي. وإذا اتخذ «سارس ـ كوف ـ 2» هذا المسار، فإنه ربما يتحول نهاية الأمر إلى مجرد إنفلونزا عادية أخرى.
بيد أن هذا ليس ما يجري على أرض الواقع خلال الفترة الأخيرة، ذلك أن السلالات التي اكتشفناها أصبحت أشد عدوى، لكن قدرتها على الفتك لم تتضاءل. ومن المنظور الوبائي، تعد هذه أخباراً سيئة.
ولننظر الآن في مسارين بديلين لتطور الفيروس. في واحد منهما، يصبح الفيروس أقل فتكاً، لكن أكثر قدرة على الانتقال من شخص لآخر، الأمر الذي سيسبب مزيداً من حالات الإصابة والوفاة، لكن سيصبح النمو طولياً. في المسار الآخر البديل، لن يصبح الفيروس المتحور أقل أو أكثر ضراوة، لكنه يصبح أشد عدوى. وسيتسبب في زيادات في أعداد المصابين والوفيات على نحو متسارع، وليس طولياً.
ويشرح آدم كوشارسكي، من مدرسة لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة، الجانب الحسابي وراء هذا الأمر. إذا كان هذا المسار التطوري لـ«سارس ـ كوف ـ 2»، فإن هذا يعني أننا في طريقنا على ما يبدو لمواجهة دورات لا نهاية لها من موجات التفشي والانحسار، وفرض قيود اجتماعية وتخفيفها وفرض عمليات إغلاق ورفعها. وداخل الدول الغنية على الأقل، من المحتمل أن نحصل على اللقاح مرتين سنوياً، في مواجهة أحدث الطفرات السائدة، لكننا لن نحصل أبداً على اللقاح بدرجة كافية من السرعة أو الشمولية تعين على الوصول لمناعة القطيع.
وما أود تأكيده هنا أنني لا أدعو إلى الانهزامية. الحقيقة أنه في الإطار التاريخي الكبير، يظل فيروس «كوفيد ـ 19» بمثابة جائحة معتدلة نسبياً. جدير بالذكر هنا أن الجدري قتل تسعة من بين كل 10 من أبناء الهنود الحمر، بعدما نقله الإسبان إلى الأميركتين في القرن الـ16. كما فتك «الموت الأسود» بقرابة نصف سكان حوض البحر المتوسط، عندما ضرب أوروبا للمرة الأولى في القرن السادس.
عالمياً، قتل فيروس كورونا المستجد أقل عن أربعة من كل 10 آلاف شخص حتى الآن. وبالاعتماد على العلم والتكنولوجيا، نبدو مسلحين اليوم على نحو لم يحظ به أسلافنا من قبل قط.
ومع ذلك، يجب علينا التحلي بالواقعية، فالصلابة تستدعي أن نضم هذا السيناريو الجديد إلى خططنا. أما النبأ السار هنا فهو أن مستوى استجابتنا في تحسن مستمر. على سبيل المثال، في كل موجة إغلاق، نتسبب في أضرار أقل بالاقتصاد عن الموجة السابقة. وربما ننجح في تحقيق إنجازات علمية كبرى تجعل حياتنا أفضل نهاية الأمر. ورغم أن عالمنا الجديد ليس بائساً، فإنه لن يشبه على الإطلاق عالمنا القديم.
اندرياس كلوث.
صراع عالمي حول الغنائم
أعادت جائحة فيروس «كورونا المستجد»، والحوافز المالية الاستثنائية المرافقة، كتابة دور البنوك المركزية. والآن بعد الزخم الذي بدا يتلقاه التعافي الاقتصادي حول العالم، فهناك صراع عالمي يدور حول الغنائم، وكم من الصلاحيات التي يتعين على السلطات النقدية أن تتخلى عنها.
تفرض خطوط الصراع تمييزاً قليلاً بين مختلف المناطق، وما إذا كان الاقتصاد ناشئاً أو نامياً، وما إذا كان لدولة غنية أو فقيرة. ففي نيوزيلندا، رائدة بلدان العالم في استهداف التضخم، أصدر وزير المالية قراراً يقضي بأن بنك الاحتياطي النيوزيلندي لا بد أن يزداد اهتمامه بشأن تكاليف الإسكان. ولقد حصل زعماء أسعار الفائدة في البرازيل أخيراً على الاستقلالية القانونية الكاملة – وما كان ذلك مجانياً بحال. وفي إندونيسيا، يواصل الساسة التعدي على استقلالية أكثر البنوك المركزية نفوذاً وتأثيراً في جنوب شرقي آسيا.
لقد وضعوا مشروع قانون برلماني يسعى إلى الحصول على دعم بنك إندونيسيا المركزي للميزانيات الحكومية في أوقات الطوارئ المالية. ويتجاوز ذلك موافقة البنك على شراء 574.4 تريليون روبية (40 مليار دولار أميركي) من سندات الدولة في العام الماضي، تلك الخطوة التي وُصفت في ذلك الوقت بأنها إحدى النواتج المنفردة لجائحة «كورونا المستجد». وفي واقع الأمر، فإن الفكرة القائلة بأن هذه الخطوة كانت مجردة استجابة لحالة الطوارئ الصحية بالغة القسوة تعني أن إندونيسيا قد دفعت ثمناً ضئيلاً للغاية لعملية تسييل الديون، تلك العملية التي كانت تعتبر في يوم من الأيام من قبيل البدع المصرفية. ومن خلال محاولة الربط بين تعهدات أخرى مماثلة مع الفوضى المالية العارمة بدلاً من ربطها بالأمراض الفتاكة الشائعة، فإن المشرعين يسعون بصورة فعالة إلى جعل ما كان ذات يوم أمراً استثنائياً يُلجأ إليه في حالة الطوارئ إلى أداة من الأدوات الاقتصادية الاعتيادية.
ورغم أن طبيعة هذا التوغل فريدة من نوعها في جاكرتا، فإن إعادة صياغة الاقتصاد النقدي أصبحت ظاهرة عالمية. لقد انتهت التخفيضات الهائلة في أسعار الفائدة، والتي ميزت التراجع المشهود لفيروس كورونا في أغلب البلدان. وتستعد التجارة العالمية للانتعاش الكبير خلال العام الحالي، ويشعر المستثمرون بالانزعاج إزاء العودة المحتملة للتضخم. وهذا من شأنه أن يجعل المزيد من المغامرات في السياسات غير التقليدية أمراً في غاية الصعوبة؛ نظراً للتسارع المتوقع في النمو العالمي هذا العام.
إن نجاح الممارسين يجعلهم عرضة للمخاطر. ما هو الثمن الذي سوف يدفعه صناع السياسات في مقابل الطريقة التي تتداخل بها التدابير النقدية في كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية تقريباً؟ وهل تصبح بعض خطوات مكافحة الأزمات، التي اتخذت خلال أحلك ساعات الوباء، هي الأكثر استدامة؟ لقد رأت النخبة السياسية ما تستطيع البنوك المركزية أن تفعله في تلك الأوقات. ومن الصعب أن نلومها على محاولة فرض المزيد من الضغوط على زعماء أسعار الفائدة.
تشكل التنازلات والتسويات من ويلينغتون وبرازيليا إشارة على ما قد يحدث. فلقد أصدرت الحكومة تعليمات إلى بنك الاحتياطي في نيوزيلندا، أول سلطة تتبنى هدف التضخم في ثمانينات القرن العشرين، بدراسة أسعار المساكن في القرارات. ولقد قاوم البنك المركزي الفكرة في بداية الأمر، غير أن قرار وزير المالية جرانت روبرتسون قد ساد في نهاية المطاف. وواقع الأمر، أن الخطة العقارية ذات طبيعة سياسية إلى حد مثير للإزعاج، والقليل من الأمور أكثر أهمية بالنسبة للناخبين من القدرة على تحمل تكاليف المسكن، سيما مع ارتفاع أسعار المساكن في نيوزيلندا إلى عنان السماء.
وفي البرازيل، كان إحدى النواتج الثانوية لجائحة فيروس كورونا يتمثل في إضفاء الطابع الرسمي على استقلال البنك المركزي. وفي داخل البنك، ظل المسؤولون حريصين لفترة طويلة على التصديق على استقلالية الحكم الذاتي للبنك، رغم أن الفصل بحكم الأمر الواقع عن النزوات السياسية كان ممارساً لفترة من الوقت.
ليست هناك حاجة إلى أن ينزعج مقاتلو التضخم بشدة. لطالما كان لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي هدف يتمثل في تحقيق أقصى قدر من التوظيف، إلى جانب استقرار الأسعار. ويعتبر دعم الوظائف من بين الأهداف التي يتم السعي إلى تحقيقها في جاكرتا. ويتعين على المدافعين عن بنك إندونيسيا المركزي العناية الفائقة باختياراتهم. ولا يجب أن يخافوا من الحساسيات ذات الصلة بسوق العمل، فلقد جرى كسب المعارك الكبيرة ضد التضخم. وسوف تظل البطالة الممتدة من تراث جائحة فيروس كورونا لفترة من الزمن، بصرف النظر عن حجم المكاسب التي حققها الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، وهذه من الحقائق الاقتصادية والسياسية المعروفة.
تعد هذه التغيرات، إلى حد ما، ردة فعل ضد التركيز المفرط على السيطرة على الأسعار. وفي حالة إندونيسيا والبرازيل، فإنها تعكس إعادة تنظيم المؤسسات على غرار ما يفضله صندوق النقد الدولي. فقد أعيدت صياغة الحوكمة في إندونيسيا، على سبيل المثال، بعد الانهيار المالي في عام 1998، ولقد امتدت آثار إعادة ترتيب الحياة العامة إلى تحديد سعر النقود.
بدأت المشاجرات حول غنائم انخفاض معدلات التضخم ومحاولات التأقلم المفرطة تتكشف الآن. ومن الصعب للغاية أن تنأى بنفسك عن حالة التساهل الشديدة، لا سيما عندما تتطفل بنفسها على الساحة المالية. وتبرر الظروف الراهنة الإبداع والابتكار. غير أن هذا لا يجعل من السهل العودة إلى صورة من صور الحياة الطبيعية، بصرف النظر تماماً عما يعنيه ذلك.
دانيال موس
كفاءة توزيع اللقاح وتنشيط الاستثمار
تناول تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية 2021» التطورات الاقتصادية الدولية؛ إذ أشار إلى أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 4 في المائة عام 2021، بافتراض أن التوزيع الأولي للقاحات وباء «كوفيد19» سيصبح واسع الانتشار خلال عام 2021؛ إذ يؤكد البنك الدولي أن التعافي سيكون ضعيفاً على الأرجح؛ ما لم يتحرك صانعو السياسات بقوة لكبح جماح الجائحة وتطبيق إصلاحات لتعزيز الاستثمار والتجارة بوصف ذلك محركاً للنمو والفرص كما كانت من قبل ولفترة طويلة والمتغيرات الاقتصادية الكلية الأخرى.
ورغم أن الاقتصاد العالمي ينمو مجدداً في 2021، فإن الجائحة تسببت في خسائر فادحة من الوفيات والإصابات، ودفعت بالملايين نحو الفقر، وتقلص النشاط الاقتصادي والدخل لفترة طويلة. وتتمثل قمة الأولويات على صعيد السياسات في الأمد القريب، في السيطرة على انتشار الفيروس وضمان سرعة وعدالة توزيع اللقاحات على نطاق واسع. ومن أجل دعم التعافي الاقتصادي، ستحتاج الدول أيضاً إلى تنشيط الاستثمار الذي يهدف إلى نمو أقل اعتماداً على سياسة الدين الحكومي؛ إذ يواجه صانعو السياسات تحديات في الصحة العامة؛ وفي المقدمة عدم الكفاءة والعدالة في توزيع اللقاحات، وإدارة الدين، وسياسات الموازنة، وأنشطة البنوك المركزية والإصلاحات الهيكلية، في الوقت الذي يسعون فيه لضمان أن يكتسب هذا التعافي العالمي؛ الذي ما زال ضعيفاً، قوة دفع ويرسي الأساس لنمو قوي. ومن أجل التغلب على تأثيرات الجائحة ومكافحة العوامل التي تؤثر على مناخ الاستثمار، هناك ضرورة ملحة لتحسين بيئة الأعمال، وزيادة مرونة أسواق العمل والمنتجات، وتعزيز الشفافية والحوكمة.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن انهيار النشاط الاقتصادي العالمي في 2020 كان أقل شدة مما كان متوقعاً، وذلك لأسباب؛ على رأسها الانكماش الأقل حدة في الاقتصادات المتقدمة والتعافي الأكثر قوة في الصين. في المقابل، فإن تراجع النشاط في معظم اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية كان أكثر تأثيراً مما كان متوقعاً؛ إذ هناك حاجة لمعالجة الهشاشة المالية في كثير من تلك الدول، ويبين التقرير أن التوقعات ما زالت تتسم بارتفاع حالة عدم اليقين، وأن اختلاف نتائج النمو يظل محتملاً؛ إذ يشير سيناريو سوء الأوضاع، الذي ينطوي على استمرار ارتفاع الإصابات والتأخر في توزيع اللقاحات، إلى احتمال تقييد النمو العالمي عند 1.6 في المائة خلال 2021. في الوقت ذاته، يشير سيناريو تحسُن الأوضاع، الذي ينطوي على النجاح في السيطرة على الجائحة وتسارع عملية توزيع اللقاحات، إلى أن النمو العالمي قد تتسارع وتيرته بمعدل يصل إلى 5 في المائة، وفقاً للبنك الدولي.
وفي الاقتصادات المتقدمة، تعثر الانتعاش في الربع الثالث من عام 2020 عقب ارتفاع الإصابات، مما يشير إلى بطء التعافي ومواجهة كثير من التحديات. ومن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 3.5 في المائة خلال 2021، بعد انكماشه بمعدل 3.6 في المائة خلال 2020. وفي منطقة اليورو 3.6 في المائة، بعد انخفاضه بمقدار 7.4 في المائة خلال 2020. ومن المتوقع أن ينمو النشاط في اليابان، التي شهدت انكماشاً بنسبة 5.3 في المائة خلال عام 2020، بمعدل 2.5 في المائة خلال 2021. وتوقع البنك الدولي أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، بمعدل 5 في المائة خلال 2021، بعد انكماشه 2.6 في المائة عام 2020. بينما يتوقع أن ينمو الاقتصاد الصيني 7.9 في المائة بعد تسجيل معدل نمو يصل إلى اثنين في المائة. وباستثناء الصين، من المتوقع أن تنمو اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية بنسبة 3.4 في المائة خلال 2021، بعد انكماشها بنسبة 5 في المائة خلال 2020.
ويستعرض تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية» الكيفية التي فاقمت بها الجائحة المخاطر المحيطة بتراكم الديون؛ والكيفية التي قد تكبح بها النمو على المدى الطويل في ظل غياب جهود الإصلاح المنسقة، وما المخاطر المرتبطة باستخدام برامج شراء الأصول بوصفها أداة للسياسة النقدية في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية. لقد زادت الجائحة على نحو كبير من مخاطر الديون في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية؛ وستؤدي آفاق النمو الضعيف إلى زيادة أعباء الديون وتآكل قدرة المقترضين على خدمة أعباء الديون. ويحتاج المجتمع الدولي للتحرك سريعاً، وأن يضمن ألا ينتهي تراكم الديون بسلسلة من أزمات الدين. ولعله من المتوقع أن تخلف الجائحة آثاراً معاكسة مستمرة على النشاط العالمي، وتؤدي إلى تفاقم التباطؤ في النمو العالمي مستقبلاً بسبب نقص الاستثمار، وانخفاض التوظيف، وتراجع القوى العاملة في كثير من الاقتصادات المتقدمة، ما لم ينفذ صانعو السياسات إصلاحات شاملة تحسن المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي المنصف والمستدام.
ويحتاج صانعو السياسات إلى مواصلة الحفاظ على التعافي، والتحول تدريجياً من دعم الدخل إلى سياسات تعزيز النمو. وفي الأمد الأطول، في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، ستساهم السياسات الهادفة إلى تحسين الخدمات الصحية والتعليمية، والبنية التحتية الرقمية، والقدرة على الصمود في وجه تغير المناخ، وممارسات الشركات والحوكمة، في تخفيف الضرر الاقتصادي الناجم عن الجائحة، والحد من الفقر وتعزيز الرخاء المشترك. وفي حال الضعف في مراكز المالية العامة وارتفاع الدين، فإن الإصلاحات المؤسسية التي تستهدف تحفيز النمو الذاتي تكتسب أهمية خاصة. وتستخدم البنوك المركزية في بعض اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية برامج شراء الأصول استجابة لضغوط الأسواق المالية، وبعد توجيه تلك البرامج إلى معالجة إخفاقات الأسواق، بدا أنها تسهم في تحقيق استقرار الأسواق المالية خلال المراحل الأولى من الأزمة. لكن في الاقتصادات التي تستمر فيها عمليات شراء الأصول في التوسع ويتبين أنها تمول عجز الموازنة، فإن تلك البرامج تؤدي إلى الحد من استقلالية البنك المركزي، وتهدد بإضعاف العملة، مما يؤدي لإزالة الدعائم التي قامت عليها توقعات التضخم.
وفي إطار موقف البنك الدولي في النظر للتطورات في الأجزاء الأخرى بالعالم، فإنه، في شرق آسيا والمحيط الهادي، من المتوقع أن يتسارع معدل النمو في المنطقة إلى 7.4 في المائة خلال 2021، وفي أوروبا وآسيا الوسطى ينمو بنسبة 3.3 في المائة، وفي أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، ينمو بنسبة 3.7 في المائة، بينما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ينمو النشاط الاقتصادي بنسبة 2.1 في المائة في العام الحالي. وفي جنوب آسيا، ينمو النشاط الاقتصادي بنسبة 3.3 في المائة. وأخيراً أفريقيا جنوب الصحراء، يتجه النشاط الاقتصادي إلى الارتفاع بنسبة 2.7 في المائة.
وفي الختام؛ لا بد من الانتباه إلى أنه سيواجه بعض الاقتصادات الناشئة ومعظم الدول منخفضة الدخل، خطر تدني معدلات النمو ما لم تصاحبها إصلاحات حقيقية مع توفر اللقاحات والكفاءة في عدالة توزيعها.
د. ثامر محمود العاني
* مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية
– أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً
بنى تحتية خضراء في أميركا
الآن، وقد وافق الكونغرس على خطة الرئيس بايدن لتخصيص 1.9 تريليون دولار للمساعدة في مكافحة «كوفيد – 19»، تعمل الإدارة الأميركية على اقتراح «سياسة صناعية» للكونغرس تقدر قيمتها بنحو ثلاثة تريليونات دولار، أهدافها إعادة بناء البنى التحتية الأميركية… ليس فقط لتشييد وصيانة الجسور والطرق، بل أيضاً لتشييد بنى تحتية خضراء بتشجيع وسائل المواصلات الحديثة من سيارات وحافلات كهربائية، وتحويل وسائل النقل العامة للمدن والمدارس إلى حافلات كهربائية، كل ذلك لتقليص الانبعاثات الكربونية حسب اتفاقية باريس للمناخ 2015.
هناك تناغم ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بضرورة تحسين البنية التحتية الأميركية من طرق وجسور ووسائل النقل العامة. إلا أنه من المتوقع أن يواجه طلب إدارة بايدن بمعارضة من الجمهوريين في الكونغرس؛ نظراً لكلفة الضرائب الإضافية التي يجب فرضها لتحصيل الأموال لحزمة 1.9 تريليون دولار، والآن 3 تريليونات دولار لتشييد صناعات حديثة وتحسين البنية التحتية وتقليص الانبعاث الكربوني. ويتوقع أن تواجه السياسة الجديدة معارضة في مجلس الشيوخ، حيث الفرق القليل في الأصوات ما بين الحزبين. كما قد يواجه تنفيذ السياسة معارضة في الولايات ذات حكام أو مجالس تشريعية جمهورية؛ لمعارضتهم سياسة بايدن البيئية التي يعتبرونها مضرة بالاقتصاد الأميركي، رغم أنها تهدف إلى إنعاش الاقتصاد المحلي وتشغيل أكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة.
يتوقع أن تتغلب إدارة بايدن على اعتراضات الجمهوريين واليمينيين، بالنص في مشروع القانون، كما هو حاصل فعلاً، أن تحصر جميع مشتريات الحكومة الفيدرالية، بالصناعات الحديثة، ولاحقاً توفير الأموال للولايات التي تتجاوب مع السياسة الجديدة عن طريق دعم مشاريعها ذات العلاقة بالمساعدات والقروض الفيدرالية، في حال تعاونها، أو حجب المال الفيدرالي عنها في حال عدم ذلك. خلاصة الأمر، يتوجب أولاً، الموافقة على السياسة الجديدة في الكونغرس خلال الأسابيع المقبلة، ومن ثم تبدأ محاولة تنفيذ السياسة الحديثة التي تزمع لإعطاء زخم جديد للاقتصاد الأميركي، هدفه الأول والأساسي تقليص الانبعاثات الكربونية، وتشييد المصانع والبنى التحتية «الخضراء»، وكذلك لمساعدة الولايات المتحدة أن تحتل موقعاً متقدماً عالمياً في تصدير تقنيات ومكائن الطاقات البديلة، كما لتتمكن من إيجاد فرص عمل جديدة.
سيكون العالم، في حال موافقة الكونغرس على السياسة هذه، أمام مرحلة طاقوية جديدة. إذ يتوقع على ضوء ما هو مطروح من مشاريع وأهداف، تحويل المنطلقات الأساسية والنهج لأكبر اقتصاد عالمي في إنتاج واستهلاك الطاقة؛ الأمر الذي سيعطي الزخم في عملية التحول السريع من عصر طاقة إلى آخر، ومما قد يؤدي إلى عصر دون انبعاثات كربونية بحلول 2050 بحسب الأهداف والالتزامات المعلنة. ومما يدعم هذا التحول الطاقوي هو توفر التقنيات اللازمة لذلك، والمحاولات الدؤوبة لتحسينها وتقليص نفقاتها لتصبح منافسة سعرياً للطاقات الهيدروكربونية. كما أن كبرى الشركات العالمية في صناعتي البترول والسيارات بدأت تنضم لمسيرة التغيير هذه؛ خوفاً من تحولها كما حدث من تهميش لشركة «كوداك» مع اختراع الهواتف النقالة وكاميراتها.
وبالفعل، فقد أنشأت معظم شركات السيارات الكبرى، وحدات خاصة بها لإنتاج السيارة الكهربائية. كما أن هناك شركات متخصصة بإنتاج السيارة الكهربائية، مثل «تسلا» الأميركية. وبدأت شركات نفطية كبرى، بالذات الأوروبية منها، الولوج في صناعات الطاقة البديلة. وهناك نقاش جارٍ لتغيير التعريف بهذه الشركات من «شركات نفط دولية» إلى «شركات طاقة دولية». وتتفاوض بعض الشركات النفطية، مثل «توتال» الفرنسية، لتطوير الطاقة الشمسية في العراق، إضافة إلى اهتمامها بالإنتاج النفطي هناك. ومن جانبهم، يعقد كبار المسؤولين عن برامج البيئة الأميركية اجتماعات مع كبرى شركات النفط الأميركية لشرح الأهداف من السياسة الاقتصادية الحديثة واستقطابهم للتعاون في هذا المضمار.
وليد خدوري
البيانات… نفط القرن الحادي والعشرين
عادة ما نجد المدونات التي تتناول موضوعات أمن الإنترنت في الصفحات الداخلية من المجلات الإلكترونية الدورية المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات، وقلّما تتصدّر الصفحات الأولى من الصحف الدولية. لكن ما كتبه نائب رئيس شركة مايكروسوفت، توم بيرت، ونُشر في 2 من شهر مارس (آذار) كان استثناءً لا يمكن تجاهله.
وبالفعل، لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى انهالت الاتصالات على مكاتب الدعم الفني في جميع أنحاء العالم، واشتعلت منشورات الأخبار في حسابات التواصل الاجتماعي لمديري تكنولوجيا المعلومات، إذ تبيّن أنّ ثمّة تهديدا جديدا يستهدف برمجية «Microsoft Exchange Server» التي تُشغّل البريد الإلكتروني على الشبكات. وقد حاول القراصنة هذه المرة اختراق أنظمة الكومبيوتر الخاصة بضحاياهم المستهدفين، والتسلل إليها بقصد الترصد لفترة طويلة من الزمن دون انكشاف أمرهم. وقد يصل عدد من تأثر بهذه الهجمة إلى نحو 20 ألف مؤسسة.
أصبحت الهجمات واسعة النطاق من هذا النوع أكثر شيوعاً، ويلمس العاملون في مجال الاستثمار يوماً بعد يوم تأثيرها بوضوح أكبر، فقد أصبحت أكثر قابلية للقياس والتقييم.
ولتوضيح الخطر الكامن بدقة أكبر، قامت إحدى الدراسات التي أجريت عام 2019 بتناول متوسط نمو عائدات الشركات التي تأثرت بالاختراقات الأمنية الخطيرة خلال السنتين اللتين جاءتا بعد حدوثها، ثم قارنتها مع نتائج الشركات النظيرة في القطاع والتي لم تتأثر بالجرائم الإلكترونية. وجدير بالذكر أن الدراسة شملت نحو 432 شركة على مدى ست سنوات وقيّمت 460 حدثاً مختلفاً.
وقد وجدت الدراسة أنّ عائدات الشركات شهدت في البداية انخفاضاً بنسبة تقارب 10 في المائة في المتوسط خلال السنتين اللتين تلتا التعرّض لخرق أمني خطير ثمّ بدأت بالتعافي ببطء. ولم تعدّ العائدات إلى نفس المستوى الذي كانت عليه عند وقوع الخرق الأمني إلّا بعد مرور سنتين. في المقابل، زادت عائدات الشركات التي لم تعان من خرق أمني بنسبة 20 في المائة تقريباً خلال الفترة الزمنية نفسها.
ولا يقتصر أثر الخرق الأمني الكبير على أرباح الشركة فحسب، بل ويطال أسعار أسهمها أيضاً. في الواقع، قد تشهد الشركات التي تعرضت لخرق أمني خطير انخفاضاً في أسعار أسهمها بنسبة 10 في المائة أو أكثر على مدى ستة أشهر، وقد تظل الأسعار في انخفاض لفترة طويلة.
وفي ظلّ احتمالية استمرار هذه العواقب، لا غرابة في أن تُكثّف الشركات جهودها لحماية بياناتها.
ولكنّ هذه المهمة باتت أكثر صعوبة خلال العام الماضي، فقد أجبرت الجائحة ملايين الناس على العمل من المنزل، الأمر الذي أدى إلى جعل بيانات الشركات أكثر عُرضة للخطر، لا سيما أمام هجمات التصيّد الاحتيالي التي تستهدف الموظفين. في الواقع، أصبحت هذه الهجمات واسعة الانتشار لدرجة دفعت العديد من المحللين إلى مقارنة جائحة فيروس «كورونا» بجائحة إلكترونية ناشئة – إن صحّ التعبير – فقد أدى العمل من المنزل إلى جعل البشر يقومون بدور «حصان طروادة» في الهجمات الإلكترونية.
علاوة على ذلك، كشف تقرير حديث صدر عن مؤسسة البحوث التابعة لمعهد المحللين الماليين المعتمدين عن المخاطر التي تواجهها الشركات جرّاء العدد المتزايد من التهديدات الإلكترونية الناشئة عن القراصنة المدعومين من قبل الحكومات أو التابعين للجماعات الإجرامية.
وفي هذا الإطار، يُشير الكاتب يواكيم كليمنت إلى ضرورة قيام المستثمرين بتقييم احتمال تعرضهم لمثل هذه الهجمات التي تكلّف البنك العادي – بالنظر إلى أنّ البنوك هي الأهداف المفضلة للجرائم الإلكترونية – نحو 18.4 مليون دولار سنوياً، بناءً على بيانات عام 2018.
وبحسب تقديرات النماذج الرياضية، فإنّ الخسائر المحتملة للنظام المصرفي العالمي تتراوح بين 97 و351 مليار دولار سنوياً، وهي كافية لإشعال فتيل أزمة مالية عالمية.
ومع أنّ الهجوم الذي تعرّضت له مايكروسوفت مؤخراً قد استرعى اهتماماً عالمياً، إلا أنّ هذه كانت المرة الثامنة في غضون 12 شهراً التي تصرّح فيها الشركة أمام الملأ عن هجوم شنته ما تسمى بالمجموعات التابعة للحكومات والتي تستهدف المؤسسات الحيوية، بدءاً من المنظمات الصحية التي تكافح فيروس «كورونا» المستجد (كوفيد – 19) وصولاً إلى الحملات السياسية المشاركة في انتخابات عام 2020.
وفي إطار هذه الأحداث العالمية الجارية، تُمثل دول الخليج حبكة أخرى معقدة ومثيرة للاهتمام، إذ تلتقي فيها التصدعات الجيوسياسية ونلمس فيها بالفعل تأثير القراصنة التابعين للحكومات في منطقة تحوي أكثر من ثلث كمية النفط في العالم. وقد أشار كليمنت في تحليله الممتاز إلى أنه بعد هجمات الطائرات دون طيار على مرافق أرامكو السعودية في بقيق عام 2019 كانت استجابة الولايات المتحدة موجّهة عبر هجوم إلكتروني استهدف البنية التحتية الإيرانية بدلاً من اللجوء إلى إظهار أي شكل من أشكال القوة العسكرية. وقد شجعت هذه الهجمات على اتخاذ خطوات كبيرة على مستوى الدولة لتعزيز الدفاعات الإلكترونية. فقد أطلقت المملكة العربية السعودية هذا الشهر أكبر مركز للعمليات الرقمية من نوعه وجهّزته بمركز أمن سيبراني حديث للكشف عن التهديدات الناشئة، في حين تبذل دول الخليج الأخرى جهوداً مماثلة لتعزيز مواطن الضعف في «جدران الحماية» الإلكترونية الخاصة بها.
ويجب على القطاع المالي أن يسارع باتباع نهج مماثل ويستثمر في حماية نفسه من التهديدات الناشئة، التي أصبحت أكثر ضرراً، بالنظر إلى ما كشفت عنه آخر هجمات القرصنة التي تعرّضت لها مايكروسوفت.
وبلا شك، فإنّ هذا لن يكون بلا ثمن، وربما تتراجع العديد من الشركات عند معرفة حجم النفقات الرأسمالية المطلوبة لحمايتها من الهجمات الإلكترونية في وقت هي في أمس الحاجة للحفاظ على السيولة النقدية في أعقاب جائحة فيروس «كورونا». ولكنّ تجنب تعطل الأعمال وفقدان المعلومات وخسارة الإيرادات، يجعل الاستثمار في هذا المجال ضرورة ملّحة. وفي هذا السياق، كان لمسؤول وزارة الخارجية الأميركية السابق ريتشارد كلارك تصور بعيد النظر حين قال: «إذا كنت تنفق على القهوة أكثر مما تنفق على أمن تكنولوجيا المعلومات، فستتعرض للاختراق؛ بل وتستحق ذلك».
* محلل مالي معتمد والرئيس الإقليمي لمعهد المحلّلين الماليين المعتمدين (CFA) في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
وليم طعمة.
التحديات الصينية لولوج مرحلة الطاقات المستدامة
تعدّ سياسات الصين أساسية في نمو الاقتصاد الدولي ومحاولات تقليص الانبعاثات الكربونية؛ إذ تشكل الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، كما أنها أكثر دولة ضخاً للانبعاثات الكربونية؛ إذ إنها شكلت أكثر من 30 في المائة من الانبعاثات العالمية خلال عام 2020.
أسس السياسة الصينية لها منطلقان مهمان؛ الأول: أن تقليص انبعاثات الاحتباس الحراري ضروري لإبطاء الارتفاع المستمر لحرارة المناخ، وهو ما تهدف إليه «اتفاقية باريس للمناخ – 2015». ثانياً: أن الصين لا تزال في طور التنمية بخلاف الدول الصناعية الكبرى التي حققت انطلاقاتها التنموية خلال منتصف القرن العشرين، ومن ثم يتوجب على الصين الاستثمار الواسع الآن مع مراعاة البروتوكولات المناخية في الوقت نفسه.
أعلنت الصين مؤخراً عن خطتها الخمسية المقبلة التي تهدف إلى تقليص الانبعاثات 18 في المائة سنوياً لكل وحدة من ناتج الدخل القومي بحلول عام 2025. وقد خيّب هذا الهدف الآمال؛ إذ إنه الهدف السابق نفسه؛ دون أي تعديل. كما أثار الإعلان الجديد الاستغراب؛ إذ إنه يأتي بعد تصريح الرئيس شي جين بينغ في سبتمبر (أيلول) الماضي؛ ذاك التصريح الذي لاقى كثيراً من الترحيب في حينه، حيث التزم بتحويل الصين إلى «صفر» من الانبعاثات بحلول عام 2060.
يذكر أن الأهداف المعلنة في الخطة الخمسية الجديدة تتوافق مع ما هو جارٍ حالياً؛ إذ إن ما تحاوله الصين خلال الفترة الحالية هو تقليص الانبعاثات إلى نحو الثلث من مصادر الوقود الأحفوري (النفط الخام، والغاز الطبيعي، والفحم الحجري)، باستبدال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بها. وهذا ما يجري إلى حد مهم في الوقت الحاضر؛ إذ إن نسبة تشييد الطاقتين النظيفتين تزداد بمعدل 12 في المائة سنوياً.
تدل الخطط الصينية على أن الانبعاثات ستصل إلى الذروة في عام 2030 حسب التزامها لـ«اتفاقية باريس للمناخ»، وذلك نظراً إلى توسع اقتصادها ومنشآتها الصناعية، ومن ثم تبدأ الانخفاض الكبير. وقد أثارت هذه السياسة تساؤلات عند بعض المراقبين الذين يشككون في قدرة الصين على إنهاء كامل لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول 2060؛ إذ يقدر حجم الانبعاثات حالياً بنحو 9.3 مليار طن متري.
تواجه الصين تحديات عدة في محاولتها الاقتصادية والاجتماعية الضخمة؛ فعدد سكان الصين 1.4 مليار نسمة، ويزداد سنوياً نحو 0.4 في المائة. والسياسة الراهنة هي رفع مستوى المعيشة الداخلي. وكما ذكرنا أعلاه، فإن الصين، على خلاف الدول الكبرى الأخرى، تعدّ نفسها في مرحلة اقتصادية مهمتها إطلاق النمو والتوسع. والتحديات كثيرة أمام القيادة الصينية؛ فالتغير المناخي يعني لها أولاً وقبل كل شيء، إغلاق الآلاف من مناجم الفحم الحجري المنتشرة في الريف وذات الكثافة العمالية.
كما تواجه الصين تحدياً جيوسياسياً من قبل الولايات المتحدة. فبغض النظر عن نوع الإدارة الأميركية، هناك نهج واضح في واشنطن، لربما يختلف في طريقة التنفيذ؛ يحاول أن يضع حداً للتقدم العلمي الصيني، خصوصاً في مجال العلوم الكومبيوترية. يكمن هذا الصراع بين الدولتين العملاقتين حالياً في منزلة كل منهما عالمياً. ويتمثل هذا الصراع في السماح لشركات البلدين بالوجود أو الانفتاح على الآخر في دولته.
فالولايات المتحدة قد بدأت تفرض قيوداً مشددة على شركاتها المستثمرة في الصين حول استعمال أو نقل بعض التقنيات. كما فرضت واشنطن قيوداً مشددة على استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة. على سبيل المثال؛ الهجوم الذي تشنه ضد شركة «هواوي»، أو منع بعض الشركات من التسجيل في البورصات الأميركية. تاريخياً؛ تؤدي الصراعات الاقتصادية إلى اللجوء للسلاح. وزيادة على ذلك؛ هناك مخاوف قديمة – جديدة من نشوب وتصاعد الصراع بين واشنطن وبكين حول مسألتي هونغ كونغ وتايوان.
من ثم؛ فإن استمرار التصعيد الذي يصب لصالح واشنطن في تعطيل أو تأخير التقدم الاقتصادي الصيني، سيؤدي إلى توجيه ضربة مؤلمة لتوسع وحرية التجارة العالمية في المقام الأول، واضطرار الصين إلى تغيير سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها منذ عقد التسعينات في المقام الثاني.
وليد خدوري
سرعة دوران النقد
لا يزال الاقتصاديون يدرسون الآثار الحالية والمستقبلية التي سبّبتها جائحة «كورونا»، فقد غيّرت هذه الجائحة مفاهيم اقتصادية عدة، لا سيما مع تأثيرها على مفاصل الاقتصاد العالمي. ومع بدء الحملات الدولية الواسعة للتحصين ضد الفيروس، بدأ العالم يفكر في الوضع الاقتصادي فيما بعد «كورونا». وتعد «سرعة دوران النقد» أحد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تتم دراستها في الوقت الحالي لما فيها من توضيح لسلوك المستهلكين خلال الجائحة، واستقراء لهذا السلوك فيما بعدها، وما يترتب على ذلك من سياسات اقتصادية ونقدية.
ويُعرف مصطلح «سرعة دوران النقد» بأنه عدد المرات التي يتم فيها استخدام وحدة النقد خلال فترة من الزمن لشراء سلعة أو خدمة. وبشكل أكثر بساطة، فإن هذا المصطلح يعني عدد المرات التي تنتقل فيها العملة من يد شخص إلى شخص خلال مدة زمنية. وتعد سرعة دوران النقد مؤشراً مهماً على الحركة الاقتصادية وعلى ثقة الأفراد والمستثمرين بالاقتصاد المحلي. ولذلك، ففي أوقات الأزمات الاقتصادية تنخفض سرعة دوران النقد لأسباب منها اهتزاز ثقة المستثمرين بالوضع الاقتصادي، وتفضيلهم الادخار على الإنفاق خوفاً من المستقبل. وقد ارتبطت فترات الكساد الاقتصادية بانخفاض دوران النقد، حدث ذلك في ثلاثينات القرن الماضي إبان الكساد العظيم، وفي أزمة 2007 المالية التي استمر بعدها دوران النقد في انخفاض لفترة طويلة. وفي المقابل فإن زيادة دوران النقد يرتبط بزيادة الرفاهية الاقتصادية والمعيشية بفرض أن زيادة نصيب الفرد من الدخل يعني زيادة نفقاته الاستهلاكية وبالتالي زيادة دوران النقد.
وفي الولايات المتحدة، كانت سرعة الدوران النقدي في منتصف التسعينات 2.2، أي إن الدولار الواحد كان يتم تداوله أكثر من مرتين في السنة، ويشمل هذا الأمر التعامل النقدي والرقمي للدولار (بما في ذلك الإنفاق من خلال البطاقات الائتمانية). إلا أن هذا الرقم بدأ بالانخفاض تدريجياً مع الزمن ليصل إلى 1.5 قبل الجائحة، وإلى أقل من 1 بعد الجائحة، وهذا هو الرقم الأقل تاريخياً في الولايات المتحدة. وقد يكون سبب هذا الانخفاض أن المستهلكين لم يجدوا سبيلاً لإنفاق أموالهم لا سيما مع فترات الحجر المنزلي خلال أيام الجائحة. إلا أن خوف الكثيرين من فقدان وظائفهم وتفضيلهم الادخار على الإنفاق استعداداً للمستقبل المجهول كان سبباً مهماً لانخفاض سرعة دوران النقد.
إلا أن الجائحة ليست الوحيدة الملومة على هذا الانخفاض، فمعدل دوران النقد كان منخفضاً بالفعل قبل الجائحة، وفي ذلك دليل على عدم تساوي الثروة. فالمعروف عن الطبقة المتوسطة والفقيرة أنهم أكثر إنفاقاً للأموال بحكم تقارب دخلهم مع احتياجهم، فهم ينفقون غالبية ما يحصلون عليه، أي إن الثروة في أيديهم تزيد سرعة دوران النقد. لذلك فإن انخفاض سرعة دوران النقد تعني أن غالبية النقد تتركز لدى الأثرياء، والذين في العادة تقل مصروفاتهم بشكل كبير عن دخلهم، مما يسبب تركز النقد لدى البنوك.
ويسبب هذا التركز قلقاً للبنوك المركزية، التي تضطر إلى طباعة أوراق نقدية جديدة بشكل متكرر بسبب تكدس النقد في البنوك. كما تؤثر سرعة دوران النقد بشكل مباشر على معدل التضخم، حيث يسبب انخفاض سرعة دوران النقد في انخفاض معدل التضخم بسبب قلة الإنفاق المحلي. ولذلك فإن سرعة دوران النقد هو أحد أكثر المتغيرات المستخدَمة من البنوك المركزية لتحديد النمو النقدي وصياغة السياسة النقدية.
إن ما يقضّ مضجع كثير من البنوك المركزية اليوم هو انخفاض سرعة دوران النقد حتى مع كثرة الحوافز التي تقدمها الحكومات خلال فترة الجائحة، وعلاوة على هذه الحوافز فإن كثيراً من الحكومات تطبع المزيد من الأوراق النقدية، وهو ما يرتبط عادةً بزيادة في الاستهلاك المحلي، وهو ما لم يحدث في كثير من الدول. هذه النقطة تحديداً هي ما تثير قلق الاقتصاديين في تلكم الدول، فزيادة الأوراق النقدية مع انخفاض دوران النقد يعني زيادة المدخرات بشكل مباشر. وفي حال انتهت الجائحة، فإن المستهلكين سيملكون كمية عالية من النقد وسينفقونها في وقت قصير، وهو ما يعني زيادة سريعة في التضخم، قد لا تكون في مصلحة الاقتصادات المحلية.
د. عبدالله الردادي.
عن عودة التضخم وفخ الوسط
من أكثر الموضوعات عرضة للجدل الحاد، في خضم تبعات أزمة كورونا الاقتصادية الراهنة ومحاولات احتوائها، هي احتمالات عودة التضخم للارتفاع بعد سنوات من انخفاضه.
فمع انكماش الاقتصاد العالمي وركوده عند معدل سلبي للنمو مقداره 3.5 في المائة وتراجع معدلات التضخم في بلدان العالم أجمع إلا قليلاً وانخفاض أسعار الفائدة بالتبعية، شجع هذا الحكومات خاصةً في الدول المتقدمة على زيادة الإنفاق العام. وكان آخر هذه الزيادات الضخمة ما كان من موافقة الكونغرس الأميركي على حزمة بمقدار 1.9 تريليون دولار إضافية تضخ في اقتصاده المنكوب بفعل الجائحة. وقد جاءت هذه الحزمة بعد عام شهدت فيه الموازنة الفيدرالية عجزاً بمقدار 3.1 تريليون دولار تسبب فيه الإنفاق لمواجهة الجائحة.
وقد اتفق اقتصاديون من وزن بول كروجمان الحائز جائزة نوبل و«لاري سمرز» وزير الخزانة الأميركية الأسبق على ضرورة هذا الإنفاق، وإن وصفه كروجمان بالإنقاذي وصنفه سمرز كتحفيزي. والفرق بين الأمرين كبير فإذا كان الإنفاق للإنقاذ والإغاثة فلا ينبغي النظر إليه بالاعتبارات الاقتصادية المنصبة على فجوة الناتج والمطلوب تجسيرها، وهذا رأي كروجمان الذي يقلل من احتمالات الآثار التضخمية للإنفاق رغم زيادة حجمه. أما سمرز فيرى أن الحزمة الضخمة التي قدمتها إدارة الرئيس جو بايدن أكبر من المطلوب لسد فجوة الطلب، وأن من شأنها زيادة ضغوط التضخم ورفع توقعاته بما قد يدفع البنك الفيدرالي الأميركي إلى زيادة أسعار الفائدة في وقت مبكر بما يدفع الاقتصاد إلى الركود وهو عكس الغرض من السياسة برمتها.
وهناك بنود من الإنفاق لا خلاف عليها بين الفريقين كالعون في إتاحة اللقاح للكافة وتأمين عودة المدارس للعمل، وكذلك مساعدة المتعطلين والإدارات الحكومية على مستوى الولايات والسلطات المحلية. ولكن وجه الخلاف هو تلك الشيكات المدفوعة لملايين بلا مقابل من عمل أو تعويض لضرر. وفي تقدير سمرز أن هناك ما يقترب من نصف مبلغ الحزمة الأخيرة، حوالي تريليون دولار، من الإنفاق العام غير المبرر الذي سيذهب سدى أو في عمليات للمقامرة على فقاعات الأسهم مثلما حدث في مغامرات أسهم شركة «جيم ستوب» المفلسة.
وفي تقديرات لنماذج اقتصادية، كتلك التي تستند إليها «جيتا جوبيناث» رئيس قسم البحوث بصندوق النقد الدولي، في مقال نشر مؤخراً، بأن الاقتصاد الأميركي شهد تأرجحاً لمعدلات البطالة بين 10 في المائة في عام 2009 بعد الأزمة المالية العالمية و3.5 في المائة في 2019 قبل أزمة كورونا، من دون أن يتأثر التضخم الذي ظل مستقراً عند معدلات منخفضة لم تضطر البنك الفيدرالي لرفع فائدته. ووفقاً لهذه النماذج فلا خوف من التضخم خاصةً إذا ما ساندتها عوامل هيكلية وسلاسل الإمداد بسلع رخيصة عبر العولمة. فمع استمرار انخفاض متوسطات الدخول في 150 دولة في هذا العام لأقل مما كانت عليه في عام 2019، فإن هذا سيؤكد استمرار انخفاض التضخم مدفوعاً بحركة التجارة الدولية.
يدعم من هذا التوجه المقلل من شأن احتمالات زيادة التضخم، ما هو مشاهد من ارتفاع إسهام المكون التكنولوجي في الإنتاج بما يمنع تحول ارتفاع الأجور لزيادة في أسعار السلع النهائية.
ولكن الأمر في مسألة التضخم لا تحكمه فقط عوامل تكلفة المعروض وطلب المستهلكين، فالتوقعات أيضاً لها أثر حيوي خاصةً في ظروف ارتفاع المخاطر وقلة الثقة وحالات اللايقين في ظل أزمة غير مسبوقة. فيدفع «أكسل فيبر» الرئيس السابق للبنك الفيدرالي الألماني بأن التوقعات السلبية حيال التضخم وتأثيرها على احتمال رفع أسعار الفوائد لديون الأجل القصير لا تأتي من فراغ. إذ تغذيها زيادة عجز الحكومات المركزية لما يتجاوز 11 في المائة من إجمالي الناتج المحلي العالمي وهو ما يتجاوز ثلاثة أمثال متوسطات العجز في العشر سنوات الماضية، وقد مول هذا العجز ارتفاع في موازنات البنوك المركزية وقوائمها المالية بمقدار 13 في المائة خلال العام الماضي. وما حفظ الاستقرار هو قبول جموع المدخرين والمستثمرين في الأوراق المالية الحكومية بعائد سلبي أو يقترب من الصفر، فإذا ما راجع هؤلاء المدخرون والمستثمرون قراراتهم فسيضعف هذا من قيمة العملات بما يرفع معدلات التضخم.
كما أن هناك عاملين آخرين يضيفهما «فيبر»، الأول أنه في حالة تخفيف قيود السفر والانتقال سترتفع أسعار الخدمات بسبب ضعف المعروض من إمكانيات خدمية في المطاعم والخطوط الجوية والفنادق التي قد لا تصل لطاقاتها التشغيلية الملائمة بالسرعة المتوقعة، في أوروبا على سبيل المثال. والعامل الثاني، وهو أكثر انتشاراً في الدول النامية، ينعكس في عدم قياس التضخم بدقة لأن سلة السلع والخدمات المستخدمة في القياس لا تمثل واقع أسعار السلع الأكثر ارتفاعاً وحساسية للتغيرات المتوالية في الطلب وعناصر التكلفة.
ما سقته من آراء متقابلة وحجج متباينة لفرق من الاقتصاديين المختلفين حول احتمالات عودة التضخم عالمياً، تغذيه في النهاية التوقعات التي تحرك التدفقات المالية داخل حدود البلاد وخارجها. أما عن فخ الوسط فأقصد به الدول متوسطة الدخل التي تشكل ثلث اقتصاد العالم وتضم 75 في المائة من سكانه ويعيش فيها 62 في المائة من فقراء العالم. وهذه الدول لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة في الاقتراض الرخيص بالعملات المحلية بلا مخاطر في سعر صرف العملات الدولية المقترض بها. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كذلك الذي تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلاً، بافتراض فضفاض بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية من خلال استثمارات القطاع الخاص المحلي والأسواق المالية الدولية.
فعلى الدول الواقعة في فخ الوسط التحوط المبكر من أثر تغيرات مباغتة في أسعار الفائدة العالمية تستهدف الأوراق المالية قصيرة الأجل لاحتواء توقعات التضخم وما قد يصحب ذلك من تغيرات في أسعار الصرف وارتفاعات في التكلفة الفعلية للقروض الدولية، خاصةً إذا ما تغيرت تصنيفاتها الائتمانية.
ومن الملاحظ أن هناك توجهاً في مجموعة الدول السبع وكذلك مجموعة العشرين بأن أوجه التيسير والعون الدولي في مواجهة جائحة كورونا لا تلتفت إلى الدول متوسطة الدخل بحال. فمبادرة مجموعة العشرين لتجميد مدفوعات خدمة الديون في إطار العون المؤقت لمواجهة كورونا، والتي ستنتهي في شهر يونيو (حزيران) القادم، وكذلك مبادرة النهج المشترك للتعامل مع مشكلات الديون كلها مبادرات موجهة للدول الفقيرة لا تستفيد منها الدول متوسطة الدخل على الإطلاق. وهذا وإن زادت أعداد البشر الذين يعانون من الفقر في هذه البلدان الواقعة في فخ الوسط عن كل فقراء الدول الأقل دخلاً. فسبل التيسير لحياة الفقراء مطلوبة بما يتجاوز اعتبارات التصنيف العقيمة للدول وفقاً لشرائح دخول تختزل واقع التنمية ومدى استقرار المجتمعات واقتصاداتها في متوسطات مضللة.
د. محمود محي الدين.
استراتيجيات الشركات النفطية خلال مرحلة تحول الطاقة
واجهت الشركات البترولية في الدول الصناعية الانتقاد الأوسع من المنظمات البيئية وتلك المعنية بتغير المناخ، لدورها في انبعاثات الكربون. حاولت الشركات الرد في بادئ الأمر، لكن بعد محاولات أولية، قررت أن الرد الأمثل هو ولوج صناعات الطاقات المستدامة وتحقيق الأرباح الممكنة من خلالها. جرى تبني الرد هذا من قبل بعض الشركات النفطية العملاقة من خلال استراتيجيات طويلة المدى مبنية على أمور مبدئية وأخرى ضرورية للبقاء والربح في عصر طاقوي جديد. تنوعت واختلفت استراتيجيات الشركات، وهذا أمر طبيعي ومتوقع.
من جهتها، نشرت شركة «شل» العملاقة استراتيجيتها طويلة الأمد التي تأخذ في الحسبان مرحلة العبور إلى عصر طاقوي جديد يختلف عن العصر الذي قامت عليه هذه الشركة إبان تأسيسها قبل نحو قرن من الزمن.
جرى بناء استراتيجية «شل» الجديدة على أسس ثلاثة متكاملة؛ أولاً: الإنتاج البترولي. ثانياً: النمو. ثالثاً: التحول. وهكذا؛ يتوقع أن يوفر الأساس الأول للاستراتيجية؛ «الإنتاج البترولي»، الأرباح والسيولة المالية للشركة، مما سيؤهلها للاستثمار في الصناعات المستقبلية والاستمرار في توزيع الأرباح العالية للمساهمين. أما الأساس الثاني المعلن للاستراتيجية؛ «النمو» أو «التطور»، فيعتمد على ولوج بدائل الطاقة المستدامة – النظيفة وطرق تسويقها. والأساس الثالث؛ «التحول»، فيشمل ولوج صناعة الغاز المسال، وتكامل صناعتي الغاز والكهرباء وصناعتي الغاز والبتروكيماويات، بالإضافة لاحقاً للطاقات المستدامة.
من اللافت للنظر في هذه الاستراتيجية التي تتخلى عن النفط تدريجياً في الوقت نفسه الذي تعتمد فيه على أرباحه العالية، تذكر «شل» أنه بينما الأرباح المتوقعة من «الإنتاج البترولي» تتراوح بين نحو 20 و25 في المائة سنوياً، تنخفض هذه الأرباح إلى نحو 14 و18 في المائة سنوياً أثناء الدمج الغازي الكهربائي أو الغازي الكيميائي. أما الربح المستقبلي المتوقع عند «التحول» إلى الطاقات المستدامة فهو الأقل؛ نحو 10 في المائة سنوياً. مما يدل على أهمية «المبدأ»؛ أي الهروب من تهمة الانبعاثات الكربونية. و«الضرورة» بمعنى الانتقال إلى قطاع آخر من قطاعات الطاقة، وذلك رغم الفرق الكبير في الأرباح المتوقعة.
يذكر أن استراتيجية «شل» هذه يجري اتباعها عموماً من قبل الشركات البترولية الأوروبية العملاقة الأخرى أيضاً، وإن لم تكن بحذافيرها، كما هو معروف عن «بريتش بتروليوم» و«توتال». لكن الأمر يختلف كلياً لدى الشركات الأميركية البترولية العملاقة.
السؤال: ماذا سيكون عليه رد فعل الشركات الأميركية على سياسة الرئيس الجديد جو بايدن الداعية إلى طاقة نظيفة لتحقيق الولايات المتحدة «الحياد الكربوني» بحلول عام 2050؟ فقد أعلنت وزيرة الطاقة الجديدة جنيفر غرانهولم أن هدفها دعم الأبحاث العلمية في المختبرات الوطنية لتحقيق التغير المناخي ودعم السيارة الكهربائية. لكن نظراً إلى تأخر الشركات البترولية الأميركية في ولوج خريطة طريق الشركات الأوروبية، ونظراً أيضا لمعاداة الحزب الجمهوري ومجموعات اليمين المتطرف بقيادة دونالد ترمب، اللذين يعدّان «اتفاقية باريس للمناخ» مضرة بالاقتصاد الأميركي، فمن ثم يُتوقع بروز معارضة قوية لسياسة الرئيس بايدن البيئية، على الأقل على صعيد مجلس الشيوخ والمؤسسات التشريعية للولايات الجمهورية، مما سيعني أن عملية التحول في الولايات المتحدة قد تأخذ وقتاً أطول من أوروبا إلى حين نمو رأي عام أميركي أوسع وأشمل لصالح الطاقات النظيفة.
وليد خدوري
حول تنبؤات الأسواق المالية
يحدث أحياناً أن يكون خبراء الاقتصاد على خطأ. فوفقاً للنظرية الاقتصادية، يجب أن تحظى المعاشات والرهون العقارية العكسية بشعبية كبيرة في إدارة المخاطر والسيولة، لكنّ كلا الأمرين يجد صعوبة كبيرة في إيجاد القبول في الأسواق.
تعد أسواق التنبؤات من الأشياء المفضلة لدى خبراء الاقتصاد: فالعقود ذات الفوائد المالية تتوقف على يحدث ما في العالم الحقيقي، كما أن مستقبلها غير مؤكد بدرجة كبيرة.
في جوهرها، تسمح أسواق التنبؤ للناس بـ«المراهنة» على بعض سمات الاقتصاد، وبالتالي إيجاد مشتقات مالية جديدة. قد يكون سوق التنبؤ في الناتج المحلي الإجمالي، أو ربما في معدلات البطالة المحلية، وسيلة مفيدة للتحوط من المخاطر.
إذا كنت تخشى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، فيمكنك «اختصار» إجمالي الناتج المحلي في سوق التنبؤ، وبالتالي حماية وضعك الاقتصادي العام، لأن رهانك سيؤتي ثماره إذا جاء الناتج المحلي الإجمالي أقل من المتوقع.
تعد أسواق التنبؤ أيضاً وسيلة مفيدة لاكتشاف المعلومات عمّا قد يحدث بعد ذلك. على سبيل المثال، إذا كنت تريد معرفة مَن قد يفوز بلقب «السوبر باول» (الدوري الأميركي لكرة القدم)، فهل هناك مكان أفضل للبحث عن احتمالات الرهان من البيانات المنشورة والمعلنة؟ وفقاً للمنطق نفسه، تقدم أسواق العقود الآجلة لأسعار الفائدة المختلفة أدلة حول ما قد يخططه «الاحتياطي الفيدرالي». كذلك تعد قيمة الحصول على معلومات عامة أكثر وأفضل، سبباً آخر لتشجيع أسواق التنبؤ.
اللغز الكبير هو سبب عدم انطلاق أسواق التنبؤ، على الأقل ليس منذ تاريخ أسواق رهانات «باكيت شوب» في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. فالقيود التنظيمية تعد ضمن الأسباب، لكنّ أسواق التنبؤ لم تنجح في بعض الأجزاء الأخرى من العالم من دون مثل هذه القيود. وموقع Intrade.com، الذي لم يَعُد له وجود الآن، كان مقره في آيرلندا وأنشأ أسواقاً نشطة وناجحة في الأحداث الرياضية والانتخابات الرئاسية. لكن معظم أسواق التنبؤ الخاصة بها ظلت غير سائلة إلى حد ما بسبب قلة اهتمام العملاء.
أدخل الآن موقع شركة «Kalshi» الناشئة ومقرها سان فرانسيسكو التي تهدف إلى إنشاء أسواق التنبؤ. ولحُسن الحظ، حصلت الشركة بالفعل على موافقة لجنة تداول السلع الآجلة لإدارة تبادل المشتقات. فهل سيكون الطلب على المنتج قوياً هذه المرة؟
قد يقول المتشكك إن الطلب محدود لأن هناك بالفعل كثيراً من الأسواق الجيدة والغنية بالمعلومات في الأصول الأخرى. في عام 2009 على سبيل المثال، هل كانت السوق ضرورية للتنبؤ بمدى جودة أداء هواتف «آيفون»؟ قد يكون سعر سهم «أبل» قد ساعد في أداء وظيفة مماثلة إلى حد كبير.
السؤال إذن هو: أيُّ أسواق التنبؤ قد تكون أكثر فائدة؟ فقد روّج روبرت جيه شيلر، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، لفكرة أسواق التنبؤ في الناتج المحلي الإجمالي، لكنّ معظم الناس يواجهون مخاطر كبيرة على مستوى أكثر محلية وأقل إجمالية.
ماذا عن سوق التنبؤ في أسعار العقارات المحلية، بحيث يمكن لمشتري المنازل وأقطاب العقارات التحوط لمشترياتهم؟ ربما، لكن السؤال المطروح بعد ذلك هو ما إذا كان سيتم جذب عدد كافٍ من المتداولين المحترفين إلى هذه الأسواق للحفاظ على سيولة هذه الأسواق. فما تسمى الخيارات الثنائية، خصوصاً عندما يكون الرهان على سعر أحد الأصول المالية، غالباً ما يظل سعره غير عادل أو يتم التلاعب به وينظر إليه المنظمون بشكل سيئ.
ولكي تنطلق سوق التنبؤات، من المحتمل أن تفي ببعض المعايير: أن تكون عامة بما يكفي لجذب اهتمام واسع النطاق، ومهمة بما يكفي لتجذب المتعاملين، وغير عادية بما يكفي لعدم قابليتها للتكرار من خلال التداول في الأصول الحالية. ويجب أيضاً أن تكون النتائج محددة جيداً بما يكفي بحيث لا تكون تسوية العقد محل نزاع.
يبقى أن نرى عدد الأصول الجديدة التي يمكن أن تفي بكل هذه المعايير. أما شركة «كالشي»، فيبدو أنها لن تعرض عقوداً سواء في الانتخابات السياسية أو الرياضية. كما يمكنك أن تجد على موقعها الإلكتروني معلومات عن أسواق التنبؤ بمخاطر الطقس وتغير المناخ المستقبلية.
على الرغم من جميع العقبات التي تواجه أسواق التنبؤ، هناك سبب للتفاؤل بشأن قابليتها للبقاء على المدى الطويل. هناك كثير من الأصول والعقود المالية اليوم أكثر مما كانت عليه قبل بضعة عقود، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأسواق. فالإنترنت يقلل من تكاليف التداول والمراقبة، وهذا من شأنه أن يسهّل إنشاء أسواق التنبؤ.
إذا كانت هناك أسواق يمكنها التنبؤ بما إذا كانت أسواق التنبؤ ستنجح، فدعْني أتساءل: ما الاحتمالات… هل هي أعلى مما كانت عليه قبل عقد من الزمان؟ بالتأكيد هي كذلك، لكن هل هي مرتفعة بما يكفي لتقييم استثمار؟
تيلر كوين