لكل من كان يظن قبل عام من الآن أن وصول النفط إلى 110 دولارات هو ضرب من الخيال، أود أخبارهم بأن هذا ليس إلا البداية فقط. إذا كان هناك أمر اكتشفته خلال الأزمة الحالية، فهو أن أوروبا وباقي الاقتصادات القوية في آسيا، ليس أمامها الكثير من الخيارات.
إن تعطل منتج واحد مثل روسيا أو مقاطعة صادراته من النفط والغاز ليس بالأمر السهل، إذ إن أوروبا ليست كما تدعي، ليست قادرة على الاستغناء عن النفط والغاز، على الأقل خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة.
أمام هذا الأمر، ممكن أن نسأل لماذا لم تتخذ أوبك+ بالأمس قراراً يساعد في خفض أسعار النفط التي وصلت إلى مستويات حرجة للدول المستهلكة واكتفى التحالف بالإبقاء على زيادة الإنتاج حسب ما هو متفق عليه سابقاً؟
أولاً: الأزمة الحالية سياسية وليس على أوبك+ تحملها. ثانياً: الإبقاء على روسيا في الاتفاق أهم من إرضاء الدول الغربية، لأن الاتفاق يهدف إلى استقرار السوق وبدون روسيا لن يكون هناك اتفاق ولا استقرار.
ثالثاً: إذا ما ضحت أوبك+ بروسيا وانتهت الأزمة، هل هناك ضمان بأن الدول الغربية ستحفظ الجميل لباقي دول التحالف؟ لا أظن، ولهذا فإن الحفاظ على روسيا كشريك أفضل من الحفاظ على الدول الغربية التي تغير رأيها كل يوم.
رابعاً: حتى لو أرادت دول تحالف أوبك+ زيادة الإنتاج وتغطية النفط الروسي فما الضمان أن روسيا لن تحاربهم بكل أشكال الحروب مستقبلاً بعد انتهاء الأزمة مع أوكرانيا التي لا يعلم أحد إلى متى ستطول.
خامساً: حتى لو أرادت دول التحالف زيادة إنتاجها فمن هم المشترون الذين سيشترون نفطها؟ هل يتوقع أحد أن الصين ستتخلى عن حليفتها روسيا وتقبل بشراء النفط من الخليج لتعويض النفط الروسي؟ وهل يتمكن المنتجون في الخليج من الوصول إلى أعماق هذه الدول كما تصل روسيا من خلال خطوط الأنابيب؟!
ونعود إلى أسعار النفط ونسأل لماذا إذن لم ترتفع الأسعار قبل هذه الأزمة؟ أولاً إن أسعار النفط لم ترتفع بسبب أزمة روسيا وأوكرانيا، بل إن الأسعار أخذت منحى الصعود منذ العام الماضي، بعد أن اكتشف العالم حقيقة أساسيات السوق.
الطلب على النفط ينمو بشكل مستمر ولكن الإمدادات في العالم لا تنمو بهذا الشكل السريع، وعلى الأرجح لن تنمو بعد انتهاء فورة النفط الصخري الذي كان سبباً لخفض الأسعار خلال السنوات الماضية.
إن العالم يواجه أزمة طاقة بسبب السياسات غير الواقعية تجاه الوقود الأحفوري الذي تتخذها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
هذه الدول هي من دفعت الأسعار نحو ما هي عليه الآن، وإذا ما أضفنا إلى المعادلة انقطاع النفط الروسي فهذا سيزيد الأمر سوءاً.
ماذا سوف يكون مصير العالم عندما يصل السكان إلى 8 مليارات نسمة، ناهيكم عن 9 مليارات؟ نعم المصادر البديلة سوف تنمو وتستمر في الزيادة، ولكن الوقود الأحفوري سيظل مهماً، وفي ظل هذا العالم الذي فقد بوصلته السياسية وكذلك الطاقوية، لا يمكن التكهن سوى بمواصلة الأسعار الارتفاع.
يعتمد التحول من طاقة الهيدروكربون إلى الطاقات المستدامة على «معادن مؤثرة» في منتجات الطاقات المستدامة.
وتشير دراسة صادرة عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن» (مركز الدراسات) إلى أن توقعات «وكالة الطاقة الدولية» تشير إلى ازدياد استهلاك «المعادن المؤثرة» ستة أضعاف بحلول عام 2050.
وتشير دراسة «مركز الدراسات» إلى أن «المعادن المؤثرة» تضم أسواقاً متعددة منفصلة ومختلفة الواحدة عن الأخرى، خلافاً لأسواق النفط والغاز. فهناك مشكلة هيمنة الصراع الأميركي – الصيني على جيوسياسة «المعادن المؤثرة»، بالذات انعكاساته على دور شركات التعدين والسكان والمناطق حيث تتواجد هذه المعادن. من ثم، تقترح الدراسة أن الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع ظاهرة «المعادن المؤثرة» التي ستزداد أهميتها مستقبلاً.
تتوقع الدراسة حدوث اختلال في ميزان العرض والطلب لهذه المعادن بنهاية هذا العقد (2030)، وبالأخص لمعدني الكوبالت والليثيوم. فالولايات المتحدة مثلاً تستطيع أن تنتج في أراضيها كميات أكبر مما يجري إنتاجه حالياً هناك من هذين المعدنين.
تطرح الدراسة السؤال الآتي: ما الذي تستطيع الولايات المتحدة عمله إضافة بهذا الشأن أكثر مما تقوم به حالياً لإنتاج «المعادن المؤثرة»؟
على سبيل المثال، شملت موازنة الرئيس الأميركي جو بايدن مخصصات لدعم رسم خرائط، طال انتظارها، لإعطاء صورة أدق عن مناجم هذه المعادن للمساعدة في معرفة أماكن تواجدها وحجم احتياطياتها أميركياً. لكن تبقى هناك مشاكل في استخراج هذه المعادن في مناطق معينة في الولايات المتحدة، حيث أراضي قبائل السكان الأصليين (الهنود الحمر) التي تحكمها قوانين خاصة بها، ما يتطلب موافقة هذه القبائل لعمليات استخراج الثروات الطبيعية من أراضيها.
إلا أن تجارب شركات التعدين في أراضي السكان الأصليين حتى الآن غير مشجعة، وتكتنفها الكثير من الخلافات ما بين الشركات والسكان الأصليين.
من ثم، سيتطلب من الحكومة الفيدرالية التدخل من خلال وسطاء تختارهم لحل المشاكل، كما أنه من الممكن تشريع قوانين الإنتاج ذات مستويات عالية من الجودة لتقليص التلوث في عمل شركات التعدين للمشاريع التي تمولها الحكومة الفيدرالية.
لكن الأمر لا يتوقف على الولايات المتحدة فقط، فهو ذو أبعاد دولية حيث من المتوقع حصول خلافات عديدة في دول متعددة ما بين الحكومات وشركات التعدين، بالذات مدى التزام الشركات بالأنظمة الصارمة بتصفير الانبعاثات (الحياد الكربوني).
عالمياً، ستتطلب الزيادة في استهلاك الطاقات المستدامة في القطاع الكهربائي: السيارات الكهربائية والبطاريات ذات التخزين العالي، ارتفاعاً ليس فقط في الطلب على «المعادن المؤثرة»، بل أيضاً إعارة اهتمام أوسع بوسائل تعدين حديثة وذات مستويات عالية من الجودة في القطاع الكهربائي، تتناسب مع تصفير الانبعاثات.
كما سيتوجب الأمر تنظيم سلسلة عمليات التصدير لضمان تدفق هذه المعادن بسلاسة دون انقطاعات. وبما أن إطلاق نظام طاقة جديد سيترتب عليه آلاف العقود الجديدة بين المنتجين والمستهلكين، سيكون من الضروري المحافظة على أنظمة حوكمة دقيقة لتجنب الفساد المستشري بالإضافة إلى الالتزام بتصفير الانبعاثات. ومن المتوقع أن تشكل هذه الخطوات لنظام الطاقة الجديد أولويات السياسة الخارجية للدول.
تتشكل المعادن المؤثرة من: الكوبالت، الليثيوم، النيكل، المنغنيز والنحاس. ومناطق إنتاجها المهمة حالياً ونسب الإنتاج هي كالآتي: النحاس (تشيلي 40 في المائة من الإنتاج العالمي)، بيرو (11 في المائة في المرتبة الثانية)، الصين (9 في المائة في المرتبة الثالثة).
الليثيوم (أنتجت أستراليا نصف الإنتاج العالمي في عام 2020)، تشيلي (22 في المائة).
النيكل (إندونيسيا في المرتبة الأولى مع إنتاج 30 في المائة)، الفلبين (13 في المائة في المرتبة الثانية)، روسيا (11 في المائة).
وتحصل جمهورية كونغو الديمقراطية حالياً ريعاً أكثر من مبيعاتها للنحاس من الكوبالت. وتنتج كوبا الكوبالت والأرجنتين والبرازيل الليثيوم. ومن الجدير بالذكر، أن هذه الأرقام والنسب تعكس صورة الوقت الحاضر، إذ إنه من المتوقع مع ازدياد الطلب على هذه المعادن، أن تزداد معها الاكتشافات في دول عدة.