أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

مصير الدولار في لبنان بعد إطلاق منصّة «بلومبرغ»

 

بعد حديث حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري عن توجّه المصرف المركزي لتوفير منصّة تبادل جديدة عبر «بلومبرغ»، لتسهيل التداول وقلب الليرات إلى دولار، أسئلة كثيرة تُطرح عن دور المنصّة ومن سيكون المستفيد منها، هل ستكون لتمويل احتياطات الدولة من الدولار فقط ام ستكون مفتوحة للجميع؟ ولعلّ الأبرز مصير سعر الصرف في المرحلة المقبلة، وهل من متغيّرات مرتقبة في سعر دولار المصارف؟

للوهلة الاولى يعطي الحديث عن إنشاء منصّة تداول دولية «بلومبرغ» انطباعاً ايجابياً عن المرحلة المقبلة، لاسيما اذا كانت معطوفة على التصريحات المتلاحقة لحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، وتأكيداته المتكرّرة بأنّ لا رجوع عن قرار عدم تمويل الدولة اللبنانية بالليرة أو بالدولار، وأنّه لم يعد بالإمكان الاستمرار في السياسات السابقة، الى جانب طمأنة منصوري الى أنّ إعادة الأموال للمودعين ليست مستحيلة، ولا ينبغي أن ينتظر المودعون لفترة أكثر.

هل يمكن التعويل على كلام منصوري لفتح نافذة جديدة على الشق المالي، لا سيما في ظلّ التحذيرات المتكّررة من خطورة التأخّر في إقرار القوانين الإصلاحية، وخطورة الاستمرار في الاقتصاد النقدي الذي يعرّض لبنان لمخاطر عزله عن النظام المالي الدولي؟ ومتى بدأ التداول عبر منصّة «بلومبرغ»، اي سعر صرف سيعتمد السعر الرسمي أي 15 الفاً أم السعر الذي توقفت عنده منصّة صيرفة 85 الفاً؟ وفي حال توحيد سعر الصرف، ما سيكون مصير سعر دولار المصارف، هل يبقى عند 15 الفاً أم سيرتقي لسعر السوق الحقيقي؟ واساساً، ما هو سعر الصرف الحقيقي الذي سيكشف عنه التداول عبر «بلومبرغ»، هل يتجاوز الـ 100 الف أم سيتراجع الى ما دون سعر صيرفة؟ وهل سيعتمد سعر التداول في الموازنة وتسعير الانترنت والكهرباء؟…

في السياق، يقول رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ«الجمهورية»، انّ هدف المنّصة الجديدة هو إضفاء نوع من الشفافية على العرض والطلب، الى جانب تحديد سعر الدولار الحقيقي في السوق اللبناني من دون اي دعم وتدخّل من مصرف لبنان.

أضاف: «انّ «بلومبرغ» هو اسم عالمي. لذا انّ الارتباط فيها اساسي»، موضحاً أنّ «آلية عمل المنصّة ستصدر عن مصرف لبنان وليس عن «بلومبرغ» التي ستكون المضيف الحاضنة للمنصّة».

وشرح انّ مصرف لبنان سيعطي الإذن للمصارف والمؤسسات المالية كما الصيارفة المرخّصين للتدخّل بشكل مباشر على هذه المنصّة طلباً للدولار باسم زبائنهم، مرفقاً بمعلومات كافية عنهم. وأشار الى اّن أكثر طرف يطلب الدولار هم كبار المستوردين الذين سيأتون بالدولار النقدي بغرض الاستيراد. وأشار الى انّ طلب الدولار سيكون وفق سعره في السوق السوداء وليس وفق سعر مدعوم. لذا ما من حافز يشجّع بقية الأفراد للتداول عبر هذه المنّصة على عكس منصّة صيرفة التي جذبت كل الافراد للتداول عبرها، مستفيدين من فارق الدولار بينها وبين سعر السوق السوداء.

ورداً على سؤال، أكّد غبريل انّه لا يمكن معرفة سعر الدولار الحقيقي في السوق قبل البدء بعملية التداول، لأنّ هذه المّرة سيكون سعر الدولار مبنياً على العرض والطلب الذي يمثل فعلاً الطلب بالاقتصاد اللبناني وليس الطلب على الدولار بغية تحقيق ارباح او المضاربة.

تابع: «يجب ان يستبق التداول عبر «بلومبرغ» تعاون السلطات التنفيذية والتشريعية لتطبيق الاصلاحات للخروج من الأزمة. لكن، وبما انّ الجو اليوم غير مؤاتٍ لتمرير القوانين الاصلاحية التي ينتظر إقرارها انتخاب رئيس للجمهورية، لذا يبدو انّ منصة التداول ستنطلق قبل ذلك».

وعمّا اذا كان التداول عبر «بلومبرغ» هو ممر لتوحيد سعر الصرف أكان سعر الصرف الرسمي او سعر دولار المصارف او دولار الموازنة وغيرها، قال: «انّ توحيد سعر الصرف هو أحد الإجراءات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وعندما رفع المصرف المركزي سعر الصرف من 1500 ليرة الى 15 الفاً أصدر التعاميم اللازمة لتوحيد بعض الاسعار، مثل اسعار السحوبات من المصارف والاسعار الواردة في التعميمين 151 و 158 على 15 الفاً، لكنه لا يزال من المبكر الحديث عن توحيد سعر الصرف، رغم انّه هدف منشود على المدى الطويل. لذا، تبقى انّ اول خطوة مطلوبة اليوم هي اطلاق المنصّة ولننتظر لنرَ الاجراءات التي يمكن اتخاذها لمواكبة هذه الخطوة، وصولاً الى توحيد سعر الصرف، اذا كان الهدف السير بالبرنامج الاصلاحي».

ايفا ابي حيدر

الضرائب التخريبية V/S الضرائب الإنمائية

 

نذكّر ونكرّر ونشدّد على أن مشروع الموازنة المقترح من مجلس النواب يضمّ إصلاحات وهمية في العناوين، ومبني على ضرائب حيال شعب منهوب، وإقتصاد مهترئ. ينبغي التركيز على هدف الضرائب في البلدان المتمدّنة، مقارنة بين الضرائب التخريبية والتدميرية والضرائب الإنمائية والإنتاجية.

تأتي الضريبة عادة، من ضمن رؤية واستراتيجية، إقتصادية ومالية ونقدية، وتهدف مبدئياً إلى تمويل الكلفة التشغيلية، ودفع رواتب وأجور القطاع العام، والمتعاقدين في الدولة، وخصوصاً لتأمين إستثمارات بنّاءة تهدف إلى النمو وخلق فرص الوظائف.

إن أساس السياسة الضريبية تهدف إلى تأمين إحتياجات المواطنين، في الصحة والتعليم والأمن وتأمين البنى التحتية، وتحسين نسبة عيشهم، وتوفير حاجاتهم. بمعنى آخر إن الضريبة هي استثمار مع مردود لهذا التمويل. فإذا أعطى المواطنون بيد، يسترجعون أضعافاً من الخدمة والإنماء والفرص من جهة أخرى.

إذا نظرنا في مبدأ الضرائب في لبنان، نرى بوضوح أننا مرة أخرى نسير عكس القطار، فإذا كان هدف الدولة تمويل الكلفة التشغيلية، نتساءل عن أي كلفة تشغيلية عندما نلاحظ أن معظم إدارات الدولة مقفلة ومتوقفة عن العمل. أما إذا ركّزنا على رواتب وأجور القطاع العام فلا نستطيع أن ننسى أو نتناسى أن هناك قسماً كبيراً من موظفي القطاع العام يجهلون مكان عملهم، ويتقاضون رواتب من مصادر عدة، من دون أن ننسى أن جزءاً كبيراً من التوظيف عادة يكون سياسياً، حزبياً وطائفياً وليس إنمائياً.

من جهة أخرى ندرك تماماً أن قسماً من موظفي الدولة، لا يعيشون من رواتبهم، لكن يتّكلون أساساً على الرشاوى التي يتقاضونها أضعافاً مضاعفة بالدولار الفريش. أما إذا ركّزنا على البنى التحتية، فهناك أموال هائلة صُرفت، هُدرت وسُرقت على مشاريع وهمية، وعلى بنى تحتية متهالكة ومهترئة. أما الإستثمارات فإذا حصلت، فإنّ عمودها الفقري الفساد وتوزيع المشاريع لأهداف خاصة بعيداً عن الإنماء. أما فرص العمل فهدفها إذا خُلقت، يكون عادة إنتخابياً وليس إنتاجياً.

من جهة ثالثة، إذا ركزنا على مَن يدفع الضرائب ولمن: مَن يلاحق بالضرائب هو شعب منهوب، ومذلول ومنكوب، ومسروق من الذي يُطالبه ذاته. فهذا المواطن يُلاحق بضرائب عشوائية من دون أي مردود، ومن دون أي خدمة بالحد الأدنى، أكانت أساسية أو إنسانية: فلا طبابة، ولا تعليم، ولا كهرباء، وطرقات، ولا مياه، ولا إتصالات ولا بنى تحتية، وحتى يمكن أن نصل إلى لا أمن. أما الذين يطالبون بالضرائب فهم المسؤولون المباشرون عن أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية ومالية ونقدية في تاريخ العالم، وهم المسؤولون عن أكبر عملية نهب في الكرة الأرضية، وها هم اليوم يلجأون إلى ضرائب إضافية لتمويل فشلهم وتمويل عجزهم ولا سيما تمويل خساراتهم.

فها هي البدعة الجديدة، بأن الضرائب ستُستعمل لتمويل الخسائر وتسديد العجز. نذكّر ونشدد على أن الخسارة وقعت، من سوء إدارتهم ومن فسادهم ومن سرقتهم، وإستُعملت لتمويل أهدافهم السياسية وحملاتهم الإنتخابية وبناء قصورهم. أما العجز فوقع من وراء سوء إدارتهم أيضاً، وإن أساساً أي عجز لن يُسدّد بالضرائب لكن بالإنماء والإستثمار وإستقطاب المستثمرين والرياديين والمبتكرين، وليس تهريبهم وطعنهم يوماً بعد يوم.

أخيراً إنه من المعروف في لبنان أنّ أقل من 50% من الشعب اللبناني يسدّد الضرائب، وأقل من 50% يُجبى من الدولة. وأي رفع للضرائب يعني زيادة التهريب والتبييض والترويج وتحفيز الإقتصاد الأسود، وطعن الإقتصاد الأبيض. بمعنى آخر إنّ زيادة الضرائب عشوائياً، تضرب النمو الحقيقي، وتزيد النمو التخريبي، ولا تزيد مداخيل الدولة لا بل تُنقصها.

في المحصّلة، إننا في لبنان بعيدون عن مبدأ الضرائب الإنتاجية والإستثمارية لا بل إننا ملوك الضرائب التخريبية والتدميرية، متّبعين الحفر في الخندق العميق ذاته من جهة القعر وليس من جهة النور.

 

د. فؤاد زمكحل

الدولار في تشرين… قصة مختلفة

لا يمكن الحكم على الوضع المالي والاقتصادي من خلال ما هو سائد اليوم. في هذه الحقبة، هناك استقرار نقدي، ونشاط اقتصادي ملحوظ في اكثر من قطاع، بما قد يُرسل اشارات مُضلّلة حول حقيقة الوضع. وما ينتظر البلد في المرحلة المقبلة، قد يكون مغايراً لما هو قائم اليوم.

شكّل كلام حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري، الحدث الأبرز في الايام القليلة الماضية. فهل ينبغي ان يطمئن اللبنانيون حيال ما سمعوه من منصوري، ام العكس صحيح؟

ما قاله منصوري يمكن ان يُقسّم الى عنوانين عريضين:

أولاً – مصرف لبنان سيقوم بما ينصّ عليه القانون، ولن يتمّ المسّ بما تبقى من اموال المودعين في الاحتياطي الالزامي، ولن يتمّ إقراض أو تمويل الدولة من هذه الاموال تحت اي ظرف من الظروف.

ثانياً – ان الوضع على المدى المتوسط ليس مطمئناً، خصوصا في ما يتعلق بسعر صرف الليرة التي قد لا تبقى مستقرة في المرحلة المقبلة.

انطلاقاً من هذين العنوانين، يمكن تشريح موقف منصوري. من جهة، ينبغي ان يطمئن الناس الى ان النهج السابق الذي كان متّبعاً في مصرف لبنان قد توقف، وبالتالي، لن يتمّ تعميق الفجوة المالية وانفاق ما تبقى من حقوق الناس في المركزي. ومن جهة ثانية، من حق اللبنانيين ان يشعروا بالقلق، لأن كل الضغط الذي وضعه منصوري ونواب الحاكم على السلطة السياسية بشقيها التنفيذي والتشريعي، للبدء في اتخاذ الاجراءات المطلوبة للسير في اتجاه بدء خطة التعافي، والخروج من النفق، لم يتم تنفيذ أي منها حتى الآن. ولا توحي المؤشرات بأن ذلك سيحصل في الايام القليلة المقبلة.

واذا كان منصوري قلقاً حيال تمدُّد الاقتصاد النقدي (cash economy)، والتداعيات التي قد يؤدي اليها لاحقاً، يبدو رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي اكثر قلقاً من منصوري حيال هذا الموضوع. وينقل زوار ميقاتي عنه، انه يتحدث بشكل مستمر عن مخاطر استمرار هذا الوضع. ويكشف ميقاتي ان لبنان استورد حتى الان بنحو 16 مليار دولار، نصفها تقريبا بالدفع النقدي. اي ان المستورد يودع في المصرف المبلغ المطلوب نقداً، لفتح اعتماد وتسديد فاتورة الاستيراد.

ويتساءل ميقاتي امام زواره، ألا يعرف من لا يزال يعرقل إقرار القوانين انّ الغرب يراقب ما يجري على مستوى الاقتصاد النقدي بريبة. ورغم ان الدول الغربية المعنية لم تبادر الى اتخاذ اي اجراء في حق لبنان حتى الان، هل نستطيع ان نعرف متى تقرر هذه الدول شدّ الحبل، ومعاقبتنا؟ ألا يشكّل اجراء من هذا النوع كارثة اضافية في حق اللبنانيين؟ ألا يتحمّل من يعرقل الاجراءات المطلوبة للتخفيف من حجم الاقتصاد النقدي، والاتجاه نحو تطبيع الوضع المالي، مسؤولية ما قد يحصل على هذا الصعيد؟

وينقل زوار ميقاتي عنه أيضاً، انه غير مرتاح للتعديلات التي تمّ إدخالها على مشروع قانون الكابيتال كونترول الذي أرسلته الحكومة الى المجلس النيابي، اذ شملت هذه التعديلات المسّ بالفريش دولار. وهذه نقطة خطيرة، كما يراها ميقاتي، وستحرم البلد من تدفّق الدولارات الفريش، اذ كيف سيُدخل اي مستثمر او مواطن دولارات الى القطاع المصرفي، اذا كان يعلم انه لن يسمح له بإخراجها. وما سيحصل في هذه الحالة، تشجيع بقاء الدولارات خارج المصارف، بما يعني توسيع سوق الاقتصاد النقدي بدلاً من تقليصه، وبالتالي زيادة المخاطر على البلد.

هذا القلق الذي يشعر به ميقاتي تقابله مخاوف مبرّرة حيال ما قد يحصل في الاشهر القليلة المقبلة. واذا اعتبرنا ان مصرف لبنان سيثبت على سياسته الحالية، واذا ما اعتبرنا ان السلطة لن تغيّر نهجها، ولن تكون هناك اجراءات اصلاحية في المرحلة المقبلة، كيف سيكون المشهد في هذه الحالة؟

من الواضح انّ وفرة الدولارات في هذه الحقبة، والناتجة عن ضخ الدولارات منذ منتصف آذار الماضي من قبل مصرف لبنان، لا سيما في شهر تموز حين تمّ ضخ كميات اضافية في السوق يقول البعض انها وصلت الى حوالى 400 مليون دولار، والناتجة كذلك عن الموسم السياحي الذي ساهم في زيادة المعروض من العملة الخضراء في السوق، كل ذلك سهّل ثبات سعر الصرف بعد تجميد العمل بـ»صيرفة». كما سمح لمصرف لبنان بجمع كمية من الدولارات لتأمين الاولويات التي تحدث عنها منصوري، (رواتب موظفي القطاع العام ومستلزمات الجيش والقوى الامنية). ولكن الوضع سيكون مختلفاً بدءاً من تشرين الاول المقبل، حين سيكون السوق قد هضم الفائض الدولاري، وتوقف التدفق من السياحة، وكذلك قد لا يتم ضخ اي دولار عبر «صيرفة»، على اعتبار ان شرط الضخ عبر هذه المنصة هو عدم تعرّض المركزي لخسائر. وفي هذه الحالة، من المرجّح ان يضطرب سوق الصرف، ونعود الى نهج الارتفاع غير المضبوط في سعر العملة الخضراء. وما لا يعرفه الجميع حتى الان، انّ حقوق السحب الخاصة (SDR) التي كشف بيان المركزي قبل 10 أيام انها تدنّت الى 125 مليون دولار، من مليار و138 مليون دولار، عادت وتراجعت اليوم الى 78 مليون دولار بعدما استخدمت الدولة من هذه الحقوق مبلغ 47 مليون دولار في 21 آب الجاري. وبالتالي، قد لا يكون مستبعداً أن تلجأ «الدولة» الى تكبير الكتلة النقدية بالليرة لدفع مستحقات، او تسديد عجز، بما سيزيد المخاطر على سعر الصرف، وقد يعرّض الليرة الى نكسة تفوق في تداعياتها، ما حصل حتى الآن.

أنطوان فرح

لهذه الأسباب… قانون الكابيتال كونترول “يفتقد” الى ما يُراد منه

لقد قامت الحكومة اللبنانية بإعداد قانون لوضع ضوابط على التحويلات والسحوبات (قانون الكابيتال كونترول)، ولكن يبدو أنّ هذا القانون يشوبه عدّة ثغرات. صدرت مسودة القانون في 7/4/2022 بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الأزمة، مما ينفي الحاجة له بعد ان حولت رؤوس أموال ضخمة الى الخارج قبل هذا التاريخ.

أظهرت دراسات عديدة أنّ قوانين ضبط تدفّق رؤوس الأموال إلى الخارج وإلى الداخل هي غير فعّالة، وأبدت أنها لا تعود بالفائدة على الاقتصاد. ومن الضروري إيضاح أن القيود والقوانين ليست هي الإجراء الصحيح خلال الأزمات ولن تكون البديل عن سياسات الإصلاح. ومن أهمّ الاثار السلبية للقيود على خروج رؤوس الأموال هو توقف دخول رؤوس الأموال حيث تكون الدول بأمسّ الحاجة اليها خاصة خلال الازمات، وبالتالي يكون الأثر الكلي سلبياً على الاقتصاد.

الجدير بالذكر ان القانون المعدّ من قبل الحكومة لم يُحدّد الهدف منه، ولماذا تمّ إعداده بعد تأخر طويل. فالقانون لا يعيد السيولة للاقتصاد كما افُترض في الاسباب الموجبة للقانون، بل سيكون أثره مغايراً لتوفّر السيولة كونه يحد من السحب من الودائع حتى لإجراء التبادل التجاري الداخلي. كما ان القيود المفترضة لا تؤدي الى توقف تدهور سعر الصرف كما يزعم القانون. انّ الانضباط المالي وكذلك النقدي هما العاملان الاساسيان في وقف تدهور سعر العملة الوطنية. فالضوابط المقترحة لا تمنع الحكومة من الاستمرار في الاسراف في الانفاق الذي ينتج عنه المزيد من العجز المالي وضَخ السيولة.

إن القانون المطروح لا يضع القيود على رؤوس الأموال فقط، بل على جميع المعاملات لميزان المدفوعات، خاصة معاملات الحساب الجاري ولا بد من أن يكون أثرها سلبياً لأنها تُعيق التجارة الخارجية وهي عصب الاقتصاد اللبناني.

فيما يخص إنشاء لجنة خاصة (المادة الثالثة من القانون) يُحدّد آلية عملها مجلس الوزراء، فنحن اليوم بدون حكومة، وحكومة تصريف الأعمال لا يحقّ لها إصدار النصوص اللازمة التطبيقية لتضع القانون موضع التنفيذ. يجب أن تكون اللجنة الخاصة مستقلة عن الحكومة التي ساهمت في تفاقم الأزمة.

أما المادة الرابعة من القانون فهي تُميّز بين الأموال «الجديدة» والأموال «القديمة» التي أودعت قبل 17 تشرين الثاني 2019. الّا انّ هذا التمييز غير شرعي ويُخالف المادة ١٥ من الدستور التي تُحافظ على جميع الأملاك المالية والحقيقية بغضّ النظر عن تاريخ الملكية. كما حددت المادة الرابعة من القانون أوّليات السحوبات والاستيراد، فكيف تقرّر اللجنة ما هي هذه الأولويات؟ لبنان يستورد ما يقارب ٥ آلاف سلعة، فهل تعلم اللجنة ما هي كامل حاجة السوق اللبناني؟ بالطبع لا، وأن هذا التحديد سيكون إستنسابياً.

تشير المادة الخامسة الى انّ سعر الصرف سيعتمد على منصة صيرفة فقط، فهل هذا يعني أن سعر الصرف أصبح مثبّتاً على أساس صيرفة وتخلّينا عن السعر الحر الذي هو ركيزة اساسية للاقتصاد؟ إن هذا الإجراء سيسمح لإنشاء سوق سوداء (موازية) حقيقية للصرف. فما سيكون مصير سعر الصرف في السوق الموازي، ومصير هدف توحيد هو تحريره اللذين يعتبران من أهم الإصلاحات لتعافي الاقتصاد وانهاء خدعة التمييز بين الدولار الجديد والقديم؟ كما تمنع هذه المادة عمليات الصرف من عملة وطنية إلى عملة أجنبية إلّا ضمن شروط يحددها القانون. فهل هذا يعني توقّف السوق الموازي وسيمنع المواطن من شراء الدولار أو العملات الأجنبية الأخرى؟ اضافة الى صعوبة تطبيق هذا القانون، فإنه لن يرد الثقة بالليرة اللبنانية.

تسمح المادة السادسة بسحب مبلغ $ 1000 أميركي شهرياً بالعملة الاجنبية او العملة الوطنية من رصيد كل وديعة، مع العلم انّ عائلات عديدة تحتاج مبالغ أكبر لتغطية نفقاتها الشهرية. ولم يُحدد سعر الصرف لهذه المقايضة. ان تطبيق هذا القيد سوف يؤدي إلى ركود اقتصادي عميق. امّا المَبالغ مِن سَحب ألف دولار شهرياً

فستصبح دولارات جديدة ويحقّ لصاحبها أن يحوّلها إلى الخارج، وهذا يتعارض مع أهداف هذا القانون. اضافة الى انه لا تتوفّر هذه المبالغ للمصارف.

اما وفق المادة السابعة فهي تفرض ان تتمّ المدفوعات بين المقيمين وغير المقيمين بالليرة اللبنانية، فهذا يعني أنّ السياحة وغيرها من الخدمات لغير المقيمين يجب أن تُدفع بالليرة فقط، فيتوجّب على غير المقيم أن يشتري الليرة أولاً. هكذا إجراء سيكون له أثر سلبي على التبادل بالسلع والخدمات مع الخارج والاستثمار المباشر ايضا، كونه يقيد استعمال بطاقات الائتمان والمدفوعات المباشرة.

تشترط المادة الثامنة المتعلقة بإعادة الاموال المتأتية من الصادرات «ان يقوم المصدر بإعادة الجزء المتعلق بمبلغ التحويل والمموّل بالعملة الاجنبية مضافاً اليه مبلغ 5 % من حاصل أعمال التصدير الى المصرف المعني في لبنان»، فهذا يعني انّ على المصدر ان يتخلى عن إيراداته من عائدات صادراته بالعملة الأجنبية ما يؤدي الى اعاقة التصدير.

كما تحمي المادة الثانية عشرة المصارف من الملاحقات القضائية، وهذا بحد ذاته يوجّه ضربة إضافية للقضاء الذي يعتريه الشلل الكامل، ويصبح هذا القانون فوق القضاء فلا بد ان يكون عاملا اضافيا في فقدان الثقة بالدولة.

الخلاصة: إنّ هذا القانون تشوبه ثغرات عديدة وهو في واقع الأمر غير ضروري ولا يُعيد الثقة للمصارف اللبنانية ولن يقمع خروج رؤوس الأموال وإنّما بالعكس يعطي المزيد من الحوافز لخروج رؤوس الأموال. انّ الاصلاح لا ينجح بأسلوب القمع وإنما بالسياسات الصحيحة التي تُرغب المواطن اللبناني والأجنبي بالاستثمار في لبنان.

 

الدكتور منير راشد

موازنة 2023 التخريبية والإصلاحات الوهمية؟

لا شك في أنّ موازنة 2023، وهي قيد الدرس في الوقت الراهن، تُبرز بعض الإصلاحات الوهميّة في عناوينها، لكن لسوء الحظ مرّة أخرى، نقول إنها موازنة تخريبية في الداخل، بل وتتابع المسلسل التخريبي المالي والنقدي والإقتصادي والإجتماعي، وهو الوضع القائم في البلاد منذ زمن بعيد. فماذا تتضمّن هذه الموازنة؟

جاءت موازنة 2023 بعد مرور تسعة أشهر على السنة الجارية، وبتنا قريبين من نهايتها، وهذا يعني أنها موازنة شكلية، ورفع عتب تجاه صندوق النقد الدولي، وكأن الأخير يسكن في كوكب آخر بعيد عن الأرض ولا يعلم ماذا يدور في كواليسنا. علماً أن لدى الصندوق مكتباً إقليمياً في لبنان، منذ مدة بعيدة، بحيث يُلاحق الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في لبنان بدقة وتجرُّد.

كما أن هذه الموازنة المطروحة، هي موازنة ضريبية بامتياز، والسؤال الذي يطرح نفسه: هذه الضرائب المفروضة على مَن؟ هل هي ضرائب على اقتصاد مهترئ؟ أو على شعب منهوب ومنكوب ومذلول؟ ثم مَن يفرض الضرائب؟ أليست هي السلطة المسؤولة المباشرة وغير المباشرة عن أكبر عملية نهب في تاريخ العالم؟

وإذا أخذنا في الإعتبار الضرائب المفروضة في موازنة 2022، وبملاحظة دقيقة لجباية هذه الضرائب، نجد أنها أقل من 15% إلى 30%. لذا، فإنّ رفع نسب الضرائب عادة يكون شكلياً، لكن في النهاية إن الجباية تكون على نحو أقل من 50 إلى 60% وفق المطلوب.

كما أن الضرائب المباشرة وغير المباشرة، المذكورة في المسوّدة، لا تُطبّق، وإذا طُبّقت لا تأخذ بالإعتبار الوضع الراهن في لبنان. وحتى لو طُبّقت، فإننا نعلم بحسب خبرتنا والتاريخ يشهد، بأنه كلّما زادت الضرائب، كلّما نقص مردود الدولة، لأنه في مقابل زيادة الضرائب، يرتفع منسوب التهريب، وتمويل الإرهاب، وتبييض الأموال، ولا تعود هذه كلّها إلى مداخيل الدولة.

إذاً، ما نلاحظه اليوم هو موازنة شكلية، وهميّة، لن تُطبّق، وإذا طُبقت فإنها ستُطبّق على الإقتصاد الأبيض، ومَن يختار الحوكمة الرشيدة والشفافية.

كذلك، تجدر الإشارة إلى أن موازنة 2023 ترتكز على سعر منصّة صيرفة. علماً أنه في الـ 839 صفحة التي تضمّنتها الموازنة، لم يُذكر فيها كلمة «صيرفة». لذا، فإن هذه الموازنة مبنيّة على منصّة وهميّة، وهي معرّضة للتوقف عن العمل تدريجاً.

وإذا ما قارنّا ما بين موازنتي 2022 و2023، فإن واضعي الموازنة يوهمون القارئ لها بأن المداخيل زادت بنسبة 4.8 أضعاف، أي بالأحرى 5 أضعاف، لكن نظرياً، تُفيد الحقيقة بأن الموازنة الحالية لن تجد أحداً يُطبّقها، وإذا طُبّقت فإنها تُطبّق بالطريقة السوداوية وغير الشفّافة.

وعليه، يُعطى لوزير المال من خلال هذه الموازنة، الصلاحية الكاملة، على صعيد تغيير الشطور والتنازلات، إذا لزم الأمر. وهذا أمر مهم، بأن صلاحية معيّنة تُسحب من مجلس الوزراء وتُحوّل إلى وزير المال، وهذا يحصل للمرة الأولى، ما يدلّ على تغيير في القوانين والأعراف، والتي تُخالف مبدأ الشفافية والحوكمة في لبنان.

في المحصّلة، مرّة أخرى، نجد أنفنسنا أننا لم نتعلّم شيئاً من خلال المنصّات التنفيذية والدستورية، بعيداً عن الإستراتيجية والرؤية الواضحة، كأن شيئاً لم يحصل في لبنان، وكأننا نسينا أن أموال المودعين قد نُهبت، وأننا نُواجه أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، فيما أداء المسؤولين لا يزال مستمراً على هذا النحو الرديء والسيئ. علماً أنّ الحكومة الحالية تطلب الإستدانة من «المركزي» من دون أي جدولة لإعادة الهيكلة لاقتصادنا المهترئ، وغيرها من الإصلاحات الضرورية. إنها موازنة الهروب إلى الأمام لحفظ ماء الوجه حيال صندوق النقد الدولي، الذي من غير الممكن أن يقع في أفخاخها، فيما لا نزال نحفر في النفق العميق عينه، من دون أي إصلاحات تُذكر.

 

د. فؤاد زمكحل

عندما يكشف منصوري الــمستور: 800 مليون دولار كانت مُخبّأة

 

ركزّت معظم ردود الفعل على البيان التوضيحي الذي أصدره مصرف لبنان حول الموجودات والمطلوبات، على مسألة الشفافية غير المألوفة سابقاً، وعلى المبلغ المتبقّي من الاحتياطي الالزامي. لكن هناك نقاطاً أخرى ينبغي التوقف عندها، من ضمنها تصحيح العلاقة بين «الدولة» ومصرفها المركزي.

عندما يَسأل زوّار احد نواب حاكم مصرف لبنان، عن سر اختفاء الـ600 مليون دولار من الاحتياطي الالزامي ومن ثم ظهور المبلغ بشكل مفاجئ في النصف الثاني من شهر تموز، يبتسم ويرد على السؤال بسؤال: 600 مليون دولار فقط؟ اعتقد انّ المبلغ اكبر بقليل من ذلك.

ورغم ان نائب الحاكم يتحفّظ عن الشرح بوضوح عن القطبة المخفية في هذا الموضوع، الا أنه يؤكد انّ إخفاء المبلغ كان مقصودا، وكان الامر معروفاً من قبل نواب الحاكم، أو من قبل بعضهم على الاقل، وانهم لفتوا سلامة في حينه الى هذه الثغرة، لكنه تجاهل الامر.

وبعد صدور البيان التوضيحي المفصّل عن الحاكم بالانابة وسيم منصوري في شأن الوضع المالي الحالي في مصرف لبنان، اتّضَح ان كلام نائب الحاكم دقيق لجهة حجم المبلغ الذي كان ضائعا، ومن ثم ظهر فجأة في اليوم الاخير من ولاية سلامة. والـ600 مليون دولار التي ذكرها بيان تموز، زاد عليها بيان منصوري في آب حوالى 200 مليون دولار، ليصبح اجمالي المبلغ الذي كان غير مَرئي في البيانات المالية لمصرف لبنان حوالى 800 مليون دولار. وبما ان الادارة الجديدة للمصرف لم تنفق اي دولار اضافي بعد تسلّمها مهام الحاكمية، فهذا يعني انّ الـ200 مليون الاضافية هي ايضا من موروثات العهد السابق.

واذا أخذنا في الاعتبار ما قاله نائب الحاكم لزواره في شأن معرفته المسبقة بوجود الثغرة، فهذا يرجّح نظرية ان هذه الاموال (800 مليون دولار) كانت قد أُنفقت، لكنها أُخفيت في القيود من خلال الاعمال المحاسبية. وبالتالي، يصبح من المرجّح ان قسماً كبيراً منها استُخدم لتغطية الخسائر التي كان يتكبدها مصرف لبنان من خلال منصة صيرفة، للادعاء بأن تثبيت سعر صرف الدولار لم يكن مكلفاً، وهذا الامر تبين اليوم انه ادعاء كاذب. واذا احتسبنا الارقام منذ نيسان، بعدما باشَر مصرف لبنان قرار تثبيت الدولار عبر صيرفة، يتبين ان خسائر المركزي في 4 اشهر بلغت حوالى مليار دولار سُحبت من اموال المودعين في المصرف.

ويردّد المصدر نفسه (نائب الحاكم) ان الادارة الجديدة للمركزي وضعت صخرة بينها وبين السلطة السياسية. وهو يقصد بالطبع القرار المُتخذ بعدم تمويل الدولة من الاحتياطي الالزامي، سوى ضمن الشروط التي وضعتها الحاكمية بالانابة بقرار يحظى بإجماع نواب الحاكم. لكن هذه الصخرة لا تكفي للاطمئنان، لأن المطلوب في هذه الحقبة تعاون كل الجهات لحلحلة الأزمات الطارئة بانتظار الوصول الى الحل الشامل، والذي يتماهى مع عمق أزمة نظامية (systemic crisis) مثل التي يعيشها البلد منذ حوالى 4 سنوات.

وعلى سبيل المثال، واذا افترضنا ان حاكمية المركزي بالانابة، حافظت على هذه الصخرة بينها وبين السلطة، ومن ثم عمدت السلطة، ومثل هذا الامر وارد بقوة، الى مواصلة الانفاق عبر ضخّ المزيد من الليرات، سواء لتسديد المطلوبات بواسطة الليرة، أو لشراء دولارات من السوق، ماذا ستكون النتيجة؟

تتصرف الادارة الجديدة للمركزي حيال هذا الاحتمال على اساس ان لا علاقة لها، واذا انهارت الليرة دراماتيكياً بسبب تكبير الكتلة النقدية بالليرة بقرار من السلطة السياسية، فهي تتحمّل المسؤولية.

لكن المشكلة ليست في تحديد المسؤوليات فقط، بل في النتائج التي سيتحملها الاقتصاد والبلد والمواطن. وبالتالي، ليس المطلوب ان تعود الادارة الجديدة عن قرار وقف تمويل الدولة من اموال المودعين المتبقية في المركزي، بل انّ الوضع الاستثنائي القائم يحتّم المزيد من التعاون بين الدولة ومصرفها المركزي. واذا كان مصرف لبنان، هو مصرف القطاع العام، وهو المصرف المسؤول عن تأمين العملة الاجنبية للدولة، عندما تتأمّن التغطية بالعملة الوطنية، فمن باب الاولى ان تتم «المصالحة» بين «الدولة» ومصرفها المركزي، لتمرير هذه الحقبة الحَرجة في تاريخ البلد. العلاقة كما كانت بالامس غير سليمة، لأن الدولة تصرفت وكأن صندوق مصرف لبنان وصندوقها المالي واحد، وتستطيع ان تغرف من هذا الصندوق قدر ما تشاء. ولكن المفارقة ان الدولة ومصرفها المركزي، وعند اول مفترق، تبادلا الاتهامات، وصارت الحكومة تدّعي (ورقة سمير ضاهر) انّ المركزي هو من أنفق القسم الاكبر من الاموال التي تحولت الى خسائر، في حين ان المركزي يرد بأن الدولة هي من انفق القسم الاكبر (تصريحات وارقام سلامة). وفي النتيجة، يتفق الفريقان على انهما الجهة التي انفقت الاموال. وبالتالي، المطلوب اليوم ان تتصالح الدولة مع مصرفها، وان يتم التعاون وفق قانون النقد والتسليف، ووفق متطلبات المرحلة الاستثنائية، على اجراءات تساعد في ادارة الأزمة، بانتظار البدء في الحل الشامل، الذي أدّى تأخيره الى الكارثة المالية التي يعانيها البلد اليوم.

 

أنطوان فرح

التدقيق الجنائي أكد المؤكد لا اكثر ولا أقل

يحتاج مضمون تقرير التدقيق الجنائي المكوّن من 332 صفحة، الى قراءة هادئة ومحترفة لتحليل المعلومات والمعطيات الواردة فيه، لكنّ العناوين العريضة واضحة من حيث المبدأ، وتُفيد بأنّ رياض سلامة ارتكب مخالفات، وبعض السياسيين استفادوا من أموال الصندوق الأسود، وبأنّ «الدولة» كانت المستفيد الاكبر، وهي مَن هدر المليارات.

تلهّى البعض في تفاصيل رقمية وردت في مضمون تقرير التدقيق الجنائي الذي أجرته شركة «مارسال/ألفاريز»، لإطلاق المواقف والتحليلات، وصولاً الى استنتاج مفاده انّ حاكم مصرف لبنان السابق يقف وراء الهدر وسرقة الاموال، بما أدّى الى الانهيار، وفقدان المودعين لأموالهم. في المقابل، استفادت جماهير الاحزاب من التقرير للتصويب في اتجاه خصومها. بدأ «العوني» يَتباهى بأنّ سياسته أدّت الى كشف الحقائق التي تُظهر ان سلامة هَدرَ مال المودعين. وراح «القواتي» يصوّب سهامه في اتجاه العوني من زاوية ان الكهرباء، التي كانت في عهدة التيار الوطني الحر، استهلكت لوحدها حوالى 24 مليار دولار في 6 سنوات. وبدأ خصوم تيار المستقبل يغمزون من قناة ورود اسم النائب بهية الحريري في لائحة المستفيدين من اموال المركزي، كذلك اشتعلت جبهات الشتائم والاتهامات على خلفية ورود عناوين المهرجانات التي استفادت من دعم مالي من المركزي، وهي مهرجانات مرتبطة بأسماء زوجات سياسيين.

كل هذه «الحروب» الصغيرة لا تضع الاصبع على الجرح، لأن مثل هذه «المخالفات» التي سمحت بتسرّب اموال لدعم مهرجانات او مؤسسات او حتى اشخاص، ليست بيت القصيد، وهي حتماً ليست السبب الذي أدّى الى الانهيار والافلاس وهدر اموال الناس.

في الواقع، يمكن الاستنتاج، ومن خلال العناوين العريضة للتقرير، الحقائق التالية:

اولاً – تأكيد ما أكده تقرير صندوق النقد الدولي بنسخته الانكليزية الموسّعة، والذي اشار الى انه حتى العام 2017، لم تكن هناك فجوة مالية، وكانت اموال المودعين مؤمّنة بالكامل تقريبا، في القطاع المالي اللبناني. (مصرف لبنان والمصارف). في حين ان تقرير التدقيق الجنائي اشار الى فائض بالعملات في مصرف لبنان حتى العام 2015 بلغ في حينه حوالى 7,2 مليارات دولار. وهذا يعني ان فجوة الـ73 مليار دولار نشأت في السنوات الاخيرة، لا سيما ان التدقيق الجنائي يحدّد الخسائر التي تراكمت حتى اوائل العام 2020 فقط، وقد اشار الى انها وصلت الى 50,7 مليار دولار.

ثانياً – ان ادارة مصرف لبنان كانت أحادية (solo) ومحصورة برياض سلامة، وان الرجل ارتكب مخالفات ليس أخطرها تقديم الدعم او القروض المدعومة لجمعيات او مؤسسات او مهرجانات، بل ما يتعلق بالاستفادة الشخصية المحتملة، من خلال شركة «فوري»، وهذا الملف موضع تحقيقات في لبنان واوروبا، ولم تصدر الأحكام النهائية في هذه القضية حتى اللحظة.

ثالثاً – انّ «الدولة» بمفهومها الواسع هي المسؤولة عن الانهيار، وهي المستفيد الاول من اموال المودعين، كما انها الهادِر الاكبر والاساسي لهذه الاموال. سواء من خلال قطاع الكهرباء، او من خلال سياسة الدعم، او من خلال اقتناص الاموال من مصرف لبنان عبر «إلزامه» بالاكتتاب في سندات اليوروبوندز، او حتى من خلال تثبيت سعر صرف الليرة، واستعمال اموال المودعين من اجل هذا التثبيت.

رابعاً – الهندسات المالية كانت لها حصة كبيرة في اسباب الانهيار المالي، ولكن المفارقة ان هذا الامر كان معروفاً وواضحاً، وكانت «الدولة» تعرف في حينه ان سلامة يشتري لها الوقت بسعر باهظ، ولم يرف لها جفن، بل تابعت في سياسة تبذير هذه الاموال، من خلال سلسلة الرتب والرواتب، الانفاق الاضافي الذي غطّاه مصرف لبنان من امواله (اموال المودعين). وكان معروفاً اكثر ان الهندسات المالية طريقة ابتدَعها سلامة لجذب كل اموال المصارف المودعة في الخارج الى خزائنه، وهذا ما حصل فعلاً. والمشكلة هنا ايضا، ان اسعار الفوائد التي دفعها سلامة لم تكن وحدها الحافز الذي دفعَ المصارف الى سحب الدولارات من المصارف المراسلة وايداعها مصرف لبنان، بل ان المعضلة كانت في ان اي مصرف لا يشارك في هذه العمليات المالية، لا يستطيع دفع فوائد مرتفعة لمودعيه، كما بقية المصارف المشاركة في الهندسات. وبالتالي، كان سيصبح بعد فترة خارج السوق، وقد يتعرّض للافلاس.

التدقيق الجنائي اكد المؤكد، لا اكثر ولا أقل، وهو ان الدولة هي صاحبة «الفضل» الاول والاساسي في إفلاس البلد، وهناك من استفاد من هذه الفوضى، للحصول على حصة ولو زهيدة نسبياً من هذه الكعكة السائبة.

أنطوان فرح

أهمية صناديق الثروة السيادية لاقتصاد الدولة

تعدّ صناديق الثروة السيادية هياكل استثمارية تهدف إلى تنويع مصادر دخل الدولة وتحقيق الاستدامة المالية على المدى الطويل. من خلال تخزين جزء من إيرادات النفط في هذه الصناديق، يمكن للدولة تحقيق توازن بين استهلاك الثروة والاستثمار الذكي لضمان الازدهار المُستدام. وبالإضافة إلى ذلك، تمثل هذه الصناديق وسيلة للحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة من خلال توجيه الاستثمارات نحو مشاريع تنموية مستدامة.

من المهم أيضاً أن نسلّط الضوء على الجانب الاقتصادي لهذه الصناديق. فعندما تكون الدولة معرّضة لمشكلات الفساد والرشوة، يمكن أن يساهم تأسيس صندوق الثروة السيادي في تقليل تلك المخاطر. حيث تعمل هذه الصناديق كجهة مستقلة تدير الأموال بشفافية ومسؤولية، مما يقلل من فرص التلاعب والفساد في إدارة الموارد الوطنية.

علاوة على ذلك، تساهم صناديق الثروة السيادية في تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي. فعندما تتم إدارة الثروة بشكل جيد واستثمارها في مشاريع تنموية، يمكن أن يحقق الاقتصاد نمواً مستداماً وتحسيناً في جودة الحياة للمواطنين. وهذا بدوره يقلّل من التوترات الاجتماعية ويعزّز من استقرار البلاد.

ويمكن أن نتعلم من التجارب الماضية وندرك أهمية تأسيس صندوق الثروة السيادي كوسيلة للحد من الفساد والرشوة وتحقيق التنمية المستدامة. على الرغم من التحديات التي يمكن أن تواجهها الدولة في تطبيق هذا النموذج، إلا أن الاستفادة من الخبرات والممارسات الناجحة ستكون خطوة هامة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

وفي سبيل تحقيق الاستفادة القصوى من الثروات النفطية والغازية، أسّست النرويج صندوق الثروة السيادي في عام 1990، والمعروف باسم «صندوق الثروة السيادي النرويجي» أو الصندوق السيادي للتحفيز. يهدف الصندوق إلى توجيه جزء من إيرادات النرويج من مبيعات النفط والغاز إلى استثمارات طويلة الأجل، وذلك لضمان استدامة الثروة وتحقيق الازدهار المُستدام.

ما يُميّز تجربة النرويج في إدارة صندوقها السيادي، الشفافية والمسؤولية في إدارة الأموال. فالصندوق يعتمد على معايير محددة لاستثمار الأموال في مشاريع تستفيد منها الأجيال الحالية والمستقبلية. تتميز استثمارات الصندوق بالتنوع والتوزيع الجغرافي لتقليل مخاطر الاستثمار وزيادة العائدات.

واحدة من الدروس المستفادة من تجربة النرويج هي أهمية فصل صندوق الثروة السيادي عن السياسة الحكومية. تتم إدارة الصندوق بشكل مستقل عن الحكومة، مما يضمن استمراريته وعدم تأثره بتغيّرات الأوضاع السياسية. هذا يحمي الأموال من الاستخدام السياسي والتلاعب، ويحافظ على استدامة الاستثمارات.

يُعَدّ تأثير صندوق الثروة السيادي النرويجي على الاقتصاد ملموسًا، حيث يُساهم في دعم النمو الاقتصادي المستدام وتحقيق التوازن المالي. وبفضل توجيه الاستثمارات نحو قطاعات متعددة مثل الأسهم، والسندات، والعقارات، يُحقق الصندوق عوائد مالية مستدامة تُسهِم في تعزيز الثروة الوطنية.

وتُظهِر تجربة النرويج مدى أهمية صناديق الثروة السيادية في تحقيق التنمية المستدامة ومواجهة تحديات الفساد والرشوة. من خلال تأسيس صندوق مستقل وشفاف، يمكن للدول الاستفادة من الثروات الوطنية بطريقة تضمن استمرارية الاستثمارات وتحقيق الرفاهية للأجيال الحالية والمستقبلية. تجربة النرويج تعكس النموذج الناجح الذي يمكن للدول الأخرى أن تستلهم منه لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وبناء اقتصاد قوي ومستقر.

ولا شك في أن اكتشاف النفط والغاز في لبنان يعتبر حدثًا تاريخيًا يمكن أن يحمل الكثير من الفرص والتحولات للاقتصاد اللبناني. تفتح هذه المصادر أمام لبنان أفاقًا جديدة لتحقيق التنمية والاستقرار، ولكن مع ذلك هناك تحديات كبيرة تتطلب تخطيطًا دقيقًا وإدارة شفافة.

الفرَص

تنويع مصادر الدخل: يمكن للنفط والغاز أن يكونا مصدرَي دخل جديدين يخففان الاعتماد على القطاعات الأخرى مثل السياحة والخدمات. هذا التنويع يساعد في تقليل تأثير الصدمات الاقتصادية المحتملة.

زيادة الإيرادات الحكومية: ستُسهِم مبيعات النفط والغاز في زيادة الإيرادات الحكومية، ما قد يُسهِم في تحسين الخدمات العامة وتقديم فرص عمل جديدة للمواطنين.

جذب الاستثمارات: يمكن أن تجذب الاكتشافات النفطية الاستثمارات الأجنبية إلى لبنان، ما يؤدي إلى نمو اقتصادي وتطوير قطاعات مختلفة.

تحسين البنية التحتية: من الممكن أن تسهم الإيرادات من النفط في تحسين البنية التحتية للبنان، ما يسهم في تعزيز قدرته على جذب المزيد من الاستثمارات.

التحديات

التحديات البيئية: يجب أن يتم استخراج النفط والغاز بطرق صديقة للبيئة ومستدامة لتجنّب التأثيرات البيئية السلبية.

إدارة الثروة: يجب وضع استراتيجية واضحة لإدارة الثروة النفطية بشكل فعّال وشفّاف لضمان أن تعود الفوائد للمواطنين وتستثمر في تنمية مستدامة.

الفساد والرشوة: يجب أن يتم التعامل مع تحديات الفساد والرشوة بشكل جاد ومستمر لضمان أن الإيرادات لا تنهمر في جيوب القلة على حساب المجتمع بأكمله.

التنسيق الحكومي: يجب أن يتم التنسيق الجيد بين الجهات الحكومية المختلفة لضمان تطبيق استراتيجية موحدة وفعّالة للاستفادة من الثروة النفطية.

باختصار، يمكن أن تكون اكتشافات النفط والغاز فرصة حقيقية لتحقيق التنمية والازدهار في لبنان، ولكن يجب أن يتم التعامل معها بحذر وتخطيط جيد لضمان استفادة المجتمع بأكمله من هذه الثروة الوطنية. وقد تكون تجربة الدول الأخرى في هذا المجال، مثل النرويج، بمثابة دروس قيّمة للبنان لتحقيق أقصى استفادة من الفرص المتاحة.

بروفسور غريتا صعب

التحويلات المالية وأهميتها في كل المراحل

تؤدي التحويلات المالية دورًا حيويًا في الاقتصادات العالمية. ويشير مصطلح «التحويلات المالية» إلى الأموال التي يرسلها الأفراد المغتربون أو العاملون في الخارج إلى بلدانهم الأصلية. ويعتبر لبنان واحداً من البلدان التي تعتمد بشكل كبير على هذه التحويلات، وذلك بسبب العديد من العوامل التي تؤثر في اقتصاده، ومنها الصراعات الداخلية والأزمة المالية التي يعانيها البلد.

تُعتبر التحويلات المالية مصدراً مهماً للعملة الأجنبية في الاقتصاد اللبناني. فعندما يقوم اللبنانيون المغتربون بإرسال الأموال إلى أهلهم في لبنان، فإنّها تعزّز مخزون العملة الأجنبية في المصارف المحلية. وبدورها، تؤدي زيادة مخزون العملة الأجنبية إلى تحسين قيمة العملة المحلية وتعزيز سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية، وهنا يأتي دور البنوك المركزية في ضبط سعر الصرف لضمان استقرار الاقتصاد.

وتعزّز التحويلات المالية أيضاً الاستهلاك والإنفاق في الاقتصاد اللبناني، حيث يعتبر استقبال العملة الصعبة نتيجة لتلك التحويلات دعماً مالياً للأسَر والأفراد في لبنان، ويساهم ذلك في زيادة القوة الشرائية للمستهلكين المحليين. وبالتالي، يتزايد الطلب على السلع والخدمات المحلية، ما يؤدي إلى تحسين الأعمال التجارية المحلية وتعزيز النمو الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم التحويلات المالية في تعزيز الاستثمار في الاقتصاد اللبناني. فعندما يستقبل البنك المحلي العملة الصعبة من التحويلات، تُتاح له إمكانية توجيه هذه الأموال نحو الاستثمارات المحلية. ويمكن استخدام هذه الأموال لدعم الشركات المحلية وتوسيع نطاق أعمالها، وبناء مشاريع البنية التحتية، وتطوير قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة. ومن خلال زيادة الاستثمارات، يتمّ تعزيز فرص العمل وتحسين الأوضاع المالية للأفراد والأسر.

الجدير بالذكر أن التحويلات المالية تساعد أيضاً في تخفيف الأعباء المالية على الأسَر والأفراد في لبنان، إذ يعتمد الكثيرون منها على هذه التحويلات كمصدر رئيسي للدخل. وبفضل هذه الأموال، يمكن للأسر تلبية احتياجاتها الأساسية مثل المعيشة والتعليم والرعاية الصحية، ما يُخفّف الضغط المالي عن الحكومة ويقلل من حاجتها لتوفير المزيد من الخدمات الاجتماعية.

وعلى الرغم من أن التحويلات المالية تعتبر موردا هاما للاقتصاد اللبناني، إلا أنه يجب أن ندرك أنها ليست الحل الوحيد لمشاكل الاقتصاد. يجب على الحكومة اللبنانية أن تبني سياسات اقتصادية شاملة وإصلاحات هيكلية لمعالجة التحديات الهيكلية التي يواجهها البلد، مثل الفساد والبطالة وعجز الموازنة. إن تعزيز المناخ الاستثماري وتشجيع الابتكار وتنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة يلعبان أيضاً دوراً هاماً في تحسين الوضع الاقتصادي في لبنان.

باختصار، توضح أهمية تدفّق التحويلات المالية على سعر الصرف وكيف يمكن أن تساهم في تعزيز الاقتصاد اللبناني. إن استقبال الأموال من التحويلات يحسّن مخزون العملة الأجنبية، ويدعم الاستهلاك والإنفاق المحلي، ويعزز الاستثمارات ويخفف الأعباء المالية. ومع تبنّي سياسات اقتصادية شاملة، يمكن أن تؤدي هذه التحويلات دورا مهما في تعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة في لبنان.

وعليه، كيف يمكن أن يحسّن تدفّق العملة إلى لبنان مستوى المعيشة؟

إن العملة القوية والتدفق السليم لها إلى أي اقتصاد هما مفتاحان لتحسين مستوى المعيشة. وبالنسبة للبنان، الذي يعاني أزمة اقتصادية ومالية خانقة، فإنّ تدفق العملة إلى البلاد يمكن أن يكون عاملاً حاسماً لتحقيق التنمية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين. ولكن، كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

أولاً، يؤدي تدفق العملة القوية إلى تحسين القدرة الشرائية للأفراد في لبنان. عندما تكون لدى المواطنين القدرة على شراء السلع والخدمات التي يحتاجونها، يرتفع مستوى راحتهم وحياتهم اليومية. وهذا يعني توفر الغذاء والإسكان والرعاية الصحية والتعليم وغيرها من الاحتياجات الأساسية التي تؤثر بشكل كبير في جودة الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدّي تدفّق العملة الى تحسين البنية التحتية في لبنان. ويمكن استخدام الأموال المستلمة لتمويل مشاريع البنية التحتية مثل بناء الطرق والجسور وتطوير شبكات النقل والمياه والكهرباء. هذه المشاريع تعزز البنية التحتية وتُسهم في تحسين الحياة اليومية للمواطنين، فضلاً عن دعم قطاع البناء وخلق فرص عمل جديدة.

من الناحية الاقتصادية، يمكن أن يعزّز تدفق العملة الواردة، استثمارات لبنان. فعندما يكون هناك استقرار في الاقتصاد وتدفق العملة، يصبح لبنان وجهة جذابة للمستثمرين المحليين والأجانب. ويمكن أن تترجم هذه الاستثمارات بتوسيع الشركات المحلية، وخلق فرص عمل جديدة، وتحفيز الابتكار وتطوير الصناعات المحلية. كل هذا يُسهِم في تحسين الاقتصاد وزيادة فرص العمل وتعزيز المستوى المعيشي.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي تدفق العملة إلى تحسين قدرة البنوك والمؤسسات المالية على تقديم الخدمات المالية للمواطنين. إذا كانت البنوك مزوّدة بمخزون قوي من العملة الأجنبية، فإنها يمكن أن تعزّز قدرتها على توفير القروض والتمويل للأفراد والشركات. كما يعزّز ذلك النشاط الاقتصادي ويفتح آفاقًا جديدة للأعمال والاستثمارات والابتكار.

في الختام، يتّضِح أن تدفق العملة إلى لبنان يمكن أن يحسّن مستوى المعيشة بطرق عديدة. ويساهم في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين، وتعزيز البنية التحتية، ودعم الاستثمارات، وتحسين الخدمات المالية. ولتحقيق هذه الفوائد، يجب أن يعمل القطاع الحكومي والقطاع الخاص على توفير بيئة استثمارية مستدامة وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد. إن العمل المشترك والتزام جميع الأطراف سيساهمان في تحقيق التنمية المستدامة وتحسين مستوى المعيشة في لبنان.

 

بروفسور غريتا صعب

الإقتصاد الموازي يُعادل نصف قيمة الناتج المحلي

 

يتساءل الجميع، كيف يعمل ويدور الإقتصاد اللبناني، في ظل أكبر أزمة اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية في تاريخ العالم مُتواصلة من دون حدود منذ نحو أربع سنوات. من أين تأتي الكتلة النقدية، والعملة الورقية بالدولار الأميركي، وبقية السيولة الأجنبية؟ وكيف يُمكن أن نحصي حجم الإقتصاد الموازي أو الأسود، مقارنةً بالناتج المحلي الرسمي.

بكل موضوعية وشفافية وواقعية، سنركز في دراستنا على بعض الأرقام التي تردُنا من الجهات المسؤولة الإقليمية والدولية. من الواضح أنّ حجم الإستيراد إلى لبنان، بحسب البيانات الرسمية والجمركية، تخطى الـ 17 مليار دولار سنوياً، هذا ما عدا البضائع المهرّبة وغير المعلنة، التي تمرُّ كالأشباح. أما الناتج المحلي لسنة 2022، بحسب مرصد البنك الدولي، فلن يتخطى الـ 20-22 ملياراً.

إضافة إلى ذلك، إن التحويلات الخارجية إلى لبنان، بحسب المصادر المالية الرسمية، وصلت إلى نحو 6.8 مليارات أو 7 مليارات دولار، في الحد الأقصى في العام 2022. وهذا رقم إيجابي بأن التحويلات الخارجية كما كانت قبل الأزمة، وهي تشكل المحرك الأساسي للإقتصاد اللبناني.

فالسؤال الذي يطرح نفسه بكل منطق، هو كيف يُموَّل الـ 17 ملياراً استيراداً، فيما انه ليس في حوزتنا لا أكثر من 7 مليارات دولار للتمويل، إذا إستُعملت كل السيولة فقط للإستيراد؟! هذا يعني أن هناك فجوة كبيرة في الإقتصاد تبلغ نحو 10 مليارات دولار من تحويلات غير معلنة، لتمويل الإقتصاد الموازي والذي يبلغ حجمه نصف الإقتصاد المعلن الذي لا يتعدّى الناتج المحلي 20-22 ملياراً تقريباً. ما يعني أنّ الفجوة الـ 10 مليارات دولار تُموّل عبر الحقائب، والتحويلات غير المعلنة، وعبر تبييض الأموال، التهريب والترويج، ولا يمكن إحصاؤه لأننا تحوّلنا من الإقتصاد المراقب إلى الإقتصاد الكاش الذي هو أخطر اقتصاد لأي بلد في العالم.

أُذكّر دولياً، أن كل المصارف المركزية بدأت تتّجه وتحوّل كل عملاتها وسيولتها النقدية إلى العملات الإلكترونية e-currencie، بهدفٍ مُعلن، هو زيادة الرقابة ومحاربة تبييض الأموال، والفساد وغيرها.

أما لبنان، فيسير مرة أخرى، بعكس القطار الدولي، حيث كل بلدان العالم تتّجه وتتحوّل إلى الإقتصاد الرقمي والإلكتروني، فيما نتراجع عقوداً إلى الوراء، وعُدنا إلى الإقتصاد الكاش والورقي غير المُراقَب الذي يُهرّب المستثمرين، ويجذب المبيّضين، وسيقودنا إلى العقوبات والضغوطات الدولية أكثر فأكثر.

في هذا السياق، نُحذّر حيال صَبر المنظمات الدولية على لبنان نحو أربع سنوات، ولكن هناك حدود لصبرهم، ويُمكن في أي وقت، أن يقوم النظام المصرفي الدولي بمنع المصارف المراسلة من العمل مع لبنان، أو تُفرض عقوبات على الإقتصاد اللبناني، وبدأنا نسير على هذه الخطى عندما كدنا نُدرج من جديد على القائمة الرمادية، فيما مُنحنا فترة سماح لمدة سنة أخيرة، من أجل إعادة توجيه البوصلة. فإنّ فجوة الـ 10 مليارات دولار هي تقريباً حجم الإقتصاد غير المعلن والأسود، والذي لا يخضع لأي رقابة، ونظام وانضباط، وغير معروف مصدره أو تمويله، أو بالأحرى الكل يعلم مصدره المخيف والخطر للبلاد وأبنائها.

في المحصّلة، إن المخاطر على لبنان واللبنانيين تتزايد يوماً بعد يوم، بعد أن سُرقت وهُدرت مدّخراتهم وجنى عمرهم. إن المخاطر تلحقهم اليوم، لدولاراتهم الفريش، التي إستطاعوا تكوينها وتخبئتها تحت الوسادة. فهناك مخاطر من أنه حتى هذا القرش الأبيض لن نستطيع استعماله ليومنا الأسود، لأنّ الإقتصاد الأسود يتزايد يوماً بعد يوم، وقد أصبحنا تحت المجهر أمام كل السلطات العالمية، ووكالات التصنيف والمراقبة الدولية. فالعالم اليوم يُحوّل عملاته الورقية إلى العملات الإلكترونية، لأنها أكثر انضباطاً ومراقبة وشفافية، فيما نحن في لبنان فقد تحوّلنا إلى اقتصاد الكاش المَبني على العملات الورقية، لزيادة التبيض والترويج والفساد.

د. فؤاد زمكحل

أهمية التحويلات المالية في تعافي الاقتصاد

تمثّل التحويلات قوة دفع في الكثير من البلدان. ويمكن تسليط الضوء على احدى الحالات، ومقارنتها بلبنان. ومن بين الدول التي تحظى فيها التحويلات بأهمية قصوى، كوبا.

يُعدّ الشتات الكوبي أحد الجوانب الرئيسية للاقتصاد الكوبي المعاصر، حيث يوجد عدد كبير من الكوبيين المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من البلدان. ومن خلال تحويلات الأموال، يساهم هؤلاء الكوبيّون في تعزيز الاقتصاد المحلي في بلدهم. بالإضافة إلى الدخل الذي يَصِل إلى الأسَر، يمكن أن تُستخدم هذه التحويلات لتحفيز الاستثمار ودعم القطاع الخاص في كوبا. تساهم هذه الأموال في تحسين مستوى المعيشة للأفراد، بما يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات المحلية وتعزيز النمو الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، تعتبر التحويلات المالية مصدرا موثوقا للعملة الصعبة في البلدان المستفيدة، مثل كوبا، وهذا يعزّز قدرتهم على التعامل في السوق الدولية وتحسين التجارة الخارجية. كما تقدم هذه الأموال الفرصة للاحتياطي النقدي والاستثمار في مشاريع تنموية طويلة الأمد، ما يعزّز استقرار الاقتصاد ويُقلّل من الاعتماد على المساعدات الدولية.

يواجه لبنان أزمة اقتصادية ومالية خانقة، وتعدّ التحويلات المالية من الجالية اللبنانية في الخارج أحد أبرز الأدوات المتاحة لمساعدة الاقتصاد في التعافي. وتعتبر الجالية اللبنانية واحدة من أكبر الجاليات الشتاتية في العالم، ويمثل الاقتصاد اللبناني مصدرًا رئيسيًا للعملة الصعبة من خلال تحويلات المال إلى البلاد.

تؤدي هذه التحويلات دورا حيويا في دعم الأسر وتلبية احتياجاتها الأساسية في ظل الأزمة المالية الحالية. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه الأموال تستخدم لتغطية تكاليف التعليم والصحة والإعاشة، ما يخفّف العبء عن الأسر المتضررة من الظروف الاقتصادية الصعبة. وبالتالي، تساهم هذه التحويلات في تحسين معيشة الناس وتعزز الاستقرار الاجتماعي.

علاوة على ذلك، تساعد التحويلات المالية من الجالية اللبنانية في تخفيف الضغوط عن القطاع المصرفي في البلاد. ففي ظل الأزمة المالية، شهد النظام المصرفي انهياراً شبه كامل، وأصبحت التحويلات المالية عاملاً مساهماً في استقرار سعر الصرف والحد من تدهور العملة.

تُعَدُّ التحويلات المالية أحد العوامل الهامة التي تؤدي دورا حاسما في استقرار سعر الصرف ومكافحة تدهور العملة في الاقتصاد. عندما تواجه البلاد تحديات اقتصادية وتعاني تراجعاً في قيمة عملتها، يمكن أن تقدم التحويلات المالية من الجالية في الشتات الدعم الذي يلزم.

أما كيف يمكن للتحويلات المالية أن تساهم في الدعم، فينبغي ذكر النقاط التالية:

– زيادة احتياطات الصرف الأجنبي: غالباً ما تَرِد التحويلات المالية بالعملات الأجنبية، مثل الدولار الأميركي أو اليورو. وعندما يتم تحويل هذه الأموال إلى النظام المالي المحلي، فإنها تساهم في زيادة احتياطات الصرف الأجنبي للبلاد. وتعتبر احتياطات الصرف الأجنبي المستوى الصحيح من الاحتياطات الأجنبية التي توفر حاجزا في وجه تدهور العملة وتساعد البنك المركزي في التدخل في سوق الصرف لتثبيت قيمة العملة.

– زيادة الطلب على العملة المحلية: يتم استلام التحويلات المالية بالعملات الأجنبية ومن ثم تحويلها إلى العملة المحلية من قبل المُستَلمين، ويؤدي ذلك إلى زيادة الطلب على العملة المحلية في سوق الصرف الأجنبي، وهذه الزيادة الطلب يمكن أن تدعم قيمة العملة وتمنع تدهورها بشكل سريع.

– التوازن للعجز التجاري: يمكن للتحويلات المالية أن تساعد في تعويض العجز التجاري والعجز في الميزان الجاري. إذا كانت البلاد تستورد سلعًا وخدمات بمقدار أكبر مما تصدره، فإنّ ذلك يؤدي إلى عجز تجاري يمارس ضغطًا على العملة المحلية. ومع ذلك، عندما تتدفق التحويلات المالية إلى البلاد، فإنها تعمل كمصدر للعملة الأجنبية وتوازن الميزان الجاري وتخفف من الضغط على سعر الصرف.

– زيادة الثقة: يعكس التدفق المستمر للتحويلات المالية من الجالية الشتاتية الثقة في الآفاق الاقتصادية للبلاد، ويمكن لهذا الأمر أن يؤثر إيجاباً في ثقة المستثمرين، ويجذب الاستثمارات الأجنبية، ويعزّز بدوره قيمة العملة المحلية.

– الدعم للشركات المحلية: تدخل التحويلات المالية في الاقتصاد يؤدي إلى زيادة الدخل الانفاقي للأسر المستلمة. وهذا، بدوره، يؤدي إلى زيادة الإنفاق الاستهلاكي ودعم الشركات المحلية وتعزيز النمو الاقتصادي. وتؤثر الاستقرار الاقتصادي العام إيجابياً على قيمة العملة المحلية.

– التخفيف من الاعتماد على الاقتراض: في بعض الحالات، قد تلجأ البلاد التي تواجه تحديات اقتصادية إلى الاقتراض الأجنبي لإدارة وضعها المالي. ومع ذلك، قد يؤدي الاقتراض المُفرِط إلى أزمات ديون والتأثير سلباً على سعر الصرف. وتوفّر التحويلات المالية بديلاً للأموال الأجنبية، وبالتالي فإنها تُقلّل من الحاجة للاقتراض المفرط وتخفف من المخاطر المرتبطة بتراكم الديون.

في الختام، يُظهِر دور التحويلات المالية الهام في استعادة الثقة في الاقتصاد اللبناني. إنّ الجالية اللبنانية في الخارج تمثّل ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي والاستقرار المالي في لبنان، وعندما تُرسِل التحويلات المالية إلى أسَرها وذويها في الوطن، فإنها تُسهم في تقديم الدعم المالي اللازم للأفراد المحليين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وهذا الدعم يعمل على تحفيز النشاط الاقتصادي وتحسين الظروف المعيشية للمجتمع.

بالإضافة إلى ذلك، يعزّز تدفق التحويلات المالية الاحتياطات النقدية في لبنان ويعطي ثقة للمستثمرين والجهات الدولية في القدرة التحملية للاقتصاد الوطني. إنّ الثقة العالمية في الاقتصاد اللبناني تُعَد عاملاً أساسيًا لجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز النمو الاقتصادي.

علاوة على ذلك، تساهم التحويلات المالية من الجالية اللبنانية في تحسين السيولة المالية وتعزز الاستقرار المالي في البلاد. وإنّ توافر السيولة يُقلّل من التوترات المالية والضغوط على النظام المصرفي ويساهم في تحسين الظروف المالية العامة.

لذلك، يُعَدُّ دور التحويلات المالية من الجالية اللبنانية من العوامل الحيوية لاستعادة الثقة في الاقتصاد اللبناني وتحفيز النمو الاقتصادي وتحسين الحياة المعيشية للمواطنين. إن دعم الجالية اللبنانية في الخارج لا يُقدّر بثمن، ويجب أن يتم تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لتعزيز استخدام هذه التحويلات بشكل فعّال في دعم الاقتصاد الوطني وتعزيز الاستقرار المالي للبلاد.

الحقيقة الصادمة: هذا ما جرى بعد العام 2017

من حيث المبدأ، أمامنا 3 الى 6 أشهر من المُراوحة قبل ان تتظَهّر معالم الخط البياني الذي سيسلكه البلد. وهذا يعني انّ المرحلة الانتقالية ما بين «عهد» رياض سلامة، و«عهد» ما بعده، لن تحمل مفاجآت، من حيث المبدأ على الأقل، على اعتبار ان لا شيء مضموناً في الوضع اللبناني.

شعر اللبنانيون عموماً بالارتياح عندما سمعوا أنّ نواب حاكم مصرف لبنان حسموا أمرهم، ولن يستقيلوا، وسوف يتحمّلون مسؤوليتهم في ادارة الوضع النقدي في الايام الطالعة، في غياب حاكم أصيل لمصرف لبنان. هذا الارتياح نابع من مجموعة قناعات، أبرزها:

اولاً – انّ استقالة نواب الحاكم كانت ستفتح الباب امام كل الاحتمالات، بما فيها تعيين حارس قضائي، مع ما يستتبع ذلك من تجاذبات سياسية، حول هوية هذا «الحارس» ودوره. بالاضافة الى القلق حيال الشعور بأن مصرف لبنان مؤسسة مُفلسة، على اعتبار ان مهمة الحارس القضائي في الاساس هي المحافظة على موجودات اية مؤسسة يتسلمها، ومن ثم الاشراف على التصفية لضمان عدالة توزيع ما تبقى من اموال على اصحاب الحقوق.

ثانياً – ان سعر صرف الدولار سيبقى مستقرا الى حد ما، بفضل استمرار سياسة ضخ الدولارات.

ثالثاً – انّ عدول نواب الحاكم عن الاستقالة، يعني ان الحكومة وعدتهم بإجراءات يطالبون بها، بما يسهّل عملهم، في المرحلة الانتقالية التي يتولّون فيها المسؤولية.

هل فعلاً ينبغي ان يشعر اللبنانيون بالارتياح الى النتيجة التي أفضَت اليها المفاوضات والتجاذبات بين نواب الحاكم و«الدولة»، بشقّيها التنفيذي والتشريعي؟

من الوجهة الاقتصادية والفعلية، يبدو التفاعل مع ما يجري غريباً بعض الشيء، خصوصاً بالنسبة الى الموضوع الأهم، وهو التالي: هل يجوز ان يُنفق نواب الحاكم من الاحتياطي الالزامي لتسيير شؤون الدولة من دون تغطية قانونية، ام ينبغي وجود تشريع يقونن هذا الانفاق؟

هذا السؤال في حدّ ذاته مضبطة اتهام، لأنه ينطلق من مبدأ خاطئ. وهو يعني واقعياً ان الخلاف محصور بهوية «الحرامي» الذي سيتحمّل مسؤولية مَدّ اليد على اموال الناس، هل هي الدولة ام ادارة البنك المركزي؟

طبعاً، جرى تحوير هذه المسألة، على اعتبار ان الطبقة السياسية صَوّرت الامر وكأنّ نواب الحاكم يريدون قانوناً يشرّع لهم مصادرة اموال الناس، في حين ان نواب الحاكم كانوا يقولون ان سلامة نفّذ هذه المصادرة من دون الحاجة الى قانون، وبالاتفاق طبعاً مع «الدولة»، في حين انهم لا يريدون تقليده، ويريدون ان تتحمّل الدولة امام الرأي العام قرار هذه المصادرة.

طبعاً، هذا الكلام لا يدين نواب الحاكم ولا يُبرّئهم، على اعتبار انّ ما جرى حتى اليوم، كان اكبر منهم، ومن إمكانية التصدّي له. وهم يعرفون انهم لا يستطيعون مواجهة النادي السياسي الحاكم، ولكنهم عبّروا عن عدم رغبتهم في متابعة هذا الامر الى ما لا نهاية، وهذا امر جيد. بمعنى، انّ نواب الحاكم أدركوا انهم عاجزون عن وقف الانفاق الفوري من اموال الناس لِسد حاجات الدولة، ولكنهم لا يريدون في الوقت نفسه اعتماد سياسة «السرقة» ضمن فترة مفتوحة، وغير محدّدة بسقف زمني. كما انهم يريدون من الدولة ان تكشف عن وجهها الحقيقي، وان تقول انها هي مَن قرّر أن «يسرق»، ولو بذريعة حماية المصلحة العامة وضمان الأمن الاجتماعي.

قد يكون نواب الحاكم، وعلى رأسهم النائب الاول وسيم منصوري، خائفين الى أقصى الحدود، وقدموا صورة مهزوزة عن قدراتهم على تحمّل المسؤولية، لكن هذا الخوف مُبرّر اولاً، وقد يُستفاد منه ثانياً، للضغط على الدولة لاتخاذ قرار وقف سرقة الناس، وتحمّل مسؤوليتها في ضمان المصلحة العامة والامن الاجتماعي، من دون الحاجة الى مصادرة الملكية الفردية التي يحميها الدستور.

ليس مهماً إذا ما كان الانفاق من اموال الاحتياطي سيتمّ بغطاءٍ قانوني من الدولة، ام سيبقى على مسؤولية ادارة مصرف لبنان، وليس مهماً حتى اذا ما كان يمكن الطعن بأي قانون قد يصدر لتشريع السرقة، بل الأهم ان تتوقّف السرقة من خلال اجراءات تسمح بوقف الانفاق من الاحتياطي، من دون ان يأتي ذلك على حساب الأمن الاجتماعي، وتعميق مآسي الفقراء الذين باتوا يشكلون اكثرية موصوفة في المجتمع.

ما جرى حتى اليوم «جريمة» غير مسبوقة ارتكبتها الدولة، عن طريق مصرف لبنان. وليس أدلّ من ذلك، ما ورد في تقرير صندوق النقد الدولي الذي اشار الى ان الوضع المالي كان مقبولاً حتى العام 2017، حين لم تكن هناك فجوة مالية حتى ذلك التاريخ. وهذا يعني ان «الدولة» التي لا تريد ان تتحمّل مسؤولياتها هي المسؤولة شبه الوحيدة عن الكارثة الحالية التي يمر بها البلد. في ذلك العام أقرّت سلسلة الرتب والرواتب، واصبحت عاجزة عن الاقتراض من الاسواق العالمية، وحّولت مصرف لبنان الى «قجّة» مُباحة سحبت منها الاموال، إمّا عبر دَفعه الى الاكتتاب بسندات اليوروبوندز، وإمّا عبر دَفعه الى تغطية عجز الموازنة المتزايد بسبب الارتفاع السريع في مستويات الانفاق. ومن ثم قررت اعلان الافلاس (التوقّف عن الدفع) في آذار 2020، واستكملت المأساة من خلال السماح، أو اعطاء الاوامر، بهدر مال المودعين على الدعم العشوائي، او عبر السماح بإصدار تعاميم سمحت بتسديد القروض الدولارية للمصارف بالعملة المحلية. يكفي ان نعود الى الارقام لكي نلاحظ ان مجموع حجم الودائع بالليرة في كانون الثاني من العام 2017 كان 107.1 مليارات دولار. في ذلك الحين كانت موجودات مصرف لبنان وصلت الى 44.3 مليار دولار. وكانت موجودات المصارف في الخارج لا تقل عن 10 مليارات دولار، بالاضافة الى كتلة دولارية في الداخل لا تقل عن 5 مليارات دولار. كما ان حجم القروض بالدولار وصل الى عتبة الـ40 مليار دولار، ونسبة كبيرة منها مغطاة بضمانات. ومن خلال حسبة بسيطة للأرقام سيتبيّن ان حجم الودائع الذي كان يناهز الـ107 مليارات دولار شبه مغطى بالكامل! (ملاحظة: لم يتم احتساب رساميل المصارف التي كانت تناهز الـ20 مليار دولار).

هذا الواقع الذي لم يأخذ حقه حتى الان في الدراسات التي تجري في توصيف اسباب الانهيار ومساره، كافٍ للدلالة على ان الكارثة حلّت بعد الـ2017، أي عندما بدأت «اللادولة» في ممارسة هواية الاهمال ومصادرة الاموال وشراء الوقت وهدره بأسلوب إجرامي فظيع أوصَلنا اليوم الى فجوة الـ73 مليار دولار وربما أكثر.

هذه هي المشكلة التي ينبغي ان تُعالج فوراً، بدل الخلافات على تحديد من سيتحمّل مسؤولية الاعلان عن قرار مواصلة سرقة الاموال ودفع البلد نحو الخراب الكامل.

 

أنطوان فرح