أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

من إدارة الأزمة إلى التطور في صُلب الأزمات

 

منذ نحو ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، يحاول الإقتصاد اللبناني ومؤسسات القطاع الخاص، وسيدات ورجال الأعمال والرياديون إدارة الأزمات المتوالية والمتراكمة والمستعصية، التي تضرب لبنان وتهزّه، وتعصف باقتصاده، وتوازنه الإجتماعي. لكن لا يُمكن الحديث عن إدارة الأزمات على المديين المتوسط والبعيد، لأن هذه الهزّات أصبحت من صلب حياتنا اليومية.

يجب ألاّ ننسى أو نتناسى، أن لبنان واجَه في السنوات الثلاث الماضية، ثلاث أكبر أزمات في تاريخه وتاريخ الكون:

الأزمة الأولى التي لا نزال نعيشها وندفع ثمنها، وهي أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية ومالية ونقدية، والتي لا تزال تتفاقم يوماً بعد يوم، أو بالأحرى ساعة بعد ساعة، والنزف مستمر.

الأزمة الثانية التي هزّت العالم وسائر اقتصاداته، هي جائحة كورونا (كوفيد-19)، والتي لا يزال العالم يُبلسم جروحاتها، وإعادة هيكلة كل اقتصاداته، واستراتيجياته، والتحالفات، فيما نواجه منافسة لإدارة العالم الجديد، وندفع ثمن التشنّجات والصراعات الداخلية للقيادة الجديدة.

أما الكارثة الثالثة، فهي لا شك انها ثالث أكبر انفجار في تاريخ العالم، والتي نسفت عاصمة لبنان، ودمّرت البيوت والأحلام، وما تبقى من الثقة والصمود والمثابرة.

في ظل هذه الأزمات المتتالية، يُحاول رجال وسيدات الأعمال اللبنانيين، القيام بإدارة هذه الأزمات والخضات الدراماتيكية، ونفخر بأن بعض القطاعات إستطاعت المواجهة، وحتى اليوم إعادة البناء والتطوُّر والإنماء من جديد.

لكن علينا أن نُشدّد على أن إدارة الأزمات ينبغي أن تكون على المدى القصير، لكن عندما تطول الأزمة لا نستطيع أن نتحدث بعدئذ عن إدارة الأزمات التي أصبحت في صلب أرضيتنا وبيئتنا وحياتنا اليومية، فعلينا أن نُحوّل استراتيجيتنا إلى الإدارة والتطور في صُلب الأزمة وفي ظل البيئة المتغيّرة والمتأزّمة. فهناك مسؤولية كبيرة على الطلاب والرياديين وقياديي الشركات بتكيّف أفكارهم وابتكار الإستثمارات واكتشافها.

الإستراتيجية الإدارية التي نقترحها مبنيّة على ثلاثة أركان هي: التطوير، والتنويع والتفويض، في ظل الأزمات، التي ينبغي اعتمادها، لأن أفضل هجوم مضاد هو الهجوم الإستراتيجي والمدروس والمُخطط.

التطوير، وفق الإستراتيجية الأولى، يبدأ بتكيُّف الأفكار والإدارة والريادة. وعندما نتحدث عن التطوير، نعني تطوير الأسواق، والسلع، والموارد والوجود الجيوغرافي. فالتطوير في البيئة المتغيّرة، يسمح على المدى القصير بوقف النزيف، ومواجهة الصعوبات، لكن في المدى المتوسط والبعيد، يسمح بالإنماء من جديد.

أما الإستراتيجية الثانية المعتمدة على التنويع، فتركّز على تنويع الأسواق أيضاً، والسلع، والخطط والإستراتيجيات، والمعارف، والخبرات، للتخفيف من المخاطر، وبناء أركان جديدة، وأسس لإنماء جديد في هذا العالم المتغيّر.

أما الأولوية الثالثة، فتكمن في استقطاب أهم الموارد البشرية أو بالأحرى استقطاب أفكارها الخلاّقة، والمبتكرة، والمبدعة، وتفويضها قسماً كبيراً من الإدارة، وخلق التآزر بين الأفكار والخبرات، وبين أفكار الجيل الجديد وخبرات الجيل القديم، لوضع الحجر الأساس لإعادة الإستثمار والبناء والإنماء الجديد.

في الخلاصة، علينا أن نكون واقعيين وموضوعيين، ونقبل بالحقيقة المُرّة، بأن الأزمة والأزمات باتت في حياتنا اليومية، وفي صُلب بيئتنا المأزومة. فنحن على مفترق طرق، إما الإستسلام للإفلاس التام، وإما المواجهة عبر التطور والتنويع والتفويض، وللإنماء والإستثمار في ظل العواصف، لنكون جاهزين عندما ستشرق الشمس من جديد.

د. فؤاد زمكحل

بدءُ سنة 2023 بعوائق 2022 ذاتها المتفاقمة

طُويت صفحة 2022، الكارثية والسوداوية والتي ستُسجّل في التاريخ كأصعب سنة في تاريخنا الإقتصادي، والإجتماعي، والمالي، والنقدي وحتى السياسي. وفُتحت صفحة سنة 2023 منذ أسابيع عدة، مع آمال وإرادة في ظل الآمال المتراكمة والمتفاقمة.

لسوء الحظ لسنا مُنجّمين، لكننا ننظر إلى العُلا والآفاق بواقعية وموضوعية. إننا كرجال وسيدات أعمال واقتصاديين وأكاديميين، نعمل ونبني توقعاتنا وفق الأرقام والنتائج والوقائع وليس من أهدافنا، لا التفاؤل ولا التشاؤم، لا بل بناء رؤيتنا على أرضية ثابتة.

 

إن سنة 2022 كانت عناوينها الأبرز سنة إنتخابية، وسنة الإصلاحات مع صندوق النقد الدولي، وسنة التغيير، وسنة مواجهة أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية، وسنة إعادة الهيكلية الداخلية.

 

على صعيد الإنتخابات، جرت الإنتخابات النيابية لكن من دون أي تغيير يُلحظ، وباتت الأحزاب والأقطاب عينها تدير المنصة التشريعية، كما كانت في الماضي، كأنه لم يتغيّر شيء. أما الناخبون فكانوا خجولين، كأنهم فقدوا أي آمال أو حتى أي رغبة بالتغيير الحقيقي، وباتوا يلحقون بعلم أو بجهل، المسؤولين المباشرين وغير المباشرين بغية تدبير حياتهم ونسبة عيشهم، وحتى تدبير لقمة العيش الكريم.

 

أما على صعيد انتخاب رئيس جمهورية جديد، فقد بات الفراغ سيد الموقف، والديموقراطية الحقيقية محجوبة، والديموقراطية التوافقية، هي بالحقيقة ديموقراطية الجمود والشلل والضغوط. فالمرحلة الأولى لم تؤد إلى أي نتيجة تُذكر، لكن إلى فراغ نبدأ به سنة 2023 من دون أي نظرة أو رؤية إيجابية في هذا الخصوص.

 

التشنُّجات والخلافات السياسية، يُتوقّع أن تجرّنا في سنة 2023 بعد أكثر في هذه الرمال المتحرّكة والمُغرقة، للشعب والإقتصاد، وليس هناك أي توقعات واقعية لإنتخاب رئيس للجمهورية على المدى القصير.

 

أما على صعيد المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والإصلاحات المرجوّة، فلم يتحقق أي إصلاح منها حتى اليوم. فالكل يتسابَق على المحاور والمنصّات، ليطلب ويَعِد بمشروع إنمائي، وإستثماري وتمويلي مع الصندوق، لكن وراء الستارة، المسؤولون عينهم يطعنون يومياً بكل الإصلاحات المطلوبة، وليس هناك أي مفاوضات جدّية مع المانحين. كأنهم لا يُريدون أي تدخُّل لأي جهة دولية بإدارتهم الغامضة والفاسدة. لأنه من الواضح أنه إذا كان هناك أي تمويل عبر صندوق النقد الدولي، فإن هذا سينتج عنه تدقيق في كل الوزارات والمرافىء والمرافق ومؤسسات الدولة، وسيقطع الطريق على الكثير من الفساد والفاسدين.

 

أما في موضوع إعادة الهيكلية الداخلية، والإستراتيجية الإنقاذية، في سنة 2022 كانت كل المحاولات حبراً على ورق، من دون أي نيّة حقيقية، أو إرادة بنّاءة. أما في سنة 2023 فقد هُدرت فيها الأوراق والأحبار، وبقيت الأوهام والوعود الكاذبة من دون أي نيّة لإعادة هيكلية داخلية، لإعادة النهوض.

 

أما العالم من حولنا، فقد تغيّر ويتغيّر يوماً بعد يوم، وكل الإتفاقات والتحالفات الإقتصادية وحتى السياسية، يُعاد النظر فيها، فيما نشوة رسم طريق حرير جديدة، وإتفاق بين الصين والسعودية، وحرب باردة بين الولايات المتحدة وروسيا، وركود إقتصادي في أوروبا، وتضخم عالمي، كله سيتفاقم في سنة 2023.

 

أما في لبنان، فإننا نشهد استمرار الإستراتيجيات التدميرية ذاتها، وإستراتيجية الجمود والشلل التي تدفعنا إلى الوراء، وتحفر في النفق الغامض ذاته نحو الظلام وليس نحو النور.

 

وقد بدأنا منذ أسابيع سنة 2023 بنفس المشاكل المالية والنقدية والإقتصادية المتراكمة والمتأزمة، وتزايد في التعقيدات السياسية، لكن بوضع أصعب، مالياً ونقدياً، واقتصاد متهالك، وشعب مهزوم ومدمّر، واحتياط يُستنزف يوماً بعد يوم، في ظل تعاميم عشوائية، وألاعيب لكسب الوقت، وتداول السيولة عينها بين الأيادي، لتخبئة الإنهيار المتزايد.

 

فسنة 2023 ستشهد إعادة هيكلة القطاع الداخلي، وبعض القطاعات المنتجة، بدولرة تامة، أما على صعيد القطاع العام، فسيكون من الصعب وجود أي تطبيق جدّي للموازنة الضريبية، التي ستضرب الإقتصاد الأبيض وتُفاقم الإقتصاد الأسود، وإقتصاد التهريب، وإقتصاد الكاش، وهو من أخطر إقتصادات العالم، الذي يُمكن أن يؤدي إلى عقوبات كارثية على بلادنا.

 

لا شك في أن بعض القطاعات إستطاعت إعادة هيكلتها، وحتى إعادة نهوضها، لكن لا يُمكن أن نتحدّث عن إعادة نهوض من دون توحيد سعر الصرف تحت منصة رسمية واحدة ومراقبة. ولا يُمكن أن نتحدث عن إعادة الإنماء من دون قطاع مصرفي ومالي جديد، يُمكن أن يُموّل الإقتصاد والتطوير والتنويع.

 

في الخلاصة، نبدأ سنة 2023، بنفس مشاكل وأزمات سنة 2022، لكن بإرهاق الشعب والشركات والإقتصاد، وليس علينا التركيز على المشاكل عينها التي ليس هناك نية لإصلاحها، لكن علينا أن نركّز على قصة نجاح واحدة، لإعادة الثقة، ووضع الحجر الأساس لإعادة النهوض. فالمشروع الوحيد المرجو هو بناء مشروع B.O.T (BUILD OPERATE TRANSFER) والتي تعني البناء، والتشغيل والتحويل، مع شركات دولية، لكهرباء لبنان، وهذا يعني إستقطاب تمويل خارجي بتشغيل هذه المؤسسة المهترئة، للسنوات المقبلة. فتأمين الكهرباء للشعب ضروري، حيث لم يعد يستطيع دفع سعر مولّدات المافيات.

 

ومن قصة النجاح هذه، يُمكن أن نبني عليها نجاحات جديدة، وخصوصاً في الضمان، والمستشفيات الرسمية، والمدارس والجامعات الحكومية. فعوضاً من أن نبدأ سنة 2023 بفشل سنة 2022، فلنبدأها بقصص نجاح واضحة وبنّاءة ونامية.

د. فؤاد زمكحل

دولار الـ15 ألفاً محسوم.. والانعكاسات هزيلة

في الأول من شباط يبدأ اعتماد سعر الـ15 الف ليرة كسعرٍ رسمي للدولار مقابل الليرة. وهناك مجموعة من الاسئلة في شأن تداعيات ومفاعيل هذه الخطوة، وكيفية انعكاسها على أوضاع الناس والمؤسسات.

كما جرت العادة، وفي كل الملفات والقضايا المطروحة امام الرأي العام، يتمّ التشكيك دائماً، في الحيثيات والاهداف والوقائع. في موضوع تغيير سعر الصرف الرسمي من 1507 ليرات الى 15 الف ليرة، لم يختلف الامر، وهناك تساؤلات واجتهادات كثيرة، يتمحور بعضها حول التشكيك في ان مصرف لبنان سيتخذ هذا القرار بالفعل. ويستند المشككون في كلامهم على ان هذا الامر لا يعدو كونه مجرد تصريح اعلامي أدلى به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وقد تكون له أهداف ووظائف نفسية، وان الوعد قد لا يتحوّل الى قرار في الاول من شباط.

 

هذا التشكيك ليس في موقعه، والمعلومات تشير الى ان سلامة سيعلن قرار البدء في اعتماد السعر الجديد للدولار مقابل الليرة في الايام القليلة المقبلة. وسبق لسلامة أن أبلغ الجهات المعنية، والتي قد يؤثر عليها تغيير سعر الصرف الرسمي، ان الموضوع محسوم، والانتقال الى السعر الجديد سيتمّ كما هو مقرّر في الاول من شباط.

 

لا تبدو التداعيات المباشرة على المواطنين مؤثرة كثيراً، لا سلباً ولا ايجاباً. بالنسبة الى القروض المصرفية الدولارية التي كان يتمّ تسديدها بالليرة على سعر 1507، سيتم استثناء القروض السكنية لدواعٍ اجتماعية. اما القروض الشخصية، فإنها سُدّدت في غالبيتها بعد مرور اكثر من 3 سنوات على بداية الأزمة. اذ ان غالبية استحقاقات هذا النوع من القروض تكون متوسطة الأجل.

 

أما بالنسبة الى التداعيات التي يعتبرها البعض ايجابية، والمرتبطة بسعر سحب الودائع، فإنها تنقسم الى قسمين: ما يتعلق منها بالتعميم 158، وما يرتبط بسحب الودائع الدولارية بالليرة. في الجزئية الاولى، سوف يتغيّر سعر السحب من 12 الف ليرة للدولار، الى 15 الف ليرة. وفي الجزئية الثانية سيرتفع سعر السحب من 8 آلاف الى 15 الف ليرة ايضا.

 

وفي هذا السياق، ان المستفيدين من التعميم 158 لن يحققوا اية فوائد على اعتبار ان قرار رفع سعر الصرف اتُخذ حين كان سعر الدولار حوالى 39 الف ليرة. بما يعني ان الهيركات كانت نسبته في 21 تشرين الثاني 2022 عندما كشفَ سلامة عن قرار رفع سعر الصرف الرسمي الى 15 الف ليرة، حوالى 70%.. اليوم، واذا احتسبنا السعر الحالي للدولار (حوالى 50 الف ليرة) يتبيّن ان نسبة الهيركات ستكون حوالى 70%. ايضاً.

 

ولكن اذا احتسبنا الدولار على 60 الف ليرة، وهو الرقم الذي قد يبلغه من الآن وحتى الاول من شباط في حال استمر بالارتفاع وفق الوتيرة الحالية، فهذا يعني ان الهيركات سيرتفع الى 75%. وبذلك، يكون المودع قد خسر ولم يربح جرّاء رفع سعر السحب.

 

بالنسبة الى السحب على 8 آلاف ليرة، فإنّ نسبة الهيركات بلغت في 21 تشرين الثاني الماضي حوالى 80%.، في حين انها ستتراجع الى حوالى 73%. في 1 شباط اذا كان سعر الدولار 50 الف ليرة. أما اذا ارتفع الى 60 الفا، فإنّ الهيركات سيرتفع الى 75%..

 

ومع احتساب ان الدولار، ومن حيث المبدأ سيستمر في الارتفاع في الاسابيع القليلة المقبلة، فهذا يعني ان المودع لن يستفيد عملياً من قرار رفع سعر الصرف الرسمي للدولار. بل انه سيحتاج عمّا قريب الى تعديلات اضافية لجهة رفع سعر السحب، ليحافظ على خسائره وفق معدلاتها القائمة حالياً.

 

أما بالنسبة الى المؤسسات، لا سيما الكبيرة منها، فسوف تتأثر قيودها المحاسبية بهذا التغيير، وستنخفض قيمة الرساميل المحتسبة على سعر 1507 بواقع 10 أضعاف. هذا الامر سيضع المزيد من الضغوطات على هذه المؤسسات التي ستصبح ملاءتها ضعيفة، وعليها ان تعيد رسملة نفسها بنسب معينة للمحافظة على المعايير المطلوبة. لكن المعطيات المتوفرة تشير الى ان سعر الـ15 الف ليرة، وبعدما وصل سعر الدولار الى 50 الف ليرة وقد يرتفع اكثر في الايام القليلة المقبلة، سيُساعد المؤسسات على سدّ الفجوة الناتجة عن تغيير سعر الصرف، بأقل قدر ممكن من الاضرار، لضمان استمرارية هذه المؤسسات، بانتظار الحل الشامل.

2023: سنة مراجعة قانون النقد والتسليف للبنان: الدولرة الشاملة تطغى على أي نظام صرف لليرة

من المعروف في علم النقد، أنّه بعد سقوط الربط المرن لسعر الصرف واستحالة الانتقال إلى تعويم العملة الوطنية في اقتصاد جدًا مدولر، لا يبقى من مخرج لوقف نزيف النقد الناتج من انعدام الثقة، سوى اللجوء إلى الربط الصارم، عبر إعادة النظر بقانون النقد والتسليف، مع اتجاه السوق نحو الدولرة الشاملة الأكثر فعالية في الظرف الراهن، من أي نظام سعر صرف آخر (او أقلّه مجلس النقد بشرط حسن الإلتزام به..). سنة 2023 هي سنة اتخاذ مجلس النواب الملف النقدي بين يديه، لمراجعة الوجهة القانونية النقدية ونظام سعر الصرف، على ضوء الانتقال الواقعي نحو الدولرة الشاملة في جميع القطاعات، حفاظًا على الحدّ الأدنى من حق المواطنين بالقدرة الشرائية، للاستجابة إلى كل حاجاتهم المدولرة بشكل غير قابل للتراجع.. وذلك بغض النظر عن الاعتراف الرسمي بالدولرة، الذي لا بدّ أن يتمّ تقبّله كما تمّ تقبّل إزدواجية الدولرة في السوق بالتسعير والدفع، وليس فقط بالإدخار.. فما هي شروط ذلك؟ وأي دروس من التجارب الدولية؟

تشير الأدبيات الإقتصادية وتجارب البلدان التي مرّت بحالات مماثلة، إلى جملة من الشروط الأساسية، كحدّ أدنى، وهي الآتي:

 

1- نظام مالي قوي وإشراف مالي سليم لاستبعاد احتمالية حدوث أزمات مصرفية في بيئة تفتقر إلى الإقراض كملاذ أخير؛

 

2- المالية العامة القوية التي تمنح اللاعبين في السوق ثقة كافية في استدامة السياسة المالية؛

3- أسواق العمل المرنة لتسهيل التكيّف الاقتصادي الكلي استجابة للصدمات الخارجية.

مع العلم أنّه لا توجد قائمة واحدة من المشاكل التي يجب على جميع الدول التي تعتمد الدولرة الشاملة الرسمية معالجتها. فمعظم البلدان لديها خصائص هيكلية محدّدة.

على سبيل المثال، بينما اختارت الإكوادور الدولرة الرسمية الكاملة في خضم أزمة مالية نظامية مع تضخم مرتفع، وفي ظل نظام سعر صرف مرن، انتقلت السلفادور إلى الدولرة الرسمية في بيئة استقرار الاقتصاد الكلي وسعر الصرف الثابت. نتيجة لذلك، كان معدل تحويل العملة الوطنية إلى الدولار الأميركي مشكلة في الإكوادور، وليس السلفادور. وبالمثل، في حين أنّ اختيار الغطاء القانوني الجديد لم يكن مشكلة في هذين البلدين، فقد كان موضوعًا رئيسيًا للمناقشة في زيمبابوي في أوائل عام 2009.

من هنا، ضرورة أن تزن البلدان المعنية بعناية تكاليف وفوائد اعتماد عملة أجنبية كعملة قانونية. فبمجرد اعتماد قرار الدولرة رسميًا، من الضروري سن إطار قانوني واضح، والذي يجب أن يوافق عليه المجتمع ككل بشكل مثالي.

وتعدّ الإكوادور وزيمبابوي مثالين على ذلك، حيث كان التضخم المفرط باللجوء الى الدولرة الشاملة كملاذ أخير، بغياب الثقة الكلي بمختلف سائر الأدوات، خصوصًا أنّ اقتصاداتهما كانت بالفعل في الواقع تعتمد على الدولار بدرجة عالية.

تتطلب الدولرة الموافقة على التشريع الذي يحدّد الأساس القانوني للسياسة النقدية الجديدة، ومراجعة القانون الذي يحكم عمل المصرف المركزي. أي انّ في لبنان، قانون النقد والتسليف «Code de la Monnaie et du Crédit» الذي يجب أن يكون تمّت الموافقة عليه من قِبل المجلس النيابي، والذي ينطوي على تغييرات في قوانين المصرف المركزي وتشريعات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أيضًا تعديل التشريعات المتعلقة بالقطاع المصرفي والمالي، لتعكس الظروف المتغيّرة، بما في ذلك اللوائح المحاسبية أو التشريعات ذات الصلة، التي تسمح بتحويل المطلوبات والالتزامات المحدّدة أصلاً بالعملة الوطنية إلى العملة الجديدة.

يجب أن يحدّد التشريع الجديد دورًا بديلاً للبنك المركزي. وهذا يعني إعطاء البنك المركزي هدفًا مختلفًا وتعديل وظائفه ومسؤولياته وفقًا لذلك. على الرغم من أنّ البنك المركزي ليس ضروريًا تمامًا في ظلّ الدولرة الرسمية، إلّا أنّ البنوك المركزية في الواقع استمرت في الوجود في معظم البلدان التي اعتمدت الدولرة الشاملة الرسمية (الإكوادور والسلفادور والجبل الأسود …). كوسوفو وتيمور – لديهما سلطات مصرفية مركزية تمّ إنشاؤها بعد الاستقلال، والتي تلعب دورًا بارزًا في الإشراف على القطاع المالي.

يجب على البنوك المركزية ممارسة الإشراف المالي وإصدار اللوائح الاحترازية والإشرافية، وإدارة النقد (الأوراق النقدية والعملات المعدنية)، وإدارة الاحتياطيات الدولية، وتوفير وظيفة مقاصة مركزية لنظام الدفع، والعمل كوكيل مالي وتسجيل حسابات الدولة، وإجراء دراسات الاقتصاد الكلي وتقديم المشورة للحكومات بشأن مختلف الملفات الماكرو – إقتصادية…

يجب حظر المسؤوليات النموذجية الأخرى للبنك المركزي، بما في ذلك طباعة الأوراق النقدية الجديدة (ولكن ليس بالضرورة العملات المعدنية الوطنية).

يجب على الحكومة والبنك المركزي إعداد ونشر جدول الدولرة. لا توجد مدة محدّدة للفترة الانتقالية، يمكن أن تصل إلى أقل من 6 أشهر، كما هو الحال في الإكوادور، حيث تمّ تبني الدولرة في خضم أزمة اقتصادية عامة. بشكل عام، تعتمد مدة تنفيذ الدولرة الرسمية على عدد من العوامل، بما في ذلك مستوى الدعم العام، ودرجة استقرار الاقتصاد الكلي، والخصائص المؤسسية مثل آجال استحقاق العقود التي تتعايش فيها العقود بالدولار والعملة الوطنية. ويجب أن تتيح الفترة الانتقالية وقتًا كافيًا لشرح للعملاء الاقتصاديين مسار الدولرة وكيفية العمل في ظل النظام النقدي الجديد.

يجب أن يحدّد جدول الدولرة على الأقل تواريخ:

(1) التاريخ الذي سيصبح فيه سعر التحويل ساري المفعول، التاريخ الذي ستصبح فيه العملة الجديدة رسميًا قانونية؛

(2) عندما يتوقف البنك المركزي عن إجراء عمليات السوق المفتوحة.

(3) متى سيبدأ البنك المركزي في استبدال العملة الوطنية بالعملة الجديدة؛

(4) الفترة التي يُصرّح خلالها بالعملتين بالتداول، والتاريخ الذي سيتمّ فيه التخلّص التدريجي من أوراق العملات النقدية الوطنية؛

(5) التواريخ التي سيتمّ فيها تحويل الميزانيات العمومية للنظام المالي إلى «دولار»، وتدخل القواعد المحاسبية الجديدة لقطاع الأعمال حيز التنفيذ.

يجب التركيز بشكل خاص على النشر:

1- معدل التحويل لإعادة تصنيف الأسعار والأصول والالتزامات والعقود والمعاملات المالية بالعملة الوطنية إلى الدولار.

2- فترة انتقالية يتمّ خلالها الإعلان عن أسعار السلع والخدمات بكلتا العملتين، والتاريخ الذي يتوقف فيه استخدام العملة المحلية كوسيلة للمعاملات؛

من المهم أيضًا نشر حملة إعلامية تهدف إلى تحضر المؤسسات والرأي العام لخصائص النظام الجديد.. (الصحف والإذاعة والتلفزيون والإنترنت)، بالإضافة إلى الملصقات والمواد الإعلامية الأخرى. وتصل الاتصالات إلى الوكلاء الاقتصاديين وعامة الناس.

عندما تقوم دولة ما بالدولرة ، فإنّ أهم سؤال ينتظره الجميع، هو معدل تحويل العملة المحلية إلى العملة القانونية الجديدة.

يجب اعتماد سعر الصرف الأقرب إلى سعر السوق الذي يسمح للمتداولين بالتحويل بسرعة وسهولة بين العملتين. وثانيًا، يتطلب معدل التحويل تغطية التزامات البنك المركزي الرئيسية بالمخزون الحالي لصافي الاحتياطيات الدولية بالعملات الأجنبية…

قرار حاسم آخر هو تحديد القاعدة النقدية التي يمكن تغطيتها بالاحتياطيات الدولية المتوفرة. يجب استخدام احتياطيات البنوك في المقام الأول لدعم تشغيل نظام الدفع، ولكن يمكن أيضًا أن تكون بمثابة أداة عازلة للسيولة. في الإكوادور، تستخدم الاحتياطيات المصرفية لأغراض أنظمة الدفع، بينما في السلفادور تعتبر الاحتياطيات المطلوبة جزءًا لا يتجزأ من شبكة الأمان المالي.

من الناحية العملية، لا يمكن للبنوك المركزية في البلدان التي تعتمد على الدولار رسميًا توفير دعم السيولة، إلّا إذا كان لديها احتياطيات دولية فائضة – والتي قد لا تكون كبيرة في اقتصاد قائم على الدولار – كما هو الحال في البلدان التي لديها نظام مجلس عملات. وتفضّل بعض الدول إبقاء العملات المعدنية الوطنية بعد اعتماد الدولرة الكاملة لأسباب مختلفة:

1- الاحتفاظ برمز وطني بمجرد إلغاء العملة الوطنية تدريجياً وإلغاء تداول الأوراق النقدية؛

2- في الحالات التي يصبح فيها الدولار الأميركي العملة الرسمية، قد يكون من الصعب التعامل مع العملات المعدنية الأميركية بالنسبة لبعض الشرائح الاجتماعية؛

3- قد تكون فئات العملات المعدنية الأميركية الشائعة الاستخدام قليلة جدًا، بحيث لا تفي تمامًا باحتياجات الفئات الصغيرة خاصة..

4- نقل العملات المعدنية لمسافات طويلة مكلّف للغاية إذا تمّ قياسه من خلال التقييم. تستخدم كل من الإكوادور وتيمور الشرقية سلسلة من العملات المعدنية الوطنية، والتي يمكن تحويلها بالكامل إلى دولارات أميركية في بلديهما.

فترة التداول النقدي المزدوج: bimonetarisation. يؤدي الاضطرار إلى إدارة عملتين رسميتين إلى تكاليف سوق إضافية وأوجه قصور اقتصادية أخرى. يتعيّن على تجار التجزئة التعامل مع مجموعتين من الأوراق النقدية والعملات المعدنية، ويجب الإعلان عن الأسعار لبعض الوقت بالعملتين وفقًا لسعر التحويل الرسمي.

يجب على الحكومة والبنك المركزي إعداد خطة لوجستية مع جدول زمني للإجراءات الرئيسية التي يتعيّن اتخاذها. أثناء التحويل، يعدّ توزيع وتخزين العملات الورقية الجديدة والقديمة تحدّيًا كبيرًا من وجهة نظر لوجستية.

كما ينبغي إبطال أوراق العملة الوطنية في وقت استبدالها بعملة الدولار الجديدة. تتضمن الأساليب المستخدمة عادة التكسير الميكانيكي وحرق الأوراق النقدية. من الأفضل القيام بذلك بشكل مركزي وليس بطريقة لامركزية، ويجب أن يتمّ دمجها مع نظام الإبلاغ عن العملات.

إنّ اعتماد عملة أجنبية كعملة قانونية له تكاليف وفوائد.

التكاليف الرئيسية المرتبطة بالدولرة الرسمية مثل:

(1) فقدان إيرادات طباعة العملة Gains de seigneuriage ؛

(2) قدرة محدودة أو معدومة على تقديم مساعدة مقرض الملاذ الأخير للمصارف المتعثرة؛

(3) عدم وجود سعر صرف يستخدم كحاجز واقٍ؛

(4) عدم القدرة على تخفيض قيمة المطلوبات المالية المقومة بالعملة الوطنية من خلال الانخفاض الكبير في سعر الصرف، أو عن طريق زيادة التضخم.

في المقابل، فإنّ فوائد تبنّي الدولرة رسميًا هي:

1- تقارب التضخم المحلي مع التضخم العالمي؛

2- القضاء على مخاطر الصرف التي تخفّض أسعار الفائدة المحلية.

3- تحسين البيئة الملائمة للاستثمار بفضل استقرار التضخم وانخفاض أسعار الفائدة؛

4- غياب ما يسمّى بـ «الخطيئة الأصلية»، مما يساعد في تقليل مخاطر البلد مع اختفاء مخاطر عدم تطابق العملات من الميزانيات العمومية للاقتصاد.

5- استعادة الثقة من خلال خلق «صدمة إيجابية» بفك الربط مع المرحلة السابقة التي ادّت الى الانهيار…

صحيح أنّ لكل خيار تحدّياته وإيجابياته المرجوة، إلاّ أنّ الدولرة الشاملة ليست أمنية أي بلد، إنما الملاذ الأخير بعد انعدام فعالية الخيارات الأخرى لأنظمة سعر الصرف… الآلية واضحة والمراحل دقيقة… والطابة تبقى في ملعب مجلس النواب…

د. سهام رزق الله

التغيّرات أو التقلُّبات أو التلاعب بسعر الصرف

الحديث عن تغيّرات أو تقلّبات سعر الصرف، مبنّي على عوامل تقنية لم تعد مناسبة، لأنّ الحقيقة المرّة والكلمة المناسبة هي حقيقة التلاعب بسعر الصرف وبحياة اللبنانيين، ونسبة عيشهم.

من الجهة التقنية، ترتبط التغيّرات بسعر الصرف في كل بلدان العالم بالعرض والطلب، والتوازن بين العملة الوطنية والعملات الصعبة، والاستيراد والتصدير، والكتلة النقدية، وبعض الأمور التقنية. لكن ما نشهده اليوم في أرض الواقع، لا يُشبه العوامل التقنية الدولية، إنما هي لعبة بكرة نار يتقاذفونها، ويتلاعبون بها لأسباب غامضة وتخريبية.

 

لماذا نسمّيها «تلاعب»؟ لأنّ هذه التغيّرات لا تلحق أي منطق تقني أو اقتصادي. والبرهان الأول هو حين أبصرت النور منصة صيرفة منذ سنة تقريباً، وضُخّت بعض السيولة من العملات الصعبة، حيث ارتفع سعر السوق السوداء، عوضاً أن ينخفض بحسب المنطق المالي والتقني، والمفاهيم الاقتصادية والمالية والنقدية. وقد حُفرت فجوة متعمدة بين منصة صيرفة والسوق السوداء.

 

ومن ثم بعد اتفاق سياسي، وتمهيداً للإنتخابات النيابية في العام الماضي، إنخفض سعر السوق السوداء، بنحو 10 آلاف ليرة، في بضع ساعات.

 

التفسير المباشر لهذه التقلّبات غير النمطية، أنّ هناك أيادي سوداء وبعض حيتان الصيرفة، يعملون ليلاً نهاراً وراء الستائر لخلق فجوة مستدامة ما بين السوق السوداء ومنصة صيرفة، بهدف أن يكون هؤلاء الموردون والبائعون الأكثر أهمية، يتحكّمون بسعر الصرف بعيداً من أي منصة رسمية.

 

البرهان الثاني الذي يُضاف إلى هذا التلاعب المتعمّد، هو حين زار لبنان مطلع صيف 2022، أكثر من مليون و800 ألف مغترب، حيث جرى ضخ حوالى 3 إلى 4 مليارات دولار، في السوق المحلية. إذ عوضاً من أن ينخفض سعر سوق الصرف، إرتفعت السوق السوداء بطريقة وهميّة، وغير منطقية. وهناك أمثلة كثيرة تُبرهن أنّ تقلبات سعر الصرف لها أسباب مختبئة وهمية وغير نمطية.

 

إضافة إلى ذلك، ليس سرّاً، أنّ سعر صرف السوق السوداء، يُلاحق على بعض التطبيقات الإلكترونية (Applications)، ولا نعرف مَن وراءها، أو من يُديرها، وبأي منطق تقني تتفاعل مع الأسواق. لكن المضحك المبكي، أنّ هذه السوق والتطبيقات الوهمية تعمل أكثر من بورصتي نيويورك أو لندن، وتعمل 24/24 ساعة، و7 أيام /7. فمن لم يستيقظ فجراً على رنة هاتفه ليُفاجأ بسعر الإرتفاع المذهل تحت ضوء القمر؟ ومَن لا يُفاجأ بالرنة عينها، يوم الأحد تُعلمه عن ارتفاع أو انخفاض الأسعار من دون سبب أو تفسير؟ فالواضح أنّ هناك مَن يتلاعب بذكاء اللبنانيين، لكن أيضاً بحياتهم ونسبة عيشهم ويشنّ عليهم حرباً نفسية.

 

أما في الموضوع التقني، فحجم اقتصادنا الذي كان يشكّل نحو 55 مليار دولار، تدهور إلى نحو 25 ملياراً بحسب مرصد البنك الدولي، وهذا يعني أنّ حجم اقتصادنا انخفض بنسبة 50%. فإذا بقيت التحويلات بالعملات الصعبة من الخارج تتمحور ما بين نحو 7-8 مليارات دولار سنوياً، وحتى لو وصلت إلى 10 مليارات دولار، ثمة فجوة كبيرة حيال الطلب والحاجة إلى الورقة الخضراء. فالحل الوحيد لنصل إلى بعض التوازن هو من جهة، إستقطاب عملات صعبة إضافية، ومن جهة أخرى إرتفاع سرعة التبادل بالعملات الصعبة في السوق المحلية.

 

كذلك هناك عامل واضح، أنّ جزءاً من العملات الصعبة التي تدخل البلاد، تُسحب إلى سوريا، جرّاء العقوبات وخصوصاً «قانون قيصر». فالسيولة الآتية إلى لبنان لن تكفي اقتصادنا المهترئ، فكيف يمكن أن تكفي إقتصادين وشعبين تحت الضغط الاقتصادي والاجتماعي؟

 

في الخلاصة، لا شك في أنّ هناك أسباباً تقنية ومالية ونقدية، وخسارة تامة في التوازن بين العرض والطلب. لذا فإنّ الفجوة كبيرة بينهما في السوق المحلية، لكن في الوقت عينه، شئنا أم أبينا، تُنتج هذه الفجوة تغيّرات وتقلّبات في أسعار الصرف، لكن الأسباب الأكثر أهمية هي من جهة، تهريب العملات من بلدنا، ومن جهة أخرى، التلاعب بأسعار الصرف بمنصّات وهميّة وبأهداف تخريبية ومدمّرة، وأرباح فادحة تتحقق في كل ساعة وفي كل يوم، من خلال هذه الأيادي السود والسوق السوداء، وجرّ اللبنانيين إلى المجهول.

 

د. فؤاد زمكحل

صناديق استرداد الودائع، أدوات لتمويه شطب الودائع

لا تزال خطط الحكومة تدعو لشطب معظم الودائع الدولارية (الفائضة) التي تفوق 100 الف دولار على الرغم من خسارة المواطن للكثير من مدّخراته بسبب الممارسات وعدم تنفيذ اية إصلاحات. اقترحت خطة الحكومة المعدلة الصادرة في 9 ايلول اساليب جديدة لشطب معظم الودائع بالدولار – من خلال شطب الفوائد الفائضة في الودائع، وشطب الودائع غير المؤهلة التي حوّلت من الليرة الى الدولار بعد 17 تشرين، وتحويل ودائع لسندات واسهم في المصارف بالليرة، وتحويل ما تبقى الى صندوق يسمّى «صندوق استرداد الودائع». وتقترح خطة الدولة تأمين استرداد الودائع الفائضة بحسب وصف الحكومة المقدرة بأكثر من 80 مليار دولار من اصل 99 مليار دولار من خلال الصندوق الوهمي الذي سيصدر حقوقاً لصالح المودعين – اي أوراق مالية من دون تحديد تاريخ الاستحقاق وعملته.

انّ تمويل صندوق استرداد الودائع سيستند الى تخصيص بعض الايرادات المستقبلية من ايرادات ادارة اصول الدولة من قبل القطاع الخاص في حال تجاوزت معايير محددة «ومع تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي بنجاح ووصول الدين العام الى مستوى أدنى مما هو مُستهدف في البرنامج للحفاظ على استدامة الدين»، ومن ايرادات الاموال المسروقة والمنهوبة وغير المشروعة، وجزء من اصول البنوك. يحتاج هكذا صندوق قرناً من الزمن لاستعادة جزء من الودائع.

 

والغريب في الامر انّ الحكومة كانت قد أخذت موقفاً مُعاداً لإنشاء صناديق استرداد الودائع، منذ بضعة اشهر، من خلال ادارة مؤسسات القطاع العام للتعويض من عائداتها على «الخسارات» المزعومة المقدّرة بـ 73 مليار دولار التي سيتحملها المودعون. واكدت انّ صندوقا بأصول تبلغ 20 مليار دولار وعائد قدره 5% سيستغرق 73 عاما على الاقل للتعويض عن خسائر المودعين. ولا يضمن ايضا القيمة الحقيقية لتلك الودائع ولا حتى استرداد قيمتها الاسمية التي ستصبح أضعاف الاموال المشطوبة الآن. اضافة الى ان صندوق النقد الدولي يخالف فكرة استعمال مؤسسات الدولة التي هي للجميع، المودع وغير المودع، كأداة للتعويض عن الودائع.

 

سينتج عن خطة الحكومة الاخيرة شطب 84 مليار دولار من اصل 99 ملياراً من الودائع التي ستُحوّل الى ودائع بالليرة على اسعار منخفضة جدا مقارنة بسعر السوق الحرة وسعر المنصة مقابل حقوق ورقية من دون اي قيمة. هذه ليست وسيلة لمعالجة الفجوة المالية. انّ هذا الاقتراح لا يؤدي الى حل بل الى تفاقم الازمة، وهي فقط استبدال التزام مؤكد بالتزام غير مضمون. يجب ان تستيقظ الحكومة وتُقلع كلياً عن الترويج لشطب الودائع التي تؤدي فقط الى هدم ثقة المواطن بالدولة والمصارف كونها لا تستطيع اعادتها.

 

المواطن لا يطالب باسترداد كل امواله فوراً ويعلم انّ اي جهاز مصرفي لأية دولة لا يستطيع اعادة اموال جميع المودعين في وقت واحد. انّ الدولة تُروّج للعكس وتعتبر النقص في السيولة كخسارة. المواطن يطلب من المصارف توفير السيولة والثقة كما كانت عليه قبل «الازمة».

 

انّ الخطأ يكمن في اعتماد ما يسمّى ركائز الخطة من قبل الحكومة الى: «حل الترابط بين ميزانيات المصارف التجارية – الديون السيادية – وميزانية مصرف لبنان». وهذا يعني شطب البنود المشتركة بين الحسابات الثلاثة. وفي المقابل يتوجب شطب الودائع ليبقى التوازن في حسابات المصارف.

 

يجب ان تُدرك الحكومة وكذلك الهيئات الاقتصادية ان اية خطة تستهدف شطب الودائع ستؤدي، اذا طبّقت، الى الاغلاق التام للمصارف والمزيد من التدهور الاقتصادي وستكون نتائجها نقمة وليس نعمة عليها. ان فكرة انشاء صناديق او شركات قابضة وهمية لاسترداد الودائع لا تعيد ثقة المواطن بالجهاز المصرفي.

 

انّ اصرار الحكومة على ان الاستعانة بصندوق النقد هو إلزامي ولا يوجد حلول اخرى، يشير الى انها غير قادرة على الاصلاح ويثير الشك بقدراتها. فهذا كلام لا يتقبّله حتى الصندوق، فهو يدعو الدول دائما للاصلاح الداخلي اولاً مع استعداده بأن يقدم المشورة اللازمة. كما يفضّل ان ترتكز الحلول الى جذب الاستثمارات الخاصة وليس على استجداء المعونات والديون الرسمية اولاً.

 

الحل يتطلب توفير السيولة للقطاع المصرفي واعادة الثقة وهذا لا يتحقق من خلال شطب الودائع ووعود باستردادها بعد عشرات العقود من خلال صناديق وهمية.

 

وأكرر، انّ اهم اوليات الاصلاح (ويجب ان تبدأ حالا) هي التالية:

 

(1) التحرير الكامل لسوق االعملات الاجنبية ليصبح سعر الدولار مقابل الليرة سعراً موحداً تلقائياً محدداً من قبل سوق القطع الشامل لجميع المعاملات المصرفية، للمؤسسات العامة والخاصة، للحكومة، والمواطن. وينهي التعامل باللولار (الدولار المصرفي قبل 17 تشرين 2019) والاسعارالمختلفة للدولار التي لا تزال تُرهق الاقتصاد من خلال التشوهات في الاسعار والدعم الاستنسابي لفئات على حساب فئات اخرى. كما ينهي معاناة المواطن من الشطب غير المباشر بسسب حجب الوصول لودائعه وتحديد السقف على السحب وسعر الصرف المبالغ فيه. لقد خسر المواطن المليارات بسبب القيود على سوق النقد الاجنبي ولم يبق له اية فوائد فائضة كما تزعم الدولة. ومن الواضح انّ أثر الشطب للودائع بالعملة الصعبة كان ولا يزال سلبيا ويضر بثقة المواطن، وهو اكبر عائق للنهوض الاقتصادي. ان تحرير سعر الصرف واطلاق حرية المصارف في التعامل في سوق القطع يعيد السيولة للاقتصاد والمصارف وكذلك ثقة المواطن.

 

(2) اعادة جدولة الاصول والالتزامات المالية جمعاء وتنفيذه من قبل الجهات المعنية في كل قطاع.

 

(3) الالتزام والتوصّل الى التوازن المالي خلال سنة واحدة. وسيساهم في ذلك الى حد كبير في تحرير سعر الصرف بحد ذاته.

 

(4) البدء فوراً بتحسين اداء مؤسسات القطاع العام من خلال خصخصة ادارة كل قطاع على حدة بهدف وقف الهدر في الدولة.

 

انّ تحسين ادراة المؤسسات العامة ضروري لتحسين اداء الاقتصاد وليس للتعويض عن ودائع كبار المودعين او صغارهم. وهذا يتم من خلال خصصة الادارة اولاً ومن ثم إنشاء شركات مساهمة تُعرض في بورصة بيروت وتكون متوفرة للجميع. ومن الممكن ان تحتفظ الحكومة بمساهمة جزئية لتمويل شبكة الامان الاجتماعية للفئات الأفقر.

 

انّ التركيز في الحل على شطب الودائع وأصول المصارف والوعود بإعادتها بعد عقود لن يُثمر. ومن الاجدى للحكومة ان تتوجه للمواطن وللمودع العربي والاجنبي برؤيا جديدة وتبرّىء ذمّتها بتقديم طرح رائد لها (وان لا تكون اسيرة لطلبات الصناديق الدولية) يعيد ثقة المستثمر المقيم والمغترب. انّ الترويج السائد ان الخطة الحالية للحكومة ستجذب المليارات من الخارج هو مجرد وهم، بينما في الحقيقة نحن هَدرنا 25 ملياراً منذ بدء الازمة.

الأزمة النقدية علاجها نقدي: دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

منذ عام 1994 نشر صندوق النقد الدولي ورقة بحثية فَنّد فيها خصوصية دولرة الإقتصاد اللبناني منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، ولم يرَ أفقاً للخروج منها واستعادة الثقة بالعملة الوطنية، على رغم من عودة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي للبلاد. وشرح ذلك بما يُعرف بعلم الاقتصاد بتخلّفية الخروج من الدولرة، حتى لو زالت الأسباب التي أدّت إليها Hysterisis effect of Dollarization اليوم كرّر البنك الدولي تأكيد المسار التصاعدي للدولرة في لبنان، حتى بعد تعافي الاقتصاد، علماً أنّ لبنان عرف 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، من دون انخفاض ملحوظ للدولرة. فما هي خصوصية الدولرة في لبنان وقراءتها لدى صندوق النقد والبنك الدولي؟ ولماذا المسار نحو الدولرة الشاملة؟

كما كتبها صندوق النقد الدولي عام 1994، جَدّدها تقرير البنك الدولي الأخير لعام 2022 حول دولرة الإقتصاد اللبناني، مؤكّداً مسارها التصاعدي في غياب معالجة الأزمة النقدية، حتى ولو تحقّق تعافياً اقتصادياً عاماً. وقد جاء في خلاصة التقرير، تحليل لعملية الدولرة في لبنان، ويَخلُص إلى أنّ الأزمة الحالية ستعزز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي.

تاريخياً، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى ازدياد كبير في عملية الدولرة في البلاد، مع اتساع نطاقها بمرور الوقت للودائع والإقراض والدين العام. لم يتطور النظام المالي في لبنان خارج القطاع المصرفي، وحال الافتقار إلى سوق رأس المال، من دون تطوير أدوات التنويع والتحوّط التي كان من الممكن أن تساعد في خفض الدولرة أو عكس مسارها. ولا يزال تطوير أسواق رأس المال أمراً بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، كما أنّه سيتطلب تحقيق استقرار على صعيد الاقتصاد الكلي على المدى القصير وتبنّي نموذج نموٍ على المدى الطويل.

وشهد لبنان دولرة على نطاق واسع أثناء وبعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. تحلّل هذه الورقة القوى الدافعة وراء دولرة الاقتصاد اللبناني، باستخدام نموذجين اقتصاديين قياسيين، بصرف النظر عن المحدّدات المتضمنة عادة في الدراسات التجريبية على ظاهرة الدولرة، وتأخذ في الاعتبار أيضًا محدودية انعكاس عملية الدولرة. كان للحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا تأثير مدمّر على لبنان اقتصاديًا. لم يكن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في عام 1990 سوى ثلث مستواه في عام 1975. العجز المالي المُتزايد بسرعة، بتمويل من طباعة النقد – لا سيما خلال منتصف الثمانينات – ومع اشتداد الحرب تصاعدت ضغوط الطلب المحلي والتضخم جنبًا إلى جنب مع استمرار انخفاض قيمة العملة، الليرة اللبنانية. بعد فوات الوقت، ساهمت هذه التطورات في زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية لأغراض المعاملات وتخزين القيمة ووحدة الحساب، والتي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، تأمين الاستقرار السياسي والحكومي، واستقرار ظروف الاقتصاد الكلي، بما في ذلك التضخم، وإعادة تدفق كبير للأموال من الخارج.

وقد لوحِظت أنماط مماثلة في مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى حول العالم، مثل استبدال العملة على نطاق واسع والدولرة عادة ما يُفترض أنه ناتج عن التدهور الاقتصادي للبلد، الوضع المالي والسياسي، والذي ينعكس، من بين أمور أخرى، في ارتفاع وتسارع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة العملة المحلية. خلال العقد ونصف العقد الماضي، عدد من الدراسات التجريبية ركّزت على هذه الظاهرة، التي كانت منتشرة بنحو خاص ومستمر في أميركا اللاتينية، ولكنه حدث أيضًا بمقدار أكثر اعتدالًا في البلدان النامية والصناعية الأخرى حول العالم، وكذلك بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر واليمن.

ومع ذلك، فإن معظم نماذج استبدال العملات التقليدية تشير إلى أنه بمجرد استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي والسياسي، فإنّ استخدام العملة الأجنبية ينخفض مرة أخرى. ومع ذلك، لم يحدث في الواقع في العديد من حالات البلد. لكن القليل فقط من الدراسات التجريبية حول العملة قد تعامل الاستبدال على وجه التحديد مع التخلفية في الخروج من الدولرة والعودة الى العملة الوطنية.

في حين أن دولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لما بعد الحرب، كذلك أدت دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأن «دولرة الودائع تحفّز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الموازنة العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي. أما في حال كان المقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكَون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وَظّفت المصارف الدولارات لديهم توقفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولا الى المقترضين من القطاع الخاص).

تحلّل هذه الورقة محددات استخدام العملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين وتتناول بنحو صريح المثابرة في استخدامه. بينما النماذج العادية لإحلال العملة تفترض عملية استبدال متماثلة وقابلة للانعكاس تسمح بتغيير غير مقيّد في نسبة إحلال العملة في كلا الاتجاهين عندما تتغير المحددات الأساسية، النهج المستخدم في ورقة صندوق النقد أخذ في الاعتبار على وجه التحديد قابلية التراجع المحدودة لدولرة الاقتصاد اللبناني حتى بعد تطبيع نسبي للوضع السياسي والاقتصادي، ما يعني ضمناً وجود غير متماثل لعملية الاستبدال، أي صعوبة الخروج من الدولرة حتى بعد زوال أسباب حدوثها.

من المعلوم أنه تم دعم الدولرة في لبنان بسبب ضعف أساسيات الاقتصاد الكلي. يتضمّن بنية مالية كلية متكاملة من مستويات عالية للديون، وعجزاً مزدوجاً كبيراً (عجز مالي وعجز الميزان التجاري) بالاستناد الى قطاع مصرفي كبير الحجم وقوي. كانت احتياجات التمويل قبل الأزمة كبيرة، يتم تمويلها بشكل أساسي من خلال قطاع مصرفي فاقت ودائعه أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ضمان مصرف لبنان أنّ البنوك استمرت في جذب الودائع الأجنبية وذات الاحتياجات التمويلية الإجمالية للقطاعين العام والخاص تمّ الوفاء به، وبالتالي تمويل العجز المالي الكبير عجز الحساب المالي. وبغية جذب الودائع الأجنبية، قدم مصرف لبنان شهادات بالدولار من الودائع ومختلف إعادة تمويل العملات الأجنبية المدعومة المخططات. لتلبية احتياجات الحكومة، كان مصرف لبنان المشتري المتبقّي للديون الحكومية في السوق الأولية والأسواق الثانوية. وقد أرسَت هذه العوامل المختلفة أرضًا خصبة لتدفقات رأس المال.

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرِن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية. وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بالعملة نفسها التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، ولا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح الذي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها، أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق الى بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

بعد سقوط نظام الربط المَرن لسعر الصرف ونفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظراً لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في إقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق 80 %، لا يبقى علمياً أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو «مجلس النقد» الرديف لها.

طبعاً كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستناداً الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أنّ الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياط بالعملات الأجنبية بالدولار الأميركي يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي.

عند الافتقاد الكلي والمزمن بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل، أي الدولار الأميركي، في حال لبنان، بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي إليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… أما إزاء «تردّد» البعض في اعتماد الدولرة الشاملة، على رغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولراً بأكثر من 80 %، أي أنّ ما يعرف بـ«السيادة النقدية»، لم يعد يتخطى حدود الـ20 %، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو «مجلس النقد» الذي يتفادى اعتماد «الدولار الأميركي» رسمياً في حد ذاته كلياً بدلاً من الليرة اللبنانية، بل اعتماد إسم عملة آخر (الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي. ويبقى القول ان الأزمة النقدية لا يمكن معالجتها سوى انطلاقاً من الشق النقدي واعتماد سعر الصرف المناسب ومن تؤكد الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية وتقاريرالمنظمات الكبرى، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، حتى لو تمّ تعافي الاقتصاد تبقى الدولرة متزايدة عندما تنفلش في الاقتصاد وتصمد مرتفعة حتى بعد استقراره. الدولرة الشاملة تفرض نفسها واقعاً، الخيار المتبقّي يكمن في آلية الاعتراف بها رسمياً لوقف الفوضى في الأسواق وتأمين العدالة في الوصول الى الدولار لجميع المواطنين.

د. سهام رزق الله

الأزمة النقدية علاجها نقدي: دولرة لبنان بين صندوق النقد والبنك الدولي

منذ عام 1994 نشر صندوق النقد الدولي ورقة بحثية فَنّد فيها خصوصية دولرة الإقتصاد اللبناني منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، ولم يرَ أفقاً للخروج منها واستعادة الثقة بالعملة الوطنية، على رغم من عودة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي للبلاد. وشرح ذلك بما يُعرف بعلم الاقتصاد بتخلّفية الخروج من الدولرة، حتى لو زالت الأسباب التي أدّت إليها Hysterisis effect of Dollarization اليوم كرّر البنك الدولي تأكيد المسار التصاعدي للدولرة في لبنان، حتى بعد تعافي الاقتصاد، علماً أنّ لبنان عرف 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، من دون انخفاض ملحوظ للدولرة. فما هي خصوصية الدولرة في لبنان وقراءتها لدى صندوق النقد والبنك الدولي؟ ولماذا المسار نحو الدولرة الشاملة؟

كما كتبها صندوق النقد الدولي عام 1994، جَدّدها تقرير البنك الدولي الأخير لعام 2022 حول دولرة الإقتصاد اللبناني، مؤكّداً مسارها التصاعدي في غياب معالجة الأزمة النقدية، حتى ولو تحقّق تعافياً اقتصادياً عاماً. وقد جاء في خلاصة التقرير، تحليل لعملية الدولرة في لبنان، ويَخلُص إلى أنّ الأزمة الحالية ستعزز على الأرجح مستويات الدولرة المرتفعة، حتى بعد تحقيق التعافي.

تاريخياً، أدّت أزمات العملات المتعددة إلى ازدياد كبير في عملية الدولرة في البلاد، مع اتساع نطاقها بمرور الوقت للودائع والإقراض والدين العام. لم يتطور النظام المالي في لبنان خارج القطاع المصرفي، وحال الافتقار إلى سوق رأس المال، من دون تطوير أدوات التنويع والتحوّط التي كان من الممكن أن تساعد في خفض الدولرة أو عكس مسارها. ولا يزال تطوير أسواق رأس المال أمراً بعيد المنال في ظل الظروف الحالية، كما أنّه سيتطلب تحقيق استقرار على صعيد الاقتصاد الكلي على المدى القصير وتبنّي نموذج نموٍ على المدى الطويل.

وشهد لبنان دولرة على نطاق واسع أثناء وبعد 15 عاماً من الحرب الأهلية. تحلّل هذه الورقة القوى الدافعة وراء دولرة الاقتصاد اللبناني، باستخدام نموذجين اقتصاديين قياسيين، بصرف النظر عن المحدّدات المتضمنة عادة في الدراسات التجريبية على ظاهرة الدولرة، وتأخذ في الاعتبار أيضًا محدودية انعكاس عملية الدولرة. كان للحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عامًا تأثير مدمّر على لبنان اقتصاديًا. لم يكن نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي الحقيقي في عام 1990 سوى ثلث مستواه في عام 1975. العجز المالي المُتزايد بسرعة، بتمويل من طباعة النقد – لا سيما خلال منتصف الثمانينات – ومع اشتداد الحرب تصاعدت ضغوط الطلب المحلي والتضخم جنبًا إلى جنب مع استمرار انخفاض قيمة العملة، الليرة اللبنانية. بعد فوات الوقت، ساهمت هذه التطورات في زيادة الاعتماد على العملات الأجنبية لأغراض المعاملات وتخزين القيمة ووحدة الحساب، والتي استمرت حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، تأمين الاستقرار السياسي والحكومي، واستقرار ظروف الاقتصاد الكلي، بما في ذلك التضخم، وإعادة تدفق كبير للأموال من الخارج.

وقد لوحِظت أنماط مماثلة في مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى حول العالم، مثل استبدال العملة على نطاق واسع والدولرة عادة ما يُفترض أنه ناتج عن التدهور الاقتصادي للبلد، الوضع المالي والسياسي، والذي ينعكس، من بين أمور أخرى، في ارتفاع وتسارع معدلات التضخم وانخفاض كبير في قيمة العملة المحلية. خلال العقد ونصف العقد الماضي، عدد من الدراسات التجريبية ركّزت على هذه الظاهرة، التي كانت منتشرة بنحو خاص ومستمر في أميركا اللاتينية، ولكنه حدث أيضًا بمقدار أكثر اعتدالًا في البلدان النامية والصناعية الأخرى حول العالم، وكذلك بعض دول الشرق الأوسط مثل مصر واليمن.

ومع ذلك، فإن معظم نماذج استبدال العملات التقليدية تشير إلى أنه بمجرد استعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي والسياسي، فإنّ استخدام العملة الأجنبية ينخفض مرة أخرى. ومع ذلك، لم يحدث في الواقع في العديد من حالات البلد. لكن القليل فقط من الدراسات التجريبية حول العملة قد تعامل الاستبدال على وجه التحديد مع التخلفية في الخروج من الدولرة والعودة الى العملة الوطنية.

في حين أن دولرة الودائع كانت حاسمة للهيكل المالي الكلي لما بعد الحرب، كذلك أدت دولرة الودائع الى دولرة أخرى في الاقتصاد، بما في ذلك دولرة الإقراض وكذلك الدين العام. يتم شرح هذه السببية بأن «دولرة الودائع تحفّز الدولرة في القروض. تشجع المستويات المرتفعة من ودائع العملات الأجنبية لدى المصارف على إقراض المتعاملين المحليين بالعملة الأجنبية للمحافظة على مواضع الموازنة العمومية المتطابقة، ويسري مفعول ذلك بنقل عبء سعر الصرف الى المقترضين في حال تدهور سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي. أما في حال كان المقترضون عاجزين عن التسديد نظراً لكَون مداخيلهم بالعملة الوطنية فيكون الخطر انتقل الى المودعين وهذا ما حصل فعلياً في لبنان حيث كل من وَظّفت المصارف الدولارات لديهم توقفوا عن تسديدها بالدولار (من الدولة وصولا الى المقترضين من القطاع الخاص).

تحلّل هذه الورقة محددات استخدام العملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني خلال العقدين الماضيين وتتناول بنحو صريح المثابرة في استخدامه. بينما النماذج العادية لإحلال العملة تفترض عملية استبدال متماثلة وقابلة للانعكاس تسمح بتغيير غير مقيّد في نسبة إحلال العملة في كلا الاتجاهين عندما تتغير المحددات الأساسية، النهج المستخدم في ورقة صندوق النقد أخذ في الاعتبار على وجه التحديد قابلية التراجع المحدودة لدولرة الاقتصاد اللبناني حتى بعد تطبيع نسبي للوضع السياسي والاقتصادي، ما يعني ضمناً وجود غير متماثل لعملية الاستبدال، أي صعوبة الخروج من الدولرة حتى بعد زوال أسباب حدوثها.

من المعلوم أنه تم دعم الدولرة في لبنان بسبب ضعف أساسيات الاقتصاد الكلي. يتضمّن بنية مالية كلية متكاملة من مستويات عالية للديون، وعجزاً مزدوجاً كبيراً (عجز مالي وعجز الميزان التجاري) بالاستناد الى قطاع مصرفي كبير الحجم وقوي. كانت احتياجات التمويل قبل الأزمة كبيرة، يتم تمويلها بشكل أساسي من خلال قطاع مصرفي فاقت ودائعه أكثر من أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ضمان مصرف لبنان أنّ البنوك استمرت في جذب الودائع الأجنبية وذات الاحتياجات التمويلية الإجمالية للقطاعين العام والخاص تمّ الوفاء به، وبالتالي تمويل العجز المالي الكبير عجز الحساب المالي. وبغية جذب الودائع الأجنبية، قدم مصرف لبنان شهادات بالدولار من الودائع ومختلف إعادة تمويل العملات الأجنبية المدعومة المخططات. لتلبية احتياجات الحكومة، كان مصرف لبنان المشتري المتبقّي للديون الحكومية في السوق الأولية والأسواق الثانوية. وقد أرسَت هذه العوامل المختلفة أرضًا خصبة لتدفقات رأس المال.

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرِن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات من دون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية. وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بالعملة نفسها التي يتكبّدون فيها تدريجاً كل المصاريف، ولا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح الذي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها، أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرّق الى بقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

بعد سقوط نظام الربط المَرن لسعر الصرف ونفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظراً لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في إقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق 80 %، لا يبقى علمياً أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو «مجلس النقد» الرديف لها.

طبعاً كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستناداً الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أنّ الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياط بالعملات الأجنبية بالدولار الأميركي يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي.

عند الافتقاد الكلي والمزمن بالعملة الوطنية وطغيان التعامل بالعملة البديلة لا يعود الخيار بينها وبين البديل، أي الدولار الأميركي، في حال لبنان، بل يصبح الخيار في آلية الربط الصارم المناسبة وكيفية الانتقال التدريجي إليها بُغية نجاحها بأسرع وقت وأقلّ كلفة… أما إزاء «تردّد» البعض في اعتماد الدولرة الشاملة، على رغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولراً بأكثر من 80 %، أي أنّ ما يعرف بـ«السيادة النقدية»، لم يعد يتخطى حدود الـ20 %، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو «مجلس النقد» الذي يتفادى اعتماد «الدولار الأميركي» رسمياً في حد ذاته كلياً بدلاً من الليرة اللبنانية، بل اعتماد إسم عملة آخر (الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي. ويبقى القول ان الأزمة النقدية لا يمكن معالجتها سوى انطلاقاً من الشق النقدي واعتماد سعر الصرف المناسب ومن تؤكد الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية وتقاريرالمنظمات الكبرى، مثل صندوق النقد والبنك الدولي، حتى لو تمّ تعافي الاقتصاد تبقى الدولرة متزايدة عندما تنفلش في الاقتصاد وتصمد مرتفعة حتى بعد استقراره. الدولرة الشاملة تفرض نفسها واقعاً، الخيار المتبقّي يكمن في آلية الاعتراف بها رسمياً لوقف الفوضى في الأسواق وتأمين العدالة في الوصول الى الدولار لجميع المواطنين.

د. سهام رزق الله