أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

خطة ابتلاع 70% من الودائع

رأنا في الآونة الاخيرة ان صندوق النقد الدولي يقترح اعادة ترتيب القطاع المصرفي باصدار تشريعات تحدد صلاحيات مصرف لبنان في اصدار النقد وتحصر الجهاز المصرفي بـ 14 مصرفًا لا نعرف نحن ولا هم مَن هي هذه المصارف باستثناء اكبر خمسة مصارف تحوز – سابقًا – نسبة 70% من الودائع التي كانت تبلغ في نهاية 2020 نحو 140 مليار دولار، نسبة الدولرة من المجموع لا تقل عن 75% وحسابات غير اللبنانيين بمن فيهم السوريون لا تتجاوز نسبة 10% منها 7% للسوريين.

اقتراحات اليوم هي استصدار قوانين تسهل عملية دمج بعض المصارف والمساهمة في اغلاق اعمال المصارف المتبقية، وبما ان هنالك 61 مصرفًا في لبنان عام 2021 فالخطط المقترحة تشمل الغاء رخص 45 مصرفًا.

 

اننا نعتبر هذا التفكير خاطئًا، ونرى ان التقيد بل التمسك بتعليمات صندوق النقد الدولي امر يناقض طبيعة الاقتصاد اللبناني، ولنكن صريحين جدا، لبنان بعد عهد ميشال عون لن يستعيد عافيته الا اذا توافرت عناصر قيادية متميزة علميًا واخلاقيًا لادارة الشأن العام، ومن دون حرية اقتصادية لن يكون للبنان مستقبل. ولعل النظر الى اوضاع سوريا مفيد. فالبلد الذي كان يسمى “قلب العروبة” حكمُه مستمر من اقلية متحكمة بدعم عسكري من ايران – يخالطه توسع في الملكيات في ضواحي دمشق – وروسيا التي لديها مرفأ بحري ومطار خاص، الى “حزب الله” الذي تتوزع فرقه حيث هنالك ضغط على رجالات الدولة، ولم يبق من سوريا لاستعادة الحياة الناشطة ربع البلد. فهنالك 5 ملايين سوري وسورية حازوا الجنسية التركية وغالبيتهم يمارسون الاعمال والدراسة على مقربة من اماكن وجودهم. والسوريون في الاردن ولبنان ومصر ودبي يناهز عددهم الـ 6 ملايين، وبالتالي فان سكان سوريا اليوم هم حوالى 12 مليون نسمة.

ان حكم الرئيس عون مقيد دستوريًا ان لا يستمر بعد تشرين من هذا العام، وبعد ذلك تصبح صلاحيات الرئاسة في ايدي مجلس الوزراء مجتمعًا، وقبل نهاية هذا العام، لا يمكن توقع اعادة ترتيب اوضاع المصارف، او تشجيع المستثمرين، سواء اللبنانيين او غيرهم، على الاستثمار في لبنان.

ان التوجه الحكومي الحالي بالنسبة لاستعادة الثقة بلبنان كبلد حضاري ملتزم بالقوانين يقترح بالنسبة للمصارف خفض العدد من 61 الى 14، ومن ثم تسديد 100 الف دولار للحسابات التي تضم هذا المبلغ او يزيد منذ سنوات من دون تحديد زمن التسديد وكيف يكون.

ان من يقترحون هذا العلاج بعيدون عن جوهر المشكلة القائمة والتي دفع ثمنها عدد كبير من اللبنانيين عبر سحوباتهم بالدولار التي كانت تسدد على مستويات اسعار بالليرة محددة من مصرف لبنان، والعملية كانت تجري على حساب المودعين وتؤدي الى ارباح فاحشة لاصحاب البنوك.

صاحب حساب يسمح له البنك بسحب ما يعادل الف دولار من حسابه يوفرون له المبلغ على مدى شهر ويعمدون الى شطب حقه في وديعة الالف دولار ويذهبون الى السوق السوداء لجني الربح سواء بحيازة 25 مليون ل.ل بدل كلفة الـ 8 ملايين او في ايام تجاوز سعر صرف الدولار الـ 30 الف ل.ل يحققون ربحًا يبلغ 22 مليون ل.ل مقابل المبلغ المسدد وتكون نسبة الربح حينئذٍ اقل بقليل من ثلاثة اضعاف.

اللبنانيون سحبوا من حساباتهم ما بين 2019 و2021 حوالى 70 مليار دولار ومعظمهم من اصحاب الحسابات البسيطة او المتوسطة، وهذه الحسابات واجهت خسائر بنسبة 70% على الاقل ذهبت لحسابات اصحاب البنوك، وبالتالي اي حل لموضوع البنوك يستوجب استرجاع هذه الاموال لمصلحة المودعين في مختلف المصارف.

وبحسب احصاءات آخر حزيران 2022 فان مجموع الودائع كان قد بلغ 53.4 مليار دولار منها 80% بالدولار و20% بالليرة اللبنانية. وبنهاية هذه السنة 2022 من المقدر ان تكون حسابات المودعين قد انخفضت الى مستوى 40 مليار دولار على الاكثر، وعملية التحقق من ارباح المصارف من عملية تقطير دفع حسابات الودائع امر يستوجب دراسات محاسبية طويلة ومعمقة واستثنائية ولا يمكن ان تتم قبل نهاية السنة، وبالتالي علينا اذا شئنا المحافظة على قدر من مستوى المعيشة السليم وعدم التعرض للنهب، ان نحاسب من استلبوا ما يعادل نسبة 70% من ودائع الدولار والعملات الاجنبية.

لقد حققنا نجاحات كبيرة في استقطاب المعونات، وكان اول انجاز ان مصرف لبنان تمكن من الاستفادة من مبلغ 1.3 مليار دولار توافر من صندوق السحوبات الخاصة لدى صندوق النقد الدولي، وكعادته لم يتبجح حاكم مصرف لبنان بهذا النجاح، علمًا بانه الاكبر، وربما يمهد لاستقطاب مبلغ مماثل لعام 2023 فنكون حققنا زيادة في موارد النقد الاجنبي توازي 2.6 ملياري دولار، وكل ما نلهث وراءه من دون تروٍّ الحصول على تسهيلات مثقلة بالشروط مقدارها 3 مليارات دولار على مدى اربع سنوات اي ما يساوي 750 مليون دولار سنويًا.

المساعدات الاميركية ارتفعت من 100 مليون دولار للجيش الى 300 مليون هذه السنة، واضيف اليها 150 مليون دولار للجامعة الاميركية و50 مليونا لمؤسسات صحية وتعليمية.

المساعدات الفرنسية وازت 250 مليون يورو للمدارس التي اختارت المناهج الفرنسية وحتى بعض المدارس المختلطة. ويضاف اليها 150 مليون دولار مساعدات غذائية وطبية من فرنسا والسعودية، ومساعدات غذائية وصحية لفترة 6 اشهر من الامارات، واضيف اليها 60 مليون دولار من قطر مساهمة في معاشات الجيش.

ميزة هذه المساعدات ان انفاق قوة “اليونيفيل” مثلا على الخدمات في الجنوب توفر للبنان مبالغ اكبر بكثير من قرض صندوق النقد الدولي وشروطه المعقدة.

قبل اختيار المصارف الـ14 واقفال البقية يجب التحقق من ارقام الميزانيات بدقة حتى نهاية 2022، وهذا الامر لا يتحقق قبل 4 -5 اشهر. فالبنوك الـ 5 الكبرى لديها ما يوازي 70% من مجمل الودائع، وعدد من رؤساء مجالس إدارات البنوك الـ 5 الكبرى ارتكبوا تسهيلات غير مألوفة. ومن البنوك التي لا يجري البحث حولها هناك 5 او 6 بنوك تتمتع بالسيولة الكافية لتغطية حسابات الزبائن، والحل يكون بتشغيل هذه البنوك والتوسع تدريجا.

اذا كانت هنالك ارادة بتعويض المودعين الى حد ما يجب انشاء الصندوق الوطني للاستثمار وتخصيصه بـ 40% من اسهم الريجي التي تعمل بنشاط وتحقق ربحية، وغالبية اسهم شركة انترا للاستثمار، واتفاق لتطوير وتشغيل مرفأ طرابلس من قِبل الصينيين… ويضاف الى كل ذلك ما بيّنته الدراسات حول منافع تحويل الدولار بسعر رسمي للمودعين واستعمال المتوافر من الدولارات لتحقيق ارباح ضخمة، واذا لم يحدث ذلك لن تكون هنالك فرصة لتصحيح الاوضاع.

مروان اسكندر

متابعة قراءة خطة ابتلاع 70% من الودائع

لبنان والعالم في مهبّ الـ «Shrink Flation»

بعد عامين ونصف على بدء جائحة كورونا التي شكّلت صدمةً اقتصاديةً عالمية دفعت بالمصارف المركزية، كالفدرالي الاميركي والمركزي الاوروبي والمركزي الصيني والمصرف المركزي الروسي … لطباعة عشرات تريليونات الدولارات وضخها في الاسواق المالية، ما خلق وفرة في النقد وأتاح تمويلات ميّسرة من دون فوائد، شكّلت الحرب الروسيه -الاوكرانية منعطفاً اكثر خطورة على استدامة النمو الاقتصادي، خصوصاً انّه لا يمكن توقّع نهايتها حتى الآن.

تزاوج فائض السيولة مع ارتفاع المخاطر وشح الإمدادات خصوصاً الطاقة والمواد الأساسية كالحبوب، فارتفعت أسعار المواد الاولية والسلع والخدمات في كافة أرجاء العالم بنسب كبيرة جداً وصلت إلى اكثر من 200% على معظم السلع، ومعها ارتفعت ايضاً اسعار الخدمات، في دوامة مستمرة منذ شباط، ولا أفق لحلها بعد.

عالمياً، مداخيل المستهلك عادة ما تكون ثابتة وتنمو بمعدل 3% إلى 5% سنوياً، بنسبة لم تعد تتماشى ومستويات التضخم المرتفعة، ما يُترجم تراجعاً في القدرة على شراء السلع والمنتجات. اقتصادياً، ارتفاع مستويات التضخم بشكل صاروخي في موازاة استقرار في الدخل، يعني تراجع الطلب على السلع، ومعها يتراجع تصنيع السلع والخدمات المرافقة، فتتأثر الدورة الاقتصادية التي تشهد ركوداً، فيما الاسعار ترتفع تدريجياً لتصل إلى مستويات قياسية. وهو بالتحديد ما يمكن تسميته «shrink flation».

ما هو shrink flation؟
المصطلح الجديد يحدّد وبوضوح ومن خلال عبارة «Shrink» التقليص المستجد في حجم وكمية المنتج بحسب الطلب، وتدريجياً لعدم خلق صدمة في الاسواق. أما مصطلح «flation» فيشير إلى الارتفاع في اسعار المنتجات او الخدمات.

مثال على ذلك: إذا كانت علبة البسكويت تحتوي على 100 غرام وكان سعرها 3$، يعمد المنتجون في اوقات الـ shrink flation إلى تخفيض وزنها الى 75 غراماً وزيادة سعرها إلى 3.50$، بذلك لا يشعر المستهلك بتقليل الكمية، كما انّه لا ينتبه كثيرًا إلى زيادة السعر، فيستمر المستهلك بشراء المنتجات التي اعتاد استعمالها او الخدمات، من دون الحاجة إلى تغيير نمط الاستهلاك.

واقع اقتصادي مستجد فرضته أحداث غير اعتيادية، ما دفع بالمصنّعين والمنتجين ومقدّمي الخدمات إلى التكيّف لإرضاء المستهلك بأقل الخسائر الممكنة.

واقع أثّر سلباً على كل دول العالم، وانما تأثيره تضاعف في لبنان. وإلى كل العوامل الاقتصادية الخارجية التي طبعت الاقتصاد اللبناني، تُضاف العوامل الداخلية، من الأزمة المالية إلى النقدية والاقتصادية. فتراجع سعر صرف الليرة وحده فرض تضخماً قياسياً في الاسعار لامس 1000% او اكثر في بعض الاحيان.

كما تأثر لبنان بارتفاع كلفة المحروقات مع رفع الدعم عنها، ليدخل في دوامة تقلّص الانتاج وارتفاع الاسعار بشكل اسوأ من الدول الاخرى. ولا بدّ من الاشارة، انّه بالرغم من لجوء المنتجين والمصنّعين ومقدّمي الخدمات الى تقليص حجم انتاجهم ومحاولة عرض اسعار تنافسية، الّا انّ نمط الاستهلاك في لبنان قد تغيّر.

فعلياً، لبنان امام أزمات اقتصادية ونقدية ومعيشية صعبة، تتفاقم يوماً بعد يوم، فيما لا يزال افق الحل غائباً. وفيما تصدّر لبنان بأزمته المراكز الاولى عالمياً، قد يصنع مرة اخرى العنوانين او يخلق واقعاً اقتصادياً مختلفاً على حساب الشعب والمواطن والرفاهية والعيش الكريم.

د. باسم البواب

القطاع المصرفي إلى أين؟

لقد تآكلت المعاملات المصرفية بما فيها إغلاق المصارف لـ10 ايام خلال عام 2019 و15 يوماً خلال عام 2020 والودائع ما بين نهاية 2019 وشهر تشرين الأول عام 2020 انخفضت بما يساوي 29 مليار دولار ربما نصف هذه المبالغ سحب للإيداع لدى العائلات خوفاً من شح الدولارات في ما بعد، والأهم من كل ذلك أنه ليس هنالك قانون يمنع التحويل من لبنان الى الخارج مع الترحيب بتوافر ما يُسمّى fresh dollar أي الدولار الطازج، يا لسخافة المعاملات المالية.

المصرفيون فرضوا على المودعين سقفاً لسحب ودائعهم حتى لو كانت بعشرات آلاف ومئات آلاف الدولارات ومع ذلك انخفضت الودائع الإجمالية من 142 مليار دولار منها نسبة 10% لغير اللبنانيين – الى مستوى 70 مليار دولار حالياً، وكل ما سمعناه من حكومة الرئيس ميقاتي على لسان نائب رئيسها أن حقوق المودعين ربما يمكن تأمين جزء منها في حال توافر رأسمال البنوك. نائب رئيس الوزراء الذي يتصرّف كأنه العالم العلّامة بشؤون المصارف وسياسات صندوق النقد الدولي لا يعرف أن رؤوس أموال المصارف قد تبخّرت، وكيف للمصارف أن تحفظ رؤوس أموالها وأموال المودعين وهي لا تستقبل ودائع سوى من النوع الذي يمكن محاصرته بممارسات البنوك غير القانونية حقاً، والحديث عن القانون يدفعنا الى التعرّض لممارسات بنوك اشتهرت بمصداقيتها.

عام 2008 بعد أزمة بنك Lehman Bros وشركة التأمين الأميركية الدولية AIG وكان إفلاس البنك على مستوى 640 مليار دولار وشركة التأمين التي كانت ناشطة في لبنان والشرق الأوسط على مستوى 180 مليار دولار، أعلن الرئيس الأميركي أن أموال جميع المودعين في جميع المصارف الأميركية بالدولار مضمونة دون انتقاص.

في الوقت ذاته أقرّ الكونغرس قانوناً يسمح للرئيس (بوش الابن بتاريخه) بمصادرة جميع الودائع بالدولار لدى البنوك الأميركية إذا استوجبت ذلك المصلحة الوطنية، ويا لهذا التعبير من شرح واضح، المهم أن الأميركيين سحبوا بموجب هذا القانون يدهم من ضمانة سعر صرف الدولار وأهمّيته كعملة لسداد الالتزامات المالية. قانون كهذا لم يصدر في العالم في أي وقت وخلال أي أزمة. كل ما حققه هذا القانون هو انتزاع مسؤولية السلطات الأميركية عن توافر أو عدم توافر الدولار لحاجات مختلف الدول.

بالتأكيد من المهم التذكير في هذا الصدد بأن العملة الاكثر استعمالاً وادّخاراً – بصورة مبدئية طبعاً – هي الدولار. فنسبة 80% من الودائع المترصّدة هي بالدولار وكانت سابقاً على مستوى 85%.

المضاربات على تفاوت أسعار العملات على النطاق العالمي تشمل 5 عملات هي الفرنك السويسري، اليورو، الين الياباني، الاسترليني، الدولار الأميركي، والمضاربات تنجز بين هذه العملات، ومن المفيد أن نذكر معدلات مديونية الدول ذات الاهمية على صعيد العملات قياساً الى حجم إنتاجها.

بلدان السوق الأوروبية مدينة بأكثر من 6-7 تريليونات دولار، والتريليون هو ألف مليار، والخزينة الاميركية مدينة بسندات تبلغ قيمها حالياً، وهي على زيادة مع تنفيذ برنامج الرئيس لإنفاق 1.2 تريليون دولار على تطوير البنية التحتية، أكثر من 20 تريليون دولار ويمكن تلخيص موضوع المديونية الرئيسية للبلدان التي يجري التعامل بعملاتها للمضاربة بأن حصّة الولايات المتحدة، والصين هي الحصة الكبرى، علماً بأن دين اليابان يفوق نسب مديونية الولايات المتحدة لكن اليابانيين يعتبرون نظامهم مغلقاً وهم غير قلقين على دينهم المتجاوز لـ200% من الدخل القومي لأنهم لا يطلبون فوائد على إصدارات لعشر سنوات ويكتفون بمعدّل نموّ يتراوح حول 2-3% سنوياً خاصة أن عدد سكان اليابان على تناقص.

دين المضاربات المترسّب هو بنسبة 60% عالمياً على الولايات المتحدة، الصين، اليابان – وإن تكن عملتها محايدة عن المضاربة – اليورو والفرنك السويسري. أما الاسترليني، هذه العملة التي كانت العملة الرئيسية العالمية، حتى انتهاء الحرب العالمية الاولى، فلم يعد لها أهمية أساسية ومعدّلات المضاربة على الجنيه، خاصة بعد انسحاب بريطانيا من السوق الاوروبية، أصبحت بالحجم غير ذات أهمية.

إزاء هذه الأوضاع وتأزم الوضع الاقتصادي في أوروبا الذي بدأ يضغط في اتجاه خفض العقوبات على روسيا سواء بالنسبة لصادرات الغاز أو النفط سيرتهن معدّل النموّ العالمي لسنوات، وهنالك ثلاثة بلدان تستفيد من استمرار الأوضاع على ما هي عليه، بل بالنسبة للولايات المتحدة، فإن ربحها يزداد كلما تأزمت الأوضاع الى حدّ أبعد واستمرّت مفاعيل الحرب. فالولايات المتحدة تصدّر النفط والغاز وكذلك النروج، وكذلك المملكة العربية السعودية التي تخوض تحدّي تسريع وتنويع النموّ واستجلاب الاستثمارات الخارجية. ولسوء الحظ كل ما نستطيع قوله أن الوضع العالمي غير مرتاح، وأن وضع الدولار هو في يد الأميركيين الذين حالياً ينعمون بتحسّن سعر صرف الدولار وازدياد الطلبات على البضائع الاميركية.

– مروان اسكندر

إقرار قوانين مرجوّة مفرّغة من مضامينها

تابعنا أخيراً الجلسة التشريعية الأولى لمجلس النواب المنتخب الجديد، لإقرار القوانين المرجوة، داخلياً، إقليمياً ودولياً، من قِبل المجتمعات الدولية. وشهدنا «نكهة» التعاطي في المجلس النيابي الجديد وتوقعاتنا عن أدائه للسنوات الأربع المقبلة.

علينا ألاّ ننسى أو نتناسى أنّ هذه الجلسة الأولى التشريعية للمجلس النيابي المنتخب أخيراً، جاءت من بعد أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم، والتي يشهدها لبنان راهناً. وجاءت من بعد أكبر ثالث إنفجار في العالم، حيث نمرُّ في ذكراه السنوية الثانية، وجاءت بعد هذا التفجير الإرهابي الكارثي الذي دمّر العاصمة اللبنانية بيروت ومحيطها.

 

هذا الإجتماع التشريعي، جاء أيضاً من بعد أكبر أزمة صحية عالمية وهي جائحة كورونا، والتي ضربت معظم إقتصادات المنطقة والعالم، وغيّرت كل المعايير والتوازنات. فيما نشهده اليوم أنّ العالم من حولنا، والمنطقة، والبلدان والاقتصادات والشركات، وحتى الأشخاص، يتغيّرون كي يُواكبوا هذا التغيير الإقليمي والدولي، ولا سيما حيال الشق الاقتصادي والانمائي، والمالي والنقدي.

 

المؤسف المبكي، أنّه بعد هذه الكوارث الداخلية والدولية، والتغيّرات المُوجبة، تغيّر العالم لكن لم يتغيّر شيء في لبنان، لا بالأشخاص ولا بالتعاطي، ولا بالاستراتيجيات المدمّرة ذاتياً. لا بل بالعكس، تراجع أشواطاً إلى الوراء، كأنّه لم يحصل شيء. فهذا الحوار القديم الجديد ضرب مرة أخرى آمالنا ورؤيتنا ونيتنا باستعادة الإنماء والتنمية.

 

فكل الأنظار الدولية كانت مركّزة على هذا الإجتماع التشريعي الأول، وإقرار القوانين المطلوبة، والمشروطة من صندوق النقد الدولي. اليوم شئنا أم أبينا، كنّا مع أو ضد، لا حلّ مالياً ونقدياً في لبنان من دون مشروع إعادة الهيكلة مع صندوق النقد.

 

إننا ندرك جميعاً أنّ شروطه صعبة جداً، والمفاوضات عقيمة والطريق ستكون طويلة وشائكة. لكن الكل يُدرك تماماً أننا محكومون بهذا الممر الإلزامي المتاح الوحيد للدولة اللبنانية، والذي يستطيع ضخ بعض السيولة ولا سيما إعادة لبنان على السكة الدولية واستقطاب إستثمارات أخرى لإعادة النهوض.

 

فكل ممثلي الشعب والسلطات التشريعية والتنفيذية أصبحوا مقتنعين بإقرار المشاريع والإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد، الذي طالب بصراحة بأربعة مشاريع قوانين ضرورية كأولوية:

 

فالمشروع الأول يتعلق برفع السرية المصرفية، والذي كان مدرجاً أساساً في جدول أعمال هذه الجلسة الأولى، وكان هناك شبه اتفاق بإقرار هذا المشروع بسهولة تامة، من جهة لتلبية مطالب الصندوق، وأيضاً المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى، كل هؤلاء النواب المنتخبين كان العنوان الأول لحملاتهم الإنتخابية، محاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة وغيرها.

 

هنا ابتدأ الفشل الذريع وخيبة الأمل غير المتوقعة، عندما فُنّد وفُرّغ هذا المشروع القانون من مضمونه، رفع السرية المصرفية 1956، حيث أُقر من دون مفعول رجعي كأنّه عُفي عمّا مضى، وطُويت الصفحة حيال كل الفساد وتبييض الأموال والتهرّب الضريبي ما قبل هذا القانون.

 

التجربة الأولى للإصلاح والتشريع كانت مخيّبة للآمال، وأعطتنا الرؤية الضبابية لمتابعة وإقرار ما تبقّى من الإصلاحات المطلوبة.

 

أما مشاريع القوانين المشروطة والأساسية المتبقية لصندوق النقد فهي: مشروع قانون الـ Capital Control، المتعثر منذ سنة 2019، ومشروع قانون موازنة العام 2022 الضرائبي بامتياز، ومشروع قانون إعادة الهيكلية المالية وتوزيع الخسائر، حيث الحَكم هو المسؤول الأبرز لهذه التفليسة والإنهيار.

 

بعد تجربة القانون الأول المتعلق برفع السرية المصرفية، الذي كان الكل متفقاً عليه قبل الجلسة، فإننا متشائمون حيال إقرار هذه القوانين الشائكة والصعبة، والتي من المستحيل الإتفاق عليها، إلاّ لو اتفق السياسيون على حساب الشعب مرة أخرى.

 

في الخلاصة، الجلسة الأولى التشريعية لمجلس النواب الجديد كانت مخيبة للأمل، وضربة قاسية جديدة للثقة الداخلية والدولية. فالتعاطي والسلوك ما زالا غارقين في الوحول السياسية عينها، والنقاشات باتت في المستوى العقيم ذاته، ولا جنس الوعي لمواجهة الأزمة المالية، الاقتصادية والنقدية والاجتماعية الكارثية. وفي النهاية، لا يزالون في الدوامة ذاتها، يسخرون من الشعب، وحتى أنّهم يستهزئون بالمجتمع الدولي، فيُقرّون العناوين المطلوبة ويُفنّدونها ويُفرّغنوها من كل الأساس والمضمون والإصلاح.

د. فؤاد زمكحل

توحيد سعر الدولار على 50 ألف ليرة؟

توحيد سعر صرف الدولار، واحدٌ من المطالب التي يوردها صندوق النقد الدولي ضمن لائحة الإصلاحات التمهيدية لإقرار برنامج تمويل، والبدء في تنفيذ خطة للتعافي. هذا الموضوع يثير قلق اللبنانيين، بسبب حساسيته وارتباطه المباشر بقدراتهم الشرائية. هل هذا الأمر مُتاحٌ اليوم، وما هو السعر التوحيدي الذي يمكن اعتماده للدولار؟

مشكلتان أساسيتان يواجههما ملف إقرار موازنة العام 2022، الأولى تتعلق باعتماد سعر صرف موحّد في النفقات والايرادات، والثانية ترتبط بتسعيرة الدولار الجمركي.

 

في الواقع، وقبل التطرّق إلى مسألة توحيد سعر الصرف سواء في الموازنة، أو على مستوى النظام المالي العام، لتوحيد معايير سوق الصرف، لا بدّ من الاشارة إلى اننا فقدنا حالياً المعيار الحقيقي الذي على أساسه يمكن اعتماد تسعيرة مُحدّدة لليرة، والدفاع عنها ضمن الحدود المعتمدة في المصارف المركزية في العالم، حيث يكون الارتفاع والهبوط ضمن نسبة مئوية معتمدة في النظام المالي العالمي. هذا الضياع مردّه إلى تدخّل مصرف لبنان في السوق، عبر منصة صيرفة منذ اواخر العام الماضي. هذا الغموض غير البنّاء يعني انّ معيار السوق الحرّة، التي تستند إلى مبدأ العرض والطلب، والتي تُعتبر المعيار الأهم في معرفة السعر الحقيقي لأية عملة، في الاقتصادات الحرة، لم تعد موجودة في لبنان في الوقت الراهن.

 

قبل هذه المرحلة، كانت السوق السوداء بمثابة السوق الحرة التي لا يتمّ التدخّل فيها من قِبل المركزي، وكانت منصّة صيرفة هي السوق الموازي، يتحكّم فيها المركزي جزئياً، ويحاول ان يوائمها مع السعر الحقيقي، بانخفاض تتراوح نسبته بين 15 و20%. اليوم، اصبح المركزي يتدخّل في «السوقين»، وبالتالي اختفت المعايير الحقيقية لتكوين فكرة عن قيمة الليرة. وهنا ينبغي ان نتذكّر انّ سعر الدولار وصل الى 38 الف ليرة، في مطلع كانون الاول 2021، ومن ثم بدأ يهبط مع مباشرة مصرف لبنان ضخّ الدولارات في السوق.

 

السؤال اليوم: كم هو سعر الليرة الحقيقي؟ هذا السؤال حيوي لأنّ الاجابة عنه سوف تحدّد السعر الذي يمكن اعتماده في توحيد سعر الصرف. وبالتالي، لم يعد دقيقاً الاعتماد على أيٍ من السعرين القائمين (صيرفة والسوق السوداء) للتوافق على سعر واحد يمكن للاقتصاد الدفاع عنه وتثبيته، انما ينبغي احتساب اموال الدعم لليرة، وحسمها من المعادلة، لتقدير هذا السعر، والذي قد يكون تجاوز الـ40 الف ليرة، وربما وصل الى 50 الف ليرة اليوم. هذه هي المشكلة الحقيقية التي يواجهها مشروع توحيد سعر صرف الدولار. إذ، هل يتحمّل الوضع توحيد السعر، على سبيل المثال، على 50 الف ليرة؟

 

هذا الواقع يشير بوضوح إلى اننا كلما تأخّرنا في مقاربة هذا الموضوع، من دون ان نكون قد اقتربنا من مباشرة تنفيذ خطة التعافي، كلما أصبح توحيد سعر الصرف أقسى، سواء وقع الاختيار على اعتماد سعرٍ لا يحتاج الى أي دعم، أو تمّ اعتماد سعر مدعوم يتمّ خلاله تحديد فترة الدعم وكلفة هذا الدعم ومصادر تمويله ضمن خطة التعافي التي ستُعتمد.

 

وبالتالي، فإنّ أي سعر صرف سيتمّ اعتماده في موازنة 2022، وحتى لو تمّ اعتماد سعر «صيرفة» سيكون رقماً وهمياً لا يعبّر عن الواقع الاقتصادي الذي ينبغي ان تعكسه قيمة العملة الوطنية. كما انّ الموازنة ستكون شكلية ولا تنطبق عليها معايير المحاسبة الدولية، كما جرى في قضية بنك الاعتماد المصرفي، عندما تمّ الاستناد إلى عبارة adverse opinion للقول انّ موازنة المصرف المدقّقة غير دقيقة. هذا الادّعاء صحيح من حيث المبدأ، لأنّه لا يمكن إصدار موازنات دقيقة تراعي المعايير المحاسبية العالمية المتعارف عليها، اذا كان سعر الصرف الحقيقي للعملة الوطنية غير معروف، بل مُلتبس ومُتعدّد الاسعار، وكلها اسعار وهمية مصطنعة. وإذا كان الاقتصاد دخل في متاهة التضخّم المفرط (Hyperinflation). وهذا هو المقصود من استخدام العبارات المحاسبية الدوليةIAS 21 و IAS 29. ولو عرضنا مشروع موازنة العام 2022، على أي مؤسسة محاسبية دولية للتدقيق والمصادقة، سنحصل في أحسن الاحوال على ملاحظة بالخط العريض مُدوّن فيها: adverse opinion، وفي هذه الحالة من المُربك تحديد من ينبغي ان يدخل السجن بسبب وجود عبارة «الرأي المعارض» على ختم التدقيق المحاسبي في موازنة الدولة اللبنانية.

أنطوان فرح

السياسة النقدية والسيادة اللبنانية: هل الدولرة الشاملة بعد الفوضى الشاملة؟

أصعب ما تشهده السياسة النقدية في لبنان يكمن في ثلاثية الضغوط التي تسببّت منذ سنوات وتحديدًا بشكل متفاقم منذ العام 2011، بتكبيل المصرف المركزي وتضييق هامش القرار فيه بين انهيار السياسة المالية للحكومات المتعاقبة وغياب إقرار الموازنات، وخصوصاً قطع الحسابات واللجوء للتمويل المباشر من مصرف لبنان حتى اليوم، والتمسّك بنظام سعر الصرف المبني على ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بنفس المستوى، أيًا يكن وضع ميزان المدفوعات، واستمرار الاستيراد على أساسه لسنوات، واستمرار تقديم سلفات خزينة خصوصاً منها للكهرباء على أساسه… فضلًا عن ضغط الدولرة الجزئية التي تحكم المصرف المركزي بتثبيت سعر الصرف نظرًا للتداول بالعملتين في الأسواق… اليوم بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف من الطبيعي أن يعتقد البعض أنّ البديل هو تحرير سعر الصرف. إلّا أنّ هذا الخيار مستحيل في ظل ارتفاع الدولرة الجزئية التي تتطوّر لتصبح رسميًا.. فكانت ردة فعل السوق فرض الدولرة كأمر واقع ولو بشكل فوضوي بغياب القرار الرسمي…ما هي أبرز التحدّيات لاتخاذ القرار وإشكالية السيادة في السياسة النقدية؟ وكيف الهروب عبر ترك الدولرة الشاملة تتحقق كأمر واقع؟

من الملفت في الأدبيات الاقتصادية الحديثة التي تناولت لبنان، مقالة علمية للاقتصادي المتخصّص بالدولرة، لا سيما في البلدان النامية، جان فرنسوا بونسوJean Francois Ponsot (2019)، الذي صنّف لبنان للمرة الأولى في سلسلة مقالاته، ضمن خانة البلدان التي تتسّم بالدولرة الرسمية ولو الجزئية… فيما أكثرية القراءات تتجّه اليوم لاعتبار لبنان على طريق الدولرة غير الرسمية، والتي قد تصبح شاملة، بعد تزايد نسبتها في الأسواق والقطاعات يومًا بعد يوم، وتقبّل لا بل المطالبة بسيطرة الدولار في السوق، إن من حيث التسعير أو التداول والدفع، فضلًا عن عملة الإدخار…

 

سياسيًا، في لبنان وفي بعض البلدان النامية التي شهدت ميلًا نحو الدولرة تدريجيًا، يشكّل هاجس «السيادة الاقتصادية» لدى السلطات الرسمية نوعًا من الـ Tabou في اتخاذ القرار رسميا بشأن الدولرة كـ»نظام الربط الصارم» لسعر صرف العملة الوطنية، بعد الوصول إلى لحظة اللارجوع في افتقاد الثقة بالسياسات الاقتصادية التي تعكسها قيمة العملة الوطنية.. وذلك بعد سقوط حتى نظام التثبيت، من خلال نظام الربط المرن للعملة الوطنية بعملة أجنبية دولية مثل الدولار، في ظل دولرة جزئية ناتجة من تجربة تضخّم مفرط وانهيار سعر الصرف…

 

سياسيًا، صحيح أنّ العملة الوطنية الخاصة بكل بلد لها رمزية ودلالة على استقلال وسيادة اقتصادية، مثلها مثل وجود علم ونشيد وطني للبلد المعني… إلّا أنّ الأدبيات العملية وتجارب البلدان، أظهرت أنّ الدولرة الشاملة ما هي إلّا نظام ربط صارم Hard Peg يتمّ الوصول إليه كأمر واقع، بعد صعوبة تأمين الاستقرار النقدي، حتى عبر الربط المرن Soft Peg في ظل دولرة جزئية وانعدام الثقة لدى العملاء الاقتصاديين… وبالتالي، على الرغم من صعوبة اتخاذ القرار باعتماد «عملة أجنبية» رسميًا إلى جانب أو ربما مكان العملة الوطنية، إلّا أنّ «غياب القرار» لا يلغي واقع أنّ العملة الجيّدة تطغى على العملة الضعيفة» عند تواجدها في نفس السوق La bonne monnaie chasse la mauvaise monnaie

المصدر: Ponsot, J. F. (2019). Économie politique de la dollarisation. Mondes en développement, 188(4), 51-68.

 

 

السلطات الرسمية تعرف تمامًا أنّه في ظل دولرة جزئية مرتفعة لا يمكن اللجوء إلى تحرير سعر الصرف واعتماد «النظام العائم» لسعر الصرف، لأنّ كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية أثبتت أنّ هكذا خيار هو الأخطر على اقتصاد البلد المعني، حيث السوق يتّسم فقط بالطلب على الدولار دون أي طلب على العملة الوطنية.. مما يجعل من المستحيل توقّع مستوى التوازن في تلاقي العرض والطلب لتحديد سعر صرف حقيقي مقبول في السوق، يضمن صمود العملة الوطنية…

 

وقد أظهرت مجمل الدراسات حول الدولرة منذ السبعينات والثمانينات، أنّ الدولرة في الاقتصادات النامية ترافقت مع عملية تفكّك نقدي، كان التضخم المفرط هو الشكل الأكثر شيوعاً. وتميل التحليلات الأخيرة إلى التركيز على قضية الدولرة الشاملة، والتي لا يتمّ تفسيرها على أنّها تمحو المخاوف المتعلقة بالتضخم المفرط وفوضى التسعير والتداول في الأسواق… وتتعارض الدولرة بحكم الواقع، أو غير الرسمية، مع الدولرة القانونية أو الرسمية.. إذ تتوافق الدولرة الواقعية مع الوضع الذي يستخدم فيه العملاء الاقتصاديون العملة الأجنبية، على الرغم من عدم وجود غطاء قانوني. إنّه خيار عفوي يأتي من اختيار القطاع الخاص.

 

فيما تتميّز الدولرة الرسمية بحكم القانون، مع الوضع الذي يتمّ فيه الاعتراف رسميًا باستخدام العملات الأجنبية من قِبل السلطات.. إنّها دولرة مؤسسية تعكس اختيار السلطات العامة. ولكن يُلاحظ عادة، أنّ معظم التحليلات لا تحترم هذا التمييز. هناك اتجاه يتمّ الخلط فيه عموماً بين الدولرة الجزئية والدولرة الواقعية والدولرة الكاملة مع الدولرة الرسمية.

 

وهناك نوعان من الدولرة الرسمية يمكن تحديدهما من جانب واحد، عن طريق استبدال عملة وطنية بعملة أجنبية بحتة. وببساطة من خلال منح هذه الأخيرة سلطة تحرير غير محدودة في كل أنحاء البلاد، أو اختفاء العملة المحلية أو اختزالها بأدوار محدّدة (دفع الضرائب، رواتب القطاع العام، رسوم المعاملات الرسمية…). في تعميق التمييز المزدوج بين: الدولار الجزئي والدولار الكامل من جهة؛ ومن ناحية أخرى، الدولرة بحكم الواقع والدولرة (الرسمية) القانونية، من المهم الإشارة إلى معيارين للتمييز: المعيار الأول، يتعلّق بدرجة تغلغل معدل الدولرة في الممارسات النقدية للبلد المعني، فيما المعيار الثاني يتعلّق بدرجة إضفاء الطابع الرسمي أو المأسسة على دولرة الاقتصاد. ويؤدي الجمع بين معياري التمايز إلى أربعة أنظمة قياسية للدولرة.

 

أما هروب المؤسسات الرسمية من اتخاذ القرار بالدولرة الشاملة تحت راية «السيادة النقدية والاقتصادية» فما هو الّا مسألة وقت بانتظار «الإقرار» بخيار السوق فرض الدولرة الشاملة كأمر واقع، في ظلّ فوضى عارمة بين الأسواق والقطاع والتعامل بين المواطنين وانهيار الاستقرار الاجتماعي نتيجة الهوة وقلة العدالة الاجتماعية التي تنتج من «حرمان» جزء من الموظفين من العملة الصعبة، فيما جزء آخر من المواطنين «يتمتع» بالحصول عليها وفرض التسعير والتداول بها و»تهميش» كل من لا يملكها، أو يملك ما يوازيها وفق سعر السوق الموازي، من إمكانية الحصول على أبسط الأساسيات (بنزين ودواء وتغطية صحية وطبابة وتعليم ولباس.. وحتى غذاء، متى اشتدت الأزمة).

 

في الوقت عينه، تحقّق الكثير من الشركات والمؤسسات الأجنبية والمحلية مردودًا بالعملة الأجنبية واضحًا في عقودها (من شركات الاستيراد والتصدير والتأمين وإعادة التأمين ومكاتب السفر والشركات العاملة في المطار والمرفأ والمؤسسات المالية الدولية ومكاتبها في لبنان، والمنظمات الدولية ذات الموازنات بالعملات الأجنبية والرواتب بالعملات الأجنبية…)، وهي لا تزال تسدّد الضرائب للدولة اللبنانية بالعملة الوطنية وعلى أساس سعر صرف رسمي.. مع كل ما يشكّل ذلك من خسارة إيرادات محقّة للدولة، كان يمكنها استخدامها لتغطية تكاليفها بالعملة الأجنبية وجزء من رواتب القطاع العام بالعملة الصعبة، لو يتمّ الاعتراف بالدولار الأميركي كعملة رسمية للتسعير والتداول وتسديد الضرائب المحقّة لخزينة الدولة، في أكثر وضع اختناقًا لماليتها وإضرب مفتوح لموظفيها!

 

علماً أنّ لبنان وقبل الأزمة الحالية وبعد الأزمة النقدية في الثمانينات، يشهد دولرة جزئية مرتفعة لم تتراجع حتى طيلة فترة 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، مما يدلّ إلى صعوبة استعادة الثقة في أكثر الفترات استقرارًا على جميع الصعد، فكيف بالحري اليوم؟ ولذلك تمّ مطلع التسعينات إنشاء غرفة مقاصة للشيكات بالدولار إلى جانب المقاصة للشيكات بالليرة اللبنانية، كما كانت تجري عملية تعبئة الصرافات الآلية بالدولار الأميركي إلى جانب الليرة اللبنانية، لا بل كان يُسمح للمودعين إجراء التحويلات أوتوماتيكيًا بين العملتين وسحب المبلغ المطلوب ورقيًا عبر الصرافات الآلية دون رقيب أو حسيب أو سقوف تحول دون «تنشيف» السوق من «الدولار الورقي» وجعلها مادة سهلة للمضاربة في السوق السوداء في أي «ساعة صفر»…

 

كل الخيار اليوم محصور بين تنظيم الانتقال التدريجي باتجاه الدولرة الشاملة وفق خارطة طريق (سبق نشرها في صحيفة «الجمهورية» بالذات بتاريخ 11 أيار 2022) مما يوفّر على لبنان ومواطنيه عناء الفوضى، وبين «غياب قرار» وترك الأسواق تفرض الأمر الواقع للإقرار به لاحقاً، بعد صراع اجتماعي لا يمكن تحديد مداه ومخاطره مسبقًا بين الشرائح التي يصلها الدولار، وتلك التي تختنق لافتقاده ويضيق حالها بالوصول لأبسط حقوقها المعيشية اليومية وعلى رأسها حق الطبابة المدولرة كليًا اليوم…

 

يبقى القول إنّ السياسة النقدية هدفها الأساس تأمين الاستقرار في قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، مما يتطلّب استقلالية المصرف المركزي، لاسيما تجاه السلطة المالية، للتحرّر من مخاطر الضغط عليه لطباعة العملة الوطنية وتمويل عجز الخزينة ومديونيتها.. ولكن، في ظلّ تكبيل السياسة النقدية بالسياسة المالية وتفادي غياب القرار بشأن نظام سعر الصرف، لا يبقى من هامش تحرّك بالأدوات التقليدية لتأمين الاستقرار النقدي.. فهل تكون مسألة وقت فقط للاعتراف رسميًا بالدولرة الشاملة بعد الفوضى الشاملة؟

د. سهام رزق الله

البنك الدولي: النظام المالي للبنان في قبضة مخطط “بونزي”.. والتداعيات تُسبب ألماً اقتصادياً غير مسبوق

 

 

 

اتهامات صريحة وجهها البنك الدولي لنظام المالية العامة في لبنان مؤكداً أن النظام لدى البلد الذي يمر بأزمة مالية طاحنة ليس إلا مخطط “بونزي

 

ويعتمد مخطط الاحتيال المعروف باسم “بونزي” على جذب المستثمرين عبر تقديم الوعود بتحقيق عائد كبير دون مخاطرة، لكنه في واقع الأمر يعتمد على استخدام أموال المستثمرين الجدد لدفع مستحقات المستثمرين السابقين من أجل كسب ثقتهم.

ويشهد لبنان العام الثالث من الانهيار المالي الذي تسبب في سقوط كل 8 أشخاص من بين 10 أشخاص في براثن الفقر، التقرير لم يكتف بذلك بل شدد أن هذا الانهيار ربما كان متعمداً وأن تلك الفترة هي واحدة من أسوأ ثلاثة أعوام في التاريخ الحديث.

زمة اقتصادية متعمدة

اتهامات البنك الدولي ليست الأولى هذا العام إذا سبق أن وبخ السياسيين الحاكمين في لبنان في يناير كانون الثاني بسبب اتهامات بتدبير انهيار اقتصادي كارثي للبلاد عبر إحكام قبضتهم على الموارد.

وتأتي تلك الاتهامات بعد دراسة المالية العامة للبنان من عام 1993 وحتى 2019، إذ يرى البنك أن الأزمة الاقتصادية على مدار الثلاثين عاماً الماضية كانت من تصميم النخب ومقصودة من جانبهم.

كما يرى أن تلك النخب استولت على السلطة من أجل تحقيق مكاسب مالية خاصة بهم وسمحت لهم في الوقت نفسه بتراكم السلطة السياسية عبر استبدال الدولة لتوفير الخدمات للشعب.

وقد أدى هذا الانهيار إلى خسارة بأكثر من 90% لقيمة العملة المحلية للبنان.

وقال التقرير نصاً: الشعارات السياسية بشأن قدسية الودائع هي مجرد شعارات جوفاء وانتهازية، في الواقع فإن إساءة استخدام السياسيين لهذا المصطلح أمر قاس.

لا يقتصر الأمر فقط على التناقض الصارخ مع الواقع بل إن الوضع الذي شهده لبنان يمنع الحلول لحماية معظم المودعين الصغار والمتوسطين إن لم يكن جميعهم.

تحركات متأخرة

وبحسب البنك الدولي، فإن السياسيين اللبنانيين غالباً ما يقولون إنه يجب الحفاظ على حقوق المودعين في أي خطة لمعالجة خسائر حوالي 70 مليار دولار في النظام المالي، حتى لو فقدت مدخراتهم نحو 80% من قيمتها بفعل الانهيار.

وأضاف: كان ينبغي قبول الخسائر وتحملها من قبل مساهمي البنوك وكبار الدائنين، الذين استفادوا بشكل كبير خلال الثلاثين عاماً الماضية من نموذج اقتصادي غير متكافئ للغاية.

وأكد أن كل من الفقراء والطبقة الوسطى لم يحصلوا على خدمة جيدة في ظل هذا النموذج وأنهم من يتحملون العبء الرئيسي لهذا الإفلاس.

وشدد على أن تلك الأمور كانت لابد حدوثها في بداية الأزمة للحد من الآلام الاقتصادية والاجتماعية.

كما أوضح أن قسماً كبيراً من مدخرات الناس أسيء استخدامه وكذلك إنفاقه على مدار الأعوام الثلاثين الماضية.

وواصل: أقرضت البنوك اللبنانية الدولة بكثافة إذ تراكم عليها ديوناً ضخمة نتيجة الفساد وسوء الإدارة.

ما تداعيات هذا الإخفاق على الخدمات؟

وتسببت تلك الأزمات المتلاحقة في وصول التضخم إلى مستويات بالغة الارتفاع إلى جانب اكتناز البضائع الأساسية وانقطاع شامل في إمدادات الطاقة ونقص إمدادات المياه في جميع أنحاء البلاد وكذلك انهيار التعليم والصحة والخدمات الأساسية.

وبحسب التقرير، يعد عدم كفاية الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه من العوامل الرئيسية التي تسهم في كل من المشاكل الاقتصادية في لبنان وسجل الحكومة.

وأشار التقرير إلى أن تقديم خدمات متداعية هي مسألة مقصودة تهدف تعزيز الامتياز ما بين القطاعين العام والخاص لدعم المستفيدين الرئيسيين من اقتصاد ما بعد الحرب الأهلية في لبنان.

هذا ويتوقع البنك الدولي وصول نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 272% بحلول نهاية العام الجاري وفقاً لسيناريو يفترض عدم اتخاذ إجراءات بشأن السياسة.

وبحسب هذا السيناريو فمن المتوقع تراجع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 6.5% في 2022 إلى 14.162 مليار دولار مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة عند 55.27 مليار دولار.

الفشل يلاحق خطط الإصلاح.. ومخطط بونزي يبسط هيمنته

وضعت الحكومة السابقة خطة لمعالجة الخسائر في عام 2020 لكن اعتراضات القطاع المصرفي والبنك المركزي وكذلك الفصائل الطائفية التي لها الكلمة في بيروت نسفت هذه الخطة.

الخطة الجديدة التي تمت الموافقة عليها في مايو أيار واجهت اعتراضات كذلك.

ويريد صندوق النقد الدولي من لبنان الموافقة على خطة إعادة هيكلة مصرفية كأحد الشروط المسبقة للموافقة على مسودة اتفاقية التمويل.

وتساءل التقرير إلى أي مدى لبّت السلطات احتياجات التمويل من خلال مخطط “بونزي”، مؤكداً أنه كلما تم تنفيذ الإصلاحات الضرورية بصورة مبكرة كلما كانت تكلفة مخطط بونزي أقل إيلاماً للبنانيين.

صندوق النقد مُحاصَر: ثرثرة وشكاوى ومصالح

تحوّل صندوق النقد الدولي الى حائط مَبكى، والى صندوق بريد للرسائل المشفّرة، والى حلبة صراع نقل اليها اللبنانيون تجاذباتهم الداخلية. انها «لعنة» اللبننة التي انتقلت الى واشنطن، من دون أن يعني ذلك، انّ قرارات ادارة الصندوق تتماهى مع عشرات وربما مئات الآراء والاجتهادات التي تَرد اليها بشكل دائم من جهات لبنانية.

قد يكون الجانب المُضيء في سياسة صندوق النقد الدولي التي تطورت مع الايام والتجارب، مرتبطاً بمسألتين أساسيتين تمّ تعديلهما:

أولاً – اعتماد سياسة الأنسنة في التفاوض مع الحكومات على برامج التمويل، وهذا الامر لم يكن قائماً في السابق. وهو يعني انّ سياسة الصندوق باتت تُلزم المفاوضين من قبله بإلزام الحكومات بإجراءات لحماية الطبقة الفقيرة في المجتمع. وفي العادة، يكوّن الفقراء اكثرية في البلدان التي تحتاج الى مساعدة صندوق النقد. ومن هنا، يمكن تفسير الشروط التي يضعها الصندوق لجهة تخصيص قسم كبير من الانفاق في الموازنة لدعم الطبقات المسحوقة في المجتمع، او التي ستتضرّر بقوة جرّاء الخطوات الاصلاحية المطلوبة لإعادة الانتظام الى المالية العامة في الدولة. ورغم ان البعض يعتبر ان اعتماد هذا النهج، لم يكن بدافع انساني، بل يستند الى تجارب سابقة أدّت فيها إجراءات سحق الفقراء الى اضطرابات امنية وثورات وحركات عصيان ساهمت في تعطيل مفاعيل خطط الانقاذ، إلا أنّ النتيجة جيدة، لأن تخفيف معاناة المواطنين حيال مفاعيل الاجراءات الاصلاحية الموجعة امر ايجابي في النتيجة.

ثانياً – توسيع مروحة التفاوض حول خطط الانقاذ، بحيث لا تنحصر في الحكومات والجهات الرسمية، بل تتعداها الى القوى السياسية المتنوعة والى المجتمع المدني بكل تلاوينه وجمعياته ومنظماته وتناقضاته. وهنا ايضا يقول البعض ان هذا النهج يهدف الى ضمان خفض مستوى الاعتراضات الشعبية على خطط الانقاذ التي يتم التفاهم على تنفيذها. في حين ان الصندوق يعتبر في فلسفته انّ هذا النهج يساعده على تَفهُّم وضع كل بلد على حدة، والاطلاع على الرأي والرأي الآخر، والافادة من الافكار والمقترحات التي قد تقدمها جهات من المجتمع المدني تمتلك الرؤية للمساعدة في خطط الانقاذ المالي والاقتصادي.

انطلاقاً من النقطة الثانية، ولأنّ المجتمع اللبناني مجتمع ديناميكي ناشط، ولديه ما هبّ ودبّ من الافكار والخطط والملاحظات والاعتراضات والنميمة، تحوّل البريد الالكتروني في صندوق النقد المخصّص للتواصل مع الملف اللبناني الى ساحة صراعات لا تهدأ. كما ان كل مسؤول في الصندوق تعرّف الى طرف لبناني، بات في موقف صعب لأنه يتلقى الرسائل او الاتصالات من هذا الطرف للاستفسار او ابداء الرأي او الاعتراض…

واذا كانت خطة الانقاذ في حدّ ذاتها هي بيت القصيد في هذا الصراع اللبناني على «أرض» صندوق النقد، فإنّ الملفات المتفرّعة تحظى بدورها بنصيبها الوافر من التجاذبات. وكل اجراء مطروح ضمن الخطوات المطلوب من لبنان تنفيذها لتمهيد الطريق امام الاتفاق مع صندوق النقد، يتحوّل الى مواجهة متعددة الأطراف، تصبّ كلها في بريد صندوق النقد. وهذا الأمر حصل على سبيل المثال، في ملف تعديل قانون السرية المصرفية، بحيث ان صندوق النقد تلقى مئات الرسائل حول هذا الموضوع. وتراوح مضمون «الرسائل» بين المؤيّد لإلغاء السرية المصرفية بالكامل، الى المُطالِب بالتمسّك بنقطة المفعول الرجعي لأنها تتيح المحاسبة، الى من يقول ان المشكلة تكمن في المرجعية التي يحق لها تنفيذ رفع السرية المصرفية، الى من يعتقد ويقترح الابقاء على القانون كما هو لأن المشكلة في مكان آخر، وتكمن في استقلالية القضاء…

ورغم ان صندوق النقد سبق وعَيّن مندوباً دائماً مقيماً في لبنان لكي يتولى عملية التواصل مع الداخل اللبناني، إلا أن ديناميكية اللبنانيين، سمحت لهم حتى الان، بإشغال المندوب والادارة المركزية للصندوق في آن.

في النتيجة، لا يعني هذا النشاط الاستثنائي أنه سلبي في المطلق، فهو في جانب منه مفيد فعلاً، ويساعد الصندوق واللبنانيين في آن. لكن ما هو مقيت انّ قسماً من هذا النشاط تحوّل الى نميمة وتصفية حسابات لا علاقة للصندوق بها. هذا المناخ من الثرثرة الرخيصة، قد يؤثر سلباً على قدرة الصندوق على التفاعل عملياً مع الآراء الجيدة، وقد يذهب الصالح بجريرة الطالح، بحيث يصمّ الصندوق آذانه عن الاستماع، تحاشياً للانخراط في لعبة اللبننة، التي يمكن الدخول اليها بسهولة، لكنّ المشكلة تكمن في الخروج منها بلا خدوش وكدمات وأضرار.​

أنطوان فرح

لبنان أسرع من اليونان في التعافي

نقاط كثيرة وردت في التقرير الذي نشره معهد التمويل الدولي (IIF) حول توقعاته لتطور الوضعين المالي والاقتصادي في لبنان. لكن النقطة الأهم تكمن في الإشارة الواضحة إلى القدرات الخاصة والاستثنائية التي يتمتع بها البلد للتعافي بسرعة، في حال توفرت الظروف المناسبة لذلك. ما هي هذه القدرات بالتحديد؟ وهل ستتغيّر الظروف القائمة، بحيث يتمّ السماح بالإفادة من هذه القدرات لإنقاذ البلد من الاندثار؟

بعد مرور حوالى ثلاث سنوات على ظهور مؤشرات الانهيار الواضحة، بدءاً من النصف الثاني من العام 2019، عندما بدأت عملية التقنين في تسليم الدولارات النقدية عبر ماكينات الصرف الآلي (ATM)، وبعد حوالى خمس سنوات على ظهور مؤشرات مُقنّعة للانهيار، تمثلت في عدم قدرة الدولة على الاقتراض من الاسواق لتمويل عجزها المتفاقم في الموازنة، لم يعد جائزاً النقاش في توصيف أسباب الأزمة، وكأنّها لغزٌ عصّيٌ على الحل. يُفترض انّ الصورة واضحة منذ العام 2015 /2016، عندما بدأ مصرف لبنان ما سُمّي الهندسات المالية، وكان ذلك بمثابة الخرطوشة الأخيرة التي رفعت كلفة الانقاذ إلى مستويات غير مسبوقة، بانتظار تغيير المشهد وتجاوز القطوع. لكن المشهد لم يتغيّر، واستمر الإنفاق غير المحسوب وصولاً إلى اكتشاف انّ الدولة أفلست، وانّ قسماً من اموال الناس لم يعد موجوداً. وبعد ذلك، كرّت سبحة الانهيارات، ومن ضمنها انهيار الليرة.

 

حتى ذلك الوقت، كان البعض يعتقد انّ الوصول إلى الافلاس سيفرض على السلطة تغيير نهجها، وبالتالي، وصل اليأس بالبعض إلى استعجال الانهيار، على اعتبار انّه قد يشكّل نقطة تحوّل في اتجاه بدء الإنقاذ. لكن، وبدلاً من ذلك، استمر الهبوط الحر نحو الأعماق المُظلمة، وتبيّن انّ كلفة إدارة الأزمة تفوّقت على كلفة الفساد والاهمال وقلة الضمير.

 

ومع ذلك، يمكن القول انّ المستوى الذي وصل اليه الانهيار، كان سيكون اسوأ بكثير لولا نقاط القوة التي يتمتّع بها لبنان، والتي ترتكز في جانب اساسي على الكادرات البشرية. ماذا يعني ذلك؟

 

في خلال سنتين ونصف السنة، أنفقت السلطات ومصرف لبنان حوالى 25 مليار دولار. وفي المقابل، دخل إلى البلد ما يقارب الـ20 مليار دولار. هذا الواقع ساهم في تخفيف حدّة الأزمة، لا سيما لجهة انهيار سعر الصرف والتضخّم. ولولا هذا الدفق المالي من خارج الحدود، لكانت الليرة في مكان آخر اليوم، أصعب بكثير من واقع انّ الدولار ارتفع 20 ضعفاً حتى الآن، جراء الانهيار.

 

إلى ذلك، فإنّ قدرة البلد على الجذب السياحي رغم كل الظروف غير المؤاتية، والتي تجلّت بتدفق لبنانيي الخارج، والسياح الجدد (من العراق، الاردن ومصر…) هذا الصيف، تشكّل نقطة قوة اخرى قادرة على جذب الدولارات بسلاسة وكميات مقبولة.

 

كذلك فإنّ عصر العمل عن بُعد (اون لاين)، استغلّه اللبنانيون بشكل جيد، وباتت نسبة الكادرات البشرية العاملة عن بُعد، وتتقاضى فريش دولار مرتفعة.

 

إذا أضفنا إلى هذه العوامل، حقيقة انّ الوضع المالي للدولة، في حال باشرت خطة الانقاذ، اي الاصلاحات والسير في الاتجاه الصحيح، سيكون أفضل مما كان عليه عشية الانهيار، سواء لجهة حجم الدين على الناتج، او نسبة الانفاق على الناتج ايضاً، بفضل انهيار سعر الليرة، وتراجع حجم كتلة الاجور في القطاع العام، يمكن الاستنتاج انّ البلد سيحتاج إلى فترة قصيرة نسبياً للتعافي والعودة إلى مسار النمو الاقتصادي المقبول.

 

وللتذكير، وفي وضعه الحالي، يمتلك البلد احتياطياً من الذهب تبلغ قيمته حالياً حوالى 15 مليار دولار، وهو رقم ضخم قياساً بحجم الاقتصاد الحالي. بالإضافة إلى كل، الممتلكات والاراضي والمؤسسات. لكن هذه الثروة قد تتبخّر تباعاً، إذا ما استمر الانهيار في مساره الحالي لفترة طويلة.

 

بضعة سنوات ستكون كافية لإعادة البلد إلى وضع جيد. وربما من المفاجئ انّ لبنان قد يحتاج إلى أقل من اليونان للعودة إلى مكان مقبول مالياً واقتصادياً، اذا تغيّر المشهد السياسي القائم.

 

لكن، وفي حال الاستمرار في النهج الحالي، لن يكون الذهب في منأى عن الضياع. والمشكلة هنا ليست في قرار بيع الذهب او لا، بل في الهدف من تسييله، والفارق شاسع بين تسييل الذهب لتنفيذ خطة يمكن ان تنهض بالبلد الى مستويات مرموقة، وبين بيعه لتأمين الطحين لشعب جائع.

أنطوان فرح

مثل كل شيء في لبنان… Haircut مُبطّن

موضوع الـ Haircut ليس جديداً على لبنان، ونحن نسمع صدى هذه الكلمة والمشروع المخيف، منذ مؤتمرات «باريس 1 و2 و3». وقد ورد هذا الإقتراح في السابق من قبل المنظمات الدولية والبلدان المانحة لإعادة الهيكلية المالية والنقدية. هذا الكابوس أصبح اليوم حقيقة، لكن مثل كل شيء في لبنان، ليس رسمياً، إنما يُطبّق عملياً بطريقة مُبطّنة.

بالأرقام، نشهد اليوم بالنسبة الى ما يتعلق بالودائع، أكانت بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية، تطبيق الـ Haircut المبطّن، على كل الودائع منذ العام 2019 وحتى تاريخه. وقد بدأ تطبيق هذا المشروع المبطّن غير الرسمي من خلال التعميم 151 الذي سَعّر الصرف بحسب الدولار بـ 3900 ليرة، فيما كان سعر السوق السوداء حينئذ يزيد عن الـ 8 آلاف ليرة. فكان في هذا الوقت الـ Haircut المبطّن يبلغ نحو 50 % أو 60 % من الودائع بالدولار المصرفي. لكن وفق قيَم محددة. ثم تواصل ارتفاع سعر صرف السوق السوداء إلى قيَم مخيفة: بنحو 30 ألف ليرة اليوم، والتعميم 151 حُدّد بـ 8 آلاف ليرة. هذا يعني أن الـ Haircut أصبح حسب هذا التعميم 73 % من الخسائر المصرفية المباشرة على الأموال المسموح تحويلها.

 

ثم صدر التعميم 161 الذي يسمح بشراء الدولار بالليرة اللبنانية نقداً بحسب سوق منصة «صيرفة»، وبمبالغ محددة أيضاً. فهنا أيضاً يُطبّق الـ Haircut المبطّن بنحو 70 % من الخسائر. أما التعميم 158 فهنا أيضاً يُعطي مبالغ محددة بالكاش (بالدولار والليرة)، وبخسائر تُراوح بالنسَب المباشرة عينها (بين 70 % و75 %).

 

أما الـ Haircut الثاني الذي حصل على الودائع بالليرة اللبنانية، فهنا الخسارة الأولى تبدأ بقيمة الودائع بالعملة الوطنية التي خسرت أكثر من 95 % من قيمتها ومن قوة شرائها، وهذه الحقيقة المُرّة التي علينا أن نواجهها ونقبلها، فيما الخسارة الثانية من هذه الودائع بالليرة اللبنانية تحصل بصَرف هذه الودائع المصرفية بالكاش. هنا أيضاً يخسر المودع من جديد بقيمة 35 % ما تبقّى من هذه الودائع المتهالكة.

 

أما الـ Haircut الثالث فيتعلق ببيع الشيكات، وهنا الخسارة المباشرة والتي تقارب الـ 87 % من قيمة الشيك والوديعة. والسؤال الكبير هو: مَن يشتري هذه الشيكات المفقودة قيمتها واستعمالها؟ ولأيّ غاية؟

 

لا شك في أنه ما قبل الأزمة، ثمّة 50 مليار دولار من الديون في السوق في المصارف التجارية، لذا فإنّ حاملي هذه الديون لهم مصلحة بشراء بعض هذه الشيكات لإقفال ديونهم بأقل من 87 % من قيمتها الأساسية. لكن هناك أيضاً جهات عدة ومجموعات منظمة مجهولة وغامضة تشتري هذه الشيكات بطريقة هائلة، بهدف مبطّن وهو وضع اليد على القطاع المصرفي والمصارف بعد إعادة هيكلتها، لأنه برأيهم سيتملّكون أسهماً ضخمة ووازِنة للقطاع المصرفي الجديد من خلال مشروع الـ Bail-in أو استبدالها بحصص وازنة.

 

في النهاية، نذكّر بحزن أنّ الـ Haircut المبطّن يُطبق يومياً على كل الودائع والمودعين. فالخسائر تُراوح بين 70 % و95 %. أما الكلفة المعيشية فقد ازدادتبأكثر من 20 ضعفاً، حيث سُرقت وهُدرت أموال وجنى عمر اللبنانيين، واستفادت الأيادي السود مرة أخرى والإقتصاد الأسود.

د. فؤاد زمكحل

كلنا على السفينة ذاتها لكن كل مجموعة تُجذّف من جهتها

هل سأل السياسيون والمسؤولون أنفسهم ماذا سيحصل للإقتصاد والسيولة ما بعد موسم الصيف الواعد؟ وكيف ستُدار البلاد عندما سينفد ما تبقى من الإحتياطي والعملات الصعبة؟ وكيف سيُموّل الوقود وأدنى الحاجات الإنسانية الأساسية؟

نحن اليوم، كلنا على متن سفينة واحدة، لكن لسوء الحظ، تتسرّب إليها المياه من كل الجهات، وقد صار أكثر من ثلاثة أرباع المركب مغموراً بالمياه، التي تقتحمه من كل الجهات بغزارة، فيما الركاب على متنه، كلٌ منهم يُجذّف على نحو مغاير للآخر. فالسياسيون يُجذّفون نحو الإستحقاق الرئاسي المقبل بعد أربعة أشهر، في ظل بعض الإتفاقات السياسية الداخلية والإقليمة والدولية، وينتظرون أياد خارجية ترمي لهم عوّامات الخلاص.

 

أما الشعب اللبناني، فيُجذّف ليلاً ونهاراً لمحاولة تأمين لقمة عيشه، وتوفير أدنى حاجاته الإنسانية والمعيشية، ولا يستطيع أن يُخفّض أكثر من يوم بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فأولوية هؤلاء المواطنين هي التجديف لتأمين ربطة الخبز المفقودة، والدواء المقطوع، والإستشفاء المستحيل، والوقود الباهظ الثمن، ويفقد قوته يوماً بعد يوم، لكنه لا يستسلم.

 

أما المجتمع الدولي، فمن جهة لا يريد أن تغرق سفينة لبنان، لكن في الوقت عينه لم يعد لديه ثقة لتأمين أي مساعدات مالية وإنسانية أو حتى أن يقوم بأي إستثمارات إنمائية في ظل الفساد المستشري وإستدامة السياسيين المسؤولين عن هذا الإنهيار. فالسياسيون اللبنانيون فقدوا صدقيتهم وليس لديهم رؤية مشتركة، لإعادة هيكلة الدولة ووضع البلاد على السكة الصحيحة. فالمجتمع الدولي يُجذّف نحو صندوق النقد الدولي كالجزيرة الوحيدة التي يُمكن أن ترسو عليها هذه السفينة الغارقة.

 

إذاً، هذا المركب اللبناني يغرق أكثر يوماً بعد يوم، وعلى متنه ما تبقى من الأحياء، لكن الكل يُجذّف نحو المصلحة الخاصة، بعيداً عن مصالح الشعب اللبناني المشروعة، وعن أي جزيرة قريبة يُمكن أن ترسو عليها لبدء إصلاحها.

 

الحقيقة المرّة التي تُواجه الإقتصاد اللبناني، والتحديات غير المسبوقة في تاريخه، هي أن كل فئة تُجذّف، فيما المياه تتسرّب أكثر فأكثر، ويُستنزف يوماً بعد يوم ما تبقّى من الإحتياط في مصرف لبنان المركزي، ويقترب اليوم حينما تنفد كل العملات الصعبة، حيث نفدت كل السيولة بالعملات الأجنبية، ولم يعد للدولة أي وسيلة لتمويل حاجات لبنان واللبنانيين الإنسانية والبديهية.

 

إن الحل الوحيد لإنقاذ هذه السفينة الغارقة وتخليص ركابها هو التجذيف سوياً نحو اتجاه موحد وجزيرة آمنة، هو الإتفاق على استراتيجية مشتركة، ورؤية موحدة، لوقف تسريب المياه وبدء الإصلاح.

 

أما مشاهدة هذا الإنهيار والإنتظار لصفقات داخلية وإقليمية ودولية، فستكون على حساب لبنان واللبنانيين، وسيدفع ثمنها غالياً بلد الأرز وشعبه وإقتصاده ومؤسساته. وعوضَ أن يكون لبنان المفاوض الرئيسي لمستقبله، سيكون ورقة تفاوض بين الدول، وسيدفع ثمن إتفاقات وصفقات خارجية.

 

إذا أردنا أن يكون لبنان على طاولة التفاوض، علينا أن نكون صوتاً واحداً ولدينا خطة إقتصادية وإجتماعية موحّدة، وأن نحاول أن نكون لاعباً أساسياً وليس ورقة ركيكة بين أيادي المفاوضين. وإذا أردنا خلاص هذه السفينة الغارقة، على كل الركاب الذين هم على متنها محاولة التجذيف نحو اتجاه موحد بدلاً من تجذيف كل مجموعة من جهتها، ولمصلحتها.

د. فؤاد زمكحل

“أكياس” الليرات تنتظر قرار الأجور

اسوأ ما في إضراب القطاع العام الذي شلّ الدولة، وشلّ معها قسماً من القطاع الخاص، وستصبح تداعياته أخطر مع مرور الزمن، اسلوب التعاطي الرسمي معه، وهو شبيه بإسلوب التعاطي الرسمي مع الأزمة الأم، منذ اندلاعها في اواخر العام 2019 حتى اليوم. لامبالاة وانتظار…

لطالما شكّلت رواتب القطاع العام قبل الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية التي عصفت بالبلد، أزمة في حدّ ذاتها، بعدما باتت تشكّل نسبة قريبة من الـ40% من حجم الإنفاق في الموازنة، وهي نسبة غير مقبولة وتؤشّر في العادة إلى خلل بنيوي يقود حتماً مع الوقت إلى الانهيار. وفشلت كل المحاولات السابقة في لجم تضخّم هذا القطاع غير المنتج، والذي نما اصطناعياً استناداً إلى الزبائنية التي تحكّمت في التوظيف بشكل عام. وقدّمت المؤسسات الدولية التي كانت تتابع الوضع، تحذيرات واقتراحات لخفض حجم هذا القطاع، الذي كان يلتهم بالتماهي مع كلفة الفوائد على الدين العام، حوالى 80% من الموازنة. وكان ذلك بمثابة حالة مَرَضية تعاملت معها السلطات بمنطق الاهمال والانتظار، وأثمرت هذه السياسة انهياراً شاملاً ساهم في جزء منه الإصرار على ليرة ثابتة في وضعٍ غير ثابت، كان ينهار بصمت، وكان تثبيت العملة الوطنية يخفيه جزئياً إلى أن وقع المحظور.

 

اليوم، تكرّر السلطة الإسلوب نفسه في التعاطي مع أزمة إضراب القطاع العام: إهمال ولامبالاة وانتظار! وبدأت مفاعيل الأزمات المتفرعة عن الإفلاس تضرب كل مفاصل الدولة، وتدفعها إلى التحلّل إلى حدود غير مسبوقة، وسط ذهول الدول التي تتابع الوضع اللبناني وتحاول ان تساعد.

 

وبما أنّه أصبح من نافل القول، أن لا حلول للأزمات سوى من خلال حلّ شامل يستند إلى البدء في تنفيذ خطة إنقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبدعم من الدول المانحة التي لا تزال تبدي الاستعداد للوقوف إلى جانب لبنان، لا بدّ من إجراءات مؤقتة بانتظار المباشرة في خطة التعافي الموعودة. هذه الإجراءات ينبغي أن تنطلق من ثلاث مسلمات أساسية:

 

اولاً- إعتماد مبدأ المساواة والعدالة في أي تصحيح جزئي للأجور في القطاع العام.

ثانياً- الإستناد إلى مبدأ تمويل الزيادة من خلال الموازنة، وعبر مصادر ايرادات مستدامة وواضحة ومضمونة.

ثالثاً- الأخذ في الاعتبار المعايير المعتمدة لجهة نسبة الإنفاق على رواتب القطاع العام قياساً بالإنفاق العام في الموازنة، وقياساً ايضاً بحجم الاقتصاد (GDP).

 

هذا الإجراء المأمول، ينبغي أن يوقف مفاعيل القرار الغامض الذي قضى بإعطاء القضاة امتيازات مالية من دون أي دراسة للأرقام والنتائج. وبالمناسبة، هذا القرار لا يزال يتيم الأب والأم، ولم يتمّ تبنّيه من قِبل أي جهة مسؤولة في السلطة، بما يسمح بالقول انّه قرار مشبوه ويعطي فكرة عن مدى التشوهات القائمة حالياً. وبات مسموحاً ان يسأل اللبناني من يتحكّم في مصيره؟ إذ لم يعد معروفاً من يتخذ مثل هذه القرارات التي تحتاج في الوضع الطبيعي إلى إجماع سياسي يشمل السلطتين التنفيذية والتشريعية.

 

ولا يمكن التعويل على تعميم مفاعيل قرار الدفع للقضاة على كل القطاع العام، لأننا في هذه الحالة نتحدّث عن مبلغ يقترب من 100 الف مليار ليرة. وهو يعني انّ مطبعة الليرات ستعمل بكل طاقتها لأيام عدة لطبع «طرحيات» الليرات الجديدة لتوزيعها على الموظفين. والنتيجة معروفة طبعاً، إذ انّ سعر صرف الليرة سينهار إلى مستويات غير مسبوقة، وسننتقل من أزمة رواتب القطاع العام، إلى أزمة قدرات شرائية منهارة اكثر مما هي عليه اليوم، ستشمل القطاعين العام والخاص، وسندخل مرحلة جديدة من التضخّم المفرط (Hyperinflation) ستفرض إنتاج اوراق نقدية جديدة ذات قيمة أعلى (ورقة المليون مثلاً). وقد نختبر نموذج حمل أكياس من العملة لشراء الحاجات اليومية.

 

إلى ذلك، فإنّ رفع حجم الرواتب إلى حوالى 80 الف مليار ليرة، سيرفع نسبة الإنفاق على الرواتب من حوالى 20% من مجموع الإنفاق في الموازنة (استناداً إلى ارقام المشروع المقدّم من الحكومة)، إلى حوالى 150%! في المقابل، وفي أحسن الأحوال، يمكن زيادة الإيرادات في الموازنة بنسبة 10 إلى 15%، من دون المجازفة بالقضاء على القطاع الخاص، وضرب الاقتصاد اكثر مما هو مضروب.

 

الحل المنطقي لهذا الملف، تدبير مؤقت يُفترض ألّا يطول اكثر من بضعة أشهر، يسمح برفع مجموع الاجور في القطاع العام إلى حوالى 20 الف مليار ليرة، مقابل زيادة الايرادات بنسبة 10%، ويكون كافياً لتسيير المرافق العامة، وإعادة ضخ الحياة، ولو جزئياً، في المؤسسات العامة، بانتظار الاتفاق الموعود مع صندوق النقد، والذي يُفترض ان يؤدّي في مرحلة أولى إلى وقف مسار الانهيار، وفي مرحلة ثانية إلى بدء مسيرة الصعود مجدداً إلى الضوء.

أنطوان فرح

مصارحة لأبنائنا

الوضع في #لبنان يستوجب المصارحة. فالبلد لا مستقبل له، إذا استمرّ بالإدارة المهترئة والسياسيين المحترمين، سوى ما يحدث في سوريا، أي التقسيم الاختياري بعد التهجير الإجباري.

أصبح لبنان اليوم مفرغاً من طاقاته الحيوية، أساتذته الجامعيين والثانويين، أطبائه المميزين، مهندسيه المتفوقين، الاختصاصيين في مجالات المعلوماتية، المنتظمين في مسعى فرض القانون، القضاة غير المنتسبين لحزب أو زعيم، وعملة لا مستقبل لها في الاسواق العالمية كما في لبنان تتفارق أسعارها بين يوم وآخر بنسب قد تبلغ 20%.

بلد كهذا اشتهر بجامعاته التي تأسست منذ أكثر من مئة سنة، مستشفياته التي كانت مقصد المرضى من دول المحيط العربي، مسارحه، حريات الأفراد، صحافة مستقلة أو ما يشبه ذلك ودور نشر لكتاب يزيد عددها في لبنان عن عددها في سوريا والعراق.

لبنان هذا تدهور بسبب سياساته المالية لا بسبب قرارات مصرف لبنان، والواقع أن مصرف لبنان أصبح مقيّداً بخياراته لأن السياسة المالية المفترض أن تتوازن مع السياسة النقدية فقدت توازنها منذ زمن وقد أصبحت السياسات المالية عرضة للتشكيك من اللبنانيين والعرب والأجانب وحتى من قبل المسؤولين ممن يعتبرون السياسات المستمرة مضرة مثل رئيس فريق إقرار الميزانية إبراهيم كنعان.

لبنان الحريات الاقتصادية لم يبق منه سوى حرية الملكية وهذه الحرية تتعرّض للانتقاص يوماً بعد يوم والهجرة ترتفع، والرغبة في العودة تتبخر مع استمرار انحدار أوضاع لبنان.

البلد لم يعد مميزاً وقد غرق في سياسات سخيفة ابتدأت مع حكومة حسان دياب. فهذا الرجل ووزيره للاقتصاد راوول نعمة هما المسؤولان الأولان عن تدهور الاقتصاد.

على صعيد الاقتصاد يجب التذكير بالأرقام التي نشرها حاكم مصرف لبنان أي:

الـ26 مليار دولار دعم للكهرباء.

الـ62 مليار دولار مقترضات الدولة بقرارات تشريعية لم تدخل في حساب الموازنة.

عجز الموازنة خلال عشر سنوات راوح حول نسبة 10-12 بالمئة من الدخل القومي، وهذا العجز كان ولا يزال من مسؤولية أهل الحكم لا من مسؤولية من يحاولون التمسّك بسياسة نقدية منطقية.

السياسات المالية كانت وما زالت السبب الرئيسي في العجز ولا تزال، ولهذا السبب يبحث النواب، أو غالبيتهم عن إلقاء نتائج الخطأ على سياسات مصرف لبنان وأصحاب الودائع.

حضرات النواب… مصرف لبنان مسؤول عن السياسة النقدية، وله مجلس يشمل الحاكم ونوابه والمدير العام لوزارة المالية والمدير العام لوزارة الاقتصاد، وهذا المجلس أقر خلال السنوات الثلاث المنصرمة وقبل ذلك جميع القرارات المتخذة لكن السياسة المالية “إقرار الموازنات” ذات العجز المتفشي هي السبب في مشكلة لبنان حالياً. ويزيد من ضرر السياسة المالية أن مجلس النواب لا يشمل أو لم يكن يشمل حتى الانتخابات الأخيرة اختصاصيين بالشؤون الاقتصادية والمالية.

الانتخابات الأخيرة أحدثت تغييراً أساسياً في التمثيل النيابي، فهنالك عدد من النواب الجدد يعلمون مستوجبات النجاح الاقتصادي، وحكومة الرئيس ميقاتي القائمة والتي قد تنجز منصرفة الى محاولة اقتباس برنامج للتعويم من قبل صندوق النقد الدولي واقتراض ما يعادل 3 مليارات دولار للتسديد خلال 46 شهراً على أن تحقق الحكومة تحسينات إدارية وإشرافية لم تتوصّل لتحقيقها على مدى سنوات. وكيف للوزارات من هذا النوع أن تحقق أي تقدم حينما يدعو أحد أعضائها السابقين جبران باسيل إلى عشاء في منزل فيوزع منشوراً على عشرات الشقق القريبة بأن عليهم تقبّل احتياطات الأمن لأن الضيف غريب على لبنان، كيف لبلد يتصرّف وزراؤه على هذا الشكل أن يحقق نتائج مقبولة على صعيد الاقتصاد؟ وكيف لبلد أن يركز على برنامج مع صندوق النقد الدولي وقد حقق اكتساباً على مستوى 1.3 مليار دولار من صندوق السحوبات الخاصة لمعالجة أوضاع مؤقتة وفي الوقت ذاته حقق الزيادات المعددة أدناه في مجال اكتساب التحويلات الخارجية دون ربط سياساته بإنجازات إدارية لا يستطيع هذا العهد بالتأكيد تنفيذها ولو كان كذلك لنفّذ منها نسبة 10% على الاقل.

الأميركيون رفعوا معوناتهم من 100 مليون دولار للجيش الى 500 مليون دولار منها 300 مليون دولار للجيش و150 مليون دولار للجامعة الأميركية والرصيد للجامعة اللبنانية الاميركية.
الفرنسيون حوّلوا 250 مليون دولار لمساندة المدارس التي تتبع المناهج الفرنسية.
وزير الاقتصاد اكتسب تسهيلاً من البنك الدولي بقيمة 180 مليون لدعم أسعار الخبز.
السعوديون أقرّوا مساعدة على مستوى 150 مليون دولار.

قطر أقرّت مساعدة للجيش بقيمة 60 مليون دولار.

الإمارات العربية ومصر وفّرتا مساعدات غذائية وصحية بقيمة 150 مليون دولار.

نفقات القوات الدولية في الجنوب رفعت بـ500 مليون دولار سنوياً.

وبالتالي مجموع هذه التقديمات يبلغ 1780 مليون دولار.

حينما تتوافر لنا مساعدات على مستوى 1.8 مليار دولار من دول ومؤسسات تهتم بقيامة لبنان لماذا علينا أن نستقبل مساعدة من صندوق النقد الدولي على مستوى 3 مليارات دولار تقيّد سياساتنا بسياسات الصندوق لمدة 5 سنوات على الاقل. سنة انتظار انتهت دون شيء يذكر سوى مذكرة تفاهم على القواعد، حاولت وزارة الميقاتي تصويرها وكأنها اتفاق نهائي. وتشجع نائب رئيسها على التمهيد لإلغاء حقوق أصحاب الودائع.

قيامة لبنان لن تتحقق ما لم نحوّل مؤسساته الكبرى القائمة التي يمكن إنجازها الى مؤسسات منتجة تستوجب توافر الكفاءات وانصراف المشاركين الى العمل بنشاط لإنجاح البلد.

لماذا
يبقى مرفأ طرابلس دون تطوير ومطار رينيه معوض دون تشغيل والمصافي معطلة؟
وطيران الشرق الاوسط دون مشاركة فعالة من شركة طيران دولية؟

والريجي دون مشاركة من هيئات ألمانية تبحث عن المشاركة في إنتاج الأدوية من الحشيشة؟
ووسط البلد المجهّز على أعلى مستوى دون تطوير وهنالك توجه شرط أن لا يكون الحكم استنسابياً كما فعل بالنسبة لما سمّاه ملاحقات قانونية.

إن لم نقدم على هذه الخطوات ونهمل الاعتماد على صندوق النقد الدولي فسيبقى لبنان مركز الهجرة الأول في المنطقة.

مروان اسكندر

من أزمتنا الاقتصادية الداخلية الكارثية الى التضخّم العالمي المخيف؟

 

لا شك في أنّ لبنان يمرّ في أصعب فترة في تاريخه الاقتصادي والاجتماعي والمالي والنقدي، وأزمة إجتماعية خانقة، فيما لا نزال نعبر النفق الأسود، ونحفر يومياً عكس الضوء.

هذه الأمور السوداوية والتشاؤمية يجب ألاّ تمنعنا عن التفكير والنظر إلى ما يحدث حولنا إقليمياً ودولياً. فالعالم ككل يعاني أزمة اقتصادية اجتماعية، وتضخماً مخيفاً وبطالة خانقة وإعادة هيكلية مطلقة.

بدأت كل البلدان تستيقظ من جائحة كورونا، وتحاول بلسمة جراحها، وتعمل ليلاً نهاراً لاستعادة نشاطاتها، وإعادة الهيكلية الداخلية، وبناء الاستراتيجيات الجديدة، والخطط الحديثة، من بعد سنتين من الحَجر الاقتصادي، وتوقف سلاسل التوريد، التي ندفع ثمنها حتى اليوم. أما طبع وضخ السيولة لمساعدة الإقتصادات والشركات والشعوب، أدّت إلى زيادة الكتلة النقدية وتضخم نشعر به اليوم أكثر فأكثر.

من جهة أخرى في الوقت عينه، أنّ الحرب الساخنة الروسية – الأوكرانية، والحرب الباردة بين الشرق والغرب زادتا من اضطرابات سلاسل التوريد، والنقص في الموارد الغذائية، وأدّتا إلى تضخم كارثي بالنفط والغاز وكل المشتقات التابعة لها.

اليوم هذه الحرب بين العملاقين العالميين لها تداعيات كبيرة على كل اقتصادات العالم، وعلى العرض والطلب، وخصوصاً تزيد من التضخم الذي يرتفع يوماً بعد يوم، ويُمكن أن يؤدي إلى تضخّم مفرط.

وحتى إذا كان لبنان في أحلى أيامه وأعلى أرقامه، فقد كان من المستحيل مواجهة هذه الأزمة العالمية الكارثية، ومواكبة هذا التضخم المخيف، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية، ومتابعة الدعم غير المنتج في اقتصاد يستورد 80% من حاجاته.

إننا كنّا دائماً نفخر بمرونة اللبنانيين وروحهم الريادية، وأفكارهم الخلاّقة لمواجهة كل الأزمات الداخلية، الإقليمية والدولية. والتاريخ برهن عن قوتهم، ليس فقط للمواجهة، انما للفوز على هذا النوع من المعارك. أما اليوم ولسوء الحظ، لم يعد لديهم الأسلحة الاقتصادية والمالية الفعّالة للمواجهة والتغلّب على هذه الأزمة الدولية.

إنّهم اليوم لا يمتلكون سيولتهم، وقد خسروا كل أبواب التمويل، ولا يستطيعون التطور ولا حتى التنويع للمواجهة. فهم محكومون بإعادة الهيكلة وبناء سيولتهم بالـ «فريش» من جديد، وحتى إعادة رساميل شركاتهم. فهذه العملية الإنقاذية وإعادة الهيكلة المالية والنقدية، ستأخذان وقتاً كبيراً لمواجهة الأزمة الاقتصادية المستجدة، ليس فقط في لبنان لكن أيضاً إقليمياً ودولياً.

في الخلاصة، إنّ لبنان واقتصاده وشركاته وشعبه، يعاني ويواجه ثلاث أكبر أزمات على الصعيد الداخلي، الإقليمي والعالمي. داخلياً يعاني أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في العالم، ودولياً يعاني تضخّماً كارثياً، وإعادة هيكلة كل اقتصادات العالم، ومواجهة العالم ما بعد الجائحة وتداعيات حرب عالمية باردة، كما يعاني نقصاً في كل الموارد.

د. فؤاد زمكحل