أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

100 ألف دولار لكل مودع؟

أكد نائب رئيس حكومة تصريف الأعمال ورئيس الوفد اللبناني المفاوض مع صندوق النقد الدولي الوزير سعادة الشامي، أن لا تعديلات جوهرية الآن على خطة التعافي التي اقرتها الحكومة. وقال، “لقد اتفقنا مع صندوق النقد الدولي وهناك التزام من لبنان بذلك، ونحن نطوّر هذا المشروع وهذا ما قلته في مجلس النواب. ورداً على سؤال عمّا سُمّي تعديلات شفهية على الخطة طرحها رئيس الحكومة على لجنة المال والموازنة قبل أيام أجاب الشامي، لا يوجد تعديلات على الخطة الأساسية ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي قال إن هذه أفكار نناقشها الآن لكننا لم نطرحها بعد على صندوق النقد وهي تحتاج لأن نناقشها معه فإذا قبل بها عندها نسير بهذه الأفكار”.

وأوضح الشامي عن الموعد الذي سيقدّمون فيه أفكار الرئيس ميقاتي مكتوبة الى لجنة المال والموازنة كما طلبت اللجنة، لقناة “الحرة”، أننا “نعمل على التفاصيل لن نرتبط بوقت محدد ويفترض ان ننجزها ربما في خلال أسبوع او عشرة أيام أي في وقت قريب لأن الخطة الأساسية كما قلت لم تتبدّل”.

وقال عما إذا كان مقتنعاً بفكرة صندوق التعافي او صندوق استرداد الودائع، إنه “مقتنع وأن الفكرة أتت من فريق العمل. وأوضح، حسب الوضع الحالي نستطيع ان نحمي الى حد الـ 100 ألف دولار لكل مودع وهذا يكلّف بحدود 28 مليار دولار، ونحن عندنا أصول بالقطاع المصرفي تساوي 28 مليار دولار وهذه المبالغ يمكن ان نردها للمودعين وهي تغطي نحو 88% منهم. ولكن هذا لا يعني اننا نسينا الـ 12% المتبقين من المودعين، لذلك ابتكرنا فكرة صندوق استرداد الودائع لننقل اليه كل الودائع التي تفوق المئة ألف دولار”.

وأوضح عن تمويل هذا الصندوق، أنه “بالقطاع المصرفي يمكن ان يكون لدينا نحو عشرة مليارات دولار يسمّونها Certificate of deposit موجودة في مصرف لبنان ويمكن ان ننقلها الى صندوق استرداد الودائع. وهناك أيضاً نوع من الـ bail in أي بالإمكان ان يكون للمودع حصة بالمصارف وهذا الأمر يجري بحثه، كما أن الدولة وفي حال حققت فائضاً أولياً في الميزانية يفوق الـ2% يمكن تحويل 50% منها الى الصندوق شرط ان تكون نسبة النمو تتخطى 3%. وكذلك إذا حصلت أي عملية لاسترداد الأموال المنهوبة أو المهربة تدخل أيضاً في هذا الصندوق”.

وأكد الشامي أن “هذه الأفكار قابلة للتطبيق. واعتبر ان الهدف الأساسي من كل ذلك هو تكبير عملية استرداد الودائع، ويُدفع قسم منها بالليرة اللبنانية وقسم بالدولار”. لكنه أضاف ان “هذه العملية ستأخذ وقتها ونريد ان نكون واقعيين ولا نغش الناس فهذا لن يحصل بين ليلة وضحاها”.

ورفض الشامي اتهامه “بشطب ستين مليار دولار من الودائع مؤكداً أن الموضوع يتعلق بثلاثة أطراف الدولة مصرف لبنان والمصارف ويأتي المودعون بالمرتبة الأخيرة لأن ليس لديهم مسؤولية”.

وأشار الشامي حول إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلى أن “العمل جار على مشروع القانون وهناك نسخة شبه نهائية قيد التحضير بين لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان بالتشاور مع صندوق النقد الدولي وقد يكون جاهزاً بعد عشرة أيام او أسبوعين”. معتبراً ان “من المبكر الحديث عن موضوع اقفال مصارف او دمج مصارف. وقال، ليس هناك فكرة مسبقة كم سيبقى من المصارف، فقد يبقى 50 أو 60 مصرفاً وقد يبقى 10 مصارف وليس بالضرورة ان تقفل المصارف الصغيرة وتبقى الكبيرة”.

واعتبر الشامي أنه “منذ توصلنا الى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على صعيد الموظفين في نيسان الماضي، أصبحت الكرة بملعب لبنان قبل الوصول الى الاتفاق النهائي. فهناك شروط او إجراءات مسبقة منتظرة من مجلس النواب ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. وقال ان أمام مجلس النواب 3 مشاريع قوانين هي التعديلات على قانون السرية المصرفية، الكابيتال كونترول، والموازنة. وحذّر الشامي من ان أي تعديلات جوهرية على مشاريع القوانين المطروحة يمكن ان تعيق الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي”.

وتوقع أن “يحصل موعد إقرار هذه المشاريع توقع بغضون عشرة أيام او أسبوعين وستكون هناك جلسة تشريعية في النصف الثاني من شهر تموز.

واستغرب الشامي التأخر في إقرار مشروع موازنة 2022، كما تحدث عن “مشروع قانون الكابيتال كونترول قائلاً، لا يزالوا منذ سنتين يناقشون هذا المشروع وقد طلبوا مني تزويدهم بملاحظات صندوق النقد وقد زودتهم بها وبدأنا المناقشات ثم أتت الانتخابات النيابية. ويفترض العودة الى دراسة هذه المشاريع خلال أسبوع او أسبوعين. كما ان هناك مشروع لم تتم إحالته بعد الى مجلس النواب وهو مشروع Emergency Banking Resolution. “. مضيفاً، “إذا أقرت كل الإجراءات المسبقة من قبل مجلس النواب ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، حينها يحال التقرير النهائي الى صندوق النقد لتتم الموافقة النهائية عليه ثم تصرف الأموال ويبدأ البرنامج، وردا على سؤال عما اذا كان بالإمكان ان ينجز هذا الاتفاق في أيلول تمنى الشامي ان يحصل ذلك ولكنه أشار الى أن صندوق النقد يكون بإجازة في شهر آب”.

وقال الشامي عن الموازنة، إنها “أنجزت على أساس سعر صرف صيرفة في ذاك الوقت وكان بحدود العشرين ألف ليرة أي انها محضرة مسبقاً على أساس سعر صرف السوق وبحسب رأيي يجب أن نتبع سعر صيرفة، فصحيح ان هذا يمكن ان يكون له عواقب لكن عندها نتعامل مع هذه العواقب”.

وأكد الشامي على أهمية توحيد سعر الصرف في أقرب وقت ممكن وهذا يجب ان يحصل من ضمن الإصلاحات المطلوبة التي ستسهل الاتفاق مع صندوق النقد وتدخل الأموال الى لبنان وعندها إذا وحدنا سعر الصرف لا يقفز بشكل غير منطقي. وقال عندها يصبح توحيد سعر الصرف او تحريره يعني تقريبا الشيء نفسه لأن السعرين سيقتربان من بعضهما ليصبحا سعرا واحدا وربما يتحسن سعر الصرف وليس بالضرورة ان يبقى على سعر الـ24000 أو الـ25000 لأن هناك أموالا ستأتي من الخارج. أما إذا لم ينفذ لبنان الإصلاحات فمن المؤكد ان سعر الصرف سيرتفع.

واعتبر ان الموضوع الشائك الآن هو الدولار الجمركي واعتقد ان الموازنة التي أنجزت على أساس سعر صيرفة يحب ان يطبق فيها كل شيء على هذا السعر بما فيه الدولار الجمركي.

وأوضح ان تأثير ذلك على الأسعار لن يكون كبيرا وسيكون بين 8 الى 10% كحد أقصى. وقال إنه اذا لم تتم الزيادة على الدولار الجمركي فلن يكون بالامكان تحسين أجور القطاع العام التي أصبحت “بالأرض”. ودعا مجلس النواب الى إقرار الموازنة بما يضمن تأمين إيرادات ولا يمكن التراجع عن هذا الأمر وإلا لا يمكن ان نستمر.

وتابع رداً على سؤال حول الفترة المتوقعة لبدء خروج لبنان من الأزمة إذا وقع الاتفاق مع الصندوق أجاب أن الأمر يتعلق بلبنان واستعداده وإصراره على تنفيذ الاصلاحات فكلّما سرّعنا في الإصلاحات كلما تسرّعت عملية بدء الخروج من الأزمة. فالإصلاحات يمكن ان تضع لبنان على السكة الصحيحة خلال أشهر، ثم ستأخذ سنتين او ثلاثة لبدء الخروج من الأزمة.

ولفت عن السيناريو الذي ينتظر لبنان في حال عدم توقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد أجاب الشامي، إلى أنني “لا أحب أن أتصوّر هذا السيناريو، فنحن وبغض النظر عن الصندوق الدولي، إذا لم ننفذ الإصلاحات فإن الاحتياطات في البنك المركزي ستتضاءل يوما بعد يوم وسنصل لمرحلة لن نتمكن فيها من استيراد المواد والاحتياجات الأساسية وسنصل الى واقع اجتماعي لا يمكن تحمله. وفي ظل هذا السيناريو لم يستبعد الشامي أن نصل الى صفر احتياطي”.

وقال الشامي عن رقم الـ11 مليار دولار المتبقية في احتياطي البنك المركزي، إنه “من ضمنها الـ SDR وهو بحدود المليار و165 مليون دولار. وأوضح ان هناك شركة عالمية تقوم حاليا بالتدقيق بالحسابات بالأصول الأجنبية في مصرف لبنان وهذه الشركة ستدقق في الاحتياطات بالعملات الأجنبية وبقيمة الذهب الذي لم يحصل له تقييم منذ فترات طويلة. وتوقع الشامي ان يصدر قريبا التقرير الذي يُظهر الأصول الأجنبية، أما التقرير بخصوص أصول الذهب فيحتاج لمزيد من الوقت”.

وكشف عما اذا كان صندوق النقد راضياً عن أداء لبنان، عن وجود انتقادات من جانب الصندوق على البطء في العمل من الجانب اللبناني. وقال إذا كنا اليوم موجوعين فإن الوجع سيكون أكبر بكثير إن لم نفعل شيئا.

وعلق على الانتقادات التي تعرض لها من النائب ملحم خلف، أنني “آسف لسماع هذا الكلام وهذه اللغة وهذا التهديد من شخص كان نقيبا للمحامين. وقال فوجئت وصعقت بهذا الكلام، ولا اقبل ان يخاطبني أحد بهذه الطريقة أياً يكن. وإذا كان خلف يعترض على أي خطة فأنا مكلف من الحكومة فلينتقد الحكومة وليس سعادة الشامي كشخص”. وأضاف، “بالقراءة بين السطور في كلام خلف يمكن الاعتقاد بأنها المصادر ذاتها التي تحاول إسقاط الخطة وأنا أحمّل كل من يريد عرقلة الخطة المسؤولية.”​

المودعون ينتظرون الفائض…«النَطرَة طويلة شوي»

الشرط الأساسي للنجاح في أي مشروعٍ أو خطة للتعافي، والخروج التدريجي من الانهيار، يكمن في عودة الانتظام إلى المالية العامة، وإلى وقف مسلسل العجز السنوي في الموازنة، والتحوّل إلى فائض يتيح استخدام المزيد من الأموال في دعم الاقتصاد. فهل الوصول إلى مرحلة الفائض من الأمور المُتاحة، وما هو الثمن المطلوب لذلك؟

من خلال مشروع موازنة العام 2022، ومن خلال المواقف النيابية المواكبة لهذا المشروع، يتضح كم سيكون صعباً إقرار موازنات تتماهى والأرقام المطلوبة للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. والإشكالية المحيطة بهذا الموضوع ترتبط بجوانب تقنية واجتماعية وسياسية، كلها معقّدة.

 

من الملفت انّ الاقتراحات الجديدة التي قدّمها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتُضاف إلى خطة الإنقاذ القائمة، تستند إلى مبدأ ربط تغذية «صندوق التعافي» بفائض الموازنة. لكن الملفت اكثر، انّه تمّ تحديد الفائض الاولي كمعيار لتغذية الصندوق المقترح، وليس الفائض الإجمالي، وهذا الأمر يدعو إلى طرح اكثر من علامة استفهام. فهل انّ الوصول إلى تحقيق فائض أولي، يكفي للبناء عليه لرسم مخططات دعم الاقتصاد، وتسديد مستحقات؟ وهل الفائض الأولي هو تحصيل حاصل في الموازنات المقبلة؟ وما هي «التضحيات» المطلوبة لبلوغ هذه المرحلة؟

 

في الواقع، هناك مجموعة معطيات قد تساهم في بلوغ حقبة الفائض الأولي في الموازنة، من ضمنها ما يلي:

 

اولاً- يبدو في احتساب الارقام، انّ مالية الدولة ستكون في وضع مريح اكثر من السابق، أي قبل الانهيار، حيث انّ الحكومة ستشطب القسم الأكبر من الديون، بما سيدفع نسبة الفوائد في الإنفاق العام، والتي كانت تشكّل حوالى 30 الى 35%، إلى التراجع إلى ما دون الـ10%، بما فيها الفوائد التي ستُدفع مقابل القرض الذي قد يُفرج عنه صندوق النقد الدولي تباعاً، في حال الوصول إلى اتفاق نهائي معه.

 

ثانياً- نسبة الإنفاق الحالي على الرواتب والاجور في القطاع العام وصلت الى حوالى 10% مقارنة مع الإنفاق العام المُقدّر للعام 2022. هذه النسبة صارت مقبولة، وتتماهى والمعايير المالية المعتمدة في الدول التي لا تعاني من عجوزات في موازناتها. في حين انّ كتلة الرواتب والأجور تجاوزت الـ35% في الموازنات التي سبقت الانهيار في نهاية العام 2019.

 

ثالثاً- حجم الإنفاق العام في الدولة، وفق ما هو مرسوم في مشروع موازنة العام 2022، يبلغ حوالى 49 الف تريليون ليرة، محتسبة على سعر صرف لا يتجاوز الـ20 الف ليرة للدولار الواحد. أي انّ الإنفاق يصل الى حوالى 2,5 مليار دولار. وهذا يعني انّ الإنفاق العام يوازي حوالى 12% من حجم الـGDP المقدّر بـ22 مليار دولار. هذه النسبة تُعتبر جيدة في المعايير المالية، على اعتبار انّ الإنفاق العام في الموازنات قبل العام 2019، وصل إلى ما نسبته 30 إلى 35% من الناتج المحلي.

 

لكن هذه الأرقام لا تعني انّ تحقيق فائض أولي صار من الامور السهلة، بدليل انّ مشروع موازنة 2022 نفسه، يعترف بعجز قدره 20,8%، في حين انّ التقديرات تشير إلى عجز حقيقي سيتجاوز هذا الرقم. وبالتالي، يتطلّب العبور من العجز إلى الفائض، واحداً من أمرين: إما خفض الإنفاق بنسبة إضافية كبيرة، وإما زيادة الإيرادات بنسبة كافية لتغطية العجز. وبما أنّ الإنفاق وصل إلى الحدّ الأدنى الذي لا يمكن النزول تحته، بل من المرجّح ان تكون هناك ضرورة إلى إدخال تعديلات ترفع بعض الشيء مستوى الإنفاق، لضمان تسيير عجلة الدولة بالحدّ الأدنى.

 

لذلك، يبقى المخرج المُتاح مرتبطاً بزيادة الإيرادات. هذا المخرج يزداد ضيقاً وصعوبة كلما مرّ الوقت، وتدهور الوضع المالي العام أكثر. ولأنّ تغيير النظام الضرائبي لن يكون مجزياً في هذه الحقبة من الانهيار القائم، فإنّ الحلول تبقى محصورة في ناحيتين: إستيفاء الرسوم والضرائب على سعر صرف جديد، بما يعني عملياً رفع الضرائب والرسوم بنسبة لا تقلّ عن 1500%، ولو انّ الحكومة لا تسمّي ذلك رفعاً، بل تعتبره تصحيحاً للاقتراب من سعر صرف الدولار الذي ارتفع حوالى 2000% (20 ضعفاً). ولكن التسميات لا تؤثر على المضمون، والذي يعني انّ الاستحقاقات على المواطن سترتفع بنسبة كبيرة، في حين انّ المداخيل بالكاد ارتفعت بما يوازي 10% قياساً بانهيار الليرة.

 

انّها المعادلة الصعبة التي ستواجه السلطة، خصوصاً انّ الإجراءات المواكبة، والمتعلقة بمكافحة الاقتصاد الأسود والتهريب والتهرّب الضريبي، كلها ملفات متشابكة يسهل الحديث عنها والمطالبة بها، ويكاد يستحيل تطبيقها في ظلّ المناخ السياسي السائد.

 

اما الناحية الثانية التي قد تشكّل مخرجاً جيداً لإشكالية تحقيق الفائض السريع في الموازنة، فترتبط بإمكانية إنجاز ترسيم الحدود البحرية، والبدء في الإفادة من الثروة الغازية. وهذا الملف ايضاً متشابك سياسياً، ومن غير الواضح بعد، إذا ما كان سيتجّه الى الحلحلة السريعة، أم سيبقى في قمقم التجاذبات المحلية والإقليمية والدولية.

 

وعليه، سيكون الحديث عن فائض، ضمن المعطيات الحالية على الأقل، من باب التمنيات ليس إلّا.

انطوان فرح

خطة جديدة لإعادة الودائع… «هلا بالخميس»

ما هي الخطة الجديدة التي يريد رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي مفاجأة المودعين بها؟ وهل صحيح انّ هناك مفاجأة في الاساس يرغب ميقاتي في مناقشتها مع المجلس النيابي الذي يباشر في دراسة الخطة الاقتصادية الانقاذية التي أقرّتها الحكومة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟

تابع المودعون باهتمام شديد ما قاله كبير مستشاري رئيس حكومة تصريف الاعمال نقولا نحاس في إطلالته في برنامج «صار الوقت»، في شأن خطة سوف يعرضها ميقاتي على المجلس النيابي تتعلّق بموضوع اعادة الودائع الى أصحابها. والمقصود هنا الودائع التي تتجاوز قيمتها المئة الف دولار، على اعتبار انّ خطة التعافي تتعهد بإعادة كل الودائع التي تبلغ 100 الف دولار، وما دون. ما هي الخطوط العريضة لهذه الخطة الجديدة الموعودة؟ ولماذا برزت اليوم ولم تكن مُتاحة عندما تمّ التوافق على الخطة مع صندوق النقد الدولي؟ وهل هي جدية ام انها تهدف فقط الى ذرّ الرماد في العيون؟

 

لا شك في انّ ميقاتي الذي كان مستعجلاً عقد اتفاق أولي مع صندوق النقد، تساهَل الى أقصى الحدود في صياغة الخطة الاقتصادية، وفَوّض نائبه سعادة الشامي صلاحيات استثنائية لإنجاز اي خطة تحوز على موافقة صندوق النقد وتسمح بتوقيع الاتفاق الاولي معه. ومن البديهي ان ميقاتي لا يرغب في أي شكل من الاشكال، في تقويض أسس الاتفاق مع الصندوق، كما انه ليس في مصلحة لبنان ولا اللبنانيين المجازفة بهذا الأمر. لكن يبدو ان رئيس الحكومة المكلّف شعر بحجم المعارضة التي تلقاها الخطة، ليس على مستوى المودعين والمصارف والمؤسسات وارباب العمل فحسب، بل ايضا على مستوى الكتل النيابية التي تبدو بدورها غير مقتنعة بطريقة توزيع الخسائر، وشطبها عشوائياً، وحرمان المودعين من حقوقهم في سابقة قد تجعل لبنان نموذجاً للفشل على مستوى معالجة الأزمات المالية والاقتصادية، وطرق الخروج منها.

 

لكنّ السؤال المطروح اليوم، هل انّ ميقاتي قادر على تقديم اقتراحات جديدة تنسف أسس الخطة التي اتفق من خلالها مع صندوق النقد، وتعطي المودعين الامل في استعادة حقوقهم، ولو بعد حين؟

 

ما هو مؤكّد انّ نهج التعاطي مع موضوع المودعين قد تبدّل، وصار ميقاتي مقتنعاً بخطورة شطب الودائع. وبالتالي، أثمرت الاتصالات الدؤوبة التي جرت طوال الفترة الماضية، سواء في الداخل او مع صندوق النقد الدولي، نوعاً من التفاهم على تعديلات جذرية في عملية توزيع الخسائر تتيح الحفاظ على حقوق كل المودعين، أو على الأقل تسمح بتعويض هؤلاء، بحيث تصبح الخسائر محدودة، مع إلغاء مبدأ الشطب الذي اعتُمد في الخطة الحالية. وفي الوقت نفسه، سيتمّ تحاشي استخدام املاك الدولة أو مؤسساتها لضمان هذه التعويضات، وهذا الأمر يُريح صندوق النقد ويجعله جاهزاً للموافقة على التعديلات المطلوبة ضمن الخطة.

 

لقد تمّ تأجيل اعلان الطرح الجديد، من قبل ميقاتي اليوم الاثنين في المجلس النيابي، كما كان مقرراً، بسبب تعديلات اضافية جرى إدخالها على الخطة الجديدة، بحيث لم تصبح المسودة النهائية جاهزة بعد، لكن الموعد الجديد هو مبدئياً يوم الخميس المقبل. ويبدو انّ صندوق النقد الذي أخذ علماً بالاقتراحات الجديدة أعطى موافقته المبدئية عليها بعدما تأكد أنها لن تؤثّر سلباً على مسار تَعافي الاقتصاد بسرعة معقولة.

 

تستند الخطة الجديدة الى مبدأ توزيع الخسائر وفق توزيع المسؤوليات، وهي تتعاطى مع الملف على أساس انّ مصرف لبنان والدولة لديهما مسؤولية مشتركة في ضمان حقوق المودعين، وبالتالي، لن يكون المودع مسؤولاً عن ضياع الاموال بين المركزي والحكومة، خصوصاً ان القسم الاساسي من اموال المودعين موجود دفترياً في مصرف لبنان، والذي تشير ميزانيته المنشورة كل 15 يوما، الى مبلغ 87 مليار دولار كتوظيفات للمصارف لدى مصرف لبنان. وبالتالي، هذا المبلغ غير الموجود فعلياً اليوم، هو نقطة الارتكاز التي تفسّر حجم الخسائر القائمة حالياً، والتي جرى تقديرها بحوالى 73 مليار دولار. والجدل الذي دار بين حاكم مصرف لبنان والمصارف قبل فترة، كان في شأن كمية الدولارات الفريش التي دخلت في السنوات الأخيرة، وكمية الدولارات التي عادت وخرجت من المصارف امّا لتسديد التزامات في الخارج، او لتمويل السوق المحلي. أمّا التوظيفات الدولارية القديمة فلا علاقة لها بهذا الأمر، لأنّ الميزانية المنشورة توضحها بما لا يحتمل أي جدل حولها.

 

في النتيجة، المواطن والمودع يريد أن يأكل العنب، وما سيقترحه ميقاتي الخميس المقبل قد يوصل الى هذه النتيجة، اذا لم تحصل مفاجآت غير متوقعة.

انطوان فرح

خطة النهوض بالقطاع المالي: هل يجب اللجوء الى أصول الدولة؟

 

يدور نقاش حاد وضروري، في الأوساط الاقتصادية والمالية والسياسية والشعبية، حول خطة التعافي التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي. وتنطوي الخطة على برنامج متكامل من الإصلاحات الاقتصادية والمالية يعالج الاختلالات الماكرو اقتصادية والهيكلية التي عصفت باقتصاد لبنان وقَضت مرحلياً على نموِّه، ويرسم خريطة طريق لهذه الاصلاحات التي لا غِنىً عنها ولا مفرّ من تنفيذها في السنوات المقبلة.

فهذا البرنامج يتضمن معالجة المالية العامة واستدامة الدين، واصلاح مؤسسات القطاع العام وتصويب السياسة النقدية نحو أهدافها الاساسية وتوحيد سعر الصرف ودرء الشأن الاجتماعي ومكافحة الفقر، إضافةً إلى الموضوع الجوهري المتعلق بالحوكمة ومحاربة الفساد. لكنّ النقاش يتركّز خصوصاً على خطة النهوض بالقطاع المصرفي لما لهذا الجانب من وقعٍ مصيري على مدّخرات المودعين ومستوى معيشتهم. وللعلم فإنّ هذه الخطة وضعت الخطوط العريضة ورسمت خريطة طريق ولكن ما زال العمل جارياً على بعض التفاصيل المهمة.

 

تستند خطة القطاع المصرفي على الأسس التالية:

 

ـ أولاً، الحفاظ (إلى أقصى الحدود) على حقوق المودعين وهم الحلقة الأضعف وهم غير مسؤولين عمّا آلت إليه الأوضاع وما حلَّ بأموالهم. فالمودعون ائتمنوا المصارفَ على مدّخراتهم وجنى اعمارهم وقرشهم الأبيض الذي كان سيؤمن لهم حياة كريمة، وخصوصا المتقاعدين منهم. ولا ننسى ايضاً أموال المؤسسات بما فيها رساميلها التشغيلية التي نتيجة تجميدها في المصارف قد تتوقف عن العمل ما يزيد من معدّلات البطالة وانكماش الاقتصاد.

 

– ثانياً، تهدف الخطة الى تصحيح وضع القطاع المصرفي وإعادة رسملته وذلك للدور الاساسي لهذا القطاع في إطلاق العجلة الاقتصادية من خلال تمويل نشاط القطاع الخاص. فنحن نهدف إلى الحفاظ على هذا القطاع وتفعيل دوره علماً أنّ ذلك يتطلب جراحة (قد تكون) موجِعة في المدى القصير بهدف إنقاذ القطاع ووضع الاقتصاد على السكة الصحيحة.

 

– ثالثاً، توصي الخطة باحترام تراتبية الحقوق والالتزام بها والتي تعني عدم المساس بحقوق المودعين قبل استنفاد رأسمال المصارف، وهو يكوِّن خطّ الدفاع الأول عن الودائع. إني أدرك تماماً القلق الذي يشعر به مساهمو المصارف من جرّاء ذلك، ولكن عندما تقع الكارثة يجب على الجميع أن يساهم في عملية الإنقاذ. فالقطاع المصرفي يعاني أزمة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر تتمثّل بوجود فجوة مالية تقدّر بنحو 70 مليار دولار (ما يفوق ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد) ناتجة من سياسات مالية توسعية أدّت الى مديونية عامة مرتفعة جدا وسياسات نقدية تركّزت على الحفاظ على سعر صرف ثابت ممّا أدى الى انخفاض كبير في الاحتياطات الأجنبية. أما من ناحية المصارف فكان هناك سوء تقدير للمخاطر سابقاً من حيث توظيفات الودائع وتمركزها وان كنّا ندرك انه في بعض الحالات لم يكن للمصارف الخيار الكامل في هذا الخصوص.

 

انّ هذه السياسات مجتمعة أدت لاحقاً الى ثلاث صدمات أساسية: تدهور سعر الصرف، إعادة هيكلة الدين، ما يتطلّب تطبيق الشروط نفسها على حاملي سندات اليورو بوند الأجانب كما على حاملي هذه السندات المحليين، وهي المصارف، بالإضافة الى الخسائر المتأتية من تعثر بعض قروض القطاع الخاص. يجب معالجة هذه الخسائر جذرياً وفي أسرع وقت ممكن. فكل يوم تأخير يعني زيادة في الخسائر مما سينعكس سلباً على القطاع المصرفي خصوصاً وعلى الوضع الاقتصادي والنقدي عموماً.

 

إذاً، تقع مسؤولية الخسائر في القطاع المصرفي بالدرجة الأولى على مصرف لبنان المركزي وعلى الحكومات المتعاقبة والمصارف. لذا يتضمن برنامج الإصلاح المتّفق عليه مع صندوق النقد الدولي اصدار سندات حكومية طويلة الأمد بقيمة 2.5 مليار لمصرف لبنان مع الإشارة الى انه يمكن زيادة هذه المساهمة إذا كانت المحافظة على استدامة الدين تسمح بذلك. قد يبدو للوهلة الأولى انّ مساهمة الدولة هي صغيرة في المطلق، ولكنها مرتفعة بالنسبة الى حجم الاقتصاد إذ هي تُعادل نحو 11 % من الناتج الإجمالي. كما ان مساهمة مصرف لبنان والمصارف تقدّر بنحو 17 مليار دولار.

 

فإذا اخذنا في الاعتبار هذه المساهمات، ستبقى هناك فجوة كبيرة يجب معالجتها حتى يعود القطاع المصرفي الى ممارسة دوره الطبيعي في تمويل الحركة الاقتصادية لتحفيز النمو وخَلق فرص عمل للعدد الكبير من الشباب اللبناني الذي يدخل سوق العمل كل سنة. هذه ليست مُجرَّد تحليلات وتكهنات، بل وقائع وحقائق يجب مواجهتها للخروج من الأزمة.

 

هناك موجة من الطروحات قيد التداول ومن كثرة تردادها أصبح يتماهى للبعض بأنها حقيقة. معظم هذه الطروحات تركّز على استعمال أصول الدولة لإطفاء الخسائر. دعونا ننظر إلى هذا الموضوع بتجرد كامل وشفافية مطلقة. يعتري استعمال أصول الدولة لإطفاء الخسائر 4 مشاكل أساسية:

 

ـ أولا، انّ حجمَ الفجوة المالية كبيرٌ جداً، ويقدَّر بنحو 3.5 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. هذا يعني أن سد الفجوة المالية يوازي كل ما ينتجه الاقتصاد اللبناني من سلع وخدمات والناتج من جهد جميع اللبنانيين على مدى ثلاث سنوات ونصف سنة. ولنسلّم جدلاً أنه يمكن استثمار كل أصول الدولة والتي تتراوح قيمتها بين عشرة وعشرين مليار دولار واستعمال عوائد هذا الاستثمار لتغطية الخسائر فسيستغرق ذلك أمداً طويلاً من الزمن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا استثمرنا 20 مليار دولار بعائد سنوي يساوي 5 % فهذا يعني انّ مردود الاستثمار لن يتجاوز المليار دولار سنوياً. ولنفرض إضافة اننا سنستعمل هذا العائد حصراً، وهذا غير ممكن ولا هو منطقي، لمعالجة الخسائر، فسوف يتطلّب نحو سبعين عاماً هذا إذا لم نحتسب قيمة الوقت. وفي هذا الإطار يجب أن ندرك أنّ معظم أصول الدولة هي حالياً غير منتجة ومتعثّرة، وذلك يعني أنه يجب الاستثمار وضَخّ الأموال فيها قبل أن تأتي بأيّ مردود يُذكر، ما سيجعل معالجة الفجوة المالية أكثر صعوبة. وفي هذا الإطار إننا نرى انّ انشاء صندوق سيادي بهدف تحسين إدارة أصول الدولة ومؤسساتها قد يكون ضرورة لزيادة عائداتها، غير انّ ذلك موضوع منفصل عن معالجة خسائر القطاع المصرفي.

 

– ثانياً، ومع الاعتراف الكامل بحقوق المودعين الكاملة وغير المشروطة بوديعتهم فالسؤال يبقى: هل يجب استعمال هذه العوائد للتعويض على المصارف وعدد محدود من المودعين؟ انّ استعمال هذه العائدات سيحرم الخزينة من موارد هي في أشد الحاجة إليها، خصوصاً بعد أن وصلت أجور العاملين في القطاع العام إلى مستويات متدنية جداً أثّرت بمقدار كبير على الخدمات العامة ونوعيتها. فهل من المعقول أو المقبول أن نأخذ من جَيب جندي او عنصر قوى أمن أو مدرِّس او عامل بلدي، ونحرم القطاعات الاجتماعية من صحة وتربية لنعوّض عن خسائر عدد محدود من المودعين على أحقيتهم؟ وإذا لم تتوافر هذه الموارد للمالية العامة فهذا يعني أنّ الدولة ستلجأ امّا إلى الاقتراض وإلى تفاقم الأوضاع المالية وتزايد الدين العام لا سيما أنّ هذا الدين هو أحد الأسباب الأساسية للأزمة الحالية، أو الى عصر النفقات بمقدار كبير والذي سيؤدي الى انهيار الخدمات العامة، أو بزيادة الضرائب الى مستويات مرتفعة ممّا سينعكس في تدهور الأوضاع الاقتصادية وضغط على سعر الصرف، وبالتالي على مستوى معيشة جميع اللبنانيين.

 

– ثالثا، وبحسب تقديراتنا الحالية يمكننا ان نحافظ على مجمل الودائع إلى حدّ المئة ألف دولار اميركي ما يضمن كل حقوق 88 % من المودعين، وهو مبلغ معرَّض للتناقص كلما تأخرنا في الإصلاحات. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أننا لا نهتم بما تبقى من الـ 12 % الآخرين، فمدّخرات هؤلاء المودعين هي جنى عمرهم والبعض منهم استثمر في لبنان وخلق فرص عمل، ومن الواجب المحافظة على حقوقهم. فنحن في صدد نقاش دائم لمحاولة استرجاع معظم هذه الودائع، ولكن في الوقت نفسه لا يُمكن أن نحرم الغالبية العظمى من اللبنانيين من خدمات هم في أشد الحاجة إليها لمصلحة 3 % من اللبنانيين.

 

– رابعا، هناك تمركز للثروة بمقدار كبير ضمن الثلاثة في المئة حيث يستحوذ خمسة آلاف حساب مصرفي (تمثِّل أقلّ من ٠،٣ % من مجموع الحسابات) على ما يفوق الثلاثين مليار دولار، وهو ٣٠ % من مجمل الودائع أو نصف المبالغ التي تفوق المئة ألف دولار والمقدّرة بـ65 مليار دولار. وهذا يعنى ان نصف الموارد المتأتية من استثمار أصول الدولة ستذهب إلى 5000 حساب فقط لِما لهذا من أثر اجتماعي يخالف ابسط قواعد العدالة الاجتماعية. ولكل هذه الأسباب لديَّ الاقتناع واليقين انه ليس من المنطقي والمُحقّ أن نلجأ إلى اصول الدولة لمعالجة خسائر القطاع المصرفي. ولكن ما يجب على مجلس النواب العمل عليه بجدية مطلقة هو استرداد الأموال المنهوبة وتلك المحوّلة الى الخارج بعد تشرين الأول 2019 نظراً لاستنسابية هذه الاخيرة ممّا سيساعد في استرجاع الودائع بوقت أسرع ويقلل من أي خسارة قد تقع على المودعين.

 

أخيراً، ونظراً لحساسية هذه المسألة وآثارها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فأيّ قرار يتخذ في هذا الخصوص يجب أن يخضع لنقاش جدي وهادئ بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني. فالاتفاق الذي توصّل اليه الفريق المفاوض مع صندوق النقد الدولي، هو مبني على تحليل اقتصادي وتقني وبموافقة ضمنية مِن مانحي المجتمع الدولي الكبار، وقد أقرّه مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 20 أيار 2022. ومع ذلك فإنّ قراراً كهذا يجب أن يؤخذ على الصعيد الوطني المتمثّل بجميع القوى السياسية التي انبثق منها مجلس النواب وليس من قبل مسؤول، أو من قبل لجنة تفاوض، او حتى من قبل الحكومة.

 

ولكن إذا تعذّر الاتفاق بين الكتل السياسية على هذا الموضوع الذي لم يدخل واضحاً في صلب برامج المرشحين للانتخابات النيابية الأخيرة، فإنه من الافضل ان يتّخذ هذا القرار على صعيد الشعب اللبناني من خلال استفتاء وطني ينحصر بالتحديد بإمكان استعمال الأصول العامة للتعويض على المصارف وعلى المودعين الكبار. انّ بعض الدول المتقدمة تلجأ إلى استفتاءات شعبية حول مواضيع أقل أهمية بكثير من الاوضاع الاساسية والشديدة التعقيد التي يعيشها لبنان، فكيف بالحري إذا كان الموضوع يتعلّق بمصير وطن.

 

سعادة الشامي

خطة التعافي الى الواجهة: ما مصير المودعين؟

مع استئناف لجنة المال والموازنة عملها وعلى جدول أعمالها أوّلاً التشريعات المتصلة بخطة التعافي مثل مشروع الموازنة ورفع السرية المصرفية وإعادة هيكلة المصارف وغيرها، عادت بنود خطة التعافي التي أقَرّتها الحكومة بعد التفاوض مع صندوق النقد الدولي الى الواجهة، وبدأت الملاحظات حولها والاعتراضات عليها تصل تِباعاً الى مجلس النواب.

تعتبر المصارف انها ليست مسؤولة لوحدها عن الأزمة، لكي تُحَمّل الجزء الاكبر من الخسائر المالية وتحميلها بالتالي الى المودعين، مع العلم انّ حماية صغار المودعين ومعاقبة كبار المودعين كما تنص عليه الخطة، لم تلقَ تأييداً من أي جهة كانت واعتبرت غير منصفة في حقهم كون الدولة هي الدائن الاكبر وعليها تحمّل أكبر نسبة من الخسائر يليها مصرف لبنان فالمصارف.

في هذا الاطار، أوضح الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود انّ الحكومة تسعى الى كسب «رضى» صندوق النقد الدولي من خلال صياغة خطة التعافي، لأنها لا تملك خياراً سوى جذب العطف الدولي عبر صندوق النقد الذي يعتبر بوابة العبور الى الاسواق المالية العالمية، مشيراً لـ«الجمهورية» الى انّ الدول تلجأ الى صندوق النقد الدولي بعد «خراب بصرة» اي بعد ان تصبح في حالة غير منتظمة وفي عجزٍ تام عن إتمام الاصلاحات المطلوبة لعودة انتظام الدولة.

ولفت حمود الى ان الاصلاحات المطلوبة مكلفة إن على الصعيد السياسي او المعيشي او الشعبوي، وليس صندوق النقد الدولي على خطأ في شروط الاصلاحات المطلوبة، «لأن الاصلاح ضروري بغضّ النظر عن حاجتنا للصندوق». ولكن الأزمة التي يمرّ بها لبنان تختلف عن كافة ازمات الدول التي تعامل معها صندوق النقد، لأن مشكلة صندوق النقد الدولي مع اي بلد ساعَده في العالم، كانت مرتبطة بالمالية العامة والدين العام والموازنة حيث يتدخل الصندوق مطالباً بتنفيذ الاصلاحات من اجل انتظام المالية العامة والدين العام وميزان المدفوعات.

وقال حمود انه يؤيد كافة الاصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي لتصحيح المالية العامة ووضع الدين العام على مسار مُستدام، «لكنني لا أتوافق مع خطة الحكومة فيما يتعلّق بودائع الناس والقطاع المصرفي. وهذا ما لم يختبره صندوق النقد الدولي في اي دولة في العالم تعاني من تدهور القطاع المصرفي وضياع المال العام بسبب تعامل المصارف مع البنك المركزي. هذه ظاهرة لم تحصل في اي دولة في العالم، «أزمة لبنان فريدة من نوعها».

ورأى انّ اسلوب تعاطي خطة التعافي بالموضوع النقدي المصرفي مع صندوق النقد دولي يشوبه شوائب كبيرة جدّاً.

أضاف: كيف يمكن لحكومة ان تقول انها غير معنيّة بكبار المودعين بل فقط بحماية صغار المودعين؟ أي قطاع مصرفي يمكن ان يقوم من دون كبار المودعين؟

وكيف ستُعاوِد جَذب الودائع إن لم تَحم كبار المودعين؟

وتابع: بكل وقاحة يقولون انّ مَن حوّلَ أمواله من الليرة الى الدولار بعد 17 تشرين غير مؤهّل eligible لحماية ودائعه. ألا يدرك هؤلاء انّ تلك الودائع كانت بالدولار أساساً وتم تحويلها الى الليرة بسبب الاغراءات والفوائد المرتفعة التي كانت تمنحها المصارف والبنك المركزي؟

وسأل: بأيّ حق تقوم خطة الحكومة بالتمييز بين المودعين؟ ماذا عمّن سحب امواله او سدّد من خلالها قروضاً مصرفية على سعر صرف الـ1500 ليرة، هل يجب ان يعيدها أم انه مُعفي؟

وفيما اعتبر حمود انّ خطة الحكومة ليست بالمستوى المطلوب، اشار الى انه يجب اعادة تكوين قطاع مصرفي سليم وليس اعادة هيكلة القطاع المصرفي، لأنه لا يمكن ان نتعاطى بالاطار المالي الاقتصادي والنقدي والمصرفي قبل ان نُعيد تكوين قطاع مصرفي حقيقي يشعر المودعين الحاليين بالطمأنينة حول إمكانية استرداد اموالهم ولو بعد فترة، «وهذا الامر لا يرتبط بضمانة ولا بِرَهن عقاري او صندوق سيادي لأنّ جميعها «كذبة».

وأوضح انّ الحلّ البديل هو تكوين مصارف سليمة good banks برساميل جديدة وفقاً للقوانين الجديدة والتشريعات الجديدة تستقطب شركاء اقليميين ودوليين.

«لا نستطيع التسليم بأنّ المصرف الذي لا يقوم بأعمال التسليف ولا يسدد للمودع امواله ولا يلتزم بالنسَب المالية والمعايير الدولية هو مصرف قابل للاستمرار محلياً ودولياً. ولكي يعود المصرف مصرفاً صحيحاً يجب ان يعتمد اصول العمل المصرفي من ربحية وسيولة ومَلاءة ورافعة وحوكمة. ولكي ندفع بالمصارف الى الالتزام الكلي بالمعايير من خلال السلطة الناظمة اي مصرف لبنان، يجب إزالة الاسباب الآتية من السلطة الناظمة ليعود البنك المركزي سلطة نقدية وسلطة ناظمة بيدٍ حرة مطلقة ويعود المصرف مسؤولاً وملتزماً بالمعايير الدولية من دون اعفاءات او مرونة».

اضاف: «لأجل ذلك، يكون الحل ان يقوم مصرف لبنان بتأسيس مصرف محلي ليس له رابط دولي يقوم بشراء ودائع الافراد والمؤسسات والشركات غير المالية من المصارف بالعملة الاجنبية مع سجل حركتها منذ 2019 باستثناء الودائع الجديدة، ويحرّر المصارف من الاعباء وخطر التعرض لحالات التوقّف عن الدفع. بالطبع هذا التحرر لا يعني عطاء مجانياً بل تدفع المصارف كلفته التصحيحية، ويُصار الى تغطية هذه الودائع المحولة من خلال تَملّك المصرف الجديد موجودات المصارف وفقاً للسلم التالي:

– ايداعات المصارف لدى المراسلين باستثناء صافي الودائع الجديدة.

– سندات اليوروبوند وفقاً للقيمة الدفترية.

– صافي الودائع لدى مصرف لبنان بالعملة الاجنبية على اساس القيمة الحالية بما فيها التوظيفات الالزامية.

– الاصول العقارية تحت المادة 153 و154 والعقارات بالتخصيص بالسعر العادل او الدفتري أيّهما اعلى.

– العجز يغطّى بقرض من المصرف الجديد.

– يبقي المصرف محفظة القروض بكافة العملات والودائع بالليرة ويكوّن مراكز خدمة لعمليات التصفية للمصرف الجديد.

– يلتزم المصرف ان يقوم خلال سنة بما يلي:

أ – تسديد العجز لصالح المصرف.

ب – ضخ رأسمال جديد بنسبة 10 % من الاصول على ان لا تقل عن 100 مليون دولار.

ج – الالتزام بنسبة ملاءة 18 %، نسبة سيولة 150 %، رافعة مالية 10 % وحَوكمة تفصل مجلس الادارة عن الادارة التنفيذية.

د – عدم السماح بتكوين مركز قطع مدين او تجاوز المركز الدائن الموقوف بتاريخ التحويل.

ه – كل من يتخلّف تُشطب رخصته ويُصار الى تصفيته قضائيا وفقا للقانون 2 / 67 او ذاتياً من خلال تملّك البنك الجديد للموجودات وابقاء اعضاء مجلس الادارة مسؤولين عن العجز.

و – يحافظ مصرف لبنان على الاحتياطي الأجنبي ومخزون الذهب لغاية سداد الودائع ويمكن استعمال العقارات العائدة له لتخفيض حساب البنك الجديد في دفاتره.

سقف الـ100 ألف دولار في خطر

مع قدوم الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي إلى بيروت، تكون المؤسسة المالية الدولية قد أصبحت على تماسٍ دائمٍ مع الوضع اللبناني. فهل يعني ذلك انّ التفاهمات بين السلطات اللبنانية والصندوق أصبحت ميسّرة أكثر؟

يراقب صندوق النقد عن كثب ما يجري في لبنان، خصوصاً بعد عقد الاتفاق الاولي معه، والموافقة على خطة التعافي التي قدّمتها الحكومة. ومنذ ذلك الحين، يتابع القيّمون على الملف اللبناني في الصندوق الوضع بقلق، خصوصاً ما يتعلق منه بنقطتين:

 

اولاً- مسار الإصلاحات الموعودة، والتي التزمت الحكومة تنفيذها كشرط الزامي للوصول الى اتفاقية برنامج تمويل مع الصندوق.

 

ثانياً- السياسة النقدية وقرارات الدعم التي تؤدّي الى استنزاف المزيد من الاموال التي لا تزال متوفرة في مصرف لبنان.

 

وكان الانطباع السائد في الصندوق، انّ سياسة دعم الليرة جزئياً، والتي تلتهم الاحتياطي المتبقي من العملات، قد تتوقف بعد الانتخابات، او تتراجع وتيرتها، في موازاة تسريع الإجراءات المطلوبة لإنجاز اتفاق التمويل مع الصندوق. لكن المفاجأة جاءت عكسية، إذ عمد مصرف لبنان إلى ضخ المزيد من الدولارات في السوق للجم تراجع الليرة، في ظلّ ارتفاع منسوب النقمة الشعبية وغليان الشارع.

 

وهناك تساؤلات في شأن الأسباب التي دفعت الليرة الى التراجع بسرعة عقب الانتخابات النيابية، ولماذا لم يؤثر الإنفاق الانتخابي السخي في دعم الليرة، طالما انّ الجميع يتفق على انّ هناك مئات ملايين الدولارات أُنفقت في خلال شهرين؟

 

الجواب ينقسم الى ثلاث نقاط:

اولاً- ما دُفع في موسم الانتخابات ساهم في لجم تراجع الليرة، على عكس ما يعتقد البعض، ولولا هذه الاموال الإضافية التي رُميت في السوق، لما تمكّن مصرف لبنان في تلك الفترة من خفض حجم تدخّله في سوق الصرف، وخفّض بالتالي حجم خسائره اليومية لدعم الليرة.

 

ثانياً- استفاد المضاربون الكبار الذين يمتلكون قدرات نقدية بالليرة من الظرف المؤاتي لشراء الدولارات وتكديسها، او تهريبها الى الخارج.

 

ثالثاً- في غياب دور المصارف، لم يدخل سوى قسم من هذه الاموال الانتخابية الى الدورة الاقتصادية، في حين ذهب القسم الآخر الى الادخار في المنازل، بما لم يؤثّر في شيء على وضعية سوق الصرف.

 

بعد الانتخابات، ومع انتهاء مفعول الاموال الانتخابية، عادت الليرة الى مسيرة الهبوط السريع، والتي تعكس في الواقع حقيقة السوق، وحقيقة سعر الليرة في ظلّ الوضع القائم. ومن جديد تدخّل مصرف لبنان، زاد حجم خسائره وأوقف استمرار انهيار العملة الوطنية.

 

هذا الواقع شكّل صدمة في صندوق النقد، حيث يعرف المسؤولون فيه، انّ كل دولار يخرج من المركزي قبل البدء في تنفيذ خطة التعافي، يؤثّر سلباً على إمكانية نجاح الخطة المُتفق عليها مع الحكومة. والمشكلة هنا، انّ المسؤولين في الصندوق يدركون انّه يصعب النزول أكثر في مستوى إعادة الودائع الى أصحابها. إذ ما قرّرته السلطات اللبنانية يمثل سابقة لم تشهدها دول أخرى. فهناك دول قرّرت إنقاذ مصارفها واقترضت من صندوق النقد لتحقيق ذلك، مثل ايرلندا، وهناك دول لم تبادر الى إنقاذ مصارفها، لكنها التزمت إنقاذ ودائع ابنائها دون سواهم، مثل ايسلندا. لكن لا توجد دولة سطت على أموال ابنائها، وقرّرت ان تشطب ما أخذته وتحمّله لمصارفها ولمواطنيها. وبالتالي، يدرك صندوق النقد، انّ أي تحديث للخطة بهدف إجراء خفض إضافي في دفع اموال المودعين، لن يكون متاحاً. وقد بدأت الاسئلة ترتسم على طاولة الصندوق: هل انّ الخطة المتفق عليها لا تزال قابلة للتنفيذ رغم انّ الاموال التي تمّ احتسابها يوم أُقرّت الخطة تراجعت كميتها بحوالى الملياري دولار؟ وكيف سيتمّ تعويض هذا النقص الإضافي؟ وماذا سيكون الوضع إذا استمر النزف طوال العام 2022، بما قد يستنزف أكثر من ملياري دولار اضافيتين. هل يمكن بعدها الإبقاء على الخطة كما هي؟

 

يسعى صندوق النقد إلى الاقتراب أكثر من الأزمة اللبنانية من خلال إرسال مندوب دائم مقيم في بيروت. لكن الوضعية الجديدة لن تغيّر الكثير، وهذا الأمر اثبتته التجارب السابقة، إذ لم يساهم وجود مسؤول مقيم للبنك الدولي في بيروت في تغيير اسلوب التعاطي المزري مع الأزمات. ولطالما شكا مندوبو البنك الدولي من طريقة تعاطي المسؤولين اللبنانيين مع الملفات التي كانت تُطرح امامهم. ولا بدّ من التذكير مجدداً، ولو من باب التكرار المُمل، بما كان يقوله المسؤول السابق للبنك الدولي في بيروت فريد بلحاج، والذي كان يروي انّه كلما عرض لمشكلة أمام المسؤولين اللبنانيين وحذّرهم من نتائجها، كان جواب المسؤولين متشابهاً: نحن في لبنان حالة خاصة لا تنطبق علينا المفاهيم التي تُطبّق في دول أخرى… وكان بلحاج يقول انّ بعض المسؤولين يعتقد انّ لبنان خارج جاذبية الارض، وهنا جوهر كل الأزمات.

 

أنطوان فرح

 

مصير المودعين في يد رَجُلٍ يقول «لا»

عندما قرّر المودعون، التحرّك للاعتراض على الجزئية المتعلقة بتوزيع الخسائر ضمن خطة التعافي، لم تكن المفاجأة التي تنتظرهم تتعلّق بصعوبة تغيير حرف مما كُتب فحسب، بل الأهم أنّهم اكتشفوا جميعاً، أنّ ما كُتب، كتبه رجل واحد أوحد، والباقون بصموا عليه. وهذا الرجل يقول «لا».

تواجه الخطة الاقتصادية التي وافق عليها مبدئياً صندوق النقد الدولي معارضة مُبرّرة من قِبل غالبية الأطراف، بعدما تبيّن انّ طريقة توزيع الخسائر ستؤدّي عملياً الى ثلاثة أمور:

 

اولاً- هدر حقوق كل المودعين عن المبالغ التي تفوق قيمتها الـ100 الف دولار.

 

ثانياً- إفلاس القطاع المصرفي من خلال شطب رؤوس الاموال بالكامل، ومن ثم شطب ودائع القيّمين على القطاع.

 

ثالثاً- الإبقاء على إدارة الدولة كما هي، والامتناع عن إشراك القطاع الخاص في مهمة الإنقاذ، بما يحرم البلد فرصة حقيقية للخروج من النفق.

 

هذه النتائج المباشرة، حاولت جهات عدة، جمعت المودعين والمصارف والهيئات الاقتصادية في خندق واحد، تغييرها، من خلال التحرّك في اتجاه الحكومة المسؤولة مبدئياً عن خطة الإنقاذ. كذلك حاول البعض التحرّك في اتجاه صندوق النقد للغاية نفسها.

 

ما كان مُذهلاً في هذا الموضوع، انّ كل الدروب التي سلكها المعترضون الساعون الى تعديلات في الخطة، والتي ترتكز على مبدأ إشراك الدولة في تحمّل المسؤولية، أودت بهم إلى عنوان واحد: مكتب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي. حتى وزير المال، وهو عضو في اللجنة التي كلّفتها الحكومة وضع خطة التعافي والاتفاق في شأنها مع صندوق النقد، نفض يديه من الخطة، وقال لمن راجعه انّ الأب الروحي والفعلي للخطة هو سعادة الشامي، وعليهم إقناع هذا الرجل بأي تغيير يعتبرون انّه يساعد في التعافي بطريقة أفضل.

 

ومن خلال جمع المعلومات من مصادر عدة، تواصل أصحابها مع أعضاء في الحكومة، كان الجواب هو نفسه: الشامي هو من وضع الخطة، وهو من يرفض إدخال أي تعديل عليها. أكثر من ذلك، رئيس الحكومة نفسه نجيب ميقاتي بدا مستسلماً للأمر الواقع، وبدا وكأنّه لا يعرف بدقّة أبعاد الخطة، ونصح مراجعيه بالاتصال بالشامي.

 

قبل التطرّق الى مضمون الخطة، والى الجزئية التي يطالب المودعون والمصارف والهيئات الاقتصادية بتعديلها، لتكون ملائمة أكثر لمستقبل الاقتصاد في البلد، لا بدّ من القول انّ من غير الطبيعي، ومن غير الصحي أو المنطقي، أن يكون رجل واحد قرّر مصير الناس، من دون أن يملك أي طرف حق المطالبة بالتعديل والتصحيح. وهذا الأمر إن دلّ على شيء انما يدلّ إلى حجم الاهمال وقلة المعرفة واستسهال القرارات المصيرية، لدى السلطة التنفيذية بشكل عام. وهذا الوضع الاستهتاري المفرط، يفسّر ربما لماذا وصل لبنان إلى هذه الكارثة، من دون أن يتنبّه من يدير السلطة إلى الأمر.

 

انّ فكرة إنشاء صندوق سيادي يدير أملاكاً ومؤسسات عامة، لا يخدم تطلعات اللبنانيين في إعادة اموال المودعين فحسب، بل الأهم انّ إنشاء هذا الصندوق ضرورة وطنية تخدم مصالح كل اللبنانيين دون استثناء، ومن ضمنهم طبعاً غير المودعين، والذين لا علاقة لهم بموضوع إعادة الودائع بشكل مباشر. انّها مصلحة اقتصادية عامة يؤمّنها إدخال القطاع الخاص الى إدارة الملك العام. ونحن هنا لا نخترع البارود إذا فعلنا ذلك، لأنّ كل اقتصاديات الدول الحرة المزدهرة تستند إلى هذا المبدأ. الولايات المتحدة بعظمتها وثرواتها وقدراتها يديرها القطاع الخاص من الألف الى الياء، ودور السلطة فيها تنظيمي فقط.

 

انّها فرصة نادرة لكي نرفع الظلم عن البلد، من خلال رفع وصاية السلطة عن إدارة الاصول العامة، وإشراك القطاع الخاص الحيوي في المهمة، مع دور رقابي دقيق للدولة، بالتعاون مع مؤسسات دولية متخصّصة تضمن ان تتحول هذه الاصول من «مادة» شبه خاسرة أو مهملة، إلى مصدر انتاج للمال وللثروات يستفيد منها كل المواطنين. كما انّ هذه الاصول التي يقول البعض، سواء عن قصد وسوء نية، أو عن جهل وقلة معرفة، انّه لا يمكن التفريط بها لإعادة حقوق المودعين، سوف تتضاعف قيمتها مرات عدة، في سنوات قليلة، وسيدرك الناس الفرق بين ما عانوه طوال عقود من الإدارة الفاشلة، والتي ستستمر حتماً في فشلها، وبين ادارة ناجحة تجيد تكبير حجم الوزنات ومضاعفتها في فترة زمنية قصيرة. والحقيقة، وبصرف النظر عن ملف الحفاظ على حقوق المودعين، الصندوق السيادي ضرورة وطنية لا بدّ منها إذا كنا نريد الإنقاذ فعلاً. لكن المشكلة، انّ الجميع قد يقتنعون، المودع منهم وغير المودع، بفكرة الصندوق السيادي، لكن من يستطيع إقناع سعادة الشامي بالتعديل المطلوب؟

انطوان فرح

نظام ربط سعر صرف الليرة سقط… الدولرة لا تنتظر قراراً!

بعدد ثلاث سنوات من تفادي الاعتراف بسقوط نظام ربط سعر صرف الليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي المعتمد منذ العام 1997 في لبنان، لم يعد السوق يتحمّل المماطلة ولا حتى ينتظر من السلطات الرسمية اتخاذ القرار باعتماد نظام سعر صرف جديد… العملة «المطمئنة» تحلّ تلقائياً بدل العملة «المقلقة».. الدولرة لم تعد تنتظر قراراً.. هكذا بدأت في الثمانينات جزئياً وهكذا تطوّرت لتصبح شاملة اليوم.. هل الدولرة بديل جذري بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف الذي لا أحد يبادر إلى استبداله؟ هل سقوط الثقة وصعوبة استردادها يجعلان من الدولرة مخرجاً يفرضه القطاع الخاص لتتقبّله السلطات الرسمية أمراً واقعاً؟ الإجابة عن هذه الإشكالية تتطلّب تفنيد مختلف نماذج أنظمة سعر الصرف، تبيان تطوّر اعتمادها في لبنان على ضوء التحدّيات التي واجهتها السياسة النقدية، فضلاً عن استنتاج النظام الأمثل والأقرب الى الواقع والقابل للفرض من السوق، في غياب القرارات الرسمية..

 

بفعل الأمر الواقع انطلق مسار الدولرة خياراً حرّاً للقطاع الخاص منذ الأزمة النقدية التي شهدها لبنان في الثمانينات، وأيضاً في غياب أي قرار رسمي معلن.. الحافز الأساسي كان السعي للحفاظ على القدرة الشرائية للجميع بفعل تقلّبات غير منضبطة للأسعار وسعر الصرف بلا ضوابط. ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة، بعد تثبيت سعر الصرف بحدود 1507.5 طوال 22 عاماً، إلّا أنّ الدولرة الجزئية غير الرسمية بقيت مرتفعة في حدود 70%، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ازدادت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم، بعد أن خرج ربط سعر الصرف عن السيطرة. فما هي العلاقة بين الدولرة وخيار نظام سعر الصرف؟

 

في الواقع، قبل الحرب وفي ظلّ إقتصاد قوي وانتاجية مرتفعة وتوازن في موازنة الدولة وفوائض في ميزان المدفوعات وكهرباء مؤمّنة 24 /24 مع فائض يتمّ بيعه الى سوريا، كان لبنان قادراً على اعتماد سعر صرف حرّ وتأمين استقرار سعر صرف لا يفوق الـ3 ليرات لبنانية لكل دولار أميركي بفعل العرض والطلب بين الليرة والدولار، من دون الاضطرار الى أي تدخّل لمصرف لبنان المركزي..

 

أما خلال سنوات الحرب وتضرّر الاقتصاد بكل مؤسساته وقطاعاته وفوضى المالية العامة وبدء لجوء المصرف المركزي، إن لطباعة مزيد من النقد (والتسبب بالتضخّم ثم التضخّم المفرط الذي بلغ ذروته عام 1987) ثم الاستدانة عبر سندات خزينة بدأت بالليرة ثم تزايدت بالدولار، خصوصاً في التسعينات، تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية إزاء الدولار ليقترب من 3 آلاف ليرة لبنانية عام 1992، وتزايدت الدولرة عفوياً وجزئياً بنحو غير رسمي كخيار للقطاع الخاص، من دون اعتراض السلطات الرسمية.

 

ومن المعلوم أنّ خصوصية الأزمة الحالية تختلف عن تلك التي شهدها لبنان في الثمانينات والتسعينات، والتي دفعت حينها العملاء الاقتصاديين نحو خيار الدولرة الجزئية وغير الرسمية، للمحافظة على القيمة الشرائية لمدخراتهم، في غياب الثقة بقدرة الليرة اللبنانية على المحافظة على وظائفها الأساسية، من وحدة الحساب والوسيط التجاري والاحتفاظ بالقيمة الشرائية للمدخرات…

 

ومع وصول الرئيس رفيق الحريري الى السلطة التنفيذية وإعادة ضبط المالية العامة وتسمية الحاكم الحالي لمصرف لبنان رياض سلامة وبدء تطبيق سياسة نقدية متشدّدة، كان اللجوء الى نظام الربط المتحرّك ضمن هوامش لسعر الصرف بين عامي 1992 و 1997، بغية خفض سعر الصرف تدريجياً الى المستوى الذي تمّ اختياره لاعتماد نظام الربط المتشّدد لليرة بالدولار الأميركي على أساس هامش 1502-1514 مع سعر متوسّط 1507.5 والاتكال على تدخّل المصرف المركزي في سوق القطاع للدفاع عنه، من خلال ضخ أو امتصاص الليرة تجاه الدولار باستخدام إحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية… مما كان يتطلّب زيادة مستمرة في احتياطي المصرف المركزي بالعملات الأجنبية مما يحتاج استمرار تحقيق فوائض في ميزان المدفوعات…

 

وبقي الخيار ضمنياً بالسماح للقطاع الخاص اللبناني باعتماد الدولرة الجزئية وغير الرسمية، ولم «تضفِ» السلطات النقدية الطابع الرسمي على استخدام الدولار، كعملة وطنية لدفع الضرائب والرسوم وتنظيم إجراءات الإدارة العامة، إلّا أنّ مصرف لبنان أنشأ غرفة مقاصّة للشيكات بالدولار وملأها ماكينات الصرف الآلي (ATM) عن طريق العملتين: الليرة اللبنانية والدولار الأميركي.

 

ولكن منذ عام 1993 بدأت تتنامى الفجوة المتزايدة بين الودائع بالعملات الأجنبية والموجودات الخارجية للنظام المصرفي بالعملات الأجنبية، إلّا أنّ اشتداد عمقها برز مع بدء تسجيل عجوزات متراكمة في ميزان المدفوعات منذ عام 2011، حيث بدأت تتراجع الموجودات بالعملات الأجنبية، فيما استمرت دولرة الودائع في التزايد، ولم تشفع فيها سياسة تثبيت سعر الصرف منذ العام 1997 التي كان يفترض أن تطمئن الناس الى استقرار سعر العملة الوطنية،.. لا بل ترافق معدل دولرة الودائع المرتفع مع ارتفاع دولرة التسليفات المصرفية، وأكثر من ذلك دولرة جزء كبير من الدين العام (اليوروبوند) وتزايد إصدار شهادات إيداع بالعملات الأجنبية من المصرف المركزي والمشاركة في «الهندسات المالية» عامين، لاجتذاب الدولار وتحقيق فوائض في ميزان المدفوعات كوسيلة لشراء الوقت «اصطناعياً» على أمل تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية جذرية، ما يجعل «الخروج من الدولرة» وفرض تحويل كل هذه العقود الى الليرة اللبنانية مسألة جداً معقّدة…

 

اليوم وبعد مرور نحو 3 سنوات على سقوط نظام ربط سعر الصرف، ثمة من يتساءل، لماذا لا نعاود تعويم الليرة اللبنانية واعتماد نظام سعر الصرف العائم الحرّ وترك العرض والطلب في السوق الحرّ يحدّد سعر الصرف الفعلي كما كانت الحال قبل الحرب وخلالها؟ الجواب ببساطة، أنّ تحرير سعر الصرف لا يتلاءم مع الدولرة المرتفعة كما هي الحال في لبنان، فمن جهة لا أحد يطلب الليرة في السوق بل الجميع يطلب فقط الدولار ويحتسب قيمة السلع والخدمات وكل المعاملات وفق الدولار حتى لو تمّ الدفع بالليرة وفق سعر السوق، وبالتالي لا طلب على الليرة يحدّ من سقف تدهورها.. ومن جهة أخرى قوى التسعير والمضاربة في الأسواق لم تعد تسمح بتحمّل تقلّبات كلفة السلع والخدمات وتغيّر موازنات المؤسسات بين ساعة وساعة…

 

من هنا، سقوط الربط المرن لسعر الصرف لا يمكن ان تتمّ معالجته بتحرير سعر الصرف في ظلّ التعامل بعملتين وطغيان العملة الأجنبية على المحلية.. مما يجعل الخيار المتبقي هو نظام الربط الصارم الذي يتراوح بين ما يُعرف بـ«مجلس النقد» Currency board الذي لم يتمّ اقراره حتى الآن، ونظام الدولرة الشاملة Full Dollarization التي لا تحتاج الى قرار بل بدأت تفرض نفسها تباعاً في القطاعات لحماية نفسها من تقلّبات القدرة الشرائية وحسن احتساب الموازنات واستقرار التسعير والتقييم…حتى لو انتشرت الدولرة الشاملة بنحو غير رسمي معلن، فالأمر الواقع يحضّر لاتخاذها تدريجياً طابعاً رسمياً أو أقلّه عدم رفض رسمي، كونها الطريق الوحيد لاستمرارية الدورة الاقتصادية…

 

يبقى أنّ الشرط الأساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياطاً بالعملات الأجنبية الدولية (بالدولار الأميركي) يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بنحو أساسي «القاعدة النقدية» (monetary base) (الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي) سعر الصرف الفعلي في السوق.

 

ممّا يعني أولاً، اعتماد سعر صرف تتمّ على أساسه عملية التحويل. وثانياً التأكّد من توافر الاحتياطي المطلوب لاستبدال القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية أو امكانية استدانته، وإلّا ترك العملة الوطنية تنخفض، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوافر لديه من عملات أجنبية. وثالثاً تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي إلى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد في لحظة التحوّل الى الدولرة الشاملة… هذا طبعاً لا يتطلّب كمية دولارات ورقية كبيرة، لا بل أنّ التعامل المباشر بالدولار للدفع وإتمام المعاملات يسهّل التداول به ويسمح بتسريع حركة انتقاله بين العملاء الاقتصاديين، فيزيد من مفعول الكمية المتوافرة في إتمام أكبر مقدار من المعاملات بدل أن يبقى الدولار محتكراً بين أيدي عدد قليل من الناس وأيدي الصرافين..

 

طبعاً من الصعب تقبّل استبدال شبه شامل للعملة الوطنية بالدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية، نظراً لرمزية الليرة اللبنانية والسيادة النقدية…الدولرة لم تكن يوماً لا أمنية ولا خياراً سهلاً لأي بلد، إلّا أنّها تصبح واقع البلدان التي يتمّ فيها افتقاد الثقة كلياً بالعملة الوطنية وخيارات السياسات الاقتصادية..

 

في لبنان، وبعد 3 سنوات على سقوط ربط سعر الليرة، لم يتمّ اتخاذ أي قرار رسمي في شأن نظام سعر الصرف، فجاءت النتيجة بالدولرة الشاملة التدريجية من دون إعلان القرار…

 

 

 

د. سهام رزق الله
أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

أين اختفت الدولارات؟ ومَن «التهمها» بسرعة؟

الاجراء الاستثنائي الذي اتخذه مصرف لبنان في الايام القليلة الماضية لجهة ضَخ الدولارات في السوق بلا سقف، لتلبية الطلب على العملة الخضراء بهدف خفض سعر الصرف، لا يزال يتفاعل بسبب التساؤلات التي يثيرها.

كثيرة هي الاسئلة التي يثيرها قرار ضخ الدولارات من الاحتياطي المتبقي، ومن أهمها، التالي:

أولا – حجم التداول عبر منصة صيرفة ارتفع بنسبة كبيرة عما كان عليه قبل القرار، بحيث انه تم تداول حوالى نصف مليار دولار في غضون اربعة ايام. مما دفع البعض الى التساؤل عن كمية الاموال المتبقية من الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان.

ثانيا – ليس معروفاً بعد الى متى سيستمر تنفيذ هذا القرار، ومتى قد يبدأ المركزي الهبوط التدريجي، ام أنه قد يضطر الى وقف التنفيذ كلياً، وبشكل مفاجئ.

ثالثا – من اتخذ قرار الضَخ شبه المفتوح للدولارات في السوق.

رابعا – بالاضافة الى المواطن العادي الذي استفاد جزئيا من القرار، من هم المحظوظون ومن هي الجهات التي تستفيد من هذا الوضع لتحقيق ارباح خيالية وغير شريفة على حساب مستقبل البلد؟

من أجل تسليط الضوء على النقاط الآنفة الذكر، لا بد من توضيح مسألة مهمة تتعلق بحجم التداول. اذ يعتبر البعض انّ المبالغ التي تعلن عنها صيرفة يمكن اعتمادها لتقدير حجم المبالغ التي ضَخّها المركزي. لكن الواقع انّ مصرف لبنان يعمد الى اعادة شراء قسم من الدولارات من السوق. وبالتالي، فإنّ المركزي لم يخسر من احتياطه نصف مليار دولار في ٤ أيام لكنه خسر حتماً مبالغ محترمة على اساس انه اشترى الدولار في هذه الفترة على سعر وسطي بلغ ٣٢ الف ليرة، وباعَه على سعر ٢٤ الف ليرة.

النقطة الثانية المتعلقة بالفترة التي سيستمر خلالها ضخ الدولار خلالها غامضة، وقد تكون مرتبطة بحسابات سياسية وشخصية. وحتى الآن، ليس واضحاً بعد من يتخذ قرار ضخ الدولارات. هل هو حاكم المركزي منفرداً، ام انه يلبّي رغبة سياسية من طرف يَمون عليه؟ وهناك شبهة دائمة في التوقيت.

لكن النقطة الأخطر تتعلق بالمستفيدين من هذا الوضع الشاذ. وعندما يتحدث صندوق النقد الدولي عن نمو الفساد بسبب تعدّد اسعار الصرف، إنما يكون المقصود بشكل خاص المضاربين الذين يجنون ثروات من اموال المودعين، ويحرمون اصحاب الحقوق الأمل في استرداد حقوقهم المالية. وهناك من يسأل في صندوق النقد، عن آليات المراقبة المعتمدة لضبط حركة بيع الدولارات وشرائها. بمعنى آخر، من يضمن انّ المضاربين الكبار لا يبيعون الدولار في السوق السوداء على سعر مرتفع ومن ثم يعيدون شراءه عبر صيرفة. وقد يكررون العملية مرات عدة، ويجنون ثروات غير شرعية؟

وللعلم، إنّ قضية المضاربة بالكاش صارت رائجة عند الكثير من التجار الكبار، لا سيما المستوردين منهم. هؤلاء استساغوا تجارة العملة النقدية سواء بالليرة او بالدولار. واللافت انّ بعضهم يبيع الكاش الى مصارف ينقصها النقدي. ويبدو ان هذه التجارة تعود بأرباح على هؤلاء تفوق نسبة أرباحهم في مشاريعهم التجارية.

وفي عودة الى مسألة إفساح المجال امام المضاربة بالدولار من خلال الفارق بين سعرَي السوق السوداء وصيرفة، فإنّ السؤال الأهم هو: ما دام مصرف لبنان قرر ضَخ الدولارات في السوق لوقف تدهور الليرة، لماذا لم يضخ كميات كافية لخفض الدولار في السوق السوداء الى مستوى سعر منصة صيرفة؟ فبهذه الطريقة فقط يمكن إغلاق الطريق على المضاربين. الا اذا كان الامر مقصودًا، وهنا تكون المسألة أشد خطورة من تهمة تبديد ما تبقّى من احتياطي وطني، الى تهمة «سرقة» هذا الاحتياطي من خلال تقديمه على طبق من فضة الى المضاربين.

أنطوان فرح

هذه هي الخيارات النقدية الممكنة للبنان: أيّها يعتمد المصرف المركزي؟

من المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخّم الثمانينيات أرخت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينيات، إذ تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم، الذي أسهم هو نفسه في حدوثه بشكل أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على جميع المستويات…هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة الجزئية غير الرسمية التي اختارها اللبنانيون، حفاظاً على قدرتهم الشرائية على سلوك السلطات النقدية والمالية والسياسية، بحثًا عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينيات، بعد انتهاء الحرب ميدانيًا..أما وقد سقط ستاتيكو «الدولرة الجزئية مع ربط سعر صرف الليرة بالدولار»، وفقدت السيطرة على السوق لصالح «مهنة جديدة» قائمة على المضاربات على العملة الوطنية بدلاً من التمسّك بها كرمز السيادة الاقتصادية، أي خيارات نقدية ممكنة اليوم للبنان؟ كيف نقارن بين السياسة التقليدية للمصرف المركزي والانتقال الى مجلس نقد، أو الذهاب للدولرة الشاملة؟ ما هي ميزات كل منها ليفضّلها المصرف المركزي؟

تُجمع كل الأدبيات الاقتصادية والتجارب الدولية على استحالة اعتماد نظام سعر صرف حرّ عائم، في ظلّ دولرة مرتفعة، في بلدان تعتمد أيضاً بشكل كبير على الاستيراد، وأيضاً الاستدانة بالدولار الأميركي، وإلّا تكون النتيجة زيادة تعميق الأزمة، كما حصل في دول عديدة حاولت المضي بهذا الاتجاه..

من هنا، الأزمة الحالية ليست نتيجة اعتماد سياسة ربط سعر الصرف، إذ كان أكثر الخيارات فعالية في ظلّ اقتصاد مدولر بحدود 80٪، إنما الأزمة بالتشدّد بهامش 1501-1514 وسعر متوسّطي 1507.5، بغض النظر عن وضع «ميزان المدفوعات» والاحتياطي بالعملات الأجنبية. من هنا، بقي الوضع متماسكاً طالما كان لبنان يسجّل فوائض في ميزان المدفوعات حتى عام 2011، حيث بدأت سلسلة عجوزات بشكل متراكم (ما عدا السنوات 2016-2017 بفضل «الهندسات المالية»).

أما أبرز المقترحات التي كانت تطُرح للبنان، فكانت إما اعتماد ربط الليرة بسلّة من العملات لأبرز الشركاء التجاريين للبنان (أكثر البلدان التي تربطنا بها التجارة الخارجية)، وفق ثقل يوازي النسبة المئوية للعلاقات التجارية مع كل منهم (مثلاً 40٪ تجاه اليورو، إذا كانت نسبة التبادل التجاري مع أوروبا توازي 40% من مجموع تجارتنا الخارجية)، وإما كان اقتراح الارتكاز على التوسّع التدريجي لهامش سعر الصرف، وفق نهج ويليامسون Williamson (2000) للاقتصادات النامية، مقارنة بالحالة في لبنان، ما يسمح بالانتقال التدريجي من نظام التثبيت الجامد لسعر الصرف إلى نظام أكثر مرونة، يسمح بتحديد أولويات هدف التضخم، وفق تحليلات غولدشتاي Goldstein (2002). وفي الوقت نفسه، تعلّق هذه الدروس أهمية كبيرة على تنفيذ الإصلاحات المالية الموصى بها، للحدّ من وزن الدين العام، الذي يتحمّله البنك المركزي والمصارف التجارية، أي الجهاز المصرفي ككل، وبالتالي تجنّب التوقعات التضخمية المرتبطة بتوقعات تسييل الدين العام.

أما اليوم، بعد سقوط تثبيت سعر الصرف على أساس ربط الليرة بالدولار في ظلّ معادلة الدولرة الجزئية غير الرسمية، يبرز إقتراح إنشاء «مجلس النقد» Currency Board/Caisse d’Emission تنصّ هذه القاعدة على أنّ القاعدة النقدية – المكوّنة من الودائع التي تحتفظ بها البنوك والأوراق النقدية الصادرة عن مجلس العملة – يجب تغطيتها بالكامل وهامشياً بالعملة الاحتياطية. تؤسس قاعدة الاحتياطيات 100% هذه عدم مرونة فعليًا للعملة الأساسية، ومن المفترض أن تثبت صدقية السلطات النقدية بشكل دائم وعدم قابلية سعر الصرف للنقض. على مستوى الأدوات، فإنّ مجلس النقد يضمن أنّ مجلس العملة وحده يضمن قابلية التحويل على قدم المساواة (على سبيل المثال، بمعدل واحد إلى واحد) لإصداراته بالعملة الاحتياطية، وبالتالي يشكّل احتياطيًا واحدًا.

عملياً، يغطي مجلس النقد طباعة الليرة اللبنانية بنسبة 100٪ بالموجودات الخارجية (احتياطي بالعملات الاجنبية واحتياطي الذهب)، فيعيد الثقة المفقودة بالليرة، لأنّه يضمن القدرة على تحويلها من دون قيود، ما يجذب المستثمرين الأجانب ويزيد من إيرادات الدولة. والأهم في هذا الخيار، هو أنّه يقيّد المصرف المركزي، فيمنعه تحديداً من طباعة العملة الوطنية بشكل استنسابي من تمويل الحكومة Discretionnaire، ما من شأنه أن يرغم الدولة على القيام بالإصلاحات المالية، نظراً لتوقف إمكانية تحميل السياسة النقدية تبعات عجزها المالي وتحميل النظام المصرفي مدّها بالسيولة، إن بالتسليفات المباشرة أو عبر شراء سندات خزينتها بشكل متواصل دون ضوابط، كما حصل.

فعلياً، ووفق الأرقام المعلنة، يملك مصرف لبنان احتياطياً ضئيلاً من العملات الأجنبية (لم يعد يتخطّى 11.5 مليار دولار أميركي)، ولكنه يملك أيضاً احتياطياً من الذهب يفوق 24 تريليون ليرة. وقد شبّه الخبير الاقتصادي الدولي في أزمات العملات «ستيف هانك»، وضع البلاد الحالي بأزمة بلغاريا في أوائل التسعينيات، التي تخلّفت عن سداد ديونها مرات عدة بين 1991 و1997، فيما تخطّت نسبة التضخّم السنوي في بلغاريا 1230٪ ، وبلغ عجز الموازنة العامة 14.2٪. وبعد إقرار مجلس النقد، إنخفض التضخم إلى 1.6٪ ومعدلات الفائدة إلى 2.43٪، وتحول عجز الموازنة إلى فائض، وارتفع احتياط العملات الأجنبية من 864 مليون دولار إلى 3.1 مليارات دولار، داعياً الى إنشاء مجلس نقد Currency Board في لبنان، دون أن يلقى تجاوباً من السلطات المعنية.

في الواقع، من المقبول عمومًا، أنّ اختيار الثبات غير القابل للإلغاء لسعر الصرف يجب أن يأخذ في الاعتبار هيكل الاقتصاد الكلي، ويكون أكثر ملاءمة للاقتصادات الصغيرة المتكاملة تجاريًا وماليًا. كما ثمة تساؤلات تتعلّق بشكل أساسي بمسألة الإقراض كملاذ أخير Preteur en dernier ressort في هذا النوع من النظام النقدي. ومجلس النقد يمثل إشكالية في هذا الصدد، لأنّ من شأنه أن يحرم النظام المصرفي من قرض الملاذ الأخير للمصارف التجارية عند حاجاتها التمويلية. ويعتقد المدافعون عن مجلس النقد، أنّه إذا كان مجلس العملة يحتفظ باحتياطيات «فائضة»، فيمكنه في النهاية حشدها للتدخّل لدى المصارف. ومع ذلك، وكما رأينا في المقدمة، فإنّ مثل هذا الإجراء لا يتوافق مع قرض الملاذ الأخير ؛ إنّه يتوافق مع تحويل الاحتياطيات، والذي يظلّ مشروطًا للغاية وينطوي على عدم مرونة العملة الأساسية.

كما يعتقد المدافعون عن مجلس النقد، أنّ أي انحراف عن التشدّد النقدي من شأنه أن يقلّل من صدقية مجلس العملة، وبالتالي يعرّض لمخاطر العملة. نظرًا لإشكالية السيولة «غير المرغوب فيها» من قِبل مجلس النقد. فقد دعا بعض الاقتصاديين إلى التحوّل إلى الدولرة الرسمية للحدّ من ضخ المزيد من العملة الوطنية وضمان التشدّد في ضبط السيولة المتداولة.

إلّا أنّ افتقاد الثقة كلياً بعد عامين ونصف على انفجار الأزمة، بغياب أي طرح منذ إعلان لبنان «التوقّف عن سداد ديونه»، تعايش معظم الناس مع الواقع، والبحث عن حلول فردياً، لتأمين مصادر عائلية بالدولار من قِبل شريحة متنامية من العائلات، لا بل نجاح تعاميم المصرف المركزي باستقطاب موظفي القطاع العام لأخذ رواتبهم بالدولار على سعر المنصّة وتفضيلهم الحصول عليها بالدولار أياً كان المبلغ بدلاً من الليرة، وكذلك إقبال الناس حاملي الليرة على شراء الدولار عبر منصة «صيرفة» ضمن الشروط والمطالبة بتوسيعها للعموم، بل غياب الطلب على الليرة ومطالبة الجميع بالدولار، ليس فقط لشراء بضائع مستوردة إنما أيضاً لـ»تسعير» العمال المياومين في كل المهن الحرة (عمال البناء، الزراعة…) أجرهم وفق الدولار أو سعره في السوق السوداء.. هذه العوامل تدلّ إلى رغبة الجميع بـ»الدولرة الشاملة» حفاظاً على قدرتهم الشرائية..

الدولرة الرسمية الشاملة هي نظام يتمّ فيه دمج الأموال التي يصدرها بنك مركزي خارجي مع دمج النقود يدويًا. تؤدي هذه الخاصية إلى عدم مرونة عرض النقود اليدوية، بمعنى أنّه عندما يزداد الطلب على النقود اليدوية وينشأ نقص في السيولة، فإنّ النظام المصرفي غير قادر على تلبيتها. والنتيجة هي عدم استقرار في احتياطيات المصارف والقروض التي تقدّمها، وعدم استقرار في طبيعة انكماشية. من ناحية أخرى، يُلاحظ في هذا الصدد أنّ مجلس العملة يمكن أن يستجيب – ولكن إلى حدٍ معين فقط – للتغيّرات في الطلب على النقود اليدوية، من خلال تعديل شكل التزاماته (زيادة تداول الأوراق النقدية وانخفاض في الودائع بين المصارف).

إستناداً الى نموذج الاكوادور، تبيّن أنّ الشرط الأساس لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي احتياطاً بالعملات الأجنبية الدولية (بالدولار الأميركي) يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بنحو أساسي «القاعدة النقدية» (base monetaire) (الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي).

ممّا يعني أولاً، إعتماد سعر صرف تتمّ على أساسه عملية التحويل. وثانياً التأكّد من توافر الاحتياطي المطلوب لاستبدال القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية، أو إمكانية استدانته، وإلّا ترك العملة الوطنية تنخفض، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوافر لديه من عملات أجنبية. وثالثاً تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي إلى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد في لحظة التحوّل الى الدولرة الشاملة.

يبقى القول، إنّ لكل من الخيارات المذكورة ميزاته وشروطه وظروفه، مما يعني أنّه لا يوجد نموذج وحيد صالح لكل البلدان في كل الظروف وأنواع الأزمات.. تطوّر المعطيات وخيارات بقية الفرقاء، من سياسة حكومية وسلطة مالية، لها أيضاً وقعها قبل اتخاذ السلطة النقدية خيارها النقدي الأنسب لمستقبل لبنان..

د. سهام رزق الله

سلامة يُعيد الدولار الى ٢٣ ألفاً… ولكن كيفما كان الجواب، هناك مصيبة ستقع فوق رؤوس الناس.

لسبب أو لآخر، توحي الاجواء بأنّ البلد على وشك الدخول في مرحلة جديدة من الانهيار أشد قساوة وصعوبة من المراحل السابقة التي اجتازها حتى الآن. فهل هذا الخطر حقيقي؟ وما هي مؤشراته؟

لم تكد الانتخابات النيابية تنتهي وتبرز نتائجها، حتى خطفَ الوضع المعيشي الاضواء، بعدما قاده الدولار المنفلت الى قعرٍ لم يسبق أن بلغه من قبل.

لكن في الحقيقة، ولأنّ غبار المعركة الانتخابية غطّى على ما سواه، لم يلاحظ البعض انّ الدولار بدأ رحلة الارتفاع منذ ما قبل الانتخابات، واستمر في منحى تصاعدي بعد انتهائها. فهل من رابط مباشر بين الانتخابات وسعر صرف الدولار؟

في الواقع، هناك مجموعة من العوامل تجمّعت، ويمكن من خلالها تفسير ما جرى قبل قرار مصرف لبنان التدخل بقوة، وما قد يجري بعد القرار.

أولاً – منذ ما قبل الانتخابات، باشَر الدولار مرحلة الارتفاع التدريجي، مدفوعاً بالتقنين غير المعلن الذي بدأه مصرف لبنان لتخفيف خسائره اليومية، خصوصاً بعدما اضطر الى تجاوز التقديرات السابقة التي وضعها عندما قرّر اعادة دعم الليرة في كانون الاول ٢٠٢١. هذه الزيادة في إنفاق الدولارات ناتجة عن الزيادة في الاعتمادات المطلوبة من قبل المستوردين. وبالتالي، لجأ مصرف لبنان الى خفض كوتا الدولارات اليومية للمصارف. ونشأت هوة Gap بين العرض والطلب بما أدى الى بدء ارتفاع الدولار في السوق السوداء. وبدأ الفارق في السعر بين منصة صيرفة والسوق السوداء يتّسع.

ثانياً – سادت اجواء مفادها انّ دعم الليرة سيتوقف بعد الانتخابات مباشرة، وان الدولار سيحلّق فوراً، الامر الذي دفع الجميع الى شراء الدولار قبَيل الانتحابات وبعدها.

ثالثاً – أوحى المناخ السياسي الذي أعقبَ الانتخابات انّ الأفق مسدود على عكس التوقعات المتفائلة. وقد عزّز مناخ التشاؤم هذا ردود الفعل الخارجية التي جاءت فاترة، فيما لم تكن الاجواء في صندوق النقد الدولي متفائلة بدورها. ولا يبدو انّ الصندوق يخطّط لإرسال وفد الى لبنان عمّا قريب للاطلاع على المناخ السائد بعد الانتخابات، اذ يبدو انّ المسؤولين في الصندوق يعتبرون انهم أنجزوا مهمتهم، وانهم سينتظرون ما سيفعله المسؤولون اللبنانيون قبل الاقدام على اي مبادرة جديدة.

رابعاً – رغم انّ مصرف لبنان أعلن تمديد العمل بالتعميم ١٦١ حتى نهاية تموز في محاولة لتهدئة السوق، الا أنّ ذلك لم ينفع في لجم اندفاعة الدولار، لأنّ المركزي لم يرفق قرار التمديد بضَخ دولارات اضافية، الأمر الذي أبقى على الخلل في التوازن بين العرض والطلب.

خامساً – مع انخفاض حجم الاحتياطي في المركزي من العملة الصعبة، ازدادت المخاوف من اقتناء الليرة، الامر الذي زاد في الطلب على الدولار.

كل هذه الاسباب تضافرت ودفعت الدولار الى التحليق حتى انه اقترب من الاربعين الف ليرة، قبل أن يلجمه قرار المركزي الأخير.

اللافت هنا، انّ مصرف لبنان لم يضخ الدولارات الاضافية بعد، لكن بمجرد ان اعلن انه سيضخ العملة الخضراء بلا سقف بدءاً من اليوم الاثنين، شهد الدولار عملية هبوط سريع ناتج عن تَهافت الناس الى بيع دولاراتهم لِتحاشي الخسائر أو تحقيق الارباح التي قد تنتج عن اعادة شراء الدولارات عبر منصة صيرفة كما وعد مصرف لبنان.

والسؤال هنا، كم سيجمع المركزي من الدولارات المُباعة في الويك اند، وما هي الخسائر التي سيتحملها نتيجة إعادة بيع هذه الدولارات الى الناس؟

لمَن يتساءل الى أي مدى سيهبط الدولار، عليه ان يعرف انّ الجواب لدى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وسبق لسلامة أن أسقطَ الدولار من ٣٣ الف ليرة الى حوالى ٢٢ الف ليرة. وبالتالي، الجواب بسيط لأن سلامة قادر على اعادة الدولار الى ٢٣ الف ليرة قبل نهاية الاسبوع. لكن السؤال ليس هنا، بل كم سيضطرّ الى ان يدفع من الاموال المتبقية لتحقيق هذا الخفض، والى متى يمكن ان يستمر هذا الخفض، وماذا سيحصل بعد استنفاد الاموال؟ والأهم من كل ذلك، هل يملك سلامة حرية قرار من هذا النوع؟ وهل من جهةٍ سياسية طلبت أو وافقت على قرار ضخ الدولارات المتبقية، وبسخاء؟ كيفما كان الجواب، هناك مصيبة ستقع فوق رؤوس الناس.