أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

ما السعر الذي «سيستقر» عليه الدولار؟

 

سجّل سعر صرف الدولار في السوق الحرة تراجعاً سريعاً قبيل الاعلان عن ولادة الحكومة الميقاتية. واستقطب سعر الصرف الاهتمام الشعبي، الى حدٍ فاق الاهتمام بحدث ولادة الحكومة نفسها. وبات السؤال المطروح لدى الجميع، كم سيتراجع سعر الدولار، وما هو القعر الذي سيستقر عليه؟

في فترة تشكيل الحكومة التي بدأت قبل نحو خمسة اسابيع ونيف، احتل موضوع سعر الصرف صدارة الاهتمامات في احاديث المواطنين. وكانت الإشاعات والاستنتاجات تملأ صفحات وشاشات وسائل التواصل الاجتماعي، وكلها تدور حول نقطة وحيدة مفادها، انّ الدولار سيشهد هبوطاً دراماتيكياً إذا نجحت مساعي تشكيل الحكومة. وقد أعطى المنظّرون على الـ»سوشيل ميديا»، أرقاماً متفاوتة حول السعر الذي سيستقر عليه الدولار. المتشائمون قدّروا بأن يصبح سعر الدولار بين 12 و14 الف ليرة. المتفائلون جزموا بأنّه سيثبت على سعر ما دون الـ10 آلاف ليرة.

هذه الأجواء التي ملأت فضاء الثرثرة الإجتماعية، فعلت فعلها بالمواطن الذي بات خائفاً ان تخسر مدخّراته قيمتها مجدداً، بعدما كان قد خسر ما خسره عندما سحب أمواله بالليرة واشترى الدولار بسعر يفوق أضعاف سعره ما قبل الأزمة. او عندما سحب مدخّراته اللولارية على 3900 ليرة، وعاد واشترى بها العملة الخضراء لتخبئة الدولار الأبيض لليوم الأسود. أو حتى عندما تقاضى تعويض نهاية الخدمة بالليرة، واشترى الدولار لحماية ما تبقّى من هذا التعويض.

في المقابل، لوحظ انّ الصرافين كانوا يشترون الدولار ولا يبيعوه. كثيرون ظنّوا انّ الصرافين يخزّنون الدولارات لأنّهم يتوقعون ارتفاعها مجدداً، لكن الحقيقة انّ الصرافين مجرد وكلاء لمتمولين وجهات اعتبرت انّ الوقت مناسب للمّ الدولارات بسعر منخفض نسبياً.

في الانتقال الى سعر الصرف والتقديرات في شأن السعر الذي سيرسو عليه في المرحلة المقبلة، لا بدّ من تسجيل الملاحظات التالية، التي من شأنها التأثير على سعر الليرة:

اولاً- رفع الدعم عن المحروقات، واضطرار بعض التجار الى اللجوء الى السوق الحرة لشراء العملة الصعبة بهدف فتح اعتمادات الاستيراد.

ثانياً- البدء في تنفيذ التعميم 158، والذي ينصّ على السماح للمودع بسحب مبلغ شهري بالليرة قد يستخدمه لشراء الدولار. كذلك، وفي حال تمّ رفع سعر السحب، ستتوفر مبالغ اضافية بالليرة قد يُستخدم قسم منها لشراء الدولار.

ثالثاً- مصرف لبنان الذي كان يموّل حاجات الدولة والمجتمع من «دولاراته» الاحتياطية، لم يعد قادراً على ذلك، لكن هناك حاجات حيوية لا بدّ من تأمينها بالدولار، وبالتالي، سيلجأ بدوره الى السوق الحرة لتأمين قسم من هذه الدولارات.

رابعاً- الموسم السياحي الذي ساهم في دخول دولارات اضافية الى السوق، وأمّن نوعاً من الاستقرار النسبي في سعر الصرف طوال الشهرين الماضيين، انتهى منذ فترة، وبالتالي انتهت مفاعيله الإيجابية الظرفية، وعدنا الى المسار العادي في حركة دخول وخروج الدولارات من السوق الحرة.

خامساً- الإجراءات الطارئة التي قد تضطر الى اتخاذها الحكومة الميقاتية في مواجهة الأزمات الحياتية الظاغطة، قد تشمل اجراءات تحتّم التمويل، بما يستدعي شراء دولارات اضافية من السوق، او طباعة كمية اضافية من العملة الوطنية. وفي الحالتين سيرتفع الضغط على سعر الليرة.

سادساً- يتزامن تشكيل الحكومة ونيلها الثقة مع فتح الموسم الانتخابي. وخوض الانتخابات النيابية من قِبل القوى السياسية يحتّم رفع وتيرة التوتر، وتزخيم الخطاب الطائفي، والتسابق على التزمّت والتطرّف، بما يعني عملياً توتير الاجواء، وخلق مناخات غير مريحة ستأكل من رصيد المناخ الإيجابي الذي خلقه تشكيل الحكومة، الذي وضع حداً للفراغ في موقع السلطة التنفيذية.

انطلاقاً من هذه الملاحظات والوقائع، هل يمكن التكهّن بالسعر الذي سيبلغه سعر صرف الدولار في السوق الحرة قبل الوصول الى توحيد السعر لاحقاً، في اطار تنفيذ خطة اقتصادية شاملة بالتوافق وبرعاية صندوق النقد الدولي؟

يصعب الجزم من دون المجازفة بالدخول في لعبة تخمينات، لا يمكن ان تتمتّع بصدقية علمية أو واقعية. لكن يمكن الجزم، بأنّ سعر الدولار ليس مجرد سعر سياسي كما نسمع بين الحين والآخر، ولا هو سعرٌ يعكس الواقع المالي والاقتصادي على حقيقته، لكن الأكيد انّ الحاجة الى العملة الخضراء لا تزال كبيرة، وكبيرة جداً، والأموال لن تتدفق بسحر ساحر في غضون ايام، كما يظن البعض. وتكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة يبدو محتوماً، للتعاطي مع أزمات طارئة لم يعد متاحاً الخروج منها بإسلوب إنقاذي شامل، بل تتطلب الترقيع المؤقت بانتظار الحل. كل ذلك يعني انّ سعر صرف الليرة سيبقى متدنياً، والدولار لن «ينهار» في لبنان، وأفضل ما يمكن ان نأمله في الاشهر القليلة المقبلة، هو ان يستمر سعر الصرف بالمراوحة، بين قعرٍ وسقفٍ مقبولين قياساً بالسعر الذي ورثته حكومة ميقاتي، أي حوالى 18 الف ليرة. وبذلك، نكون قد نجونا من تجربة الانهيار السريع الذي كان متوقعاً فيما لو لم تنجح مساعي استيلاد الحكومة، بانتظار بدء تنفيذ خطة تعافٍ، ليس مرجّحاً أن يبدأ تنفيذها سوى بعد الانتخابات النيابية في أيار 2022.

انطوان فرح

السعر الجديد لسحب الدولار وفق تقديرات أولية

مع اقتراب موعد «انتهاء صلاحية» التعميم 151 الذي حدّد بموجبه مصرف لبنان سعر سحب الدولار من المصارف بـ3900 ليرة، يرتفع منسوب الادرينالين لدى المودعين الصغار، بانتظار تصاعد الدخان الابيض إيذاناً برفع سعر السحب الى 10 آلاف ليرة للدولار. هل تبدو المسألة محسومة؟ وما هي المعوقات اذا كان كل الأفرقاء المعنيين بالموضوع موافقين على تغيير نسبة الهيركات الاجباري؟

مع دخول المجلس النيابي على خط سعر سحب الدولار من المصارف، في المرة الاولى من خلال إيراد بند رفع السعر الى 10 آلاف ليرة في مشروع قانون الكابيتال كونترول، وفي المرة الثانية خلال الايام الماضية مع تخصيص جلسة للجنة المال والموازنة لمناقشة هذا الموضوع، اتخذ الملف منحى شعبياً، وبدأ المودعون الصغار يهتمون بمتابعة الموضوع، بعدما شعروا بأنّه قابل للتنفيذ.

لكن، وللدقة والموضوعية، تنبغي الاشارة الى انّ المعوقات لا تزال قائمة، وهي ترتكز على نقطة محورية: هل يمكن تنفيذ خطوة رفع السحب من دون المجازفة بزيادة حجم الكتلة النقدية بالليرة، والتسبّب بارتفاع سريع لسعر صرف الدولار؟

في المبدأ، اعتبر النواب الذين اقترحوا الإبقاء على سقوفات السحب بالليرة كما هي، انّهم أمّنوا الحماية ضدّ التضخّم في الكتلة النقدية، على اعتبار انّ المودع سيسحب من المصرف المبلغ نفسه الذي كان يسحبه على تسعيرة الـ3900 ليرة، وبالتالي، لا حاجة الى تكبير الكتلة بالليرة لتأمين السحب على 10 آلاف ليرة. لكن هذه الحسابات ليست دقيقة تماماً، وهناك حسابات معقّدة يجريها مصرف لبنان حالياً، لاستشراف تأثيرات أي قرار على التضخّم.

وقبل تشريح نوعية الحسابات التي يقوم بها المركزي، لا بدّ من الاشارة الى انّ كل الاطراف المعنية بمسألة تعديل سعر السحب موافقة على المبدأ، بما فيها المصارف، والتي قد تكون عملياً المتضرر الأساسي من رفع سعر السحب. وقد أبلغت المصارف لجنة المال والموازنة النيابية، ومصرف لبنان، انّها موافقة على اي قرار يتخذه المركزي بالتنسيق مع وزارة المال. وبالتالي، يمكن الاستنتاج بأنّ هناك موافقة جماعية على المبدأ، لكن ما يعيق اتخاذ القرار، هي التفاصيل التي يعتبر مصرف لبنان نفسه معنياً بها دون سواه.

في التفاصيل التي يدرسها المجلس المركزي في مصرف لبنان، المسألة التالية:

اذا افترضنا انّه تمّت الموافقة على رفع سعر السحب الى 10 آلاف ليرة، مع الإبقاء على سقف السحوبات بالليرة ثابتاً، ما هو المبلغ الإضافي المطلوب تأمينه بالليرة؟

رداً على هذا السؤال، ينبغي ان يعتمد المركزي وحدة زمنية لاستخدامها في قياس النتائج. وبالتالي، الحسابات تتمّ على اساس سنة كاملة من بدء تنفيذ أي قرار جديد. وعلى هذا الاساس، واذا افترضنا انّ معدل سقف السحوبات الحالي هو 5 ملايين ليرة بالشهر، (يتفاوت السقف بين مصرف وآخر) اي ما يساوي حوالى 1300 دولار على تسعيرة 3900، فهذا يعني انّ كل مودع يملك في حسابه المصرفي 6500 دولار وما دون، سوف ينفد رصيده في غضون 5 اشهر، ويكون قد تقاضى حوالى 25 مليون ليرة. في المقابل، هذا المودع نفسه، وفي حال تمّ تطبيق تسعيرة الـ10 آلاف ليرة، لن يستهلك رصيده في 5 أشهر، بل سيستمر بالسحب طوال العام، وسيتمكّن من سحب حوالى 65 مليون ليرة، أي بزيادة نسبتها حوالى 160%. طبعاً النسبة هنا ليست لبّ المشكلة، بل الكمية التراكمية على مجموع المودعين الصغار. اذ ينبغي إحصاء هذه الفئة من المودعين، لمعرفة الرقم النهائي الذي سترسو عليه كمية السحب الإضافي للعملة اللبنانية. وإذا اعتبرنا انّ التعميم 158 أظهر انّ حوالى 800 الف مودع سوف تنتهي أرصدة حساباتهم في سنة، فهذا يعني انّ مجموع المودعين الذين لا تزيد أرصدتهم عن 6500 دولار قد لا يقلّ عن 500 الف مودع. وبالتالي، ينبغي إجراء دراسة مفصّلة عن هذه الفئة، لمعرفة كمية النقد الاضافية التي سوف تُسحب. وفي التقديرات الاولية، انّها قد لا تقلّ عن 10 آلاف مليار ليرة. وبما انّ الكتلة النقدية بالليرة وصلت اليوم الى حوالى 43 الف مليار ليرة، فهذا يعني انّ رفع سعر السحب الى 10 آلاف سيزيد الكتلة حوالى 10 آلاف مليار ليرة. هذا الرقم لا يمكن هضمه مالياً، لأنّه سيساهم في دفع الليرة الى الانهيار السريع. بالإضافة طبعاً، الى انّ المركزي قد يضطر الى تكبير حجم الكتلة بالليرة، حتى لو لم يتمّ رفع سعر السحب، بما يعني ايضاً، انّ الكتلة النقدية بالليرة ستنتقل من 43 الفاً الى حوالى 60 أو 65 الف مليار ليرة في سنة، وهذا الامر غير مساعد لسعر صرف الليرة. كما انّ قرار زيادة سعر السحب الى 10 آلاف ليرة قد يدفع غالبية المودعين الصغار الى التراجع عن الاستفادة من التعميم 158 لمصلحة التعميم 151 بطبعته الجديدة.

انطلاقاً من هذه الارقام والحقائق، يدرس المركزي الملف، وهو يركّز على السعر الذي يمكن اعتماده من دون التسبّب بكارثة في سعر الصرف. وفي الترجيحات الاولية، انّ السعر الجديد المعتمد للسحب، لن يتجاوز الـ7 آلاف ليرة، والأرجح انّه قد يستقر على 6 آلاف ليرة للدولار، بحيث لا يضطر المركزي الى تكبير الكتلة النقدية سوى بمعدل بسيط، قادر على ضبطه.

ويبقى سؤال كبير هو لماذا لا يتم اعتماد بطاقات الدفع الالكترونية في جزء كبير من التعاملات المالية بدل الاستسلام للاقتصاد النقدي (cash economy) الذي يعمق الازمة المالية والاقتصادية اكثر فاكثر؟

انطوان فرح

من استراتيجية التضخم المفاجئ إلى البحث عن المصداقية النقدية

تنشأ مشكلة مصداقية السياسة النقدية عندما يعتمد سلوك الأفرقاء المؤتمنين علىها استراتيجية مُباغتة الجمهور والتسبّب بالتضخم المفاجئ، خاصة عبر طباعة النقد، وغالباً وفق حاجات وطلب السلطات المالية والسياسية للالتفاف على توقّعات السوق، فيشعر الناس، ولو لفترة وجيزة، أنّ ثمة تحسّناً بالسيولة وبقدرتهم الشرائية وبالنشاط الاقتصادي في البلاد فيكافئون من هم في موقع القرار بتجديد الثقة بهم عند أول استحقاق انتخابي… هذا طبعاً يحصل في غياب استقلالية السلطة النقدية (المصرف المركزي) عن السلطة المالية (وزارة المال والحكومة مجتمعة)… إلّا أن «إيجابيات» التضخّم المفاجئ على المدى القصير ما تلبث أن تتبخّر على المدى المتوسّط، فيضمحلّ أثر فائض السيولة على الحركة الاقتصادية وفرص العمل ولا يبقى سوى سلبيات التضخّم… فيَعي الناس فداحة هذه الخيار ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد تجديد الثقة لمَن اتخذوه وتسببوا بتكلفته… لذا، غالباً ما نصادف أسلوب زيادة السيولة والالتفاف على توقعات الجمهور قبَيل الفترات الانتخابية… ولكن بعد تكرار هذه العملية وزيادة وعي الناس تسقط مفاعيل التضخم المفاجئ حتى على المدى المنظور، وتضطر السلطات النقدية للبحث الجدي في استعادة ثقة الجمهورية وتعزيز مصداقية سياساتها… من هنا أهمية التعريف العلمي بمفهوم مصداقية السياسة النقدية، مشاكل وتكاليف افتقادها، والوسائل الممكنة لاستعادتها…

علمياً، من المعروف انه حتى لو تبنّت المصارف المركزية أهدافاً متجددة ومتجانسة مع المعطيات الاقتصادية، فإنّ هذا لا يستبعد بالضرورة مشكلة مصداقية السياسة النقدية. في الواقع، اتخذ كيدلاند وبريسكوت منظوراً أوسع من منظور بارو جوردون [1983]، فبالنسبة لهما، ينشأ التناقض الزمني للخطط المُثلى بمجرد أن تضطر السلطات النقدية إلى اتخاذ قراراتها اليومية على أساس ما يتوقع أن يكون سياسة اقتصادية في المستقبل. وبالتالي، فإنّ السياسة النقدية التي يتم تحديدها في لحظة معينة قد لا تكون مثالية عند تحقيق توقعات العملاء الاقتصاديين، نظراً لإمكانية تغيّر المعطيات في الوقت الفاصل بين لحظة اتخاذ الخيارات ومرحلة تَلمّس نتائجها…

 

والمعروف أنّ الهدف الرئيسي لكل سياسة نقدية للمصرف المركزي يكمن في تأمين استقرار قيمة العملة الوطنية (داخلياً عبر ضبط التضخم الذي يرتبط الى حد كبير بزيادة طباعة النقد ونمو الكتلة النقدية لا سيما فائض السيولة، وخارجياً عبر ضبط استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملاء الأجنبية).

 

يعود الجزء الأول من مشكلة مصداقية السياسة النقدية إلى وجود سلوك استشرافي، وبشكل أكثر دقة إلى وجود جمود في الاقتصاد يتطلّب من الأفرقاء الاقتصاديين اتخاذ قراراتهم الحالية على أساس الظروف الاقتصادية المستقبلية المتوقعة. في هذه الحالة، يكمن الحل المقترح في سياسة المشاركة للبنك المركزي التي تؤمّن الشفافية وتعزز الثقة. إذا بَدت مصداقية النوايا السياسية المستقبلية عنصراً حاسماً في تكوين التضخم الحالي، فإنّ الأمثل هو التزام البنك المركزي بسير سياسته المستقبلية من دون أي انحراف عن مسارها المُعلَن، بحيث يتمكن من استعادة ثقة الجمهور.

 

ومع ذلك، فإنّ صعوبة اعتماد سياسة طارئة لجميع الاحتمالات الممكنة أو حتى عدم اليقين النسبي في ما يتعلق بتمثيل أداء الاقتصاد، يفسّر لجوء المصارف المركزية إلى ممارسة السياسات التقديرية بدلاً من الالتزام الصارم.

 

الجانب الثاني للمشكلة يكمن في مصداقية الهدف المعلن من قبل البنك المركزي. يجب تصديق وفهم الإعلان عن السعي لتحقيق هدف مساو محدد من التضخم أو حتى مستوى سعر أكبر من قبل الوكلاء الاقتصاديين. ويلاحَظ أنّ إحدى الطرق لضمان أنّ البنك المركزي يتبع الهدف المعلَن بالفعل، يكمن في اعتماد استقلالية المصرف المركزي فعلياً وليس فقط في النصوص، وفقاً لنهج روجوف [1985] الذي تعكس نظرياته الاقتصادية أفضلية هذا الاختيار تماماً.

 

من هنا، تندرج المناقشة الخاصة باختيار هدف للبنك المركزي في إطار البحث عن وسيلة يمكن أن تكون بديلاً عن الالتزام، وبالتالي الاقتراب من الطريقة المثلى لمعرفة السياسة المناسبة مع الالتزام التام بالهدف المعلن لمستوى التضخم المرتقب. وبالتالي، من المتوقع أن يثير الجمود وصعوبة تنفيذ التوقعات العقلانية مشكلة مصداقية السياسة النقدية التي يمكن إدارتها في ظل أهداف ووسائل وتكاليف مدروسة.

 

في ظل مستوى التضخّم المستهدف، يجب أن تتبع تقلبات الأسعار غير المتوقعة تقلبات أسعار متوقعة هذه المرة تؤدي إلى تقلبات متوقعة في الإنتاج. لذلك، يبدو أن معدّل التضخّم المستهدف الأكثر تطلّباً للبنك المركزي يجعل من الممكن حل مشكلة مصداقية السياسة النقدية جزئياً. كما تؤدي الاستجابات المختلفة للسياسة النقدية في ظل هذين النوعين من الأهداف إلى مسارات تنمية متميزة للتضخم والناتج.

 

وقد ثبت أنّ تحديد هدف مستوى االتضخّم يمكنه تحسين مصداقية السياسة النقدية، ويُظهِر الاقتصادي روجوف [1995] أنّ تمكين المصرف المركزي من استهداف مستوى التضخّم يتطلّب اختيار حاكم “محافظ” للمصرف المركزي، يكون لديه “استشعار” و”رفض” لتقلب مستوى الأسعار ومَيل لتثبيت مستوى تضخّم أقل من الذي يتطلّع إليه معظم الجمهور. ما ينبغي أن يكون لهدف مستوى التضخّم الذي يؤدي إلى تجانس أكثر وضوحاً لردود فعل السياسة النقدية وتأثير إيجابي في تقلب أسعار الفائدة، بغضّ النظر عن عواقب ذلك على المفاضلة بين استقرار التضخم والإنتاج.

 

وإذا افترضنا، وفق النظرة الكلاسيكية، أن العملاء الاقتصاديين لديهم توقعات عقلانية، يصبح من الصعب على السلطة النقدية أن تأخذهم “على حين غرّة” وتفاجئهم بمستوى تضخّم أعلى ممّا يمكن توقّعه وفق المعطيات الاقتصادية العامة. ومع ذلك، يبدو أنه بسبب وجود التوقعات العقلانية، تواجِه السلطات النقدية قيوداً على المصداقية تدفعها إلى ممارسة سياسة نقدية توسعية. ولا يمكن رفع هذا القيد في حد ذاته إلا من خلال استحواذ البنك المركزي على توقعات حسن السلوك.

 

إذا أدخل الوكلاء الاقتصاديون رغبة السلطات النقدية في اكتساب سمعة معينة في توقعاتهم ، فإن النتائج السلبية (من حيث التوظيف) لسياسة إزالة التضخم تقلّ أيضاً. نتيجة لذلك، يرتبط الاستقرار النقدي بسمعة السلطة النقدية. يبقى أن نرى كيف يمكن للسلطة النقدية أن تقنع الوكلاء الاقتصاديين برغبتها في الدفاع عن سمعتها بشكل مستدام؟ هنا، نلاحظ أن عاملين يمكن أن يساعدا في استعادة مصداقية السياسة النقدية: نظام سعر الصرف الثابت واستقلالية البنك المركزي.

 

البحث عن المصداقية من خلال استقلالية البنك المركزي

 

تمثّل استقلالية المصرف المركزي وسيلة أساسية لتعزيز مصداقية السياسة النقدية إزاء السلطة السياسية، والتأكد من أنه يعطي الأولوية للحفاظ على الاستقرار النقدي، بشرط الحفاظ على الحوار المستمر بين البنك المركزي والسلطة المالية، وتجنّب تناقض الأهداف بين السياستين النقدية والمالية، كما حصل في حالة لبنان في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات.

 

وقد اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن المصدر الرئيسي لمشاكل المصداقية يكمن في وجود تشوّهات في سوق العمل تُشجّع الحكومة على تَبنّي سياسة تحفيز الإنتاج فوق مستواه الطبيعي باللجوء إلى التضخم المفاجئ. ومن هنا، لا يمكن معالجة مصداقية السياسة النقدية وعلاقتها باستقلالية البنك المركزي من دون دراسة الروابط المعقدة بين البنك المركزي والحكومة من جهة، وكذلك الروابط بين البنك المركزي والقطاع الخاص من ناحية أخرى.

 

تقليدياً، اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن هناك ثلاثة مكونات لاستقلالية السلطات النقدية:

 

– الاستقلالية “العضوية” المتعلقة بشروط تعيين حاكم البنك المركزي ومجلس إدارته.

– الاستقلالية “الوظيفية” التي تشير إلى المشاركة الفعالة للبنك المركزي في تحديد الأهداف واختيار الأدوات وتطبيق السياسة النقدية.

– الاستقلالية “المالية” التي تجعل من الممكن تقييم مجال المناورة المُتاح للبنك المركزي من وجهة نظر الموارد اللازمة لعمله.

 

وبالتالي، إنّ بعض مكونات استقلالية السلطة النقدية ناتجة عن مجموعة من الأحكام القانونية (الاستقلالية بحكم القانون، قانون النقد والتسليف في لبنان)؛ والبعض الآخر ينبع من الممارسة والقدرة على تطبيق صلاحيات البنك المركزي التي تحدد الاستقلالية العملية (الاستقلالية الفعلية)… ولقد أشارت هذه الأعمال إلى “استبيان بودارت” [1990] الذي يتضمن 15 سؤالاً تتعلق بالعلاقات بين السلطة التنفيذية والبنك المركزي فيما يتعلق بتعيين الحاكم ونوابه، ومدة ولايته… الجواب يحصل على قيمة “صفر” عندما “يشير إلى غياب الاستقلالية عن البنك المركزي ويتلقى قيمة “1” عندما تتأكد الاستقلالية.

 

من ناحية أخرى، يفضّل كل من V. Grilli و D.Masciandaro و G و Tabellini [1991] الفصل الواضح بين المكونات المختلفة لاستقلالية المصرف المركزي، مع إعطاء وزن أكبر قليلاً لمعايير الاستقلالية الوظيفية.

 

الجيل الثاني من أعمال أ. Cukierman، S .. Webb and B. Neyapti [1992] أدركَ استقلالية البنك المركزي بما يتجاوز المعايير الرسمية الوحيدة. بالنسبة لهؤلاء الاقتصاديين، إنّ الوضع القانوني للبنك المركزي هو عنصر واحد فقط من بين عدة عناصر تحدد استقلاليته الفعالة، وحتى عندما تكون النصوص شديدة الوضوح يمكن أن يكون الواقع مختلفاً تماماً عما يتوقعونه.

 

وفي الوقت نفسه، إن بعض المقترحات لحلول بديلة لمشكلة عدم تناسق الوقت incoherence temporelle، مثل نهج البنك المركزي المحافظ ونهج العقود الأمثل، يسلّط الضوء على التمييز بين استقلالية الأهداف واستقلالية الأدوات. ففي نموذج روجوف (1985)، يتمتع البنك المركزي بنوعين من الاستقلالية: فهو يحدد الأهداف ويتحكم في أدوات السياسة النقدية. وإذا أثار روغوف [1985] معضلة المصداقية والمرونة في السياسة النقدية، فإنّ والش [1995] يسعى إلى حلها من خلال قصر استقلالية حاكم البنك المركزي ودورها في الاستقلالية الفعلية. في هذا النهج، يتم التركيز على مهام وحوافز حاكم البنك المركزي لإكمال المهام الموكلة إليه. وبالتالي، فإنّ الاستنتاج الأساسي لهذا التحليل هو أنه يجب أن يتمتع البنك المركزي باستقلالية فعالة، من دون تحديد أهدافه بشكل مستقل.

 

بطبيعة الحال، تصبح مشكلة المصداقية النقدية وتحديات الاستقرار النقدي أكثر صعوبة عندما يكون التضخم مزمناً، ويفضّل لجوء العملاء الاقتصاديين إلى استبدال العملة الوطنية بالعملة الأجنبية للهروب من مشاكل عدم الاستقرار وتقلّب القدرة الشرائية و”التضخم المستورد”، اي اللجوء الى الدولرة…

 

البحث عن المصداقية من خلال المساعدات الخارجية:

 

قد تستخدم البلدان المشاركة في برامج الحد من التضخم برامج إنفاذ خارجية (مثل صندوق النقد الدولي)، من خلال التزامها بتضخم منخفض من أجل تحسين مصداقيتها وفعالية برامجها واستعادة ثقة الجمهور. يلاحظ أن هذه البرامج تقدم أيضا مساعدة مشروطة لتحقيق أهداف محددة لسياسة الاقتصاد الكلّي (مثل الإصلاحات الاقتصادية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في لبنان).

 

ومع ذلك، قد تقف العديد من الصعوبات في طريق هذا البرنامج، ولا سيما:

 

– الإحجام الذي قد يشعر به الجمهور في ما يتعلق بتطبيق برنامج خارجي، كإشارة على التزام صانعي السياسات الاقتصادية بخفض التضخم (مثل التردّد الذي أظهَره لبنان في ما يتعلق بتطبيق الإصلاحات التي التزمت بها الحكومة اللبنانية منذ مؤتمر باريس -2 للدول المانحة عام 2002).

 

مشروطية المساعدات الخارجية سيف ذو حدين: إذا اعتبرت درجة المشروطية المرتبطة بالمساعدات الخارجية مفرطة، فإنّ عدم اليقين بشأن توافر الدعم الخارجي قد يزيد من تدهور المصداقية ويؤدي إلى تأخير في الاستقرار.

 

ونتيجة لذلك، ترتبط الفعالية والحاجة إلى سياسة استقرار بالتحفيز على الترشيد المالي المُستدام وضبط اللجوء الى التمويل النقدي للعجز المالي… وقد تفتقر الإجراءات المالية غير المستدامة (مثل ضبط إنفاق القطاع العام) إلى المصداقية وتخاطر بإثارة التوقعات بالتوسع المالي المستقبلي والتحويل النقدي الذي يمكن أن يطلق عملية تضخمية جديدة.. إلا انّ بناء المصداقية لا يتحقق بغفلة من الزمن، بل يحتاج سنوات وخطوات عديدة تثبت استعادة الثقة وتؤكدها، لا سيما بعد تجربة افتقادها وازدياد الحاجة لطمأنة الجمهور.

د. سهام روق الله

خبر سار… خفض الـ”هـيركات” الى 50%

في إطلالته الأخيرة، نصح حاكم مصرف لبنان المودعين بعدم سحب اموالهم الدولارية على 3900 ليرة، لأنّهم من خلال السحب على هذا السعر، يُخضعون أموالهم لـ»هيركات» قاسٍ تصل نسبته الى حوالى 85 في المئة. فهل لدى سلامة معطيات تسمح بالتفاؤل بخفض نسبة الـ»هيركات» مستقبلاً؟ وهل كلامه مرتبط باقتراح لجنة المال والموازنة؟ وما خلفيات ومنافع وأضرار الاقتراح؟

على جدول أعمال لجنة المال والموازنة التي ستجتمع غداً الثلثاء، اقتراح برفع سعر دولار منصّة سحب الودائع الدولارية من المصارف من 3900 ليرة الى 10000 ليرة، بهدف خفض الـ»هيركات» الذي يتعرّض له المودعون الذين يسحبون أموالهم، من حوالى 85% الى 50% تقريباً. فهل هذا الاقتراح قابل للتطبيق؟ ولماذا في هذا التوقيت، ومن خارج سياق قانون الكابيتال كونترول؟ وما هي الإيجابيات والسلبيات التي يمكن رصدها في حال تمّ اقرار الاقتراح؟

في البداية، لا بدّ من الاشارة الى انّ اقتراح رفع سعر سحب الودائع الدولارية من المصارف وَردَ في مشروع قانون الكابيتال كونترول، بناءً على اقتراح النائب ياسين جابر. لكن هذا القانون تأخّر صدوره، وهو لا يزال يخضع للدرس والتمحيص. هذا التأخير قد يكون دفع لجنة المال الى تقديم اقتراحها لإقرار تعديل سعر السحب من خارج سياق قانون الكابيتال كونترول المنتظر. والبعض يغمز من قناة المناكفات السياسية، على اعتبار انّ الكابيتال كونترول موجود حالياً في لجنة الادارة والعدل التي يرئسها النائب جورج عدوان، وبالتالي يعتبر هؤلاء، انّ خطوة لجنة المال التي يرئسها ابراهيم كنعان، يمكن إدراجها في اطار تسجيل النقاط السياسية.

في كل الاحوال، ستتمّ مناقشة اقتراح زيادة سعر السحب الى 10 آلاف ليرة غداً، في حضور ممثل عن مصرف لبنان، فهل فرص الإقرار قائمة؟ وما هي النتائج المتوقعة؟

لا يبدو انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لديه اعتراض على هذا الاقتراح، وهذا ما همس به الى من يهمّهم الأمر، عندما جرى تضمين الكابيتال كونترول هذا البند. إذ قال سلامة يومها: «اقتراح مش عاطل، وقابل للدرس». فهل يعني ذلك انّ الطريق ستكون مُمهّدة أمام إقرار المشروع؟

في هذا السياق، تنبغي الاشارة الى انّ الإشكالية الاساسية في تطبيق مثل هذا الاقتراح تكمن في ضمان عدم تأثيره على التعميم 158، والذي يسمح للمودعين بسحب اموالهم بالدولار الطازج، وبالليرة على سعر منصّة الـ12 الف ليرة. ومن خلال هذا الاقتراح سيكون على المودع، لاسيما من يتمكّن من سحب مبالغ كبيرة نسبياً بالليرة، أن يُعيد حساباته لجهة الإنخراط بالتعميم 158 اذا كان سيفقد حقه في السحب على سعر 10 آلاف ليرة للدولار. كذلك الموظف الذي يتقاضى راتبه بالدولار المصرفي (لولار)، سيضطر الى اعادة حساباته ايضاً في موضوع الاستفادة من التعميم 158، لئلا يفقد حقه في سحب راتبه على السعر الجديد.

بالإضافة الى ذلك، سيزيد الضغط على القطاع المصرفي الذي تعرّض لـ«هيركات» على سندات اليوروبوند التي يحملها بنسبة 85 الى 90 في المئة حتى الآن، وتوظيفاته محتجزة في مصرف لبنان، ومن غير الواضح نسبة الـ«هيركات» التي ستخضع لها هذه التوظيفات في المستقبل، في حال وصلنا الى مرحلة تنفيذ خطة إنقاذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي.

هذه المحاذير والملاحظات تقابلها ايجابيات تسمح بالقول انّ الاقتراح يجب ان يمشي، لاعتبارات عدة منها:

اولاً- نسبة الـ«هيركات» الحالية على صغار المودعين ظالمة وغير مقبولة. وعندما انطلقت تسعيرة الـ3900 كانت نسبة الاقتطاع لا تتجاوز الـ25% وبالتالي، لا مبرّر لتصل هذه النسبة اليوم الى حوالى 85%، وتستمر.

ثانياً- انّ الاقتراح كما جرى تقديمه لا يزيد الكتلة النقدية بالليرة، على اعتبار انّ سقف السحوبات بالليرة سيبقى على حاله. وبالتالي، لا خوف من ارتفاع نسبة التضخّم، وزيادة الضغط على سعر صرف الليرة بما يؤدّي الى تسريع انهيارها.

ثالثاً- انّ صغار المودعين في كل الأزمات الشبيهة تتمّ حمايتهم من اي نوع من انواع الـ«هيركات»، وبالتالي، من العدل والإنصاف، خفض نسبة الظلم في حق هؤلاء من خلال خفض نسبة الاقتطاع من أموالهم، اذا كان هناك استحالة في حمايتهم 100%.

يبقى انّ الاقتراح الذي سيُناقش غداً ينبغي ان يكون مُحرَّراً من المزايدات السياسية، لأنّ الهدف مساعدة صغار المودعين، وليس التمريك على هذا الطرف السياسي أو ذاك. والمشروع ينبغي أن يأخذ طريقه الى التنفيذ، سواء من خلال لجنة المال والموازنة، او عبر قانون الكابيتال كونترول، اذا ما تبيّن انّه سيصدر في غضون أيام، وليس في أسابيع أو أشهر.

انطوان فرح

المركزي: “زيحو من الدرب… السوق السودا لي”

الإتفاق الذي تمّ في اجتماع بعبدا في شأن تمديد فترة دعم المحروقات حتى نهاية ايلول لكن على سعر 8 آلاف ليرة، طرح علامات استفهام حول المصدر الذي سيلجأ اليه مصرف لبنان لتأمين الدولارات، من دون المسّ بالاحتياطي. ويبدو انّ لدى المركزي أدوات مبتكرة على طريقة «بالموجود جود».

من خلال مراجعة تطور الحسابات المالية العامة، يتبين انّ إيرادات الدولة تراجعت بما لا يقلّ عن 50% حتى الآن، قياساً بما كانت عليه قبل الأزمة في العام 2019. هذه النسبة محسوبة وفق الليرة اللبنانية. هذا يعني ببساطة انّ الخزينة التي كان يدخل اليها حوالى 12 مليار دولار في السنة، وكانت تقع في عجز يُقدّر بحوالى 3 الى 4 مليارات دولار تقترضها لكي تقفل حساباتها السنوية، أصبح يدخلها اليوم ما يوازي حوالى 400 مليون دولار فقط. واذا استثنينا خدمة الدين التي كانت تدفعها الدولة لقروضها، والتي توقفت عن دفعها منذ الإفلاس، نستطيع ان نقول انّ الفارق بين 2019 و2021 سيكون حوالى 11 ملياراً و600 مليون دولار. وإذا كانت دولة مدخولها 12 مليار دولار وصلت الى الإفلاس والى الوضع الذي نشهده اليوم في غضون 10 سنوات من العجز، فكيف سيكون مشهد هذه الدولة التي أصبح مدخولها 400 مليون دولار، وهي تحتاج الى 3 أو 4 مليارات دولار ثمن محروقات في السنة؟

 

إنطلاقاً من هذه الأرقام، ينبغي ان نبني حساباتنا في موضوع عمق الأزمة، والوقت الذي قد يستغرقنا للخروج منها. وكذلك ينبغي ان نتوقع بعقلانية المشهد الحياتي والاقتصادي، في حال بقي الوضع على ما هو عليه اليوم، من دون البدء في عملية الإنقاذ. ولتسهيل الفكرة، تنبغي الإشارة الى انّ موظفي الدولة كان يبلغ مجموع رواتبهم من مجمل إيرادات الموازنة حوالى 50%، أي ما يوازي حوالى 6 مليارات دولار في السنة. واذا اعتبرنا انّ الإنفاق على رواتب القطاع العام سيحافظ على النسبة نفسها، فهذا يعني بلغة الارقام حوالى 200 مليون دولار سنوياً. وبمجرد مقارنة الرقمين، (6 آلاف مليون دولار مقابل 200 مليون دولار) نستطيع ان نكوّن مشهدية مبدئية عن الوضع المعيشي القائم، والمفتوح على مزيد من التقهقر في الأيام المقبلة.

 

ضمن هذه الحقائق الرقمية الثابتة، تنبغي قراءة خلفيات كل الأزمات التي تنفجر في وجه اللبنانيين في هذه الحقبة. وفي هذا المناخ الاستثنائي، يحاول مصرف لبنان ابتكار الأدوات لتمويل ما أمكن من مقومات الحياة، من دون المسّ بالاحتياطي الإلزامي. وقد نجح حتى الآن في حماية هذه الأموال، لكن التحدّيات القائمة تطرح علامات استفهام في شأن الايام المقبلة.

 

الى ذلك، بدأت حرب البقاء التي اندلعت منذ فترة بين المركزي والمصارف تأخذ ابعاداً جديدة، من خلال التعميم 159 الذي أصدره مصرف لبنان في 17 آب الجاري، ومنع من خلاله على المصارف التجارية شراء الدولار من السوق السوداء. وقد يتراءى للبعض، انّ الهدف الرئيسي من هذا القرار هو تخفيف الضغط على الليرة لمنع انهيارها بسرعة اكبر، وبالتالي حماية القدرات الشرائية المتبقية للمواطنين. لكن الحقيقة غير ذلك، والقرار يستهدف بصورة أساسية إبعاد المنافسين للمركزي عن السوق السوداء، لكي يتسنّى له شراء الدولارات من هذه السوق لتمويل العمليات الضرورية، ومنها على سبيل المثال، تمويل الفارق بين السعر الحقيقي للمحروقات والسعر الإسمي الذي سيُحدّد للمواطن (8 آلاف ليرة للدولار). وسيتمكن المركزي من خلال إبعاد المنافسين (المصارف) من جمع الدولارات الضرورية لتمويل هذا الدعم للمحروقات حتى نهاية ايلول 2021.

 

لكن قرار المركزي إضفاء الحصرية لنفسه في السوق السوداء، يطرح علامات استفهام من جديد حول خطورة إلغاء المصدر شبه الوحيد الذي يستطيع ان تلجأ اليه المصارف لتمويل عملياتها، ومنها تنفيذ التعميم 158 الذي يقضي بدفع دولارات طازجة للمودعين. فهل سيتعثر التنفيذ بسبب قرار وضع اليد على السوق السوداء؟

 

إلى جانب السوق الذي شهد في الشهرين الأخيرين تدفقات مقبولة للدولارات الطازجة، وهو ما يفسّر مراوحة سعر الصرف في هذه الفترة ضمن سقفٍ وقعرٍ مقبولين، يتجّه المركزي اليوم نحو الجمعيات التي تتلقّى الدولارات الطازجة. وقد دخل في مفاوضات مع مموليها، لكي يتمكّن مصرف لبنان من شراء هذه الدولارات على سعر السوق الحرة. وإذا نجح في هذه المحاولة، سيؤمّن المزيد من الدولارات التي سيستخدمها في تمويل الحالات الطارئة من دون المسّ بالاحتياطي الإلزامي.

انطوان فرح

حلول… لما تبقّى من الوطن

 

قد تكون الأمور على ما هي عليه الآن في غاية اللا معقول، وقد يكون توصيفها أقله بجهنم. وللذين لا يزالون لا يعترفون بأهمية الجلوس مع صندوق النقد الدولي والخصخصة، قد يكون حان الوقت لتغيير تفكيرهم، علماً أنّهم لا يزالون يراهنون على آخر نفس في هذا الوطن.

لا يبالي أسياد الطبقة السياسية بما يجري للناس. يتقاسمون ما بقي وينهشون في هذا البلد فساداً وعبثاً، مما جعلنا نعيش الظلمة مرتين: ظلمة إنهيار قطاع الكهرباء، بعد سنين من وعود باتت بالية، وظلمة لقمة العيش التي باتت غير متوفرة لأكثرية الشعب اللبناني. وإننا لا نبالغ حين نقول إنّ أكثر من 50% من الشعب بات يعيش تحت خط الفقر، والمعادلة واضحة وبسيطة، لا سيما وأنّ معدل متوسط الأجور هو ما يوازي 50 دولاراً أميركياً مع أسعار مدولرة، وجامعات أصبحت تعتمد دولار المصارف في تعاطيها مع طلابها.

هذه المراجعة البسيطة كافية لمن عنده ذرة ضمير وعقل، لأخذ الأشياء على محمل الجدّ والجلوس مع صندوف النقد الدولي، علماً أنذ شروطه لن تساير أحداً، وقد تكون موجعة في أكثر نواحيها، لا سيما وأنّ القطاع المصرفي قد أفلس وانهارت آخر مداميكه، بعدما تآمر عليه السياسيون وبعض أصحاب المصارف، وأخذوا رهينة جنى عمر شعب صدّق ما قالوه بأنّ الفوائد يجب أن تكون عالية، بينما الفوائد في جميع أنحاء العالم لامست الصفر، وكانت تحت الصفر في بعضها. وصدّقوا ما قاله حاكم المركزي بأنّ الليرة بألف خير حتى اعتقد بعضهم أنّها كذلك. وما التعاميم التي تصدر من المركزي سوى إستدراكات جاءت كخبطٍ عشوائي، وأطاحت الفكر الإقتصادي والمالي والمصرفي على حدّ سواء، وبتنا نرى أمرين، إما أنّ المركزي على حق، وهنا نكون قد أطحنا كل الآراء والدراسات الإقتصادية، أو أننا نلعب السحر في إقتصاد فقد آخر ركن فيه، بالتكافل والتضامن بين أركان الدولة والمركزي والمصارف.

أما الحكومة الموعودين بها، فهي ليست مصدر ثفة، وهي إمتداد سنوات من المحاصصة والطائفية ونهش ما تبقّى في هذا الوطن. وليس غريبا أن يكون الوضع اللبناني وأزمته من أكثر الأوضاع خللاً في القرن الماضي والحاضر. هذا الوضع يذكّرنا إلى حدٍ كبير بألمانيا في السنوات العشرين الأولى من القرن الماضي، حيث باتت العملة فيها لا تساوي شيئاً، واضطر المسؤولون فيها إلى تغيير هذه العملة. والأمر ليس بعيداً بالنسبة للبنان، مع دولار من دون سقف، ومافيا سياسيين تتحكّم به، وتضخّم لامس حداً لا يوصف.

لذلك، وهنا أتوجّه إلى هؤلاء الذين سوف يجلسون مع صندوق النقد الدولي، أن يكونوا على إستعداد لشروط قاسية، أهمها تحرير سعر الصرف، ورفع الدعم عن المحروقات والخصخصة (وهذا أمر قد لا يعجب بعض المستفيدين لاسيما في قطاع الكهرباء)، والذي، ولعلم الجميع يشكّل نصف الدين العام مع خدمات باتت تهدّد أمن المواطن في صحته وعيشه ومستشفياته، وبعد وعود طالما سمعناها، عمّا سوف يحصل من تحسن في الخدمات. لذلك، قد تكون الخصخصة أو تأجير القطاع لشركات خاصة أمراً ضرورياً ومفيداً، مما يعني خدمات أحسن وجباية أفضل وسرقات أقل مما نحن عليه الآن.

ودولرة الإقتصاد خطرة في بداية الطريق، لكنها قد تكون باب حل إذا ما قرّرنا إستبدال البنك المركزي، والذي أثبت فشله وعدم درايته بأمور المال والإقتصاد ولعبته الـ Ponzi scheme، أو التي أودت بأصحابها إلى السجون (في أميركا)، بمجلس نقد يكون منقذاً لوضعية باتت تهدّد الأمن القومي والإجتماعي، وتجعل البلد رهينة عدد لا يتجاوز أصابع اليد من السياسيين الذين، وبحجة المدافعة عن حقوق طوائفهم، أودوا بنا إلى خراب لا يوصف ولا يمكن تخيّله. ومجلس النقد الذي اعتمدته العديد من الدول للخروج من أزماتها في القرن الماضي، لا سيما وأنّه منذ العام 2019 ولغاية اليوم لبنان يمرّ بأزمات ثلاث:

أزمة نقدية.

أزمة ديون.

أزمة إقتصادية، حيث زادت نسب البطالة وتراجع الناتج وساعد في ذلك موجة الكورونا التي اجتاحت العالم أجمع.

هذه الأزمات مع أزمة شح الدولار في السوق المحلية، وعدم وجود سلطة سياسية لأخذ قرارات بنّاءة تساعد في الخروج من الأزمة، كلها تدل الى أنّ مجلس النقد قد يكون العامل الوحيد الذي سوف يساعد البلد في الخروج تدريجياً من أزمته. وحسب Steve Hank، الإقتصادي في جامعة Baltimore، انّ مجلس النقد سوف يساعد في ضبط التضخم الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة 124 % حسب Hank.

وسيساعد مجلس النقد تدريجياً في ضبط مسار العملة والخروج مما نحن فيه، ويمنح ثقة في الإقتصاد، يضبط التضخم، مع فوائد متدنية. هذه النتائج الأولية المتوقعة من مجلس النقد، تساعد في الإنقاذ، ولئلا نكون قد أخذنا البلد الى جهنم كلياً، كما وعدونا.

بر. غريتا صعب

سلامة: تستطيعون تأميم الأموال ولكن…

 

كان الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، ومن باب التهكّم يسأل: اذا اتصلتُ وطلبتُ التحدّث الى الاتحاد الاوروبي، من يجيبني؟ وكان بسؤاله يريد تسليط الضوء على انّه لا وجود لوضعية حقيقية (Status) لهذا الاتحاد. السؤال نفسه تستطيع ان تطرحه الدول الراغبة في الاتصال بالدولة اللبنانية، من سيجيب؟

أصبح واضحاً انّ الأخطر والأبشع والأقسى من الكارثة المالية والاقتصادية والحياتية التي وصل اليها اللبنانيون، هو غياب أي نوع من أنواع الادارة للأزمة. وقد تقلّصت طموحات الناس اليوم، ولم يعد المطلوب معالجة الفاجعة بل فقط ادارتها لتخفيف المآسي. واذا كان نجاح أي خطة إنقاذ مالي يستند الى مبدأ العدالة في توزيع الخسائر، فإنّ تحاشي الانفجار الاجتماعي، والانهيار الكامل يستند الى مبدأ العدالة في توزيع الاضرار. هذا التوزيع لا يمكن ان يتمّ سوى من خلال خلية أزمة تدير الكارثة بانتظار الفرج.

المطلوب اليوم، جهة مسؤولة تتولّى اتخاذ القرار في كيفية ادارة الوضع المالي بانتظار موعد الخطة الإنقاذية، والتي لا يبدو انّها ستبدأ قبل الانتخابات النيابية المقبلة، بما يعني انّ امامنا عام كامل تقريباً ينبغي ان نجتازه بأقل أضرار ممكنة.

هذا الغياب التام لأي نوع من انواع الإدارة للأزمة، يفسّر ما جرى في ملف رفع الدعم عن المحروقات. وبرغم انّ رفع الدعم مطلوب، وقد تبيّن انّ القسم الاكبر من الاموال يسرقها المهرّبون، لأهداف تجارية كانت أو سياسية، لكن ذلك لا يمنع انّ وقف الدعم اليوم من دون إجراءات رديفة تواكبه، سيشكّل كارثة اجتماعية لا قدرة للعائلات على تحمّلها. وبالتالي، لا بدّ من إجراءات مواكبة تأخذ في الاعتبار ما يلي:

اولاً- ايجاد طريقة لتأمين الكهرباء للمواطن بكلفة منطقية قادرٌ على تحمّلها. وهناك مجموعة افكار مطروحة، سواء على مستوى كهرباء المولّد، او بالنسبة الى مؤسسة كهرباء لبنان، التي تؤكّد انّها قادرة على زيادة ساعات التغذية بواقع الضعفين في حال تأمّن الفيول. وهذا الامر يستتبع زيادة التعرفة، لخفض حجم خسائر المؤسسة.

ثانياً- تأمين نقليات مخفّضة لموظفي القطاع العام والخاص من خلال، زيادة بدل النقل اليومي، أو خلق نظام بطاقة تُوزّع على السيارات بواقع صفيحتين في الشهر للسيارة، بما يعني تأمين تمويل الخطوة بحوالى 300 مليون دولار سنوياً.

ثالثاً- تعويض مالي لتحسين القدرة الشرائية للمواطن من خلال البطاقة التمويلية التي ينبغي ان تسدّ قسماً كبيراً من ارتفاع اسعار كل السلع ربطاً بارتفاع اسعار المحروقات بواقع اربعة أضعاف تقريباً (400%). وتشير التقديرات الى انّ السلة الاستهلاكية قد ترتفع بين 30 و40%، وهي نسبة لا قدرة للبناني على تحمّلها.

إلى جانب هذه الاجراءات المطلوبة، ينبغي حسم ملفات حيوية اخرى ترتبط بالقطاع الصحي، وتأمين حدٍ معين من الادوية، وضمان وصول الرغيف الى المواطن. كل هذه الإجراءات لا تحتاج الى اجتراح العجائب بل الى هيئة مسؤولة لديها سلطة التقرير والتنفيذ.

إذا نجحت مساعي تشكيل الحكومة ينبغي ان تتحول الحكومة نفسها الى خلية أزمة، وان تتحمّل مسؤولياتها في ادارة الوضع لمنع الانفجار الاجتماعي. واذا لم تنجح المساعي، لا شيء يمنع تشكيل خلية أزمة مكوّنة من وزراء في حكومة تصريف الاعمال، قضاة، أمنيين واقتصاديين… لأنّ ما يجري أخطر من أن نهمل مواجهته بذريعة أنّ الدستور لا يسمح، والاصول لا تتيح…

البلد اليوم، ورغم مأساته يمتلك حوالى 31 مليار دولار غبّ الطلب. وهذا احتياطي ليس للتبذير كما حصل حتى اليوم في الدعم، بل انّه في خدمة منع زوال وطن، بانتظار الإنقاذ. وهذا مضمون الرسالة التي حاول حاكم المركزي ايصالها الى من يعنيهم الامر: الاموال الموجودة في المركزي، الدولارات والسبائك الذهبية، مقدّسة ولا يمكن هدرها على السماسرة والمهرّبين وأصحاب الغايات السياسية الكبرى. تستطيعون تشريع قانون لتأميم الاموال واستخدامها بالقوة، لكن اعلموا انّ المركزي انفق 850 مليون دولار في فترة قصيرة لدعم البنزين والمازوت، ليتبيّن له انّ المواطن محروم من البنزين والمازوت. فهل هذا هو مفهومكم للاستمرار في الدعم؟

البلد يواجه أزمة تفكير.لا أحد يفكر، بل هناك فقط من يقرّر من دون ان يفكّر، والنتيجة نلمسها كل يوم، وآخرها في بلدة التليل في عكار، والحبل على الجرار.

انطوان فرح

عاجزون في وجه استعادة النمو

أي متعمق في دراسة الاقتصاد اللبناني يؤكد ان معدل النمو سلبي، ومعدل التضخم مخيف، وتباين اسعار صرف الليرة عند استعمالها مثلاً لشراء الالبسة ودفع اقساط المدارس، أو في المطاعم والملاهي يعني افلاس اصحاب الودائع بالعملات الاجنبية، والذين يحصلون على اسعار محددة لا تساوي 20% من اسعار صرف الدولار في السوق السوداء مقبلون على الافلاس الجماعي.

الحاجز الاول في وجه النمو يتمثل في اصرار رئاسة الجمهورية على تخصيص الرئيس بصلاحيات ليست له في عملية تسمية الوزراء، وهو بتجاوزه للمنع الدستوري يطلق يد رئيس “التيار الوطني الحر” بالمطالبة بحقوق المسيحيين.

 

الرئاسة تتجاوز شروط دستور الطائف، وبالتالي ربما تتعرض لمناكفة برلمانية قانونية حول استمرار الرئيس في منصبه، والرئاسة تتغاضى عن ان دور “التيار الوطني الحر” نيابيًا وشعبيًا قد تقلص. فكتلة نواب “القوات اللبنانية” اصبحت اكثر عددًا من كتلة التيار والاصوات التي حظي بها النواب المستقيلون من التيار هي دون عدد مناصري “القوات” كما أنها دون عدد الذين صوتوا لنواب اصبحوا مستقيلين او مستقلين من وعن التيار.

تجميد تشكيل الحكومة على ابواب رئاسة الجمهورية يحجب ايضًا امكان انجاز اتفاقات مع صندوق النقد الدولي، وصندوق النقد الاوروبي، والبنك الدولي – الذي اوقف قرضًا لإنجاز السدود حيث لم يشهد خبراء البنك اي تطوير على هذا الصعيد – وتجميد تشكيل الحكومة يحجب اهتمام الدول العربية ومؤسسات الاقراض التي تتوافر في الكويت، وقطر والسعودية والامارات العربية.

كل ما سنحصل عليه، في حال استمرار الجمود السائد، في الاشهر التي ستنقضي حتى نهاية عام 2022 هو الآتي في احسن الاحوال:

374 مليون دولار بمساعي الرئيس الفرنسي.

850 مليون دولار من صندوق النقد الدولي من دون مفاوضات طويلة لان هذه الاموال تتوافر من صندوق ساهم لبنان في تأسيسه، اي ما يسمى حقوق السحب الخاصة التي تتوافر للدول الاعضاء لتجاوز مشاكل موقتة.

300 مليون دولار يعاد توفيرها بعد تجميدها من قِبل البنك الدولي اعتراضًا على تأخير تنفيذ السدود او اهمال الاعمال التحضيرية لذلك.

تبلغ هذه الاموال 1.5 مليار دولار ربما يضاف اليها تحويلات لمصلحة الجيش اللبناني من قِبل الاميركيين والبريطانيين والفرنسيين والايطاليين تبلغ 250 مليون دولار.

يضاف الى المساعدات الدولية تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، وبالتأكيد تجاوز عددهم عدد اللبنانيين العاملين حاليًا في لبنان، ورغم تدني مستوى مستورداتنا تبقى المشكلة الرئيسية القدرة على تأمين حاجات الطاقة سواء من لبنان او الخارج، وكل من الاردن ومصر باستطاعتهما امدادنا بحاجات ملحّة لانتاج الكهرباء، وفقدان انتاج الكهرباء يؤخر لبنان عن عصر التكنولوجيا، ويقفل الباب امام رغبة اي مؤسسة اجنبية في العمل من لبنان.

نكتفي هنا بالقول والتأكيد ان تبخر ما يسمى احتياط مصرف لبنان كان بسبب انحسار تحويلات الاستثمارات على البلد وتحويلات اصحاب الاموال للايداع، ووزارتا الطاقة والاتصالات اجهضتا اي امكانية للمحافظة على الاحتياط او زيادته.

وهنا نأتي الى الحاجز الثاني الذي يواجهه 1.5 مليون لبناني ولبنانية من اصحاب الودائع لدى البنوك والتي غالبيتها بالدولار (نسبة 75%)، والتي انحسرت خلال سنتين من 142 مليار دولار الى ما دون المئة مليار.

المصارف لا تؤمّن للمودعين اموالهم بالعملة او العملات التي اودعوها لديها، وصاحب حساب بالدولار يُسمح له بسحب ما يعادل 2000 دولار شهريا، يحوز 3.9 ملايين ل.ل. لكل الف دولار، وهذا المبلغ بالكاد يوازي نسبة 20% من اسعار السوق السوداء.

والمصارف حينما تؤمن جزءًا بسيطاً للمودع من حساباته تفرض عليه رسوم سحب، علمًا بان المال لصاحبه ولم يعد يجني اي فوائد منه.

والمصارف في حال اصدارها شيكات مصرفية تُستعمل من قِبل اصحابها لتسديد اشتراكات الضمان الاجتماعي او ايجارات المنازل، تفرض على طالبي هذه الشيكات رسما يساوي 20 دولارًا، سواء وازى المبلغ المطلوب 100 دولار او 1000 دولار، وهذه ممارسة تناقض جميع اسس التعامل المصرفي.

عدد المصارف التجارية والاستثمارية يتجاوز الـ 80 مؤسسة، وكان للمصارف اللبنانية نشاط في الخارج اسهم في توافر نسبة 30-35% من الودائع ونسبة 40% من الارباح.

اليوم عدد البنوك اللبنانية في الخارج الى تناقص والبنوك الكبيرة تسوّق فروعها الملحوظة مثل بنك عوده، وبنك لبنان والمهجر، وسياسات جمعية المصارف وبخاصة منها توجهات رئيسها تناقض استمرار الثقة بالبنوك، وللتوضيح فان صاحب حساب ادخاري يوازي 100 الف دولار لا يستطيع بمقتضى الممارسات الحالية سحب كامل وديعته إلا على مدى اربع سنوات، واية مبالغ اكثر تستوجب سنوات ربما يكون البنك خلالها قد تقوّض.

مشكلة البنوك لن تُحل إلا بخطوات للدمج والحجز على املاك واموال رؤساء مجالس ادارة البنوك الكبيرة المعرضة للافلاس.

ربما من المفيد قبل انهاء موضوع البنوك الاشارة الى تطورات مهمة على هذا الصعيد عالميًا، ومن هذه اخترنا بعض الملامح.

البنك الاقدم عالميًا والمؤسس في القرن الرابع عشر في ايطاليا تعرّض لخسارات تستوجب انقاذه ثانية، والمرة الاولى التي انقذ بها كانت عام 2008/2009 عند اندلاع الازمة المالية العالمية.

في المقابل بنك سويسرا المركزي اصبح احتياطه يفوق التريليون دولار، الامر الذي يرفع سعر العملة السويسرية ويؤخر الاستثمارات في البلد. وعام 2008 بعد اندلاع الازمة المالية العالمية كان بنك كريدي سويس مفلسًا وكذلك بنك Union De Banques Suisses وقد جرى انقاذ المصرفين من قِبل الدولة والبنك المركزي السويسري.

في الآونة الأخيرة تعرّض كريدي سويس في دائرة خدمة الزبائن من الشرق الاوسط، لعملية احتيال بلغت خسارتها 5.5 مليارات دولار. ورئيس دائرة ادارة الاموال الشرق الاوسطية في البنك شاب لبناني اسمه برونو ضاهر، وهو مع فريقه المكوَّن من 20 ناشطًا استقطب للبنك حافظة اموال تبلغ 82 مليار دولار، اي تقريبًا 80% من الودائع في لبنان.

اضافة الى الخسارة الكبيرة التي دفعت برونو ضاهر الى التغيب في فرصة غير محددة، يواجه البنك خسارة 2.2 ملياري دولار مع شركة بريطانية تعمل في مجال ادارة الاموال على نطاق عالمي.

على رغم الخسارتين يستمر البنك في عمله والبنك السويسري في دعمه، والايداعات تتدفق مع ان الودائع غير المخصصة للاتجار بالسندات والاسهم يستحق عليها رسوم للبنك بدل استحقاق اية فوائد، وقد تكون لنا دروس من سويسرا.

مروان اسكندر

عشرة أشهر خطيرة… بحكومة وبلا حكومة

 

لا تبدو المؤشرات المتعلقة بتأليف الحكومة إيجابية حتى الآن. وهذا يدعو الى احتساب الظروف القاسية التي قد يمرّ فيها اللبنانيون في الفترة المقبلة. لكن القلق حيال البقاء بلا حكومة لا يعني انّ التأليف بداية الخلاص. هناك مخاض مالي واقتصادي قد يكون طويلاً، لكنه لن يبدأ قبل إجراء وظهور نتائج الانتخابات النيابية المقبلة.

الأشهر العشرة التي تفصلنا عن الموعد المبدئي للانتخابات النيابية المقبلة ستكون صعبة وثقيلة على اللبنانيين، سواء بوجود حكومة او من دونها. وقد أصبح واضحاً انّ الأزمات الحياتية ستصبح أشدّ خطورة، ليس بسبب عدم توفر الموارد المالية لدعم السلع الحيوية كالمحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية فحسب، بل لأنّ لا وجود لخلية تدير الأزمة وفق المعطيات والقدرات المتوفرة. وعلى سبيل المثال، تعطّلت الاعمال وتكاد المؤسسات تقفل ابوابها قسراً بسبب عدم توفر المازوت، كذلك زحفت العتمة الى المنازل، وتتعرّض المستشفيات والافران لمخاطر النقص في المازوت، وبات المواطن يعيش في كابوس مرعب. ومع ذلك، المازوت موجود في السوق السوداء وبالأسعار السوداء، بما يؤكّد انّ المشكلة ليست فقط في القلّة التي وصلنا اليها، بل أيضاً في استمرار الغيبوبة على مستوى ادارة الأزمة.

هذه الغيبوبة قد تتراجع حدّتها قليلاً في حال تمّ تشكيل حكومة، وهذا هو الفارق الوحيد الذي قد نشهده على المستوى الاقتصادي. أما المعالجات المرتبطة اساساً بمعالجة جذور الأزمة، فهي لا تزال بعيدة، ولن تكون على يدي حكومة ستنحصر مهمتها في تقطيع الوقت وصولاً الى الانتخابات النيابية المقبلة.

حتى في مسألة سعر صرف الليرة، لن يُحدث تشكيل الحكومة، وكما يتوهم البعض، فارقاً شاسعاً، لكنه قد يحدُّ قليلاً من سرعة الانهيار المتوقّع لليرة في الفترة المقبلة. وكما حصل في البداية، قد تتأثر السوق الحرة بأي تطور سياسي ايجابي، لكنها لن تتأخّر في تصحيح مسارها، لتعكس في النتيجة الوضع المالي والاقتصادي الحقيقي المهترئ.

يبقى انّ الاستحقاقات الصعبة ستبقى قائمة بعد الانتخابات، وبصرف النظر عن النتائج، لأنّها المرحلة التي قد يبدأ معها مسار الحوار الداخلي (بين القوى السياسية) والخارجي (مع صندوق النقد والمجتمع الدولي) لتحديد معالم خطة الإنقاذ، والتي ينبغي ان تستند الى رؤية واضحة في شأن الوظيفة الاقتصادية التي سيختارها لبنان لنفسه، ليُبنى على الشيء مقتضاه بالنسبة الى خطة الانقاذ. وهذا يعني انّه لن يكون متاحاً التوافق على خطة موحّدة، اذا لم تتوحّد المواقف حيال اختيار الوظيفة الاقتصادية. وسيكون السؤال الاول البديهي: هل لا يزال لبنان قادراً وصالحاً ليلعب دور مصرف المنطقة، والرائد في تقديم الخدمات المالية؟ وهل لا تزال بنية الاقتصاد تسمح بالانطلاق بتوزيع النسب وفق ما كان عليه الوضع قبل الأزمة؟ أي أن تبقى حصة الاسد في الاقتصاد الوطني لقطاع الخدمات، ومن ثم القطاع السياحي فالصناعة ثم الزراعة…

ليست الاجابات عن هذه الاسئلة، هي المهمة الأصعب في هذا الملف، بل تكمن الصعوبة في الوصول الى قاسم مشترك يسمح بالاتفاق على وظيفة اقتصادية مناسبة. والمشكلة هنا، انّ الحوارات لن تكون بمثابة صراع فكري حول نظريات اقتصادية معتمدة في العالم، بل سيكون صراعاً ايديولوجياً يرتبط بمشاريع كل طرف سياسي في نظرته الى هوية لبنان وتموضعه في صراعات المنطقة.

وبالمناسبة، تزخر تجارب الدول بنماذج اقتصادية تؤكّد في مجملها ان لا وجود لخطط تصلح لكل الدول، بل انّ القواسم المشتركة تنحصر في الحوكمة والشفافية والمناخ السياسي الملائم، بالاضافة الى التسهيلات الادارية المطلوبة. وخارج هذا الاطار، لكل دولة معطياتها وظروفها، والتي على أساسها تعتمد وظيفتها الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، لا الحصر ولا التشبيه، اختارت دولة اللوكسمبورغ في اوروبا ان تكون مركزاً مالياً متطوراً، وان تستند في نموها الاقتصادي على الصناعة المصرفية. وأدّى ذلك الى تحولها الى أغنى دولة في الاتحاد الاوروبي وفق مقياس دخل الفرد. وقد وصلت نسبة الدخل الوطني (GDP) للفرد (PER CAPITA) الى 125 الف دولار.

في المعطيات الحالية، مشكلة لبنان، وفي حال بقيت الظروف الاقليمية على حالها، انه لن يكون قادراً على اختيار وظيفة اقتصادية تناسب موقعه ومعطياته وقدرات شعبه، بل من المرجّح ان تجري تسوية (compromise) على الطريقة اللبنانية المعتمدة، بحيث ستبقى وظيفة البلد الاقتصادية مُبهمة، وهنا تكمن المشكلة في المستقبل، اذا وصلنا الى هذه المرحلة.

انطوان فرح

هل حان الوقت لبيع دولارات المنزل؟

هل نبيع الدولار في هذه المرحلة؟ هل من المُقدّر ان يهبط سعر صرف الدولار الى مستويات متدنية في حال نجاح الرئيس المكلّف في تشكيل الحكومة العتيدة؟ هل الوقت مناسب لشراء الدولار ما دام سعره تراجع قليلاً عن سقف الـ23 الف ليرة الذي بلغه عقب اعتذار الحريري؟

هذه الاسئلة يطرحها اللبنانيون اكثر من سواها في هذه المرحلة. ولمزيد من الدقة، الغالبية تسأل اذا ما كان الوقت مناسباً لبيع الدولارات المُخزّنة في المنزل، تحسباً لهبوط دراماتيكي في سعر صرف الدولار. هذه الاسئلة إن دلّت الى شيء انما تدلّ الى امور ثلاثة:

 

اولاً، انّ قسماً لا يستهان به من اللبنانيين يخزّنون الدولارات، وهذا أمر بديهي.

 

ثانياً، انّ اللبناني لا يزال يؤمن بأنّ الليرة قادرة على استعادة عافيتها بسرعة، بدليل انّه وبمجرد تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، انهالت الاسئلة في شأن بيع الدولارات.

 

ثالثاً، انّ وضع السوق الحرة هش، ويمكن ان يتفاعل بسرعة مع اي تغيير سياسي ايجابي، ليس لأنّ ولادة أي حكومة يمكن ان تغيّر المعادلة الاقتصادية، وتعيد الامور إلى طبيعتها، بل لأنّ كميات الدولارات التي قد تنزل الى السوق ستساهم في تخفيف الضغط على الليرة، ولو لفترة محدّدة.

 

ماذا يمكن ان نستنتج من هذا الواقع، وهل حان الوقت فعلاً لكي يبيع المواطن مدخّراته الدولارية؟

 

لا بدّ من إعادة التأكيد، انّ سعر الليرة المنهارة، وبصرف النظر عن التأثيرات النفسية المرتبطة بالوضع السياسي، لديه جانب مالي واقتصادي لا يمكن تجاهله لدى إجراء أي تقدير نظري للسعر الذي يفترض ان تبلغه الليرة. وهنا لا ينبغي ان نهمل الحقائق الرقمية التي تشير كلها الى انّ الليرة، حتى لو وصلنا الى وضع سياسي طبيعي، وهذا أمر مستبعد حتى الآن، لا تستطيع ان تتجاوز سقفاً محدّداً يرتبط بحجم الاقتصاد المنكمش بنسبة كبيرة تتراوح بين 40 و50%، وهي من نسب الانكماش القياسية التي قلّ أن شهدتها دول عانت الافلاس. كذلك، ينبغي ان نأخذ في الاعتبار انّ هناك حوالى 80 مليار دولار وربما أكثر، ضائعة ولا فائدة من البحث عنها لأنّها تبخّرت. كما يجب ان نحتسب نضوب الاحتياطي بالعملات، في مصرف لبنان، من دون ان ننسى سندات اليوروبوند، التي ينتظر الدائنون التفاوض حولها. كذلك، هناك مسألة التعقيدات التي يواجهها القطاع المالي المتمثل بالمصارف. الى كل ذلك، تواجه المالية العامة أزمات اضافية، وهي عاجزة عن تأمين التوازن المالي المطلوب لتخفيف الضغط على ميزان المدفوعات. وأخيراً، لا يزال الدعم مستمراً، سواء للمحروقات أو الطحين أو الدواء، ولو انّ وتيرته تراجعت وتقلّصت قياساً الى ما كان عليه في السابق، الّا انّ وقفه نهائياً ستكون له تأثيرات جذرية في مسألة سعر الصرف.

 

كل هذه العوامل، بالإضافة طبعاً الى الوضع السياسي العام، والمقصود هنا ليس المشهد الحكومي، بل المشهد الأكبر المتعلق بتموضع لبنان في نقطة يبدو عالقاً فيها، بسبب صراع المحاور، وتأثيرات وجود «حزب الله» على الموقف اللبناني حيال هذا الصراع. كل ذلك يقود الى مشروعية التشكيك بالتفاؤل حيال تغييرات ايجابية طويلة المدى في سعر صرف الليرة، خصوصاً انّ تجارب الدول التي سبقتنا الى الانهيارات المالية، تفيد بأنّه من النادر ان تتمكّن دولة من إعادة تحسين سعر صرف عملتها في خلال فترة التعافي وتنفيذ خطط الإنقاذ. وبالتالي، تعمد غالبية الدول في هذه الحالة الى القبول بواقع بقاء سعر عملتها منخفضاً، أو تعمد الى خلق عملة جديدة تحدّد قيمتها وفق الوضع المالي والاقتصادي المستجد، لتحلّ مكان العملة القديمة. وبما أننا في لبنان ما زلنا بعيدين من الوصول الى هذه المرحلة، يمكن الاستنتاج انّ موعد بيع دولارات المنزل لاقتناء الليرة، لم يحن بعد.

انطوان فرح

مسار وتركيبة الدين العام في لبنان: دروس من الماضي.. لخيارات المستقبل

منذ حصول لبنان على استقلاله عام 1943، إقتصر دور الدولة اللبنانية بشكل أساس على ضمان الأمن الداخلي والخارجي، والعدالة، وتنفيذ مشاريع الأشغال العامة، والتنمية، بما يعكس محدودية دور الدولة وحيادها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي. وقد انعكست هذه الروحية في المالية العامة على مبدأ «دولة محايدة ومالية عامة محايدة»، وتترجمت فوائض في المالية العامة، الى أن بدأ يتزايد دور القطاع العام في الإقتصاد في الستينات، ثم اندلعت حرب لبنان 1975-1990 وتلتها فترة إعادة الإعمار.. بماذا اتسمت خيارات المالية العامة في لبنان ما قبل مرحلة اعادة الاعمار في التسعينات؟ أي دروس يمكن استخلاصها من الماضي؟ لأي خيارات في المستقبل؟

في الواقع، لقد اعتُبر عام 1962 عام التحول من حيث المالية العامة في لبنان: فالموازنة العامة، التي كانت تقليدياً تسجّل فوائض، أصبحت تعاني من عجز للمرة الاولى، وبلغ معدل العجز 13.2% من النفقات. منذ عام 1962 حتى عام 1975، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام 1971 و 1972 و 1974 عشية اندلاع حرب 1975.

منذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني من عجز مالي، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، بل بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب.

مع تفاقم الحرب عام 1978، أصبح من الصعب الحصول على أرقام دقيقة وموثوقة تتعلق بالوضع الاقتصادي العام. وقد توقفت الدولة اللبنانية عن نشر إحصاءات الحسابات القومية، بسبب الأحداث وتوقف عمل العديد من الهيئات والدوائر العامة.

ولوحظ أنّ الإنفاق العام تميز خلال سنوات الحرب بالفوضى وانعدام السيطرة المركزية. خلال تلك الفترة، لم تكن الدولة تعرف بشكل دقيق لا مقدار نفقاتها ولا ناتج إيصالاتها، ولهذا توقفت عن إغلاق حسابات الموازنة من 1979 إلى 1993.

رغم تراجع وضياع السيطرة على الإيرادات وصعوبة تحصيل الضرائب، لم تبذل الدولة جهوداً كبيرة للحدّ من الإنفاق، إلّا خلال بعض سنوات الحرب الأخيرة، بفضل تشدّد مصرف لبنان حينها في تمويل الخزينة. وقد أدى التطور غير المتكافئ والمتناقض بين الإيرادات والنفقات إلى إطلاق عملية تزايد الاختلال في المالية العامة.

بين عامي 1982 و 1985، زادت النفقات بنسبة 178%، فيما زادت الإيرادات بنسبة 65% فقط. وبين عامي 1986 و 1988، ارتفعت النفقات بنسبة 702%، كما ارتفعت الإيرادات بنسبة 250%. وبين عامي 1988 و 1990، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، كانت الزيادة في الإنفاق تعادل تقريباً ثلث الزيادة في الإيرادات، من دون تقليص عجز الموازنة.

وتشير تقديرات وزارة المالية إلى استمرار عجز الموازنة خلال المرحلة الجديدة من الحرب، حيث بلغ نحو 28.5% من الإنفاق عام 1977، و 27.8% من الإنفاق عام 1978، و 38% من الإنفاق عام 1981.

تشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين 1979 و 1980، هو بسبب دخول تدفقات رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية. وقد بدأ النمو يتراجع منذ النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الوضع الأمني. منذ تلك الفترة، فقدت الدولة السيطرة الكاملة على إيراداتها ونفقاتها، واستند تحليل حالة المالية العامة الى التقديرات والأرقام غير الرسمية.

توقف نشر حسابات الموازنة على النحو الذي أقرّه الدستور وقانون الحسابات العامة استمر من العام 1979 حتى 1993. إذ اضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها، وبلغ الإنفاق الاستثماري 24% من إجمالي الإنفاق عام 1981، وخصّصت الدولة 22.2% من موازنة 1982 للمشاريع الاستثمارية.

وهكذا، من أجل تمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والعسكري، أصبح العرض النقدي منذ عام 1982 يتجاوز بشكل واضح الاحتياجات الاقتصادية للبلاد. وبدأ العملاء الاقتصاديون في «الهروب» من الليرة اللبنانية نحو العملات الأجنبية، لا سيما منها الدولار الأميركي؛ مما عزز عملية التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. ومن هنا دخل الاقتصاد اللبناني في حلقة مفرغة، حيث ضاعف التضخم عجز الموازنة، وتضاعفت طباعة النقد، وفُقدت الثقة بالعملة الوطنية، وتسارعت دولرة الإقتصاد اللبناني.

وبلغت نفقات الميزانية بين عامي 1982 و 1985 نحو 60 مليار ليرة لبنانية، بينما لم تتجاوز إيرادات الموازنة 13.8 مليار ليرة لبنانية. وبذلك، بلغ العجز التراكمي خلال تلك الفترة 77% من إجمالي نفقات الميزانية. في الوقت نفسه، تضاعف الدين العام الداخلي 4 مرات خلال الفترة نفسها، من 14 مليار ليرة لبنانية في نهاية عام 1982 إلى حوالى 54.5 ملياراً في عام 1985.

بعد عام 1985، وجد لبنان نفسه بلا ميزانية، ولم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. في الوقت نفسه، واصلت الدولة الإنفاق على أساس الاعتمادات المنصوص عليها في الموازنة الأخيرة التي صادق عليها مجلس النواب، أي موازنة عام 1985. غير أنّ التضخم والانخفاض السريع في قيمة الليرة اللبنانية جعلا هذه الاعتمادات منصوصاً عليها في موازنة عام 1985، غير كافية لتغطية نفقات الدولة. ومنذ ذلك الحين، أقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام 1985، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.

بين عامي 1986 و 1988، مرّ لبنان في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، وتراجعت قيمة العملة الوطنية أكثر، ووصل معدل التضخم إلى أرقام قياسية تخطّت عام 1987 معدل 487% ، وكان العام الأصعب على الاقتصاد اللبناني بأكمله، باستثناء القطاع الصناعي البحت الذي كان متقدّماً، ومع زيادة الصادرات بنسبة 47% لتصل إلى 70% من الإنتاج الصناعي. وأدّت الزيادة في الصادرات وانخفاض الواردات إلى تحسن وضع الميزان التجاري، حيث انخفض العجز التقليدي من 1.6 مليار دولار عام 1986 إلى 1.3 مليار دولار عام 1987. واستمرت الصادرات في الزيادة عام 1988 لتبلغ نسبة نمو 26%، مقارنة بعام 1987 و 42% مقارنة بعام 1986، على الرغم من تدهور الوضع الاقتصادي وخصوصاً الوضع النقدي. كان ميزان المدفوعات، الذي كان حتى ذلك الحين فائضاً، باستثناء عام 1976 الذي كان يعاني من العجز.

في الوقت نفسه، استمر عجز الموازنة في الزيادة، ولا يزال يتمّ تمويله من خلال زيادة طباعة النقد، وتضخيم الدين العام الداخلي (بالعملة الوطنية). وارتفع عجز الموازنة بشكل مطرد من 82.2% من الإنفاق عام 1986 إلى 86% من الإنفاق عام 1987 و 92.2% من الإنفاق عام 1988.

واضطرت الدولة، التي لم يكن لديها فعلياً ديون داخلية ومديونية خارجية منخفضة للغاية، إلى اللجوء إلى الاقتراض بكثافة، وفرضت على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وبلغت سندات الخزينة لدى المصارف التجارية ما يعادل 2.9 مليار دولار عام 1982 مقابل 150 مليوناً عام 1977. وانخفض الدين العام الذي زاد من 54.45 مليار ليرة لبنانية عام 1985 إلى 521.5 مليار ليرة عام 1988، إلى ما يعادل 114 مليون دولار في عام 1987 بفعل تدهور الليرة اللبنانية.

وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة بشكل حاد. فأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990.

استمرت خدمة الدين العام في السيطرة على الجزء الأكبر من الإنفاق الحكومي، حيث شكلت 30% من الإنفاق في عام 1989 و 26% من الإنفاق في عام 1990.

انتهت فترة الحرب في لبنان في تشرين الأول 1990. وفي عام 1991، شهد لبنان تدفقاً لرؤوس الأموال من الخارج، مما ساعد في تحسين وضع ميزان المدفوعات الذي حقق فائضاً قدره 1.07 مليار دولار، بعد عجوزات عامي 1989 و 1990.

وبعد غياب الموازنة لمدة 5 سنوات، اتسمت نهاية عام 1990 بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبيًا، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة 66% عام 1991 و 92% عام 1992. وتطور الدين العام الداخلي مقوّماً بالدولار من 3.7 مليارات دولار عام 1982 إلى 2.7 مليار عام 1992 (مع تدهور سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي)، وتراجع بذلك الدين العام الإجمالي (الذي يشمل الدين الداخلي بالليرة اللبنانية والدين الخارجي بالعملات الأجنبية) مقوماً بالدولار من 4 الى 3 مليارات دولار للفترة نفسها.

كما أصدر مجلس النواب قانون رقم 42 /1986، يمنع الحكومة من التصرف باحتياطي مصرف لبنان من الذهب الموجود لديه أو لحسابه، أياً كانت طبيعة وماهية هذا التصرف مباشرة أو غير مباشرة…

ويبقى القول، إنّه في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.

وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام 1992، وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و 2011 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك ارتفع الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، ليصبح أكثر من ملياري دولار أميركي للفترة نفسها، فيما كان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت 18 مليار دولار حتى العام 2011 مما رفع الدين بالدولار لأكثر من 21 مليار دولار. واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد …

علماً أنّه بين عام 2002 وعام 2008، اكتسبت الديون بالعملات الأجنبية زخماً بارزاً، عكس نجاح لبنان في الاستفادة من أسواق رأس المال الدولية، لا سيما مع مؤتمرات الدعم الدولية للبنان. فيما بدأ الإتجاه بدءاً من العام 2016 الى خفض خدمة الدين العام، من خلال استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة الى دين بالدولار، بالاعتماد على الهندسات المالية لوزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، وهي المموّل الرئيسي للدولة اللبنانية.

والخلاصة، أنّ الدين العام في لبنان كان حتى مطلع التسعينات بمعظمه بالليرة اللبنانية، لكن تنامى الدين بالدولار بشكل أساسي مع تزايد سلفات الكهرباء وتراكم الفوائد عليها، وتشجّع جميع الأفرقاء المعنيين على زيادة حصة الدين بالدولار من خلال اليوروبوند، رغبة بتخفيض خدمة الدين العام، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من فوائد سندات الخزينة بالليرة اللبنانية بسبب فرق مخاطر العملة، فضلاً عن هدف زيادة الاحتياطي بالعملات الأجنبية، دفاعاً عن خيار ربط الليرة بالدولار على أساس سعر صرف 1507.5، في ظل استمرار الدولرة بمعدلات مرتفعة وتدهور وضع ميزان المدفوعات تحديداً منذ العام 2011… الدروس للمستقبل تبدأ بمعالجة مكامن الخلل…

سهام  رزق الله