أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

مصير الودائع بين غريزة البقاء والوقت الضائع

 

رغم قساوة الظروف التي يمرّ فيها القطاع المالي، ورغم المصير شبه المشترك بين مصرف لبنان والمصارف، إلّا انّ غريزة البقاء تُخفي معاناة كبيرة بين الطرفين، فيما يساهم الوقت الضائع في «تحسين» دفاتر المركزي، وخفض فرص إنقاذ الودائع.

حوالى 50 يوماً مضت على انتهاء مهلة تنفيد التعميم 154، وهي فترة كافية لكي تكون اللجنة المكلّفة تسلّم ملفات المصارف قد كوّنت فكرة اولية عن أوضاع القطاع، وان تكون عملية الفرز أحرزت تقدماً، بحيث أصبح واضحاً من هي المصارف التي نجحت في تنفيذ مندرجات التعميم بالكامل، ومن هي المصارف التي نفذت التعميم جزئياً، ومن هي المصارف العاجزة عن الالتزام بالبندين الاساسيين في التعميم، وهما رفع الرأسمال بنسبة 20%، وتأمين ودائع في حساباتها في المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجموع ودائعها الدولارية.

حتى الآن، هناك تكتّم تام في شأن الخطوط العريضة للنتائج التي عاينها مصرف لبنان. ولا يبدو من المؤشرات المتوافرة وجود نية لفتح هذا الملف قريباً، لأسباب متعددة من أهمها:

أولاً- انّ قدرات مصرف لبنان المادية والمعنوية لا تسمح حالياً بأن يأخذ على عاتقه أي مصرف عاجز عن تلبية شروط إعادة الهيكلة.

ثانياً- انّ التوقيت غير مناسب لفتح الملف على مصراعيه، لأنّ ورشة من هذا الحجم يُستسحن ان تتمّ بالتزامن مع تغيير المشهد العام في البلد، اي بالتماهي مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على خطة إنقاذ.

ثالثاً- المصارف التي سيُحكم عليها بأنّها عاجزة عن الاستمرار، لا حاجة الى كشفها منذ الآن، ما دامت «الوظيفة» التي يضطلع بها المصرف حالياً بسيطة ويمكن ان تستمر، حتى لو كان المصرف بحكم المفلس مع وقف التنفيذ.

رابعاً- لا توجد مصارف كبيرة «مرتاحة» وقادرة على تولّي انقاذ مصارف صغيرة متعثرة كما كان يحصل في السابق.

خامساً- هناك تجاذبات غير مُعلنة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية تنطلق من مبدأ حرب البقاء (survivor war). هذه المواجهة تقوم على مبدأ المنافسة على تنظيف الدفاتر وتحسين الحسابات تمهيداً ليوم «الحساب».

في هذا السياق، يمكن القول انّ المركزي والمصارف، ورغم قناعتهما بأنّهما على مركب واحد، الّا انّ كل طرف منهما يحاول ان يضمن بقاءه، وهذا ما يبرّر أحياناً عمليات التجاذب. ويبدو انّ مصرف لبنان، وبوجود فجوة كبيرة في حساباته، وهو الذي يعتبر انّ هذه الفجوة في دفتر الموجودات والمطلوبات لا يمكن تفسيرها على أنّها خسائر، يحاول ان يضيّق هذه الفجوة مع ضمان عدم وقوعه في مطب التوقّف عن الدفع، كما فعلت الحكومة اللبنانية في آذار 2020. لكن ما هو واضح، انّ تضييق الفجوة في دفاتر المركزي، والاستمرار في الدفع، يؤدّيان عملياً، ومنذ العام 2018، الى زيادة الضغوطات على القطاع المصرفي، والى نقل قسم من فجوة المركزي الى المصارف بسبب الخسائر التي قد تتراكم تباعاً، نتيجة اجراءات البقاء التي اعتمدها مصرف لبنان لتحسين دفاتره.

وبما أنّ مصرف لبنان يُمسك بالدولارات، ويُمسك كذلك بسوق القطع والتحويلات، وبما انّه يعتبر انّه ساهم بسياسته في تأمين ازدهار وأرباح القطاع المصرفي طوال السنوات التي سبقت انفجار الأزمة في العام 2019، فإنّه يفرض اجراءات اليوم تسمح له بضمان الاستمرارية وربما تضييق الفجوة المالية، مقابل تكبير خسائر المصارف التي ستُظهر نتائجها المالية نمواً كبيراً في خسائرها في العام 2020، وستكون الخسائر اكبر بكثير في العام 2021. ذلك انّ مصرف لبنان بات يشطب من ايداعات المصارف لديه، لتلبية حاجات هذه المصارف الى السيولة بالليرة، او حاجتها الى انجاز عمليات خارجية بالدولار. وبهذه الطريقة، ينجح المركزي في خفض الفوائد التي يدفعها الى المصارف مقابل ايداعاتها لديه، والتي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار.

من هنا، من المستبعد ان يلجأ مصرف لبنان، في المدى المنظور، وطالما انّ الحكومة لم تتشكّل، ولم تبدأ مفاوضات الإنقاذ مع صندوق النقد، الى حسم موضوع إعادة هيكلة المصارف، وسيبقى هذا الملف مُجمّداً، وسيواصل المركزي في هذا الوقت الضائع عملية تحسين دفاتره، لكن المفارقة هنا انّه كلما طالت فترة الوقت الضائع، وكلما ردم مصرف لبنان الفجوة، كلما زاد حجم الفجوة في المصارف، بما يعني انّ المودع قد يدفع في النتيجة من حقوقه ثمن الوقت المهدور، والمسؤولة عنه السلطة السياسية دون سواها.

انطوان فرح.

اقتصاد لبنان أمام 4 سيناريوهات: 20 مليون ليرة الحدّ الأدنى للأجور

خرج الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي عن سيطرة السلطات الرسمية، وأصبح الوضع رهينة عامل الوقت فقط لا غير، مع معرفة مُسبقة وحتمية للمستقبل القاسي الذي ينتظر اللبنانيين! هذا الواقع يُسمّى بالحدث الأكيد (Probability =1) في علم الإحصاء، وبالتالي ما يبقى في إطار التكهنات هو مدى الضررّ الذي سينتجّ منه!

المعلومات تُشير إلى أن تأمين مصرف لبنان للدولارات بهدف شراء السلع الغذائية والمواد الأولية أو ما يُعرف بالدعم سيتوقفّ في غضون عدّة أسابيع مع نهاية شهر رمضان الفضيل. وبالتالي، وبعد هذا التاريخ، سيشهد السوق زيادة في الطلب على الدولار نتيجة توقف المصرف المركزي عن إعطاء ما يُقارب الـ 7.5 مليار دولار أميركي من أصل 10 مليارات دولار أميركي قيمة الاستيراد في العام الماضي! ما يعني ارتفاعًا مُطردًا للدولار لبلد إقتصاده استيرادي استهلاكي (85% من الاستهلاك الغذائي مُستورد). ولن يوقفه إلا تدفق النقد الأجنبي من الخارج بحيث يسد الفجوة بين الطلب والعرض لتستقر الأمور عند ما يعرف بالـ Equilibrium. هذا الأمر لا لُبْسَ فيه ولا حَل إلا به اقتصادياً، وكل ما خلا ذلك من مواقف رنانة لم يعد مُجديًا في المدى القريب.

وقت الجد قد حل فعلاً والانهيار الكامل على الأبواب إلا إذا…

فما هي السيناريوهات المطروحة؟

سيناريوهات حلوة ومرّة

هناك أربعة سيناريوهات مطروحة:

السيناريو الأول وينصّ على استمرار مصرف لبنان في تأمين الدولارات للسوق، وهو ما يرفضه المصرف المركزي نظرًا إلى أن الأموال المُتبقية في الإحتياطي هي أموال مودعين (إسمية)، وبالتالي يمنع القانون المصرف المركزي من المسّ

بهذه الودائع تحت طائلة الملاحقة القانونية، وهو ما هدّد به نقيب المُحامين في حال تمّ استخدام هذه الأموال؛

السيناريو الثاني وينصّ على وقف المصرف المركزي تأمين الدعم آخر شهر أيار القادم، وهو ما يعني أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء سيتعرّض لصدمة كبيرة قد ترفع من سعره بشكل ملحوظ، سترتفع معها الأسعار بشكل كبير وتكون النتيجة خضّة اجتماعية كبيرة وفوضى عارمة على مساحة الوطن للحصول على المواد الغذائية والأولية؛

السيناريو الثالث وينصّ على أن يقوم المركزي بتحرير موجّه للدولار الأميركي على المنصّة الجديدة من خلال تأمين دولارات بحيث يكون السعر على المنصّة أقل من سعر السوق السوداء، مع ارتفاع تدريجي لحين الوصول إلى سعر التوازن الذي ستكون قيمته مُرتبطة بشكل أساسي بعملية التهريب إلى الخارج. فكلما زاد التهريب ارتفع السعر وكلما تمّ ضبط التهريب والتشدّد في ملاحقة المخالفات، إنخفض سعر صرف الدولار على المنصّة؛

السيناريو الرابع وينصّ على تشكيل حكومة والاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاحي، وهو ما يلاقي السيناريو الثالث مع انخفاض ملحوظ في سعر الصرف على المنصة الجديدة. هذا السيناريو يُشكّل الحلّ الأمثلّ للبنان، خصوصًا أن الإصلاحات ستكون عاملاً أساسياً في ضبط الوضع.

 المُحاكاة لسعر صرف الدولار

الهمّ الأساسي للمواطن يبقى سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي في السوق السوداء بحكم أن لبنان يعتمد بشكل أساسي على الاستيراد، ولكن أيضًا بحكم أن الوضع السياسي المُتأزم يمّنع أي رؤية إيجابية للوضع الاقتصادي والاجتماعي.

من المعروف في علم الاقتصاد أن هناك استحالة التنبؤ بدقة بسعر صرف عمّلة مُقابل عمّلة أخرى نظرا للتعقيدات التي تنطوي عليها هذه العملية، ولكن أيضا نظرا للحجم الهائل للمعلومات التي لا يُمكن مزجها بشكل صحيح في إطار أي نموذج حسابي. وعلى الرغم من ذلك، يُمكن لبعض النماذج الحسابية أو التحليلية (Purchasing Power Parity،Monetary Approach، Asset Market Approach، Technical Analysis،…) أن تُعطي فكرة عن التوجّهات التي قد يتخذها سعر الصرف في ظلّ مُعطيات مُعيّنة.

المُحاكاة التي قمنا بها أخذت بعين الإعتبار نموذجاً إحصائياً (ARMA(3,3)) حيث تمّ استخدام البيانات من تاريخ 28/7/2019 إلى تاريخ30/4/2020 بهدف تحديد عوامل النموذج (Parameters). وتمّ استخدام الفترة المُمّتدّة من 1/5/2020 إلى 16/4/2021 لاختبار صحة التوقعات بحسب هذا النموذج (Back testing). وتُشير النتائج إلى أن هذه التوقّعات بحسب النموذج تطابقت إلى حدٍ مُعين مع الواقع باستثناء الفترة التي تلت إعلان إفلاس الدولة والتخبّط في أرقام الخسائر بين القطاع المصرفي، الحكومة، ولجنة المال والموازنة حيث ان الصدمة الناتجة من هذه الأحداث تغلغلت في ديناميكية سعر الدولار وتحوّلت إلى عنصر ذعر في سلوك اللاعبين الاقتصاديين وهو أمر صعب (حتى لا يُقال شبه مُستحيل) النمذجة.

في الفترة المقبلة أي المُمتدّة من اليوم وإلى 31/12/2022، وبحسب توقّعات النموذج وبفرضية السيناريو الأول، أي استمرار الدعم، سيرتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء مع استنزاف أموال المودعين، وبالتالي سيتمّ تأجيل الكارثة التي سيكون وقعها أكبر في النهاية مع أسعار خيالية.

أمّا إذا أخذنا السيناريو الثاني أي وقف الدعم في الأول من حزيران القادم من دون أي بديل، فإن سعر صرف الدولار سيخضع لصدمة (مثلا Shock + 2SE) سترفع الأسعار بشكل جنوني وسيكون هناك تغيير هيكلي (Structural Change) في سعر الصرف سيؤدّي إلى استنزاف كبير لمدّخرات المواطنين ويزيد من فقرهم.

في ما يخص السيناريو الثالث (وهو الأكثر إحتمالا)، هناك تعدّد في الفرضيات مع كمية التهريب التي يقوم بها أهل النفوذ عن طريق المُهرّبين والتجّار. ففي ظل استمرار التهريب على ما هو عليه اليوم، فإن السيناريو الثاني مع الصدمة، هو الأكثر احتمالا! في حين أن الحد من التهريب ولجمه وصولا إلى خفضه بشكلٍ كبير، سيؤدّي حكمًا إلى خفض سعر صرف الدولار.

يبقى القول إن السيناريو الرابع، أي تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات مع برنامج من صندوق النقد، هو سيناريو مثالي، ولكنه بعيد المنال في ظلّ المُعطيات الحالية وخصوصا مجرى المفاوضات الأميركية – الإيرانية وما ستؤول إليه.

الجدير ذكره أن استخدام الكتلة النقدية م3 (M3) ومقارنتها بحجم الاحتياطات الأجنبية، يُعطي سعرا يُقارب الستة الالاف ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو مرشّح للارتفاع إذا ما تمّ استخدام الإحتياطي الإلزامي والاستمرار في طبع الليرة اللبنانية، مما يعني أن التأخير في تشكيل الحكومة يُحمّل المواطن خسائر يومية من قدرته الشرائية وودائعه بالليرة اللبنانية.

 20 مليون ليرة الحدّ الأدنى للأجور

إن وقف الدعم، في ظل غياب أي بديل، سيرفع الأسعار بشكل جنوني لن يكون بعدها المواطن قادرًا على الاستمرار في العيش بالحدّ الأدنى. البداية ستكون في أسعار المحروقات مع ارتفاع جنوني قد يصل فيه سعر صفيحة البنزين (بفرضية بقاء أسعار الدولار والنفط العالمي على حالها) إلى ما يُقارب الـ 185 ألف ليرة لبنانية، وهو ما سيخلق تضخّما باطنيا يشمل أسعار كل السلع والبضائع الأخرى (Implied Inflation). وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار التطورات الإقتصادية العالمية، نرى أن سعر برميل النفط مُرجّح للارتفاع وبالتالي سينعكس هذا الارتفاع على الأسعار بشكل مُضاعف: ارتفاع الأسعار وارتفاع سعر صرف الدولار!

على الصعيد الصحّي، فإن ارتفاع سعر الدولار الطبّي سيؤدّي إلى استحالة الاستحصال على الخدمات الطبية بكل ما للكلمة من معنى. يضاف إلى ذلك أسعار الأدوية التي ستقفز إلى مستويات يستحيل معها الحصول عليها!

على الصعيد الغذائي، سيكون المواطن على موعد مع الكارثة مع فقدان القدرة الشرائية نتيجة ارتفاع الأسعار الناتجة من وقف الدعم! عمليًا سيتحوّل المشهد إلى مواجهات بين المواطنين في السوبرماركات وزيادة السرقات والسطو المُسلّح، وهو ما يعني عمليًا سقوط الدولة بكل مؤسساتها!

إن ارتفاع الأسعار سيفرض مدخولا لا يقلّ عن 20 مليون ليرة شهريًا للعيش بالحدّ الأدنى – وهذا الأجر مرشح للارتفاع مع زيادة التضخم وهبوط العملة الوطنية – وهو أمر مُستحيل في لبنان نظرًا إلى شبه توقّف الماكينة الاقتصادية. رقم الـ 20 مليون ليرة نابع من أن ما يُقارب الـ 60% إلى 70% من العمليات الاقتصادية ما زال يُتداول على 1500 (قروض، كهرباء، تأمين، محروقات…) و3900 (مواد غذائية…) والباقي على سعر السوق السوداء. وبالتالي فإن نسبة الفقر ستفوق الـ 90% وسيكون هناك 5% من الشعب اللبناني الذي يمتلك ثروة تسمح له بالإستمرار، بالإضافة إلى الذين استطاعوا تحويل أموالهم إلى الخارج. ناهيك بطلبات الهجّرة التي سترتفع حكمًا نظرًا إلى أنه مُثبت عمليًا أن الضيقة الإقتصادية تؤدّي إلى ارتفاع نسبة الهجرة. وفي حال لبنان فإن الهجرة ستكون من قبل المتمولين والقادرين وأهل الخبرات، مما يعني زيادة نسبة الفقر بالنسبة للقاطنين.

وهذا سيؤسس إلى فقدان آخر ما تبقى للبنان من العقول والكفاءات التي يستحيل قيام الوطن من دونهم، لأن الأوطان لا تبنى إلا بأمثال هؤلاء. وهنا يمكن تخيل الوضع اللبناني الذي تمت تعريته من أهم ما يزينه واحتفاظه بمن أوصله لهذه الحالة.

الدولار الليبي والعراقي

مما تقدّم، قد يقول المواطن ان من الأفضل سحب الودائع (سواء كانت بالدولار أو بالليرة) وتحويلها في السوق السوداء إلى دولارات ستكون مضمونة في اليد. إلا أن هذا الأمر محفوف بالمخاطر نظرا إلى وجود كمّية من الدولارات الليبية والعراقية في الأسواق اللبنانية وهي دولارات مسروقة من هذين البلدين في العام 2003 بعد سقوط صدام حسين وفي العام 2011 بعد سقوط القذافي. وبالتالي تمّ فرض حظر أميركي على هذه الدولارات التي تحمل أرقامًا تسلسلية مُعيّنة أصبحت معروفة لدى المصارف. بمعنى آخر، إن أي شخص يقوم باستبدال أمواله بهذه الدولارات، يكون قد خسر أموالا بحكم أن هذه الدولارات يتمّ بيعها بثلث قيمتها الورقية (في السوق السوداء). لذا يتوجّب عرض هذه الدولارات على أي مصرف لتمريرها بالماكينة المُختصة باحتساب العملات والتأكد من صحّتها.

 لبنان في عين العاصفة

القوى السياسية تعرف أن لبنان ُمقبل على وضع كارثي في الأشهر القادمة، وبالتالي تراهن على تخزين مواد غذائية بهدف دعم جماهيرها لكي تضمن أصواتها في الانتخابات النيابية القادمة عملا بمبدأ: «من وقف جانب المواطن في أزمته». هذا الأمر بعيد كل البعد عن الممارسات السياسية المعروفة في العالم والتي تضمن من خلال مؤسسات الدولة الأمن الغذائي للمواطن بشكل أساسي، إذ هو واجبها، وأما الجمعيات فدورها ثانوي نسبة للدولة حيث انه محصور في حالات تمّ استثناؤها من السياسات الحكومية. من هذا المُنطلق يُمكن القول إن الإرتطام الاجتماعي الكبير والمُتوقّع سيعدّل حكمًا في المشهد السياسي نظرًا إلى أن أيا من القوى السياسية هو غير قادر على إكفاء جمهوره وتأمين المواد الغذائية له.

هذه الصورة القاتمة واقعة لا محالة في ظل الأوضاع الحالية واستمرارها على ما هي عليه من نظرتنا الاقتصادية، وتقتضي الأمانة العلمية التحذير من أوهام ومماطلات يعمد إليها البعض، مع الإشارة إلى أن الضرر الفعلي الذي تسبب به المسؤولون وما يزالون، من الناحية الاقتصادية، لا يمكن تحديده بدقة في وضعنا الحالي، فلا بد كما يقال أن تنقشع الحرب لتحصى الأضرار الحقيقية من أموات، ومعوقين، وجرحى، وناجين.

إلا أن ما يمكن تأكيده اقتصادياً أن هذه الحرب لا ناجين فيها في حقيقة الأمر! «اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد».

بروفسور جاسم عجاقة.

سعر الصرف ومخاطر البــلاد.. والسير عكس المؤشرات الاقتصادية

منذ سنوات وأجراس عوامل المخاطر تقرع من مختلف المؤشرات والتقارير الإقتصادية، ولا سيما منها تدهور التصنيف الإئتماني للبنان الذي كان يشير بالمباشر الى مخاطر عدم سداد الدولة اللبنانية لديونها بالدولار الأميركي أي الأوروبوندز. هذا يعني أن التساؤل عن ارتفاع مستوى الفوائد واستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية لـ»دعم» سعر الصرف على نفس المستوى 1507.5 على الرغم من تدهور ميزان المدفوعات خاصة منذ العام 2011 وزيادة المخاطر وانزلاق التصنيف السيادي للبنان لم يكن سوى تجاهل لهذه المخاطر والمؤشرات أو ضعف إلمام بمعانيها وتأثيراتها. فماذا تعني عوامل المخاطر بالنسبة الى قيمة العملة الوطنية وفعالية السياسة النقدية؟ وكيف يشكّل سعر الصرف مرآة لها؟ وكيف يمكن استنتاج أن لبنان سار بسعر الصرف عكس سير مخاطر البلاد والمؤشرات الاقتصادية ووضع الأصول الخارجية؟

غالباً ما يتم استيعاب مؤشرات مخاطر الدولة في هامش الفرق بين عائدات السندات السيادية للبلد المعني وعائدات سندات الخزانة الأميركية، كأنّ السؤال: ما المكافأة الإضافية المطلوبة لتغطية فرق المخاطرة بين الاثنين وتشجيع الاستثمار في ديون البلد المحتاج للدين؟ وتعكس مخاطر التخلف عن السداد أو مخاطر الائتمان احتمال أن يكون البلد المصدر لسندات الدين للدولة السيادية، غير قادر على الوفاء بالتزاماته بالعملات الأجنبية بالكامل وفي الوقت المحدد. أما سبب تصنيف المؤسسات الدولية للسندات بالعملات الأجنبية وليس السندات بالعملة الوطنية، فذلك لاعتبار أنّ صعوبة تسديد السندات بالعملة الوطنية يمكن معالجتها عبر اللجوء استثنائياً الى طباعة العملة الوطنية أو شرائها من المصرف المركزي لحل الأزمة ولو على حساب تكبّد مخاطر التضخّم. أما السندات بالعملات الأجنبية فلا يمكن للبلد معالجتها بالطريقة نفسها لعدم تمكّنه من طباعة العملة الأجنبية المصدّرة بها، خاصة أنه غالباً ما تكون البلدان النامية والمتعثّرة قد لجأت الى «دولرة» جزء من دينها العام سعياً من جهة لبيع سنداتها على الأسواق العالمية بالعملة الأجنبية ومن ناحية أخرى الى تخفيض خدمة دينها كون الفوائد على السندات بالعملة الأجنبية تكون أقلّ من الفوائد على السندات بالعملة الوطنية نظراً لفرق المخاطر بين العملتين. وطبعاً تكون الفائدة أقل لسند العملة الأقوى، أي في لبنان تكون الفائدة على الأوروبوندز أقل مما هي على سند الخزينة بالليرة اللبنانية.

إن مخاطر التخلف عن السداد هذه ليست المكون الوحيد لمخاطر البلد، لكنها المكون الرئيسي. تساعد المخاطر الأخرى، مثل مخاطر السوق أو مخاطر السيولة أو حتى المخاطر المالية أو السياسية، في تحديد مستوى المخاطر في بلد ما. وقد كان طبعاً للمخاطر السياسية وقعها الكبير على تدهور التصنيف السيادي للبنان في السنوات الأخيرة كما ذكرت علناً مجمل تقارير «فيتش»، «موديز» و»ستاندر أند بورز» كلما كانت تخفّض تصنيف سندات لبنان السيادية. ويعدّ مفهوم مخاطر الدولة أمراً بالغ الأهمية لأنه يعكس ثقة المستثمرين في الدولة. إن مستوى هذه المخاطر يحد من تدفقات رأس المال إلى البلاد، مما كان يزيد الضغط على ميزان الرساميل في لبنان، وبالتالي ميزان المدفوعات الذي لطالما كان يستند على تدفّق الرساميل للتعويض عن العجز التاريخي للميزان التجاري (أي الفرق بين التصدير والاستيراد). كما لا بد من التوقّف عند الفرق الشاسع بين المنحى التصاعدي للودائع بالعملات الأجنبية وصافي الأصول الأجنبية السنوية للقطاع المالي، لا سيما عندما يصبحان في منحيين متعاكسين بين تزايد سريع بالودائع بالعملات الأجنبية والتراجع في الأصول الأجنبية الصافية لدى القطاع المالي:

ويلاحظ وسط اختلاف مسار المؤشرات الخارجية، لا سيما منذ العام 2011 بشكل حاد أنّ التمسّك بالدفاع عن ربط سعر الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي كان ما يزال على نفس المستوى:

ما هي محددات مخاطر الدولة؟

وفقاً للأدبيات الإقتصادية يرتبط مستوى الفارق بشكل إيجابي كبير بمؤشر الدين/ الناتج القومي الإجمالي وخدمة الدين، كما يرتبط بشكل سلبي بنسبة الاحتياطيات الأجنبية/ الناتج القومي الإجمالي والميل إلى الاستثمار. كما يعتبر نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الصادرات من المحددات الهامة، كذلك الملاءة المالية وحجم الدين العام .كذلك يتبيّن أن أنظمة أسعار الصرف المختلفة لها تأثيرات مختلفة على فرق الأسعار واحتمال إصدار سندات الخزينة في أوقات أزمة الديون، وتستمر سياسة العملة في التأثير على فرق الأسعار كما هناك صلة قوية بين أزمات العملة والتخلف عن السداد في البلدان النامية.

عندما تقوم دولة ما بالدولار، يتم تحويل ديونها تلقائياً إلى دولارات. وقد تزداد مخاطر البلد التي كانت قائمة على الديون بالدولار حيث أصبحت الآن هي الخطر على ديون البلد ككل. ثانياً، الدولرة، وبدرجة أقل، أنظمة مجالس العملة، ترفض إمكانية تمويل نفسها من خلال التضخم. ويساهم فقدان دخل الأسرة في تعزيز قيود الميزانية المؤقتة للحكومة.

وقد يؤدي تقليص الموارد العامة إلى زيادة مخاطر التخلف عن سداد أدوات الدين الحكومية، وقد يؤدي إجبار المستثمر على الاحتفاظ بأصول العملات الأجنبية فقط إلى زيادة علاوة المخاطرة على هذه الأدوات. كما يمكن أن يؤدي نظام سعر الصرف المثبّت بتشدّد إلى مزيد من الجمود (الأجور والأسعار) مما قد يؤدي إلى تقلبات أكبر في الإنتاج وبالتالي إلى علاوة مخاطر أكبر على أصول الدولة الناشئة.

إن الاختيار بين تثبيت سعر الصرف أو السماح بتعويمه يعود إلى الاختيار بين المصداقية والمرونة. يفرض سعر الصرف الثابت انضباطاً شديداً على السياسة النقدية والمالية، وبالتالي لا يمكن توقّع استمرارية تثبيت سعر صرف عملة ما والحفاظ على قدرتها الشرائية وحمايتها من التضخّم إذا كانت السياسة المالية للبلاد قائمة على تراكم العجوزات المالية واللجوء السنوي الى المزيد من الاستدانة، لا بل الاستدانة من أجل تسديد فوائد الديون السابقة كما كان يحصل في لبنان في السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ العام 2011 حين انقلب مسار الدين العام/الناتج المحلي من منحى انحداري الى منحى تصاعدي خيالي مع انكماش النمو الاقتصادي الى أقل من 1 % بعد أن وصل الى 8.25 % عام 2010 فضلاً عن ازدياد الدين العام بمعدّل 7 أضعاف عن النمو وانعدام الاصلاح المالي لا بل استمرار زيادة ثقل حجم القطاع العام وتكاليفه السنوية بما يفوق 40 % من الموازنة السنوية فيما معدّل العالمي لا يتخطى 10 الى 15 % من موازنات الدول عالمياً، علماً أن الغرض من ربط سعر الصرف بعملة دولة ذات معدل تضخم منخفض هو زيادة مصداقية ذلك البلد. وهكذا يصبح سعر الصرف ركيزة اسمية لتوقعات التضخم، إلا أن فعالية السياسة النقدية وكلفة تثبيتها لسعر الصرف مرتبطة بانضباط السياسة المالية والتخفيف من مختلف عوامل المخاطرة السابق ذكرها.

مخاوف الدول الناشئة من تحرير سعر الصرف

تحجم الدول الناشئة عن السماح بتعويم أسعار صرف عملاتها بحرية حتى لو ادّعت غير ذلك، نظراً لقلقها من التعويم. في كثير من الأحيان لا يكون الخوف من المرونة في حد ذاته، ولكن الخوف من تحركات معينة في سعر الصرف على وجه الخصوص. وبالتالي، فإن الخوف من التقدير يفسّر التراكم الهائل للاحتياطيات بالعملات الأجنبية فيها ومخاطر الانهيار عند اسنزاف هذه الاحتياطات.

الخوف من التعويم هو الإحجام عن السماح بتعويم سعر الصرف بحرية على الرغم أحياناً من الإعلان الرسمي عن التعويم. إذ يمكن أن يكون هذا التقلب مكلفاً للغاية بالنسبة للبلدان التي تكون فيها خيارات الإحتياط محدودة، حيث إنّ أسواق العملات الآجلة ليست سائلة وللتعويض عن عدم وجود سوق صرف آجل، يكون على السلطات النقدية توفير تحوّط غير رسمي عن طريق الحفاظ على استقرار سعر الصرف على المدى القصير والمتوسط. وبسبب الافتقار إلى المصداقية، لا يمكن لهذه البلدان الاستفادة من الميزة الأكثر أهمية للتعويم، وهي استقلال السياسة النقدية.

وبالتالي، بالنسبة للبلدان الناشئة لا يكون سعر الصرف المَرن وسيلة لامتصاص الصدمات الخارجية بل يمكن أن يكون تحرير سعر الصرف في هذه البلدان مصدراً محتملاً لعدم الاستقرار. الخوف من التعويم تبرره حقيقة أن التقلبات في أسعار الصرف أكثر تكلفة بالنسبة للبلدان الناشئة مما هي عليه بالنسبة للبلدان المتقدمة.

في حين تعتقد بلدان عديدة أنّ إعلان اعتمادها التعويم هو الطريقة الوحيدة لوجود سياسة سعر صرف نشطة مع تجنب المضاربة، يُخضع الإعلان عن إدارة متشددة لسعر الصرف السلطات النقدية للمراقبة والمحاسبة من السوق في حالة وجود سياسات اقتصادية غير منسقة، أي عدم توافق بين السياسات الاقتصادية المعتمدة والمؤشرات الماكرو-اقتصادية وقيمة سعر الصرف بما يهدد مصداقية سياسة سعر الصرف.

من هنا، تحجم بعض المصارف المركزية الناشئة بشكل خاص عن خفض أسعار صرف عملاتها، وذلك لسببين رئيسيين: آثار انتقال سعر الصرف إلى الأسعار والهشاشة المالية بسبب الدولرة الجزئية تماماً كما كان الحال في لبنان حيث كان الاصرار على استمرار تثبيت سعر الصرف أيّاً تكن حركة بقية المؤشرات الاقتصادية وعوامل المخاطرة…

سعر الصرف هو المعيار الطبيعي لتوقعات التضخم في الاقتصادات ذات الماضي التضخمي غير المستقر. وقد يؤدي السماح بانخفاض سعر الصرف إلى تجاوز هدف التضخم، ما يهدد مصداقية السياسة النقدية. في المقابل، قد يتطلب الدفاع عن العملة ارتفاعات كبيرة في أسعار الفائدة، ما قد يؤدي إلى خسائر في الإنتاج. وبالتالي، فإنّ المصرف المركزي الذي ينتهج سياسة استهداف التضخم يقلق بشأن ديناميكيات سعر الصرف. كما يساهم التضخم المنخفض للبنك المركزي باكتساب المصداقية، ما يقلل في النهاية الحاجة إلى الاستجابة لسعر الصرف، علماً أنّ البلدان الناشئة تعاني صعوبة الاقتراض بعملاتها في الخارج. ينتج عن هذا «دولرة» كبيرة لديونها (الدولار هو العملة الرئيسية في فئة القروض بالعملة الأجنبية).

كما أنّ الميزانيات العمومية للمؤسسات والمصارف وحتى الحكومة حساسة للغاية للتغيرات في سعر الصرف من خلال زيادة تكلفة الديون بالعملات الأجنبية، ما قد يؤدي إلى حالات إفلاس كبرى في القطاع الخاص. وتجعل دولرة الديون العملاء الاقتصاديين عرضة للصدمات الخارجية، مما يعقّد سلوك السياسة النقدية وسياسة أسعار الصرف. ويأتي انخفاض أسعار الفائدة لإنعاش النشاط في مواجهة مخاطر انخفاض سعر الصرف الذي يهدد استقرار المصارف والشركات المدينة بالعملات الأجنبية، علماً أنّ الاستخدام النشط لسعر الفائدة هو للحد من تحركات أسعار الصرف الذي يؤثر على تكلفة الاقتراض بالعملة المحلية.

وتكون غالبية التدخلات غير متكافئة، مما يعني أن المصرف المركزي يعارض بشدة الاستهلاك أكثر من معارضة رفع القيمة. يمكن العثور على تفسير هذه النتيجة في تأثير الاستهلاك على التكلفة الفعلية لخدمة الدين بالعملة الأجنبية ويبدو أن القناة المالية لسعر الصرف تهيمن على القناة الحقيقية للقدرة التنافسية في أهداف التدخل.

يبقى القول إن السؤال لم يعد الاختيار بين النظام الثابت أو المرن ولكن تحديد درجة إدارة سعر الصرف في ظل نظام عائم، أي الوزن، على سعر الصرف في السياسة النقدية. المزيد والمزيد من البلدان الناشئة تتبنى سياسة استهداف التضخم كمرتكز للسياسة النقدية مع وظيفة رد الفعل التي، بالإضافة إلى الاستجابة لفجوة الإنتاج والتضخم، تستجيب جزئياً لتحركات سعر الصرف.

د. سهام رزق الله

في هذه الحالة ستتمّ إقالة رياض سلامة

 

في أواخر نيسان 2020، أقرّت حكومة حسان دياب خطة الإنقاذ الاقتصادي التي أطلقت عليها تسمية خطة التعافي. وقد تعرّضت الخطة منذ اعلانها الى موجة من الانتقادات والمديح، بين قائل انّها تدمّر الاقتصاد بدلاً من معافاته، كما ورد في تسميتها، وقائل انّها واقعية وجريئة تحاكي الحقائق، وتسمح بالخروج من مرحلة الإنكار الى الإنقاذ.

اليوم، وبعد مرور سنة على إطلاق «خطة التعافي» التي ظلّت حبراً على ورق، وسقطت في مرحلة التفاوض الاولي مع صندوق النقد الدولي بسبب الخلافات على الأرقام، وانقسام الوفد اللبناني الرسمي على نفسه، لا بدّ من السؤال ماذا بقي من هذه الخطة؟ وهل لا تزال صالحة للتحديث والتطوير، في حال تشكّلت حكومة وقرّرت البدء في التفاوض مع صندوق النقد الدولي؟

لا شك في أنّ أرقام الخسائر التي جرى تقديرها في خطة التعافي (حوالى 68 مليار دولار)، والتي أثارت حفيظة لجنة المال النيابية، والقطاع المصرفي، وخبراء وباحثين متابعين عن كثب للوضع المالي والاقتصادي، أصبحت اليوم من الماضي، ولم تعد تكفي على الأرجح، رغم انّها كانت مُضخّمة، لتقدير الخسائر في أي خطة جديدة. ولا شك في أنّ ما اعتُبر فجوة مالية في مصرف لبنان جرى تقديرها في الخطة الحكومية في حينه بحوالى 44 مليار دولار، نمت خلال عام بنسبة مرتفعة قد تصل حالياً الى 60 مليار دولار. وحتى الخسائر في القطاع المصرفي، والتي حصل خلاف حولها بين المستشارين في الحكومة، ولجنة المال والموازنة النيابية، أصبحت بدورها من الماضي، لأنّ حجم الخسائر في المصارف ارتفع بنسب كبيرة. صحيح، انّه لا توجد احصاءات دقيقة عن الخسائر التي يمكن أن تكون لحقت بالقطاع منذ سنة حتى اليوم، لكن الإنكماش في الاقتصاد، وتراجع ايرادات كل القطاعات، ومعظمها قطاعات لديها قروض مع المصارف، بالإضافة الى الخسائر المعلنة التي بدأت المصارف نفسها تفصح عنها كنتائج العام 2020، ومن ضمنها خسائر اليوروبوند الذي هبطت اسعاره بنسبة لا تقلّ عن 85%، كلها حقائق تؤكّد انّ الرقم ليس بسيطاً، وسيغيّر معادلة أي خطة جديدة للإنقاذ.

لكن، وبصرف النظر عن الأرقام التي تفرض تغييراً شاملاً في الخطة القائمة، ومع مراجعة التفاصيل الاصلاحية في الخطة، سيتبيّن انّها أصبحت ايضاً من الماضي. والمفارقة هنا، ورغم انّ البلد وصل الى المرحلة التي وصل اليها حالياً، لا تزال هناك شكوك في أن تتمكّن السلطة، أي سلطة، من فرض اصلاحات وردت في «خطة التعافي». على سبيل المثال، ما ورد في اصلاح القطاع العام لجهة تقليص عدد المتعاقدين 5% لمدة 5 سنوات، أو تجميد الرواتب لـ5 سنوات، أو تجميد عديد القوات المسلحة وحصر الترقيات بشغور المواقع، ومراجعة التقديمات لكبار العسكريين، بالإضافة الى تصحيح التدبير رقم 3 المتعلق في احتساب نظام التقاعد للعسكريين، بالاضافة الى توحيد أنظمة التقاعد كافة.

هذه النماذج من الإجراءات الواردة في خطة التعافي، هل لا يزال تطبيقها ممكناً؟ وكيف يمكن الاعتقاد انّ التطبيق مُتاح، اذا كان وزير المالية غازي وزني انتقى بعض الاجراءات الاصلاحية وحاول تمريرها في مشروع موازنة العام 2021، وكانت النتيجة انّه اضطر الى التراجع عنها قبل ان تصل الموازنة الى طاولة مجلس الوزراء؟

كذلك يمكن طرح تساؤلات في شأن مصادر تحسين الإيرادات التي كانت ستعتمدها الحكومة في خطة التعافي، ومنها على سبيل المثال، رفع الرسوم على الفوائد من 10 الى 20% على الودائع التي تتجاوز المليون دولار…

من خلال مراجعة خطة نيسان 2020 يتبيّن بما لا يقبل الجدل، وبعد مرور سنة كاملة، انّ كل بنودها سقط بتأثير عامل الزمن، الذي نقل الاقتصاد والوضع المالي من مكان الى مكان آخر مختلف تماماً، وصار لزاماً على اي حكومة ان تبدأ خطة الإنقاذ والتفاوض مع صندوق النقد، من خطة جديدة لا علاقة لها بخطة التعافي.

هذا الواقع هو الذي يدفع حاكم مصرف لبنان حالياً، مدعوماً بقرار المجلس المركزي لمصرف لبنان، الى رفض المس بالاحتياطي الالزامي الذي وصل الى 15 مليار دولار، لأنّ الإنفاق من هذا الاحتياطي سيجعل أي خطة انقاذ، قاسية وطويلة جداً، وستصبح مسؤولية البنك المركزي مؤكّدة، وغير قابلة للخضوع لظروف تخفيفية.

لكن السؤال، كيف ستتعاطى السلطة السياسية الراغبة في الاستمرار في الإنفاق المُريح كما هو قائم، ولا تريد التوقّف عند خطوط حمر مثل الاحتياطي الالزامي، أو احتياطي الذهب، مع هذا الموقف؟ واذا كان قرار سلامة ثابتاً في رفض التوقيع على الإنفاق من الاحتياطي الالزامي، هل سيكون ذلك بمثابة اشارة الى احتمال إقالته من قِبل السلطة السياسية؟

قد تتجاوز السلطة القائمة كل المحاذير، وقد تجتمع حكومة تصريف الاعمال، التي ترفض الاجتماع حالياً حرصاً على عدم خرق الدستور وتجاوز مفهوم تصريف الاعمال، وتُقيل رياض سلامة، ليتسنّى لها الاستمرار في الإنفاق، بصرف النظر عمّا سيحصل نتيجة لذلك بعد سنة أو سنتين.

انطوان فرح.

كيف تتجنّب أفخاخ الدولار … متى تشتري ومتى تبيع؟

لا يؤثر انهيار سعر صرف الليرة على القدرات الشرائية للبنانيين فحسب، بل انّ ما يجري من تقلبات حادة في سوق الصرف، يُقلق البعض ويغري البعض الآخر، الأمر الذي يتسبّب أحيانا بكوارث اضافية يتحمّلها المواطن غير الخبير في التعاطي في الاسواق المالية. وهناك قواعد لا بدّ من اتباعها لمن يرغب في تحاشي الوقوع في المصائب.

بين المضاربة والمنصات والإشاعات يضيع المواطن ويستفيد المضاربون. لقد بُنِيَت الأسواق المالية وللأسف على اسس يستفيد فيها العارفون من عدم دراية من لم يتمرّس بالمهنة المصنفة أصعب عالمياً. إليك كيف تتجنب أفخاخ المضاربين، متى تشتري ومتى تبيع؟

أولاً: تجنّب بيع أو شراء الدولار في المساء أو خلال عطلة نهاية الأسبوع والعُطَلْ الرسمية. فأسعار السوق السوداء في تلك الفترات تفتقد الى المرجعية ويكثر فيها صيادو الفرص. لاحظ أن الارتفاعات الأخيرة من 10000 الى 15000 ليرة كانت قد بدأت خلال عطلة نهاية الأسبوع في 7،6،5 آذار و 14،13،12 آذار. هذا المبدأ نجده حتى في أسعار البتكوين عالمياً حيث تكثر تقلباته صعوداً أو هبوطاً خلال نهاية الأسبوع، أي خلال إقفال القطاع المالي الرسمي.

ثانياً: أذا كان هدفك المحافظة على مدخراتك النقدية بالدولار، لا تدخل في لعبة المضاربة بائعاً على أمل الشراء على سعر أدنى لاحقاً. للمضاربة أربابها وانت حتماً ستخسر في نهاية المطاف إن حاولت مواجهة المضاربين في مضمارهم. أنت في سوق منحاه تصاعدي لا يختلف عليه اثنان فلا تعاكسه تحت أي ظرف كان (The trend is your friend until it ends).

ثالثاً: لا تتصرّف بناءً على الأخبار التي تسمعها، فسعر السوق أخذ حتماً المستجدات والتوقعات بالاعتبار قبل أن يصلك الخبر، حيث يقول برنار باروش «أرني الأسواق، وأنا أُخبرك بالأحداث».

رابعاً: لا تتكل على رأي الصراف لمعرفة اتجاه السوق، فهو سيوجِّهُك بحسب مصلحته، لا مصلحتك أنت.

خامساً: عندما تسأل الصراف عن سعر الدولار، اسأله في نفس الوقت عن سعر الشراء وسعر البيع قبل أن تكشف له عن ما إذا كنت ستشتري أو تبيع. لاحظ أنك عندما تسأله عن سعر الدولار سيجيبك بسؤال «بدك تشتري أو بدك تبيع؟».

سادساً: اذا أصررت على المضاربة والمضي بعكس المنحى الرئيسي (وهذا ما لا أنصحك به قطعياً) فقم ببيع الدولار عندما يرتفع منسوب التشاؤم في البلد والشراء عند التفاؤل المفرط وليس العكس. هذا ما يقوم به المضاربون ليستفيدوا من حالات الهلع أو الآمال غير الواقعية لديك. بذلك تتجنب ما يُعرَفْ بسلوك القطيع (Herd behavior) وهو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص عندما يقومون بالبيع والشراء المحموم كمجموعة.

سابعاً: لا تكن آخر من يشتري وآخر من يبيع. القليل من التروي مفيد، انما التردّد في أخذ القرار في أسواق المال يجعل منك «رايح على الحج والناس راجعة».

ثامناً: عند التردّد في حالتي الشراء أو البيع إلجأ الى تجزئة الكمية عبر تقنية الهرم. على سبيل المثال، في اليوم الأول يمكنك أن تشتري (أو تبيع) 50 % من مجمل الكمية التي تتعامل بها، اليوم الثاني 30 %، اليوم الثالث 20 %. لأنه حتى أهم الخبراء في الأسواق المالية لا يمكنهم معرفة التوقيت المثالي للشراء أو للبيع.

تاسعاً: الارتفاعات الكبيرة والسريعة (Too High too Soon) تليها دائما حركات ارتدادية قوية وفترات هضم للارتفاعات كما حدث سابقأً. تذكّر أن الدولار ارتفع بين تشرين الأول 2019 وحزيران 2020 من 1500 ليرة الى ما يقارب 10000 ليرة، أي 566 % في غضون تسعة أشهر فقط. هذا الارتفاع غير المسبوق تمّ خلال فترة وجيزة لم يشهدها الدولار حتى خلال سنين الحرب (للتذكير، خلال العام 1987 ارتفع الدولار بنسبة 423 %). رأينا الدولار يرتدّ بعدها بقوة الى سعر 5800 ليرة قبل أن يعاود الارتفاع. وتكرّر ذلك مؤخراً بعد أن كسرنا صعوداً مستوى الـ 10000 ليرة وهو حاجز نفسي، فتسارعت الأمور بشكل كبير ووصل الدولار الى 15000 ليرة خلال أيام معدودة. راح اللبنانيون يومها يتبارون بالمزايدة بعضهم على بعض، هذا يقول «بدو يوصل الى 20000 ليرة» والثاني يلعب دور العارف قائلاً «مش أقل من 50000 ليرة قبل آخر السنة». وأصبح الجو العام في مزاد شعبي وكأنك في سوق الأحد. فجأة ارتد الدولار في يوم واحد الى ما دون 11000 ليرة. كن مستعداً لتلك الارتدادات ولا تنجرف في جو المزايدات. واعلم أن الارتفاعات القوية تليها دائما ارتدادات يستفيد منها المضاربون وتخسر أنت أموالك.

عاشراً: يقوم المضاربون بعمليات «نحت السعر» (Sculpting) بين السعر الأعلى الذي وصل اليه الدولار والمستوى الأدنى للإرتدادة القوية. مثالنا على ذلك، المراوحة التي شهدناها بعد الإرتدادة من 10000 الى 5800 ليرة وذلك ضمن الهوامش التالية: 5800 الى 7500 ليرة، من ثم بين 7500 و8500 ليرة وأخيراً بين 8500 و 10000 ليرة. هذه المراوحة تتزامن عادة مع مستجدات إيجابية واخرى سلبية تسمح للمضاربين بالاستفادة الى أقصى حدود من التذبذبات ضمن كافة الهوامش، حتى إذا ما تعود اللبنانيون على هامش معين يصبح الدولار مهيئاً للانتقال الى هامش أعلى. لن أتفاجأ إذا ما راوح سعر الدولار ضمن الهوامش الحالية لفترة أشهر، ستتخللها أخبارٌ إيجابية، فنسمع البعض يتوقع العودة الى سعر 5000 ليرة وأخبار سلبية فنسمع البعض الآخر يتوقع تخطّي حاجز 15000 ليرة الى 50000 ليرة. لذلك تجنّب الشائعات التي تجعلك تبيع عند أسفل الهامش وتشتري عند أعلاه في هذه المرحلة.

أخيراً، ان موجة الارتفاعات التي بدأت في العام 2019 ليست الأولى. حاول أن تراجع حركة الدولار بين عامي 1982 و1992 حيث ارتفع 735 ضعفاً في عشر سنوات تخللها العديد من الارتدادات، إذ يصح في الأسواق المالية قول الكاتب الأميركي الساخر مارك تواين «ان التاريخ وإن لم يُعِد نفسه، لكنه غالباً ما يتناغم مع ماضيه».​

د. فادي خلف

رياض سلامة قرّر… والحسم في آخر أيار

هل قرّر رياض سلامة الوقوف في وجه السلطة السياسية، على خلفية التصدّي لاستمرار النزف في الاموال المتبقية في المركزي، والتي وصلت الى الاحتياطي الالزامي؟ وما هي التقديرات للنتيجة التي ستنتهي اليها هذه المواجهة؟ من سيرضخ لمن، وماذا سيحصل؟

منذ الفصل الأخير من العام 2020، بدأ حاكم مصرف لبنان يرسل إشارات واضحة الى السلطة السياسية مفادها ان الاموال التي يستخدمها المركزي في الدعم بدأت تنضب، ولا بد من إيجاد وسيلة لترشيد هذا الدعم وتنظيمه قبل الوصول الى الاحتياطي الالزامي الذي لا يمكن استخدامه أو الانفاق منه.

بعد مرور ستة أشهر على بداية التحذيرات، وإنفاق حوالى 3 الى 4 مليارات دولار اضافية منذ ذلك الوقت، وتراجُع سقف الاحتياطي الالزامي من 17,5 مليار دولار الى حوالى 15 مليار دولار فقط، قرّر سلامة ان ينتقل من التحذير والنصح الى التصدّي والرفض. وأبلغ السطة السياسية انه غير مستعد وغير قادر على انفاق أي دولار من الاحتياطي الالزامي، وان المطلوب خطة لترشيد الدعم يبدأ تنفيذها فوراً.

هذا الموقف جاء في اعقاب ما لاحظه كثيرون من ميوعة غير مفهومة في معالجة هذه المشكلة التي تحولت الى كارثة مالية. وتقاذفت الحكومة المستقيلة مع المجلس النيابي كرة المسؤولية، بحيث ضاع الوقت وهُدر المزيد من المال.

وفي كلامه الأخير الى وكالة «رويترز» قدّر وزير المالية غازي وزني ما تبقّى من أموال في مصرف لبنان بحوالى 15,8 مليار دولار، من أصلها 15 ملياراً لا يمكن استخدامها لأنها الاحتياطي الالزامي.

هذا الكلام يشير بوضوح الى عمق الكارثة التي يستعد لها البلد. للأسباب التالية:

اولاً – انّ خطة ترشيد الدعم لا تزال تحتاج الى إقرار من قبل الحكومة، والى مناقشة وإقرار في مجلس النواب، بما يعني انها ستحتاج الى وقت طويل. واذا أخذنا في الاعتبار انّ الخطة قد لا تقر في خلال شهر رمضان، تحاشياً لضغط معيشي اضافي قد يتعرض له الصائمون، فهذا يعني انها، وفي حال تقررت، لن تبدأ قبل نهاية ايار، موعد نفاد الـ800 مليون دولار، والوصول الى الاحتياطي الالزامي، أي صفر إنفاق.

ثانياً – ان الترشيد بعد هذا التاريخ لا ينفع، لأن المطلوب في ذاك الوقت وقف الانفاق نهائياً، فمن أين سيتم تمويل الدعم الجزئي والتدريجي الذي يجري الحديث عنه اليوم في خطط الترشيد؟

ثالثاً – الأرقام التي كشفها وزير المالية تعني ان ترشيد الدعم لا يستطيع ان يكون على مدى طويل، بمعنى انّ افضل الممكن ان يخفّض الدعم الى النصف دفعة واحدة، لكي يصبح المبلغ المتبقي كافياً لمدة 4 أشهر بدلا من شهرين.

رابعاً – اذا كانت الحكومة مصرّة على عدم البدء في ترشيد الدعم قبل إقرار البطاقة التمويلية للأكثر حاجة، وبالعملة الوطنية، لأنه لم يعد متاحاً تأمين أموال بالدولار كما كان الحال قبل سنة أو ستة أشهر، فهذا يعني ان شريحة من اللبنانيين ستحصل على تمويل شهري بالليرة مقابل وقف الدعم. وفي تلك اللحظة، سيرتفع عدد العائلات المحتاجة بنسبة كبيرة وسريعة بحيث ستشمل اكثر من 80 % من العائلات. في هذه الحالة، ماذا سيكون الحل؟ وهل سيتم توسيع مروحة العائلات التي تتقاضى مساعدات مالية شهرية؟ وماذا سيحل بسعر صرف الليرة في هذا الوضع، حيث سيكون السبيل الوحيد لتأمين الليرات الاضافية طباعة المزيد من العملة الورقية؟

تبدو المأساة المقبلة، اذا لم يتغيّر المشهد السياسي فجأة، صعبة ومعقدة. ورغم انّ رياض سلامة حصّن خطوطه الدفاعية من خلال الدعم الذي تلقاه من نقابة المحامين ومن جمعية المصارف اللبنانية، ولو جاء على شكل «إنذار»، ومطالبة بعدم المس بما تبقّى من ودائع الناس، الا أن المواجهة لن تكون سهلة، وليس مستبعداً ان يخسرها امام المنظومة المتمسكة بمبدأ ابقاء الانهيار في مساره، الى ما شاء الله. ولعلّ سلامة يعرف مسبقاً انه يستحيل منع المنظومة من الاستمرار في هدر المال، لكنه يتصرّف وفق منطق «أللهم اشهد اني بلّغت».

مع الاشارة الى ان أسباباً عديدة تقف وراء عُقم السلطة السياسية في اتخاذ القرارات، ليس أقلها غياب الضمير، قلة الادراك، الجُبن، رمي المسؤولية على الآخرين. الى كل ذلك، لا يمكن استبعاد نظرية الاهداف السياسية الخاصة، والمرتبطة بمواصلة إنفاق اموال اللبنانيين على الدعم العشوائي، لأن ما يعتبره اللبنانيون هدراً فوضوياً لا يستفيد منه المواطن العادي، بقدر ما يستفيد منه اثرياء وتجار ومهرّبون، ينظر اليه آخرون بأنه مجهود حربي مطلوب في معركة اقليمية ينبغي التضامن فيها لدعم كل الجبهات، وفي مقدمها جبهة النظام السوري، لضمان الصمود، بصرف النظر عن الاضرار الجانبية (collateral damages) التي لا بد منها لربح الحرب.

انطوان فرح.

الدولارات الطازجة في الخارج تُغري «المنظومة»

 

مع استمرار الغموض الذي يكتنف آلية عمل المنصة الالكترونية المركزية التي سيطلقها مصرف لبنان في النصف الثاني من نيسان المقبل، تبرز علامات استفهام في شأن مصير الاموال التي كوّنتها المصارف في الخارج بناء على التعميم 154.

لا يزال التكتّم قائماً في شأن آلية عمل منصة مصرف لبنان، خصوصا لجهة الامور التالية:

اولاً – هل من تمويل لهذه المنصة ام ان التمويل سيكون ذاتياً من خلال البيع والشراء من السوق؟

ثانياً – هل سيُعيد مصرف لبنان ضخ الاموال وفق الكوتا التي خصّصها في السابق لصيارفة الصف الاول، والتي جرى تعليقها من دون الاعلان رسمياً عن ذلك؟ وهل لديه النية لزيادة هذه الكوتا ما دامت المصارف ستدخل بدورها على خط بيع وشراء الدولار؟

ثالثاً – هل من وسائل تمويل اضافية سيجري اعتمادها، كأن يفرض المركزي على المصارف استخدام نسبة من أموالها التي كوّنتها لدى المصارف المراسلة بناء على التعميم 154، لتغذية سوق المنصة؟

رغم الشح في المعلومات حتى الان، لا يبدو انّ المركزي يتجه الى خيار إلزام المصارف استخدام أموال من الاحتياطي الذي كوّنته في الخارج، لأسباب عدة، من أهمها:

اولاً – الهدف من هذه الاموال في الدرجة الاولى الحفاظ على استمرارية العلاقات مع المصارف المراسلة، وهو أمر حيوي للحفاظ على القدرة على فتح اعتمادات وتحويل اموال عند الضرورة. وهذا الجسر يُبقي لبنان ضمن السوق المصرفي العالمي، ولو أنه خرج من الاسواق المالية العالمية بمجرد اعلان التوقف عن دفع ديونه الدولارية منتصف آذار 2020.

ثانياً – يهدف التعميم 154 الى الحفاظ على نسبة 3 % على الأقل من مجموع الودائع في المصارف المراسلة، ولا توجد مصارف نجحت في تكوين نسبة اكبر ليجري استخدامها في سوق الصرف في الداخل.

ثالثاً – هذه الاموال ستكون بمثابة احتياطي للاستخدام في دعم تنفيذ ومواكبة أي خطة إنقاذية يتم إقرارها بالتعاون مع صندوق النقد، كما انها ستكون بمثابة احتياطي لمواجهة أي مطبات قد تتعرّض لها مصارف غير قادرة على الاستمرار في السوق في المرحلة المقبلة.

رابعاً – كلفة هذه الاموال مرتفعة على المصارف، ولا يمكن هدرها في سوق الصرف لأن اسعار الفوائد التي تُدفع على هذه الاموال، وبالدولار الطازج، أعلى من الاسعار المخفّضة التي حدّدها مصرف لبنان للودائع الدولارية العالقة في الداخل. ورغم عدم توفُّر معلومات دقيقة حول الأسعار التي حدّدتها المصارف للزبائن الذين أعادوا هذه الاموال وأودعوها في حسابات المصارف المراسلة، إلا أن التقديرات تشير الى نسبة تتراوح بين 3 و4 %. وهذا يعني ان كلفة الاحتفاظ بهذ الاموال قد تتراوح بين 100 و125 مليون دولار سنويا. هذا المبلغ سيكون بمثابة حِمل اضافي على ميزانيات المصارف، بسبب عدم القدرة على توظيف هذه الاموال، لأن التعميم 154 يشترط الابقاء عليها مُحرّرة من أي قيود. بالاضافة الى انّ المصارف وقّعت عقوداً مع أصحاب هذه الأموال، بالابقاء عليها في الخارج، ومُحررة أي غير مُوظفة في أي استثمار.

تبقى الاشارة الى ان الابقاء على هذه الاموال مجمدة لمدة طويلة من دون البدء في خطة للتعافي، يشكّل خطراً على الوضع برمته. وليس واضحا بعد، ما هي الخلاصات التي ستخرج بها لجنة الرقابة على المصارف التي تدرس حالياً ملفات المصارف والمخططات التي قدمتها اداراتها لشرح تطلعاتها في المرحلة المقبلة. لكن من الواضح انّ بعض المصارف لن تكون قادرة على تلبية الشروط المطلوبة للاستمرار، وستسلّم مفاتيحها الى مصرف لبنان، اذا طُلب منها ذلك. وهنا ايضا، ورغم ان المركزي اكد انه سيضع يده على هذه المصارف، ويحمي حقوق الزبائن، ويتولى ادارة البنك المتعثّر الى أن يصبح وضعه سليماً ويتمّ بيعه، إلا أن هذا الامر لن يكون سهلا، ما دام مصرف لبنان نفسه يُعتبر في حالة عجز، ولا يملك من المقومات المالية والمعنوية ما يسمح له بتنفيذ هذه المهمة.

ما هو مُقلق، أن تصبح عملية وضع اليد على المصارف غير القابلة للحياة تمويهية، ومجرد فترة انتقالية قبل اعلان افلاس كل مصرف عاجز عن الاستمرار. وفي هذه الحالة، لن يحصل المودعون سوى على ضمانة الودائع، بما يعني إعادة كل وديعة تحت الـ75 مليون ليرة، أو ما يعادلها بالدولار، الى صاحبها. وينبغي الاشارة هنا الى ان مؤسسة ضمان الودائع تحمي حوالى 80 % من المودعين من حيث العدد، وربما أكثر بعد عمليات السحب الممنهج للودائع الصغيرة منذ بدء الأزمة حتى الآن.

لكن، من المؤكد ان مثل هذه التطورات السلبية، أي اعلان افلاس مصارف، لن يحصل في الوقت الراهن، على اعتبار ان لا فائدة من إخراج أي مصرف من السوق، لأن الاضرار ستكون كبيرة، خصوصا الاضرار النفسية المتأتية عن الافلاس. وبالتالي، ستكون هناك مرحلة انتظار على طريقة اتخاذ القرار مع وقف التنفيذ.

كل هذه الاسباب، بالاضافة الى أهمية الابقاء على احتياطي نقدي للاستخدام عند الحاجة الطارئة تحتّم عدم التفكير في استعمال الاموال لدى المصارف المراسلة في سوق الصرف. وعلى الأرجح، هذا الأمر لن يحصل، إلا اذا تجاوزت الضغوط السياسية حد المنطق والعقل، وهذا الأمر وارد دائماً.

انطوان فرح.

الدعم أو الودائع… هناك خيار ثالث

طرح الاقتصادي روي بدارو خطة عمل انتقالية، تنطلق من بدء رفع الدعم وفق ثلاث مراحل، يفترض ان يتجّه معها لبنان نحو market mechanism، بحيث يلعب السعر دوراً فاعلاً في تحديد العرض والطلب. وشدّد على انّه اذا لم نسمح للأسواق بالتحرّك بكل حرّية، فأي تحوّرات فيها ستكون لمصلحة المافيات وأصحاب الكارتيلات..

 

إعتبر الاقتصادي روي بدارو، اننا اليوم امام معضلة قوامها اما إزالة الدعم، واما سلب أموال المودعين، إذ أنّ عدم إيقاف الدعم يعني سلب أموال صغار المودعين خصوصاً، وتوزيعها على كل المواطنين، ومن ضمنها غير المستحقين او الطبقة التي لا تحتاج الى دعم، اما في إعطائها الى النظام السوري من خلال التهريب. لذا يستحيل الاستمرار في هذا النهج، ويجب التحول الى مرحلة انتقالية. فقد سبق للسلطة ان سلبت أموال المودعين بعد تدني قوتهم الشرائية نحو 80%، وما الاستمرار بالدعم سوى لسلبهم المزيد دعماً لغير المستحقين.

 

وبرأي بدارو، انّ المصرف المركزي بدأ باستعمال أموال الاحتياطي الالزامي، مقدّراً المبلغ الذي استُعمل منه بنحو نصف مليار دولار، ليتراجع حجم الاحتياطي من 16 ملياراً الى 15.5 مليار دولار، واصفاً المؤشر بالخطير، لأنّه بمثابة غرفٍ من أموال صغار المودعين وتوزيعها على الجميع من ضمنهم مستوردو المحروقات والتجار. لذا بات من الملح اليوم إعادة النظر بسياسة الدعم.

 

وقال لـ «الجمهورية»: «انّ البدء في رفع الدعم، خطوة أساسية من شأنها ان تعطي إشارة ايجابية للدول المانحة وللمؤسسات الدولية وللأسواق المالية ولصندوق النقد، فتسهل بدء التفاوض معه، كذلك تساعد هذه الخطوة في تحسين سمعة لبنان، فيتمكن في العام 2024 من الدخول مجدداً الى الأسواق المالية العالمية، وهذه خطوة أساسية للانطلاق مجدداً. فإذا لم نعاود الدخول الى هذه الأسواق لن تكفينا المساعدات التي قد نحصل عليها، مع العلم انّ لبنان بعد هذه الأزمة سيكون مراقباً أكثر من أي وقت مضى».

 

وشرح بدارو، «انّ دعم القمح الحاصل اليوم من قِبل مصرف لبنان يجب ان يُخصص فقط للخبز العربي وليس لخبز الهمبرغر او الباغيت او الكعك… لكن لأنّه يستحيل مراقبة كيفية استخدام الافران للطحين المدعوم، تمكن هذا القطاع من تحقيق ارباح طائلة، وبما انّ قيمة دعم القمح تبلغ نحو 150 مليون دولار سنوياً، نحن نحبذ تحويل هذا المبلغ الى العائلات الفقيرة وليس الى المصالح الخاصة.

 

الامر سيان بالنسبة الى دعم الادوية والمعدات الطبية. فبسبب هذا الدعم بات سعر الدواء اللبناني زهيداً جداً مقارنة مع بقية الدول، لذا من الأجدى ان تحدّد السوق سعر الدواء وفق العرض والطلب بدلاً من ان يحدّدها موظف في وزارة الصحة او وزارة الاقتصاد؟ بالتأكيد يجب ترك السوق يحدّد سعر الدواء تجنباً لتهريبه الى البلدان المجاورة، لكن للأسف هنا أيضاً تعاني الأسواق اللبنانية من الاحتكارات في قطاع الدواء، لذا من الضروري فتح الأسواق اذا كنا نريد تحريرها من الاحتكارات، وهذا شرط أساسي يستوجب تمرير قانون المنافسة الموجود اليوم في المجلس النيابي».

 

تابع بدارو: «يستهلك مصرف لبنان 6.4 مليارات دولار سنوياً من ودائع الناس، من ضمنها مليار دولار نفقات للدولة (اوجيرو، البعثات الديبلوماسية، قطع غيار للدرك وللجيش…)، علماً انّ هذا المبلغ قابل للتخفيض، فيبقى لدينا 5.4 مليارات دولار من ضمنها 2 مليار دولار تذهب هدراً من خلال التهريب الى سوريا او غيرها من الدول، يبقى منها 3.4 مليارات دولار تُستعمل للدعم داخل لبنان. ويحتاج لبنان خلال السنتين المقبلتين الى 150 مليون دولار لاستمرار دعم القمح، و600 مليون دولار للأدوية، بما مجموعه حوالى 750 مليون دولار. كذلك يجب تخصيص مبالغ من اجل أي خطة طوارئ، ربما تُستعمل لتأمين المازوت او ربما سلفة لكهرباء لبنان، مع التشديد على ضرورة وقف هذه التسليفات ورفع التعرفة ووقف الهدر التقني وغير التقني».

 

مرحلة انتقالية

ورأى بدارو، اننا اليوم في مرحلة انتقالية يجب التحول فيها من الدعم المفرط الى الدعم الموجّه، لنصل لاحقاً الى المرحلة الأخيرة، والتي تقضي برفع الدعم عن كل شيء، وذلك خلال ثلاث او أربع سنوات. وقال: «نحن لا نزال اليوم في المرحلة الأولى، أي الدعم المفرط داخلياً وخارجياً، حيث يستفيد من الدعم الحالي المافيات، والتهريب الذي يستفيد منه النظام السوري وحلفاؤه في لبنان». وشدّد على ضرورة الانتقال الى المرحلة الثانية، والتي تقضي بتوجيه الدعم مع اعطاء بطاقة نقدية تستفيد منها العائلات الأكثر فقراً، والتي تقدر اليوم بأكثر من 150 الف عائلة، وهؤلاء يستفيدون أصلاً من دعم البنك الدولي، ومن المرجّح ان يرتفع هذا الرقم الى ما بين 350 الفاً او 400 الف، على ان ننتقل بعد حوالى 3 او 4 سنوات الى مرحلة رفع الدعم نهائياً ورفع البطاقات النقدية. وعندها يجب ان نكون انتقلنا الى مرحلة النمو وإعادة التوظيف.

 

في الموازاة، يجب في اسرع وقت، اليوم قبل الغد، البدء باعتماد الخطوات التالية:

– الكف عن اعتماد التسعير الاستباقي، لأنّ فيه سرقة موصوفة للمستهلك، والاستعاضة عنه بتسعيرة الدولار، وما أن يصل المستهلك الى الصندوق يدفع بالليرة اللبنانية وفق تسعيرة سعر الصرف. فما يحصل، انّ غالبية تجار الجملة وأصحاب الوكالات يسعّرون اليوم البضاعة وفق سعر صرف اعلى من المعتمد في السوق حفاظاً على ارباحهم. على سبيل المثال، اذا كان الدولار بـ12 الفاً يسعّرون البضاعة استباقياً وفق دولار 15 الفاً، لذلك يجب وضع الأسعار بالدولار، وعندما يشتريها المستهلك يدفعها وفق سعر الصرف اليومي.

– يجب رفع الحدّ الأدنى للأجور الى ما يساوي حوالى 125 دولاراً شهرياً وفق معدل سعر الصرف خلال الشهر، بحيث يكون الحدّ الأدنى للأجور متحرّك شهرياً يراعي تحركات سعر الصرف خلال الشهر، شرط ان تُلغى في الوقت نفسه كل العطاءات المترافقة مثل التنقل والمساعدات المدرسية… ففي حينه تحدّد كلفة موحّدة لكلفة العمل، شرط الّا تتدخل الدولة في تحديد الشطور، ويقتصر دورها على تحديد الحدّ الأدنى فقط.

 

واقترح بدارو ان يكون الحدّ الأدنى مناطقياً، إذ لا يجوز ان يكون راتب من يعيش في الريف كمن يعيش في العاصمة، علماً انّ هذا النظام متّبع في أكثر الدول تطوراً مثل المانيا. ورأى انّ من شأن هذه الخطوة ان تحرّر العاصمة من التضخم وتخلق فرص عمل في الأرياف وتنمذيها.

 

ورأى انّ رفع الدعم والاسعار يرتبطان بالرؤية المستقبلية لاقتصاد لبنان، ويستحيل اليوم استمرار العيش براتب 40 دولاراً شهرياً، هذا ضحك على المواطن. واستمرار هذا الغبن سينعكس سلباً على الضمان الاجتماعي الذي لن يطول الوقت قبل ان ينهار اذا استمر الوضع على ما هو عليه.

زيادة الكتلة النقدية فخٌ جديد

قبل التعليق على مشروع القانون المكرّر المعجّل القاضي بزيادة مليون ليرة لإخوتنا في القوى الامنية، والتطرّق إليه سلباً أم إيجاباً، نُشدّد ونقول إن القوى العسكرية في لبنان تستحق ملايين ومليارات الليرات، وأضعاف الأضعاف الزيادة الموعودة لتضحياتهم بدمائهم، وأجسادهم، وعذاباتهم تجاه وطنهم وأرضهم وشعبهم.

من الناحية النقدية، سيزيد هذا المشروع مباشرة الكتلة النقدية من العملة الوطنية، لأن المبالغ الموعودة ليست متوافرة في خزينة الدولة، وهذا يعني أن الدولة ستُجبر على طبع سيولة إضافية، وضخّها في السوق، والذي سيؤدي إلى تدهور أكثر لقيمة الليرة اللبنانية.

إن ضخ السيولة، وزيادة الكتلة النقدية في السوق المحلية الإضافية، من دون أي نمو اقتصادي، يؤدي إلى «هَدم» يوماً بعد يوم، قيمة العملة الوطنية، والقيمة الشرائية للعملة. بمعنى آخر، إننا نعطي إخوتنا في القوى الامنية مبلغاً معيناً بيد، وفي اليد الأخرى نأخذ منها ومن الشعب اللبناني ككل أضعافاً مضاعفة، حيث لم يعد في مقدور سائر طبقات الشعب تأمين الحد الأدنى من متطلّباته، ومتابعة عيشه على هذا النحو.

من جهة أخرى، هذا يعني أن الدولة تعد بزيادة وهمية لا تملكها، لأشخاص محقّين، وفي المقابل تزيد التضخم في الإقتصاد أضعافاً مضاعفة، والذي سيؤدّي إلى زيادة أسعار السلع الاساسية، وحيثما ستتبخّر هذه الزيادة المالية، حتى قبل أن تصل إلى جيوب مستحقيها. وفي الوقت عينه هذا القرار العشوائي سيُعمّق تدهور العملة. هذا يعني عملياً أنّ هذه الزيادة المالية المطروحة لن تقوم في خدمة المطالبين بها، بل ستزيد الإنهيار أكثر فأكثر.

إذا تطرّقنا إلى ناحية العدالة الإجتماعية، وإذا أُقرّت هذه الزيادة للقوى الأمنية، بحسب المشروع المطروح، سيُطالب في اليوم التالي كل موظفي القطاع العام وبحق، بالزيادة عينها.

هذا يعني أنه ستتكرّر أسطوانة سلسلة الرتب والرواتب بأموال غير متوافرة، وإذا لم تُقرّ هذه الزيادة بشكل عادل لكل القطاع العام، ستتجه البلاد الى الإضرابات والإقفال العام، وتالياً إلى الفوضى في الشارع.

وإذا لم يتطرّق أحد من المسؤولين المعنيين إلى كل هذه التداعيات، وقام باقتراح هذا المشروع بجهل، فهذا الأمر يُعتبر كارثة كبيرة. وإذا كان بالعكس، أي أنهم كانوا يعلمون كل هذه النتائج المباشرة وغير المباشرة، فهذا يُشكل كارثة أكبر، وهذا يعني أن النيّة المبطّنة متجهة إلى أخذ البلاد نحو المجهول والفوضى الإضافية.

في النهاية، مرة أُخرى سيدفع ثمن هذه القرارات العشوائية القطاع الخاص اللبناني، الذي ينزف، ولا يستطيع استكمال مسيرته، علماً أن زيادة الاجور في القطاع العام ستدفع القطاع الخاص إلى زيادات متتالية، وكل هذه الإجراءات ستزيد التضخم، وكلفة العيش وتدهور نسبته.

في المحصّلة، إن كل هذه الإجراءات غير مدروسة، وتهدف إلى كسب الوقت، وتأجيل المشكلة، ودفعها إلى الأمام، إذ لا نية لتنفيذ حلول جذرية، بل كالعادة، قرارات عشوائية – تخريبية، سيدفع ثمنها المواطنون، والإقتصاد، وستزيد الإنهيار والفوضى. ولربما هذا هو الهدف؟​

د. فؤاد زمكحل.

لغز الـ16 مليار دولار في مصرف لبنان

منذ ثورة 17 تشرين الاول 2019، وما أعقبها من تطورات على المستوى المالي والاقتصادي، تحوّل احتياطي العملات في مصرف لبنان بالنسبة للبعض، الى لغز. وحتى اليوم، لا يزال هذا الاحتياطي يُشكّل أحجية، كثيرون لا يستطيعون فكّ خيوطها. فهل من لغز فعلاً في هذا الملف؟

في تشرين الثاني 2019، وعقب إقفال القطاع المصرفي اللبناني لمدة اسبوعين تقريباً بالتزامن مع ثورة 17 تشرين، بدأ يتّضح عمق الأزمة المالية. واتجهت الأنظار الى مصرف لبنان وحاكمه، لمعرفة كم لديه من اموال يمكن استخدامها، لمواجهة الأزمة المقبلة، بانتظار خطة للخروج من المأزق.

في 11 تشرين الثاني 2019، عقد رياض سلامة مؤتمرا صحافيا أعلن فيه ان «الإحتياطي في مصرف لبنان يقارب الـ38 مليار دولار، بما فيه اليوروبوندز واستثمارات البنك المركزي، والقدرة النقدية لدى المصرف في الوقت الحاضر، والتي نستطيع استعمالها فورا هي في حدود الـ30 مليار دولار».

قبل كلام سلامة، أشارت أرقام ميزانية مصرف لبنان في نهاية تشرين الاول الى ان الاحتياطي لديه يبلغ 37.93 مليار دولار. واذا نقّصنا من المبلغ قيمة محفظة اليوروبوندز التي يحملها المركزي، يصبح الاحتياطي 32.90 مليار دولار. واللافت هنا ان سلامة احتسب كل الاحتياطي تقريبا على اساس انه مال جاهز للاستخدام، في حين انه أعلن لاحقاً، انه لا يستطيع ان ينفق من الاحتياطي الالزامي الذي كان حجمه في بداية الأزمة حوالى 17.5 مليار دولار.

هذا الاحتياطي تمّ تكريسه لسياسة الدعم التي بدأت بالمحروقات والقمح والدواء، وتوسّعت لاحقاً لتشمل سلة سلع وصل عددها الى حوالى 300 سلعة.

وعندما باشرت حكومة حسان دياب رسم سياسة اعلان الافلاس، وبدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ساد هرج ومرج في شأن حجم الاحتياطي الحقيقي الذي يمتلكه مصرف لبنان، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وعندما أبلغ سلامة الحكومة بالرقم، وهو كان مطابقاً للرقم الذي يعلنه مصرف لبنان رسمياً في أرقامه التي ينشرها دورياً، شكّك كثيرون في صحة الرقم، وقيل يومها انه قد يكون رقماً دفترياً، وان المركزي لا يملك دولارات حقيقية بهذا الحجم. لكن تبيّن لاحقاً، ومن خلال استمرار سياسة الدعم التي كانت تستهلك حوالى 600 الى 700 مليون دولار شهرياً، ان الدولارات موجودة بدليل استعمال حوالى 15 مليار دولار منذ تشرين الاول 2019 حتى نهاية العام 2020، بمعدل 1,1 مليار دولار شهريا. هذا الانفاق توزّع بين تأمين الدعم، وبين تسديد مطلوبات على المصارف اللبنانية للمصارف العالمية المُراسلة، وبين تمويل بعض الاحتياجات الرسمية للدولة، بالاضافة الى تهريب أموال، في غياب الكابيتال كونترول.

رغم هذه الوقائع، ظلّ ملف احتياطي العملات في مصرف لبنان أشبه بلغز بالنسبة لبعض المتابعين. ربما لأنّ الارقام بقيت غامضة. وهكذا، عندما نُقل عن سلامة قوله للمسؤولين في آب 2020، انه لم يتبق من الاحتياطي الذي يمكن إنفاقه سوى حوالى ملياري دولار، على اعتبار ان الـ17,5 مليار هي احتياطي إلزامي (15 % من مجموع الودائع الدولارية في المصارف)، لا يمكن المَسّ به، قيل يومها من قبل البعض ان هذا الكلام يعني ان مصرف لبنان لم يعد يملك سوى ملياري دولار فعلياً، وان ما يتحدث عنه على اساس احتياطي إلزامي هو وهمي ومال غير موجود سوى دفترياً.

هذه المقولة سقطت لاحقاً، لكن لغز الاحتياطي استمر، ذلك انّ الأموال المسموح إنفاقها كان يُفترض ان تنتهي مع نهاية العام 2020 على أبعد تقدير. لكن الدعم استمر كما هو، مع التأكيد انّ مصرف لبنان لم يستخدم الاحتياطي الالزامي حتى الآن. وما زاد من وقع المفاجأة هو الكلام الذي خرج به وزير المالية غازي وزني لوكالة بلومبرغ قبل اسبوع، ومفاده ان الاحتياطي في مصرف لبنان وصل الى 16 مليار دولار، وان ما تبقّى للاستعمال هو حوالى مليار أو مليار ونصف المليار دولار. هذا التصريح زاد منسوب الالتباس، واعتبر بعضهم ان ذلك يعني ان سلامة بدأ يصرف من الاحتياطي الالزامي من دون الاعلان عن ذلك، في حين اعتبر آخرون ان سلامة خفّض بصمت نسبة الاحتياطي من 15 الى 10 أو 12 %.

لكن الواقع غير ذلك، ما قاله وزني يعني عملياً ان الاحتياطي الالزامي انخفض من 17,5 مليار دولار، الى حوالى 15.4 مليار دولار، وبما ان المركزي يملك حالياً 16 مليار دولار فهذا الوضع يتيح له إنفاق حوالى 600 مليون دولار.

أما كيف وصل الاحتياطي الالزامي الى هذا الرقم، فالجواب بسيط: تراجع حجم الودائع الدولارية الى حوالى 103 مليارات دولار. وهذا يعني ان الـ15 % المطلوبة كاحتياطي إلزامي لهذه الودائع اصبحت توازي حوالى 15,4 مليار دولار. أما القول انّ هذا المبلغ لا يسمح بإنفاق سوى 600 مليون دولار فصحيح، لكن الصحيح ايضاً ان المقصود بكلام وزير المالية هو احتساب سعر محفظة اليوروبوندز التي باتت تتراوح قيمتها بين 500 و700 مليون دولار، بالاضافة الى انّ الاحتياطي في الاشهر الثلاثة المقبلة سيتراجع، مع توقّع استمرار تراجع حجم الودائع الدولارية في المصارف نتيجة استمرار السحب بالليرة على سعر المنصة، بحوالى 400 مليون دولار شهرياً. وهذا يعني انّ الاحتياطي الالزامي سيصبح في حزيران 2021 حوالى 15.2 مليون دولار وربما أقل، اذا تراجع حجم الودائع اكثر بقليل نتيجة استمرار اطفاء بعض ديون القطاع الخاص بالودائع الموجودة. وبما أن مصرف لبنان يعيد الى المصارف تِباعاً ما يستحق لها من احتياطي الزامي بالليرة وليس بالدولار، تصبح الدولارات المُحرّرة من نصيبه، ويتصرّف بها على أساس انها احتياطي يمكن إنفاقه.

انطوان فرح

مهمّة خفض الدولار تزداد تعقيداً وصعوبة

مع تمديد مفعول قرار سحب الودائع الدولارية بالليرة على سعر 3900 ليرة، يرتفع منسوب الشكوك حول نجاح المنصّة المركزية في خفض سعر صرف الدولار، ما دامت الحاجة الى تكبير الكتلة النقدية بالليرة قائمة لضمان استمرار سحب الودائع بالليرة، بالإضافة الى حاجات الدولة الملحّة، والتي لا يمكن تمويلها سوى عبر طباعة المزيد من العملة الورقية.

أصدر مصرف لبنان تعميماً يقضي بتمديد القرار الاساسي رقم 13221 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية، في شأن السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الاجنبية، أي التعميم 151، القاضي بإتمام السحوبات النقدية من الحسابات بالدولار بالليرة اللبنانية على سعر صرف 3900 لغاية 30 أيلول المقبل. وكان التعميم الاول قد صدر في 21 نيسان 2020، عندما تخطّى سعر صرف الدولار في السوق السوداء سقف الـ4000 ليرة، وتمّ العمل به لغاية اليوم، وفق سقوف محدّدة للسحوبات النقدية المسموح بها شهرياً على سعر صرف الـ3900 ليرة، لترتفع الكتلة النقدية منذ بدء العمل به ولغاية اليوم بمعدل تريليوني ليرة لبنانية شهرياً، نتيجة رفع سعر صرف السحوبات النقدية وتصل الى حوالى 34500 مليار ليرة اواخر شباط 2021، مع احتساب قيمة العملة التي تتمّ طباعتها أيضاً لتغطية عجز الدولة. أما سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فقد ارتفع من حوالى 4000 ليرة في نيسان 2020 الى 15 الف ليرة في الشهر الجاري، نتيجة العرض المفرط للسيولة النقدية بالليرة اللبنانية في السوق، والشحّ المتزايد بالعملة الصعبة.

ورغم انّ هذه السياسة لم تفلح، بل ساهمت في مزيد من انهيار العملة المحلية، إلّا انّه يتمّ تمديد العمل بها 6 أشهر اضافية، ليستمرّ معها ضخ المزيد من السيولة بالليرة في الاسواق وتحفيز الطلب على الدولار.

في المقابل، أكّدت مصادر معنيّة لـ«الجمهورية»، انّ بدء العمل بمنصّة المصارف وتمديد العمل بالتعميم 151 سيترافقان مع اجراءات جديدة، ستشدّد السحوبات النقدية بالليرة وتقلّصها. أي، هناك سعي لخفض قيمة السحوبات النقدية الشهرية بالليرة اللبنانية، من خلال الغاء الاستثناءات التي كانت ممنوحة للشركات والمؤسسات وبعض التجار واصحاب الحسابات المصرفية النشطة، والذين كان يُسمح لهم بتخطّي السقوف الشهرية للسحوبات النقدية على سعر صرف الـ3900 ليرة. والهدف من هذا التشدّد هو امتصاص القدر الاكبر من السيولة النقدية المتداولة في السوق وتقليصها، من اجل تفعيل عمل المنصّة الجديدة التي أنشأها مصرف لبنان للمصارف لإتمام عمليات الصرافة، والتي وعد رياض سلامة انّها تساهم في خفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة الى ما دون الـ10 آلاف ليرة!

ومع العلم المسبق، بأنّ هذه المنصّة لن تنجح في خفض سعر الصرف في السوق السوداء، بسبب عدم توفر التمويل اللازم لها، وحجم السيولة بالعملة الاجنبية المطلوبة لتلبية الطلب الكبير على الدولار في السوق. إلّا انّ الاعلان عنها والتمهيد لها ساهما على الاقلّ في كبح المسار الصاروخي الذي شهده سعر صرف الدولار نتيجة التأزّم السياسي الذي بلغ ذروته وانسداد الأفق بشكل كامل.

وتشير المصادر، الى انّ وتيرة ارتفاع سعر الصرف هدأت بعض الشيء منذ الاعلان عن منصّة المصارف للصرافة، ومنذ اعلام حاكم مصرف لبنان انّه سيعمل على خفض سعر الصرف الى 9 آلاف ليرة، نتيجة عملية الترقّب التي ولّدها هذا الاعلان لدى التجار والمستودرين، وكل من يسعى لاقتناء الدولارات، والذي فضّل التريث بشراء الدولارات الى حين بدء عمل المنصّة، وتراجع سعر الصرف الى 9 او 10 آلاف ليرة.

في المقابل، هدأت أيضاً وتيرة ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء حالياً، نتيجة إقبال حاملي الدولارات على بيعها على سعر الصرف الحالي، الذي يفوق الـ10 آلاف ليرة، تخوّفاً من ان تنجح المنصّة فعلياً في خفض السعر الى ما دون الـ10 آلاف ليرة، ويفي سلامة بوعده بتثبيته عند حدود الـ9 آلاف ليرة.

ولكنّ الخلاصة الوحيدة، هي انّ لا المنصّة ولا الوعود ولا المعالجات النفسية او سياسات القمع المتّبعة، ستنجح في وقف انهيار الليرة، وانّ مسارها النزولي مستمرّ الى حين تدفق السيولة النقدية الاجنبية الى لبنان من جديد، بكميات توازي حاجة السوق، وتغطي على الأقلّ العجز في ميزان المدفوعات.

في هذا السياق، شدّدت مصادر، على انّ كافة الإجراءات المعتمدة للسيطرة على سعر الصرف، لا جدوى منها، وقد فشلت فشلاً ذريعاً، لا بل أدّت التدابير المقترحة او المنفذة إلى مزيد من التدهور في قيمة الليرة. وقالت: «ألم يعِ صنّاع القرار بعد، انّ عامل العرض والطلب وتوقعات السوق بشأن البرنامج الاقتصادي الحكومي، ولا سيما السياسات المالية والنقدية، هي التي ستحدّد سعر الصرف في السوق السوداء؟. ألم يدركوا بعد، انّ السبيل الوحيد لاستقرار العملة المحلية او حتى ارتفاعها، لا يحصل سوى من خلال تأليف حكومة جديدة تتفق مع صندوق النقد الدولي على تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل وجاد؟».

رنى سعرتي

الهندسات المالية لـ”مصرف لبنان”: ما لها وما عليها

إنّ الدولرة القوية التي عاشها لبنان منذ أزمة الثمانينات والتسعينات جعلت أي أداة استقرار قائمة على التحكم في عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعالة، وأدت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف بشكل مستمر عبر تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع… إلا أن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائما توفير المزيد من احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان للحفاظ على هامش تدخله في السوق… الأمر الذي تطلّب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (حيث تقليدياً فائض ميزان الرساميل يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد مستورد رئيسي)… ومع تراكم عجز ميزان المدفوعات وزيادة الهوة بين الدولرة المتزايدة للودائع والموجودات المتناقصة بالدولار، ومع تلاقي الحاجة لشراء الوقت وتلاقي هدف المالية العامة لجهة تمويل عجوزاتها وتخفيض خدمة الدين العام عبر دولرة جزء منه، وهدف المصرف المركزي بزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية وهدف المصارف بإيجاد توظيفات مربحة و»موثوقة» حصلت سلسلة «الهندسات المالية»… فما هي آليّاتها؟ وأي دور وأي نتائج لكل من الأطراف المعنية بتنفيذها؟

بعد تجربة التضخّم المفرط وانهيار سعر صرف الليرة في الثمانينات واتجاه العملاء الاقتصاديين تلقائياً في لبنان نحو الدولرة الحرة الجزئية غير الرسمية ولو بمعدّل مرتفع تخطى حينها الـ80 % من الودائع، ثم انخفض بعد تثبيت سعر الصرف تدريجاً لكن من دون ان ينخفض عن عتبة الـ67 % من الودائع ليعاود اليوم تخطي حدود 80 %. كان لا بد من اعتماد سياسة ضبط سعر صرف الليرة إزاء الدولار المستخدم الى جانبها بشكل مواز في السوق، لا بل أنشئت غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتمدت المصارف لسنوات تعبئة أجهزة الصراف الآلي بالدولار الأميركي الى جانب الليرة اللبنانية مع السماح بالتحويل التلقائي بين حسابات الليرة والدولار والسحب النقدي بأي من العملتين، خلافاً لما هي الحال في مختلف بلدان العالم التي يقتصر فيها سحب الصراف الآلي على العملة الوطنية التي يمكن التحكّم بطباعتها. وذلك في ظل تَنامٍ غير مستدام للدين العام الذي أصبح أكثر من ثلثه مدولراً، ويعاني تراجعاً متتالياً لتصنيفه الائتماني من المؤسسات الدولية بما يعكس التشكيك بالقدرة على التسديد الكامل عند الاستحقاقات ويتطلّب زيادة معدلات الفوائد للتعويض عن المخاطرة، ويضاف اليه تدهور في ميزان المدفوعات والأصول الخارجية للنظام المصرفي وضعف احتياطيات المصرف المركزي بالدولار الأميركي بعد جهود صموده منذ انقلاب الأوضاع في لبنان والمنطقة منذ العام 2011 واستمرار مصرف لبنان بـ»دعم» سعر صرف الليرة 1507.5 وتأمين الاستيراد على أساسه بكميات تبيّن أنها كانت تفوق حاجة السوق المحلي بما كان يزيد الضغط على استنزاف الاحتياطي الأجنبي أكثر فأكثر.

وللتذكير فقد بلغ عجز ميزان المدفوعات في نهاية عام 2019 حوالى 4,351 ملايين دولار أميركي، بينما بلغ العجز المتراكم منذ عام 2011 14,515,9 مليون دولار أميركي، باستثناء عام 2016 الذي تميز بشكل استثنائي بفائض في ميزان المدفوعات نتيجة عمليات «الهندسة المالية» المنفذة من قبل مصرف لبنان كوسيط بين الخزينة العامة والمصارف التجارية.

وقد اعتمدت هذه العمليات على تبادل حصة متزايدة من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحتفظ بها القطاع المصرفي مقابل سندات اليوروبوندز من خلال مصرف لبنان، والتي سعت إلى جذب المزيد من الدولارات لتجديد احتياطياتها من العملات الأجنبية وتأخير اندلاع الأزمة قدر الإمكان… انتهت هذه العمليات بزيادة «تغطيس» المصارف اللبنانية في تمويل الدولة عن طريق شراء سندات اليوروبوندز الخاصة بها باستخدام الودائع بالعملات الأجنبية لعملائها، مما يفسر الانتشار الحالي للأزمة في القطاع المصرفي وتوقفه عن توفير الدولارات لمودعيه.

وقد أدت الهندسة المالية التي تم تنفيذها في عام 2016 إلى نتائج ملحوظة لمختلف اللاعبين المعنيين من الخزينة العامة والمصرف المركزي الى المصارف التجارية. وأخّرت ظهور معالم أزمة تراكمت مؤشراتها حتى انفجرت بوجه المودعين دفعة واحدة في خريف 2019 من دون التنبه للمراحل السابقة…

وقد بدأت عمليات «الهندسات المالية» كخيار غير تقليدي للسياسة النقدية في لبنان منذ العام 2016 لتؤدي الى النتائج التالية:

بداية تحسين الاحتياطي الإجمالي لمصرف لبنان من النقد الأجنبي من 35.1 مليار دولار في أيار 2016 قبل عمليات الهندسة المالية في نهاية تشرين الأول 2016 إلى 40.6 مليار دولار بعد تحقيقها (بين الوساطة لبيع اليوروبوندز وأيضاً إصدار وبيع شهادات إيداع من المصرف المركزي للمصارف لاجتذاب المزيد من ودائع الدولار الموظّفة لديها)، لزيادة إمكانية التدخل في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن استقرار سعر الصرف واتباع سياسة تثبيت الليرة مقابل الدولار الأميركي.

كما أدى هذا الخيار الى إعادة رسملة المصارف وفقاً للمعيار الدولي IFRS9 نظرا لأن مصرف لبنان أصدر تعميما يطالب المصارف التجارية بتوجيه العوائد التي حققتها الهندسة المالية نحو زيادة رساميلها وتحسين احتياطيات المصارف والالتزام بالمعيار الدولي للتقارير المالية IFRS9 الصادر في كانون الثاني 2018، والذي يتطلب من المصارف تقدير وتسجيل مخصصات الخسائر المتوقعة على الذمم المدينة من لحظة التزامها بإقراض الأموال أو الاستثمار في أداة مالية، مثل السندات. كما يطلب مصرف لبنان من المصارف التجارية تكوين احتياطيات بمعدل 2 % من الأصول التي تحمل مخاطر الملاءة المالية.

وسمح أيضا للمصارف التجارية بالوصول إلى نسبة حقوق الملكية التي فرضها عليها مصرف لبنان نهاية عام 2018، وهي 15 % وهي تتجاوز توصيات Bale3 التي طلبت زيادة هذه النسبة من 8 % إلى 10.5 % من المشكوك في تحصيلها. أصول من بداية عام 2019.

ومع ذلك، فإن المصارف تخاطر بأن تجد نفسها في حالة فخ السيولة إذا لم تكن قادرة على استخدام العوائد المحققة لمنح القروض ويتعين على الخزينة العامة إصدار سندات عند الاستحقاقات لفترة طويلة لامتصاص هذه السيولة الزائدة. وبالتالي لا يكون التسهيل الكمي المطبق Assouplissement quantitatif أكثر من مجرد تبادل بسيط للسندات الحكومية.

كذلك مع زيادة السيولة بالعملة الوطنية، أتاحت الهندسة المالية ضمان الاحتياجات التمويلية للقطاعين العام والخاص في ظل أفضل الظروف بفضل زيادة الودائع بنسبة 2.5 % لتصل إلى الحد الأدنى. معدل الزيادة السنوي 7.2 % في نهاية عام 2016. وهكذا زادت الودائع المصرفية من 159 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2015 إلى 172 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2016. لتفوق ما يوازي 180 مليار دولار منها 120 مليار دولار فعليا بالدولار الأميركي قبيل انفجار الأزمة عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، مكّنت السيولة الفائضة بالليرة اللبنانية المصارف التجارية من زيادة محفظة قروضها خاصة من خلال القروض المدعومة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات الاقتصادية الهشة وقروض الإسكان.

كما تم تحسين وضع المالية العامة من خلال تخفيض خدمة الدين العام. وخفضت الهندسة المالية أسعار الفائدة على أذون الخزانة لأجل 5 سنوات من 6.74 % إلى 5 %. كما خفض مصرف لبنان أسعار الفائدة على شهادات الإيداع طويلة الأجل لحسابات التوفير بالليرة اللبنانية من 9 % إلى 8.4 %. وشجع هذا التحسن في وضع المالية العامة المؤسسات المالية الدولية على الاكتتاب بسندات اليوروبوندز. من هناك، ساعدت الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بالهندسة المالية على تعزيز المراكز النقدية والمالية دون رفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة بالليرة اللبنانية أو سندات الخزانة بالدولار الأميركي.

وقد أدت الهندسة المالية إلى نجاح مشروع قانون الخزانة الجديد بالدولار الأميركي. وإذ يدرك أن مصرف لبنان مسؤول عن الترويج لسندات اليوروبوندز للخزينة العامة تطبيقاً للمواد 70 إلى 97 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه في مهمته دور الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والترويج المجاني للقروض العامة داخلياً وخارجياً، يسمح مصرف لبنان للمصارف التجارية بخصم شهادات الإيداع بالدولار الأميركي بشرط الاكتتاب بنفس المبلغ في أذون الخزانة بالدولار الأميركي، فضلاً عن تحسين وضع ميزان المدفوعات من خلال تطبيق إجراءات من شأنها زيادة الطلب المحلي والإنتاجية وبالتالي زيادة النمو والتنمية. وبلغ تدفق رأس المال الناتج عن هذه الهندسة المالية 4.2 مليارات دولار أميركي في نهاية عام 2016. وتحول العجز التراكمي الذي بلغ 1.7 مليار دولار أميركي في أيار 2016 إلى فائض قدره 1.35 مليار دولار أميركي بنهاية عام 2016.

وقد كانت الزيادة في التضخم من 0 % إلى 2 % في أيلول 2016 مناسبة تماماً للنتائج المرجوة للسياسة النقدية لمصرف لبنان. كما لوحظ تحسن في تصنيف لبنان بعد عمليات الهندسة المالية الأولى لمصرف لبنان، مما أدى إلى انتقال التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالة الدولية Standard and Poor›s من سلبي إلى مستقر.

كذلك استفادت الدولة من تطبيق معدل ضريبة قدره 15 % على العوائد التي حققتها المصارف التجارية، بقيمة 5 مليارات دولار أميركي، وبالتالي إيرادات ضريبية بقيمة 1.2 مليار ليرة لبنانية أو ما كان يوازي 800 مليون دولار أميركي من هذه العوائد الاستثنائية.

يلاحظ أنّ مصرف لبنان طلب من خلال ثلاث مذكرات أن يخصص جزء من هذا الدخل لإعادة رسملة المصارف بما يقارب 2.4 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنّ المصارف سجلت أرباحا بقيمة الفارق أي 2.6 مليار دولار لأنه من أجل جذب المزيد من العملات الأجنبية، كان على بعض المصارف إطلاق منتجات مالية جديدة تشارك فيها جزءًا من الأرباح مع عملائها ولا يتأثر فيها مصرف لبنان.

يتم وضع حوالى نصف هذه السيولة بالليرة اللبنانية على شكل ودائع طويلة ومتوسطة الأجل لدى مصرف لبنان، على أن يتم تقسيم الباقي بين مبلغ مخصّص لتقديم قروض للقطاع الخاص ومبلغ يوضع في حساب خاص لدى المصارف يمكن للحكومة الاقتراض منه بنسبة 5 % لمدة 5 سنوات، أي بمعدل نقطتين أقل من سعر السوق وبحيث لا يكون هناك فائض في السيولة يحمل مخاطر عالية للتضخم.

وتؤكد الهندسة المالية فرضية نجاح السياسات النقدية غير التقليدية في أوقات الأزمات في دعم الاقتصاد ككل وضمان التمويل اللازم للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مع اتّباع السياسات النقدية التقليدية.

يبقى القول إنه إلى جانب فوائد اللجوء الاستثنائي للسياسات النقدية غير التقليدية، إلا أنّ الهندسات المالية لمصرف لبنان لم تخل من القيود والمخاطر.

وقد تبيّن أن ضخ السيولة والحاجات التمويلية للقطاع العام وإقباله على تقديم الحوافز للحصول عليها قد شجع المصارف على التمادي في المخاطرة التي ضغطت بدورها على الاستقرار النقدي. وقد أصبح الجهاز المصرفي الشريك الرئيسي المموّل للدولة من خلال سندات الخزينة، إن بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، فاشتبكت أوضاع المالية العامة المتدهورة أساساً بفعل عجزها ومديونيتها بوضع المصرف المركزي الساعي لإدارة أزمة استنزاف احتياطاته الخارجية والتمسّك باستقرار السياسة النقدية وربط لليرة بالدولار مهما كان الثمن، ووضع القطاع المصرفي الذي أصبح مصدر التمويل الرئيسي لدولة يتدهور تصنيفها مما يؤثر على جودة ميزانيات مموّليتها وإمكانية استرداد أموالهم، والبرهان انّ عامل المخاطرة كانت تعكسه بوضوح معدلات الفوائد بعد أن باتت كلها تلحق بفائدة سندات الدولة، حيث يفترض أن يكون التوظيف «الآمن» فكان التوظيف «الأخطر».. هنا مصدر الخلل.. ومن هنا تبدأ المعالجة الصحيحة.

د. سهام رزق الله.

. ليرة لبنانية جديدة لمحاربة التضخم

اذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، سنقترب بسرعة من درجة متقدّمة في التضخّم المفرط، وقد نشهد ولادة الليرة الجديدة في عملية قيصرية مُبكرة قبل اكتمال الظروف المناسبة، بما يهدّد حياة المولود الجديد، ويُدخلنا في حلقة مُفرغة من حذف الأصفار.

لم يكن مشهد اقتحام سوبرماركت وتحطيم المحتويات، أو مشهد التقاتل من أجل كيس حليب مجفّف او قنينة زيت مدعوم، من المشاهد المألوفة لدى اللبناني. لكن، من يراجع التطورات في دول واجهت أزمات مالية شبيهة بالأزمة التي نواجهها، يدرك انّ هذه المشاهد النافرة مألوفة، من حيث انّها تتكرّر وكأنّها تُستنسخ في كل دولة يعاني شعبها الظلم الاجتماعي الذي يعانيه اللبناني اليوم. دائماً تبدأ النقمة ضدّ المصرف وتتعرّض المصارف الى التحطيم والحرق، حيث يصبّ الفقراء الجدد غضبهم على المصرف كمرحلة أولى. ثم ينتقل الغضب الى مراكز بيع المواد الغذائية، لأنّ اهتمامات الناس تتركّز لاحقاً على تأمين الغذاء، بعد أن يفقدوا الأمل باستعادة مقومات العيش الرغيد ومتفرعاته. وفي مرحلة ثالثة يرتفع منسوب النهب والسرقة والاعتداءات على المحلات والناس، اذ تحلّ الحاجة القصوى مكان الغضب. وبالتالي، يصبح الهدف من اقتحام سوبرماركت السرقة لتأمين لقمة العيش، وليس مجرد فشة خلق…

في موازاة هذا السيناريو الذي يتكرّر في دول تعاني انهيارات مالية مصحوبة بعجز وفساد سياسي، يحول دون وقف الانهيار عند قعر مقبول، هناك مشهد آخر مُتكرّر يرتبط بدور رجل الأمن في أزمات من هذا النوع. هذا المشهد هو حصري للدول غير الديمقراطية. في هذه الدول يُستخدم رجل الأمن للقمع. وبما أنّ العسكر مثل سواه من الناس، يمكن أن يجوع وبالتالي، يصعب استخدامه في قمع الجائعين، تلجأ السلطات الى منح العسكريين امتيازات معيشية تسمح بضمان الولاء.

يروي ديبلوماسي لبناني معتمد في كاراكاس، انّ القيادات العسكرية في فنزويلا تتمتع بمميزات استثنائية منحها ايّاها الرئيس نيكولاس مادورو، تسمح للضباط الكبار بمداخيل مرتفعة وكافية لعيش رغيد، في حين انّ العسكريين يحصلون بدورهم على امتيازات معيشية، تقيهم العوز الذي يعانيه الشعب الفنزويلي. في لبنان، يعتقد البعض، ورغم الانتخابات، انّ العامل الطائفي يجعل النتائج أقرب الى التوتاليتارية الطائفية منها الى نتائج ديمقراطية. هذا الواقع سبّب النقزة، عندما جرى اقتراح تقديم مليون ليرة شهرياً للعسكريين، رغم النية الحسنة وراء الاقتراح، لأنّ أخطر ما يمكن ان يواجهه مجتمع، هو التمييز المعيشي بين مدني وعسكري في أزمة تُنهك الجميع.

خارج سياق المشاهد الحياتية القاسية التي سيشهدها البلد في الأشهر المقبلة، هناك اجراءات قد تضطر الى اتخاذها السلطات، من ضمنها رفع الاجور، شطب أصفار من العملة، أو استحداث عملة جديدة، أو حتى التخلّي عن الليرة وحصر التعامل بالعملات الاجنبية، وتحديداً بالدولار…

كل هذه الاجراءات ستكون مطروحة وفق التجارب التي واجهتها دول أخرى. لكن شطب أصفار من الليرة تحت مُسمّى الليرة الجديدة وفق ما يُعرف اقتصادياً بـ Redenomination ، أو حتى تغيير الإسم بالكامل من خلال ابتكار اسم جديد (وانة على سبيل المثال، وهي مشتقة من كلمة ارجوانة تيمناً بالتراث الفينيقي)، لن يقدّم أو يؤخّر اذا لم يأت ضمن خطة انقاذية شاملة. وهنا أيضاً نستحضر تجارب الدول لاستشفاف ما قد يجري.

في العادة، وفي حالات التضخّم المفرط (hyperinflation)، يتمّ اللجوء الى شطب الاصفار، واستحداث عملات جديدة. وظيفة هذا الإجراء الأولى نفسية، حيث يُفترض ان تريح المتعامل، وتوهمه بأنّ سعر صرف عملته أصبح أفضل. الوظيفة الثانية، تحقيق وفرٍ في عملية طباعة العملة، حيث انّ كلفة الطباعة تتجاوز أحياناً قيمة الورقة النقدية نفسها. الوظيفة الثالثة، تسهيل العمليات المحاسبية.

مع ذلك، نلاحظ انّ هذا الاجراء ينجح في دول ويفشل في دول أخرى. وفي التاريخ الحديث، أي من العام 1960 حتى اليوم، هناك 19 دولة حذفت أصفاراً من عملتها، بعضها مرات عدة، مثل البرازيل 6 مرات، يوغوسلافيا 5 مرات، الارجنتين 4 مرات، بلجيكا، روسيا، بولندا واوكرانيا 3 مرات، بوليفيا واسرائيل لمرتين، ومرة واحدة في كل من كوريا، ايسلندا، غانا، وتركيا.

لا حاجة الى التأكيد انّ معيار النجاح والفشل يرتبط بالظرف الذي تتمّ فيه عملية إطلاق العملات الجديدة. في اسرائيل مثلاً، استُحدث الشيكل الجديد (new shekel) في العام 1985، ضمن خطة إنقاذ شاملة أخرجت البلد من أزمة مالية واقتصادية خانقة، قبيل الانهيار الكبير الذي كان متوقعاً فيما لو لم تُقرّ ويبدأ تنفيذ الخطة. لذلك نجح الشيكل الجديد الذي كان يساوي 1000 شيكل قديم، وانتهت المشكلة. لكن، قبل ذلك، حاولت اسرائيل معالجة الأزمة على الطريقة اللبنانية، اذ انتقلت من «الليرة الاسرائيلية» التي كانت مُعتمدة الى الشيكل بسبب التضخّم، من دون خطة إنقاذ، وقد حذفت صفراً من العملة القديمة بلا نتيجة.

هذه التجربة لم تنجح مثلاً، ورغم تكرارها مرات عدة في هنغاريا، حيث كانت الدولة تستخدم عملة كورونا korona، وبسبب الانهيار المالي والتضخّم استحدثت عملتها الجديدة بينغو pengo، ولاحقاً وبسبب استمرار الانهيار استحدثت عملتها الحالية فورينت forint، ولا يمكن التكهُّن بإسم العملة الهنغارية بعد سنوات، اذا استمر فخ التضخم المفرط قائماً.

في لبنان، واذا استمرت الغيبوبة القائمة، واذا استمر اسلوب معالجة حرارة المريض المرتفعة عبر تحطيم ميزان الحرارة لإخفاء النتيجة، قد نضطر الى تغيير العملة مراتٍ عدة، والى رفع الاجور مراتٍ عدة أيضاً، وربما رفع تسعيرة المنّصة لسحب الودائع الدولارية بالليرة، لكننا سنبقى في دوامة الحلقة المفرغة التي ستواصل ابتلاع ما تبقّى من مقومات الوقوف مجدداً في المستقبل.​

انطوان فرح.