أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

لغز الـ16 مليار دولار في مصرف لبنان

منذ ثورة 17 تشرين الاول 2019، وما أعقبها من تطورات على المستوى المالي والاقتصادي، تحوّل احتياطي العملات في مصرف لبنان بالنسبة للبعض، الى لغز. وحتى اليوم، لا يزال هذا الاحتياطي يُشكّل أحجية، كثيرون لا يستطيعون فكّ خيوطها. فهل من لغز فعلاً في هذا الملف؟

في تشرين الثاني 2019، وعقب إقفال القطاع المصرفي اللبناني لمدة اسبوعين تقريباً بالتزامن مع ثورة 17 تشرين، بدأ يتّضح عمق الأزمة المالية. واتجهت الأنظار الى مصرف لبنان وحاكمه، لمعرفة كم لديه من اموال يمكن استخدامها، لمواجهة الأزمة المقبلة، بانتظار خطة للخروج من المأزق.

في 11 تشرين الثاني 2019، عقد رياض سلامة مؤتمرا صحافيا أعلن فيه ان «الإحتياطي في مصرف لبنان يقارب الـ38 مليار دولار، بما فيه اليوروبوندز واستثمارات البنك المركزي، والقدرة النقدية لدى المصرف في الوقت الحاضر، والتي نستطيع استعمالها فورا هي في حدود الـ30 مليار دولار».

قبل كلام سلامة، أشارت أرقام ميزانية مصرف لبنان في نهاية تشرين الاول الى ان الاحتياطي لديه يبلغ 37.93 مليار دولار. واذا نقّصنا من المبلغ قيمة محفظة اليوروبوندز التي يحملها المركزي، يصبح الاحتياطي 32.90 مليار دولار. واللافت هنا ان سلامة احتسب كل الاحتياطي تقريبا على اساس انه مال جاهز للاستخدام، في حين انه أعلن لاحقاً، انه لا يستطيع ان ينفق من الاحتياطي الالزامي الذي كان حجمه في بداية الأزمة حوالى 17.5 مليار دولار.

هذا الاحتياطي تمّ تكريسه لسياسة الدعم التي بدأت بالمحروقات والقمح والدواء، وتوسّعت لاحقاً لتشمل سلة سلع وصل عددها الى حوالى 300 سلعة.

وعندما باشرت حكومة حسان دياب رسم سياسة اعلان الافلاس، وبدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ساد هرج ومرج في شأن حجم الاحتياطي الحقيقي الذي يمتلكه مصرف لبنان، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وعندما أبلغ سلامة الحكومة بالرقم، وهو كان مطابقاً للرقم الذي يعلنه مصرف لبنان رسمياً في أرقامه التي ينشرها دورياً، شكّك كثيرون في صحة الرقم، وقيل يومها انه قد يكون رقماً دفترياً، وان المركزي لا يملك دولارات حقيقية بهذا الحجم. لكن تبيّن لاحقاً، ومن خلال استمرار سياسة الدعم التي كانت تستهلك حوالى 600 الى 700 مليون دولار شهرياً، ان الدولارات موجودة بدليل استعمال حوالى 15 مليار دولار منذ تشرين الاول 2019 حتى نهاية العام 2020، بمعدل 1,1 مليار دولار شهريا. هذا الانفاق توزّع بين تأمين الدعم، وبين تسديد مطلوبات على المصارف اللبنانية للمصارف العالمية المُراسلة، وبين تمويل بعض الاحتياجات الرسمية للدولة، بالاضافة الى تهريب أموال، في غياب الكابيتال كونترول.

رغم هذه الوقائع، ظلّ ملف احتياطي العملات في مصرف لبنان أشبه بلغز بالنسبة لبعض المتابعين. ربما لأنّ الارقام بقيت غامضة. وهكذا، عندما نُقل عن سلامة قوله للمسؤولين في آب 2020، انه لم يتبق من الاحتياطي الذي يمكن إنفاقه سوى حوالى ملياري دولار، على اعتبار ان الـ17,5 مليار هي احتياطي إلزامي (15 % من مجموع الودائع الدولارية في المصارف)، لا يمكن المَسّ به، قيل يومها من قبل البعض ان هذا الكلام يعني ان مصرف لبنان لم يعد يملك سوى ملياري دولار فعلياً، وان ما يتحدث عنه على اساس احتياطي إلزامي هو وهمي ومال غير موجود سوى دفترياً.

هذه المقولة سقطت لاحقاً، لكن لغز الاحتياطي استمر، ذلك انّ الأموال المسموح إنفاقها كان يُفترض ان تنتهي مع نهاية العام 2020 على أبعد تقدير. لكن الدعم استمر كما هو، مع التأكيد انّ مصرف لبنان لم يستخدم الاحتياطي الالزامي حتى الآن. وما زاد من وقع المفاجأة هو الكلام الذي خرج به وزير المالية غازي وزني لوكالة بلومبرغ قبل اسبوع، ومفاده ان الاحتياطي في مصرف لبنان وصل الى 16 مليار دولار، وان ما تبقّى للاستعمال هو حوالى مليار أو مليار ونصف المليار دولار. هذا التصريح زاد منسوب الالتباس، واعتبر بعضهم ان ذلك يعني ان سلامة بدأ يصرف من الاحتياطي الالزامي من دون الاعلان عن ذلك، في حين اعتبر آخرون ان سلامة خفّض بصمت نسبة الاحتياطي من 15 الى 10 أو 12 %.

لكن الواقع غير ذلك، ما قاله وزني يعني عملياً ان الاحتياطي الالزامي انخفض من 17,5 مليار دولار، الى حوالى 15.4 مليار دولار، وبما ان المركزي يملك حالياً 16 مليار دولار فهذا الوضع يتيح له إنفاق حوالى 600 مليون دولار.

أما كيف وصل الاحتياطي الالزامي الى هذا الرقم، فالجواب بسيط: تراجع حجم الودائع الدولارية الى حوالى 103 مليارات دولار. وهذا يعني ان الـ15 % المطلوبة كاحتياطي إلزامي لهذه الودائع اصبحت توازي حوالى 15,4 مليار دولار. أما القول انّ هذا المبلغ لا يسمح بإنفاق سوى 600 مليون دولار فصحيح، لكن الصحيح ايضاً ان المقصود بكلام وزير المالية هو احتساب سعر محفظة اليوروبوندز التي باتت تتراوح قيمتها بين 500 و700 مليون دولار، بالاضافة الى انّ الاحتياطي في الاشهر الثلاثة المقبلة سيتراجع، مع توقّع استمرار تراجع حجم الودائع الدولارية في المصارف نتيجة استمرار السحب بالليرة على سعر المنصة، بحوالى 400 مليون دولار شهرياً. وهذا يعني انّ الاحتياطي الالزامي سيصبح في حزيران 2021 حوالى 15.2 مليون دولار وربما أقل، اذا تراجع حجم الودائع اكثر بقليل نتيجة استمرار اطفاء بعض ديون القطاع الخاص بالودائع الموجودة. وبما أن مصرف لبنان يعيد الى المصارف تِباعاً ما يستحق لها من احتياطي الزامي بالليرة وليس بالدولار، تصبح الدولارات المُحرّرة من نصيبه، ويتصرّف بها على أساس انها احتياطي يمكن إنفاقه.

انطوان فرح

مهمّة خفض الدولار تزداد تعقيداً وصعوبة

مع تمديد مفعول قرار سحب الودائع الدولارية بالليرة على سعر 3900 ليرة، يرتفع منسوب الشكوك حول نجاح المنصّة المركزية في خفض سعر صرف الدولار، ما دامت الحاجة الى تكبير الكتلة النقدية بالليرة قائمة لضمان استمرار سحب الودائع بالليرة، بالإضافة الى حاجات الدولة الملحّة، والتي لا يمكن تمويلها سوى عبر طباعة المزيد من العملة الورقية.

أصدر مصرف لبنان تعميماً يقضي بتمديد القرار الاساسي رقم 13221 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية، في شأن السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الاجنبية، أي التعميم 151، القاضي بإتمام السحوبات النقدية من الحسابات بالدولار بالليرة اللبنانية على سعر صرف 3900 لغاية 30 أيلول المقبل. وكان التعميم الاول قد صدر في 21 نيسان 2020، عندما تخطّى سعر صرف الدولار في السوق السوداء سقف الـ4000 ليرة، وتمّ العمل به لغاية اليوم، وفق سقوف محدّدة للسحوبات النقدية المسموح بها شهرياً على سعر صرف الـ3900 ليرة، لترتفع الكتلة النقدية منذ بدء العمل به ولغاية اليوم بمعدل تريليوني ليرة لبنانية شهرياً، نتيجة رفع سعر صرف السحوبات النقدية وتصل الى حوالى 34500 مليار ليرة اواخر شباط 2021، مع احتساب قيمة العملة التي تتمّ طباعتها أيضاً لتغطية عجز الدولة. أما سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فقد ارتفع من حوالى 4000 ليرة في نيسان 2020 الى 15 الف ليرة في الشهر الجاري، نتيجة العرض المفرط للسيولة النقدية بالليرة اللبنانية في السوق، والشحّ المتزايد بالعملة الصعبة.

ورغم انّ هذه السياسة لم تفلح، بل ساهمت في مزيد من انهيار العملة المحلية، إلّا انّه يتمّ تمديد العمل بها 6 أشهر اضافية، ليستمرّ معها ضخ المزيد من السيولة بالليرة في الاسواق وتحفيز الطلب على الدولار.

في المقابل، أكّدت مصادر معنيّة لـ«الجمهورية»، انّ بدء العمل بمنصّة المصارف وتمديد العمل بالتعميم 151 سيترافقان مع اجراءات جديدة، ستشدّد السحوبات النقدية بالليرة وتقلّصها. أي، هناك سعي لخفض قيمة السحوبات النقدية الشهرية بالليرة اللبنانية، من خلال الغاء الاستثناءات التي كانت ممنوحة للشركات والمؤسسات وبعض التجار واصحاب الحسابات المصرفية النشطة، والذين كان يُسمح لهم بتخطّي السقوف الشهرية للسحوبات النقدية على سعر صرف الـ3900 ليرة. والهدف من هذا التشدّد هو امتصاص القدر الاكبر من السيولة النقدية المتداولة في السوق وتقليصها، من اجل تفعيل عمل المنصّة الجديدة التي أنشأها مصرف لبنان للمصارف لإتمام عمليات الصرافة، والتي وعد رياض سلامة انّها تساهم في خفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة الى ما دون الـ10 آلاف ليرة!

ومع العلم المسبق، بأنّ هذه المنصّة لن تنجح في خفض سعر الصرف في السوق السوداء، بسبب عدم توفر التمويل اللازم لها، وحجم السيولة بالعملة الاجنبية المطلوبة لتلبية الطلب الكبير على الدولار في السوق. إلّا انّ الاعلان عنها والتمهيد لها ساهما على الاقلّ في كبح المسار الصاروخي الذي شهده سعر صرف الدولار نتيجة التأزّم السياسي الذي بلغ ذروته وانسداد الأفق بشكل كامل.

وتشير المصادر، الى انّ وتيرة ارتفاع سعر الصرف هدأت بعض الشيء منذ الاعلان عن منصّة المصارف للصرافة، ومنذ اعلام حاكم مصرف لبنان انّه سيعمل على خفض سعر الصرف الى 9 آلاف ليرة، نتيجة عملية الترقّب التي ولّدها هذا الاعلان لدى التجار والمستودرين، وكل من يسعى لاقتناء الدولارات، والذي فضّل التريث بشراء الدولارات الى حين بدء عمل المنصّة، وتراجع سعر الصرف الى 9 او 10 آلاف ليرة.

في المقابل، هدأت أيضاً وتيرة ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء حالياً، نتيجة إقبال حاملي الدولارات على بيعها على سعر الصرف الحالي، الذي يفوق الـ10 آلاف ليرة، تخوّفاً من ان تنجح المنصّة فعلياً في خفض السعر الى ما دون الـ10 آلاف ليرة، ويفي سلامة بوعده بتثبيته عند حدود الـ9 آلاف ليرة.

ولكنّ الخلاصة الوحيدة، هي انّ لا المنصّة ولا الوعود ولا المعالجات النفسية او سياسات القمع المتّبعة، ستنجح في وقف انهيار الليرة، وانّ مسارها النزولي مستمرّ الى حين تدفق السيولة النقدية الاجنبية الى لبنان من جديد، بكميات توازي حاجة السوق، وتغطي على الأقلّ العجز في ميزان المدفوعات.

في هذا السياق، شدّدت مصادر، على انّ كافة الإجراءات المعتمدة للسيطرة على سعر الصرف، لا جدوى منها، وقد فشلت فشلاً ذريعاً، لا بل أدّت التدابير المقترحة او المنفذة إلى مزيد من التدهور في قيمة الليرة. وقالت: «ألم يعِ صنّاع القرار بعد، انّ عامل العرض والطلب وتوقعات السوق بشأن البرنامج الاقتصادي الحكومي، ولا سيما السياسات المالية والنقدية، هي التي ستحدّد سعر الصرف في السوق السوداء؟. ألم يدركوا بعد، انّ السبيل الوحيد لاستقرار العملة المحلية او حتى ارتفاعها، لا يحصل سوى من خلال تأليف حكومة جديدة تتفق مع صندوق النقد الدولي على تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شامل وجاد؟».

رنى سعرتي

الهندسات المالية لـ”مصرف لبنان”: ما لها وما عليها

إنّ الدولرة القوية التي عاشها لبنان منذ أزمة الثمانينات والتسعينات جعلت أي أداة استقرار قائمة على التحكم في عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعالة، وأدت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف بشكل مستمر عبر تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع… إلا أن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائما توفير المزيد من احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان للحفاظ على هامش تدخله في السوق… الأمر الذي تطلّب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (حيث تقليدياً فائض ميزان الرساميل يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد مستورد رئيسي)… ومع تراكم عجز ميزان المدفوعات وزيادة الهوة بين الدولرة المتزايدة للودائع والموجودات المتناقصة بالدولار، ومع تلاقي الحاجة لشراء الوقت وتلاقي هدف المالية العامة لجهة تمويل عجوزاتها وتخفيض خدمة الدين العام عبر دولرة جزء منه، وهدف المصرف المركزي بزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية وهدف المصارف بإيجاد توظيفات مربحة و»موثوقة» حصلت سلسلة «الهندسات المالية»… فما هي آليّاتها؟ وأي دور وأي نتائج لكل من الأطراف المعنية بتنفيذها؟

بعد تجربة التضخّم المفرط وانهيار سعر صرف الليرة في الثمانينات واتجاه العملاء الاقتصاديين تلقائياً في لبنان نحو الدولرة الحرة الجزئية غير الرسمية ولو بمعدّل مرتفع تخطى حينها الـ80 % من الودائع، ثم انخفض بعد تثبيت سعر الصرف تدريجاً لكن من دون ان ينخفض عن عتبة الـ67 % من الودائع ليعاود اليوم تخطي حدود 80 %. كان لا بد من اعتماد سياسة ضبط سعر صرف الليرة إزاء الدولار المستخدم الى جانبها بشكل مواز في السوق، لا بل أنشئت غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتمدت المصارف لسنوات تعبئة أجهزة الصراف الآلي بالدولار الأميركي الى جانب الليرة اللبنانية مع السماح بالتحويل التلقائي بين حسابات الليرة والدولار والسحب النقدي بأي من العملتين، خلافاً لما هي الحال في مختلف بلدان العالم التي يقتصر فيها سحب الصراف الآلي على العملة الوطنية التي يمكن التحكّم بطباعتها. وذلك في ظل تَنامٍ غير مستدام للدين العام الذي أصبح أكثر من ثلثه مدولراً، ويعاني تراجعاً متتالياً لتصنيفه الائتماني من المؤسسات الدولية بما يعكس التشكيك بالقدرة على التسديد الكامل عند الاستحقاقات ويتطلّب زيادة معدلات الفوائد للتعويض عن المخاطرة، ويضاف اليه تدهور في ميزان المدفوعات والأصول الخارجية للنظام المصرفي وضعف احتياطيات المصرف المركزي بالدولار الأميركي بعد جهود صموده منذ انقلاب الأوضاع في لبنان والمنطقة منذ العام 2011 واستمرار مصرف لبنان بـ»دعم» سعر صرف الليرة 1507.5 وتأمين الاستيراد على أساسه بكميات تبيّن أنها كانت تفوق حاجة السوق المحلي بما كان يزيد الضغط على استنزاف الاحتياطي الأجنبي أكثر فأكثر.

وللتذكير فقد بلغ عجز ميزان المدفوعات في نهاية عام 2019 حوالى 4,351 ملايين دولار أميركي، بينما بلغ العجز المتراكم منذ عام 2011 14,515,9 مليون دولار أميركي، باستثناء عام 2016 الذي تميز بشكل استثنائي بفائض في ميزان المدفوعات نتيجة عمليات «الهندسة المالية» المنفذة من قبل مصرف لبنان كوسيط بين الخزينة العامة والمصارف التجارية.

وقد اعتمدت هذه العمليات على تبادل حصة متزايدة من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحتفظ بها القطاع المصرفي مقابل سندات اليوروبوندز من خلال مصرف لبنان، والتي سعت إلى جذب المزيد من الدولارات لتجديد احتياطياتها من العملات الأجنبية وتأخير اندلاع الأزمة قدر الإمكان… انتهت هذه العمليات بزيادة «تغطيس» المصارف اللبنانية في تمويل الدولة عن طريق شراء سندات اليوروبوندز الخاصة بها باستخدام الودائع بالعملات الأجنبية لعملائها، مما يفسر الانتشار الحالي للأزمة في القطاع المصرفي وتوقفه عن توفير الدولارات لمودعيه.

وقد أدت الهندسة المالية التي تم تنفيذها في عام 2016 إلى نتائج ملحوظة لمختلف اللاعبين المعنيين من الخزينة العامة والمصرف المركزي الى المصارف التجارية. وأخّرت ظهور معالم أزمة تراكمت مؤشراتها حتى انفجرت بوجه المودعين دفعة واحدة في خريف 2019 من دون التنبه للمراحل السابقة…

وقد بدأت عمليات «الهندسات المالية» كخيار غير تقليدي للسياسة النقدية في لبنان منذ العام 2016 لتؤدي الى النتائج التالية:

بداية تحسين الاحتياطي الإجمالي لمصرف لبنان من النقد الأجنبي من 35.1 مليار دولار في أيار 2016 قبل عمليات الهندسة المالية في نهاية تشرين الأول 2016 إلى 40.6 مليار دولار بعد تحقيقها (بين الوساطة لبيع اليوروبوندز وأيضاً إصدار وبيع شهادات إيداع من المصرف المركزي للمصارف لاجتذاب المزيد من ودائع الدولار الموظّفة لديها)، لزيادة إمكانية التدخل في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن استقرار سعر الصرف واتباع سياسة تثبيت الليرة مقابل الدولار الأميركي.

كما أدى هذا الخيار الى إعادة رسملة المصارف وفقاً للمعيار الدولي IFRS9 نظرا لأن مصرف لبنان أصدر تعميما يطالب المصارف التجارية بتوجيه العوائد التي حققتها الهندسة المالية نحو زيادة رساميلها وتحسين احتياطيات المصارف والالتزام بالمعيار الدولي للتقارير المالية IFRS9 الصادر في كانون الثاني 2018، والذي يتطلب من المصارف تقدير وتسجيل مخصصات الخسائر المتوقعة على الذمم المدينة من لحظة التزامها بإقراض الأموال أو الاستثمار في أداة مالية، مثل السندات. كما يطلب مصرف لبنان من المصارف التجارية تكوين احتياطيات بمعدل 2 % من الأصول التي تحمل مخاطر الملاءة المالية.

وسمح أيضا للمصارف التجارية بالوصول إلى نسبة حقوق الملكية التي فرضها عليها مصرف لبنان نهاية عام 2018، وهي 15 % وهي تتجاوز توصيات Bale3 التي طلبت زيادة هذه النسبة من 8 % إلى 10.5 % من المشكوك في تحصيلها. أصول من بداية عام 2019.

ومع ذلك، فإن المصارف تخاطر بأن تجد نفسها في حالة فخ السيولة إذا لم تكن قادرة على استخدام العوائد المحققة لمنح القروض ويتعين على الخزينة العامة إصدار سندات عند الاستحقاقات لفترة طويلة لامتصاص هذه السيولة الزائدة. وبالتالي لا يكون التسهيل الكمي المطبق Assouplissement quantitatif أكثر من مجرد تبادل بسيط للسندات الحكومية.

كذلك مع زيادة السيولة بالعملة الوطنية، أتاحت الهندسة المالية ضمان الاحتياجات التمويلية للقطاعين العام والخاص في ظل أفضل الظروف بفضل زيادة الودائع بنسبة 2.5 % لتصل إلى الحد الأدنى. معدل الزيادة السنوي 7.2 % في نهاية عام 2016. وهكذا زادت الودائع المصرفية من 159 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2015 إلى 172 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2016. لتفوق ما يوازي 180 مليار دولار منها 120 مليار دولار فعليا بالدولار الأميركي قبيل انفجار الأزمة عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، مكّنت السيولة الفائضة بالليرة اللبنانية المصارف التجارية من زيادة محفظة قروضها خاصة من خلال القروض المدعومة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات الاقتصادية الهشة وقروض الإسكان.

كما تم تحسين وضع المالية العامة من خلال تخفيض خدمة الدين العام. وخفضت الهندسة المالية أسعار الفائدة على أذون الخزانة لأجل 5 سنوات من 6.74 % إلى 5 %. كما خفض مصرف لبنان أسعار الفائدة على شهادات الإيداع طويلة الأجل لحسابات التوفير بالليرة اللبنانية من 9 % إلى 8.4 %. وشجع هذا التحسن في وضع المالية العامة المؤسسات المالية الدولية على الاكتتاب بسندات اليوروبوندز. من هناك، ساعدت الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بالهندسة المالية على تعزيز المراكز النقدية والمالية دون رفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة بالليرة اللبنانية أو سندات الخزانة بالدولار الأميركي.

وقد أدت الهندسة المالية إلى نجاح مشروع قانون الخزانة الجديد بالدولار الأميركي. وإذ يدرك أن مصرف لبنان مسؤول عن الترويج لسندات اليوروبوندز للخزينة العامة تطبيقاً للمواد 70 إلى 97 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه في مهمته دور الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والترويج المجاني للقروض العامة داخلياً وخارجياً، يسمح مصرف لبنان للمصارف التجارية بخصم شهادات الإيداع بالدولار الأميركي بشرط الاكتتاب بنفس المبلغ في أذون الخزانة بالدولار الأميركي، فضلاً عن تحسين وضع ميزان المدفوعات من خلال تطبيق إجراءات من شأنها زيادة الطلب المحلي والإنتاجية وبالتالي زيادة النمو والتنمية. وبلغ تدفق رأس المال الناتج عن هذه الهندسة المالية 4.2 مليارات دولار أميركي في نهاية عام 2016. وتحول العجز التراكمي الذي بلغ 1.7 مليار دولار أميركي في أيار 2016 إلى فائض قدره 1.35 مليار دولار أميركي بنهاية عام 2016.

وقد كانت الزيادة في التضخم من 0 % إلى 2 % في أيلول 2016 مناسبة تماماً للنتائج المرجوة للسياسة النقدية لمصرف لبنان. كما لوحظ تحسن في تصنيف لبنان بعد عمليات الهندسة المالية الأولى لمصرف لبنان، مما أدى إلى انتقال التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالة الدولية Standard and Poor›s من سلبي إلى مستقر.

كذلك استفادت الدولة من تطبيق معدل ضريبة قدره 15 % على العوائد التي حققتها المصارف التجارية، بقيمة 5 مليارات دولار أميركي، وبالتالي إيرادات ضريبية بقيمة 1.2 مليار ليرة لبنانية أو ما كان يوازي 800 مليون دولار أميركي من هذه العوائد الاستثنائية.

يلاحظ أنّ مصرف لبنان طلب من خلال ثلاث مذكرات أن يخصص جزء من هذا الدخل لإعادة رسملة المصارف بما يقارب 2.4 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنّ المصارف سجلت أرباحا بقيمة الفارق أي 2.6 مليار دولار لأنه من أجل جذب المزيد من العملات الأجنبية، كان على بعض المصارف إطلاق منتجات مالية جديدة تشارك فيها جزءًا من الأرباح مع عملائها ولا يتأثر فيها مصرف لبنان.

يتم وضع حوالى نصف هذه السيولة بالليرة اللبنانية على شكل ودائع طويلة ومتوسطة الأجل لدى مصرف لبنان، على أن يتم تقسيم الباقي بين مبلغ مخصّص لتقديم قروض للقطاع الخاص ومبلغ يوضع في حساب خاص لدى المصارف يمكن للحكومة الاقتراض منه بنسبة 5 % لمدة 5 سنوات، أي بمعدل نقطتين أقل من سعر السوق وبحيث لا يكون هناك فائض في السيولة يحمل مخاطر عالية للتضخم.

وتؤكد الهندسة المالية فرضية نجاح السياسات النقدية غير التقليدية في أوقات الأزمات في دعم الاقتصاد ككل وضمان التمويل اللازم للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مع اتّباع السياسات النقدية التقليدية.

يبقى القول إنه إلى جانب فوائد اللجوء الاستثنائي للسياسات النقدية غير التقليدية، إلا أنّ الهندسات المالية لمصرف لبنان لم تخل من القيود والمخاطر.

وقد تبيّن أن ضخ السيولة والحاجات التمويلية للقطاع العام وإقباله على تقديم الحوافز للحصول عليها قد شجع المصارف على التمادي في المخاطرة التي ضغطت بدورها على الاستقرار النقدي. وقد أصبح الجهاز المصرفي الشريك الرئيسي المموّل للدولة من خلال سندات الخزينة، إن بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، فاشتبكت أوضاع المالية العامة المتدهورة أساساً بفعل عجزها ومديونيتها بوضع المصرف المركزي الساعي لإدارة أزمة استنزاف احتياطاته الخارجية والتمسّك باستقرار السياسة النقدية وربط لليرة بالدولار مهما كان الثمن، ووضع القطاع المصرفي الذي أصبح مصدر التمويل الرئيسي لدولة يتدهور تصنيفها مما يؤثر على جودة ميزانيات مموّليتها وإمكانية استرداد أموالهم، والبرهان انّ عامل المخاطرة كانت تعكسه بوضوح معدلات الفوائد بعد أن باتت كلها تلحق بفائدة سندات الدولة، حيث يفترض أن يكون التوظيف «الآمن» فكان التوظيف «الأخطر».. هنا مصدر الخلل.. ومن هنا تبدأ المعالجة الصحيحة.

د. سهام رزق الله.

. ليرة لبنانية جديدة لمحاربة التضخم

اذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، سنقترب بسرعة من درجة متقدّمة في التضخّم المفرط، وقد نشهد ولادة الليرة الجديدة في عملية قيصرية مُبكرة قبل اكتمال الظروف المناسبة، بما يهدّد حياة المولود الجديد، ويُدخلنا في حلقة مُفرغة من حذف الأصفار.

لم يكن مشهد اقتحام سوبرماركت وتحطيم المحتويات، أو مشهد التقاتل من أجل كيس حليب مجفّف او قنينة زيت مدعوم، من المشاهد المألوفة لدى اللبناني. لكن، من يراجع التطورات في دول واجهت أزمات مالية شبيهة بالأزمة التي نواجهها، يدرك انّ هذه المشاهد النافرة مألوفة، من حيث انّها تتكرّر وكأنّها تُستنسخ في كل دولة يعاني شعبها الظلم الاجتماعي الذي يعانيه اللبناني اليوم. دائماً تبدأ النقمة ضدّ المصرف وتتعرّض المصارف الى التحطيم والحرق، حيث يصبّ الفقراء الجدد غضبهم على المصرف كمرحلة أولى. ثم ينتقل الغضب الى مراكز بيع المواد الغذائية، لأنّ اهتمامات الناس تتركّز لاحقاً على تأمين الغذاء، بعد أن يفقدوا الأمل باستعادة مقومات العيش الرغيد ومتفرعاته. وفي مرحلة ثالثة يرتفع منسوب النهب والسرقة والاعتداءات على المحلات والناس، اذ تحلّ الحاجة القصوى مكان الغضب. وبالتالي، يصبح الهدف من اقتحام سوبرماركت السرقة لتأمين لقمة العيش، وليس مجرد فشة خلق…

في موازاة هذا السيناريو الذي يتكرّر في دول تعاني انهيارات مالية مصحوبة بعجز وفساد سياسي، يحول دون وقف الانهيار عند قعر مقبول، هناك مشهد آخر مُتكرّر يرتبط بدور رجل الأمن في أزمات من هذا النوع. هذا المشهد هو حصري للدول غير الديمقراطية. في هذه الدول يُستخدم رجل الأمن للقمع. وبما أنّ العسكر مثل سواه من الناس، يمكن أن يجوع وبالتالي، يصعب استخدامه في قمع الجائعين، تلجأ السلطات الى منح العسكريين امتيازات معيشية تسمح بضمان الولاء.

يروي ديبلوماسي لبناني معتمد في كاراكاس، انّ القيادات العسكرية في فنزويلا تتمتع بمميزات استثنائية منحها ايّاها الرئيس نيكولاس مادورو، تسمح للضباط الكبار بمداخيل مرتفعة وكافية لعيش رغيد، في حين انّ العسكريين يحصلون بدورهم على امتيازات معيشية، تقيهم العوز الذي يعانيه الشعب الفنزويلي. في لبنان، يعتقد البعض، ورغم الانتخابات، انّ العامل الطائفي يجعل النتائج أقرب الى التوتاليتارية الطائفية منها الى نتائج ديمقراطية. هذا الواقع سبّب النقزة، عندما جرى اقتراح تقديم مليون ليرة شهرياً للعسكريين، رغم النية الحسنة وراء الاقتراح، لأنّ أخطر ما يمكن ان يواجهه مجتمع، هو التمييز المعيشي بين مدني وعسكري في أزمة تُنهك الجميع.

خارج سياق المشاهد الحياتية القاسية التي سيشهدها البلد في الأشهر المقبلة، هناك اجراءات قد تضطر الى اتخاذها السلطات، من ضمنها رفع الاجور، شطب أصفار من العملة، أو استحداث عملة جديدة، أو حتى التخلّي عن الليرة وحصر التعامل بالعملات الاجنبية، وتحديداً بالدولار…

كل هذه الاجراءات ستكون مطروحة وفق التجارب التي واجهتها دول أخرى. لكن شطب أصفار من الليرة تحت مُسمّى الليرة الجديدة وفق ما يُعرف اقتصادياً بـ Redenomination ، أو حتى تغيير الإسم بالكامل من خلال ابتكار اسم جديد (وانة على سبيل المثال، وهي مشتقة من كلمة ارجوانة تيمناً بالتراث الفينيقي)، لن يقدّم أو يؤخّر اذا لم يأت ضمن خطة انقاذية شاملة. وهنا أيضاً نستحضر تجارب الدول لاستشفاف ما قد يجري.

في العادة، وفي حالات التضخّم المفرط (hyperinflation)، يتمّ اللجوء الى شطب الاصفار، واستحداث عملات جديدة. وظيفة هذا الإجراء الأولى نفسية، حيث يُفترض ان تريح المتعامل، وتوهمه بأنّ سعر صرف عملته أصبح أفضل. الوظيفة الثانية، تحقيق وفرٍ في عملية طباعة العملة، حيث انّ كلفة الطباعة تتجاوز أحياناً قيمة الورقة النقدية نفسها. الوظيفة الثالثة، تسهيل العمليات المحاسبية.

مع ذلك، نلاحظ انّ هذا الاجراء ينجح في دول ويفشل في دول أخرى. وفي التاريخ الحديث، أي من العام 1960 حتى اليوم، هناك 19 دولة حذفت أصفاراً من عملتها، بعضها مرات عدة، مثل البرازيل 6 مرات، يوغوسلافيا 5 مرات، الارجنتين 4 مرات، بلجيكا، روسيا، بولندا واوكرانيا 3 مرات، بوليفيا واسرائيل لمرتين، ومرة واحدة في كل من كوريا، ايسلندا، غانا، وتركيا.

لا حاجة الى التأكيد انّ معيار النجاح والفشل يرتبط بالظرف الذي تتمّ فيه عملية إطلاق العملات الجديدة. في اسرائيل مثلاً، استُحدث الشيكل الجديد (new shekel) في العام 1985، ضمن خطة إنقاذ شاملة أخرجت البلد من أزمة مالية واقتصادية خانقة، قبيل الانهيار الكبير الذي كان متوقعاً فيما لو لم تُقرّ ويبدأ تنفيذ الخطة. لذلك نجح الشيكل الجديد الذي كان يساوي 1000 شيكل قديم، وانتهت المشكلة. لكن، قبل ذلك، حاولت اسرائيل معالجة الأزمة على الطريقة اللبنانية، اذ انتقلت من «الليرة الاسرائيلية» التي كانت مُعتمدة الى الشيكل بسبب التضخّم، من دون خطة إنقاذ، وقد حذفت صفراً من العملة القديمة بلا نتيجة.

هذه التجربة لم تنجح مثلاً، ورغم تكرارها مرات عدة في هنغاريا، حيث كانت الدولة تستخدم عملة كورونا korona، وبسبب الانهيار المالي والتضخّم استحدثت عملتها الجديدة بينغو pengo، ولاحقاً وبسبب استمرار الانهيار استحدثت عملتها الحالية فورينت forint، ولا يمكن التكهُّن بإسم العملة الهنغارية بعد سنوات، اذا استمر فخ التضخم المفرط قائماً.

في لبنان، واذا استمرت الغيبوبة القائمة، واذا استمر اسلوب معالجة حرارة المريض المرتفعة عبر تحطيم ميزان الحرارة لإخفاء النتيجة، قد نضطر الى تغيير العملة مراتٍ عدة، والى رفع الاجور مراتٍ عدة أيضاً، وربما رفع تسعيرة المنّصة لسحب الودائع الدولارية بالليرة، لكننا سنبقى في دوامة الحلقة المفرغة التي ستواصل ابتلاع ما تبقّى من مقومات الوقوف مجدداً في المستقبل.​

انطوان فرح.

مؤشرات الانهيار الكبير: اللبناني يتحضّر للأسوأ

بدأ الوضع في لبنان يقترب من المشاهد التي كان يتابعها اللبناني عبر الشاشات في دول منهارة، أصاب الفقر شعوبها. بطاقات تموينية، التقاتل على كيس رز، استجداء محطات الوقود للحصول على غالون بنزين… انّه الانهيار الكبير الذي ظهرت بعض معالمه في الايام القليلة الماضية.

وقع المحظور وانتقل لبنان في أقل من أسبوع من السيئ الى الأسوأ الذي سيتفاقم يومياً. فما قبل اجتماع بعبدا المالي ليس كما بعده، ونحن نشهد حالياً تداعيات القرارات الخنفشارية التي صدرت عنه، والتي قد تكون ساهمت في تسريع تدهور سعر صرف الليرة بشكل دراماتيكي. إذ مع إيقاف عمل منصّات التسعير وملاحقة الصرافين الشرعيين، بات الكل لاعباً في السوق السوداء، بدليل تدهور الليرة من 10 آلاف الى 15 الفاً في أسبوع.

وقد رسم هذا الواقع مشهدية جديدة في حياة المواطن اللبناني تُلخّص “بالذل”، وبعد ان كان الذلّ محصوراً في المصارف انتقل الى السوبرماركت، حيث التقاتل على المواد المدعومة وما تيسّر على الرفوف من مواد غذائية، قبل ان تسجّل مزيداً من الارتفاع، ومنه الى باقي القطاعات الاقتصادية. فالطوابير طويلة امام محطات المحروقات، التي لا تزال توفّر مادة البنزين للحصول على ليترات محدودة. اما غالبية المحلات التجارية مقفلة بانتظار استقرار الصرف، والجديد تهديد نقابة اصحاب الافران بالتوقف القسري عن الإنتاج ريثما تستقر الأسعار.

وفي غياب أي حلول سياسية، اقلّه في المدى المنظور، وأي قرارات إصلاحية وفعّالة تحدّ من التدهور المتلاحق، كشفت مصادر متابعة لـ”الجمهورية”، انّ بعض اصحاب السوبرماركت بدأ باعتماد نوع من الأمن الذاتي في المناطق التي يعملون فيها، وتتمثل بحصر بيع المواد والسلع الغذائية الى زبائنهم، وذلك كتدبير يهدف الى الحدّ من تحرّك بعض “المجموعات” التي تنتشر في المناطق، وتعمل على سحب المواد المدعومة ما ان يتمّ عرضها في السوبرماركت، وخصوصاً الحليب والزيت والسكر، بحيث تصبح الكميات المعروضة منها اقل من الطلب، ويعمد هؤلاء تالياً، اما الى تجميع ما توفّر من المدعوم وتهريبه الى سوريا، واما الى إعادة بيعه في متاجر أخرى بأسعار غير مدعومة، وذلك بعد تغيير غلافها، وهذا ما تجلّى أخيراً بظاهرة حرق كمية من أكياس المواد التموينية المدعومة.

أما في ما خصّ بيع المحروقات، فلفتت المصادر الى انّ اكثرية المحطات باتت تعتمد اليوم سياسة التقنين في البيع، للحدّ من خسارتها قبل ارتفاع سعر صفيحة البنزين كل يوم اربعاء. والملاحظ انّ هذا التقنين أدّى بالمستهلكين الى التوجّه نحو الأرياف، حيث لا تقنين، لأنّ الضغط على الطلب أقل، كذلك انتشرت ظاهرة باصات البنزين التي تجوب المناطق لبيع البنزين بالغالونات بأسعار السوق السوداء، أي مضاعفة عن الأسعار الرسمية.

أضف الى ذلك، توجّه غالبية المصارف الى رفض قبول شيكات الدولار، والتي سبق للمصرف المركزي ان فرض تأمينها بنسبة 10% كشرط من شروط فتح اعتماد لاستيراد المحروقات. أما المصارف التي تقبل شيكات الدولار فتفرض تجميد التصرف بها لمدة عام، بما من شأنه ان يزيد من تفاقم الأمور مستقبلاً.

ما سبق هو اختصار ليوميات مواطن مذلول. أما الدولار المحلّق، فبيعه متوقف لدى الصرافين الشرعيين الذين اغلقوا محلاتهم بعد ملاحقتهم. ومتى سألت عن مكان لبيع الدولار، الكل يدلّ الى الضاحية الجنوبية مركز البيع والشراء والتسعير.

وبعد كل ما تقدّم، تبدو الصورة واضحة تماماً، اننا في جهنم الذي سبق وتحدث عنه رئيس الجمهورية، وانّ الاتجاه نحو مزيد من الفقر والعوز والجوع من دون ان ينكشف حتى الساعة القعر الذي تنحدر نحوه البلاد.

نقطة اللاعودة

في السياق، تؤكّد مصادر مطلعة لـ”الجمهورية”، انّ لا سقوف للدولار بعد اليوم، ولا شيء سيحدّ من تدهور الليرة الّا سلطة بديلة من خارج نظام الطوائف، وذلك في حال كانت هناك نية لبقاء البلد وليس زواله. لكن طالما انّ همّ المسؤولين محصور اليوم في الحسابات الديموغرافية والتوزيع الطائفي في وظائف الدولة والمحاصصة المتوقفة عند طائفة موظف فئة، خامسة فهذا يعني اننا لا نتحدث عن بلد.

وقالت المصادر: “لا نعلم اذا كنا دخلنا الأسوأ ام بعد، لكن اللعب والترقيع في الحلول من دون الإنصراف الى خطة شاملة من اساسياتها ترشيد الدعم، هو بمثابة بيع أوهام. كذلك الحديث عن البطاقة التموينية التي لم تصدر حتى الآن، والتي أصبحت لا تمثل أكثر من 10 الى 15 في المئة من القوة الشرائية التي خسرها المستهلك اللبناني”. وأبدت المصادر خشيتها من اننا وصلنا الى نقطة اللاعودة، لا بل نحن في صلبها، والمشكلة انّ البديل لم يولد بعد. فالأزمات في لبنان تتراكم وتتفاعل لدرجة انّ معالجتها ما عادت ممكنة مع هذا النمط او المستوى من الحكّام.

من جهة أخرى، ورداً على سؤال، رأت المصادر انّه ليس الوقت المناسب اليوم لرصد أعداد الهجرة، لأنّ أبواب غالبية الدول لا تزال موصدة بسبب تداعيات كورونا. لكن مع الوقت، وبعد ان تبدأ كورونا في الانحسار، وفي حين لا تزال الاوضاع في لبنان تمضي نحو القعر، عندها هناك خشية من هجرة كل لبناني يملك مهارات.

وقالت: “ألا يدرك المعنيون مدى خطورة خروج 100 طبيب من مؤسسة رائدة اسمها الجامعة الأميركية؟ فكل طبيب هو خسارة تقدّر بنحو 10 ملايين دولار، وهؤلاء هم عبارة عن خسارة مئات ملايين الدولارات تمثل قوة لبنان والقيمة المضافة التي يتمتع بها، الثقافة والصحة ومظاهر قوة لبنان”.

تابعت: “انّ الخلل الديموغرافي الوحيد المخيف اليوم هو هجرة الطبقة الوسطى، والتي ستطال المسيحيين أكثر من المسلمين، لأنّهم يشكّلون العدد الأكبر من هذه الطبقة. ويتميز المسيحيون بقدرة اكبر على التأقلم والاندماج مع مجتمعات جديدة، لأنّ لهم باع طويل في الهجرة، يعود الى اكثر من 100 عام”.

ايفا ابي حيدر

الليرة تستسلم لقدرها بعد انهيار الثقة بالكامل

بدأت السيناريوهات السوداء تتظهّر أكثر فأكثر. وتبدو الليرة في هذه المرحلة وكأنها فقدت كل مقومات الصمود واستسلمت لقدرها. لكن ما هو آتٍ سيرسم صورة كارثية تتجاوز الوجع الحالي، لأنّ العملة الوطنية قد تفقد قيمتها بالكامل، ويتوقّف التعامل فيها.

بعدما وصل سعر السنت الأميركي الواحد إلى 500 مليار دولار في زيمبابوي في العام 2008، وفي خضم الأزمة الاقتصادية التي جعلت الدولار الزيمبابوي بلا قيمة، اضطر السكان الى حمل حقائب مليئة بالنقود من أجل التسوّق وشراء احتياجاتهم الأساسية الغذائية، وكانت الأسعار تتضاعف، ممَّا دفع بالحكومة الى تعليق العمل بالعملة المحلية.

في لبنان، لم يعادل الدولار الاميركي بعد ملايين ومليارات الليرات اللبنانية، لكن انهيار الليرة بشكل متسارع وبنسبة 15 الى 20 في المئة يومياً، سيجعل مصير لبنان مشابها يوما بعد يوم لمصير زيمبابوي، حيث لن تكون الفترة طويلة جدّا قبل ان تتكاثر «الاصفار» على أسعار السلع في لبنان، وقبل ان نرى عملات ورقية أكبر من فئة المليون و50 او 100 مليون او حتى مليار! كما وانه لن يطول الوقت قبل ان ترفع المصارف سعر الصرف المعتمد من قبلها للسحوبات النقدية بالليرة وقبل ان يعدّل مصرف لبنان سعر صرف منصته الالكترونية في حال بقي هناك من دولارات للابقاء على المنصة وعلى سياسة الدعم، وقبل ان يرفع القطاع العام والخاص الرواتب والاجور… إلّا ان جميع تلك الترجيحات الآتية لا محالة، لن تساهم ولن تعالج ولن تحدّ من تداعيات الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية ولن ترفع القدرة الشرائية للمواطن، لأنّ الفارق بين سعر الصرف في السوق السوداء وفي القطاع المصرفي سيبقى شاسعاً، على سبيل المثال 20 الف ليرة في السوق السوداء مقابل 8 آلاف في المصارف. كما ان رفع الاجور لن يوازي ارتفاع معدل تضخم الاسعار، وبالتالي أي زيادة في الاجور بنسبة 20 او 30 في المئة لن تغطّي ارتفاعا بقيمة 60 و80 في المئة في أسعار السلع والخدمات.

ومن يعتقد انّ ارتفاع الدولار الى 13500 ليرة هو السقف الاقصى الذي سيفجّر الأزمة ويولّد الحلول، لا يجب ان يغيب عن ذهنه سيناريو زيمبابوي وغيرها من الدول التي لم تعالج أسباب الأزمة بل اكتفت فقط بوقف التداول بعملاتها المحلية. وهذا الاجراء ليس مستبعداً من طبقة حاكمة قررت محاربة انهيار عملتها بقمع المنصات الالكترونية واقفال محال الصيرفة. وها هي الليرة منذ بدء هذه الاجراءات البوليسية تشهد أسرع انهيار لها في اسبوع حيث تراجع سعر صرفها من حوالى 9000 ليرة مقابل الدولار يوم الاثنين الماضي عندما اتخذ قرار القمع في اجتماع بعبدا، الى اكثر من 13500 ليرة أمس بعد امتناع الصرافين الشرعيين عن العمل، وبعد إقفال المنصات الالكترونية المعنية بتحديد سعر صرف العملة مقابل الدولار.

في هذا الاطار، رأى الخبير المالي مايك عازار «اننا بلغنا الخطر الذي كنا نخشى حصوله، وهو فقدان الثقة التام بالليرة اللبنانية من قبل كافة شرائح المجتمع. عندما كان البعض يعتبر ان الليرة ستعاود الارتفاع او انه ستتم معالجة الأزمة، لم يكن مسار انهيار العملة متسارعا كما هو الحال اليوم، حيث كانت هناك فترات من الاستقرار أيضا في سعر الصرف في السوق السوداء. إلا اننا اليوم نشهد فقدانا تاما للثقة في الليرة، وتسارعاً مخيفاً في تدهور سعر الصرف بين ساعة واخرى، وباتت الليرة تفقد حوالى 1000 و2000 ليرة من قيمتها يوميا».

وقال لـ»الجمهورية» انه لاحظ عبر المنصات الالكترونية التي ما زالت قائمة او من خلال المجموعات المعنيّة بتحديد سعر صرف الليرة عبر تطبيق «واتساب» وغيره، اتّساع الفارق بين سعر بيع وشراء الدولار بحدود ألف ليرة، وهو مخالفة كبيرة للقوانين والشروط المحددة للصرافين، بما يتيح لكافة المتعاملين في السوق السوداء من اشخاص شرعيين وغير شرعيين تحقيق ارباح أكبر خلافاً للقانون.

واشار عازار الى شبه انقطاع للدولار في السوق السوداء وعدم توفره بكميات كبيرة يحتاج لها التجار، بما سيؤثر سلبا في سلسلة التوريد الغذائية والصحية ويؤدّي الى انقطاع السلع الاساسية الغذائية والاستهلاكية وفقدانها أو ارتفاع اسعارها أضعافاً، معتبرا ان التجار، مع ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل متسارع ويومي، قد يلجأون الى التسعير بالدولار واشتراط الدفع نقدا وبالدولار بسبب الصعوبة التي يواجهونها في تأمين العملة الصعبة للاستيراد، إلا ان ذلك لن يشكّل حلّاً لأن معظم المستهلكين لا يملكون الدولارات ولا قدرة لهم على شرائه، وبالتالي سيتعذّر على كلّ من لا يحمل الدولارات شراء حاجاته الاساسية.

وفيما شدد على انه لا يمكن تحديد المسار الذي سيسلكه سعر الصرف في المرحلة المقبلة، توقّع عازار، في حال بقي الوضع من دون معالجات جدّية على كافة الاصعدة، ان نصل الى مرحلة يتضاعف فيها سعر الصرف بشكل يومي لتفقد العملة المحلية قيمتها بشكل كامل ويتوقف التداول بها نهائيا، لافتاً الى انّ تغيير العملة المحلية هو جزء من الاصلاحات النقدية التي لا مفرّ منها لاحقاً.

ورأى ان لجوء الطبقة الحاكمة الى أسهل الطرق للخروج من الأزمة عبر منح زيادة على رواتب فئة من القطاع العام سيجرّ زيادات لفئات اخرى، وسيليه رفع سعر صرف السحوبات النقدية في المصارف واجراءات اخرى مماثلة لا تعدو كونها «مجاراة» للأزمة وليس «معالجة» لها.

رنى سعرتي

وماذا إذا كرّر الدولار تجربة حزيران 2020؟

كلما ارتفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، تنطلق التحليلات المعمّقة لاستكشاف الاسباب، وتواكبها أصوات مسؤولين يطالبون أو يعِدون بإجراءات جذرية لوقف انهيار العملة الوطنية. لكن الدولار يعاند ما يُسمّى اجراءات، ويُكذّب التحليلات المُموّهة.

ما يصيبنا في موضوع استمرار انهيار سعر صرف الليرة في السوق السوداء، وهي السوق الحرة الوحيدة حالياً، شبيه بما أصابنا في موضوع الافلاس وضياع الاموال في المصارف. صرفنا طوال 20 عاما عبر الاقتراض دورياً من المصارف، ومصرف لبنان لسد العجز في الموازنة. هدرنا حوالى 35 مليار دولار على دعم الكهرباء. دفعنا تعويضات ورواتب تقاعدية أذهلت المؤسسات الدولية وبينها البنك الدولي، وأدهشت شركة «ماكنزي» عندما اطّلعت على الأرقام لإعداد برنامج اقتصادي للبلد. رفعنا الرواتب بنسبة 100%، وبسعر ليرة مدعومة بالدولار من اموال المودعين (سلسلة الرتب والرواتب) في زمن كنّا قد اقترضنا فيه بصورة طارئة بفوائد خيالية (الهندسات المالية). وبعد كل ذلك، رحنا نسأل، وبجدّية، أين ذهبت الاموال؟ نريد أن نعرف.

الأمر نفسه يحصل معنا اليوم، والمقصود بـ«نحن» هنا، المنظومة السياسية برمتها. أعلنت تعليق دفع مستحقات اليوروبوندز في 7 آذار 2020 (نحتفل اليوم بذكرى مرور سنة وشهر)، من دون خطة جاهزة للانقاذ. هُدرت أموال مصرف لبنان، حتى نضبت ولم يبق سوى الاحتياطي الالزامي. تُرك الاقتصاد لمصيره، أقفلت المؤسسات وهي مستمرة في الاقفال تباعاً، ارتفعت نسب البطالة والفقر الى مستويات مرعبة، انكمش حجم الاقتصاد (GDP) الى مستويات غير مسبوقة تقريبا في أي دولة في العالم. واصلت الدولة الانفاق من جهة، والدعم العشوائي من جهة أخرى. وفي موازاة الانفاق من الاحتياطي بالعملات، كان يتمّ الانفاق بالليرة بواسطة الطباعة. وارتفعت الكتلة النقدية بالليرة منذ 2019 حتى 2020، من 9818 مليار ليرة، الى 29244 مليار ليرة، أي بزيادة نسبتها 300%، وهي بالمناسبة النسبة نفسها التي سجّلها ارتفاع الدولار على الليرة خلال العام 2020.

في المقابل، تعثّر تأليف الحكومة، وبدا الأفق السياسي مسدوداً بالكامل… وبعد كل ذلك، وكلما ارتفع الدولار الى سقف جديد، يصابون بالذهول، ويسألون: ماذا يجري؟ ويسارعون الى اتخاذ اجراءات أصبحت وصفة دائمة ومُكرّرة ومُملة: اقبضوا على الصرافين، أقفلوا منصات التسعير، أطلبوا من مصرف لبنان اتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف تدهور الليرة. وفي الموازاة، يجتهد الفقهاء والسياسيون أصحاب المصلحة في التحليل المؤامراتي لشرح اسباب ارتفاع الدولار. هذا يعتبر انّ الحريري يضغط على عون، وذاك يرى العكس ويشيّع أنّ فريق عون يضغط على الحريري لإخراجه، وآخر يشم رائحة مؤامرة يحوكها «حزب الله» لإسقاط البلد، والبعض يوجّه أصابع الاتهام الى الولايات المتحدة التي تريد برأيه تركيع «حزب الله» وايران من خلال دولار لبنان، وتطول التحليلات الى حدود اللامنطق واللامعقول…

السؤال الوحيد الذي يمكن طرحه في الوضع الحالي: كيف يمكن أن نُفاجأ عندما يرتفع سعر صرف الدولار، في حين ان الامر الوحيد الذي يُفترض أن يُشكّل مفاجأة هو أن يبقى سعر صرف الدولار مستقراً لمدة طويلة نسبياً، عندها فقط ينبغي ان نُفاجأ وأن نحلّل وندرس ونبحث عن الأسباب.

ما هو مؤكّد انّ الليرة ستواصل مسارها الانحداري، ولو انها مرةً تنهار بسرعة، وأحيانا ببطء، واحيانا قد تعود وترتفع. هذا الامر بديهي، والخط البياني للانهيار لا يمكن ان يكون إلا متدرجاً (up & down).

وفي مراجعة شهرية للمسار الذي سلكه سعر صرف الدولار في 2020، يُلاحظ ان الخط البياني لارتفاع الدولار لا يرتبط عضويا بالتطورات السياسية والاقليمية ذات الصلة بلبنان. ومن خلال مراقبة سعر الدولار شهرياً في 2020، يتبيّن التالي:

كانون الثاني: افتتح الدولار على 2100 ليرة، وفي نهاية الشهر وصل الى 2150، أي بزيادة حوالى 2%. مع ان كانون الثاني شهد تطورات مُقلقة للبنان، أهمها اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني، في المقابل، كانت حكومة حسان دياب قد ولدت وتستعد لنيل الثقة.

شباط: وصل الدولار في نهايته الى 2450 ليرة، اي بارتفاع نسبته حوالى 14%. في هذا الشهر حصلت الحكومة على الثقة.

آذار: ارتفع الدولار الى 2750 ليرة، بزيادة نسبتها 12%. في 7 آذار، أعلنت الحكومة تعليق دفع اليوروبوندز.

نيسان: ارتفع الدولار الى 3800 ليرة، بزيادة نسبتها حوالى 38%. في هذا الشهر اقترحت لازار اقتطاع نسبة 61% من الودائع فوق الـ100 الف دولار، وحماية بقية الودائع. وقدّرت الخسائر (الفجوة) بـ 62 مليار دولار بالاضافة الى حذف رساميل المصارف (20 مليار دولار).

ايار: ارتفع الدولار الى 4100 ليرة، بزيادة 8%. وكانت الحكومة قد أعلنت خطتها وبدأ النقاش فيها.

حزيران: ارتفع الدولار الى 9200، بزيادة نسبتها 125%. هذا الارتفاع غير المسبوق لم تقابله تطورات سلبية تبرّره. جرى في هذا الشهر، حوار وطني في بعبدا، واستمر التفاوض مع صندوق النقد.

تموز: تراجع الدولار الى 7650 ليرة، بانخفاض نسبته 22%. ومن المفارقات انّ شهر تموز شهد تطورات سلبية من ضمنها تجميد المفاوضات مع صندوق النقد.

آب: ارتفع الدولار الى 7650 بزيادة نسبتها 1,3%. في الرابع من هذا الشهر حصل انفجار مرفأ بيروت، واستقالت حكومة دياب.

ايلول: ارتفع الدولار الى 8350 ليرة. بزيادة نسبتها 8%. جرى تكليف مصطفى اديب تشكيل الحكومة، وفُرضت عقوبات اميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس.

تشرين 1: تراجع الدولار الى 6800، بانخفاض 22%. في اواخر هذا الشهر، جرى تكليف الحريري تشكيل الحكومة. كما بدأت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية.

تشرين 2: ارتفع الدولار الى 8000 ليرة. بزيادة نسبتها 18%. سُجل اقرار قانون رفع السرية المصرفية لإنجاز التدقيق الجنائي. وفُرضت عقوبات أميركية على جبران باسيل وفق قانون ماغنتسكي.

كانون 1: ارتفع الدولار الى 8400 ليرة، بزيادة 5%. فُتح البلد في الاعياد، واستقبل أعداداً من اللبنانيين العائدين لتمضية العطلة.

في المحصلة، يُلاحظ ان معدل نسبة ارتفاع الدولار شهريا بلغت حوالى 25%. ويتبيّن ان الدولار ارتفع في شباط 2021 من 8800 الى 9600 بزيادة 10%، وهي نسبة لا تصل الى معدل ارتفاعاته الشهرية في 2020.

وبالتالي، اذا ارتفع في آذار بنسبة 25%، أي وفق معدل ارتفاعه الشهري في العام الماضي، فإنه سيصل في نهاية الشهر الى 12 الف ليرة. أين المفاجأة في ذلك؟ واذا لم يفعلها في آذار فقد يحققها في نيسان، ولا أحد يعرف متى يكرّر الدولار تجربة حزيران، ويرتفع 125% في شهر واحد.

كل المطلوب من المنظومة وقف مسرحيات الاندهاش والاستغراب والدهشة، والتفرّغ الى معالجات حقيقية تتجاوز سقف اعتقال صراف أو إغلاق منصّة.

انطوان فرح.

خدمة الدين العام.. وكرة ثلجه!

من المعروف أنّ الدين العام اللبناني ارتفع منذ أوائل التسعينات تصاعدياً على شكل كرة ثلج، حتى بلغنا عدم استدامة المديونية العامة، وانتهى الأمر بإعلان العجز عن السداد.. ولكن ما هي أبرز العوامل التي عززت هذا المنحى، وتحديداً الى أي مدى كان لخدمة الدين دور أساسي في هذا الاتجاه؟ الإجابة عن هذا الموضوع تتطلّب قراءة مفصّلة وفق المراحل لمكوّنات الدين العام وهيكليته ووقع معدّلات الفوائد على نموّه، علماً أنّ هذه الفوائد جاءت بدورها نتيجة عوامل عدة، لا سيما منها عامل المخاطرة وغياب الإصلاح، فاتجهت الدولة الى الهروب نحو زيادة دولرة الدين لخفض خدمته.. ماذا في التفاصيل؟

 

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي منه 327.5 مليون دولار أميركي والمتبقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و 2001 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك سداد الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، ليصبح نحو ملياري دولار أميركي، ليتخطّى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار.

 

كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرت الخزينة اللبنانية إلى تغطيته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدين العام وخدمته. في حين كان حجم القطاع العام وعدم تحقيق الإصلاح المالي والاداري فيه يثقلان الخزينة، حتى تخطّت كلفته ثلث الموازنة، في حين لا تتجاوز حصته 10 الى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.

 

كما أنّ فترة ما بين عام 1992 و 2004، كانت فترة «إعادة إعمار لبنان ما بعد الحرب»، التي سعت فيها الدولة الى استقطاب أكبر قدر ممكن من التمويل، خصوصاً عبر الاستدانة، في غياب سبل التمويل الأخرى، نظراً لضعف الإيرادات العامة وضرورة ضبط خلق النقد، لاعتماد سياسة نقدية متشدّدة تحدّ من التضخم وتدهور سعر الصرف. وبعد فترة وجيزة بدأت الجهود لخفض تدريجي لسعر صرف الدولار إزاء الليرة اللبنانية، حتى اعتماد سياسة ربط الليرة بالدولار على أساس سعر الصرف 1507.5 بدءاً من العام 1997.

 

عملياً، كان من المتوقع أن يرتفع الدين خلال فترات النمو الاقتصادي الأقل من المتوسط. وعموماً، في بيئة منخفضة النمو، لا تزيد الإيرادات الحكومية كثيرًا، في حين أنّ النفقات العامة (خصوصاً في ما يتعلق بالإنفاق الاجتماعي و/ أو الإنفاق الرأسمالي) حيث تحتاج الحكومة إلى مزيد من التدخّل، وبالتالي تنفق المزيد لتحريك الاقتصاد. إلّا أنّ النمو يتوقف في اقتصاد مثقل بالديون في المقام الأول، لأنّ الرافعة المالية المرتفعة تهدّد قدرة الحكومة على تحديد أولويات الميزانية، ولكن أيضًا لأنّ الدين يميل إلى تقييد وظائف سياسة الدولة التي بدأت توجّه تباعاً تمويل الجهاز المصرفي نحو مزيد من تمويل القطاع العام، إن كان بالليرة اللبنانية أو بالدولار لأميركي.. وقد جعلت السياسة المالية للبنان وعبء الفوائد المدفوعة على ديونه غير مستدام. وأصبحت نسبة إجمالي الدين العام المستحق إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان من بين أعلى المعدلات في العالم في عام 2006، حين بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروتها عند 183%. وبحلول عام 2007-2012، تراجعت النسبة تدريجياً لتصل إلى 131% في عام 2012، لتعاود ارتفاعها مع تدهور مجمل المؤشرات الاقتصادية إبتداء من العام 2011..حتى عادت اليوم تتخطّى من جديد معدل الـ180%.

 

منذ عام 2013 عاد المسار للدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان في اتجاه تصاعدي، حيث وصل إلى 153% في عام 2018. كما تراكمت في بلدان أوروبية أخرى مستويات دين عام تجاوزت ناتجها القومي. ومع ذلك، فإنّ ما يجعل دين لبنان ببساطة غير مستدام، هو عبء الفائدة المرتفع، وسط بيئة من النمو الضعيف، كما هو موضح في الجدول أعلاه.

 

تكوين الديون

معظم الدين اللبناني محلي (أي أنّ معظم المكتتبين هم من المقيمين، إن كان بالليرة أو بالعملات الأجنبية)، علماً أنّ التقارير اللبنانية تسمّي «ديناً داخلياً» الدين بالليرة اللبنانية و»ديناً خارجياً» الدين بالعملات الأجنبية، وتحديداً الدولار الأميركي أي «يوروبوند»، حتى لو كانت في محفظة المقيمين. فيما علم الاقتصاد يسمّي «ديناً داخلياً» السندات الموجودة في محفظة عملاء مقيمين، و»ديناً خارجياً» فقط السندات الموجودة في محفظة عملاء غير مقيمين. أي في وضع لبنان، اليوروبوند الموجودة في محفظة عملاء غير مقيمين، لا تُحتسب ضمنها اليوروبوند الموجودة في محفظة العملاء المقيمين (مثل الجهاز المصرفي اللبناني).

 

في الواقع ، يحمل الجهاز المصرفي معظم الدين المحلي، إن كان سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو السندات بالدولار اليوروبوند، على المدى القصير والمتوسط، كما السندات طويلة الأجل. وقد تطوّر الدين وخدمته بين الليرة والدولار وفق الجدول المرفق.

 

الإقتراض الكبير

في بداية فترة إعادة الإعمار التي أعقبت الحرب، إعتمدت الحكومة اللبنانية على السوق المحلية للاقتراض، وتكلفة إعادة بناء القدرات البدنية والبشرية للبنان بعد الحرب الأهلية 1975-1990.

 

إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثل نموًا سنويًا بنسبة 67%. بين عامي 1993 و 2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية، وبالتالي جمعت مزيداً من الديون بالعملة المحلية، لتلبية متطلبات التمويل الإجمالية. وقد شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81.3% من إجمالي الدين بنحو متوسط، مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.

 

منذ عام 2002 إلى عام 2008، اكتسبت الديون بالعملات الأجنبية زخمًا بارزاً، يعكس نجاح لبنان في الاستفادة من أسواق رأس المال الدولية، لا سيما مع مؤتمرات الدعم الدولية للبنان. وقد شكّلت الديون بالعملات الأجنبية، في المتوسط 49.1 % من إجمالي الدين من 2002 إلى 2008.

 

في عام 2009، شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية 58.3% من إجمالي الدين والباقي بالعملات الأجنبية. ومن 2010 إلى 2018 استحوذ معدل الدين بالليرة اللبنانية على نحو 60.25% في شكل متوسط. فيما بدأ الإتجاه بدءاً من العام 2016 الى خفض خدمة الدين العام، من خلال استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة الى دين بالدولار، بالاعتماد على الهندسات المالية لوزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، وهي المموّل الرئيسي للدولة اللبنانية.

 

حالياً، تخطّى الدين العام حدود الـ 95.5 مليار دولار في نهاية العام 2020 (موزع بين 62.26% بالليرة اللبنانية و37.34% بالدولار الأميركي)، وتراجع تصنيف الدين السيادي لدى الوكالات الدولية (فيتش، موديز، ستاندر أند بورز) الى أدنى المستويات، وبات لا بدّ من تفنيد أبرز مكوّناته والعوامل المؤثرة بتزايده، لا سيما منها الكلفة المرتفعة للدين، والتي بات لبنان يستدين لإيفائها…

 

والمعلوم أنّ وكالة «موديز» أظهرت أنّ تصنيف لبنان بات الأدنى في تصنيفات الوكالة، وهو يعكس توقعات «موديز»، أنّ الخسائر التي سيتكبّدها حاملو السندات ستفوق 65% من إجمالي قيمة استثماراتهم في السندات التي أصدرتها الدولة. وقد بيّنت في آخر تقرير لها في نهاية العام 2020، أنّ من غير المرجح تغيير التصنيف الحالي للبنان، قبل إعادة الهيكلة، نظراً لحجم الاقتصاد، والتحدّيات المالية والاجتماعية، وتوقعاتنا لخسائر كبيرة جداً». وأوضح تقرير الوكالة، أنّه من دون اتخاذ خطوات لإصلاح الاقتصاد والأوضاع المالية، فإنّ دعم التمويل الخارجي الرسمي لمساندة هيكلة الديون لن يكون متاحاً بسهولة.

 

كرة الثلج

في ظلّ ظروف الأزمة المالية والدين العام غير المستدام، شهد لبنان زيادة في الفائدة على الدين العام في شكل تأثير «كرة الثلج»، ساهمت في غياب الإصلاح المالي الفعلي، الى جوانب عوامل إقتصادية أخرى، لا سيما منها تدهور المؤشرات الماكرو-اقتصادية منذ العام 2011 في شكل أساسي، الى انفجار أزمة الدين العام وتفشيها، الى الجهاز المصرفي المموّل الرئيس للدولة، كما ساهم أيضاً في فقدان الثقة بقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لسداد ديونها. كما نشهد «ضريبة تضخمية»، حيث يوفّر التضخم إيرادات ضمنية للدولة، عن طريق خفض الدين العام القائم بالعملة الوطنية.

 

على الرغم من أنّ دراسة استدامة الدين العام ترتكز عموماً على مؤشّر الدين العام/الناتج المحلي، وهو يتخطّى في لبنان عتبة 176% في نهاية عام 2019، فيما وفق المعايير الدولية، تتطلّب استدامة الدين أن لا يتخطّى هذا المعدل 60% إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي. إلّا أنّ تسليط الضوء، خصوصًا على الدين بالعملة الأجنبية، فيعود لأنّ لبنان قادر نظريًا في أقسى الحالات، على اللجوء الى المصرف المركزي لطباعة العملة الوطنية وتسديد الدين بالليرة اللبنانية، حتى لو أدّى ذلك الى مزيد من التضخّم. إلّا أنّ الأزمة الكبرى تبقى في الدين بالعملة الأجنبية، التي تحتاج الى توافر العملة الأجنبية وتأمين استمرارية إستقطابها، في حين أنّ لبنان يشهد تدهورًا في ميزان المدفوعات (ما عدا كمية الدولارات التي اجتذبتها المصارف للمشاركة في الهندسات المالية خصوصًا عام 2016، لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملة الأجنبية).

 

فوائد سندات خزينة باهظة مطلع التسعينات

المعروف، أنّ معدل سندات الخزينة لمدة سنة، الذي استقرّ من آذار 2012 حتى كانون الأول 2019 على معدل 5.35%، وهو معدل الفائدة الذي ترتبط به معدلات الفائدة للقروض السكنية، إن كان القروض المدعومة من مصرف لبنان مباشرة أو تلك الممنوحة من خلال مؤسسة الإسكان، بعد انخفاضات متتالية عن مستويات مرتفعة بلغت ذروتها نحو 38% في شهر أيلول من العام 1995…ولكن اضطرت الدولة الى رفعه الى 6.5% مطلع عام 2019، بعد صعوبة ايجاد مكتتبين في سندات الخزينة، مع ارتفاع درجات المخاطرة عليه وطول مفاوضات مع الجهاز المصرفي في شأنها… الى أن صدر قرار بخفضها الى 4.5 % أخيراً في نيسان 2020 لخفض خدمة الدين العام…

 

ولطالما كانت معدلات الفائدة المعتدلة تبقى مرتبطة بعوامل عدة وليس بمجرد قرار مركزي! ومن أبرز هذه العوامل المؤثرة بمستوى الفوائد:

 

أولاً، «مخاطر البلد»، وهو عنصر مهم وأساسي، يمنع تراجع معدّلات الفوائد بنحو ملحوظ، على الرغم من أنّ المصرف المركزي استمر في دعم القروض بفوائد مخفضة، وخصوصاً للاستثمار العقاري وللقطاعات الإنتاجية المختلفة.. ولكن في موازاة ذلك، تدرس الوكالات الدولية لتصنيف المخاطر، وضع كل بلد وفق مؤشراته الاقتصادية وغير الاقتصادية المؤثرة على اقتصاده (وطبعاً من أبرزها إستقراره السياسي)، مما ينعكس بنحو حاسم على تحديد معدلات الفائدة. أضف إلى ذلك، إنّ رفع المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة لعام 2017، زاد الضغط على معدلات متوسطة الأجل.

 

وقد أصبح معدّل الفوائد على سندات الخزينة «معدل فائدة رئيسياً»، أي المؤثر في مجمل هيكلية الفوائد الدائنة والمدينة في لبنان. وبالتالي، كلما ارتفع عامل المخاطرة تضطر الخزينة الى زيادة الفائدة كتعويض عن عامل المخاطرة، لإقناع المستثمرين بالاكتتاب في سنداته. وهنا يلاحظ وجود عاملي مخاطرة: عامل مخاطرة البلاد، الذي يجعل من الضروري رفع الفائدة على سنداتها بأي عملة كانت، وعامل مخاطرة العملة الذي يجعل الفائدة على سندات الليرة اللبنانية أعلى من الفائدة على السندات بالعملات الأجنبية اليوروبوند. وهذا ما دفع الدولة الى زيادة دولرة الدين، أي حصة اليوروبوند من مجمل الدين، على الرغم مما تحمله زيادة الدين بالدولار من خطر عدم القدرة على السداد، في حين أنّ الدين بالليرة يمكن في أقسى الحالات سداده عبر اللجوء الى طبع النقد وتحمّل التضخّم الناتج منه. كذلك، ترتفع الفوائد الإسمية مع ارتفاع التضخم، لكي يبقى معدل الفوائد الفعلية إيجابياً، لتستمر عملية الإقراض، أي حتى لا يخسر المقرض القدرة الشرائية للأموال لحظة السداد.. فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة الى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل، ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونة والمضطرة الى الاستجانة لتسديد ديونها السابقة، في ظلّ تراكم العجز المالي على شكل كرة ثلج، لا بل المرور في فترات عجز مالي أولي، أي العجز المالي بين الإيرادات والنفقات، من دون حتى احتساب خدمة الدين.

 

يبقى أنّ ثمن «إطفاء» الدين العام بالعملة الوطنية، عبر طباعة النقد من جهة والإعلان عن التخلّف عن سداد ديون العملات الأجنبية من جهة أخرى، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي كممّول رئيسي للدولة… وبعد نفاد كل وسائل إدارة الأزمة وتأجيل انفجارها، لم يعد من سبيل للخروج من المأزق سوى بمعالجة جذرية وإصلاح مالي شامل.

د. سهام رزق الله.

مالية الاقتصاد الصغير في لبنان الكبير…

على رغم من صغر حجمه لطالما شكّل الاقتصاد اللبناني قبل حرب 1975 نموذجا استثنائيا لامعا في محيطه بموازنات مالية متوازنة بلا عجز ولا حاجة للاستدانة وفائض ميزان مدفوعات بنتيجة تغطية فائض ميزان الرساميل على العجز التقليدي لميزان المدفوعات.. الى أن تبدّلت الحال منذ فترة الحرب وازدادت تحديات فترة إعادة الإعمار، ثم ما إن بدأ الاقتصاد يستعيد أنفاسه حتى جاءت متغيرات العام 2011 لتغلق كل مصادر تمويله واستقطابه للعملات الأجنبية.. فهي إشكالية المالية العامة في لبنان وكيف خرجت عن السيطرة؟ وأي أفق لتطوّرها؟ ما هي أبرز المراحل التي شهدها تطورها؟ وما أهم محطاتها؟ وأي تطلّع الى مستقبلها؟

بعد العصر الاقتصادي الذهبي الذي سبق اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت موازنات الدولة المتتالية تعاني عجزاً مالياً، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، ولكن بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية المعمّمة في فترة ما بعد الحرب، وغياب الرؤيا الاقتصادية الكفيلة بتحقيق التنمية المتوازنة قطاعيا ومناطقيا على كل المستويات، لا بل توجيه معظم الادّخار صوب تمويل مالية عامة تفتقد للإصلاح وتستدين لإيفاء فوائد ديونها السابقة…

بين عامي 1982 و1985، زادت النفقات بنسبة 178 % بينما زادت الإيرادات بنسبة 65 % فقط. بين عامي 1986 و1988، زادت النفقات بنسبة 702 % وزادت الإيرادات بنسبة 250 % . بين عامي 1988

و1990، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، وبفضل ضغوط مصرف لبنان المركزي الذي تشدد حينها في تمويل الخزينة تم ضبط التمويل المباشر منه بمقدار ثلث الحاجات التمويلية للقطاع العام وبدء التوجّه نحو الاستدانة لشراء الوقت والتخفيف من التضخم الناتج من التسليفات المباشرة وزيادة الكتلة النقدية المتداولة… كذلك تم إبعاد شبح تقسيم المصرف المركزي حينها ومحاولات البعض الضغط في اتجاه خلق عملتين للاقتصاد وانهيار آخر رموز وحدة اقتصاد الوطن المتشلّع على ضفّتي خطوط التماس… فكان الاقرار بأنّ الاقتصاد اللبناني أصغر من أن يقسّم في عز انقسام دولة لبنان الكبير…

وتشير تقديرات وزارة المال إلى استمرار عجز الموازنة خلال مراحل الحرب حيث بلغ نحو 28.5 % من الإنفاق عام 1977، و27.8 % من الإنفاق عام 1978، و38 % من الإنفاق عام 1981. وتشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين 1979 و1980 بسبب دخول التدفقات الرأسمالية أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية، قد بدأ في النمو. وتدهور من النصف الثاني من عام 1981..

بين عامي 1991 و2011، أظهر اقتصاد لبنان نموا معتمدا إلى حد كبير على المديونية (بمقدار 150 % من الناتج المحلي الإجمالي) وعلى السياحة والخدمات المالية والاستثمار العقاري وخصوصا التحويلات المالية من الخارج (المبالغ التي يرسلها اللبنانيون المقيمون في الخارج إلى أقاربهم في الوطن) تتجاوز 7 مليارات دولار في السنة… ذلك قبل أن تتبدل الأوضاع مع اهتزاز الاستقرار السياسي عام 2011 وبداية الأزمة في سوريا والعراقيل التي رافقتها عبر الحدود البرية لتبادل السلع وانتقال السائحين بين لبنان وسائر البلدان العربية، وقد ترافق ذلك مع توافد مئات ألوف من النازحين في اتجاه لبنان وتبدّل مناخ الاستقرار في المنطقة، وتحوّل ميزان المدفوعات من رصيد إيجابي بفضل استقطاب الرساميل الخارجية الى تراكم رصيد سلبي تطلّب شراء الوقت عبر اللجوء الى «هندسات مالية» منذ العام 2016 لزيادة الاحتياطي من العملات الاجنبية وخفض كلفة الدين العام، كون الفائدة على اليوروبوندز أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والمحافظة على سياسة ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة لكل دولار أميركي… الى ان تراكمت عناصر الأزمة في أواخر العام 2019 وانفجرت عام 2020 بالتدهور الشامل تزامنا مع الذكرى المئوية لقيام «دولة لبنان الكبير».

وفي نظرة تاريخية الى المؤشرات الاقتصادية للبنان، يتبيّن أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزينة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل بواسطة التسليفات المباشرة من مصرف لبنان أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز موازنة الدولة تحت ضغوط الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني».

ومع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد والذي تثبت أدبياته الاقصادية، أنّه حتى لو كان المصرف المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز الى سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجا بنحو موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

ومن المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخم الثمانينات أرخَت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينات، حيث تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم الذي ساهم في حدوثه بنحو أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على كل المستويات… هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة على سلوك الحكومات والسلطة النقدية بحثاً عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينات، بعد انتهاء الحرب ميدانياً.

وخلال تلك الفترة، تركّزت جهود الحكومة على استبدال التمويل النقدي لعجز الموازنة على شكل سلفات خزينة مباشرة من المصرف المركزي بالدين العام، عبر اصدار سندات الخزينة، حتى لو احتفظ بجزء كبير منها المصرف المركزي والمصارف التجارية العاملة في لبنان، التي كانت مُلزمة بداية بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 % من التزاماتها بالليرة، ثم تمّ خفض هذه النسبة الى 40 % عام 1994 قبل إلغائها عام 1997 تزامناً مع اتخاذ خيار تثبيت سعر الصرف…

علماً أنّ تثبيت سعر الصرف بدلاً من الكتل النقدية، هو خيار طبيعي وثابت في الأدبيات الاقتصادية العلمية، كما في تجارب في ظلّ الدولرة، لأنّ الدولرة تفقد فعالية ضبط الكتلة النقدية بالعملة الوطنية بفعل سيطرة استخدام العملة الأجنبية، لذا يكون اعتماد ضبط سعر الصرف هو الأنجع.

إذاً، وعلى رغم من تعدّد الأسباب، إلّا أنّ الشرارة الأولى للتضخّم بدأت مع تمويل المصرف المركزي للدولة، ومع اعتماد زيادة النقد بالعملة الوطنية حتى افتقاد السيطرة على قيمتها وبدء هروب الناس منها في اتجاه الدولار، بعد افتقاد أدوارها الثلاثة كوحدة حساب وتسعير، ووسيلة للتداول ودفع المستحقات وقيمة للاحتياط..

ومع ذلك، من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية وتعرّض السوق لما يُعرف بـ»التضخّم المستورد» في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين.

وقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي أنّ النمو الذي شهده لبنان بين عامي 1979 و1980، بسبب تدفق رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم الدول الأجنبية، ترك بعده تدهوراً بدأ من النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الأمن. خلال هذه الفترة، فقدت الدولة كل سيطرتها على إيراداتها ونفقاتها، واستندت قراءة أرقام المالية العامة والوضع الاقتصادي العام فقط على التقديرات، ولم تعد الإحصاءات رسمية وموثوقة. واستمر تعليق نشر حسابات الموازنة على النحو المنصوص عليه في الدستور وقانون المحاسبة العامة من 1979 إلى 1993.

منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

ومنذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة نقدية متشددة ودعم تدريجي لليرة اللبنانية، حتى ربط صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط منذ عام 1997.

إلّا انّ تزايد الدين العام مثّل تقييداً للسياسة النقدية وأثّر في صدقية المصرف المركزي لدى العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بنسبة 82 % بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

ومن المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ»تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات، إلّا أنّه شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان، بدأت تكبر حصة الدين العام بالدولار الأميركي، بهدف خفض خدمة الدين العام ونموه (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجّع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها. وقد أدى هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورا حاسما في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى خفض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي خفض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو اقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم… وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.

د. سهام رزق الله.

ما “مصير” 3,2 مليارات دولار في الخارج؟

مع انتهاء المهلة الزمنية لتنفيذ التعميم 154، يباشر مصرف لبنان دراسة أوضاع المصارف. ومن خلال المؤشرات، لا يبدو أنّ المشكلة تكمن في التزام المصارف بمندرجات التعميم، بقدر ما هي في التوقيت ومصير الأموال الجديدة.

لطالما كانت العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية جيدة، وتتسِم بالحرفية التي تفرضها المعايير العالمية المتعارف عليها، للتعاون بين المصرف التجاري مع الجهة المنظمة (regulator) والمُشرفة (supervisor) على القطاع. لكن في الحالة اللبنانية يمكن الادعاء انّ العلاقة تخطّت بعض السقوف، واكتسبت صفة الودّ والتعاون المُفرط في فترة من الفترات، من دون أن يعني ذلك تخطّي الخطوط الحمر.

بعد المطبّات التي اجتازها الوضع المالي، ووصول الأزمة الى المرحلة المتقدمة التي بلغتها اليوم، كيف يمكن وصف هذه العلاقة؟

من خلال متابعة التعاميم وطريقة التعاون، يمكن القول انّ العلاقة حالياً تتحكّم بها ثابتتان لا يمكن لأي طرف تجاوزهما: الثابتة الأولى قناعة الطرفين بأنهما على مركب واحد. الثابتة الثانية ترتبط بسعي كل طرف الى تحصين وضعه على المركب، لأنّ الانقاذ يتطلب التضحية بالبعض، ومن البديهي ان كل فريق يكافح لاستبعاد اسمه عن لائحة المُضحّى بهم.

قبَيل ساعات من انتهاء المهلة المُعطاة للمصارف للالتزام بمندرجات التعميم 154، كان لافتاً صدور تعميم وسيط لتنظيم الحسابات الجديدة التي تُعرف بحسابات الـFresh دولار. وقد أُعطيت تفسيرات عدة لصدور هذا القرار، لكن الاسباب الموجبة والأهداف معروفة، ويمكن تلخيصها بالتالي:

اولاً – الفصل التام بين السيولة الخارجية المطلوبة للالتزام بالتعميم 154 (3 % من حجم الودائع)، وبين ودائع الاموال الطازجة. وجاء توقيت التعميم قبَيل ساعات من انتهاء المهلة، وبعدما تماهى الى مسامع المركزي انّ بعض المصارف تريد استخدام هذه الاموال في احتساب نسبة السيولة المطلوب تكوينها في حسابات المصارف المراسلة.

ثانياً – يخدم التعميم أهداف المركزي في إبقاء الحسابات الجديدة مُحرّرة من أي قيود، وجاهزة للدفع غب الطلب عندما يقرر صاحب الوديعة ذلك.

ثالثاً – يدرك المركزي انّ وظيفة المصارف التقليلدية غير قائمة حاليا، وبالتالي فإنّ الابقاء على نسبة سيولة كاملة (100 %) بالنسبة الى الحسابات الطازجة، لن يؤثّر في الاقتصاد، لأنّ المصارف حالياً غير جاهزة لتمويل الاقتصاد كما كانت تفعل قبل الأزمة. كما انّ الاقتصاد نفسه غير جاهز لاستيعاب عمليات التمويل سوى في حالات استثنائية جداً.

وهكذا جاء التعميم الوسيط ليعطي الانطباع بأنّ المركزي مصرّ على تنفيذ التعميم 154، وانه سيباشر في اتخاذ الاجراءات القانونية في حق أي مصرف غير مُلتزم.

في موازاة هذا الوضع، تتحرّك المصارف من منطلق انها لا تريد التملّص من مندرجات التعميم، لكن هناك تساؤلات في شأن بعض النقاط، من أهمها:

اولاً- لماذا يتم التعاطي مع موضوع المهل بخفّة، في حين ان المعوقات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» حقيقية وليست مجرد ذريعة بدليل ان كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة اللبنانية أصدرت قوانين لتمديد المهل تماشياً مع هذا الواقع الذي لا يناقش فيه اثنان؟

ثانياً – اذا كان مبدأ زيادة الرأسمال مفهوماً، بل يشكّل حاجة توافق عليها المصارف، وتريد تنفيذها في أقصى سرعة ممكنة، لأنها وسيلة للصمود والبقاء في انتظار بدء إنقاذٍ تأخّر كثيراً، فإنّ هذا الأمر قد لا ينطبق على سيولة الـ3 % (حوالى 3,2 مليارات دولار)، من حيث التوقيت. إذ كيف سنحمي هذه السيولة ونضمن استخدامها بالطرق الصحيحة، اذا كانت الدولة قادرة على إصدار قوانين ساعة تشاء قد تؤدّي الى صرف هذه الاموال في غير مقصدها. ومن يضمن ألا تتحول هذه الاموال الى رهينة اضافية تنضمّ الى الاحتياطي الالزامي المُحتجز في مصرف لبنان، والذي يتمّ تبذيره تحت تسمية الدعم؟

ثالثاً – اذا كان مصرف لبنان حريصاً بهذا القدر على توفير الدولارات الطازجة، لماذا لا يعمد الى اتّباع آلية تضمن عودة الدولارات التي يتم استخدامها، في دعم المواد الاولية لمنتجات يُعاد تصديرها؟ وهل يجوز ان يبقى هذا الامر مبهماً، بحيث لا يُعرف كم خرج من لبنان وكم عاد اليه من دولارات جرى اقتطاعها لدعم الانتاج؟

رابعاً – اذا كان تأمين سيولة الـ3 % ينبغي أن يتم عبر استرجاع نسب حدّدها التعميم 154 من مودعين أخرجوا أموالاً من القطاع المصرفي منذ منتصف 2017، عبر الحَثّ. فهل أصبحت المصارف مسؤولة عن عدم قدرتها على إلزام مودعيها بهذا الأمر؟ وهل من الطبيعي ان تتمكّن المصارف من استعادة الاموال، في حين انّ الدولة بكل وسائلها المتاحة عاجزة عن الامر؟ وهل المطلوب تطبيق التعميم على ناس وناس؟

هذا المناخ يوحي بالتغيير الذي طرأ على العلاقات الودية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهو مناخ يكاد يكون بديهياً، لأنّ البلد في أزمة خانقة، وكل طرف يتحسّس رقبته للحفاظ على كيانه. مصرف لبنان من جهته، يريد شراء المزيد من الوقت بالاعتماد على المصارف هذه المرة. والمصارف تريد ضمان الاستمرارية والحد من استمرار الخسائر لئلّا يكون الحل في النتيجة مُدمّراً للقطاع وللودائع.

في المحصلة، سيتمّ تنفيذ التعميم 154 وفق قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وستُعطى المصارف القادرة على الالتزام الوقت الكافي، برغم الصرامة في اللغة التي يستخدمها مصرف لبنان. لكن المصارف العاجزة عن الالتزام، بصرف النظر عن المهل، سيتمّ التعاطي معها على أساس انّ خروجها من السوق عبر الدمج، او تغيير ملكيتها عبر وضع مصرف لبنان يده عليها، أفضل للجميع.

انطوان فرح.

الليرة خرقت الحاجز النفسي وأصبحت بلا ضوابط

هل وصلت الليرة اللبنانية الى القعر بوصول سعر صرف الدولار في السوق السوداء امس الى 10 آلاف ليرة؟ وهل يمكن القول انّها بتحطيم رقم قياسي جديد خرجت الأمور عن السيطرة، وباتت السقوف غير قائمة، وكل الاحتمالات واردة؟ ام لا يزال هناك أمل بالعودة الى سقوف محدودة؟

حطّمت امس الليرة اللبنانية الرقم القياسي الذي سبق وبلغته في 3 تموز الماضي، بوصول سعر الدولار في السوق الموازية الى 9900 ليرة، وسجّلت امس سعر المبيع 10 آلاف ليرة وسعر شراء الدولار 9950 ليرة. لا شك انّ كسر حاجز الـ10 آلاف قد يعبّد الطريق امام مزيد من الانهيار لليرة، قد تصحّ معها كل التوقعات التي سبق وتحدثت عن 17 الفاً للدولار وعن 22 الفاً، وصولاً الى توقعات «بنك أوف أميركا» بتسجيله 50 ألف ليرة للدولار الواحد. فهل سيتكيّف اللبناني مجدداً مع مستوى فقر جديد، أصبح فيه الحدّ الأدنى للأجور 68 دولاراً، ومتوسط قيمة الراتب 120 دولاراً، ام انّه حان الوقت للتحرّك والانتفاضة على الواقع المرير الذي نعيشه، خصوصاً وانّ الإنخفاض في قيمة العملة المحلية سينعكس المزيد من الارتفاع في أسعار السلع والمواد الغذائية؟

في السياق، يرى المستشار المالي ميشال قزح، انّ وصول سعر الدولار مقابل الليرة الى 10 آلاف ليرة له انعكاس نفسي قد يدفع البعض ممن يملك الدولار الى بيعه، بخلفية انّ هذا سقفه او حدوده، لكن في الواقع ليس هذا هو السقف النهائي لسعر صرف الدولار. واعتبر انّ الضوابط التي يفرضها مصرف لبنان والمصارف على المودعين من خلال تحديد سقف السحوبات او ما يُعرف بالكابيتال كونترول، ساهما في تهدئة السوق، بدليل أنّه ما أن يُرفع الكابيتال كونترول عن الحسابات المصرفية بالليرة، او حتى عن تسعيرة 3900 ليرة، سيتهافت المودعون لسحب ودائعهم وشراء الدولار من الصرافين، وعندها يحصل ما سبق وتكهّن به «بنك اوف اميركا» بأن يصل سعر الصرف الى 50 الف ليرة.

لماذا تتدهور الليرة؟

رداً على سؤال لـ«الجمهورية»، عزا قزح ارتفاع سعر الدولار الى أسباب عدة ابرزها لجوء بعض المصارف الى سحب الدولارات من السوق من اجل تكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة، بدليل انّ بعض المصارف عرضت إعطاء شيكات مصرفية بالليرة اللبنانية مع حسم بنسبة 10 الى 12% من ثمنه، اذا تأمّن لها المبلغ بالليرة نقداً، وهي تهدف بذلك الى استخدام النقدي لشراء الدولار من الصرافين. كذلك لجأ بعض المصارف ومنذ العام 2020 الى بيع شيكات مصرفية بالدولار مع حسومات، كي تتمكن من تحصين نفسها احترازياً، قبل الوصول الى هذه المرحلة، في حين لجأت بعض المصارف منذ حوالى الاسبوعين الى اعتماد هذه الخطوة لأنّها كانت تراهن على تمديد مفعول التعميم 154.

وقدّر قزح الكتلة النقدية التي سُحبت من السوق في الشهرين الماضيين، واستُعملت لغرض تطبيق التعميم 154 بحوالى المليار دولار. وقال: «هذه الأموال لم تعد موجودة اليوم في صلب الاقتصاد اللبناني، لأنّها أُعطيت فعلياً الى المصارف المراسلة الموجودة خارج لبنان، والاسوأ انّ هذه الشيكات المصرفية بالدولار التي بيعت سيُعاد سحبها من المصارف وفق سعر 3900 ليرة، وستُترجم بالمزيد من الطلب على الدولار عند الصرافين، ما سيؤدي مجدداً الى ارتفاع سعره في الفترة المقبلة. وبالإستناد الى حجم التحويلات المالية التي تدخل الى لبنان والمقدّرة بحوالى 500 مليون دولار شهرياً، ربما نحن بحاجة الى حوالى الشهرين لتستعيد السوق توازنها وتغطي النقص في الدولارات الذي سبّبته المصارف بتنفيذها التعميم 154».

ورأى قزح، انّ ارتفاع الدولار اليوم ليس بريئاً، فهناك علامات استفهام عدة تُطرح على الحاكم، منها كيف يتراجع الاحتياطي 10 مليارات دولار بينما كلفة الدعم لم تتخطّ الـ 5 مليارات دولار؟ اين ذهب فارق الأموال؟ هل الحاكم يتدخّل في السوق السوداء من خلال الصرافين، يمدّهم بالدولار لتهدئة السوق وكلما أحجم عن ذلك يتدهور سعر الصرف، إم انّ هذه المليارات استُعملت لتهريب أموال السياسيين الى الخارج؟

تسعيرة ثابتة؟

يؤكّد قزح، انّه بعدما أصبح الفارق بين دولار السوق ودولار المصرف كبيراً، بات المصرف المركزي ملزماً بتغيير سعر المنصّة أي 3900 ليرة اذا كان يريد تفادي ثورة شعبية يقودها المودعون. اما عدم تغيير السعر فقد يكون الهدف منه قيام ضغط شعبي من اجل الإسراع في تشكيل الحكومة. وقال: «لا بدّ من ترقّب الخطوة التي سيُقدم عليها مصرف لبنان في هذا الخصوص في المرحلة المقبلة، لكن اذا اقدم المركزي على رفع هذا السعر سيصبح لدينا كتلة نقدية بالليرة أكبر من الموجودة حالياً، وبالتالي يصعب سحبها من السوق وستُترجم غلاء في الأسعار ومزيداً من التدهور في سعر الصرف، وهكذا دواليك.

من جهة أخرى، أكّد قزح انّ الحل الوحيد لوقف الانهيار يبدأ من تشكيل حكومة اختصاصيين والسير بخريطة طريق تبدأ بالتفاوض مع صندوق النقد. فنحن وصلنا اليوم الى مرحلة اللاعودة، والكل مجبر على التضحية كي نصل في مرحلة مقبلة الى سعر ليرة مقابل الدولار ما بين 6000 الى 7000 ليرة. أما إيجاد حل لودائع الناس في المصارف فلن يتوفر من دون ان يتحمّل أصحاب المصارف وكبار المودعين الخسائر.

مسيرة التدهور

بعد مرور عام ونصف العام على بدء التدهور في سعر الليرة لم تقم الطبقة السياسية بأي خطوة للحدّ من الانهيار، بل اكتفت بالتفرّج عليه، عرقلت الخطة الاقتصادية والكابيتال كونترول واستعادت الأموال المنهوبة. في هذا الوقع ارتسم مشهد انهيار الليرة من بعد انفجار مرفأ بيروت على النحو الآتي:

مع وصول سعر الليرة خلال شهر تموز 2020 الى حوالى 9900 ليرة، عاد السعر وتراجع بعد الانفجار الى حوالى 7000 ليرة ثم 6500 ليرة، وذلك مع وصول بعض المساعدات المالية الى لبنان.

لكن الليرة استأنفت تدهورها اعتباراً من شهر كانون الأول 2020 مسجّلة 8000 ليرة ثم حوالى 8600 ليرة في شهر كانون الثاني وبلغ 9000 ليرة خلال شهر شباط، وارتفع اعتباراً من منتصف شهر شباط الى 9500 بعدما زاد الطلب على الدولار.

ايفا ابي حيدر.

ماذا بين ثبات الدولرة وتثبيت سعر الصرف؟

منذ نقطة التحول الكبرى في السياسة النقدية في لبنان منذ التسعينيات، أظهرت خيارات مصرف لبنان مخاوف ملحوظة من إعادة إنتاج النمط الذي كان سائدًا في عام 1987، عندما تجاوز التضخم المفرط 487%، وانطلق مسار الدولرة كخيار حرّ للقطاع الخاص سعياً للحفاظ على قدرته الشرائية، ثم تراجع تدريجيًا مع السياسة النقدية التقييدية عام 1992. ومع تثبيت سعر الصرف منذ 1997، انتظر الجميع أن تتراجع الدولرة في تلك الفترة .. إلّا أنّ الدولرة الجزئية بقيت مرتفعة، ومع انفجار الأزمة المالية-النقدية-المصرفية في الربع الأخير من العام 2019 ازدادت أكثر لتلامس 80% من الودائع اليوم.. هل فعلاً كانت الدولرة ردة فعل اختيارية ازاء انهيار سعر الصرف في الثمانينيات؟ وبالتالي ما سرّ ثبات الدولرة رغم سنوات من تثبيت سعر الصرف؟ وأي خيارات ممكنة اليوم؟

في الثمانينيات، ترافق انهيار سعر الصرف الوطني مع ارتفاع سعر الدولار من 2.25 ليرة لبنانية عام 1972 إلى أكثر من 2850 ليرة عام 1992، قبل أن ينخفض تدريجياً، من نهاية عام 1992 حتى تمّ تثبيته عند 1507.5 ليرة منذ عام 1997… وذلك مع ارتفاع معدل دولرة الاقتصاد من حوالى 25% من الودائع عام 1972 إلى أكثر من 86% عام 1987، لينخفض تدريجياً الى حدود 67% في سنوات الاستقرار، ثم ارتفاعه ليصبح اليوم حوالى 80%.

إلّا انّ خصوصية الأزمة الحالية تختلف أيضًا عن الثمانينيات، إذ لم تعد دولرة الودائع تحمي أصحابها، بعد أن وظفت المصارف أكثر من ثلثيها بين الاكتتاب بسندات خزينة الدولة بالدولار والأوروبوند، واشترت بالجزء الأكبر شهادات إيداع مصرف لبنان بالدولار، لتعزيز إحتياطاته بالعملات الأجنبية… علماً أنّ الودائع بالدولار التي بلغت 120 مليار دولار، أي مرة ونصف من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في بداية العام 2019 قبل اندلاع الأزمة، تراجعت الى حوالى 112 مليار دولار حالياً، بعد سحب المودعين كميات كبيرة منها بين شراء ذهب وتسديد ديون وشراء عقارات أو سيارات، وللاحتفاظ بالسيولة بالدولار والليرة، تحسباً للمزيد من شح النقد..

وكان القطاع المصرفي يحتفظ بـ 15 مليار دولار على شكل سندات يوروبوند، و 70 مليار دولار مع مصرف لبنان، بين احتياطي إلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية (15% من الودائع بالعملات الأجنبية أو ما يقرب من 18 مليار دولار أميركي) وشهادات إيداع بالدولار (قدّرتها مؤسسة بلومبرغ بـ 52.8 مليار دولار)… بينما حمل مصرف لبنان سندات يوروبوند مقابل 5.7 مليارات دولار.

في العام 1987 كان الدولار متاحًا، وكان الطلب عليه يتزايد بسبب التضخم ، وكان سعره الرسمي يتزايد بالتوازي. في المقابل، اليوم الدولار غائب وسعره الرسمي ثابت والسوق الموازية تغذي التضخم … ولا يمكن تصور الخروج من الأزمة بما حدث عام 1992 باعتماد قرار تثبيت سعر الصرف ، لأنّ الدولارات اللازمة غير متوفرة هذه المرة.

في الثمانينيات، وافق المصرف المركزي والمصارف اللبنانية على اختيار القطاع الخاص اللبناني اعتماد الدولرة الجزئية وغير الرسمية، عن طريق الاختيار الحرّ للعملاء الاقتصاديين، الذين فقدوا الثقة في العملة الوطنية… ولم «تضفِ» السلطات النقدية الطابع الرسمي على استخدام الدولار كعملة وطنية لدفع الضرائب والرسوم وتنظيم إجراءات الإدارة العامة … إلّا أنّ مصرف لبنان أنشأ غرفة مقاصة للشيكات بالدولار وملأها ماكينات الصرف الآلي (ATM) عن طريق العملتين: الليرة اللبنانية والدولار الأميركي.

عملياً، من الطبيعي أن يكون معدّل الفائدة على الودائع بالعملة الوطنية أعلى من معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر جزئياً، نظراً لفارق عامل المخاطرة، كذلك من الطبيعي أن يكون معدل الفائدة على الودائع بالدولار في البلد المدولر، أعلى مما هي عليه نفس الودائع بالدولار، لو تمّ توظيفها في أسواق أخرى خارجية أكثر استقراراً، نظراً لعامل المخاطرة في البلد المدولرة..

واذا كانت مبدئياً الدولرة الجزئية مفترقاً للاتجاه إما صوب استعادة الثقة بالعملة الوطنية أو الانغماس أكثر بالدولرة حدّ التخلّي عن العملة الوطنية أو السعي لنظام استقرار للعملة الوطنية، مربوط بتثبيت سعر الصرف، إما برط العملة الوطنية بالعملة الأجنبية أو باعتماد مجلس نقد أو مجلس مصرفي … ويُلاحظ أنّ لبنان عرف ثباتاً مرتفعاً في معدّلات الدولرة، على الرغم من مرور 22 سنة من تثبيت سعر الصرف بربط الليرة اللبنانية بالدولار… تراجع معدل الدولرة قليلاً ليعاود ارتفاعه مع كل فترة اهتزاز الاستقرار واضطرار المصرف المركزي لاستنفاد إحتياطه بالعملات الأجنبية، ومحاولة تأجيل انفجار الأزمة عبر «الهندسات المالية». هذه العمليات النقدية غير التقليدية خفّضت خدمة الدين للدولة، كون معدل الفائدة على اليوروبوند أقل مما هو على سندات الخزينة بالليرة. كما مكّنت الخزينة من الحصول على ضرائب تخطّت ملياراً ومئتي مليون ليرة (توازي 800 مليون دولار حينها) كضريبة 15% على مردود المصارف من هذه العمليات الاستثنائية، فضلاً عن استقطاب المزيد من الودائع بالدولار، وتوجيهها الى المصرف المركزي لزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية.. في حين كانت الدولة تزيد «دولرة» دينها العام، عبر زيادة حصة اليوروبوند من مجموع دينها العام، في حين كان ميزان المدفوعات يراكم عجوزات متتالية منذ 2011، غطّتها مرحلياً الهندسات المالية في 2016-2017 لتعاود العجز ويكبر الفارق بين الودائع المتزايدة بالدولار من جهة وتراجع الموجودات بالدولار الأميركي من جهة أخرى..

في موازاة ذلك، كانت مؤسسات التصنيف الدولية (فيتش، موديز، وستاندرد أند بورز)، تخفّض أكثر فأكثر التصنيف السيادي للبنان، مما يعطي إشارة لحاملي اليوروبوند عن صعوبة السداد. وبالنسبة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية يمكن تغطيتها، حتى في حال عجز الدولة عن السداد، عبر اللجوء الى طبع النقد في المصرف المركزي، كإجراء استثنائي في الحالات الطارئة، وتتحمّل البلاد التضخّم بعدها. أما بالنسبة لليوروبوند، فلا يمكن للمصرف المركزي المحلي طباعة الدولار الضروري لتسديدها، ولا الاستمرار الى ما لا نهاية باستنزاف احتياطه بالعملات الأجنبية .. الأمر الذي يؤدي بالدولة الى إعلان وقف السداد، كما حصل في نيسان 2020 عند العجز عن تأمين الدولار لإيفاء الاستحقاقات..

إذا كانت الدولرة الجزئية، على الرغم من ارتفاعها كما هو الحال في لبنان، تشكّل «وسيلة ملجأ» للعملاء الاقتصاديين من عدم استقرار قوتهم الشرائية، بعد تجربة تضخمية شديدة وانخفاض حاد في سعر صرف، قد يكون من الصعب إزالتها.. في حين يُعتبر إلغاء الدولرة بشكل تدريجي أمرًا ضروريًا لتجنّب مخاطر الدولرة الجزئية: خصوصاً مخاطر الملاءة المالية ومخاطر السيولة.

كما أنّ الدولرة جعلت أي أداة استقرار قائمة على ضبط عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعّالة، وأدّت إلى اعتماد الاستقرار القائم على تثبيت سعر الصرف، بالتدخّل المستمر لـ»دعم» سعر صرف العملة الوطنية. لكن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائمًا توفير عنصر احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان، للحفاظ على هامش تدخّله في سعر الصرف في السوق، الأمر الذي تطلب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج، وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (من خلال مجموع فائض تقليدي في ميزان الرساميل، يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد يستورد 80% من إستهلاكه).

من هنا، يتبيّن دور تدهور ميزان المدفوعات منذ عام 2011، والنفاد التدريجي لاحتياطيات العملات الأجنبية، ما أدّى إلى اندلاع الأزمة في تشرين الأول 2019، والانهيار الحاد بسعر الصرف، بعد السيطرة على السعر الرسمي إلى مستوى USD / LBP 1507.5 منذ عام 1997.

وهكذا، بعد 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، من خلال ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، تشهد العملة الوطنية انخفاضًا جذريًا في قيمتها في سوق الصرف الموازي، مع توقف إمكانية تحويل العملة الوطنية إلى عملات أجنبية في القطاع المصرفي. ومرة أخرى، تفقد الليرة اللبنانية وظائفها الثلاث، وهي: وحدة الحساب والوسيط التجاري والاحتفاظ بالقيمة الشرائية، وهو ما يذكّرنا بتجربة الاستهلاك والتضخم المفرط في الثمانينيات. ومع ذلك، فإنّ الأزمة الحالية تتميز ببيانات أكثر خطورة وتعقيدًا، من تلك التي كانت موجودة في الثمانينيات. مع القلق من المنحى المعاكس، المتمثّل بإزالة قسرية للدولرة وفرض سحب الودائع المصرفية اللبنانية بالدولار الأميركي حصرياً بالليرة اللبنانية، كما يحصل اليوم، قبل اعتماد سعر صرف موحّد حفاظاً على قيمتها وفق معطيات السوق…

من هنا، وبعد سقوط نظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس التدّخل المستمر للمصرف المركزي للحفاظ على سعر صرف رسمي، لم يعد يأخذ في الاعتبار مجمل المؤشرات الماكرو اقتصادية، لا سيما منها ميزان المدفوعات، في ظل الدولرة الجزئية، ما يدعو للتطلّع صوب خيارات بديلة أكثر فعالية لاستعادة الاستقرار بالمعطيات الحالية.. فهل يكون الاتجاه صوب إلغاء ألزامي للدولرة أو العكس، الذهاب الى الدولرة الشاملة، أم الوقوف وسطياً أمام خيار مجلس النقد أو مجلس مصرفي مستقبلي، يساهم أيضاً في استعادة الثقة بالجهاز المصرفي ككل؟

د. سهام رزق الله

هل يتغيّر مشهد المصارف في الاسبوع المقبل؟

شباط، ليس مجرد موعد يتحدّد معه مصير القطاع المصرفي، بل محطة للتذكير بالمصير الذي يمضي نحوه البلد بخطى سريعة، وكأنّ من في يده القرار يستعجل الهبوط نحو أعمق قعرٍ ممكن، وفي زمن قياسي غير مسبوق.

اسبوع واحد يفصلنا عن موعد انتهاء المهلة المعطاة الى المصارف للالتزام بمندرجات التعميم الاساسي والتعاميم الوسيطة التي تهدف الى إعادة هيكلة القطاع المصرفي.

في هذا الوقت، يحتدم النقاش وترتفع وتيرة التكهنات، بين من يؤكّد انّ المهلة لن تُمدّد، ومن يجزم بأنّها ستُمدّد قسرياً، بقوة القانون الذي أقرّه مجلس النواب (تمديد المهل). في حين يرى آخرون انّ التمديد سيكون بقوة الامر الواقع، لأنّ لا مصلحة لأحد في إسقاط مصارف لا تزال قادرة على الصمود والاستمرار في هذا التوقيت، فذلك سيكون بمثابة انتحار أو جريمة موصوفة في حق المودعين، وكل اللبنانيين.

الأمر الواقع هنا، لا يتعلق بعجز مصرف لبنان في الظروف الحالية عن تسلُّم مفاتيح مصارف عدة في وقت واحد لإدارتها وإعادتها لاحقاً الى السوق، بل أيضاً في أنّ لا مصلحة لأحد برفض التمديد، طالما أنّ النية في الالتزام موجودة، وقد تحتاج الى فترة اضافية للتنفيذ. وهذا الأمر قد يشمل مصارف كبيرة، أنجزت عمليات بيع كافية لتأمين الاموال الضرورية للالتزام بقرار اعادة الهيكلة، لكن اجراءات نقل الملكية وما يرافقها قبل ان تصبح الاموال مُحرّرة وجاهزة للاستخدام، قد يحتاج الى وقت اضافي يتجاوز 28 شباط الجاري، وبالتالي، من البديهي منح وقت اضافي لهذه المصارف للالتزام بالوضعية الجديدة المطلوبة.

لكن، وفي هذه المعمعة، يغيب عن البال، انّ النقطة الساخنة في هذا الملف لا ترتبط بالمِهَل وتمديدها، بل في تحقيق الهدف الذي من أجله صدر التعميم، أي «إعادة تفعيل نشاطات وخدمات المصارف المعتادة لعملائها، بما لا يقلّ عمّا كانت عليه في تشرين الاول 2019». فهل هذا الهدف واقعي في حال تبيّن انّ المصارف نجحت في الإلتزام بمندرجات التعميم في 28 شباط الجاري؟

من يتابع عمل المصارف في هذه الحقبة يدرك عمق الأزمة، ويدرك انّ الخطورة الحقيقية تكمن في تبذير الوقت من قِبَل الدولة. في العام 2019، وهو العام الذي شهد في نصفه الثاني ظهور مؤشرات واضحة للأزمة التي تدرّجت صعوداً، وصولاً الى اعلان ما يشبه الكابيتال كونترول الذاتي وغير المقونن، بسبب تعذّر إصدار قانون، كانت المصارف، أو بعضها، لا تزال قادرة على تحقيق ارباح. اليوم، وبعد مرور اكثر من عام على الأزمة، سوف تعلن المصارف بدءاً من الشهر المقبل نتائج العام 2020، وسيتبيّن انّها تعرّضت لخسائر جسيمة قد يقضي مجموعها على نسبة عالية من الزيادة في الرساميل التي قرّرها مصرف لبنان، (حوالى 4 مليارات دولار). واذا تواصل تبذير الوقت قبل إقلاع خطة الإنقاذ، ستكون أرقام 2021 مُفجعة، وسنكتشف انّ الثقب الاسود إلتهَمَ نسبة مرتفعة من رساميل المصارف التي يُفترض في الأساس ان تُستخدم في اطفاء قسم من الخسائر ضمن خطة الإنقاذ.

هناك اسباب عدة لارتفاع خسائر المصارف من أهمها انّها فقدت وظيفتها الأساسية في تمويل الاقتصاد والإنفاق. على سبيل المثال، نجحت المصارف خلال 2020 في تحسين دفاترها ومخاطرها المستقبلية من خلال خفض محفظة ديون القطاع الخاص لديها من حوالى 52 مليار دولار الى 35 مليار دولار، من خلال تشجيع المقترضين على سداد ديونهم بواسطة البيوعات العقارية، او الدفع بالليرة لقروض بالدولار على سعر 1500. لكن ذلك لا يعني فقط انّ المصارف نجحت في خفض حجم ديونٍ قد تصبح هالكة وتتحوّل الى خسائر، من خلال نقلها الى خانة المطلوبات (liabilities)، بل يعني ايضاً انّ الارباح التي كانت تجنيها المصارف من فوائد هذه القروض تراجعت بنسبة 40% تقريباً. في المقابل، خسرت المصارف الفوائد على «اليوروبوندز»، كما أنّها مضطرة الى حجز مؤونات بنسبة 45% على محفظتها من السندات الدولارية، بما يساوي حوالى 5 مليارات دولار. بالإضافة الى حوالى مليار دولار مؤونات على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان. وبالتالي، أصبحت ايرادات المصارف محصورة في الفوائد على ما تبقّى من ديون للقطاع الخاص، والفوائد التي لا يزال مصرف لبنان يدفعها لها لقاء توظيفاتها لديه. كل ذلك يشير الى انّ الخسائر في 2021 ستكون اكبر بكثير من خسائر 2020، ولن يبقى من الرساميل الكثير لاستخدامه لاحقاً في اطفاء خسائر.

في الموازاة، لا تدخل الى المصارف ودائع جديدة برغم بعض التحفيزات. وهناك توجّه لدى قسم من اللبنانيين الى فتح حسابات مصرفية في قبرص، رغم انّ الجزيرة الصغيرة خرجت قبل فترة من أزمة مالية صعبة مرتبطة بالأزمة اليونانية. وفي السياق، لا بدّ من الإشارة الى انّ قبرص التي قُدّرت خسائرها في الأزمة اليونانية بحوالى 17 مليار دولار، طُلب منها لتسريع عملية الإنقاذ والخروج من الأزمة، تنفيذ هيركات تحت تسمية ضريبة لمرة واحدة، بنسبة 6,75% على الودائع التي تبلغ قيمتها 100 الف يورو وما دون، ونسبة 9,9% على الودائع التي تفوق قيمتها الـ100 الف يورو.

فهل يمكن تصوّر نسبة الضريبة (هيركات) التي سيُطلب من لبنان فرضها، اذا كانت تقديرات حكومة حسان دياب للخسائر في نيسان 2020 وصلت الى حوالى 80 مليار دولار، وزادت اليوم، وفق المفهوم المحاسبي نفسه، الى حوالى 100 مليار دولار؟

انطوان فرح

تدهورٌ مُستمرّ في الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والمؤشرات تُنذر بالأسوأ

الإقفال العام ضرب الاقتصاد وزاد الفقر ولمُ يأتِ بالجدوى المطلوبة صحياً

خطرٌ جديد يُهدّد العالم من البوابة الصينية والتداعياتُ قد تكون كارثيةً 

الوضع الاقتصادي يتراجع يوميًا ومعه الوضع المالي للدولة ووضع الليرة اللبنانية وكل هذا يزيد الضغوطات على المواطن الذي يغوص في الفقر يومًا بعد يوم. هذا القول ليس بجديد، ولكن ما يجب معرفته هو أن المُحرّك الأساس في كل هذه اللعبة هو النمو الاقتصادي. فبدون هذا النمو، لا يُمكن للمالية العامة التي تعتاش على قسم من هذا النمو، ولا لليرة التي تعكس هذا النمو، ولا للمواطن الذي يعتاش من هذا النمو أن يخرجوا من الأزمة الحالية التي أصبحت قاسية وتزداد قساوتها مع مرور الوقت.

ميزان المدفوعات والذي هو عبارة عن مؤشر خروج ودخول العملة الصعبة من وإلى لبنان أصبح يدلّ بوضوح على الوضع الصعب الذي يعيشه لبنان. فهذا الميزان يُسجّل أرقامًا سلبية منذ العام 2011 تحت وطأة الإستيراد الهائل والذي بلغ مُستويات كبيرة وصلت إلى 20 مليار دولار أميركي حتى العام 2019، وبالتالي كان ميزان المدفوعات يُسجّل أرقامًا سلبية كان إلى حدٍ ما مقبولاً حتى العام 2018، أي عام تقريبًا بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، حيث أخذ ميزان المدفوعات بتسجيل عجز كبير (8.4 مليار د.أ في العام 2018، و8.5 مليار د.أ. في العام 2019، ليصل إلى 10 مليار د.أ في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام 2020). وإذا كان هذا العجز مُبرّرًا قبل العام 2020، بعجز الميزان التجاري، إلا أن العام 2020 لايُمكن تبرير عجزه بعجز الميزان التجاري نظرًا إلى إنخفاض الإستيراد أكثر من النصف، وبالتالي فإن عجز ميزان المدفوعات هو نتاج حركة رؤوس أموال إلى الخارج!

نمو اقتصادي من دون رأسمال وإستثمارات هو أمر مُستحيل بحسب النظرية الاقتصادية والسبب أن الإستثمارات هي وقود النشاط الاقتصادي. إذًا تحقيق نمو إقتصادي يفرض إستثمارات أي بمعنى أخر دخول أموال من الخارج نظرًا إلى شحّ الدولار في الأسواق. هذا الأمر يفرض على الدولة أن تفاوض صندوق النقد الدولي الذي ربط المُجتمع الدولي أي مساعدة بنجاح هذه المفاوضات. وبما أن صندوق النقد لا يتعامل إلا مع حكومات أصيلة، لذا لا يُمكن الحصول على مُساعدات إلا من خلال تشكيل حكومة.

عمليًا على الأرض، الدولار يختفي كل يوم من مصرف لبنان الذي يُموّل الإستيراد (على السعر الرسمي وسعر المنصة) حيث تذهب حصة الأسد إلى المحروقات التي إستهلكت 258.2 مليار دولار أميركي على الأشهر التسعة الأولى من العام 2020 مع مُعدّل شهري يوازي 250 مليون دولار أميركي. أيضًا يُموّل مصرف لبنان إلتزامات المصارف التجارية لدى المصارف المراسلة ولكن أيضًا إلتزامات الدولة من خدمات مُستوردة.

في المقابل، لا يستقبل لبنان، إلا القليل من الدولارات التي يتمّ تحويلها على شكل دولارات «طازجة» تمر عبر المصارف أو شركات تحويل الأموال. وعلى عكس تقديرات البنك الدولي الذي يتوقّع أن يكون حجم تحويلات المُغتربين 9.6 مليار دولار أميركي في العام 2020، فإن النماذج الحسابية التي إعتمدناها، تُشير إلى 5.3 مليار دولار في أحسن الأحوال.

الإقفال العام

النتائج المرجوة من الإقفال العام الذي تمّ إقراره، من 14 كانون الثاني الماضي إلى 31 منه، لم تكن على الموعد. فمُستوى الإصابات ما زال مُرتفعًا والمُستشفيات تكتظ بالمُصابين وأعداد الوفيات إلى إرتفاع. ومع التوجّه بتمديد الإقفال أسبوعين إضافيين للحدّ من إنتشار الجائحة، يتساءل المواطن عن الإستراتيجية التي تعتمدها السلطات من خلال عملية الإقفال هذه؟

مراجعة المواقع الإلكترونية الأجنبية، تُظهر أن كل إقفال تقوم به دولة (مثل بريطانيا، ألمانيا، فرنسا#0236) يهدف إلى السيطرة على تفشّي الوباء من خلال ملاحقة المصابين ومتابعتهم من خلال تطبيقات وغيرها، ولكن أيضًا من خلال زيادة القدرة الإستعابية للمستشفيات والتحضير للِّقحات. لكن في لبنان، لم تُعلن السلطات أيًا من هذه الأهداف على الرغم من التصريحات التي يقوم بها المسؤولون، لا بل على العكس هناك سؤال جوهري أساسي يطرحه كل مواطن عن كيفية حفظ اللِقاحات على درجة حرارة -70 درجة مئوية؟

في هذا الوقت، تعلو صرخة المواطن الذي يُعاني الأمرّين من نقص في المداخيل مما يؤثّر على قدرته على تأمين المواد الغذائية إضافة إلى غياب واضح للدولة إن على صعيد تأمين المواد الغذائية الأساسية أو على صعيد مُحاربة جشع التجار الذين يفتكون بالأخضر واليابس.

حجّة الإقفال العام لأن الصحة أهمّ من الإقتصاد، لم تعد تنفع، فعشرات ألوف المواطنين سيقضون من الجوع إذا لم يتمّ السماح للناس مُعاودة أعمالهم كالمُعتاد مع التشدّد الكبير في تطبيق الإجراءات الوقائية مثل الكمّامات والمسافات الإحترازية وغيرها. هذا الأمر سيسمح للمواطن بإستعادة قسم من كرامته.

في هذا الوقت يجب على السلطات التحضير الجدّي لمرحلة اللِقاحات التي ستبدأ بعد أسبوعين، وحتى الساعة لا نعلم مدى جهوزية السلطات ومكان وجود المراكز وإذا ما تمّ تجهيزها، وهل تمّ تدريب الجسم الطبي وغيرها من الأسئلة التي أصبحت تشغل بال المواطن.

أيضًا يتوجب على السلطات زيادة القدرة الإستعابية للمستشفيات وذلك بحكم أنه لا يُمكن إقفال البلد إلى ما لا نهاية بحجّة أن القدرة الإستعابية بلغت حدّها الأقصى! فلتقمّ السلطات بالتشاور مع المستشفيات الخاصة والحكومية وترفع من قدرتها على إستيعاب مرضى كورونا، لأن المُستقبل غير واعد خصوصًا مع بدء الحديث عن فيروس جديد. وأين أصبحت المساعدات في بناء المستشفيات الميدانية؟

نيباه

بدأ الحديث يعود عن إنتشار فيروس إسمه «نيباه» في الصين والذي يُقال عنه أنه أشدّ فتكًا من فيروس كورونا مع نسبة وفاة تصل إلى 75%! هذا الفيروس والذي يأتي من الخفافيش ليس بجديد، فقد تمّ إكتشافه في العام 1999، إلا أن الجديد هو عودة تفشيه في الصين بحسب ما أشارت صحيفة الغاردين البريطانية. حتى أن هناك معلومات عن حالات تمّ إكتشافها في مصر، إلا أن هذا الأمر نفته السفيرة الصينية في مصر وقالت أن «ربط هذا الفيروس بالصين أمر غير صحيح، لأنه موجود فى جنوب آسيا وليس في الصين تحديدًا». هذا الجواب لا يحمل في طياته نفيًا قاطعًا عن تفشّي الفيروس في الصين وبالتالي فإن على الدولة اللبنانية التعلّم من تجربة كورونا والبدء بالتحضّر لمثل هذا الوباء الذي قد تكون نتيجته كارثية. وما يزيد من هذه المخاوف هو تصريح المدير التنفيذي لمؤسسة طبية أوروبية، والذي صرّح أن «فيروس نيباه مرض معد آخر ناشئ يسبب قلقًا كبيرًا، ومن الممكن أن تندلع جائحة في أي لحظة، ويمكن أن يكون الوباء العالمي التالي مع عدوى مقاومة للأدوية».

الإحتجاجات الشعبية

إحتجاجات طرابلس تُرسل مؤشرات سلبية جدًا عمّا آلت إليه الأوضاع الإجتماعية. بالطبع هناك قوى تُحاول الإستفادة من هذه الإحتجاجات لخلق فوضى على مثال الحادثة المدانة من خلال حرق البلدية في طرابلس، إلا أن تردّي الأوضاع سيُعطي زخمًا أكبر للإحتجاجات وسيدفع الناس إلى النزول إلى الشارع خصوصًا إذا ما إستمرّت حالة الإقفال العام والتي تُشكّل كارثة على صعيد قوت المواطن. من هذا المُنطلق، فإن ترابط الأحداث سيؤدّي إلى تصاعد إسّي (Exponential) للفوضى ستضع دون أدنى شكّ القوى الأمنية في مواجهة المواطنين الجياع. لذا يتوجّب على المعنيين أخذ الإجراءات التصحيحية للوضع الإقتصادي تحت طائلة وصول الوضع إلى حالة لا يُمكن السيطرة عليها إلا بأثمان عالية جدًا بشريًا وسياسيًا لا يمكن التنبؤ بها.

البروفسور جاسم عجاقة