أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

تحليل-“طلاء جديد فوق بناية متداعية” .. شكوك حيال جهود لتنظيف بنوك لبنان

يبدي مصرفيون ومحللون شكوكا حيال محاولات من مصرف لبنان المركزي لتنظيف بنوك البلاد، محذرين من أن ذلك يجب أن يكون في إطار خطة إنقاذ أوسع نطاقا لإصلاح النظامين المالي والاقتصادي المتداعيين.

ففي سلسلة تعميمات صدرت يوم الخميس، أبلغ البنك المركزي البنوك المحلية بأن تجمع سيولة جديدة وأن تحث كبار المودعين لديها على إعادة الأموال من الخارج وأن تُجنب مخصصات لتغطية خسارة تبلغ 45 بالمئة في حيازاتها من السندات الدولية.

جاء ذلك عقب تدهور جديد في أوضاع لبنان إثر انفجار مرفأ بيروت في وقت سابق من الشهر الحالي. لكن حتى من قبل الإنفجار، الذي أفضى إلى استقالة الحكومة، كانت بيروت تكابد أزمتها المالية الأسوأ إثر احتجاجات وتخلف عن سداد الديون بالعملة الصعبة في مارس آذار.

تقول علياء المبيض، العضو المنتدب في جيفريز، ”تلك القرارات الجزئية ستزيد مشاكل الائتمان والبنوك في لبنان وقد تقوض التقدم الضئيل الذي تحقق في محادثات صندوق النقد،“ مشيرة إلى المفاوضات المتوقفة بالفعل مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدة.

وتابعت ”ولا هي قائمة على رؤية اقتصادية مالية معدلة أو على خطة لإعادة هيكلة الدين تأخذ في الحسبان السياق الاجتماعي الاقتصادي الآخذ بالتدهور والوضع الأسوأ لديناميات الدين عقب الانفجار.“

تأتي خطوة البنك المركزي قبيل زيارة يقوم بها الأسبوع القادم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يضغط على الزعماء اللبنانيين لإجراء إصلاحات سياسية ومالية ستتيح تقديم مساعدات أجنبية وتخفف الأزمة الاقتصادية، تتضمن تدقيقا شاملا لمالية الدولة والبنك المركزي.

والبنوك اللبنانية في قلب العاصفة بسبب حيازاتها الضخمة من الدين الحكومي، وقد طلب منها البنك المركزي زيادة رأس المال 20 بالمئة بنهاية فبراير شباط 2021 أو الخروج من السوق.

إصلاحات

أبلغ رياض سلامة حاكم مصرف لبنان المركزي رويترز عندما سُئل عن الغرض من التعميمات ”من الضروري تنظيف البنوك بعد التخلف عن سداد الدين لأننا نريد منها أن تستأنف دورها ونشاطها.“

وأضاف أن البنوك لن تستطيع استئناف النشاط دون أموال كافية لدى بنوك المراسلة.

لكن عدة محللين تعاملوا بحذر مع تلك التصريحات.

يقول راهول شاه، مدير أبحاث الأسهم المالية في تليمر، ”من الصعب معرفة لماذا قد يبادر القطاع الخاص إلى ضخ سيولة جديدة في النظام المصرفي ما لم يسبق ذلك إجراء تنظيف كامل للأصول أولا.“

تساءل المحللون أيضا كيف تنسجم مطالبة البنوك بتحمل خسارة 45 بالمئة على حيازات السندات الدولية مع خطة إنقاذ طرحتها في وقت سابق من العام حكومة تصريف الأعمال الحالية وتضمنت خفضا بنسبة 75 بالمئة على الدين الخارجي و40 بالمئة على الدين الداخلي.

ولا تتماشى خسارة تبلغ 45 بالمئة مع القيمة السوقية الحالية للسندات، التي هوت لما دون 20 سنتا في الدولار يوم الخميس، عقب صدور التعميمات وتصريحات من مسؤولين بالحكومة الفرنسية قالوا إنه لا مساعدات دون إصلاحات.

وقال سلامة ”لا نعرف كيف ستكون نتيجة المفاوضات بين لبنان والدائنين لكننا اتخذنا الاحتياطات المعتادة التي تعقب مثل هذا التعثر،“ مضيفا أنه يمكن تعديل المستوى من 45 بالمئة ”بالزيادة أو النقصان“، بناء على سير المفاوضات.

وقال باترك كوران، الخبير الاقتصادي في تليمر، إن مستوى المخصصات قد ينبئ عن رغبة في تخفيضات قيمة أقل أو معاملة حيازات البنوك معاملة مختلفة عن حيازات الأجانب من السندات الدولية.

وأُخطرت البنوك أنه ينبغي تجنيب المخصصات، التي تشمل أيضا خسارة 1.89 بالمئة على ودائعها من العملة الصعبة لدى البنك المركزي، في غضون خمس سنوات، قابلة للتمديد إلى عشر بشرط موافقة البنك المركزي.

ورجح المحللون أن يكون الهدف من المهلة الزمنية ألا تنتهك البنوك، التي تكابد الأمرين لصيانة الملاءة المالية، القواعد التنظيمية الدولية لمعدلات السيولة.

يقول مسؤول كبير سابق بالبنك المركزي ”هذا تمويه.. يحاولون تجميل الوضع، طبقة طلاء جديدة فوق بناية متداعية.“

ثمة بواعث قلق أيضا حيال محاولات البنك المركزي لإلزام كبار المودعين بإعادة بعض أموالهم من الخارج، وهو ما يرى فيه بعض المحللين مقدمة لتحميل بعض المودعين جزءا من الخسائر المالية.

حوافز

أُبلغت البنوك بأن تحث المودعين الذين حولوا أكثر من 500 ألف دولار إلى الخارج من أول يوليو تموز 2017 على إيداع أموال في حساب خاص داخل لبنان مُجمد لخمس سنوات وبما يعادل 15 بالمئة من القيمة المحولة. وتزيد النسبة إلى 30 بالمئة في حالة ”عملاء المصارف من الأشخاص المعرضين سياسيا“.

أثار التوجيه الجديد حالة من الفزع في أوساط بعض عملاء البنوك ممن لهم حيازات كبيرة في الخارج، حسبما ذكر مصدر يعمل في الخدمات المالية، في حين تساءلت مصادر أخرى بالقطاع عن الحوافز الممكن تقديمها لإقناع الناس بإعادة الأموال.

وقال مصدر قطاع الخدمات المالية ”ما هكذا تدار الأمور.. الحكومة، لا البنك المركزي، هي التي ينبغي أن تبت في الأمر لأنها مسألة قانونية.

”ليس من العدل أن نطلب من المواطنين إعادة بعض أموالهم من الخارج، وإذا كانت هناك بواعث قلق حيال الأشخاص المنكشفين سياسيا فينبغي أولا إجراء تدقيق على حساباتهم لمعرفة إن كانوا قد استفادوا من الهندسة المالية.“

كان المصدر يشير إلى ممارسة كان ينتهجها البنك المركزي تتضمن اقتراض الدولار من البنوك المحلية بأسعار فائدة مرتفعة من أجل صيانة الملاءة المالية للحكومة.

لا داعي للهلع… «المركـزي» سيواصل دعم الدولار!

إستحوذت مسألة تَوقّف مصرف لبنان قريباً عن دعم الدولار، على أكبر قدر من المتابعة والقلق والاهتمام. وتمحورت النقاشات في غالبيتها على تصوير المشهد الاسود بعد رفع الدعم، وتوقيت هذه الخطوة.

نشطت التحاليل والاجتهادات والاستنتاجات في محاولة للتكهّن بالرقم الحقيقي للاحتياطي المتوفّر في البنك المركزي لكي يصبح التكهُّن بموعد وقف الدعم مُتاحاً. وبما أنّ قرار المجلس المركزي في مصرف لبنان ثابت وواضح لجهة إبلاغ الحكومة قبل أن تستقيل انه سيوقف كل انواع الدعم للدولار عندما تنفد الأموال لديه، ولا يتبقّى في صناديقه سوى الاحتياطي الالزامي الذي تودعه المصارف التجارية لديه، كضمانة للودائع، فهذا يعني انّ الدعم سيتوقف عندما يصل المبلغ الى 17,5 مليار دولار. وهنا، تتضارب الاجتهادات في تقدير المبلغ المتبقي قبل الوصول الى هذا الرقم. البعض يتحدث عن 3 أسابيع، والبعض الآخر يمدّد الفترة الى 3 أشهر.

هذه المخاوف مبرّرة فيما لو صدّقنا انّ مصرف لبنان سينفّذ قراره. لكنّ الواقعية تحتّم أن نستنتج انّ الدعم سيستمر، رغماً عن إرادة المركزي. ومن هنا، يمكن أن نستعير عبارة وزير الصحة الشهيرة، لا داعي للهلع، ولا خوف من إلغاء الدعم لا بعد شهر ولا شهرين ولا ثلاثة…

ما فعله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة واضح لجهة التسلّح بقرار المجلس المركزي الذي اتخذ قرار إلغاء الدعم. وبالتالي، ما عانى منه سلامة في السنوات الماضية لجهة تحميله لوحده مسؤولية قرارات كانت تُفرض عليه، مثل إقراض الحكومة لتغطية عجز الموازنة، أصبح اليوم متحرراً منه. القرار المتعلق بوقف الدعم لم يتخذه شخصياً، بل اتخذه المجلس المركزي الذي اكتمل عقده قبل استقالة الحكومة بفترة وجيزة، وهو مكوّن من أشخاص محسوبين سياسياً، أو على الأقل اختارتهم للموقع، قوى سياسية تحكم البلد حالياً. وبالتالي، تنفيذ القرار أو التراجع عنه، مسؤولة عنه هذه القوى، التي «تمون» مبدئياً على أعضاء المجلس المركزي. من هنا، سيكون البلد في مواجهة احتمالين:

أولاً – أن يبلغ الاحتياطي في المركزي الخط الاحمر الذي حدّده مجلسه في حقبة حكومة تصريف الاعمال الحالية.

ثانياً – أن يحين الوقت في ظل حكومة جديدة على وشك الاقلاع، وربما التأليف، بمعنى أن يكون قد تمّ تكليف رئيس حكومة جديد، ونكون في فترة التأليف.

في الحالة الاولى، هل يستطيع عاقل ممّن اختبر طريقة تفكير المنظومة السياسية، أن يعتقد بأنّ هذه المنظومة، وفي ظل عدم وجود حكومة (حكومة تصريف أعمال)، ستسمح بوقف دعم الدولار، وتحويل الناس الى الفقر المدقع، والمجازفة بالأمن الاجتماعي؟

وفي الحالة الثانية، هل من عاقل يمكن أن يتوقّع أن تبدأ أي حكومة جديدة مُعوّل عليها للانقاذ، ولايتها برفع الدعم والسماح بارتفاع اسعار كل السلع دفعة واحدة وفي فترة قصيرة بنحو 400 %؟ هذا من دون احتساب مخاطر الانعكاسات على سعر الدولار، بسبب ارتفاع الطلب عليه للاستيراد.

هذه الفرضيات، مع احتساب السلوك السابق للمنظومة السياسية، تقود الى الاستنتاج بأنّ المجلس المركزي سيتعرّض للضغوطات السياسية المناسبة لحمله على التراجع عن قراره، ومواصلة الدعم. وسيتم ذلك وسط تهليل شعبي مُبرّر، لأنّ المواطن شبه جائع، ويصعب إقناعه بخطورة الاستمرار في استنفاد الاحتياطي المتبقّي من الودائع في مصرف لبنان. هذه المرة سيكون سلامة مرتاحاً أكثر لأنّ المسؤولية لن تكون على عاتقه لوحده، بل على عاتق المنظومة السياسية التي ستضطر الى الكشف عن قرارها بفرض استمرار الدعم.

لكن المشكلة لا تكمن في تحميل هذا أو ذاك مسؤولية ما سيجري لاحقاً. اذا استمر الدعم، من دون تغيير المشهد السياسي والاقتصادي والمالي، فهذا يعني الوصول الى فاجعة يصعب تصوّر نتائجها. واقعياً، ومهما كان وقف الدعم قاسياً وكارثياً على الناس، فإنه سيكون مجرد نزهة اذا ما قيس بحجم الكارثة التي ستحلّ بالبلد والناس في حال استمر الدعم لاستنفاد كل الاحتياطي، من دون خطة إنقاذ.

ما قام به مصرف لبنان في السابق، ومن ضمنه الهندسات المالية، كان عملية شراء للوقت، على أمل أن تستفيق المنظومة السياسية وتبدأ التغيير المطلوب. غداً، ستقرر المنظومة السياسية نفسها شراء المزيد من الوقت، لكنها قد تكون المرة الأخيرة المُتاحة، وسينفد الوقت أيضاً، وستكون النتيجة لاحقاً أسوأ وأفظع من كل التصورات السوداوية.

حالياً، يحاول بعض الوزراء في الحكومة المستقيلة تمهيد الطريق أمام الحكومة المقبلة لتسهيل مهمتها. وفي المعلومات انّ وزير المالية غازي وزني قد يوقّع في الايام القليلة المقبلة مع شركة Alvarez&Marsal اتفاقية التحقيق الجنائي (Forensic audit) في مصرف لبنان، كما يحرص وزني على الحفاظ على التواصل الدائم مع صندوق النقد، لكنّ هذا التواصل في ظل حكومة تصريف اعمال لا يمكن أن يودي الى أي تقدّم، ويبقى على طريقة keep in touch ليس إلّا، بانتظار حكومة جديدة قد لا ترى النور في المدى المنظور. وفي هذه الحالة، ما نفعُ التحقيقات الجنائية وغير الجنائية، وماذا ستفعل بها منظومة اعتادت على أسلوب «بلّها وشراب ميّاتها»؟.

انطوان فرح.

اقتصاد لبنان: الأمل الأكبر في أهله

بعد أن فُجع العالم بكارثة مرفأ بيروت، وما تسببت فيه من فقد لأرواح مائتي إنسان، وإصابة الآلاف، وتشريد وتدمير بيوت مئات الآلاف، جاء رد فعل المجتمع الدولي في مؤتمر دعم بيروت والشعب اللبناني الذي دعت إليه فرنسا بمشاركة الأمم المتحدة. توافق المشاركون في المؤتمر على تقديم عون إغاثي للشعب اللبناني في شكل مساعدات عاجلة بلغت حوالي 250 مليون يورو (300 مليون دولار). ونص البيان الصادر عن الرئاسة الفرنسية على أن هذه التعهدات المالية ستتم من خلال المنظمة الأممية ومؤسسات دولية مشاركة، وأنها ستسلم مباشرة للشعب اللبناني. أكد المؤتمر أيضاً على استعداد لمساندة نهوض الاقتصاد اللبناني، الذي يعاني من أزمات متشابكة، لكن هذا الاستعداد المعلن جاء مشروطاً بإجراء الدولة لإصلاحات سياسية وهيكلية ومؤسسية.
كانت تقديرات مؤسسات دولية، قبل الكارثة الأخيرة، عن الاقتصاد اللبناني، الذي بلغت متوسط قيمته 54 مليار دولار في الأعوام الثلاثة الماضية، بأنه سيتراجع في هذا العام بأكثر من 12 في المائة، كما ارتفعت معدلات البطالة بشكل غير مسبوق، فهناك عاطل بين كل ثلاثة لبنانيين. وتزامنت الأزمات الاقتصادية والمالية والمصرفية مع تفاقم الديون المتراكمة لأكثر من 150 في المائة من الناتج المحلي، وانفلات في الأسعار بمعدل تضخم سنوي تجاوز 90 في المائة في يونيو (حزيران) الماضي، وانهيار في سعر الليرة بانخفاضها بمقدار 80 في المائة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مقابل الدولار.
وفي جلسة نقاش عقدتها الجامعة الأميركية في بيروت في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، قدر الاقتصادي اللبناني جمال الصغير، أن بلاده بحاجة لضخ 25 مليار دولار من رؤوس الأموال والاستثمارات في الأجل القصير على أن ترتبط بإصلاحات نقدية ومالية ضخمة وتغييرات هيكلية عميقة تطال القطاعات الاقتصادية والمؤسسات المشرفة عليها، محذراً، كما حذر غيره من قبل، من عواقب وخيمة على المجتمع واستقرار البلاد إذا لم تؤخذ هذه الإصلاحات محمل الجد في التنفيذ. كانت هذه التقديرات والتحذيرات قبلما يعجز لبنان عن سداد قسط مستحق في شهر مارس (آذار) الماضي، بما قيمته 1.2 مليار دولار من خدمة سندات دولارية، وأعلنت بعض الدوائر المالية بعدها تقديرات باحتمال خسارة الدائنين من حملة هذه السندات 70 في المائة من قيمتها على الأقل في حالة إعادة هيكلة هذه الديون.
وأتت تداعيات الأزمة الصحية لوباء «كورونا» بأعبائها، ولتغيض معها موارد السياحة وقطاع الخدمات، وكذلك تحويلات اللبنانيين في المهجر لأهليهم، التي قدرت في العام السابق بحوالي 7.3 مليار دولار، بما يُشكل 13 في المائة من الناتج المحلي للبلاد. وقد تعرضت التحويلات المالية لمشكلات عدة في عمليات تحويلها من خلال المصارف مع قيود الصرف على حسابات الأفراد من بنوكهم، فلجأوا إلى التحويلات النقدية من خلال معارفهم من المسافرين يصحبونها معهم، ثم قيدت حركة السفر بسبب الوباء فلم يعد أمامهم إلا مكاتب تحويل الأموال، وسبب هذا كله اضطراباً في مورد حيوي لإعانة اللبنانيين واقتصادهم.
ويجري البنك الدولي تقديراته لحجم الدمار، وتكلفة إعادة البناء وإعلانها خلال الأسابيع. وفي هذه الأثناء تراوحت التقديرات المبدئية لشركات التأمين وجهات رسمية للخسائر بين 2.5 مليار دولار، و10 مليارات دولار، أي بما قد يصل إلى 18 في المائة من الناتج المحلي للبنان.
وفي مقابل ذلك كله هناك شلل في قدرة المؤسسات الضعيفة للدولة على التعامل مع الأزمات مع استفحال أزمة ثقة وغياب الحوكمة والشفافية. ويستحق هذا الأمر التوقف عنده لارتباطه بتوقعات المنظمات والمؤسسات المالية الدولية لما تعتبره إصلاحاً لازماً حتى تستطيع مساندة الاقتصاد. وقد جاءت كلمتا مديرة صندوق النقد الدولي ونائبة الأمين العام للأمم المتحدة في إطار حديثهما عن التعامل مع إجراءات التعافي وإعادة البناء، بالإضافة إلى جهود الغوث والإعانة الإنسانية الفورية، حول اقتراح الإجراءات الآتية:
1 – تحديد أولويات المساندة الاقتصادية والاجتماعية العاجلة في ثلاثة مجالات، وهي الصحة، والغذاء، وترميم وإعادة تأهيل وبناء المساكن والمدارس والمستشفيات.
2 – استعادة الملاءة المالية لموازنات الدولة والقطاع المالي والمصرفي، وإصلاح هياكل المديونية، وعدم تكبيل الاقتصاد والمواطنين بديون لا يستطيعون تحمل أعبائها، وأرى في هذا الشأن سرعة المبادرة بترتيب لإعادة هيكلة الديون الدولية، والحصول على إعفاءات تشمل أصول الديون وفوائدها من دون إبطاء.
3 – مطالبة من استفادوا بعوائد مبالغ فيها بالمشاركة في أعباء إعادة رسملة البنوك لحماية أموال غالبية اللبنانيين الذين أودعوا أموالهم هذه البنوك.
4 – فرض قيود حماية مؤقتة على حركة رؤوس الأموال لخارج البلاد من خلال فرض قيود على الجهاز المصرفي، وإلغاء نظام سعر الصرف المتعدد لحماية الاحتياطي، ومنع الاستغلال والفساد.
5 – وضع قيود مانعة من استمرار الخسائر المزمنة في المؤسسات التابعة للدولة مع تعزيز الشفافية وتفعيل قواعد المراجعة الشاملة على حسابات المؤسسات، بما في ذلك البنك المركزي.
6 – مد مظلة الحماية الاجتماعية لحماية الفئات الأفقر والأكثر عرضة لتأثيرات الأزمات القائمة في إطار سياسة متكاملة للتعامل مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية الأعمق والأطول مدى.
وفي حوار مع أصدقاء من أهل لبنان، وهم الأدرى بشعابها، عن رد فعلهم للمؤتمر، وما أسفر عنه، كانت كلماتهم مستحسنة لرد الفعل الدولي تجاه العون الإنساني العاجل، ولكن جاء تأكيدهم أن الإجراءات المقترحة كشروط من أجل دعم الاقتصاد متعارف عليه، ولطالما طالب به وبغيره الناصحون وذوو الرأي والبصيرة من أهل الخبرة، فضلاً عن عموم الناس. وإنما الأولوية الآن للأمر السياسي، وإنقاذ الدولة من وقوع في تيه الفشل، كما حذر من قبل السفير ناصيف حتي، فالإصلاح المؤسسي الذي يؤكد عليه المجتمع الدولي ومنظماته، كشروط ضرورية لنجاح الإصلاحات الأخرى، يحتاج إلى إرادة سياسية وقوانين نافذة وسلطات فاعلة وآليات للمتابعة والمحاسبة بنتائج معلنة.
وتذكرنا التجارب بأن أفضل خبرات بناء الدول المعاصرة هي تلك التي تمتعت برغبة من أهلها في بناء المؤسسات وفق أولوياتها الوطنية وثقافتها واعتبارات اقتصادها السياسي. يذكرك هذا بما استعرضه الاقتصاديان دارون أشموجلو وجيمس روبنسون في كتابهما الشهير عن أسباب قوة ورفاه وفقر الدول في حقب تاريخية وأقاليم جغرافية مختلفة، وأشهرا سؤالهما «لماذا تفشل الدول؟»، فوجدا الإجابة في طبيعة مؤسساتها ومدى شمولها للكافة أو تحيزها. وإذا كانت بأضدادها تعرف الأشياء، فإن نجاح الدولة اقتصادياً يأتي بديهياً من تمكين مؤسساتها وبنائها.
لسنا بصدد إعادة اختراع للعجلة، ولكنها عملية تطويع لممارسات عالمية مستقرة للتوافق مع الاحتياجات، قد تختلف في الشكل والمظهر، ولكنها لا يمكنها أن تفارق مبادئ العدل ودولة القانون الحامية للحقوق والحريات الأساسية. وتظل مسألة التقدم والتخلف، وقضية نجاح الدولة وفشلها، مسألة اختيار قد تأتي مع أشد اللحظات البائسة وأحلكها بؤساً. والأمل، كل الأمل، لن يكون معلقاً على وعود للمجتمع الدولي قد تتصاعد، ثم تفتر بعد حين، عندما تأتيه مأساة أخرى تلهيه. ولن يكون الأمل مرهوناً بنخب كالزبد تظهر وتعلو ثم تذهب كما أتت، إنما هو معلق بما يبعث دائماً على التفاؤل في حالة لبنان تحديداً ألا وهو أهلها. فإن عقدت المقارنات والمسابقات في القدرة على الصمود في ظل أشد الأزمات عنفاً، وفي الإبداع فناً وثقافة وتنويراً في الوطن والمهجر بأقل الموارد لفاز فيها اللبناني بارتياح. ألم يبهر عالم مراكز البحث والأعمال والشركات وقطاعات الابتكار والخدمات المالية بقيادات وكوادر فذة تشهد بها عواصم العالم وربوعه؟ ألم ينشر حب الحياة استمتاعاً بما تمنحه، ومشاركة في مباهجها أدباً وشعراً وغناءً وذوقاً في الملبس والمظهر؟ ألم يجعل مجرد قيامك بتناول الطعام على مائدته مناسبة للاحتفاء بك و«بكرم عينيك»؟ بأهله سيكرم لبنان بمؤسسات تليق به.

د. محمود محيي الدين

نقطة تحوُّل في مسار الدولار

يبشّر البعض، بأنّ سعر الدولار مُقبلٌ على مزيد من التراجع المستدام وصولاً الى مستويات تحت سقف 4 آلاف ليرة. وسواء كانت هذه التقديرات نابعة من خبث أو جهل أو حسن نية، فإنّها لا تضر ّكثيراً، لكنها تبيع الأوهام، وليس الوقت مناسباً لذلك.

في الصالونات وبعض المنتديات، أحاديث متنوعة وكثيرة عن مشهد اقتصادي تبدّل جزئياً. سعر دولار السوق السوداء تراجع، وسيتراجع اكثر في الايام المقبلة. البنزين والمازوت متوفران في الاسواق، على عكس الايام التي سبقت كارثة انفجار المرفأ. الخبز مؤمّن ولا بوادر أزمة، رغم احتراق الإهراءات وخروجها من الخدمة. الكهرباء شبه منتظمة وفق برنامج التقنين الأصلي، على عكس ما كان عليه الوضع قبل الانفجار، رغم انّ مبنى مؤسسة كهرباء لبنان دُمّر، ورغم الأضرار التي أصابت الشبكة في المناطق المحاذية للانفجار…

 

هذا المشهد، يريد البعض من خلال التركيز عليه، الإيحاء بأنّ الوضع قد يتغيّر، بفضل التحرّك الدولي باتجاه لبنان بعد الانفجار. ويسعى آخرون الى الايحاء بأنّ كل الأزمات السابقة كانت مفتعلة، وانها تبخرّت، لأنّ «المتآمرين» حققوا هدفهم بعد الانفجار! لكن الحقيقة، أنّ الأزمة الاصلية المرتبطة بالانهيار أصبحت أشدّ تعقيداً، وليس مستبعداً ان يكون الخريف المقبل موعداً لحقبة جديدة في طريق الجلجلة، ستكون أصعب وأقسى على الناس، في حال تعطّل مشروع تأليف حكومة جديدة، وبقي الوضع على ما هو عليه اليوم. وسنكون في مواجهة الحقائق التالية:

 

اولاً- خسائر اضافية ناجمة عن الانفجار تقدّر بما لا يقل عن 10 الى 15 مليار دولار.

ثانياً – خطة إنقاذية مُجمّدة وغير صالحة للاقلاع مجدداً، بسبب المعطيات التي استُجدّت، والتي تحتّم اجراء تعديلات جوهرية فيها.

ثالثاً- وقف كلي للدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان حالياً، من السلّة الاستهلاكية وصولاً الى المحروقات والقمح والدواء… هذا الأمر تبلّغته الحكومة قبل ان تستقيل، بقرار صادر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، والذي ينصّ على وقف صرف أي دولار اضافي، بعد الوصول الى الاحتياطي الالزامي المقدّر بحوالى 17 مليار دولار. وهذا الرقم سنبلغه في غضون شهرين تقريباً.

رابعاً – ضغوطات اضافية على المالية العامة، في غياب أي امكانية لإقرار موازنة جديدة للعام 2021. مع الاشارة الى التراجع الكبير المتوقع في الايرادات، بما يعني الحاجة الى مزيد من تكبير حجم الكتلة النقدية لدفع الرواتب والانفاق الحتمي. بالاضافة الى استمرار دفع الفوائد على سندات الدين بالليرة.

خامساً- استمرار نمط تكديس الخسائر في المصارف بسبب ازدياد الركود، وبسبب الحاجة الى اقتطاع المزيد من المؤونات، لتغطية الخسائر الناجمة عن وقف الدولة دفع سندات اليوروبوند. وستضطر المصارف الكبيرة، الى بيع وحداتها في الخارج، بدءاً بمصر. ولن تكون صفقات البيع مربحة، ليس بسبب الوضع في لبنان فحسب، بل ايضاً بفعل النتائج التي تسبّبت بها جائحة كورونا حتى الآن. وقد تلجأ بعض المصارف الى استخدام احتياطي الارباح (Buffle zone)، لكن مصارف اخرى لا تملك هذا الاحتياطي، وستتعرض رساميلها الى ضغط اضافي.

سادساً- سوف تتعطّل مساعي التحقيق الجنائي (Forensic audit) في مصرف لبنان، رغم انّ علامات استفهام مسبقة كانت مرسومة حول النتائج التي يمكن أن يخرج بها هذا التحقيق. وليس مؤكّداً اذا ما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد عرض فعلاً ان يتولى البنك المركزي الفرنسي مهمة التحقّق من الوضع في مصرف لبنان، بدلاً من الشركات المقترحة.

 

هذا هو المشهد الحقيقي الذي يختبئ وراءه، ظرفياً ولفترة قصيرة زمنياً، المشهد الاصطناعي الذي يوهم الناس بأنّ الامور بعد الانفجار، ورغم المآسي الانسانية، افضل مما كانت عليه قبله. وقد يتفاجأ اللبنانيون، بأنّ نقطة التحوّل (turning point) التي يأملون من خلالها الوصول الى وضع أفضل، هي واقعياً نقطة تحوّل في اتجاه الاسوأ. وبالتالي، لن يكون سعر صرف الدولار في السوق السوداء منخفضاً في مثل هذه الصورة. وما نشهده اليوم، هو مجرد تراجع ظرفي سيزول لاحقاً، ولا علاقة له بالوضع الاقتصادي أو المالي.

 

هذا الواقع السوداوي محتوم، إلّا إذا حصلت اعجوبة تبديل المواقف والمعطيات. وحتى الآن، لا مؤشرات تشجّع على الاعتقاد انّ الاعجوبة ستحصل فعلاً.

انطوان فرح

مصير الاقتصاد والدولار بعـــد «فك الحصار»

لم تكن هناك عبارة أسهل لتبرير الافلاس المالي من عبارة انّ لبنان مُعرّض لحصار دولي. ولكثرة تَرداد هذه المقولة كاد البعض ان يصدّق أنّ الانهيار الاقتصادي تسبّب به هذا الحصار الجائر. واليوم، هناك من يروّج لنظرية فك الحصار بعد زلزال العنبر رقم 12، وتدمير بيروت، ويحاول أن يبيع الوهم بأنّ إنقاذ الاقتصاد قد ينبعث من قلب الفاجعة.

يراقب البعض بأمل ورجاء حركة التضامن الدولي والعربي التي يحظى بها لبنان في هذه الفترة، على اعتبار أنها قد تكون بداية رحلة الانفراج المالي والاقتصادي بعدما وصل الوضع الى حقبة متقدمة من الانهيار المستمر. ويظنّ البعض، أو يروّج لذلك على الأقل، انّ البلد كان مُحاصراً، وصدر اليوم قرار بإنهاء الحصار، وبدء مرحلة جديدة.

 

في الواقع، من كان مُحاصراً، ولا يزال، هي المنظومة السياسية الحاكمة. ومفهوم فك الحصار لا علاقة له بزيارة الرئيس الفرنسي، ولا باتصال الرئيس الأميركي بنظيره اللبناني. وهؤلاء المتفائلون قسراً، بعضهم يدرك، وبعضهم يتعمّد تَقمُّص دور المُغفّل، انّ التضامن الدولي بعد الكارثة التي تسبّب بها على الأرجح، الاهمال والفساد والغباء، لا علاقة له بملف فك الحصار عنهم. ولو راجَع هؤلاء ما يجري بعد كوارث بحجم كارثة مرفأ بيروت، لأدركوا أنّ كل الدول تحظى بهذا النوع من التعاطف الدولي في زمن الكوارث.

 

حتى ايران، التي كانت في حال عداء مع المجتمع الدولي، لا سيما مع الأميركيين، حظيت في العام 2003 عندما ضربها زلزال مُدمّر، بمساعدات دولية وعربية من كل حدب وصوب. ولو لم تعلن طهران في حينه انها تقبل المساعدة من كل دول العالم باستثناء اسرائيل، لكانت وصلت اليها ايضاً مساعدات اسرائيلية. وفي خلال تلك الكارثة، تجاوزت واشنطن قرار مقاطعة طهران، وأجرت اتصالات مباشرة معها لتنسيق المساعدات لدعم المتضررين من الزلزال، والمساهمة في بَلسمة جراح الناس. ولم يوصل هذا الانفتاح العالمي على ايران في زمن الكارثة الطبيعية الى تغيير النهج أو العلاقات لاحقاً بينها وبين المجتمع الدولي، ولا ساهَم هذا الانفتاح في إنقاذ الاقتصاد الايراني من الانكماش والصعوبات المستمرة حتى اليوم.

 

هذه الحقائق ينبغي أن تعيد الواهمين أو بائعي الوهم الى صوابهم. العالم قرّر بلسمة جراح اللبنانيين المفجوعين بالكارثة، لكنّ ذلك لن يساهم، لا من قريب أو من بعيد، في تغيير المشهد المالي والاقتصادي في البلد، لأنّ هذه الأزمة لا علاقة لها بحصار شبه وهمي حمّلوه بهدف التعمية مسؤولية الافلاس.

 

حتى الآن، لم تظهر مؤشرات على اتخاذ قرار بتغيير المشهد المالي، من خلال وقف الفساد. ومن دون هذا القرار، لن يخرج البلد من دائرة الافلاس الذي ستتفاقم تداعياته مع الوقت. ومن يشكّك في هذا الواقع، عليه أن يراجع ما جرى ويجري منذ سنوات حتى اليوم في بوتوريكو.

 

لدى بوتوريكو 4 قواسم مشتركة مع لبنان: عدد سكانها (حوالى 3,2 ملايين نسمة)، مساحتها (9 آلاف كلم2)، منظومتها السياسية فاسدة، والجزيرة مفلسة. وأخيراً، نستطيع أن نضيف انّ الاثنين لديهما درجة تصنيف واحدة (C حسب مقياس موديز)، وأصابتهما كارثة زادت في حجم الكارثة القائمة. (إعصار Mari عام 2017).

 

المفارقة هنا انّ بوتوريكو أرض أميركية أمّا مواطنوها فهم أميركيون، ولم يَحمها ذلك من الافلاس، لأنها غير مكتملة المواصفات لتكون ولاية من الولايات الأميركية. وبالتالي، إنّ نظامها لا يتمتع بالشفافية التي يفرضها النظام الفدرالي الأميركي، وقد تآكلها الفساد، ولم يحمها اقتصادها المنتج، الذي يستند الى الصناعة والزراعة والسياحة من الافلاس، لأن لا علاج للفساد، ولا مناص من الانهيار، سواء كان الاقتصاد منتجاً أم خدماتياً، النتيجة واحدة. مع الاشارة هنا الى انّ الناتج في بوتوريكو أهم وأكبر من الناتج اللبناني، إذ يبلغ حوالى 100 مليار دولار (مقابل 55 للبنان قبل الانهيار)، ويصل متوسط الدخل للفرد (GDP (PPP) per capita) حوالى 23 ألف دولار (مقابل حوالى 12 ألف دولار في لبنان قبل الانهيار).

 

إنطلاقاً من هذه الوقائع، لا يمكن الرهان على المساعدات الدولية التي ستصل لبنان لتغيير الواقع الاقتصادي. لا سعر الدولار سيتغيّر، ولا حجم الدين سيتراجع، ولا الماكينة الاقتصادية ستتحرّك. وفي أحسن الاحوال، سيتم فتح خطوط ائتمان ذي طابع إنساني، لن تنقُذ بطبيعة الحال الاقتصاد الوطني.

 

في بوتوريكو، وهي ليست دولة بل مجرد أرض أميركية لديها طابع خاص واستثنائي، يُمازح فيها الحاكم الفاسد المقرّبين منه بالقول: «ألا يوجد أي جثة متبقية بعد الاعصار لإطعام الغربان»؟ وفي لبنان، هناك من يقول للناس «رب ضارة نافعة».

انطوان فرح.

توقعات إقتصادية مرعبة بعد كارثة المرفأ

أكّد كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance IIF) غربيس ايراديان، انّ استمرار حكومة تصريف الاعمال والدخول في فراغ سياسي لفترة طويلة سيؤدي إلى تأخير الاتفاق المحتمل على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي وبالتالي تأخير الحصول على التمويل الخارجي باستثناء المساعدات الإنسانية، مما سيؤدي الى انهيار سعر صرف الليرة في السوق الموازية بشكل أكبر ويسرّع وتيرة زيادة نسبة التضخم إلى ما فوق 100 في المئة، ويعمّق الانكماش الاقتصادي من -24 في المئة (المتوقعة بعد الانفجار) إلى -30 في المئة.

اعتبر ايراديان إنّ الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت يسلّط الضوء بشكل أكبر على ثقافة الإهمال والفساد لدى الطبقة الحاكمة، والتي أغرقت البلاد في أسوأ أزمة اقتصادية ومالية، مقدّراً الاضرار الناتجة من الانفجار بأكثر من 10 مليارات دولار (ما يعادل 30% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للعام 2020).

 

وعدّل إيراديان توقعاته للاقتصاد اللبناني بعد الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، مرجّحاً زيادة نسبة الانكماش الاقتصادي من -15 في المئة المتوقعة للعام 2020 إلى -24 في المئة. وقال لـ«الجمهورية»: «انّ لبنان كان يعاني بالفعل من أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ استقلاله في العام 1943، ونظراً إلى الانكماش الكبير في الإنتاج والانخفاض الهائل في سعر الصرف الموازي، فقد يتقلّص الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 33 مليار دولار في العام 2020، في حين انّ الأجور آخذة في الانخفاض بشكل حاد، نتيجة تراجع القدرة الشرائية للمواطن، بسبب انهيار سعر الصرف الموازي». لافتاً الى انّ معدّل التضخم السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك قد يكون تجاوز 110% الشهر الماضي. وبالتالي، قد تتجاوز نسبة البطالة والفقر 35 و 50 في المئة على التوالي.

 

وذكّر إيراديان انّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجهات المانحة الرسمية الأخرى جمّدت الدعم المالي بشكل أساسي بسبب الفشل المتكرّر للطبقة السياسية (الممثلة في البرلمان والحكومة) في تنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك اقرار مجلس النواب لقانون استقلالية القضاء، تعيين هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء ومجلس إدارة لمؤسسة الكهرباء وقانون المشتريات العامة.

 

وقال: «بدلاً من ذلك أهدرت الحكومة والبرلمان الكثير من الوقت في مناقشة حجم خسائر النظام المصرفي، وفي إلقاء اللوم على الأحزاب السياسية المعارضة، وعلى الحكومات الأجنبية لعدم مدّها بالدعم المالي الدولي».

 

في المقابل، رأى انّ الانفجار قد يؤدي إلى عهد سياسي جديد وإصلاحات اقتصادية حقيقية. وقد تؤدي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بيروت بالاضافة الى ضغط الشارع والاحتجاجات، إلى اتفاق سياسي جديد وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها والتي ستطلق الدعم المالي الدولي. معتبراً انّه يمكن التغلّب على هذا المأزق من خلال المناقشات بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي عبر فريق اقتصادي لبناني مختصّ جديد ودعم الأغلبية في البرلمان لتنفيذ إصلاحات حاسمة.

 

وعدّد ايراديان الإجراءات الرئيسية التي يتوقع صندوق النقد الدولي من السلطات تنفيذها قبل الاتفاق على اي برنامج إنقاذ:

 

-1 تعزيز الحوكمة والمساءلة.

-2 استدامة الدين العام كشرط للإقراض، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنفيذ التدابير المالية المدرجة في خطة الحكومة.

-3 اقرار قانون لفرض ضوابط على رأس المال.

-4 إلغاء نظام سعر الصرف المتعدد للمساعدة في حماية احتياطيات لبنان الدولية.

5. تقاسم الأعباء. تنفيذ إجراءات لمساعدة النظام المصرفي في استعادة ملاءته. ويمكن أن يشمل ذلك تخصيص جزء من العوائد المفرطة التي حققها كبار المودعين في إعادة رسملة البنوك لحماية مدخرات غالبية المودعين اللبنانيين العاديين.

 

الاقتصاد بعد 2020

 

نظراً الى عدم اليقين في شأن رغبة السلطات في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أعدّ ايراديان سيناريوهين لتقييم الآفاق الاقتصادية للبنان على المدى المتوسط:

 

-1 السيناريو الأول، والمرجّح حصوله بنسبة 60 في المئة، يعتمد على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية والحصول على برنامج انقاذ من قبل صندوق النقد الدولي وبالتالي على تمويل خارجي كافٍ.

 

في هذا السيناريو أفترض حدوث تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية حقيقية. ويشمل التغيير السياسي تشكيل حكومة جديدة مستقلة عن الانتماءات الطائفية، تلبّي تطلعات شعبها، تليها انتخابات نيابية مبكرة لنزع فتيل أزمة سياسية متصاعدة. ويفترض السيناريو «1» أيضاً تنفيذ الإصلاحات التي أبرزها صندوق النقد الدولي والتي تمّ تضمينها في البرنامج الاقتصادي للحكومة، والتي واجهت حتى الآن مقاومة قوية من مجموعات المصالح الخاصة في الحكومة والبرلمان. في هذا السيناريو، قد يرتفع سعر الصرف الموازي إلى أقل من 6000 ليرة مقابل الدولار الاميركي في حلول أوائل العام 2021، وينخفض ​​معدل تضخم مؤشر أسعار الاستهلاك تدريجياً، مما يمكّن البنك المركزي من توحيد أسعار الصرف المتعددة بحلول منتصف العام 2021.

 

ومن شأن انضباط أي حكومة جديدة قد يتمّ تشكيلها أن يحسّن ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ويمهّد الطريق لتدفقات رأس المال بشكل رسمي بما في ذلك الحزمة المالية البالغة 11 مليار دولار التي تمّ التفاوض عليها في مؤتمر «سيدر» في باريس في العام 2018، و 8.5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وربما عدة مليارات من دول مجلس التعاون الخليجي.

 

مثل هذه النتيجة من شأنها تجديد الاحتياطات، ودعم الانتعاش الاقتصادي بشكل قوي، وتضييق العجز المالي المزدوج بشكل كبير، ووضع الدين العام في مسار هبوطي ثابت إلى أقل من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

-2 السيناريو الثاني، والمرجّح حصوله بنسبة 40 في المئة، يعتمد على سياسة الوضع الراهن وعلى امكانية تنفيذ إصلاحات اقتصادية محدودة وعلى غياب أي برنامج لصندوق النقد الدولي، بل فقط مساعدات طارئة يمكن أن يبلغ حجمها أقل من مليار دولار.

 

وشدّد ايراديان على انّه من دون تغيير سياسي وإصلاحات اقتصادية حقيقية، ستستمر البلاد في الغرق، «في هذا السيناريو، نفترض عدم وجود تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية محدودة، مما سيؤدي في النتيجة الى اقتصار التمويل الخارجي على المساعدات الطارئة من فرنسا / مؤتمر الأمم المتحدة الذي عُقد في 9 آب الماضي. ونظراً لحجم المشاكل، فإنّ الإصلاحات المحدودة ستؤدي إلى استمرار تدهور الثقة».

 

ورجّح في ظلّ عدم وجود أسباب ملموسة للتفاؤل، أن يستمرّ سعر الصرف في التدهور بشكل اكبر، مما سيُبقي نسبة التضخم عند مستويات مرتفعة ويستنفد احتياطي العملات الاجنبية بحلول نهاية العام 2022، ويؤدّي الى استمرار الانكماش الاقتصادي، في حين ستبقى نسبة الدين العام أعلى بكثير من 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

رنى سعرتي.

ماذا يحصل اذا تمّ تحرير سعر صرف الليرة؟

برز تحرير سعر صرف الليرة كخطوة أساسية مطلبية وردت في خطة الحكومة المستقيلة بطلب من صندوق النقد، الّا انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اكّد في أكثر من مناسبة الإبقاء على سعر الصرف على 1515 لتجنيب البلاد مزيداً من ارتفاع معدل التضخم وإفقار اللبنانيين، ولضمان الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فهل حان الوقت لاتخاذ قرار بتحرير سعر الصرف؟ وما ستكون تداعياته؟

 

تحدثت الحكومة اللبنانية المستقيلة في خطّتها الاصلاحية عن تعديل في سياسة تثبيت سعر الصرف والمحدّد حالياً بـ1515 ليرة، مقترحة تحريراً تدريجياً للسعر على مدار 5 سنوات، بدءاً من تخفيض قيمة العملة المحلّية إلى 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في العام 2020 ، يليه تخفيض تدريجي بنسبة 5% سنوياً خلال السنوات الأربع التالية لتصبح كالتالي: 3684 ليرة في العام 2021، ثم 3878 ليرة في العام 2022، ثم 4082 ليرة في العام 2023، وأخيراً 4279 ليرة في العام 2024. وهي بذلك تنتقل من سعر الصرف المرن (اي تعديله وتحديده بناءً على معايير معينة) في مرحلة أولى وعلى المدى المنظور، أي حتى العام 2024، على ان تنتقل الى التعويم (أي تحرير سعر صرف العملة بالكامل) ما ان يصلها الدعم المالي من الخارج. وبعدما كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التوجّه لتحرير سعر الصرف، هل من الصواب إغفال الإصلاحات والاكتفاء بالسير فقط بتحرير سعر الصرف؟ وهل من عواقب لذلك؟

 

يرى الخبير المصرفي جان رياشي، انّه لا يجوز تغيير سعر صرف الليرة رسمياً، قبل الشروع في إصلاحات جذرية في القطاع المالي، مشدّداً على انّ التوقيت الاصلح لتغيير سعر الصرف يكون بتزامنه مع الإصلاحات. وقال: «في غياب أي إصلاحات مالية، فإنّه كلما حُرّر سعر الصرف كلما زادت الكتلة النقدية بالليرة في السوق، بما سيؤدي الى مزيد من التدهور في سعرها في السوق السوداء».

 

وبين خياري الاستمرار في تثبيت سعر الليرة أو تعويمها، يقول رياشي لـ»الجمهورية»: «الأفضل تثبيت سعر الليرة انما بهوامش معينة، أي ان يتدخّل المصرف المركزي عندما يكون هناك تقلّب قوي في العملة غير مبرّر». ولفت الى انّه لا يجوز تثبيت سعر الليرة مستقبلاً الّا باحتياطات إيجابية، والّا سنعود الى المشكلة نفسها التي نعاني منها اليوم، أي الفجوة في المصرف المركزي. وقال: «لا يجوز تثبيت سعر الصرف باحتياطات سلبية لسببين: أولاً، لأنّ هذا التثبيت سيكون على حساب أموال المودعين، وسيتبيّن لاحقاً انّ الاحتياطي الصافي سلبي، وهو مشابه لما يحصل اليوم، أي انّ للمودعين دولارات في المصرف الّا انّ المركزي لا يملك هذه الأموال لإعادتها الى المودعين، وليس لديه الامكانية لشرائها. ثانياً، انّ التثبيت يحول دون أي تكّيف مع الاقتصاد الذي ينجم عن سعر صرف تنافسي. ففي حال بقي سعر الصرف ثابتاً على ارتفاع، تخف القدرة التنافسية للاقتصاد، وهذا ما شهدناه في السنوات العشر الماضية، وقد نتج من ذلك اقفال لعدد من المصانع لأنّها لم تستطع الصمود في ظل انتفاء القدرة التنافسية».

 

وشرح رياشي، انّ العملات العالمية في تحرك دائم في السوق، ويكمن دور المصرف المركزي في ضبط تذبذب العملات كي لا تتحرّك، ضمن هوامش مرتفعة، وذلك باستخدامه الاحتياطي الخاص به وليس احتياطي المصارف، الذي هو عبارة عن أموال المودعين، كما انّ تدخّله يكون على مراحل قصيرة لتأمين الاستقرار وليس من خلال التثبيت، لأنّ كلفته على الاقتصاد ممكن ان تكون مميتة.

 

كلفة تحرير الصرف

ورداً على سؤال، أكّد رياشي ان لا قدرة للبناني اليوم على تحمّل كلفة تحرير سعر الصرف، لذا يجب الشروع باتخاذ إجراءات صائبة أولاً، مثل توجيه الدعم نحو الفئات التي تحتاجه ضمن آلية معينة. وأكّد انّ رفع سعر الصرف سيؤثر حتماً على القدرة الشرائية للمواطن، الذي سيزداد فقراً، في ظل استحالة رفع الحد الأدنى للأجور في هذه الظروف.

 

وأضاف: «صحيح نحن نمرّ بأزمة مالية واقتصادية كان يمكن للبناني احتواءها، لكن الكورونا كانت الضربة القاضية للاقتصاد. فما علينا اليوم سوى انتظار انتهاء جائحة كورونا لنتكل بعدها على مهارة اللبناني وقدراته لمعاودة النهوض مجدداً. لكن هذا لا يمنع انّ هناك إصلاحات بنيوية مطلوبة قبل أي شيء، ولا تقتصر فقط على القطاع المالي، انما تشمل كل القطاعات، وإذا لم يحصل الإصلاح للقطاع المصرفي لا يمكن الإقلاع بالاقتصاد، للأسف ما عاد احد يثق بالقطاع المصرفي اليوم، حتى انّ الأموال النقدية التي تدخل الى لبنان اليوم باتت تأتي بالحقائب وليس عبر المصارف».

 

وشدّد على انه اذا لم يحصل لبنان على دعم من صندوق النقد عندها «باي باي لبنان».

 

وعمّا اذا كان هناك من رابط بين رفع سعر الصرف وتحرير مصرف لبنان من دعم بعض المستوردات، شرح رياشي: «انّ رفع سعر الصرف الى 3900 ليرة سيخفف من الضغط على احتياطات مصرف لبنان، التي تُستعمل بغرض دعم استيراد المحروقات والقمح والادوية، لأنّه بذلك سيتراجع حجم الاستهلاك. لكن الاجدى وقف الدعم عن هذه السلع واستبداله بدعم موجّه الى فئات معينة من الشعب بدل تعميمه على الجميع».

 

وقال: «حرام الاستمرار بدعم المحروقات الذي يذهب بمعظمه الى محظيين او يُهرّب ويُباع الى غير اللبنانيين. فهل من المنطق ان يستفيد المقتدر مثل الفقير من الدعم؟ هل يُعقل اننا وبسبب الدعم سعر صفيحة البنزين في لبنان هي الارخص في العالم؟ اليس الأجدى دعم قطاع النقل العام المشترك بدلًا من دعم البنزين كما هو سائد في كل بلدان العالم؟ من الطبيعي انّه اذا زاد الطلب على النقل المشترك ستدخل استثمارات الى القطاع وستتحسن الخدمة فيه».​

ايفا ابو حيدر.