أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

نقطة تحوُّل في مسار الدولار

يبشّر البعض، بأنّ سعر الدولار مُقبلٌ على مزيد من التراجع المستدام وصولاً الى مستويات تحت سقف 4 آلاف ليرة. وسواء كانت هذه التقديرات نابعة من خبث أو جهل أو حسن نية، فإنّها لا تضر ّكثيراً، لكنها تبيع الأوهام، وليس الوقت مناسباً لذلك.

في الصالونات وبعض المنتديات، أحاديث متنوعة وكثيرة عن مشهد اقتصادي تبدّل جزئياً. سعر دولار السوق السوداء تراجع، وسيتراجع اكثر في الايام المقبلة. البنزين والمازوت متوفران في الاسواق، على عكس الايام التي سبقت كارثة انفجار المرفأ. الخبز مؤمّن ولا بوادر أزمة، رغم احتراق الإهراءات وخروجها من الخدمة. الكهرباء شبه منتظمة وفق برنامج التقنين الأصلي، على عكس ما كان عليه الوضع قبل الانفجار، رغم انّ مبنى مؤسسة كهرباء لبنان دُمّر، ورغم الأضرار التي أصابت الشبكة في المناطق المحاذية للانفجار…

 

هذا المشهد، يريد البعض من خلال التركيز عليه، الإيحاء بأنّ الوضع قد يتغيّر، بفضل التحرّك الدولي باتجاه لبنان بعد الانفجار. ويسعى آخرون الى الايحاء بأنّ كل الأزمات السابقة كانت مفتعلة، وانها تبخرّت، لأنّ «المتآمرين» حققوا هدفهم بعد الانفجار! لكن الحقيقة، أنّ الأزمة الاصلية المرتبطة بالانهيار أصبحت أشدّ تعقيداً، وليس مستبعداً ان يكون الخريف المقبل موعداً لحقبة جديدة في طريق الجلجلة، ستكون أصعب وأقسى على الناس، في حال تعطّل مشروع تأليف حكومة جديدة، وبقي الوضع على ما هو عليه اليوم. وسنكون في مواجهة الحقائق التالية:

 

اولاً- خسائر اضافية ناجمة عن الانفجار تقدّر بما لا يقل عن 10 الى 15 مليار دولار.

ثانياً – خطة إنقاذية مُجمّدة وغير صالحة للاقلاع مجدداً، بسبب المعطيات التي استُجدّت، والتي تحتّم اجراء تعديلات جوهرية فيها.

ثالثاً- وقف كلي للدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان حالياً، من السلّة الاستهلاكية وصولاً الى المحروقات والقمح والدواء… هذا الأمر تبلّغته الحكومة قبل ان تستقيل، بقرار صادر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، والذي ينصّ على وقف صرف أي دولار اضافي، بعد الوصول الى الاحتياطي الالزامي المقدّر بحوالى 17 مليار دولار. وهذا الرقم سنبلغه في غضون شهرين تقريباً.

رابعاً – ضغوطات اضافية على المالية العامة، في غياب أي امكانية لإقرار موازنة جديدة للعام 2021. مع الاشارة الى التراجع الكبير المتوقع في الايرادات، بما يعني الحاجة الى مزيد من تكبير حجم الكتلة النقدية لدفع الرواتب والانفاق الحتمي. بالاضافة الى استمرار دفع الفوائد على سندات الدين بالليرة.

خامساً- استمرار نمط تكديس الخسائر في المصارف بسبب ازدياد الركود، وبسبب الحاجة الى اقتطاع المزيد من المؤونات، لتغطية الخسائر الناجمة عن وقف الدولة دفع سندات اليوروبوند. وستضطر المصارف الكبيرة، الى بيع وحداتها في الخارج، بدءاً بمصر. ولن تكون صفقات البيع مربحة، ليس بسبب الوضع في لبنان فحسب، بل ايضاً بفعل النتائج التي تسبّبت بها جائحة كورونا حتى الآن. وقد تلجأ بعض المصارف الى استخدام احتياطي الارباح (Buffle zone)، لكن مصارف اخرى لا تملك هذا الاحتياطي، وستتعرض رساميلها الى ضغط اضافي.

سادساً- سوف تتعطّل مساعي التحقيق الجنائي (Forensic audit) في مصرف لبنان، رغم انّ علامات استفهام مسبقة كانت مرسومة حول النتائج التي يمكن أن يخرج بها هذا التحقيق. وليس مؤكّداً اذا ما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد عرض فعلاً ان يتولى البنك المركزي الفرنسي مهمة التحقّق من الوضع في مصرف لبنان، بدلاً من الشركات المقترحة.

 

هذا هو المشهد الحقيقي الذي يختبئ وراءه، ظرفياً ولفترة قصيرة زمنياً، المشهد الاصطناعي الذي يوهم الناس بأنّ الامور بعد الانفجار، ورغم المآسي الانسانية، افضل مما كانت عليه قبله. وقد يتفاجأ اللبنانيون، بأنّ نقطة التحوّل (turning point) التي يأملون من خلالها الوصول الى وضع أفضل، هي واقعياً نقطة تحوّل في اتجاه الاسوأ. وبالتالي، لن يكون سعر صرف الدولار في السوق السوداء منخفضاً في مثل هذه الصورة. وما نشهده اليوم، هو مجرد تراجع ظرفي سيزول لاحقاً، ولا علاقة له بالوضع الاقتصادي أو المالي.

 

هذا الواقع السوداوي محتوم، إلّا إذا حصلت اعجوبة تبديل المواقف والمعطيات. وحتى الآن، لا مؤشرات تشجّع على الاعتقاد انّ الاعجوبة ستحصل فعلاً.

انطوان فرح

مصير الاقتصاد والدولار بعـــد «فك الحصار»

لم تكن هناك عبارة أسهل لتبرير الافلاس المالي من عبارة انّ لبنان مُعرّض لحصار دولي. ولكثرة تَرداد هذه المقولة كاد البعض ان يصدّق أنّ الانهيار الاقتصادي تسبّب به هذا الحصار الجائر. واليوم، هناك من يروّج لنظرية فك الحصار بعد زلزال العنبر رقم 12، وتدمير بيروت، ويحاول أن يبيع الوهم بأنّ إنقاذ الاقتصاد قد ينبعث من قلب الفاجعة.

يراقب البعض بأمل ورجاء حركة التضامن الدولي والعربي التي يحظى بها لبنان في هذه الفترة، على اعتبار أنها قد تكون بداية رحلة الانفراج المالي والاقتصادي بعدما وصل الوضع الى حقبة متقدمة من الانهيار المستمر. ويظنّ البعض، أو يروّج لذلك على الأقل، انّ البلد كان مُحاصراً، وصدر اليوم قرار بإنهاء الحصار، وبدء مرحلة جديدة.

 

في الواقع، من كان مُحاصراً، ولا يزال، هي المنظومة السياسية الحاكمة. ومفهوم فك الحصار لا علاقة له بزيارة الرئيس الفرنسي، ولا باتصال الرئيس الأميركي بنظيره اللبناني. وهؤلاء المتفائلون قسراً، بعضهم يدرك، وبعضهم يتعمّد تَقمُّص دور المُغفّل، انّ التضامن الدولي بعد الكارثة التي تسبّب بها على الأرجح، الاهمال والفساد والغباء، لا علاقة له بملف فك الحصار عنهم. ولو راجَع هؤلاء ما يجري بعد كوارث بحجم كارثة مرفأ بيروت، لأدركوا أنّ كل الدول تحظى بهذا النوع من التعاطف الدولي في زمن الكوارث.

 

حتى ايران، التي كانت في حال عداء مع المجتمع الدولي، لا سيما مع الأميركيين، حظيت في العام 2003 عندما ضربها زلزال مُدمّر، بمساعدات دولية وعربية من كل حدب وصوب. ولو لم تعلن طهران في حينه انها تقبل المساعدة من كل دول العالم باستثناء اسرائيل، لكانت وصلت اليها ايضاً مساعدات اسرائيلية. وفي خلال تلك الكارثة، تجاوزت واشنطن قرار مقاطعة طهران، وأجرت اتصالات مباشرة معها لتنسيق المساعدات لدعم المتضررين من الزلزال، والمساهمة في بَلسمة جراح الناس. ولم يوصل هذا الانفتاح العالمي على ايران في زمن الكارثة الطبيعية الى تغيير النهج أو العلاقات لاحقاً بينها وبين المجتمع الدولي، ولا ساهَم هذا الانفتاح في إنقاذ الاقتصاد الايراني من الانكماش والصعوبات المستمرة حتى اليوم.

 

هذه الحقائق ينبغي أن تعيد الواهمين أو بائعي الوهم الى صوابهم. العالم قرّر بلسمة جراح اللبنانيين المفجوعين بالكارثة، لكنّ ذلك لن يساهم، لا من قريب أو من بعيد، في تغيير المشهد المالي والاقتصادي في البلد، لأنّ هذه الأزمة لا علاقة لها بحصار شبه وهمي حمّلوه بهدف التعمية مسؤولية الافلاس.

 

حتى الآن، لم تظهر مؤشرات على اتخاذ قرار بتغيير المشهد المالي، من خلال وقف الفساد. ومن دون هذا القرار، لن يخرج البلد من دائرة الافلاس الذي ستتفاقم تداعياته مع الوقت. ومن يشكّك في هذا الواقع، عليه أن يراجع ما جرى ويجري منذ سنوات حتى اليوم في بوتوريكو.

 

لدى بوتوريكو 4 قواسم مشتركة مع لبنان: عدد سكانها (حوالى 3,2 ملايين نسمة)، مساحتها (9 آلاف كلم2)، منظومتها السياسية فاسدة، والجزيرة مفلسة. وأخيراً، نستطيع أن نضيف انّ الاثنين لديهما درجة تصنيف واحدة (C حسب مقياس موديز)، وأصابتهما كارثة زادت في حجم الكارثة القائمة. (إعصار Mari عام 2017).

 

المفارقة هنا انّ بوتوريكو أرض أميركية أمّا مواطنوها فهم أميركيون، ولم يَحمها ذلك من الافلاس، لأنها غير مكتملة المواصفات لتكون ولاية من الولايات الأميركية. وبالتالي، إنّ نظامها لا يتمتع بالشفافية التي يفرضها النظام الفدرالي الأميركي، وقد تآكلها الفساد، ولم يحمها اقتصادها المنتج، الذي يستند الى الصناعة والزراعة والسياحة من الافلاس، لأن لا علاج للفساد، ولا مناص من الانهيار، سواء كان الاقتصاد منتجاً أم خدماتياً، النتيجة واحدة. مع الاشارة هنا الى انّ الناتج في بوتوريكو أهم وأكبر من الناتج اللبناني، إذ يبلغ حوالى 100 مليار دولار (مقابل 55 للبنان قبل الانهيار)، ويصل متوسط الدخل للفرد (GDP (PPP) per capita) حوالى 23 ألف دولار (مقابل حوالى 12 ألف دولار في لبنان قبل الانهيار).

 

إنطلاقاً من هذه الوقائع، لا يمكن الرهان على المساعدات الدولية التي ستصل لبنان لتغيير الواقع الاقتصادي. لا سعر الدولار سيتغيّر، ولا حجم الدين سيتراجع، ولا الماكينة الاقتصادية ستتحرّك. وفي أحسن الاحوال، سيتم فتح خطوط ائتمان ذي طابع إنساني، لن تنقُذ بطبيعة الحال الاقتصاد الوطني.

 

في بوتوريكو، وهي ليست دولة بل مجرد أرض أميركية لديها طابع خاص واستثنائي، يُمازح فيها الحاكم الفاسد المقرّبين منه بالقول: «ألا يوجد أي جثة متبقية بعد الاعصار لإطعام الغربان»؟ وفي لبنان، هناك من يقول للناس «رب ضارة نافعة».

انطوان فرح.

توقعات إقتصادية مرعبة بعد كارثة المرفأ

أكّد كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance IIF) غربيس ايراديان، انّ استمرار حكومة تصريف الاعمال والدخول في فراغ سياسي لفترة طويلة سيؤدي إلى تأخير الاتفاق المحتمل على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي وبالتالي تأخير الحصول على التمويل الخارجي باستثناء المساعدات الإنسانية، مما سيؤدي الى انهيار سعر صرف الليرة في السوق الموازية بشكل أكبر ويسرّع وتيرة زيادة نسبة التضخم إلى ما فوق 100 في المئة، ويعمّق الانكماش الاقتصادي من -24 في المئة (المتوقعة بعد الانفجار) إلى -30 في المئة.

اعتبر ايراديان إنّ الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت يسلّط الضوء بشكل أكبر على ثقافة الإهمال والفساد لدى الطبقة الحاكمة، والتي أغرقت البلاد في أسوأ أزمة اقتصادية ومالية، مقدّراً الاضرار الناتجة من الانفجار بأكثر من 10 مليارات دولار (ما يعادل 30% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للعام 2020).

 

وعدّل إيراديان توقعاته للاقتصاد اللبناني بعد الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، مرجّحاً زيادة نسبة الانكماش الاقتصادي من -15 في المئة المتوقعة للعام 2020 إلى -24 في المئة. وقال لـ«الجمهورية»: «انّ لبنان كان يعاني بالفعل من أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ استقلاله في العام 1943، ونظراً إلى الانكماش الكبير في الإنتاج والانخفاض الهائل في سعر الصرف الموازي، فقد يتقلّص الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 33 مليار دولار في العام 2020، في حين انّ الأجور آخذة في الانخفاض بشكل حاد، نتيجة تراجع القدرة الشرائية للمواطن، بسبب انهيار سعر الصرف الموازي». لافتاً الى انّ معدّل التضخم السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك قد يكون تجاوز 110% الشهر الماضي. وبالتالي، قد تتجاوز نسبة البطالة والفقر 35 و 50 في المئة على التوالي.

 

وذكّر إيراديان انّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجهات المانحة الرسمية الأخرى جمّدت الدعم المالي بشكل أساسي بسبب الفشل المتكرّر للطبقة السياسية (الممثلة في البرلمان والحكومة) في تنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك اقرار مجلس النواب لقانون استقلالية القضاء، تعيين هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء ومجلس إدارة لمؤسسة الكهرباء وقانون المشتريات العامة.

 

وقال: «بدلاً من ذلك أهدرت الحكومة والبرلمان الكثير من الوقت في مناقشة حجم خسائر النظام المصرفي، وفي إلقاء اللوم على الأحزاب السياسية المعارضة، وعلى الحكومات الأجنبية لعدم مدّها بالدعم المالي الدولي».

 

في المقابل، رأى انّ الانفجار قد يؤدي إلى عهد سياسي جديد وإصلاحات اقتصادية حقيقية. وقد تؤدي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بيروت بالاضافة الى ضغط الشارع والاحتجاجات، إلى اتفاق سياسي جديد وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها والتي ستطلق الدعم المالي الدولي. معتبراً انّه يمكن التغلّب على هذا المأزق من خلال المناقشات بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي عبر فريق اقتصادي لبناني مختصّ جديد ودعم الأغلبية في البرلمان لتنفيذ إصلاحات حاسمة.

 

وعدّد ايراديان الإجراءات الرئيسية التي يتوقع صندوق النقد الدولي من السلطات تنفيذها قبل الاتفاق على اي برنامج إنقاذ:

 

-1 تعزيز الحوكمة والمساءلة.

-2 استدامة الدين العام كشرط للإقراض، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنفيذ التدابير المالية المدرجة في خطة الحكومة.

-3 اقرار قانون لفرض ضوابط على رأس المال.

-4 إلغاء نظام سعر الصرف المتعدد للمساعدة في حماية احتياطيات لبنان الدولية.

5. تقاسم الأعباء. تنفيذ إجراءات لمساعدة النظام المصرفي في استعادة ملاءته. ويمكن أن يشمل ذلك تخصيص جزء من العوائد المفرطة التي حققها كبار المودعين في إعادة رسملة البنوك لحماية مدخرات غالبية المودعين اللبنانيين العاديين.

 

الاقتصاد بعد 2020

 

نظراً الى عدم اليقين في شأن رغبة السلطات في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أعدّ ايراديان سيناريوهين لتقييم الآفاق الاقتصادية للبنان على المدى المتوسط:

 

-1 السيناريو الأول، والمرجّح حصوله بنسبة 60 في المئة، يعتمد على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية والحصول على برنامج انقاذ من قبل صندوق النقد الدولي وبالتالي على تمويل خارجي كافٍ.

 

في هذا السيناريو أفترض حدوث تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية حقيقية. ويشمل التغيير السياسي تشكيل حكومة جديدة مستقلة عن الانتماءات الطائفية، تلبّي تطلعات شعبها، تليها انتخابات نيابية مبكرة لنزع فتيل أزمة سياسية متصاعدة. ويفترض السيناريو «1» أيضاً تنفيذ الإصلاحات التي أبرزها صندوق النقد الدولي والتي تمّ تضمينها في البرنامج الاقتصادي للحكومة، والتي واجهت حتى الآن مقاومة قوية من مجموعات المصالح الخاصة في الحكومة والبرلمان. في هذا السيناريو، قد يرتفع سعر الصرف الموازي إلى أقل من 6000 ليرة مقابل الدولار الاميركي في حلول أوائل العام 2021، وينخفض ​​معدل تضخم مؤشر أسعار الاستهلاك تدريجياً، مما يمكّن البنك المركزي من توحيد أسعار الصرف المتعددة بحلول منتصف العام 2021.

 

ومن شأن انضباط أي حكومة جديدة قد يتمّ تشكيلها أن يحسّن ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ويمهّد الطريق لتدفقات رأس المال بشكل رسمي بما في ذلك الحزمة المالية البالغة 11 مليار دولار التي تمّ التفاوض عليها في مؤتمر «سيدر» في باريس في العام 2018، و 8.5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وربما عدة مليارات من دول مجلس التعاون الخليجي.

 

مثل هذه النتيجة من شأنها تجديد الاحتياطات، ودعم الانتعاش الاقتصادي بشكل قوي، وتضييق العجز المالي المزدوج بشكل كبير، ووضع الدين العام في مسار هبوطي ثابت إلى أقل من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

-2 السيناريو الثاني، والمرجّح حصوله بنسبة 40 في المئة، يعتمد على سياسة الوضع الراهن وعلى امكانية تنفيذ إصلاحات اقتصادية محدودة وعلى غياب أي برنامج لصندوق النقد الدولي، بل فقط مساعدات طارئة يمكن أن يبلغ حجمها أقل من مليار دولار.

 

وشدّد ايراديان على انّه من دون تغيير سياسي وإصلاحات اقتصادية حقيقية، ستستمر البلاد في الغرق، «في هذا السيناريو، نفترض عدم وجود تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية محدودة، مما سيؤدي في النتيجة الى اقتصار التمويل الخارجي على المساعدات الطارئة من فرنسا / مؤتمر الأمم المتحدة الذي عُقد في 9 آب الماضي. ونظراً لحجم المشاكل، فإنّ الإصلاحات المحدودة ستؤدي إلى استمرار تدهور الثقة».

 

ورجّح في ظلّ عدم وجود أسباب ملموسة للتفاؤل، أن يستمرّ سعر الصرف في التدهور بشكل اكبر، مما سيُبقي نسبة التضخم عند مستويات مرتفعة ويستنفد احتياطي العملات الاجنبية بحلول نهاية العام 2022، ويؤدّي الى استمرار الانكماش الاقتصادي، في حين ستبقى نسبة الدين العام أعلى بكثير من 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

رنى سعرتي.

ماذا يحصل اذا تمّ تحرير سعر صرف الليرة؟

برز تحرير سعر صرف الليرة كخطوة أساسية مطلبية وردت في خطة الحكومة المستقيلة بطلب من صندوق النقد، الّا انّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اكّد في أكثر من مناسبة الإبقاء على سعر الصرف على 1515 لتجنيب البلاد مزيداً من ارتفاع معدل التضخم وإفقار اللبنانيين، ولضمان الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فهل حان الوقت لاتخاذ قرار بتحرير سعر الصرف؟ وما ستكون تداعياته؟

 

تحدثت الحكومة اللبنانية المستقيلة في خطّتها الاصلاحية عن تعديل في سياسة تثبيت سعر الصرف والمحدّد حالياً بـ1515 ليرة، مقترحة تحريراً تدريجياً للسعر على مدار 5 سنوات، بدءاً من تخفيض قيمة العملة المحلّية إلى 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار في العام 2020 ، يليه تخفيض تدريجي بنسبة 5% سنوياً خلال السنوات الأربع التالية لتصبح كالتالي: 3684 ليرة في العام 2021، ثم 3878 ليرة في العام 2022، ثم 4082 ليرة في العام 2023، وأخيراً 4279 ليرة في العام 2024. وهي بذلك تنتقل من سعر الصرف المرن (اي تعديله وتحديده بناءً على معايير معينة) في مرحلة أولى وعلى المدى المنظور، أي حتى العام 2024، على ان تنتقل الى التعويم (أي تحرير سعر صرف العملة بالكامل) ما ان يصلها الدعم المالي من الخارج. وبعدما كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التوجّه لتحرير سعر الصرف، هل من الصواب إغفال الإصلاحات والاكتفاء بالسير فقط بتحرير سعر الصرف؟ وهل من عواقب لذلك؟

 

يرى الخبير المصرفي جان رياشي، انّه لا يجوز تغيير سعر صرف الليرة رسمياً، قبل الشروع في إصلاحات جذرية في القطاع المالي، مشدّداً على انّ التوقيت الاصلح لتغيير سعر الصرف يكون بتزامنه مع الإصلاحات. وقال: «في غياب أي إصلاحات مالية، فإنّه كلما حُرّر سعر الصرف كلما زادت الكتلة النقدية بالليرة في السوق، بما سيؤدي الى مزيد من التدهور في سعرها في السوق السوداء».

 

وبين خياري الاستمرار في تثبيت سعر الليرة أو تعويمها، يقول رياشي لـ»الجمهورية»: «الأفضل تثبيت سعر الليرة انما بهوامش معينة، أي ان يتدخّل المصرف المركزي عندما يكون هناك تقلّب قوي في العملة غير مبرّر». ولفت الى انّه لا يجوز تثبيت سعر الليرة مستقبلاً الّا باحتياطات إيجابية، والّا سنعود الى المشكلة نفسها التي نعاني منها اليوم، أي الفجوة في المصرف المركزي. وقال: «لا يجوز تثبيت سعر الصرف باحتياطات سلبية لسببين: أولاً، لأنّ هذا التثبيت سيكون على حساب أموال المودعين، وسيتبيّن لاحقاً انّ الاحتياطي الصافي سلبي، وهو مشابه لما يحصل اليوم، أي انّ للمودعين دولارات في المصرف الّا انّ المركزي لا يملك هذه الأموال لإعادتها الى المودعين، وليس لديه الامكانية لشرائها. ثانياً، انّ التثبيت يحول دون أي تكّيف مع الاقتصاد الذي ينجم عن سعر صرف تنافسي. ففي حال بقي سعر الصرف ثابتاً على ارتفاع، تخف القدرة التنافسية للاقتصاد، وهذا ما شهدناه في السنوات العشر الماضية، وقد نتج من ذلك اقفال لعدد من المصانع لأنّها لم تستطع الصمود في ظل انتفاء القدرة التنافسية».

 

وشرح رياشي، انّ العملات العالمية في تحرك دائم في السوق، ويكمن دور المصرف المركزي في ضبط تذبذب العملات كي لا تتحرّك، ضمن هوامش مرتفعة، وذلك باستخدامه الاحتياطي الخاص به وليس احتياطي المصارف، الذي هو عبارة عن أموال المودعين، كما انّ تدخّله يكون على مراحل قصيرة لتأمين الاستقرار وليس من خلال التثبيت، لأنّ كلفته على الاقتصاد ممكن ان تكون مميتة.

 

كلفة تحرير الصرف

ورداً على سؤال، أكّد رياشي ان لا قدرة للبناني اليوم على تحمّل كلفة تحرير سعر الصرف، لذا يجب الشروع باتخاذ إجراءات صائبة أولاً، مثل توجيه الدعم نحو الفئات التي تحتاجه ضمن آلية معينة. وأكّد انّ رفع سعر الصرف سيؤثر حتماً على القدرة الشرائية للمواطن، الذي سيزداد فقراً، في ظل استحالة رفع الحد الأدنى للأجور في هذه الظروف.

 

وأضاف: «صحيح نحن نمرّ بأزمة مالية واقتصادية كان يمكن للبناني احتواءها، لكن الكورونا كانت الضربة القاضية للاقتصاد. فما علينا اليوم سوى انتظار انتهاء جائحة كورونا لنتكل بعدها على مهارة اللبناني وقدراته لمعاودة النهوض مجدداً. لكن هذا لا يمنع انّ هناك إصلاحات بنيوية مطلوبة قبل أي شيء، ولا تقتصر فقط على القطاع المالي، انما تشمل كل القطاعات، وإذا لم يحصل الإصلاح للقطاع المصرفي لا يمكن الإقلاع بالاقتصاد، للأسف ما عاد احد يثق بالقطاع المصرفي اليوم، حتى انّ الأموال النقدية التي تدخل الى لبنان اليوم باتت تأتي بالحقائب وليس عبر المصارف».

 

وشدّد على انه اذا لم يحصل لبنان على دعم من صندوق النقد عندها «باي باي لبنان».

 

وعمّا اذا كان هناك من رابط بين رفع سعر الصرف وتحرير مصرف لبنان من دعم بعض المستوردات، شرح رياشي: «انّ رفع سعر الصرف الى 3900 ليرة سيخفف من الضغط على احتياطات مصرف لبنان، التي تُستعمل بغرض دعم استيراد المحروقات والقمح والادوية، لأنّه بذلك سيتراجع حجم الاستهلاك. لكن الاجدى وقف الدعم عن هذه السلع واستبداله بدعم موجّه الى فئات معينة من الشعب بدل تعميمه على الجميع».

 

وقال: «حرام الاستمرار بدعم المحروقات الذي يذهب بمعظمه الى محظيين او يُهرّب ويُباع الى غير اللبنانيين. فهل من المنطق ان يستفيد المقتدر مثل الفقير من الدعم؟ هل يُعقل اننا وبسبب الدعم سعر صفيحة البنزين في لبنان هي الارخص في العالم؟ اليس الأجدى دعم قطاع النقل العام المشترك بدلًا من دعم البنزين كما هو سائد في كل بلدان العالم؟ من الطبيعي انّه اذا زاد الطلب على النقل المشترك ستدخل استثمارات الى القطاع وستتحسن الخدمة فيه».​

ايفا ابو حيدر.

بين زيادة الكتلة النقدية وتراجع النمو الإقتصادي: التضخم بلا حدود

من يوم الى يوم تتصاعد الأسعار في الأسواق، بما يشعر المواطن أن لا ضوابط عملية للتضخم المتعدّد الأسباب، فيما النتيجة واحدة، متمثّلة بتراجع مؤلم في القدرة الشرائية، خصوصاً لذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية. ومهما تعدّدت وتشابكت أسباب ارتفاع الأسعار، ثمة سبب رئيسي يتفاقم يوماً بعد يوم، ويتمثل بازدياد عرض الكتلة النقدية، وتحديداً السيولة المتداولة بالليرة اللبنانية، والتي تترافق مع انكماش النمو الاقتصادي، فتُترجم النتيجة بمزيد من التضخّم.. فكيف يتجّه النمو الاقتصادي ومعدّله نسبة الى الدين العام، وبالتزامن مع ازدياد الكتلة النقدية المتداولة؟

يشكّل النمو الاقتصادي المؤشر الرئيسي الذي يعكس منحى تطور الاقتصاد وازدهاره، حتى لو لم يكن كافياً لتظهير مستوى العيش في أي بلد، لأنّ ذلك يحتاج الى التطلّع أيضاً الى مؤشرات التنمية المستدامة، التي تشمل الركائز الثلاث الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. ويكفي لذلك النظر الى مسار معدّل النمو الاقتصادي في لبنان، حيث حتى في فترات تحقيق أعلى معدلات نمو لم يُترجَم ذلك تحسناً في المستوى الحياتي لناحية مثلاً تأمين التغطية الصحية الشاملة وضمان الشيخوخة والرعاية الاجتماعية للعاطلين من العمل وذوي الحاجات الخاصة والتيار الكهربائي المتواصل والمياه الصالحة بكميات كافية لكل المناطق، والبيئة النظيفة من معالجة النفايات الى مكافحة كل أنواع التلوث البري والبحري والجوي…

 

ويتبيّن تنامي نسبة الدين العام الى الناتج المحلي، التي ما لبثت أن انخفضت من حدود 180% عام 2006 الى 130% عام 2011 ، حتى عاود خطّه التصاعدي الذي تخطّى فيه حدود الـ 150% في نهاية العام 2018 ، وأكمل صعوداً مع تدهور الأوضاع عام 2019 بالتزامن مع تدهور معدل النمو من 8.25 % الى أقل من 1% للفترة عينها.. فيما كان الدين العام يكبر بحجم كرة الثلج التي تنمو بسرعة، تفوق بأضعاف نمو الناتج المحلي، مع تراكم العجز المالي السنوي وصعوبة التحكّم بمكونات الانفاق الذي معظمه جارٍ وتستحوذ خدمة الدين العام (أي الفائدة على الدين) بنحو اساسي على أكثر من 40%، وتلامس كذلك رواتب وأجور القطاع العام الـ40% من مجموع الإنفاق، وتبقى حصّة عجز الكهرباء نحو11%، فلا يبقى ما يُذكر للاستثمار العام…

 

كذلك ترتفع الدولرة التي نتجت من خيار حرّ في القطاع الخاص اللبناني، منذ تجربة التضخم وانهيار سعر الصرف في الثمانينات، والتي طاولت أخيراً دولرة جزء من الدين العام (حوالى ثلث الدين)، فضلاً عن اعتماد ربط سعر صرف الليرة بالدولار الأميركي ولو بنحو «عرفي» كون النصوص لا تدلّ الى تثبيت رسمي لسعر الصرف.. وذلك في ظل نظام إقتصادي حرّ يلتزم حرية حركة الرساميل ويتأثّر طبعاً بنتائج ميزان المدفوعات الذي يشمل الميزان التجاري من جهة (المعروف بعجزه التاريخي بين الصادرات المحدودة والواردات الطاغية التي تلبي أكثر من 80% من حاجاتنا الاستهلاكية) وميزان الرساميل (المعتمد عليه للتعويض من خلال استقطاب الرساميل الخارجية خصوصاً من المغتربين اللبنانيين والمستثمرين العرب والسياح المتعددين).

 

من هنا تتظهّر لنا خصوصية الاقتصاد اللبناني والقيود التي تكبّل حركته والتي تجعل منه نموذجاً خاصاً غير قابل للمقارنات مع سواه، قبل البحث في المعضلات التي ترهق نموّه أو تعقّد ديونه أو تُتعب جهازه المصرفي موضع البحث تحديداً.

 

أما مصرفياً، فإلى جانب الانغماس في الانكشاف على الدين السيادي للدولة وشهادات الايداع بالعملات الأجنبية، تواجه المصارف اللبنانية مخاطر إنعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوقّف الطلب على التسليفات كما توقف تدفّق الرساميل من الخارج وزيادة الودائع في الداخل، بل من التوجّه المعاكس على تقليصها على يد أصحابها الى الحدّ الأدنى الممكن، إن من خلال السحوبات المستمرة بالدولار الميركي كما بالليرة اللبنانية أو من توجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري، علماً أنّ لهذا الأخير إيجابيات كثيرة خصوصاً في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة، فيما أصحابها مديونون للمصارف ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من دينهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

 

من هنا تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، والتي لا تقلّ أهمية عن مخاطر الانكشاف السيادي، مع الاشارة الى أنّ التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص اللبنانية تبلغ نحو 32 مليار دولار، وتسعى تعاميم مصرف لبنان المركزي الى احتوائها، من خلال العمل على وضع سقوف على الفوائد الدائنة وخفض الفوائد المدينة بنحو مباشر، وتوجيه المصارف لإعادة هيكلة الديون المتعثّرة عبر إطالة الآجال، وإعادة النظر في الشروط، الى جانب الالتزام بالتعاميم الجديدة الصادرة عن المصرف المركزي، والتي تنصّ على خفض معدلات الفوائد…

 

كما أنّ الإجراءات الحالية، من ضبط حركة الرساميل بسبب الأزمة، في غياب نصّ قانوني جامع وضوابط موحّدة، جمّدت كلياً إقدام غير المقيمين وحتى المغتربين، عن إرسال التحاويل، لا بل أدّت الى قلق المقيمين على ودائعهم، إن كان بالعملات الأجنبية أو حتى بالليرة اللبنانية، مما يدفعهم يومياً الى نشاط مصرفي اتجاه واحد، هو سحب الأموال وتخزين الأوراق النقدية إن كان بالدولار أو حتى بالعملة الوطنية، ما ينسف النظام المصرفي ككل ويدفع في اتجاه الاقتصاد النقدي «cash economy»، فيضرب إمكانية استعادة المصارف دورها في التسليف، أياً كانت شروطها لافتقاد ثقة العملاء بإيداعها مدخراتهم.

 

ويبدو واضحاً أثر الأزمة ان لناحية الودائع أو التسليفات بالليرة اللبنانية كما بالدولار الأميركي في مصارف لبنان، كذلك يبدو ملحاً مراقبة معدلات مخاطرها السيادية من خلال رصد نسبة توظيفاتها بسندات الحزينة، ولا سيما منها سندات «اليوروبوند» وشهادات الايداع لدى المصرف المركزي، ولا سيما منها بالدولار الأميركي، من مجموع رساميلها الخاصة، للتأكّد من إمكانية أن يتحمّل المساهمون أي خطر إعادة هيكلة أو اقتطاع ديون الدولة، من دون الحاجة للجوء الى المودعين الكبار للمساهمة معهم…

 

أما صلب الاشكالية، فلا يكمن فقط في تراجع النمو، بل في تنامي الكتلة النقدية والسيولة بمعدلات هائلة تنعكس تضخماً مفرطاً تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، ولا سيما ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية. ويكفي لذلك الاشارة الى بيانات مصرف لبنان، التي تظهر الازدياد الهائل خصوصاً في حجم العملة الموضوعة في التداول والودائع تحت الطلب بالليرة اللبنانية بين تشرين الأول 2019 وأيار 2020.

 

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو إقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم…وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.

 

ومن المفيد الاشارة الى جملة العوامل المؤثرة في النمو الاقتصادي التي رصدها تقرير «بنك لبنان والمهجر»، والتي أشارت الى التراجع في الاستثمار وإنتاجية رأس المال منذ 2012-2013 بنحو ملحوظ مع تدهور مناخ الاستثمار. وفي هذا الصدد، من الضروري أن لا تركّز الإصلاحات على التحسين وسهولة ممارسة الأعمال التجارية فقط، ولكن يجب أولاً أن تتضمن أيضًا حوكمة أفضل للمؤسسات العامة بنحو حاسم، مما يستوجب بيئة سياسية مستقرة.

ـ ثانيًا، ثمة انعكاسات سلبية متراكمة لتوالي العجز في الموازنة العامة (بأكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في الآونة الأخيرة) نتيجة النفقات الجارية المفرطة (40% على الأجور والمعاشات وأكثر من 35% على الفوائد، أي خدمة الدين العام و11% لكهرباء لبنان) وهي بالطبع نفقات غير منتجة ولا مشجّعة للاستثمار.

ـ ثالثاً، لا بدّ من التنبّه الى دور الادخار الخاص في الاستثمار ،اذ تدخر الأُسر والشركات اللبنانية القليل نسبياً (ما يقرب من 7% من الناتج المحلي الإجمالي) خصوصاً مع توجّه الاقتصاد أكثر فأكثر نحو الاستهلاك المفرط، والذي يتخطى أحياناً كثيرة مردود الأُسر وتتمّ تغطيته ببطاقات الائتمان والقروض الشخصية…

– رابعاً، يبقى السبب الأهم من ذلك مرتبطاً بالموارد الخارجية المؤثرة بالمساهمات في النمو في الاقتصاد اللبناني، ما هو مثير للاهتمام، خصوصاً أنّه في حين تباطأت تدفقات رأس المال بنحو ملحوظ منذ عام 2012، فإنّ ما أبقى الوضع ثابتًا هو اللجوء الى الاحتياطيات الأجنبية في مصرف لبنان – وهو مورد خارجي آخر – مع تراكم عجز ميزان المدفوعات لأكثر من 18 مليار دولار منذ عام 2012… فيما احتياطيات المصرف المركزي من العملات الاجنبية تُستنزف يوماً بعد يوم.

 

ويبقى طبعاً على الدولة تنفيذ تدابير الإصلاح الأساسية الملحّة لتنشط النمو، بالاستناد الى ركائز الاقتصاد المحلية والموارد الكثيرة التي يتمتّع بها لبنان وتعطيه ميزات تفاضلية وقدرات تنافسية. كما من الضروري تقديم الحوافز لزيادة المدخرات (العامة والخاصة)، وتعزيز الصادرات، واستبدال الواردات، وبالتالي تجنّب الحاجة إلى مصادر تمويل خارجية أو تقليلها. وهذا مطلوب، خصوصاً في وقت أصبحت فيه أسواق رأس المال الدولية والإقليمية تزداد تنافسية… على أن يتركّز الجهد على تأمين معدّل نمو بالاستناد الى مصادر تمويل انواع إستثمارات ثابتة أو أكثر ثباتاً، خصوصاً في فترات الأزمات، كما بالتشديد على تحقيق معدّل نمو للاقتصاد أعلى من زيادة تنامي السيولة في الكتل النقدية، لتفادي انعكاسها مزيداً من التضخم وتضاؤل القدرة الشرائية والقدرة على إيفاء الديون…

 

 

د. سهام رزقالله.

خمسة أشهر قبل الانتقال الى مشهد آخر

خمسة أشهر مفصلية تقرّر مصير اللبنانيين لسنوات طويلة الى الامام. ما سيُرسم في هذه الاشهر المتبقية من 2020 سيكون بمثابة خريطة طريق للسنوات العشر المقبلة، وربما أكثر، وفق ما قد يستجدّ من تطورات في المشهد الاقليمي.

في الايام القليلة الماضية تتردّد «نغمة» مفادها أن لا خوف من المجاعة أو انقطاع المحروقات وغياب الكهرباء، لأنّه في اللحظة التي يعلن فيها مصرف لبنان انّ الاموال الاحتياطية نضبت، وانّه لم يعد قادراً على فتح اعتمادات لاستيراد المواد الاستراتيجية مثل الطحين والمحروقات، سوف تتدفق الى لبنان المواد الغذائية الاساسية بالإضافة الى المحروقات من ايران، عبر الحدود السورية. طبعاً، في حال المجاعة، سيكون اللبناني مرحِّباً وممتناً لأي مساعدة تُبعِد عنه هذه الكأس، سواء تدفقت هذه المواد من ايران، ام من دول اخرى صديقة، بهدف قطع الطريق على الجمهورية الاسلامية للسيطرة على لبنان بواسطة الغذاء. لكن، اذا وصلنا الى هذا الواقع يكون البلد قد انتهى واقعياً، وعلينا أن نتوقّع سنوات طويلة عجاف، لن تكون الحياة خلالها تشبه لبنان الذي عرفناه.

الى الوضع المعيشي القاسي، ستتوالى المآسي التي تتزامن في العادة مع ظروف مماثلة، مثل الانهيار التام لسعر صرف العملة الوطنية، حيث يصبح سعر الدولار بلا سقف تقريباً، وتُصاب المؤسسات في القطاع الخاص بمزيد من الانهيارات، وترتفع أعداد العاطلين من العمل الى مستويات مرعبة، ويتحوّل المشهد المجتمعي الى مشهد اسود ومضطرب، مع ما قد يرافق ذلك من ارتفاع منسوب الجرائم والسرقات على أنواعها…

بصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي تعتبر ان ما يجري مُخطّط له، ويهدف الى تسهيل مهمة ضمّ لبنان رسمياً الى محور الممانعة، أو النظرية المضادة التي تتحدث عن مؤامرة لإخضاع «حزب الله» من خلال إخضاع اللبنانيين، لحثهم على الوقوف في وجه الحزب، فانّ ما هو مؤكّد أنّ البلد لا يزال يمتلك الفرصة للنجاة، ولو بأضرار لا بدّ منها، لأنّ الخسارة وقعت، ولا مجال للعودة الى الوراء.

الفرصة المتاحة اليوم، ترتبط بالاتفاق على خطة انقاذية للعودة الى صندوق النقد في أسرع وقت، والاتفاق على برنامج مساعدة. وعلى عكس ما يعتقده البعض، المشكلة ليست في توحيد أرقام الخسائر، ولا حتى في توزيع هذه الخسائر، بقدر ما تكمن في الإفادة من الظرف الضاغط، لإلزام الدولة بتأسيس صندوق سيادي لإدارة موجودات القطاع العام. هذا الوضع المأساوي القائم حالياً، ينبغي ان يشكّل فرصة ذهبية لتحقيق ما عجز عنه اللبنانيون لسنوات طويلة في وقف الهدر والفساد ونهب المال العام، حتى وصل البلد الى الإفلاس.

ولا حاجة الى التذكير بأهمية الصناديق السيادية في العالم التي تؤمّن ارباحاً متراكمة للشعوب والدول، وفي مقدّمها صندوق النروج الذي تجاوزت قيمته التريليون دولار، بالاضافة الى كل الصناديق السيادية والتي تحقق نسب ايرادات مُرضية.

لا يختلف اثنان على أنّ املاك وموجودات الدولة ومؤسساتها تُدار بشكل سيئ، ويختلط في ادارتها الفساد بالإهمال بقلة الضمير، بما ينتج قحطاً في المداخيل للخزينة. بالاضافة الى انّ قسماً من املاك الدولة يهيمن عليه افراد ومجموعات انطلاقاً من «أنّ المال السايب يعلّم الناس الحرام». وبالتالي، قد تكون الكارثة المالية التي حلّت بالبلد مناسبة لإنقاذ موجودات الدولة، من خلال احصائها وتقدير قيمتها ووضعها تحت ادارة رشيدة يشارك في القسم الاكبر منها القطاع الخاص. واذا تمّ التعاطي مع هذا الموضوع بجدّية واحترافية، وتمّ تسليم دفة القيادة الى الأدمغة اللبنانية المُبدعة في مجال ادارة الاستثمارات حول العالم، وبالتعاون مع الخبرات الأجنبية، وتمّ الانضمام الى المنتدى الدولي للصناديق السيادية، International Forum for Sovereign Wealth Funds (IFSWF) فإنّ المداخيل التي يمكن تأمينها ستكون كفيلة بتشكيل نواة صلبة في خطة الخروج من النفق، وصولاً الى مرحلة التعافي.

ما تحققه استثمارات الصناديق السيادية ينبغي ان يشجّع على سلوك هذه الطريق. والمعدل الوسطي للايرادات يصل الى 8 في المئة سنوياً، بما يعني انّ موجودات الدولة، واذا افترضنا انّ قيمتها تصل الى 40 مليار دولار، قد تدرّ على الخزينة حوالى 3,6 مليارات دولار سنوياً.

طبعاً، الى جانب الاستثمار المجدي للموجودات، ينبغي التركيز على نقل ادارة المؤسسات الرسمية الى ادارة مختلطة بين القطاع الخاص والعام، لخفض منسوب الهدر والفساد، وإدخال عقلية عصرية مختلفة تنقل الادارة من مكان الى مكان آخر مختلف تماماً.

خمسة أشهر تقريباً تفصلنا عن مرحلة الانتقال الى مشهد آخر. اذا استهلكنا ما تبقّى من العام 2020 بالطريقة نفسها التي استهلكنا فيها الاشهر الخمسة الماضية منذ اعلان «الافلاس» في مطلع آذار الماضي، ستكون الكارثة مُرعبة، وما نعتبره حالياً وضعاً مأساوياً قد نترحّم عليه، ونشتهي العودة الى مندرجاته، مقارنة بما قد نعانيه بعد انقضاء فترة الفرصة الأخيرة.

انطوان فرح

لهذه الأسباب يجب الكشف عن عقد «لازارد»

قفز اسم «لازارد» الى الواجهة في الايام القليلة الماضية، بعدما تبيّن أنّ دور الشركة أساسي في تقرير مصير اللبنانيين، طالما أنّها صاحبة الربط والحل في ملف الخطة الإنقاذية الموحّدة التي يُعمل عليها للعودة الى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد. لكن اسئلة كثيرة بدأت ترتسم في الاجواء، تتمحور حول مصلحة البلد في وضع مصيره بين أيدي شركة مالية.

يمكن القول، انّ الاسبوع الماضي كان اسبوع «لازارد»(Lazard) بامتياز. وقد أصبح اسم هذه الشركة المالية يتردّد على كل لسان، ودخل في قاموس المصطلحات الجديدة الى جانب مصطلحات اخرى اقتحمت حياة اللبنانيين ولم تكن مألوفة قبل الأزمة، مثل هيركات (Haircut)، بيل إن (Bail in) ، بيل أوت (Bail out)، وفورنسيك أوديت (Forensic audit) التي يستخدمها المسؤولون في مواقع القرار، تماماً كما يردّدها الناس في الشارع.

وبصرف النظر عن المواقف المتضاربة من «لازارد»، والانقسام الداخلي في شأن تقييم أعمالها، واذا ما كانت تخدم المصلحة اللبنانية، كما يصرّ مسؤولون ومستشارون حكوميون على التأكيد، ام تحوّلت عنصراً مُعرقلاً للإنقاذ، كما تقول المصارف، ويدعمها في هذا الرأي ضمناً فريق كبير في المجلس النيابي اللبناني ومصرف لبنان، فقد بات واضحاً، انّ «لازارد» أعاقت التوصّل الى تفاهم مشترك بين الاطراف اللبنانية المعنية (الحكومة، المجلس النيابي، مصرف لبنان، المصارف)، للخروج بخطة موحّدة تُعرض على صندوق النقد للتفاوض.

رداً على سؤال لماذا ترفض «لازارد» اقتراحات تعديل ارقام الخسائر، ومقاربات أقل حدّة في معالجة هذه الخسائر، وتصرّ على الـ«هيركات»، يقول المتحمسون في لبنان للشركة، انّ الرفض نابع من حرفيتها (professionalism) وقناعتها بأنّها الطريقة الأفضل للتعافي وعدم المماطلة في اطالة أمد الأزمة.

في المقابل، يستدعي موقف «لازارد» التدقيق أيضاً، لأننا لا نتحدث هنا عن مجرد صفقة قد نخرج منها رابحين أو خاسرين، بل يتعلّق الأمر بمصير شعب وبلد. وبالتالي، يستحق الوضع، المزيد من التعمّق والتمحيص للتأكّد من الخيارات المثلى للإنقاذ.

وعليه، هناك مجموعة من الاسئلة تحتاج اجابات واضحة ليُبنى على الشيء مقتضاه، لكنها تنطلق في مجملها من سؤال أساسي واحد: لماذا تمّ تغيير طبيعة مهمة «لازارد» من مستشار مالي في المفاوضات مع حاملي «اليوروبوند»، الى مستشار مسؤول عن وضع خطة التعافي للدولة؟ وقد بدأ يتبيّن، انّ الحكومة غير قادرة على تجاوز رأي «لازارد» في الخطة، بمعنى انّه لو توافقت الحكومة مع المجلس النيابي والمصارف، لا تستطيع ان تفرض خطتها لأنّ «لازارد» تمتلك حق الفيتو!

من أين حصلت «لازارد» على هذا الحق؟

هنا، تبرز أهمية الكشف على طبيعة العقد الذي وقّعته الحكومة اللبنانية مع هذه الشركة. هذا العقد لا يزال سرّياً، ولم يتمّ الكشف عن تفاصيله، وهذا الغموض يثير الريبة والشكوك. والامر لا يتعلق هنا بحجم المبلغ الذي ستدفعه الحكومة مقابل خدمات «لازارد»، بل بنوعية العقد وتشعباته التي قد تجعل من الدولة اللبنانية في موقف ضعيف.

من المعروف انّ العقود مع شركات مالية عالمية متخصصة تتمّ وفق اتفاقات مختلفة. بعضها يتضمّن بدلاً مالياً محدّداً لمهمة محدّدة. عقود أخرى تشمل الدفع المُقسَّط المسبق (retainer fee) مع الحصول على عمولة بعد انجاز العمل. وهناك عقود تتضمّن العمولة فقط.

في العادة، تختار الدول نوعية العقد استناداً الى المهمة التي تريد من شركة مالية انجازها.

على سبيل المثال، اذا كان الامر يتعلق بإعادة هيكلة دين لمبلغ محدّد، كما هي حال «اليوروبوند» في لبنان، يمكن دفع مستحقات ثابتة مع عمولة، على اعتبار انّ حجم العمولة تكون معروفة مسبقاً. لكن عندما يكون المبلغ غير مُحدّد مسبقاً، ويمكن ان يكبر أو يصغر وفق الظروف، من باب الأجدى في هذا الوضع أن يتمّ تحاشي العمولة، والاتجاه نحو مبلغ محدّد ولو كان مرتفعاً، لكي لا تكون هناك مفاجآت لاحقاً، ولكي لا يكون هناك تضارب مصالح (intrest confict)، بحيث أنّ من مصلحة الشركة المالية تكبير حجم الخسائر التي تحتاج اعادة هيكلة بهدف تكبير ارباحها في العملية.

في الحالة اللبنانية، من غير المعروف بعد، ما هي نوعية العقد المُبرم مع «لازارد». لكن تماهى الى سمع البعض، انّ العقد لا يتضمّن مبلغاً محدّداً، بل يرتكز فقط على العمولة. ومن المعروف انّ الشركات في حجم «لازارد» تتقاضى نسبة 5 نقاط اساس (Basis points) من مجموع المبلغ الذي تتقرّر إعادة هيكلته. وهذا يعني وفق الخطة الحكومية التي تبيّن أنّ «لازارد» شاركت بفعالية في صوغها، والتي تقدّر الخسائر التي تحتاج إعادة هيكلة بحوالى 95 مليار دولار، ستتقاضى من الحكومة اللبنانية حوالى 50 مليون دولار! هذا، من دون ذكر العمولة على المساهمة في تأمين التمويل ( financing fees). بمعنى، اذا كان عقد «لازارد» ينصّ على مساعدة الحكومة في تأمين تمويل خطة التعافي من صندوق النقد، أو من أي مصدر آخر، سوف تتقاضى «لازارد» عمولة اكبر بكثير من 5 نقاط أساس، على المبلغ الذي سيتمّ تأمينه لتمويل الخطة. كذلك من غير المعروف ما هي البنود الجزائية الواردة في العقد، في حال قرّرت الحكومة فك ارتباطها بالشركة. وهناك قلق حيال هذه النقطة بسبب تمسّك الحكومة بعدم إغضاب «لازارد»، بما يفسّره البعض بأنّ البند الجزائي للتراجع عن العقد مُكلف جداً، أو أنّ الحماسة نابعة من سبب آخر، يرتبط بعمولة يأمل البعض الحصول عليها لاحقاً.

هذا الغموض الذي يحوط بطبيعة عقد «لازارد» لم يعد غموضاً بنّاءً، وحان الوقت لكشف الحقائق امام الرأي العام، لإزالة أي شبهة أو التباس، خصوصا انّ قانون الحق في الوصول الى المعلومات قائم، وسيكون من المفيد افتتاح تطبيقه بهذا الموضوع الحيوي والحساس.

انطوان فرح.

إعادة الهيكلة أمر مُكلف لكن لا بدّ منها

تبدو الأزمة المالية وكأنها عصيّة على المعالجة، حتى الآن على الأقل. لكنّ الحلول ليست مستحيلة، وهناك نماذج كثيرة في اكثر من دولة وقعت ثم نجحت في النهوض مجدداً. الشرط الوحيد للخلاص يرتبط بتوفّر إرادة وإدارة سياسية فاعلة تستطيع أن تأخذ القرارات الصائبة في الوقت المناسب.

قد يكون المخرج الوحيد لأزمة تفاقمت حتى بلغت حدود اللامعقول وشعب لم يعد يرى كيف يمكن أن تكون النهاية إلّا من خلال إعادة الهيكلة. فديوننا فاقت الـ180 بالمئة من الناتج المحلي بحسب تقرير صندوق النقد الدولي للعام 2018. وتخلّفنا عن سداد ديوننا من مستحقات اليوروبوندز، وكانت في وقتها ضرورية لا سيما أنّ البنك المركزي بحاجة ماسّة الى هذه المبالغ من أجل تأمين الحاجات الأولية للبنان.

 

ويتلخص الوضع اليوم كالتالي: إنهيار العملة، محادثات مع صندوق النقد الدولي متعثرة وقطاع مصرفي أقلّ ما يقال فيه انه يعاني أزمة معقدة، وحكومة عاجزة عن القيام بأية خطوة الى الأمام الأمر الذي يجعلنا حتماً في الهوة. وللذين يراهنون على الشرق، نؤكد أن لا الشرق ولا الغرب باتا ينفعان.

 

في الواقع، إنّ التخلّف عن الدفع وحده ليس بهذه الخطورة، فالعديد من الدول تخلفت سابقاً عن الدفع ومن بينها أوكرانيا في العام 1999، وأعادت هيكلة ديونها في العام 2015 وعادت الى الأسواق المالية العالمية. كذلك فعلت الأرجنتين، وبعد مفاوضات حثيثة مع صندوق النقد تمكنت من العودة الى الأسواق.

 

إلّا أنّ الأمر يختلف في لبنان، والقضية لا تتعلق بالتخلف عن الدفع وحده إنما تَخطّت الأمور هذه المرحلة. ومن الطبيعي أنّ المصارف تأثرت مباشرة بالأزمة، لا سيما أنها انخرطت في «اللعبة» حتى النهاية. ومن العواقب المتوقعة إعادة الهيكلة، لا سيما أنها خسرت ما قيمته 10 مليارات دولار من الودائع. وعلى الدولة أوّلاً بأول أن تحارب التهرّب الضريبي وتحسّن الجباية وتسعى الى الخصخصة، فضلاً عن إعادة هيكلة الدين، الأمر الذي سوف يكون ذات تأثير كبير على المصارف، علماً أنّ المصارف كانت عصب الاقتصاد اللبناني والقطاع الأنجح. وإذا كان لا بد من اقتطاع من الودائع، فيجب أن تكون على الودائع الكبيرة جداً، لئلّا تخلق أزمة اجتماعية اضافية. بمعنى آخر، ينبغي التركيز على الطبقة الثرية جداً، والتي تستطيع ان تتحمّل الاقتطاع.

 

بحسب أحد مسؤولي الـ IIF، اذا استمر الاضطراب السياسي لفترة طويلة، ومع عدم دعم الدول المانحة خلال الأشهر القادمة، قد تتدهور الحالة الاقتصادية أكثر فاكثر، وكذلك الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي، وهذا الأمر سوف يخلق مضاعفات جمة اقتصادياً واجتماعياً. وموقف صندوق النقد الدولي من هذا كله واضح وصريح، كونه يريد أن يعلم أقلّه مع من يتفاوض، ويريد أن يلمس جدية المفاوض وقدرته على أخذ القرار والسير بالاصلاحات الموعودة قبل أن يقدّم أي دعم. والبعض يتحدث هنا عن 10 مليارات دولار (وهو رقم طموح لعدم ثقة المانحين الدوليين بالحكومة).

 

لذلك، قد يكون المدخل الوحيد لمعالجة هذه الأزمة هو التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وهو الوحيد القادر على تشجيع الدول المانحة الأخرى على المساهمة في تمويل الانقاذ. والأمر ليس بالغريب، وقد حصل سابقاً مع اليونان حيث رفضت أنجيلا ميركل دعم اليونان إلّا بوجود صندوق النقد الدولي وبحسب شروطه.

 

الهدف من المفاوضات، كما تؤكد متحدثة بإسم الصندوق، هو التوصّل الى إطار شامل يساعد لبنان على معالجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة واستعادة الاستدامة والنمو. ولن يلتزم الصندوق ولا الدول المانحة أية مساعدة قبل التزام الطرف اللبناني بالاصلاحات ومكافحة الفساد السياسي المستشري.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل إعادة هيكلة المصارف اللبنانية قادرة على ضمان أموال المودعين، لا سيما أنّ إعادة الهيكلة تتطلب اعادة رسملة وإعادة هيكلة الدين الخارجي الأمر الذي يتطلّب اتفاقاً مع المستثمرين الخارجيين حَمَلة اليوروبوندز. كلها أمور مكلفة ورساميل المصارف سوف يتدنى حتماً، ومن المستحيل ان يحصل الانقاذ من دون خطة خارجية قد تكون، بحسب ناصر السعيدي، بكلفة 25 إلى 30 مليار دولار، فضلاً عن إعادة تقييم اصول المصارف وغيرها من الموجودات.

 

الأمر الأكيد أنّ حجم القطاع المصرفي مقارنة بالناتج هو بنسبة 300 بالمئة، وهذا يعني احتمال حصول اندماجات لدى العديد منها لا سيما انّ عملها قد تتغيّر طبيعته قليلاً في الفترة الاولى بعد بدء تنفيذ خطة التعافي، ومن المؤكد انّ المصارف ستتعرض لخسائر، ولا توجد حلول سحرية لهذا الأمر، والبرهان على ذلك ما يحصل اليوم في المصارف من «لَيلرة» للدولار من أجل تخفيف حجم الودائع بالدولار الأميركي وعلى سعر صرف ضئيل مقارنة بسعر صرف السوق السوداء. هذا، ويقول مصرفيون انّ البنوك اللبنانية تستعد لمرحلة صعبة في ظل إعادة الهيكلة. هذا الأمر سوف يترك العديد منها عرضة للدمج، ولذلك ينبغي التركيز على تجنيب المودع الخسائر المحتملة.

 

انّ إعادة الهيكلة هذه ضرورية ومطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي للدخول في أي محادثات مع لبنان. وهذا الأمر يذكّرنا بقبرص في العام 2012-2013 حيث تراجعت بيئة الأعمال وزادت القروض المتعثرة وتعرّض الاقتصاد لِما يجري في اليونان، الأمر الذي أدّى الى انهيار القطاع المصرفي، والذي كان يشكّل 9 أضعاف الناتج المحلي حتى أصبح اليوم يشكّل فقط 3.5 مرات هذا الناتج.

 

قد تكون قبرص درساً مفيداً لبلد مثل لبنان، مع العلم أنّ اموال المودعين تضررت بنسَب كبيرة وصلت الى 40 بالمئة من حجم الايداعات، ورغم ذلك استطاعت قبرص أن تستعيد عافيتها بعد 3 سنوات من المعاناة.​

ب. غريتا صعب.

التضخم الجامح يدهم لبنان بعد فنزويلا

أصاب التضخم الجامح زيمبابوي وفنزويلا ويوغوسلافيا السابقة وآخرين على مر السنين.

والآن يكابد لبنان الظاهرة نفسها، ليصبح أول بلد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يعاني من انفلات أسعار السلع والخدمات.

وهو ينضم بذلك إلى فنزويلا، الواقعة في أتون تضخم جامح منذ ابريل نيسان، في نوبة هي الثانية لها خلال السنوات الأخيرة، وفقا لستيف ه. هانك، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز والخبير في الموضوع.

يحدث التضخم الجامح عندما يتجاوز معدل التضخم في بلد ما الخمسين بالمئة شهريا على مدى فترة من الزمن، يحددها هانك بأنها 30 يوما متتاليا. وقد حدث ذلك في لبنان هذا الأسبوع.

وقال هانك، الذي تتبع مع زميله نيكولاس كروس 61 حالة أخرى للتضخم الجامح في تاريخ العالم، مثل المجر في 1945 ويوغوسلافيا بين 1992 و1994 عندما وصل التضخم إلى 313 مليون بالمئة شهريا، ”لبنان أول بلد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يشهد تضخما جامحا“.

وتابع ”الأسباب الكامنة للتضخم لا تتغير أبدا.. تبدأ الحكومات في تسجيل مستويات عجز مالي تأخذ في الازدياد وتطلب من البنك المركزي تمويل ذلك العجز لأن الضرائب والتمويل عن طريق السندات لم يعودا مناسبين. في التضخم الجامح، يصبح على البنك المركزي أن يمول كامل الأنشطة المالية للحكومة“.

يعيش لبنان أسوأ أزماته منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، وقد تفاقمت مشاكله منذ التخلف عن سداد ديونه في مارس آذار بعد سنوات من اتباع البنك المركزي سياسة الهندسة المالية للمساعدة في تمويل الحكومة. وارتفعت تكاليف الأغذية والملابس 190 بالمئة و172 بالمئة على الترتيب في مايو أيار مقارنة بها قبل عام، وفقا لبيانات رسمية أوردها بنك الاعتماد اللبناني.

وانمحى التقدم المتواضع الذي حققته فنزويلا في احتواء التضخم منذ العام الماضي بفعل نقص مزمن في الوقود وتهاوي سعر الصرف. وبعد أن بلغ الذروة في 2018 عند 1.8 مليون بالمئة، بحسب بيانات رسمية، تباطأ التضخم العام الماضي بالتزامن مع تخفيف الحكومة للقيود الاقتصادية، لتقبع زيادات أسعار المستهلكين الشهرية دون الثلاثين بالمئة في فبراير شباط ومارس آذار.

ويقول هانك إنه على الرغم من أن عدد الأسواق الناشئة والمبتدئة التي تشهد مشاكل تضخم حاد مازال منخفضا، فإنه في ازدياد، مضيفا أن تداعيات كوفيد-19 لم تتسبب في تفاقم التضخم بالدول ذات العملات المكروبة على أي نحو يذكر.

وتابع أن زيمبابوي وسوريا والسودان يواجهون تضخما جامحا، لكن أيا من تلك الدول لا يعاني من تضخم جامح في الوقت الحالي.

كانت التوقعات لتضخم طويل الأجل بالأسواق الناشئة قد زادت بشدة في المراحل الأولى من الجائحة، لاسيما للاقتصادات الأكثر انكشافا. لكن تلك التوقعات انحسرت لاحقا إلى مستويات قياسية منخفضة للعديد من الأسواق الناشئة.

وفي مسعى لتحفيز اقتصاداتها، عمدت البنوك المركزية بالعديد من الأسواق الناشئة إلى تيسير بالغ للسياسة النقدية في أعقاب الجائحة، وهي الخطوات التي سمح بها انخفاض معدلات التضخم لديها والتيسير الكمي الهائل الذي شرعت فيه البنوك المركزية بالأسواق المتقدمة.