أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

إستمرار تهريب الأموال إلى الخارج؟

يواجه اللبنانيون خطر انهيار قيمة عملتهم الى مستويات كارثية شبيهة بتلك التي حصلت في دول أصبحت اليوم شعوبها شبه جائعة، ومحرومة من كل كماليّات العيش السائدة في بقية دول العالم. فهل هذا الخطر قائم فعلاً بالنسبة الى الليرة؟ وما هي الاسباب التي قد تودي بنا الى هذا المصير الأسود؟

يُجابه مصرف لبنان الأزمة المالية وانهيار قيمة الليرة اللبنانية والتضخم بطَبع كميات هائلة من العملة المحلية لتمويل نفقات الدولة وتسديد أموال المودعين على سعر صرف يبلغ 3850 ليرة حالياً، بما يعمّق الأزمة ويزيد معدل التضخّم ويساهم في تَسارع وتيرة انهيار العملة التي وصل معدّل تَضخّمها السنوي الى 400 في المئة، وتحتل بذلك ثالث أسوأ مرتبة في العالم.

 

وتغذّي عملية طبع الليرة وضَخّها في السوق، هبوط سعر صرف الليرة مقابل الدولار بوتيرة متسارعة حيث باتت تفقد الليرة يومياً حوالى 25 في المئة من قيمتها نتيجة تعويم السوق بالعملة المحلية من دون أن يقابلها ضَخ للدولارات. بل على العكس فإنّ الدولارات المتبقية في النظام المصرفي ما زالت تتسرّب الى الخارج رغم انّ مصرف لبنان والمصارف تتبع نظام التقنين في التحويلات المالية وتحصرها فقط بالحاجات الضرورية.

 

في هذا الاطار، أكد نافز ذوق، الخبير الاقتصادي والاستراتيجي في مؤسسة Oxford Economics للابحاث في لندن لـ«الجمهورية»، انّ حجم الاموال المتسرّبة شهريّاً من النظام المصرفي اللبناني يتراوح بين مليار و1.5 مليار دولار شهرياً، نتيجة عدم إقرار قانون الـCapital control، معتبراً انّ حجم تلك الاموال التي يتم تحويلها الى الخارج لا يغطّي فقط حجم الواردات الى لبنان والتي تراجعت بشكل لافت، بل يفوقه بنسبة لافتة، «بما يدلّ على انّ عمليات تحويل أموال بعض المودعين الى الخارج ما زالت مستمرة لغاية اليوم».

 

وشرح ذوق انّ الدولارات الفعلية المتبقية لدى النظام المصرفي اللبناني، مقسّمة بين:

– إحتياطي مصرف لبنان بالعملة الاجنبية والتي يقول مصرف لبنان انه يبلغ 27 ملياراً، إلّا انّ قيمته الفعلية لا تتعدى 20 مليار دولار بسبب اقراض البنك المركزي المصارف حوالى 7 مليارات دولار منه في الفترة الاخيرة.

– حسابات المصارف اللبنانية بالعملة الاجنبية في مصارف في الخارج.

– ودائع المصارف اللبنانية بالعملة الاجنبية في مصارف مركزية في الخارج.

 

وشرحَ انّ إجمالي قيمة حسابات وودائع المصارف في الخارج تراجع من 8,4 مليارات دولار في تشرين الاول من العام الماضي الى 4,9 مليارات دولار في نيسان الماضي. في حين تراجع احتياطي مصرف لبنان من 35 مليار دولار في تشرين الاول الى 27 ملياراً (7 مليارات منها تمّ إقراضها للمصارف)، علماً انه في ايار الماضي ووفقاً لآخر الارقام الرسمية المتوفرة، تراجَع حجم الاحتياطي بقيمة مليار دولار مقارنة بالشهر الذي سبقه.

 

وقال ذوق انّ بعض المصارف يرفض اليوم القيام بتحويلات مالية الى الخارج حتى للعملاء الذين يؤمّنون له دولارات جديدة fresh dollars بسبب تناقص قيمة حساباته لدى البنوك المراسلة في الخارج، والتي يتم استخدامها عادة لتسديد قيمة التحويلات المالية التي تتم عبر تلك المصارف في لبنان، موضحاً انّ المصارف لم تعد قادرة على تمويل حساباتها لدى البنوك المراسلة بسبب توقف التدفقات المالية الى لبنان، والتي كانت تستخدم في السابق لتغذية تلك الحسابات بدولارات اضافية، لافتاً الى انّ الدولارات الجديدة التي يؤمّنها العملاء للمصارف المحلية من اجل القيام بتحويلات مالية الى الخارج، تستخدمها المصارف داخلياً لخفض مطلوباتها من العملة الاجنبية.

 

وتخوّف ذوق من «أن نصل الى مرحلة سيتعذّر فيها على المصارف بشكل كامل القيام بأيّ تحويلات الى الخارج بعد استنزاف اموالها لدى المصارف المراسلة»، كما شدّد على انه في الوقت الذي يحتاج فيه البلد الى تدفّق الدولارات الى الداخل، «ما زلنا نشهد استنزافاً لها من النظام في مقابل طَبع المزيد من الاوراق النقدية للعملة المحلية، بما يؤكد انّ هبوط سعر صرف الليرة لا يمكن لجمه ولن يكون له سقف محدد طالما انه لا توجد بعد إجراءات وإصلاحات جدّية كفيلة باستعادة التدفقات المالية الى لبنان».

 

عقوبات على المصارف؟

في سياق متصل، يتم التداول بمعلومات عن انّ سفناً ايرانية ترسو في البحر محمّلة بالوقود تنتظر القرار اللبناني لتّتجه الى بيروت وتفرّغ حمولتها، وذلك في سياق دعوة امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الى التوجّه شرقاً والاستفادة من العرض الايراني للبنان بعدما ساعدت حليفتها فنزويلا بالنفط. وفي هذا الاطار، يتخوّف اصحاب بعض المصارف من ان تقدم الحكومة على استيراد المحروقات من ايران، بما قد يعرّض مصرف لبنان، في حال اضطرّ الى فتح اعتمادات، لخطر فرض عقوبات أميركية عليه ويؤدي الى توقف البنوك المراسلة الاجنبية من التعامل مع المصارف اللبنانية بشكل كامل، والى انعزال القطاع المصرفي عن العالم وتوقف مختلف عمليات الاستيراد الى لبنان.

رنا سعرتي

عن أزمة لبنان المالية: هل آن أوان “الذهب”؟

عند كل مفترق اقتصادي، وما أكثرها، كان احتياطي الذهب يقفز إلى واجهة الحلول. لكن سرعان ما كانت أشعته الصفراء تخبو تحت رماد حماية ثروة لبنان الأهم، وعدم جواز تعريضها للضياع بوضعها على طاولة “روليت” السياسيين. فمهما كانت قيمة هذه “الفيشة”، لن تصمد لأكثر من “برمة” واحدة على طاولة تخطت خسائرها الـ 200 مليار دولار. أكثر من 10 ملايين أونصة تجاوزت منذ العام 1971 قطوعاً تلو الآخر. فلم تُمسّ بعد الحرب الأهلية ولا عند حاجة لبنان إلى السيولة مطلع الألفية الثانية، ولا عقب الخضات المتتالية منذ العام 2005 وصولاً إلى نهاية العام 2019. فهل سيستمرّ نهج تحييد “الذهب” مع وصول “موسى” الأزمة إلى رقبة الوطن والمواطن؟

كثر بدأوا يتحدثون صراحةً أن أوان استخدام الذهب حان، على قاعدة السؤال: إن لم يكن اليوم هو الوقت الملائم للاستفادة منه فأي متى يكون؟

العين، إذاً، على 286.6 طناً من الذهب بقيمة تقدر اليوم بحوالى 18 مليار دولار، قد يؤمّن “استخدام جزء منها كضمانة لأخذ قروض overdraft بقيمة 5 إلى 6 مليارات دولار وضخها في الاسواق عبر المصارف، لتأمين السيولة للشركات في القطاع الخاص وسوق القطع، ما يحد بالتالي من المضاربة على العملة في السوق السوداء”، يقول رئيس فريق الابحاث الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل. “فالهدف من هذا الطرح الذي لا يعني تسييل الذهب، هو التعويض عن انقطاع أو تراجع التدفقات النقدية من العملات الاجنبية التي لبنان بأمس الحاجة اليها، وتأمين السيولة المطلوبة ومساعدة ميزان المدفوعات، إلى حين بلورة اتفاق جدي مع صندوق النقد الدولي”.

الاستفادة من جزء من احتياطي الذهب من دون المس به يعتبر أساسياً لمعالجة أزمة السيولة الخانقة التي يعيشها البلد واستعادة الثقة من خلال التخلص من أسعار الصرف المتعددة. لكن بشرط ان يترافق هذا الطرح، من وجهة نظر غبريل، مع “وقف اسطوانة الاصلاحات واللجان والخطابات على المنابر التي لم تنعكس إلا زيادة في الضرائب، والانتقال إلى الأفعال، في الكهرباء والقطاع العام ومكافحة التهرب والتهريب… التي لا تتطلب إلا قرارات من مجلس الوزراء”.

تهدئة الوضع إلى حين إبصار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي النور قد يكون أكثر ما يحتاجه اللبنانيون، بحسب مؤيدي هذا الطرح، إذ إنهم يعتبرون أنّ ترك الأمور معلقة على هذا الاتفاق المأمول، قد لا يُبقي لا بلداً ولا شعباً في ظل الانهيار الدراماتيكي المتسارع. فهل ينفع القرش “الأصفر” في هذا اليوم الأسود؟

المشهد بعد 6 أشهر… يا رب إرحَمْ

تتصرّف الحكومة، خصوصاً رئيسها، وكأنّ البلد يعاني أزمة «دولار» فقط، تنتج عنها أزمات اقتصادية ومالية وبنيوية واجتماعية. ولا يستنتج حسّان دياب من الانهيار اليومي لسعر صرف الليرة، سوى أمر واحد: ما يجري غير طبيعي، وهناك مؤامرة عليه وعلى حكومته في مكانٍ ما.

في موازاة المشهد القاتم الذي يخيّم على كل مفاصل حياة المواطن اللبناني في هذه الفترة، هناك مشهد آخر سائد في السرايا. إذ يبدو رئيس الحكومة مسكوناً بهاجس المؤامرات، ويحارب طواحين الجن لحماية حكومته من تداعيات ما يُحاك في الأقبية السوداء. ولا يرى دياب من حلول لهذا الوضع الشاذ، سوى من خلال وَقف ارتفاع الدولار، عبر ضَخ دولارات طازجة في الاسواق.

هذه العقلية في مقاربة كارثة في حجم الكارثة المُقبل عليها البلد، والتي لم يظهر من تداعياتها سوى القليل، أصبحت عاملاً إضافياً من العوامل التي تدفع نحو مزيد من التشاؤم حيال احتمال وقف السقوط، وبدء المعالجات ولَو الموجعة. والمصيبة هنا، انّ الحكومة لا ترى سوى أزمتين تريد معالجتهما لإنقاذ البلد:

– وقف ارتفاع الدولار.

– شطب الخسائر التي قدّرتها بـ241 ألف مليار ليرة.

في النقطتين المُشار اليهما، لا توجد أزمة بل نتيجة. واذا كانت الحكومة جادة في معالجة الأزمة، ينبغي أن تبدأ بمعالجة الأسباب بدلاً من محاولة طمس الحقائق من خلال رَمي ما تبقّى من دولارات في أتون السوق السوداء التي لا تودي سوى الى إحراقها عبر التخزين أو تحقيق أرباح غير شرعية لتجّار العملات أو التهريب الى سوريا…

وفي هذا الاطار، فإنّ توقيع عقد للبدء في بناء معامل للكهرباء، يوقف انهيار الليرة أكثر من قرار حرق ملايين الدولارات في سوق الصرف الفوضوية.

إذا لم تبدأ الحكومة فوراً في إجراءات لمعالجة بعض النقاط المرتبطة بأسباب الكارثة، فإنّ البلد في الاشهر الستة المقبلة، التي تفصلنا عن نهاية العام 2020، سيكون امام مصيبة لا يمكن القول حيالها سوى: يا رب إرحم. وفي السياق، يمكن إيراد الاحتمالات التالية:

أولاً- إنخفاض حجم الاموال التي تملكها المصارف اللبنانية في المصارف المراسلة. وقد تراجع الرقم من حوالى 6 مليارات دولار الى أقل من 4 مليارات دولار حالياً، وفق تقديرات غير رسمية. وسيتضاءل هذا الرقم الى ملياري دولار حتى نهاية 2020. مع الاشارة الى انّ بعض المصارف نَفد مخزونها من الدولارات في الخارج، وهناك مصارف أخرى سينفد مخزونها في الاشهر الستة المقبلة. وهذا يعني انّ هذه المصارف لن تكون قادرة على تلبية حاجات الناس التي قد ينصّ عليها أي قانون «كابيتال كونترول»، في حال صدوره.

ثانياً- إحتياطي مصرف لبنان سيتراجع بدوره الى حوالى 15 مليار دولار، بسبب دعم المحروقات والطحين والدواء وبعض المواد الاولية. والمفارقة هنا انّ وزير الاقتصاد الذي كان يطالب برفع الدعم عن المواد الثلاث وتقديم قسائم للمحتاجين للحصول على المحروقات والخبز والدواء بالسعر المدعوم، أعلن انّ لائحة دعم جديدة ستشمل حوالى 200 سلعة. وإذا تم تنفيذ هذا المشروع، قد يتراجع احتياطي المركزي بوتيرة أسرع. ويبدو هذا المشروع وكأنه البديل الذي تمّ التوافق عليه لتجنّب تنفيذ مشروع دياب الذي يطالب بضَخ دولارات في السوق لوقف تدهور الليرة.

ثالثاً- سعر الصرف الذي يصعب التكهّن بالسقف الذي سيبلغه من دون الوقوع في تجربة التنجيم، من المؤكد أنه سيكون مرتفعاً الى مستويات تعميم الفقر والحرمان لدى غالبية اللبنانيين.

رابعاً- إحتمال وقوع اضطرابات أمنية ربطاً بالوضع المعيشي الكارثي، وانخفاض رواتب موظفي القطاع العام، بمَن فيهم العسكر، الى مستويات لا تسمح بتأمين الحد الأدنى من العيش. بالاضافة الى انتشار البطالة بنسَب مرتفعة بحيث ستصبح ظواهر العوز والذل قائمة لدى عدد كبير من الناس، بما سيشيع اليأس في النفوس، والمواطن اليائس مواطن خطير بكل المقاييس.

خامساً- تدنّي أداء المستشفيات وارتفاع الكلفة على المواطن الذي يتقاضى أتعابه بالليرة. وسيصبح مشهد الاستشفاء الخاص حكراً على طبقة الميسورين.

هذه بعض الاستحقاقات المتوقعة. قسمٌ منها ثابت ولا مجال لتغييره، وقسم آخر يمكن تعديله إيجاباً أو سلباً، وفق ما ستفعله الحكومة حيال الإجراءات المطلوبة، وحيال خطة الانقاذ التي يجري التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي. لكن، اذا كانت نظرة الحكومة للمعالجة يختصرها كلام رئيسها في 25 حزيران الجاري، بأنّ «البلد يمر بأزمة كبيرة والنتائج غير إيجابية ومصرف لبنان هو المسؤول عن سعر صرف الدولار، وإذا كان عاجزاً عن تسوية وضع سعر الصرف، فعليه مصارحتنا»… بهذه العقلية، ستكون المصيبة كبيرة، وكبيرة جداً.

انطوان فرح

لماذا “دعم” صندوق النقد أرقام الحكومة؟

هل هي مجرد لعبة أرقام بين الحكومة التي قدّمت خطة إنقاذ وضع عناوينها فريق من المستشارين، وخطة مضادة خلُصت اليها لجنة المال والموازنة النيابية، أم أنّ الأمر أبعد من ذلك، ويرتبط بالطريق الذي سيمضي عليه اللبنانيون خلال السنوات العشر، وربما العشرين المقبلة؟

نجحت الدولة اللبنانية حتى الآن في تسجيل سابقتين في تاريخ تفاوض الدول مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج مساعدات. السابقة الاولى من خلال طرح وفدها الرسمي رؤيتين متناقضتين للحل، ولائحتين متضاربتين لأرقام الخسائر التي تتوجّب معالجتها. والسابقة الثانية تمثلّت بتقديم حكومتها خطة للإنقاذ، تبيّن لاحقاً انّ الخسائر المقدّرة فيها مُبالغٌ فيها الى حدود اللامنطق.

 

لكن السابقة الثالثة على الطريق أيضاً، إذ أنّ شوفينية البعض، والشخصنة لدى من يتعاطى الشأن العام، ستؤدّي الى تصرفات غير موزونة، كأن يبدأ فريق من هنا يمثل الحكومة، وفريق من هناك يمثّل رؤية المجلس النيابي، التواصل مع مسؤولين في صندوق النقد في محاولة لإقناعهم بأرقامهم. ومن خلال الانطباع العام، تحولت المعركة حالياً من عملية تنافس مشروع لتقديم الرؤية الافضل، الى منافسة شخصية فيها كسر عظم، ويرتبط بنتائجها مصير مسؤولين ومستشارين…

 

في عودة الى الواقعية، ومن خلال اجراء مقارنة بين أرقام الحكومة من جهة، وارقام لجنة المال والموازنة المرشّحة لأن تصبح أرقام المجلس النيابي، يمكن ملاحظة الامور التالية:

 

اولاً- هناك أرقام في خطة الحكومة تبيّن بالدليل القاطع انّها كانت غير صحيحة بنسبة تدعو الى الدهشة، مثل ارقام ديون القطاع الخاص المتعثرة لدى المصارف. هذا الموضوع لم يحسمه ابراهيم كنعان أو ياسين جابر أو نقولا نحاس، بل حسمته لجنة الرقابة على المصارف، بما يعني انّ حسمه أدق بكثير مما كان عليه في الخطة الحكومية. والفارق بين تقديرات الحكومة ولجنة الرقابة على المصارف، وهي الأدرى بهذا الملف، وصلت الى رقم قياسي مذهل، يستدعي التساؤل، كيف ومن أين توصّل المستشارون الذين أعدّوا الخطة الحكومية الى هذا الرقم؟

 

ثانياً – انّ الحكومات في العادة تذهب الى صندوق النقد بأرقام تمثّل الحد الأدنى من الخسائر، لأنّها تدرك مسبقاً انّ الصندوق سيسعى الى اعادة تكبير هذه الارقام، انطلاقاً من دراساته وأبحاثه الخاصة، وانطلاقاً ايضاً من حقيقة، انّ من يريد الاقتراض يحاول دائماً تجميل وضعه قدر المستطاع لإقناع المُقرض بأنّه قادر على إعادة سداد ديونه.

 

ثالثاً- اختلفت المقاربة بين الخطة الحكومية وخطة لجنة المال والموازنة. بمعنى انّ الموضوع تجاوز مسألة الرقم الى الاستراتيجية التي ينبغي اتباعها للخروج من النفق. وهكذا استبدلت لجنة المال فكرة شطب الديون عشوائياً، بما فيها الديون بالليرة، والقضاء على القطاع المالي، واحتساب الاستحقاقات بالكامل، باستراتيجية عدم اعلان التوقف عن الدفع بالنسبة الى سندات الليرة، واحتساب خسائر استحقاقات القروض حتى العام 2027 فقط.

 

رابعاً- حتى الآن، ومن خلال الاشارات الاولى التي أرسلها صندوق النقد، يتبيّن أنّ خبراءه يدعمون أرقام الخطة الحكومية. هذا الموقف طبيعي وبديهي، لأنّه يشبه من حيث الشكل موقف «موظف» في مصرف، مسؤول عن منح الموافقة على القروض. هذا الموظف لديه لائحة معايير وأرقام وضعتها ادارة المصرف. كل ما يفعله انّه يقارن أوراق طالب القرض بهذه المعايير، واذا ما جاءت مطابقة يمنحه القرض. وبالتالي، لا يحبّذ هذا الموظف، ولا يستطيع تجاوز المعايير إلّا اذا رجع الى المسؤول الاعلى منه. هذا التوصيف ينطبق على الخطة الحكومية، التي راعت المعايير الرقمية لصندوق النقد الى أقصى الحدود، بحيث لم يجد خبراء الصندوق حاجة الى مناقشة أو الاعتراض على هذه الارقام، لأنّها ذهبت بعيداً بما يتجاوز المعايير المطلوبة. لكن المشكلة ليست لدى الصندوق هنا، بل ستظهر لاحقاً في الاقتصاد اللبناني، وهنا تكمن اولوية المفاوض اللبناني، أي حماية مستقبل الاقتصاد، وليس مجرد تلبية متطلبات الارقام للحصول على قرض.

 

في التفاوض مع صندوق النقد، وعلى عكس الهندسات المالية أو ما شابه، البلد لا يشتري الوقت بل يفاوض على انقاذٍ يوصل الى تعافٍ اقتصادي مستدام.

 

في عودة الى الارقام، من الملاحظ انّ الخطة الحكومية، ومن بعدها الخطة التي قدّمتها المصارف، ورغم عشرات الصفحات التفصيلية التي تحدثت عن الرؤية المستقبلية للاقتصاد، إلّا أنّ النقاش الشعبي والسياسي ينحصر حتى الآن في لعبة الارقام، وكأنّ المشكلة هنا فقط. الأرقام واحدة من الوسائل المعتمدة لتحقيق مكاسب تخدم الاقتصاد. لكن، من يعتقد انّه قادر على حسم الارقام بدقة، والادعاء أنّ أرقامه دقيقة ولا تحتمل النقاش واهمٌ الى أقصى الحدود. وما جرى مع اليونان، عندما انضمت الى عملة اليورو الموحّدة في العام 2001 دليل لا لَبس فيه. ورغم القدرات الهائلة التي تتمتع بها المؤسسات المالية الرقابية الاوروبية، ورغم الاستعانة بمؤسسات مالية عالمية متخصصة، ورغم التدقيق الذي جرى في تلك الفترة، خصوصاً انّ الشكوك كانت تحيط بوضع اليونان المالي الحقيقي، رغم كل ذلك، نجحت اليونان في إقناع مؤسسة النقد الاوروبي بأرقام غير صحيحة، وصل الفارق فيها الى مستويات كبيرة، وربما مُذلّة للبنك المركزي الاوروبي، الذي انطوت عليه الخديعة. وعلى سبيل المثال، أقرّ الاتحاد الاوروبي بأنّ العجز في موازنة اليونان ينطبق على شروط معاهدة «ماستريخت»، أي أنّه لا يتجاوز الـ3% من الناتج المحلي (GDP)، وأنّ دينها على الناتج لا يتجاوز الـ60%. هكذا انضمت اليونان الى العملة الاوروبية الموحّدة، وتنعمت بخيرات هذا الانضمام. ولو لم تتصرّف الحكومات اليونانية اللاحقة بتهور وزبائنية، لكانت مرّت الخديعة بسهولة، ولما وصلت اليونان لاحقاً الى أزمة الافلاس التي استدعت إنقاذها. وللتذكير، تبيّن انّ العجز في موازنة اليونان على الناتج كان حوالى 12,7% بدلاً من 3%، في العام 2001، ونسبة الدين على الناتج أعلى قليلاً من 100% بدلاً من 60% كما ادّعت وصادق على ادعائها الاتحاد الاوروبي بعد استقصاءات ودراسات محترفة!

 

خلاصة هذا النموذج، انّ الحكومات ينبغي أن تستخدم كل اسلحتها، بما فيها الأرقام، للحصول على أفضل الممكن، لا أن ترمي كل أسلحتها وتذهب الى التفاوض من دون أسلحة.

انطوان فرح

تحليل- تصاعد المخاوف في لبنان في غياب أي تحرك للخروج من الأزمة

يكافح لبنان لأخذ الخطوات الأولى للخروج من أزمة مالية عميقة إذ اهتزت الآمال في بدء الإصلاحات بفعل ما يقول منتقدون للحكومة إنه توزيع طائفي للمناصب في الدولة يظهر رفض النخبة السياسية للتغيير.

رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب في القصر الرئاسي في بعبدا يوم السادس من مايو ايار 2020. تصوير: محمد عزاقير – رويترز.

ينزلق لبنان الغارق في الديون من سيء لأسوأ منذ أكتوبر تشرين الأول عندما تضافرت عوامل تباطوء التدفقات المالية من الخارج والاحتجاجات على الفساد وتحولت إلى أزمة سياسية ومصرفية ومالية.

وتبددت الآمال في التوصل إلى اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي لانتشال لبنان من أزمته إذ تعقدت المحادثات بخلاف بين الحكومة والبنك المركزي على حجم الخسائر في النظام المالي.

وتفاقمت المخاوف من ألا يحدث أي تغيير بفعل تعيينات في عدة مناصب بالحكومة والبنك المركزي الأسبوع الماضي انتقدها معارضون وبعض حلفاء الحكومة ووصفوها بأنها قائمة على أسس طائفية لا على الجدارة.

وأثار ذلك تساؤلات جديدة عن التزام رئيس الوزراء حسان دياب بتعهداته، أو قدرته على تنفيذ ما تعهد به لدى توليه منصبه في يناير كانون الثاني من تطبيق حوكمة تقوم على أساس الكفاءة.

وقال مهند حاج علي من مركز كارنيجي الشرق الأوسط ”التعيينات كانت في الأساس مؤشرا على أن شيئا لم يتغير… لا يُنفذ بالفعل أي من وعود الإصلاح الكبرى التي انطلقت عندما تشكلت الحكومة“.

وفيما يؤكد المخاوف المتنامية، قال مصدر مطلع على سير المحادثات مع صندوق النقد إن الصندوق يريد أن يشعر بالارتياح لبدء الإصلاحات على الأقل قبل إمكان بدء المفاوضات الموسعة على اتفاق إنقاذ. ويريد الصندوق أيضا أن يشهد تقدما في تقييم الخسائر المالية التي تواجه البلاد وسن قانون جديد لحركة رؤوس الأموال.

وقال المصدر إن المحادثات لا تزال في المرحلة التشخيصية.

وأحد المجالات المهمة التي ينتظر المانحون تحقيق تقدم ملموس فيها يتمثل في قطاع الكهرباء التابع للدولة والذي يعاني من الهدر. ويعد إصلاح هذا القطاع اختبارا للإرادة السياسية للتغيير لدى بيروت.

ومع انحسار الآمال في التغيير يتنامى خطر عدم الاستقرار.

وقال دبلوماسي دولي ”نشهد تدهورا مستمرا في الوضع على أرض الواقع… المجتمع الدولي لا يزال على استعداد لتقديم الدعم لكن السلطات اللبنانية وحدها هي التي يمكنها تحقيق الإصلاح وإعادة بناء الاقتصاد“.

غذى انهيار العملة وارتفاع معدلات الفقر احتجاجات جديدة وتعرضت منشآت تجارية للاعتداء في بيروت وطرابلس خلال العطلة الأسبوعية.

واشتد التوتر الطائفي وتدخلت قيادات دينية لنزع فتيل مواجهات سنية شيعية في بيروت هذا الشهر.

ومع تدهور الأزمة يقول الاتحاد العمالي إن نحو ربع مليون شخص فقدوا وظائفهم، كما فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 60 في المئة من قيمتها ووجد أصحاب المدخرات أنفسهم عاجزين عن السحب من ودائعهم.

وأقامت بعض البنوك التي تعرضت للإحراق في أعمال الشغب تحصينات على واجهاتها وأحاطت آلات الصراف الآلي بسواتر حديدية.

”طباعة النقد“

يقول المانحون الأجانب إن على لبنان أن يطبق إصلاحات لمعالجة الأسباب الأساسية للأزمة غير أن حكومة دياب لم تتجه حتى الآن إلى نهج جديد.

كان دياب تولى منصبه بتأييد جماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران والرئيس المسيحي ميشال عون والرئيس الشيعي لمجلس النواب نبيه بري.

ولم يشارك في الحكومة السياسي السني سعد الحريري الحليف التقليدي للغرب ودول الخليج العربية ولا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.

ويقول معارضون إن التعيينات التي أُعلنت الأسبوع الماضي كشفت عمن يتولى القيادة فعليا.

وقد عزز بري، أحد أقطاب النظام الطائفي، نفوذه باختيار واحد من أربعة نواب تقرر تعيينهم لحاكم مصرف لبنان المركزي وكذلك المدير العام الجديد لوزارة الاقتصاد محمد أبو حيدر وآخرين.

وحصلت الحركة الوطنية الحرة بقيادة جبران باسيل صهر الرئيس عون على نصيب الأسد في تعيينات المسيحيين بما يبرز توازن القوى.

وكانت خطة للتعافي الاقتصادي كشف عنها دياب في ابريل نيسان وتضمنت اللجوء إلى صندوق النقد الدولي قد أثارت الآمال في اتجاه لبنان للإصلاح لكن كابيتال إيكونوميكس قالت في مذكرة بحثية يوم الاثنين إنه لم يحدث تقدم يذكر منذ ذلك الحين.

ومن العقبات التي يتعين اجتيازها احتمال اعتراض دول من أعضاء صندوق النقد على أي اتفاق بسبب دور حزب الله في الحكومة والخلافات بين البنك المركزي والحكومة.

وأضافت كابيتال إيكونوميكس ”يبدو من المرجح على نحو متزايد أن تزداد صعوبة اجتياز هذه العقبات“.

ومع الصعوبات التي تواجهها الحكومة في دعم الليرة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشدة في لبنان المعتمد على الاستيراد وأصبحت مالية الدولة في وضع خطر.

وقال ناصر السعيدي وزير الاقتصاد السابق ”لا أحد سيقرض الحكومة اللبنانية“.

وأضاف أن البنك المركزي عمد إلى طباعة مزيد من النقد لتمويل الحكومة.

خطة خفض الدولار… هذا مصيرها

هل دخل لبنان مرحلة مالية واقتصادية جديدة مع بدء تنفيذ خطة الخفض التدريجي لسعر صرف الدولار، وهي خطة قررتها السلطة السياسية، وتنفذها السلطة النقدية؟ وهل انّ الوضع بعد فشل «الانقلاب» الذي «كَشفه» رئيس الحكومة، سيكون أفضل أم أسوأ؟ وإلام سينتهي هذا النهج؟

ما جرى ويجري منذ 11 حزيران، لا يسمح بالاعتقاد انّ المشهد المالي والاقتصادي، وربما الأمني، سيبقى على حاله. وما أعلنه رئيس الحكومة حسان دياب، واعتباره انّ حكومته تعرّضت لمحاولة انقلابية تمّ إحباطها، يحمل الكثير من الاسئلة والاحتمالات والتداعيات. لكنّ المفارقة انّ نظرية الانقلاب والمؤامرة كانت القاسم المشترك بين اكثر من طرف، فيما انحصر الخلاف في تحديد هوية الانقلابيين وهوية الجهة المُستهدفة. وهكذا، كان هناك من يقول انّ الهدف هو رأس رياض سلامة، وكانت جهة اخرى تقول انّ المستهدف هو حكومة حسان دياب، وجهة ثالثة تشير الى استهداف العهد و»حزب الله»، والحلف بينهما…

تعدّدت الانقلابات في عقول الكثيرين، لكنّ النتيجة التي أفضَت اليها «الانقلابات»، وهمية كانت أم واقعية، تمثّلت في قرار سياسي جامع قضى بإلزام مصرف لبنان بالتدخّل في سوق الصرافة فوراً، عبر ضَخ كميات كافية من الدولارات كفيلة بوقف تدهور الليرة، ورفع سعر صرفها تدريجاً، وصولاً الى 3200 ليرة للدولار.

هذا النهج، الذي وضعت له ضوابط مبدئية لئلّا يؤدي الى هدر ما تبقى من احتياطي في صناديق المركزي، ومن ضمنها تحديد مبالغ أولية سيتم ضَخّها في السوق، لن ينجح كما هو مُخطّط له. والمقصود هنا، انّ المبالغ التي اتفق على ضَخّها (حوالى 30 مليون دولار اسبوعياً) لن تكون كافية لضرب السوق السوداء، وخفض سعر الصرف تدريجاً. وهنا ستبرز معضلة تحتاج معالجة، إذ انّ الاكتفاء بالتنفيذ الحرفي للخطة كما هي، وعدم رفع منسوب ضَخ الدولارات، سيؤدّي الى إعادة تنشيط السوق السوداء، وسيعود الوضع الى ما كان عليه قبل 11 حزيران، وستعود الأزمة الى المربّع الاول، بعد خسارة كمية من دولارات المركزي. أمّا اذا جرى اعتماد خيار رفع كميات الضَخ وصولاً الى تحقيق هدف الخطة، أي خفض فعلي للدولار الى 3200، والقضاء على السوق السوداء، عندها سنكون أمام كارثة حرق الوقت بدلاً من شرائه، وسيكون المشهد شبيهاً بما فعلناه في العام 2017، عندما كان البلد يقترب من الافلاس بخطى سريعة، فقررت السلطة «تسريع» الانهيار وأقَرّت سلسلة الرتب والرواتب، وأنجزت مهمة الافلاس بسرعة قياسية.

في هذا التوصيف، واذا كان القرار الذي سيُتخذ سيَستند الى علم الاقتصاد، ينبغي أن نتوقّع عدم ضَخ كميات اضافية من الدولارات، والاكتفاء بما فقدناه في هذه التجربة والانصراف الى معالجة الاسباب، بدلاً من التركيز على تَمويه النتائج في محاولة فاشلة لتجميلها. لكن، ولأنّ القرار سياسي، ولأنّ الصياغة التي استخدمت في إعلان الخطة بعد جلسة الحكومة الطارئة في 12 حزيران، توحي بأنّ المنظومة السياسية تركّز جهودها على محاربة الانقلابات وليس الفساد والسرقة والهدر، من المرجّح، وربما من المؤكد، انّ هذه السلطة ستُلزم مصرف لبنان بإنجاح خطة الخفض بأيّ ثمن. والثمن معروف، ولا يُخفى على أحد، تسريع الانهيار الشامل، والانتقال من المشهد المأساوي القائم حالياً، الى مشهد أشد سواداً وكارثياً بكل ما للكلمة من معنى.

في هذه الظروف هناك سؤال آخر مطروح: ما سيكون رأي خبراء صندوق النقد الدولي، في هذه الخطة، والطريقة التي اعتمدت لتنفيذها؟ وهل ستساعد هذه الخطة في تسهيل المفاوضات والوصول بها الى خواتيمها السعيدة، أم ستساهم في تعقيدها أكثر مما هي معقدة؟

لا حل لأزمة انهيار الليرة سوى من خلال البدء في تنفيذ خطة إنقاذية تعيد الامور تدريجاً الى مسارها الصحيح. والمسار الصحيح لأيّ خطة إنقاذ يبدأ باعتماد التسلسل الذي أعلنه رئيس الجمهورية في 12 حزيران الجاري، في تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر على الشكل التالي: الحكومة (الدولة) مصرف لبنان والمصارف. وقد أرفق هذا التسلسل بتأكيد حماية ودائع الناس. وهذا ما أكده رئيس الحكومة حسان دياب أيضاً، في معرض كلمته التي أعلن فيها إحباط الانقلاب.

اذا كان رئيس الجمهورية مؤمناً بهذا التسلسل في تحديد المسؤوليات والخسائر في الأزمة المالية والاقتصادية التي وصل اليها البلد، واذا كان رئيس البلاد ورئيس الحكومة مُقتنعين، وتعهّدا بحماية ودائع الناس، فمَن وضع إذاً خطة الانقاذ الحكومية التي اعتمدت تسلسلاً مختلفاً لتوزيع الخسائر يَستثني أيّ مسؤولية على الحكومة، ويحصر توزيع الاضرار بالمودعين، من خلال تدمير القطاع المالي اللبناني؟

هناك تناقض في هذا الموضوع تستحيل معالجته سوى من خلال تصحيح الخلل في الخطة الحكومية، لأنّ تنفيذ تعهدات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يستوجب هذا التصحيح فوراً، أو التراجع عن هذه التعهدات لأنها تصبح غير واقعية، ولن يصدّقها عاقل.

انطوان فرح.