أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

مفاجآت مصرفية من العيار الثقيل

في لبنان، لن تكون المرحلة المقبلة  شبيهة بما مرّ حتى الآن على مستوى العلاقة بين الثلاثي «المتهم» بالأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت البلد. وما سنشهده بين السلطة السياسية ومصرف لبنان والمصارف التجارية، لن يكون مجرد تعاون للخروج من المأزق، بل قد يتحوّل الى مواجهات «دامية»، لأنّ الأزمة أصبحت قضية وجود.

شكّل البيان المُسهب الذي أصدرته جمعية المصارف اللبنانية نقطة تحوّل في العلاقة بين القطاع والدولة. ولن يكون هذا البيان سوى البداية، إذ قد تليه مرحلة قاسية من المواجهة المباشرة مع السلطة السياسية مُمثّلة بحكومة حسّان دياب.

ولا بدّ من الاعتراف بأنّ المصارف خسرت حتى الآن، وفي منظور الرأي العام، كل المواجهات التي خاضتها لإبعاد الاتهامات عنها في موضوع احتجاز وتبديد الاموال. لكن في المواجهة الأخيرة، وعلى طريقة «رمية من دون رامٍ»، خرجت المصارف رابحة، وبدّلت ولو بنسبة ضئيلة، في حجم المسؤولية التي يُحمّلها لها الناس في مسألة ضياع أموالهم. واستفادت المصارف من الثغرة التي فتحتها الحكومة في خطتها الإنقاذية، والمتعلقة بالـHaircut، لتصطف الى جانب حقوق المودعين. وهكذا بدا المشهد وكأنّ الحكومة هي الجهة التي تسعى الى مصادرة اموال الناس، والمصارف، ومعها مصرف لبنان يرفضون هذا النهج، ويصرّون على المحافظة على ودائع الناس بالكامل. ولم تتوقف المواجهة عند هذا الحد، بل انتقلت الى الجبهة السياسية، حيث اضطرت جهات سياسية موالية ومعارضة الى اتخاذ موقف واحد معارض لنهج الاقتطاع من الودائع. وصار المشهد العام يوحي بأنّ الحكومة في جبهة، ومصرف لبنان والمصارف والقوى السياسية والناس في جبهة أخرى.

اذا أضفنا الى هذا العامل، عنصراً آخر يتعلّق بالقلق الذي أثارته بعض النقاط المحدّدة في الخطة، من احتمال تغيير خارطة توزيع ملكية القطاع المصرفي، أو من احتمال ضرب القطاع من دون ايجاد البديل، بحيث يصبح ملء الفراغ ممكناً من قِبل جهات تتربّص للانقضاض على هذا القطاع، وفرض واقع مالي جديد، يمكن القول عندها، إنّ المصارف التي كانت تشعر بأنّها مُستفردة شعبياً وسياسياً (في العلن على الأقل)، برغم بعض التداخل، بين العائلات السياسية ومصالحها وبين أصحاب المصارف، أصبحت اليوم في وضع أفضل، وتحظى بدعم سياسي وأحياناً روحي، علني لضمان وجودها.

انطلاقاً من هذه النقطة، ما هي معالم المرحلة المقبلة، وما هي الحقائق والخيارات المتاحة أمام المصارف؟

في المؤشرات والمعلومات، انّ النهج الذي ستتبعه المصارف سيكون مغايراً للنهج السابق، وستكون هناك خيارات عدّة من ابرزها ما يلي:

اولاً – التخلّي عن سياسة الدفاع عن النفس، واتباع نهج المواجهة العلنية مع الدولة، من خلال التركيز الإعلامي على المسؤولية الاولى التي تتحمّلها الدولة، في الوصول الى حال الافلاس التي وصل اليها البلد.

ثانياً – استخدام نقاط القوة التي تملكها المصارف، ومن أهمها التركيز على رفض المسّ بودائع الناس.

ثالثاً- تحاشي فتح جبهة مواجهة مع مصرف لبنان، والتعاطي مع الموضوع من زاوية انّ المصارف التجارية ومصرف لبنان في جبهة واحدة، لأنّهما ضحية السلطة التي بذّرت الاموال.

رابعاً- إقامة دعوى قضائية في وجه الدولة اللبنانية في الداخل أو في الخارج، وفق الاسلوب نفسه الذي قد يتبعه المستثمرون الأجانب من حَمَلة «اليوروبوند» للمطالبة باسترداد اموالهم. هذا الموضوع، ولو أنّه غير محسوم، لكنه طُرح، وكلما زاد الضغط على القطاع، كلما أصبح احتمال اعتماده مُرجّحاً.

في الموازاة، سيتبّع حاكم مصرف لبنان نهجاً مختلفاً عن النهج السابق في طريقة التعاطي مع المستجدات، وقد يتخلّى عن اسلوب ردّة الفعل المتحفظة (Passive) لينتقل الى الفعل (Active). والمقصود هنا، انّ سلامة، الذي اعتاد شراء الوقت للسلطة بانتظار ان تحسم أمرها للبدء في المعالجة، لن ينتظر هذه المرة، وسيبدأ في أخذ مبادرات تتيحها له القوانين المرعية الإجراء. وفي الخيارات والاحتمالات المتاحة امام حاكم المركزي التالي:

اولاً- التعاطي المباشر في حلحلة وسدّ بعض الثغرات، كما هي الحال مثلاً في موضوع إنشاء وحدة للتجارة بالعملات في مصرف لبنان، هدفها التفاعل مع السوق المالية الموازية للجم سعر صرف الدولار بالحدود الممكنة على المدى القصير.

ثانياً- اعتماد نهج مختلف في التعاطي مع الرأي العام، بحيث قد يعمد الى تكثيف الإطلالات الاعلامية، لإتاحة الفرصة لمصارحة الناس بالوقائع سواء المتعلقة بتوصيف اسباب الوصول الى هذه المصيبة، أو لجهة كيفية تجاوز مفاعيل الأزمة. وبالتالي، لن يصمت سلامة بعد اليوم، وسيصارح الناس في حال اضطر الى مجاراة السلطة السياسية، لأنّ فلاناً من السياسيين النافذين ضرب على الطاولة وقال له لن ندفع (استحقاق اليوروبوند في آذار)، أو لأنّ فلاناً قال له بلغة الجزم، إدفع من اموال المركزي لتمويل هذا المشروع العام أو ذاك.

ثالثاً- المباشرة في إعادة هيكلة ذاتية للقطاع المصرفي، من خلال تشجيع الدمج بين مصارف لا تزال تملك امكانات مقبولة، وحجم انكشافها على الدين العام مقبول أيضاً، وبين مصارف مكشوفة تماماً وغير قادرة على تلبية مندرجات تعميم رفع الرساميل الخاصة بنسبة 20%. وقد انقضت مهلة الـ10 في المئة الاولى، ويستحق في حزيران موعد زيادة الـ10 في المئة الثانية. وسيضطر مصرف لبنان الى دفع بعض الاموال التحفيزية لتشجيع وإنجاز الدمج، أو وضع اليد على مصارف متعثرة لإعادة تشغيلها بإدارة جديدة.

رابعاً- إصدار مجموعة تعميمات تتعلق كلها بمعالجات آنية لأزمات برزت على ضفاف الأزمة المالية التي ضربت البلد.

في الواقع، ينبغي أن يتحضّر اللبنانيون، وبصرف النظر عن المواجهات الداخلية، سواء حصلت أم لا، لمرحلة صعبة موجعة. وينبغي ان يكون مفهوماً، انّ الوجع الأكبر لن يكون ناتجاً من اجراءات قد تتخذها الحكومة لتنفيذ خطط انقاذية، (مثل الرسوم والضرائب والحسومات وتخفيض التقديمات) بل عن الواقع الذي لا يمكن تغييره، والذي يشير حتى الآن، الى أنّ حجم الاقتصاد سيتراجع الى النصف، نسبة البطالة سترتفع بشكل مرعب، منسوب الفقر سيشمل شريحة واسعة جداً من الناس، القدرة الشرائية للمواطن ستتراجع بنسب يصعب تقديرها لكنها قد لا تقل عن 200%، وستكون السنوات الثلاث المقبلة على الأقل، سنوات عوَز وحرمان.

انطوان فرح.

“بلومبيرغ”: لبنان يتخلى عن تثبيت الليرة

نشرت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية تقريراً عن تعميم مصرف لبنان الأخير الذي يحمل الرقم 13221 والعنوان التالي: “إجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات بالعملات الأجنبية”، معتبرةً أنّه يندرج في خانة العلامات التي تشير إلى أنّ لبنان يفك ربط الليرة بالدولار، أي سياسة تثبيت سعر الليرة عند 1507.5 مقابل الدولار.

وأوضحت الوكالة أنّ التعميم يتيح لأصحاب الحسابات المودعة بالدولار سحب أموالهم بالليرة، وفقاً لسعر السوق. وينص التعميم على أنّه “في حال طلب أي عميل لا يستفيد من أحكام القرار الأساسي الرقم 13215 تاريخ 3/4/2020 إجراء أي سحوبات أو عمليات صندوق نقداً من الحسابات أو من المستحقات العائدة له بالدولار الأميركي أو بغيرها من العملات الأجنبية، على المصارف العاملة في لبنان، شرط موافقة العميل المعني، أن تقوم بتسديد ما يوازي قيمتها بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق، وذلك استناداً إلى الإجراءات والحدود المعتمدة لدى المصرف المعني… وعلى المصرف المعني أن يبيع من مصرف لبنان العملات الأجنبية الناتجة عن العمليات المشار إليها”، مضيفاً: “تبقى سائر العمليات بالدولار الأميركي التي تقوم بها المصارف مع عملائها خاضعة للسعر الذي يحدّده مصرف لبنان في تعامله مع المصارف”.

وفي تحليلها، اعتبرت الوكالة التعميم بمثابة الإشارة الأخيرة الدالة إلى أنّ السلطات اللبنانية تتخلى عن سياسة تثبيت الليرة المتبعة منذ عقود، مشيرةً إلى أنّ الدولار يُباع بـ3200 ليرة في السوق السوداء.

وفي السياق نفسه، ذكّرت الوكالة بتعميم المصرف المركزي الذي استهدف أصحاب الحسابات التي يبلغ أقصاها 3 آلاف دولار، معتبرةً أنّ مصرف لبنان اتخذ آنذاك خطوته الأولى في مسار فك ربط الليرة بالدولار؛ فبموجب التعميم المذكور أتيح للمصارف إغلاق الحسابات التي تقل عن 5 ملايين أو 3 آلاف دولار بسعر السوق (2600 ليرة للدولار). يُذكر أنّ المركزي منع المؤسسات المالية غير المصرفية التي تستقبل تحويلات إلكترونية من أن تدفع بالدولار، إذ فرض عليها دفعها بالليرة، استناداً إلى سعر السوق أيضاً.

من جهتهم، يحذّر الخبراء من خطورة تعاميم المركزي، إذ يتخوفون من حصول تخضم مفرط “hyperinflation” من شأنه أن يودي بقيمة الليرة الشرائية إلى الحضيض. وينبّه الخبراء أيضاً من ارتفاع الطلب على الدولار، وبالتالي ارتفاع سعره أكثر.

وعلى مستوى الـ”هيركات”، يؤكد الخبراء أنّه بموجب التعاميم الأخيرة سيخضع اللبنانيون لـ”هيركات”، موضحين أنّ الفجوة بين سعر الصرف المعمول به لدى مصرف لبنان والمصارف والمقدّر بـ1515 ليرة، وبين السعر الفعلي في السوق السوداء المقدّر بـ3200 ليرة تفوق الـ 115%؛ باتت ورقة المئة دولار تساوي 3200 ليرة لبنانية بعدما كانت تساوي 150 ألف ليرة فقط.

وفي هذا الإطار، حذّر الصحافي الاقتصادي محمد وهبة من تجاوز سعر صرف الليرة في السوق السوداء “3 آلاف ليرة أو 4 آلاف ليرة أو 5 آلاف ليرة أو ربما أكثر”، متوقعاً أن يعمل المصرف المركزي على “طبع المزيد من الليرات لإمداد المصارف بسيولة تكفي لتسديد الودائع”. ويضيف وهبة في تحليله: “المودع سيدفع الثمن مباشرة عبر “هيركات” مباشر على وديعته يمثّل الفرق بين سعر الصرف السوقي المحدّد من مصرف لبنان بقيمة 2600 ليرة، وسعر الصرف الفعلي في السوق البالغ 3250 ليرة. نسبة الهيركات ستبلغ 20% وربما تزداد مع الوقت، بما أن الليرات المسحوبة من المصارف ستشكّل طلباً إضافياً على الدولار، ما يؤدي إلى ارتفاع إضافي في سعر الصرف”.

بدوره، اعتبر الاقتصادي ورئيس مجلس إدارة FFA Private Bank جان رياشي عملية تحويل الودائع بالدولار إلى الليرة أو “لولرة الودائع” أسوأ طريقة لحل مشكلة الخسائر؛ يتضمن “برنامج الإصلاح الحكومي” توزيعاً لخسائر إجمالية بقيمة 83 مليار دولار سيتحملها مصرف لبنان والمصارف ودافعو الضرائب. وتُقدّر الخسائر المتراكمة في ميزانية مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بـ 42.8 مليار دولار، بحسب اللجنة الحكومية والمستشار المالي “لازار”. وتوقع رياشي أن يتأثّر المجتمع اللبناني ككل بهذا القرار، منبهاً من أنّه “سيحول دون حصول تعافي اقتصادي فعلي”. وأكّد رياشي أنّ السياسيين اللبنانيين يرفضون الحلول الحقيقية، مشيراً إلى أنّهم يدّعون حرصهم على أموال المودعين. وشدّد رياشي على أنّ “لولرة” الودائع تعني أن نسبة الـ”هيركات” ستكون مرتفعة جداً وتقضي على فرص تعافي الاقتصاد.

أزمة لبنان المالية: حَقائِق الدَين العام ومُقتَرَحاتُ حُلول

تَتَكَشَّفُ الأرقام لتُؤَكِّد الحَقيقة المُوجِعَة: إنَّ مَجموع الدَين العام يَتجاوزُ في الواقِع ٣٠٠٪ من إجمالي الناتِج المَحَلّي، وهو أعلى مُعَدَّل في العالَم لم يَسبِق له مَثيل.

هيَ الأزمَة تَتَجَلّى بأشَدِّ صوَرِها بؤساً وتؤَشِّرُ الى التَداعيات الكُبرى على حياة اللبنانيّين واستِقرارِهم الاقتِصادي والاجتِماعي.

اخيراً، بدَأت الأرقام تَخرُج الى العَلَن وأمكَنَ تَجميعُها وتَحليلُها والإرتِكازُ علَيها لمَعرِفة ما ستَؤولُ اليه أحوالُ البِلاد والعِباد.

ولأنَّ مِن حَقِّ الناس الوصول الى المَعلومات والحقائِق، ولأنَّ أيّ اجراءات أو حُلول للخُروج مِن الأزمة تستَدعي الإستِناد الى الوقائِع والأرقام الدَقيقة، أعرِضُ في ما يلي بَعضَ ما إتَّضَحَ الى الآن، مِن ارقامٍ ومؤَشِّرات.

 

وفقَ ما صَدَر رسميّاً عن وزارة الماليّة، بَلَغ حَجمُ الدَين العام ٩١،٦٤٢ مليار دولار لغاية ٣١ كانون الأول ٢٠١٩، يُضاف الَيه الإلتِزامات المُتَرِتبّة على الدَولَة، غَير المَدفوعَة، لِصالِح الضَمان الاجتِماعي (ما يُعادل حَوالي ٢،٢ مليار دولار )، ولِصالِح مؤَسَّسَة ضَمان الوَدائِع ولصالِح المُتَعهِّدين والمُستَشفيات، وتَعويضات إستِملاكات و … والمُقَدَّرة كُلّها بِحَوالي ٥ مليار دولار .

 

كما تُضاف خِدمَة الدَين العام للفَصل الأوَّل من العام ٢٠٢٠ بِما فيها الكُوبّونات (فوائِد نِصف سَنويّة) على مِحفَظة اليوروبوندز .

 

استِناداً الى كُلِّ ذلك، يُمكِن تَقدير حَجم الدَين العام راهِناً بِما لا يَقِلّ عن ١٠٠ مليار دولار، هوَ الدَين الحُكومي.

 

وعلى مُستوى موازٍ ، فإنَّ الأموال «المُتَبَخِّرة» مِن مَصرِف لبنان أو ما اصطُلِحَ على تَسميَتِه الفُجوَة في حِساباتِ المَصرِف المَركزي، تَبلُغ بحَسَب المُعطَيات المُتَوَفِّرة حوالي ٥٠ مليار دولار، قَد تَزداد مَع ظهورِ كامِل الأرقام الحقيقيّة ومَع مُساءَلة الحاكِم الذي لَمْ يَكشُفْ لغاية الآن عن كُلِّ الحِسابات. مَع العِلمِ أيضاً بأنَّ مُفوَّضي المُراقَبة تَحَفَّظوا عَن إبداءِ رأيٍ إيجابي (Disclaimer) بالمبادِئ المُحاسَبيَّة المُعتَمَدَة في مَصرِف لبنان مُنذ بِضعِ سَنوات.

 

تَكوَّنَتْ هذِه الفُجوَة، نتيجَةَ الهَندَساتِ الماليّة الإستِنسابيّة وعمَليّات السواب التي قامَ بها مَصرِف لبنان، وتَشجيعِه دَفعَ فوائِدَ بمُعَدَّلاتٍ مرتفِعَة على إيداعات الدولار، خُصوصاً لغَيرِ المُقيمين وعلى الودائِع الإئتِمانيّة، وتَغطيةً لِكُلفَةِ الكَهرَباء ولصافي العَجزِ في الميزان التِجاري.

 

في هذا السياق، كان مُلفِتاً للإنتِباه ما صَرَّحَ به حاكِم مَصرِف لبنان مُؤَخَّراً بأنَّه يُسَجِّل في دفاتِره حِساب overdraft بِقيمة ١٥،٥ مليار دولار يَعتَبِر بأنَّه دفَعَها عَن الدَولة ومؤسَّسَاتها، لَكِنْ مِن دونِ أن يَظهَر لهذا المبلغ مِقابِلٌ واضِح counterparty في حِسابات الدَين العام في وزارة الماليّة، ومِن دونَ أن يُصَرِّح بِها مَصرِف لبنان كَدَينٍ على القِطاع العام Loans to the Public sector حيثُ أنَّ رَصيد هذا البَند في دفاتِره هو صِفر.

 

ما تَقَدَّم يوصِلُنا الى الحَقيقة المُرَّة بالأرقام: إجمالي الدَين العام حاليّاً هو بِحُدود ١٥٠ مليار دولار بِما فيها فُجوَة مَصرِف لبنان !!! .

 

مِن حَقِّ اللبنانيّين أن يَعرِفوا كَيفَ وصَلَتْ الامورُ الى هُنا. مِن حَقِّهِم أن يسألوا ويُحاسِبوا، كَي لا تَتَكَرَّر خطيئَة إنتهاءِ الحَرب مِن دونِ مُصارَحة ومُصالحَة عَميقة حقيقيّة، ومِن دونِ تَحَمُّل المَسؤوليّات.

 

مِن حَقِّ اللبنانيّين أن يَعرِفوا كيفَ ولماذا يَحمِل البَلَد هذا العِبءَ الكبير مِن الدُيون، ومَن إستَفادَ مِن السياسات الفاشِلَة التي أوصَلَتنا الى هُنا، في حين أنَّ لبنان لَمْ يَكُن في أيلول ١٩٧٦، أي بَعدَ سَنةٍ ونِصف مِن إندلاع الأحداث في ١٣ نيسان ١٩٧٥، مَديناً بأيِّ قرش؛ ولَمْ يَكُنْ دَينُه عام ١٩٩١ يَتجاوَز ١،٨ مليار دولار مُعظَمُه بالليرة اللبنانيّة.

 

اليَوم، يُعاني لبنان واللبنانيّون مِن مَديونيَّةٍ عامّة كَبيرة ومِن مشاكِل مُتعَدِّدة ومُتَداخِلة تفاقَمَت مع السَنوات مِن دونِ أنْ تُبادر حُكومات ما بَعد الطائف إلى حَلِّها.

 

فمَجموعُ الدَين العام الحُكومي بما فيه الفوائد المُترتّبة لغاية تاريخه والتزاماتُ الدَولة غَير المَدفوعة، مَع فُجوَة مَصرِف لبنان التي تَتَعاظَم مع إنكِشاف الأرقام، يتَجاوز كما أسلَفنا ٣٠٠٪ من إجمالي الناتِج المَحَلّي، وهو ما يُشَكِّلُ سابِقة على مُستوى العالم. تَـأتَّـى هذا الحَجمُ الكبير للدَين مِن خَياراتٍ وتوَجُّهاتٍ اقتِصاديّة رَيعيّة المَنحى وسياساتٍ ماليّة – نَقدِيَّة خاطِئة مُنذُ التِسعينات، جَرى طَمسُ سَلبيّاتِها وآثارِها عَبرَ «سياسة الطَرابيش» إمعاناً في المُكابَرة وعَدَم تَحَمُّل المَسؤوليّات.

 

تَتَعَدَّد الأسبابُ التي أوصَلَتنا الى ما نَحنُ عليه اليَوم وتَتداخَل، لَكِن يُمكِن تلخيصُ أهمِّها بسَبعِ نِقاط:

 

١- تَزعزُعُ سُلَّمِ القِيَم وإنقِلابُ المفاهيم، وهو ما تُرجِم في أحَدِ وُجوهِه السَعي وراءَ الرِبح السَريع من خِلال اقتِصاد الرَيع والفوائِد وعدَم تَبنّي سياساتٍ تُعطي الاولويّة لزِيادة الإنتاج، سِلَعاً وخدَمات، وغياب أيِّ سياسة وطنيّة تُشَجِّع على المُبادرات الفَردِيّة او الجَماعيّة الخَلاّقة المَبنيّة على التَمَيُّز عِوَضَ التسطيح والاستِعراض.

٢- غيابُ استقلاليّة القَرار الوَطني طِوال سَنواتٍ خَلَت. فاللبنانيّون الذين إرتَضوا الميثاق عام ١٩٤٣ وحاوَلوا إقامَة دولةٍ استَفادتْ من ظروفٍ تاريخيّة لتكونَ «سويسرا الشَرق»، غَرِقوا في محاوِر ليكتَشفوا اليَوم أنَّ ربطَ مَصيرِهم بسوريا أو مِصر أو السعوديّة أو إيران او اميركا، كان مُدَمِّراً للاقتِصادِ اللبناني وللنَسيجِ الوَطني.

٣- العَجزُ التِجاري الناتِج عَن نموذَجٍ إقتِصاديٍّ ارتَكَزَ مُنذُ التِسعينات على تَوَجُّهاتٍ رَيعيّة وعلى الإستِهلاك بَدَلَ الإنتاج، مِمّا انعَكَسَ عَجزاً تراكُميّاً في ميزان المَدفوعات، فاقَمَتهُ أزمةُ النُزوح السوري التي كَلَّفَتْ الاقتِصاد اللبناني كَكُلّ ما لا يَقلّ عن ٢٥ الى ٣٠ مليار دولار، يُضاف اليه نَقصٌ بحوالي ٩٠٠ مليون دولار سنَويّاً في ايرادات الدَولة ناجِمٌ عن هذه الأزمة، وذَلِك وَفقاً لتقرير صُندوق النَقد الدَولي.

٤- العَجزُ المُتراكِم في حِساباتِ الدَولة التي جَرى إدارتُها لبِضعِ سنَوات دونَ موازناتٍ ودونَ ارقامٍ صَحيحة. وقَد تفاقَمَ العَجز المالي نتيجةَ خِدمَة الدَين العام وسِلسِلَة الرُّتب والرَواتِب غَير المَدروسة وكُلفَة الكَهرباء العالية التي تأخَّر إنجازُ خُطَطِها نتيجَة المُماحكات السياسيّة العَقيمة.

٥- العَجزُ في الثَروة الوطنيّة الماليّة بالعُملات الاجنبيّة، الذي يَبدو بأنَّه سيَتَجاوز الـ ٥٠ مليار دولار أي حَوالي ٤٢٪ الى ٤٣٪ مِن مُدَّخَرات اللبنانيّين بالعُملات الأجنبيّة، وقَد تَظَهَّرت هذه الفُجوَة في حِسابات مَصرِف لبنان.

٦- عَجزٌ في القِطاع المَصرِفي تمَثَّلَ نَقصَاً في السُيولة بالعُملات الأجنَبيّة وسيتَظَهَّر تِباعاً أزمةً في الملاءَة. وهوَ ما جَعَلَ اللبنانيّين يَعيشون الإذلال على أبوابِ المَصارِف للحُصول على بِضعِ مئاتٍ من الدولارات شَهريّاً مُنذُ تشرين الأوَّل المُنصَرِم.

٧- أزماتٌ اجتِماعيّة جاءَتْ نتيجةً لتَراكُمات كُلِّ الأسباب الآنِفة الذِكر، وتَمَظهَرَت بمُعَدَّلاتِ بَطالة خَطيرة تَتَراوح وفقَاً لتَقديرات ما بَين ٤٠٪ و٥٠٪ . تَرافَقَ ذلك مع إقفالِ الكَثير مِن المؤَسَّسَات وما يَعنيه مِن تَداعياتٍ على أُسلوبِ عَيش اللبنانيّين مِن تَعليمٍ وطَبابةٍ الى المأكَلِ والمَسكَنِ وما بينهما مِن اهتِماماتٍ ثقافيّة وفِكريّة وبَحثيّة.

 

قَد تَكونُ هَذِه ابرَز عناوينِ اسباب ازمَتنا الإقتِصاديّة، وإنْ أمكنَ تِعدادُ مِئاتٍ غَيرها. أمّا كَيفَ الخُروج مِن هذه الأزمات مَعاً، فاللائحةُ تَطول، وقَدْ أَسهَبَ الخُبَراء بِعَرضِها مؤَخَّراً.

 

إلّا أنَّ أُولى الحُلول تَنطَلقُ برأيي مِن حاجَتِنا الى رجالٍ احرار يَنذُرونَ أنفُسَهُم لبناءِ وطنٍ مُتَخَفِّفين من حِساباتِ الأنا والرِبح او الخِسارة، مُتَرَفِّعين عن المالِ العام والتَعاطي مَعهُ كَمِثلِ مَالِ الوَقف.

 

ومِن أهَمِّ الخُطُوات التي أقتَرِحُها:

١- إقرارُ كُلّ قوانين مُكافَحَة الفساد، والعَمَل على إظهار كُلّ الحقائق الماليّة والنَقديّة، وكَشف المُخالفات والتَعديّات على المال العام.

٢- العَمَلُ على خَلْقِ شَبكَة أمانٍ سياسي، والدَعوَة الى مؤتَمرِ حِوارٍ وطَني بَين القيادات السياسيّة، عَلَّنا نَصِلُ الى بَعضٍ من توافُقٍ وطَني في هذه المَرحلَة الحسّاسة.

٣- إتّخاذُ سَلَّةٍ مِن الإجراءات لِتَحفيزِ الإنتاج الوطني مِن اجلِ تخفيضِ فاتورة الإستيراد وزيادة الصادِرات خُصوصاً السِلَع ذات القيمَة المُضافَة العاليَة.

٤- إقرار ُقانون المُنافَسة الذي تَمَّ إنجازُه في وزارة الاقتِصاد والتِجارة خِلال العام ٢٠١٩ وأُرسِلَ في حينِه الى مَجلِس الوزراء؛ وهوَ يُساهِمُ بفَكفَكة الإحتِكارات التي لَمْ يَعُدْ لها مَثيل في عالَم الإقتِصاد الحُرّ.

٥- إعادةُ هَيكَلَةِ الدَين العام وشَطبُ الجُزء الأكبَر مِن حَجمِه وتَخفيضُ مُعَدَّلِه الإجمالي مِن ٣٠٠٪ حاليّاً الى اقَلّ من ٨٠٪ من الناتِج المَحَلّي، مِن خِلال سَلّة إجراءاتٍ فوريّة وأُخرى متوَسِّطة وطويلَة الأمَد.

٦- تَصفيرُ العَجز المالي في ما عدا العَجز الناجِم عَن الإنفاق الإستِثماري المُحَفِّز للنُمُوّ. في هذا الإطار، يُفتَرَض العَمَل، مِن دون أيّ إبطاء، على تَصفير ِعَجزِ الكَهرَباء.

٧- إقرارُ نِظامٍ ضَرائِبي جَديد يَرتَكِزُ على الضَريبة التَصاعُديّة على الدَخل وعلى الصَحن الضَريبي المُوَحَّد للأُسرَة، مَع الحِرص على عَدَم المَسّ بذَوي الدَخل المَحدود.

٨- إجراءُ تَخفيضٍ إضافي لمُعَدّلات الفوائِد الدائِنة والمَدينة بالليرة اللبنانيّة والدولار، بِما ينعَكِس إيجاباً، وبِشَكلٍ فَوري، على الحَرَكة الإقتِصاديّة وعلى كُلفَة الدَين العام.

٩- إعادةُ هيكَلَةِ المَصارِف ورَسمَلَتِها وتطويرُ القِطاع المَصرِفي ليواكِب الحداثَة ومُستَلزَمات بازل، وليَكونَ رافِعةً للإقتِصاد المُنتِج عِوضَ أنْ يَبقى أجيراً في خِدمةِ اقتِصاد الرَيع.

١٠- تَطويرُ أنظِمَة الحِماية الاجتِماعيّة والصِحيّة لتُصبِحَ اكثَر عدالةً ولتَشمُل تَغطيَتُها كُلّ فئات المُجتَمَع اللبناني.

 

هَذهِ كُلُّها عَناوين اساسيّة يَندَرجُ تَحتَها عَشَراتُ العَناوين التَفصيليّة لِحُلولٍ ، مَهما حاوَلنا التَخفيفَ مِن وطأَتِها، ستَكون مُوجِعَة. فكَيفَ يَكونُ اجمالي دَينُنا العام ١٥٠ مليار دولار ونَتَوقَّع حُلولاً سَهلَة؟

 

لَكِنَّ المُهِم، عِندَ تَوزيع أعباء الدُيون والآم الخسائِر، أنْ يَتَحَمَّلَ مُسَبِّبوها ومَنْ استَفادوا مِنها العِبءَ الأكبَر، وأنْ تَتِمّ حِمايةُ الناس ذَوي الدَخلِ المَحدود الذين خَسِروا الى الآن حَوالي ٤٠٪ مِن مَداخيلِهم مَع تَراجُعِ سِعر العُملَة الوَطنيّة امامَ الدولار.

 

وكُلُّ كَلامٍ وسُلوكٍ مُغايرٍ جَريمةٌ مُتَماديةٌ على أبسطِ حُقوقِ الناس بحَياةٍ كَريمَة، وإمعانٌ في سَرِقَتِهم بالمِعنى الحَرفيّ لِلكَلِمة، كما بإستِعارَتِها المَجازيّة: سَرِقَةُ غَدِهِم وحُلمِهِم بوَطنٍ مُشتَهى قابِلٍ لِلحَياة.

منصور بطيش.

أزمة لبنان المالية: خطة دياب في مرمى النيران الصديقة

سوف تفرض الخطة الانقاذية نفسها على التطورات في الايام المقبلة، وستتعرّض للتشريح بالطول والعرض، وسيُقال فيها الكثير مدحاً وذماً، لكن أخطر ما قد يحصل هو ان ينتهي الأمر الى إسقاطها من دون إيجاد البديل.

تقع الخطة الانقاذية في مسودتها الانكليزية في 34 صفحة، وهي من حيث الشكل صيغت بأسلوب احترافي، لا يختلف كثيراً عن الخطط التي تضعها حكومات الدول التي تعرّضت لحالات إفلاس وتوقُّف عن الدفع، وسَعت الى التفاوض لإعادة هيكلة ديونها. وفي مثل هذه الاوضاع، تصبح الخطط الانقاذية بمثابة أوراق اعتماد تقدّمها الحكومات الى الدائنين لإقناعهم بالتفاوض والقبول بشروط جديدة للدين. وبقدر ما تكون هذه الخطط واقعية ومُقنعة، بقدر ما تكون المفاوضات أسهل وأسرع في التوصّل الى اتفاقات.

بصرف النظر عن الملاحظات الايجابية والسلبية التي يمكن إيرادها حول نقاط كثيرة في مضمون الخطة المقترحة، تجدر الاشارة الى انّ الحكومة تقارب مسألة الاستعانة بصندوق النقد الدولي بذهنية منفتحة تعكس قناعتها بأهمية هذا التعاون، لا سيما لجهة عامل الثقة الذي يؤمّنه هذا التعاون لإنجاح أي خطة انقاذية، بالاضافة الى اعتراف الحكومة بأنّ وجود صندوق النقد ضمانة كبيرة لنجاح مفاوضات اعادة هيكلة وجدولة الدين العام. ومع ذلك، تستخدم الخطة الانقاذية في الصفحة السابعة لغة المواربة لإبراز أهمية الشراكة مع صندوق النقد، من خلال الاختباء وراء من تسمّيهم الخبراء والمستثمرين او ممثلي دول مجموعة الدعم، الذين يدعون جميعاً الى طلب المساعدة من الصندوق. في كل الاحوال، تُعتبر هذه المقاربة، رغم المواربة، بمثابة خطوة مهمة نحو التعاون مع صندوق النقد.

لكن، وبصرف النظر عن الملاحظات المتعلقة بمضمون الخطة، لجهة واقعيتها في تقديم رسم بياني لتطوّر الارقام في السنوات الممتدة بين 2021 و2024، وعدالتها في توزيع الاضرار على المؤسسات، مصرف لبنان، القطاع المصرفي، المستثمرين والمواطنين، قدرتها على تنفيذ الشق المتعلق بالوعود الاصلاحية، هناك نقطتان بارزتان تستقطبان الانتباه:

النقطة الاولى تتعلق بالمقاربة المعتمدة في التعاطي مع القطاع المصرفي (ص 16)، تحت عنوان «إعادة هيكلة القطاع المالي» اذ تستبعد الورقة الاصلاحية اية عملية إنقاذ (bail-out) مستندة في تقييمها الى ما يجري في العالم منذ 2008 لجهة استبعاد خيار إنقاذ أي نظام مالي يُصاب بالانهيار من أموال دافعي الضرائب (المكلفين). وتبرّر الورقة هذا الموقف بأنه لا يمكن تأمين دعم مالي خارجي لتعويض خسائر تَسبّب بها انهيار قطاع مالي داخلي في اي دولة. ولا يمكن لأي حكومة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية تحميل الاجيال المقبلة تسديد خسائر ضخمة من الماضي، مع الاشارة الى انّ خيار الـbail-out غير مُتاح أيضاً، بسبب ضخامة الخسائر المتراكمة في القطاع المالي.

هذا التوصيف المستند الى تجارب عالمية مُستغرب بعض الشيء، لأنّ التشبيه هنا غير منطقي. وما يُحكى عن تجربة الأزمة الاقتصادية والمالية في العام 2008، لا علاقة له بالتجربة اللبنانية الفريدة، اذ إنّ المصارف التي اهتزّت في خلال تلك الأزمة، وفي مقدمها المصارف الأميركية، كانت تعاني خللاً ناتجاً عن خروج على المعايير، وتجاوزاً لأصول المخاطرة في التعاطي مع السوق، وتحديداً في موضوع الرهونات العقارية المرتبطة بقروض الزبائن، وطريقة التوسّع في «تركيب» الاوراق والمحافظ والمنتجات.

لكن في الحالة اللبنانية الفريدة، ما تشكو منه الحكومة وتعتبره انهياراً للقطاع المالي، هو نفسه ما يشكو منه القطاع المالي نفسه، ويعتبره انهياراً للمالية العامة. وفي هذا السياق، تبدو المعادلة عجيبة غريبة، إذ تلوم الحكومة المصارف على سوء التصرّف من خلال إقراض الاموال الى الدولة، أو حتى الى مصرف لبنان الذي بدوره أقرضَ المال الى الدولة. وتعتبر الحكومة التي تمثّل الدولة انها لم تكن زبوناً موثوقاً ينبغي إقراضه! وعليه، لدينا دولة ابتلعت حوالى 100 مليار دولار من اموال الناس في المصارف ومصرف لبنان، وهي عاجزة عن دفع ديونها، وهذا هو لب الأزمة، وكل ما عدا ذلك توصيفات تضليلية لا تقدّم ولا تؤخّر.

في الموازاة، تبقى مسألة إقرار هذه الخطة وواقعية الاعتقاد انها ستمرّ في المجلس النيابي، ومن ثم في صندوق النقد. في الواقع، المجلس النيابي رفض ان يناقش قانون الكابيتال كونترول، لأنه لا يريد أن يعطي الانطباع لدى الرأي العام انه يقف وراء تجميد ودائعهم في المصارف، رغم معرفته انّ الكابيتال كونترول قائم ويُطبّق، وأحياناً بعشوائية. فهل نتوقّع من هذا المجلس أن يقر خطة اقتصادية فيها بنود ضرائبية جديدة، وفيها مبدأ تحميل المودعين، ولو الكبار منهم مسؤولية تحمّل خسائر مالية باهظة، وفيها بنود إصلاحية تقضي بخفض عدد المتعاقدين في الدولة 5 %، وتجميد التوظيف والرواتب لـ5 سنوات، ورفع سعر الدولار الرسمي تدريجاً الى حوالى 3 آلاف دولار، مع إبقاء خانة السعر الموازي مفتوحاً على كل الاحتمالات، ورفع سعر صفيحة البنزين 2000 ليرة عمّا هو عليه حالياً وتثبيته على 25 الف ليرة، وإضافة ألف ليرة على صفيحة المازوت، ورفع الـTVA على السلع الفاخرة (من دون تحديدها) من 11 الى 15 في المئة؟

اذا اعتبرنا انّ الخطة اجتازت المجلس النيابي بعد تهذيبها وتشذيبها على طريقة السياسيين لإرضاء الرأي العام بأسلوب شعبوي كما هي العادة، فهل يمكن لخطة تعرّضت لهذا النوع من التعديل أن تمر في صندوق النقد، وتحظى بموافقته ورعايته؟

قبل الوصول الى المجلس النيابي، هناك من يسأل: هل انّ مسودة هذه الخطة تعكس إجماعاً حكومياً مبدئياً عليها، أم انها خطة رئيس الحكومة حسّان دياب وفريق عمله، وهي ستخضع لمشرحة مجلس الوزراء. وبالتالي، قبل الوصول الى ساحة النجمة، ستتعرّض للنيران الصديقة في داخل الحكومة نفسها، وقد لا تنجح في اجتياز معمودية النار؟

ما هو أكيد انّ رحلة مسودة الخطة الاصلاحية، وبصرف النظر عن شوائبها من حيث المضمون، لا تزال طويلة، وهناك قلق مُبرّر من أن ينتهي بها الأمر مثل قانون الكابيتال كونترول، مجرد مشروع في البال.

انطوان فرح.

أزمة لبنان المالية: 63 مصرفاً ليس أمامها إلا الدمج أو التصفية الذاتية

في أواخر العام الماضي، طلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المصارف زيادة رأسمالها بنسبة عشرة بالمئة ففعلت. وبموجب التعميم ذاته كان يفترض أن تزيد المصارف عشرة بالمئة ثانية قبل حزيران المقبل، لكن الحاكم وفق بعض المصادر جمّد مفعول التعميم بعدما تبيّن أن المصارف لن تستطيع تلبية طلب الحاكم، لعجزها عن تأمين مستثمرين جدد لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.

مشكلة المصــارف لا تقتصــر على عدم قدرتها على استقــطاب مستــثمرين جـــدد، بعدما دخلـت منذ السابع عشر من تشرين الأول الفائت مرحلة جديدة من تاريخها. القطاع المصرفي الذي كان مصدراً لـ”ثقة الخارج في لبنان”، وتغنى طويلاً بقدراته على جلب الودائع والاستثمارات، صار متهماً من قبل الكثيرين. ساءت علاقته بالمودعين بعدما حجر على أموالهم وصار يقنّن مصروف يومهم من حسابهم بوسائل وصلت إلى حد الإهانة. يكفي استطلاع آراء العشرات كي نعرف كيف تحول موقف المواطنين من المصارف، وصار أي فرد منهم يفضل اللجوء الى أساليب أجداده القديمة للإدخار على أن يؤمن على أمواله في مصرف. ولم يكن مصرف لبنان أسلم وضعاً وقد صارت مصداقيته على المحك.

إزاء هذا الواقع، يواجه القطاع المصرفي معضلتين عليه معالجتهما، تتعلق الأولى بإعادة الهيكلة الشاملة التي بات الحديث عنها جدياً وضرورياً، والثانية إعادة ترميم ثقة المواطنين بالمصارف بعد كلّ الذي حصل.

أظهرت الوقائع في الآونة الاخيرة وجود نحو 63 مصرفاً (بينها 3 مصارف لا تعمل) يملك معظمها نحو عشرين متمولاً. وبيّنت الأزمة عجز المصارف عن الاستمرار، وحاجتهـــا إلى الدمج بنـاء على قانون. هـذه المصارف لم تعد قادرة على جلب مستثمرين جدد فصار الاندماج المصرفي إجراء لا بد منه. ومن هنا يتوقع أن تلجأ بعض المصارف غير القادرة على الاستمرار ضمن المستويات المطلوبة من الرسملة، إلى القيام بتصفية ذاتية أوالتوجه نحو خيار الدمج مع مصارف أخرى. غير ذلك لا ملامح واضحة بعد لخطة إعادة هيكلة المصارف وإعادة هيكلة مصرف لبنان التي تحدثت عنها خطة الحكومة أخيراً، علماً أن إعادة الهيكلة باتت ضرورة ملحة ولكنها محاطة بجملة من الأسئلة: من سيكون قيماً على ورشة إعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان التي اوصلتنا الى الخسائر الفادحة التي منينا بها؟ بالاضافة الى السياسات المالية والنقدية عبر سنوات ومن يعوض على الناس حقوقهم البديهية والتي نصت عليها مقدمة الدستور؟ يسأل وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش.

الهيكلة لا تكفي

أي نقاش بالموضوع يفرض ان يذكر الوزير بطيش بالمستحقات المترتبة على الدولة، بدءاً من أرقام الدين العام الذي بلغ 92 مليار دولار لغاية 31 كانون الأول 2019، تضاف إليه الإلتزامات المترتبة على الدولة، غير المدفوعة، لصالح الضمان الاجتماعي (ما يعادل حوالى 2,2 مليار دولار)، ولصالح مؤسسة ضمان الودائع ولصالح المتعهدين والمستشفيات، وغيرها والمقدّرة كلها بنحو 5 مليارات دولار. كما تضاف خدمة الدين العام للفصل الأول من العام 2020 بما فيها الكوبونات (فوائد نصف سنويّة) على محفظة اليوروبوندز. استناداً الى كل ذلك، يقدّر بطيش “إجمالي الدين العام حاليّاً بحدود 150 مليار دولار، بما فيها فجوة مصرف لبنان التي لم يكن احد في وارد الحديث عنها سابقاً، والتي أشرت اليها قبل عام”.

من يتحمّل مسؤولية كل تلك الخسائر؟ ومن استفاد من كل هذا الواقع غير بعض السياسيين والمصارف وكبار المودعين ومنهم مودعون غير مقيمين؟ ومن يتحمل تلك الخسائر الناجمة عن العجز المتراكم في الميزان التجاري، نتيجة النموذج القائم منذ التسعينات وعجز الكهرباء والهندسات المالية، التي طمست الحقائق والفوائد العالية التي دفعت بالدولار لا سيما لغير المقيمين، الذين قبضوها عملياً من ودائع الناس وحولوها الى الخارج.

لا تُحسد الحكومة على وضعها، “تبذل جهدها في مواجهة أزمة إقتصادية مالية نقدية مصرفية، نتج عنها ازمة اجتماعية وكلها على مستوى الخطـــــورة ذاتهــا لوبــــاء الكورونا”. أرقـام بالجملة ورواتب ومخصصــات خيالية يسردها بطيش، لينتهي منها الى وجوب إعادة النظر بالواقع الحالي من أساسه لكل من المصارف ومصرف لبنان.

ينتقد وجود أربعة نواب لحاكم مصرف لبنان بينما لحاكم مصرف فرنسا المركزي نائبان، يتقاضى كل منهما راتباً سنوياً يبلغ نصف الراتب الحالي لنائب حاكم مصرف لبنان! ويتساءل عن الاعداد المرتفعة لكبار المسؤولين في مصرف لبنان وفي هيئة الاسواق المالية؟

ويكشف بطيش أن راتب نائب حاكم مصرف لبنان 33 مليون ليرة شهرياً مضروبة بـ16 شهراً مع بدل سفر يبلغ 2000 دولار يومياً، بينما يتقاضى الحاكم 3000 دولار يومياً عن بدل سفر!

لا يوافق بطيش قول حاكم مصرف لبنان في ما يتعلق بوجود إحتياط “لأن هذا الاحتياط غير موجود في مصرف لبنان، وهو سلبي لانه جرى التصرف بحدود الخمسين مليار دولار من ايداعات المصارف لديه، والتي هي جزء من ودائع الناس في المصارف وقد تبخر”.

ويوضح ان “ودائع الناس في المصارف بالدولار كانت تقارب 118 ملياراً حتى نهاية العام الماضي، يضاف اليها ما يعادل 40 مليار دولار بالليرة اللبنانية (على اساس 1500 ليرة سعر صرف الدولار). وصرح وزير المال والحاكم انه لم يعد هناك الا 22 مليار دولار، فأين ذهب الاحتياط إذاً وقد اصبح سلبياً، وأين أموال الناس؟ من شروط إعادة الهيكلة ان يكون هناك هبوط آمن ورؤية مستقبلية واضحة، ينفذها رجالات دولة بعيداً من المناكفات السياسية، وفي إطار قانون النقد والتسليف”. وفي حال حصل ذلك بعيداً من المناكفات السياسية، هل من مفاعيل لإعادة الهيكلة؟

تنظير ولا خطط

يستذكر خبير مصرفي التجربة الأميركية التي حصلت العام 1930، حين أعادت الولايات المتحدة هيكلة مصارفها، لكن بناء على إجراءات سليمة وسياسة نقدية للسلطات المعنية لم تؤثر سلباً على المودعين. “لكن الحاصل اليوم أن مسألة اعادة الهيكلة خاضعة للتنظير، فيما الكل ينتظر البرنامج الاصلاحي الكامل المتكامل للحكومة”.

برأيه، لا يستند الحديث عن إعادة الهيكلة إلى دراسة علمية، هي أفكار ومواقف سياسية “بدليل المذكرة التي أرسلها وزير المال غازي وزني الى الحاكم يسأله فيها عن موضوع تخفيض الرواتب”. ويقول المعنيون بشؤون مصرف لبنان إن الحاكم ليست لدية صلاحية البت في مثل هذا الطلب، وإذا تم تطبيقه فستكون له تبعات على رواتب سائر الموظفين نظراً لسلسلة النسب التي تخضع لها الرواتب في الفرق بين راتب وآخر.

“التنظير” يصف به الخبير أيضاً الكلام عن رفض وجود أربعة نواب للحاكم، مبدياً خشيته من ان يكون الهدف من إثارة الموضوع تقليص صلاحيات الحاكم، “كما ان بقاء الحاكم من دون نواب يجعل صلاحيته منقوصة ويفقده القدرة على اتخاذ القرارات”.

لكن بطيش “الضنين بالمصارف” يرفض ما يحصل اليوم، مبدياً حرصه على إعادة هيكلة المصارف وتحديثها لتكون في خدمة إقتصاد الريع، وتعود الى لعب دور في تطوير اقتصاد الانتاج وليس خادماً لاقتصاد الريع. يقول: “ما يهمني ان تلعب الدولة دورها في إطار نظام اقتصادي حر قائم على المنافسة الحقيقية، ولا تسيطر عليه الاحتكارات من اي نوع كانت”.​

غادة حلاوي

مسودة خطة حكومية لأزمة لبنان تتوقع حاجة إلى 10-15 مليار دولار ومساهمة من المودعين

أظهرت مسودة خطة حكومية اطلعت عليها رويترز أن لبنان يحتاج تمويلا خارجيا من عشرة مليارات إلى 15 مليار دولار على مدار السنوات الخمس المقبلة لمساعدته على اجتياز أزمته المالية.

ومسودة الخطة التي يعكف مجلس الوزراء على مناقشتها مؤرخة في السادس من أبريل نيسان، وهي أكثر الخطط شمولا فيما يتعلق بمواجهة الأزمة حتى الآن. والخطة موصوفة في المسودة بأنها ”أساس جيد“ لمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

والخطة، التي قال مصدر إن مستشار لبنان المالي لازارد هو الذي وضع مسودتها، لا تذكر صراحة أن البلاد ستلجأ إلى صندوق النقد الدولي، وهي تحرك يتطلب دعما سياسيا واسعا. لكنها تشير إلى مستثمرين يتوقعون أن تسعي بيروت إلى دعم من صندوق النقد وهو ما سيتيح مزيدا من التمويل.

وبينما ترصد خسائر في الاقتصاد بقيمة 83.2 مليار دولار، أشارت الخطة إلى أن ”صفقة إنقاذ كاملة للقطاع المالي ليست خيارا“.

وتتضمن تفاصيل إعادة هيكلة للمصرف المركزي والبنوك التجارية لتشمل ”مساهمة استثنائية عابرة من كبار المودعين“ وتحدد الخطوط العريضة لصندوق خاص لتعويض خسائر المودعين الناجمة عن إعادة الهيكلة.

وقالت ”كما ذكر رئيس الوزراء، ستتأكد الخطة من أن أصول تسعين بالمئة من المودعين محفوظة“.

وقال رئيس البرلمان نبيه بري لمحافظ البنك المركزي رياض سلامة يوم الثلاثاء إن ودائع الناس في البنوك ”من المقدسات“ ويجب عدم المساس بها.

ومنذ بداية الأزمة، تخلف لبنان لأول مرة عن سداد ديونه الضخمة بالعملة الأجنبية، وبدأ في مارس آذار خطوات نحو إعادة هيكلة الديون.

وفاقمت إجراءات العزل العام بسبب فيروس كورونا المشكلات الاقتصادية التي تشمل تصاعد التضخم وهبوط قيمة العملة وقيود على رؤوس الأموال تحظر على المودعين سحب مدخراتهم بالعملة الصعبة.

* نزول في سعر الصرف

تشير الخطة إلى تراجع سعر الصرف إلى 2607 ليرة للدولار في 2021، وإلى 2979 في 2024. وسعر الربط الرسمي للدولار محدد عند 1507.5 ليرة منذ 1997. وفقدت العملة اللبنانية أكثر من أربعين بالمئة من قيمتها منذ أكتوبر تشرين الأول.

وقالت الخطة إن الدين العام سيتقلص إلى تسعين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027 مقارنة مع أكثر من 170 بالمئة في نهاية 2019.

وتفترض الخطة أن يستفيد لبنان بشكل فوري من دعم مالي خارجي وأن يطبق الإصلاحات بنجاح.

والخسائر البالغة 83.2 مليار دولار ناجمة عن انخفاض قيمة الأصول التي في حيازة المصرف المركزي وانخفاض قيمة محفظة القروض المصرفية وإعادة هيكلة الدين الحكومي.

وتقول إن السلطات ستضع تفاصيل إستراتيجية شاملة لإعادة هيكلة الميزانيات العمومية للبنوك.

وتقول أيضا إن إعادة هيكلة على مراحل لميزانيات البنوك التجارية العمومية ستتضمن عملية إنقاذ كاملة من المساهمين الحاليين تتمثل في شطب رؤوس أموال بقيمة 20.8 مليار دولار، في حين تجري تغطية الباقي البالغ 62.4 مليار دولار من خلال ”مساهمة استثنائية عابرة من كبار المودعين“.

”قيم المساهمة بالضبط ستتحدد بمساعدة مستشارين خارجيين وفي سياق حوار واسع وحسن النية مع البنوك التجارية.“

وتقول الوثيقة إن صندوقا خاصا سيعوض خسائر المودعين من المبالغ القادمة من برنامج سيرصد ويستعيد أصولا مكتسبة بشكل غير مشروع.

وتقدر الخطة خسائر المصرف المركزي المضمنة بنحو 40 مليار دولار، وذلك نتيجة ”سنوات من العمليات المالية الخاسرة“ بهدف جمع احتياطيات من النقد الأجنبي للحفاظ على الربط وتغطية فجوة تمويلية في ميزات المدفوعات.

كم سيبلغ سعر صرف الليرة اللبنانبة نهاية 2020؟

 

طغت تداعيات “كورونا” على ما عداها، على طريقة مصيبة تغطي مصيبة أخرى، لكن المشكلة انّها لا تلغيها، بل تفاقمها وتحضّرها للانفجار الكبير لاحقاً. ومن شبه المؤكّد، انّ المآسي الاجتماعية والمالية والاقتصادية التي ستتظهّر بعد انحسار أزمة “كورونا” ستكون أشد قساوة، وضحاياها اكثر بكثير من ضحايا الوباء الخبيث.

مرّت الحكومة حتى الآن في مجموعة محطات لا توحي بالثقة، إذ نجحت القوى السياسية التي جاءت بها، في تهشيم صورتها، وسحب ورقة الاستقلالية منها، وتحويلها الى مجرد أداة تنفيذية. هذا الواقع يدفع ثمنه البلد، لأنّ الخروج من الكارثة الاقتصادية والمالية يحتاج الى حكومة قادرة على اتخاذ القرارات الاحترافية، بلا تأثيرات سياسية من أصحاب المصالح الخاصة.

في محاكاة تستند الى الوقائع والارقام المتوفرة حتى اليوم، يتبيّن انّ العام 2020 سينتهي على النتائج التالية:

اولاً- تراجع الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان من 22 مليار دولار الى 12 ملياراً، بما يعني انّ الاحتياطي الإلزامي للودائع سيصبح سلبياً بما يوازي 4 أو 4,5 مليارات دولار.

ثانياً- سيتراجع الاحتياطي الإلزامي للمصارف لدى المركزي من 18 مليار دولار كما هو اليوم، الى حوالى 16 أو 16,5 مليار دولار، بسبب تراجع حجم الودائع من 150 مليار دولار الى ما بين 135 و140 مليار دولار، بسبب استمرار النزف في السحوبات والتحويلات، واستمرار سياسة تحويل الودائع الى عقارات، مقابل شطب ديون لأصحاب العقارات في المصارف.

ثالثاً – تقلُّص حجم الناتج المحلي (GDP) من 52 مليار دولار الى 38 أو 40 مليار دولار.

رابعاً – سوف تتكدّس فوائد الدين الداخلي (السندات بالليرة) بما مجموعه حوالى 3,5 مليارات دولار، سوف تُضاف الى المتوجبات المالية على الدولة اللبنانية. بالإضافة الى الفوائد على “اليوروبوند”. صحيح انّ الحكومة جمّدت دفعها، بما يعني تجميد الفوائد ايضاً، لكن ذلك لن يمنع المقرضين من المطالبة عبر القضاء أو عبر التفاوض، بإضافة حوالى 2,5 مليار دولار كفوائد على هذه الديون خلال فترة التجميد.

خامساً- حجم اموال المصارف اللبنانية من العملات الاجنبية، والمتواجدة في القسم الاكبر منها في المصارف المراسلة، سينخفض الى مستويات مقلقة، وسيرتفع عدد المصارف التي لن يبقى لديها اي دولار في الخارج، في حين ستحتفظ المصارف الأفضل حالاً بحفنة يسيرة من الدولارات.

سادساً- مقابل شطب بعض الديون في المصارف من خلال تحويل الودائع الى عقارات، أو اغلاق حسابات صغيرة، أو إغراء المقترضين المليئين بإغلاق قروضهم من خلال إغراءات تقوم بها المصارف حالياً، سيرتفع حجم الديون المتعثرة بنسب كبيرة. ورغم انّه لا يمكن منذ الآن التكهّن برقم محدّد، لأنّ الامر يرتبط بالمدة التي سيستغرقها انحسار وباء “كورونا”، إلّا انّ المؤشرات الحالية سلبية جداً، وقد لا تقلّ نسبة الديون الهالكة عن 40 أو 50 في المئة. بما يعني انّ المصارف ستكون مضطرة الى حجز مؤونات تتراوح بين 20 و25 مليار دولار من رساميلها، أي انّ مجموع رساميل المصارف (حوالى 20 مليار دولار) التي يعتبر البعض انّها ينبغي ان تُستخدم لتغطية الخسائر عندما نصل الى مرحلة الـHaircut ، ستتلاشى لتغطية ديون القطاع الخاص الهالكة. وهنا تجدر الملاحظة انّ المصارف، وعلى خلاف عادتها، لم تُصدر حتى الآن نتائجها المالية للعام 2019. كما انّ هذه النتائج، ستكون كارثية في نهاية العام 2020.

سابعاً – نسبة المؤسسات التي ستضطر الى الإقفال والتصفية، أو الى طرد قسم كبير من موظفيها، سترتفع الى مستويات قياسية. وستصبح ارقام العاطلين من العمل مُرعبة، بحيث انّ استمرار استقرار الامن الاجتماعي في مثل هذا الوضع شبه مستحيل. وستكون المأساة أعمق من اي وقت مضى، لأنّ المحيط الخليجي العربي، والذي كان دائماً سوق العمل الرديف لسوق العمل الضيّق في لبنان، سيكون غير قادر على استيعاب لبنانيين جدد من طالبي العمل، بسبب الوضع الاقتصادي الذي سيلي أزمة “كورونا”، هذا من دون احتساب احتمال اضطرار لبنانيين الى ترك عملهم في الخليج بسبب الأزمة، وتراجع قدرة اللبنانيين على ضخ أموال لعائلاتهم في لبنان، بسبب تراجع مداخيلهم.

ثامناً- تراجع القدرة الشرائية للبنانيين بنِسب كبيرة يصعب التكهُن بحجمها بدقة، لأنّها مرتبطة بمصير سعر صرف الليرة، وهذا بدوره مرتبط بالنهج الذي سيُعتمد في التعاطي مع الودائع المجمّدة في المصارف. اذا أدّى الضغط الى تشجيع سحب الارصدة بالليرة، فهذا يعني انّ الكتلة النقدية الوطنية ستتضخّم. وبقدر ما سيتمّ التساهل في سياسة من هذا النوع، بقدر ما سيتراجع سعر صرف الليرة. وهذا الامر مُقلق للغاية، لأنّ لا سقف للتراجع، وكل التقديرات المتشائمة قد تصبح أقل من الواقع، لأنّ الأداة القياسية قد تصبح بالكيلو وليس بالرقم، ولا يُستبعد ان يدخل سعر الصرف حلقة الخمسة أرقام بدلاً من أربعة، وهذا يعني تعميم الفقر بمفهومه الحَرْفي على أكثر من 85 % من الشعب اللبناني.

هذه المحاكاة تعطي فكرة عامة عن الاتجاه الذي تسلكه الأزمة المالية والاقتصادية في البلد… مأساة بهذا الحجم تحتاج حكومة قادرة على اتخاذ القرارات الاحترافية الصعبة في الوقت المناسب. حتى الآن، القرارات لا تبدو احترافية، بدليل ما جرى في مواضيع صندوق النقد، “الكابيتال كونترول” والتعيينات المالية، والأهم اعلان الإفلاس الفوضوي في 7 آذار الماضي، بدلاً من الذهاب الى الإفلاس المنظّم، من خلال توجيه رسالة الى المقرضين قبل 3 اسابيع من اعلان تجميد الدفع، الامر الذي كان أكسب الحكومة ورقة قوة في المفاوضات المتوقعة. وحتى الآن، من غير المفهوم لماذا اختارت الحكومة الإفلاس الفوضوي بدلاً من الإفلاس المُنظّم، رغم انّها لم تكن لتخسر أي شيء فيما لو اتجهت نحو الإفلاس المنظّم، بما يعني انّها اختارت مجاناً الفوضى التي تُضعف موقفها بدلاً من القانون الذي يقوّي موقفها التفاوضي!

وفي الشق المتعلّق باتخاذ القرارات في الوقت المناسب (Timing)، لا تبدو الحكومة موفقة أيضاً، بدليل انّها منحت نفسها فترة سماح حتى نهاية 2020 للبدء في تنفيذ خطة إنقاذية، لم يظهر منها حتى الآن سوى وعود بالإنجاز في الشهرين المقبلين.

 

(أنطوان فرح)