أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

“خوفان” يتحكّمان بقرار… “9 آذار”

 

التخلّف عن تسديد “اليوروبوندز” وحده لا يُفيد

تتّجه الحكومة في الأيام المقبلة إلى الإمتناع عن دفع سندات “اليوروبوندز” (إستحقاق التاسع من آذار). فالوعي الوطني الذي تجلّى بأبهى صوره برفض دفع الديون، والإحتفاظ بما تبقّى من عملة صعبة لتلبية الحاجات الوطنية الأساسية، شكّل عامل ضغط إيجابياً، أتاح للحكومة أن تُفرمل اندفاعتها المشحونة بتشجيع من المصارف، من أجل تسديد السندات، وهذا جيّد. لكن أخطر ما في الأمر، هو أنه في حال اتّخذت هذا القرار، ألّا تذهب مباشرة وسريعاً إلى صندوق النقد الدولي، لأن كلفة هذا الخيار ستكون باهظة.

الظاهر برأي أحد المسؤولين، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن “الحكومة لن تكون بحوزتها أي خطة فعلية في الأيام القليلة المقبلة”. فعلى الرغم من صوابية ترك القرار بالدفع من عدمه إلى اللحظة الأخيرة، فانه في المقابل كان الأجدى لو تشكلت هذه الحكومة في وقت أقصر بكثير، ولم تُضع الوقت “الثمين” على التقاسم والمحاصصة، والدخول مباشرة في بناء استراتيجية متماسكة ووضع خطوط عريضة وواضحة لإدارة المرحلة المقبلة.

الحاجة إلى “الصندوق”

في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة قرارها بعدم الدفع، تصبح الحاجة إلى تمويل من الخارج أمراً أكثر من ضروري كي يعاود البلد الوقوف على قدميه في أسرع وقت ممكن. لكن هذا الشرط من الصعب ان يتحقق في ظل غياب صندوق النقد، ومع إحجام مختلف الدول عن إقراض دولة لا تملك أدنى فكرة عن كيفية تسديد ما يتوجب عليها من ديون في المستقبل، بحسب المسؤول نفسه.

ويضيف: “القرار الصحيح بعدم الدفع يترافق مع ما يُحكى عن قرارات مجتزأة تنوي الحكومة اتخاذها، مثل إعداد مشروع قانون “الكابيتال كونترول” وملاحقة الاموال المهربة ومساعدة المودعين، وغيرها الكثير من القرارات التي ستتخذ بـ “المفرق”، في حين ان الحاجة هي إلى خطة “ماكرواقتصادية” كاملة وشاملة وموافق عليها من المدينين الجدد”. ويلفت إلى أن “لا أحد يستطيع الوقوف في وجه دولة أعلنت افلاسها مع خطة واضحة وصريحة. كما انه لن يكون هناك من محاكم دولية قادرة على إرغام البلد على ان يمارس عكس قناعاته”. ويردف قائلاً: “هنا تأتي أهمية وجود خطة متكاملة، ليس من باب الواجب فحسب، بل لان الخطة المتكاملة هي الطريقة الوحيدة التي تعبر عن المصداقية أمام المدينين في الداخل والخارج. هذا بالإضافة الى ان عدم وجود الخطة يساهم بإطالة حالة الخدر التي دخلها الإقتصاد”.

التحديات كثيرة

المسار أمام الحكومة للخروج بخطة شاملة ليس معبّداً، بل هو مليء بمطبات إعداد الخطة، ونيل موافقة مجلس الوزراء، وتحضير القوانين اللازمة والدخول في مفاوضات مع صندوق النقد، ومن ثم تنظيم المؤتمرات الدولية لدعم الخطة، وتوقيع اتفاقيات مع البنك الدولي تكفل حماية الفئات الضعيفة التي ستتأثر بشكل كبير، جراء اعتماد سياسات التقشف وتدهور سعر الصرف وفقدان الليرة لقدرتها الشرائية. فالإقتصاد برأي المصدر “سيكمل انكماشه لوقت ليس بقصير، يقدر بأربع سنوات إذا تم التعامل مع الأزمة بطريقة جدية، وجرى تذليل العقبات السياسية وإبعاد تضارب وجهات النظر داخل الحكومة، التي ما زال يرفض قسم كبير منها تدخل صندوق النقد، والأكثرية تخاف من اتخاذ الخطوات الجدية”.

القلق الدائم الذي تعيشه الحكومة من ردّ فعل المودعين “العاديين” المقدرين بأكثر من مليوني مودع، يعجزون عن الحصول على جزء من حقهم، من جهة، والإرتعاد من رد فعل “حزب الله”، الذي رفض جهاراً، مراراً وتكراراً، تدخل “أدوات الإستكبار” بالإستعانة بصندوق النقد الدولي من جهة ثانية. وجهتان لا تلتقيان. فوجود صندوق النقد الدولي كضامن للنتائج وعامل ثقة وموافق على الخطة ومراقب للإصلاحات يمثل غطاءً مطلوباً، لا بل أكثر من ضروري لمواجهة الدائنين الدوليين ووقف اندفاعهم لتحضير دعوات بالجملة والمفرق في وجه الحكومة لتخلّفهــا عن الدفع.

الذي سيحصل بعد التاسع من آذار مخيف. فالإستخفاف بالإستحقاقات المصيرية، وعدم تأمين بديل جدي وقادر، من الممكن أن يحل مكان صندوق النقد الدولي، ليغطي الـ Default المنوي الهجوم به على صناديق ودائنين ذوي باع طويل في مقاضاة المدينين، لن يعرض سمعة لبنان وأصوله للإساءة والملاحقة فحسب، إنما سيفرض ضغطاً إقتصادياً داخلياً هائلاً، ويدفع العملة اللبنانية إلى مستوى غير مسبوق من الإنخفاض.

ففي هذه الحالة سيتأكد للدائنين الدوليين انعدام جدية الحكومة على التفاوض أولاً، وعلى قدرتها على السير بحلول تحفظ أموالهم في المستقبل القريب ثانياً، أما ثالثاً والأهم فسيتأكدون من عدم قدرتها على إرجاع الديون والتعويض عنها​

شراء الدين لا دفعه

 

كثيرة هي الأسئلة حول مصير لبنان بعد التاسع من آذار. فالبلد الذي لم يتخلف يوماً عن دفع ديونه السيادية، يتأرجح اليوم بين خيارين أحلاهما مر. إما التوقف عن الدفع وتحمّل تبعات الموقف، وإما الدفع والتضحية بحقوق اللبنانيين من المأكل والمشرب والدواء.

مقابل الضبابية الحكومية بشأن مصير “اليوروبوندز”، تضيء شاشات الأسواق المالية العالمية باللون الأحمر الفاقع، وهي تؤشر صراحة الى انخفاض قيمة التداول بسندات آذار إلى أقل من 50 في المئة، فيما وصل سعر بعض السندات إلى نحو 35 في المئة من قيمتها، ما يعني ان حاملي السندات فقدوا جزءاً كبيراً من استثماراتهم الأولية.

أمام هذا الواقع يطرح المصرفي نيكولا شيخاني السؤال الأبرز هل لا يزال بإمكان الدولة احترام سنداتها المستحقة في آذار 2020؟ وفي حال قررت الدولة اللبنانية التخلف عن السداد لماذا دفعت حوالى 2 مليار دولار أميركي لخدمة ديون سندات اليورو في الربع الأخير من العام 2019.

ندفع أو لا ندفع

الجواب على هذا السؤال يتطلب من وجهة نظر شيخاني سيناريوين: التوقف عن الدفع أو الدفع، ومن ثم تبسيط النتائج التي من الممكن أن تترتب على كل خيار ممكن اأن تتخذه الحكومة.

في السيناريو الأول، حيث تقرر الحكومة عدم دفع سندات “اليوروبوندز” المستحقة في العام 2020، سينخفض سعر هذه السندات بشكل كبير، وسيقل سعر السندات ذات الاستحقاق اللاحق أكثر. البنوك وشركات التأمين اللبنانية تملك حوالى 16 مليار دولار من السندات موزعة على الشكل التالي: 1 مليار تحملها شركات التأمين و15 ملياراً تحملها المصارف (باستثناء أي عملية بيع تمت حديثاً لسنداتها إلى كيانات أجنبية).

هذه المؤسسات ستكون ملزمة باتخاذ احتياطات على الفور ومراعاة الخسائر المحتملة في المستقبل مع الامتثال الكامل لمعايير التقارير المالية الدولية IFRS9 ؛ وعند مقارنة هذه الأرقام مع رأسمال الشركات، ستؤدي هذه الأحكام إلى اعتبار البنوك وشركات التأمين مفلسة تقنياً (بما في ذلك بنوك ألفا وأسماء في التأمين). نتيجةً لذلك، سيتم الاستيلاء على البنوك المفلسة من قبل البنك المركزي من أجل التصفية أو البيع، وقد يخسر المودعون معظم أموالهم ويتوقف الاقتصاد لفترة من الوقت، حيث لن يتمكن أي شخص من التعامل مالياً من دون وجود قطاع مصرفي. بالإضافة إلى ذلك وفي السيناريو الأسوأ، يمكن لحاملي سندات “اليوروبوندز” الأجانب رفع “دعاوى جماعية” ضد الدولة اللبنانية، مما يسمح للمحكمة الدولية أن تجمد (لأغراض التجميع) أصول الدولة خارج البلاد، مثل الذهب المودع في الولايات المتحدة (حيث يمكن استيعاب البنك المركزي في كيان حكومي وبالتالي يكون مسؤولاً بشكل مشترك مع الدولة)، وستكون سمعة الملاءة المالية للدولة على المحك مما يؤثر على تصنيفها وثقة أصحاب المصلحة الدوليين، ما يزيد من صعوبة إعداد خطة اقتصادية لإنقاذ البلاد وإعادة تجميع السوق للتمويل المستقبلي.

السيناريو الثاني، أي إذا قررت الدولة اللبنانية إحترام سنداتها المستحقة في العام 2020، فبإمكانها القيام بذلك فقط من خلال سحب الأموال من الإحتياطيات الاجنبية في البنك المركزي، لأن الحكومة في حالة عجز وليس لديها أموال. تخفيض الاحتياطيات الأجنبية لخدمة الدين سوف يضع المزيد من الضغط على ربط الليرة، وسيؤدي إلى تقليل القدرات الحكومية لتغطية احتياجات العملات الأجنبية لإستيراد المواد الأولية الأساسية من الغذاء والنفط والدواء. من هنا فإن الأموال المدفوعة لتسديد السندات المستحقة في العام 2020 ستكون في النهاية عملية معاقبة للمودعين وامتصاصاً لودائعهم بشكل غير عادل.

وأخيراً، فإن الدفع يعني أن الحكومة تقبل قرار بعض البنوك ببيع “اليوروبوندز” للمستثمرين الأجانب بسعر يتراوح ما بين 70 إلى 80% من قيمتها مع تجنب تأثير آلية “تبادل” داخلية محتملة، ووعد المشترين الجدد بأن الدولة ستحترم دفع الإستحقاق بنسبة 100% ؛ هذا السلوك الأناني أدى إلى زيادة الامتلاك الأجنبي لـ “اليوروبوندز”، وأضاف تعقيدات كنا بغنى عنها على أي قرار ممكن أن يتخذ.

ما الحل؟

يعتبر شيخاني أن الحل الأفضل هو أن تخصص الأموال المنوي دفعها لسداد الدين الى شراء هذه السندات بسعر السوق، نظراً لانخفاض تكلفتها. فمع سعر 30 في المئة للسند الواحد يمكن للدولة شراء 3 مرات أكثر في المبلغ المخصص لدفع الدين. وهو ما يدفع إلى خفض الدين والعجز الحكومي ببطء ويعطي إشارة إيجابية قوية للمجتمع الدولي. كما يمكن أن تدفع الدولة أيضاً جزءاً من مستحقات العام 2020، والبدء بالمفاوضات مع اقتراح “مبادلة” جميع سندات “اليوروبوندز” مقابل سندات جديدة طويلة الأجل ذات الفائدة الأقل. على الرغم من أن هذا التصنيف سيعتبر آلية “تخلف عن السداد” من قبل وكالات التصنيف الرئيسية، وحتى إذا كان ذلك سيؤدي على المدى القصير إلى تقليل ربحية البنوك، إلا أنه سيكون له تأثير إيجابي مماثل لنهج إعادة الشراء مع توفر أموال أقل لتحقيق ذلك.

من هنا وباختصار، لقد أصبح من الواضح أن التخلف عن السداد من دون وجود خطة احتياطية قوية يُعدّ انتحاراً. فالدفع سيؤدي إلى تقليل الاحتياطيات الأجنبية التي يمكن أن تزعزع ربط الليرة وتحد من إمكانيات الاستيراد. وسيدفع الى معاملة المودعين بشكل غير عادل وسوف يشرع السلوك الأناني لبعض البنوك. يبقى الخيار الأفضل من وجهة نظر شيخاني هو إعادة شراء أو تبديل السندات swap، وهي آلية يمكن أن تقلل بشكل كبير من عبء الديون على البلاد.

خالدابوشقرا.

هل يعرض لبنان على الدائنين 35 % فقط؟

 

تستعد السلطات اللبنانية الى بدء التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلة وجدولة الدين. وهناك تحضيرات كثيرة مطلوبة لمواجهة هذا الاستحقاق، بسبب الخصوصية في الدين اللبناني، والتي لا تشبه دولًا أخرى مثل الارجنتين وسواها.

يتعاطى البعض مع مسألة إعادة هيكلة الدين العام، وكأنّها بمثابة ذهاب الى الحرب، الهدف الاساس فيها الانتصار على العدو. هذا التوصيف قد يصحّ أكثر في دول تواجه في هذا التوقيت هذا النوع من الأزمات، مثل الارجنتين مثلًا. لكننا في لبنان لا نستطيع أن نتعاطى مع هذا الملف بالتقنية نفسها، لأننا اذا هزمنا العدو الافتراضي، خسرنا، واذا انتصر علينا خسرنا ايضًا!

في الواقع، تتحضّر الحكومة اللبنانية بإسلوب جيد للبدء في مرحلة التفاوض على إعادة هيكلة الدين العام. ولولا الوضع الاستثنائي لطبيعة الدين اللبناني، لأمكن القول انّ الظروف مناسبة لكي تنجح الحكومة في تحقيق إعادة هيكلة عميقة للدين. والمقصود هنا، النجاح في إقناع المقرضين بخصم نسبة كبيرة من حجم الدين، مقابل التعهّد بدفع ما تبقّى.

ووفق مؤشرات اسعار السندات التي أصبحت عند مستوى 35 سنتًا للسند، أو اقل، يمكن الاستنتاج أنّ السعر المنطقي الذي تستطيع ان تعرضه الحكومة على الدائنين هو 35% من حجم الدين فقط، أي السعر السوقي للسندات. هذا ما تنوي أن تفعله الارجنتين، في هذه الفترة بالذات.

وقد يكون من المفيد الإشارة الى أنّ «أشمور»، التي اشترت السندات اللبنانية استحقاق آذار ونيسان وحزيران 2020، هي نفسها مستثمر اساسي في السندات الارجنتينية، وتبدي تصلبًا كبيرًا في المفاوضات، التي لم تبدأ رسميًا بعد، بل بدأت من خلال حرب نفسية متبادلة بين الارجنتين والدائنين قبل بدء التفاوض الرسمي.

ويدلي المسؤولون الارجنتينيون بمواقف تفيد بأنّ بلادهم ستعرض على الدائنين قبض السعر السوقي للسندات، (45 سنتًا للسند)، أي خصم 55% من حجم الدين الذي يتمّ التفاوض عليه وتبلغ قيمته 100 مليار دولار.

لكن المشكلة التي تواجه الحكومة اللبنانية، انّها عندما تفاوض حاملي السندات على اقتطاع نسبة كبيرة، وإعادة جدولة الدين، فهي تعرف انّ الـ31 مليار دولار، قيمة مجموع اليوروبوند، لا يحمل منها المستثمرون الأجانب اكثر من 5 الى 6 مليارات دولار، وما تبقّى تحمله المصارف اللبنانية ومصرف لبنان.

وبالتالي، فإنّ الـHaircut على السندات سيكشف المصارف اكثر، ويجعلها امام خيار من اثنين: إمّا نقل قسم من الخسائر الى الزبائن، وإمّا استخدام الرساميل الخاصة، بما يعني الإفلاس. وفي الحالتين ستكون المشكلة معقّدة.

اذا أضفنا الى ذلك، ما تبقّى من دين عام بالليرة، (ما يساوي حوالى 60 مليار دولار)، تصبح الامور معقّدة أكثر. وليس صحيحًا انّ مشكلة الدين بالليرة بسيطة، انطلاقًا من مبدأ قدرة لبنان على طباعة عملته بالكميات التي يريدها. وقد وصلت نسبة التضخّم حتى الآن الى حوالى 45% بسبب انخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية.

وبالتالي، لا يستطيع النقد الوطني تحمّل المزيد من الهوامش، لأنّ المعالجة عن طريق تضخيم الكتلة النقدية بالليرة الى مستويات كبيرة، سيؤدي حتمًا الى نوع من الانهيار الكامل لقيمة النقد. ولا ضرورة للتذكير بأنّ بعض الدول التي عانت من انهيارات مماثلة، وصلت قيمة عملتها الى ما دون كلفة طباعة النقد، بما يعني انّ سعر الليرة قد يتدنّى الى مستويات تُنذر بكارثة فقر حقيقي ومُعمّم على اكثر من 85% من اللبنانيين.

من هنا، تبدو المفاوضات التي قد تبدأ قريبًا وفق المؤشرات، لإعادة هيكلة وجدولة الدين العام، دقيقة وحساسة، وسيحتاج لبنان في خلالها الى دعم الدول الصديقة، التي لا تبدو متحمسة للاعتماد على مصداقية السلطات اللبنانية، وبالتالي سيكون صندوق النقد، في حال الموافقة على طلب برنامج انقاذي بالتعاون معه، الضمانة للوصول الى اتفاقات منطقية. واذا قضت المصلحة بإجراء Haircut قاسٍ على السندات، ينبغي تأمين خطة جاهزة لإعادة رسملة المصارف، واحتساب الاقتطاع الذي يمكن تحميله للمودعين الكبار.

في المناسبة، ورغم انّ الارجنتين تستعد اليوم لمفاوضة صندوق النقد على خصم نسبة كبيرة من ديون حصلت عليها من الصندوق نفسه (حوالى 40 مليار دولار)، بالإضافة الى خصومات تريد الحصول عليها من مقرضين أجانب، فانّ المؤشرات تؤكّد انّ صندوق النقد سيكون الجهة التي قد تضغط لإقناع المستثمرين الآخرين بالقبول بإجراء خصومات كبيرة في عملية اعادة هيكلة الدين العام.

من الملفت انّ الدعم الذي حصلت عليه الارجنتين، التي سبق وتعثرت اكثر من مرّة، من صندوق النقد في السنوات الأخيرة، سمح لها بإصدار سندات حكومية استحقاق قرن (100 عام)، أي انّ المقرضين لن يحصلوا على أصل الدين سوى في العام 2117. وهذا النوع من السندات لا تستطيع أن تصدره وتسوّقه سوى البلدان الموثوقة جدًا، على غرار المانيا مثلًا، أو النمسا التي سبق وأصدرت هذا النوع من السندات في 2017، وتحقق السندات النمساوية، بفضل الإقبال عليها، عوائد مرتفعة. وبالتالي، يعطي هذا الوضع فكرة عن أهمية وجود صندوق النقد كضامن، بحيث تصبح دولة مثل الارجنتين قادرة على إصدار سندات استحقاق العام 2117!

بانتظار ان تُنجز الخطة الإنقاذية التي تعدّها اللجان المختصة في الحكومة بالتعاون والتشاور مع مؤسسات عالمية متخصصة، سيكون صندوق النقد قد أعدّ بدوره تصوره للتفاوض مع السلطات اللبنانية على هذه الخطة، وصولًا الى مشروع مشترك يُفضي الى بدء تنفيذ الإنقاذ. واذا لم تدخل معوقات غير متوقعة على الخط، مثل ايديولوجيا رفض ما يُطلق عليه توصيف «الوصاية»، سيكون لبنان مع حلول حزيران أو تموز، على موعد مع مرحلة جديدة، ستكون صعبة وشاقة، لكنها لن تخلو من الأمل، لأنّها ستكون رحلة بدء الصعود من الهوّة.​

انطوان فرح.

لبنان: إعادة الهيكلة… قبل سقوط الهيكل

التوقّف عن الدفع يتحوّل إلى “مطلب وطني”

مارد الوعي حوّل جوهر الأزمة الإقتصادية، خرج في 17 تشرين الأول من قمقم التأطير الرسمي ولن يعود اليه. حقيقة أرعبت السلطة ودفعت بعض أركانها إلى الإستقالة والترقب، فيما ظهر حجم تأثير الرأي العام على قرارات من بقي منهم في سدّة الحكم.

الضغط الشعبي الذي مورس مادياً ومعنوياً في وجه السلطة باتجاه رفض تسديد الدولة لاستحقاق آذار من سندات “اليوروبوندز”، وضرورة الإستعانة بالخبرات الدولية أثمرا نجاحاً… ولو أنه لا يزال خجولاً. “إلا أن من يعرف طريقة عمل الإدارة السياسية الملتوية وتحديداً للفئة الممسكة بزمام الحكم عليه ان يقلق، ليس بسبب انعدام قدرتهم على إلاصلاح فحسب، إنما لمحاولاتهم التهرب من المسؤولية ورميها على المعارضين”. خلاصة اتفق عليها ممثّلون عن كل من “الحزب الشيوعي اللبناني”، “بيروت مدينتي”، “المرصد الشعبي”، “تحالف وطني”، “لحقّي”،”عاميّة 17 تشرين”، “مجموعة القنطاري”، و”لبنان عن جديد”، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده حزب “الكتلة الوطنية” لشرح الأسباب الموجبة للإمتناع عن الدفع والخطوات العمليّة لإعادة هيكلة الدين العام.

الدولة تتحمّل النتائج

القرار بالتوقف عن دفع استحقاق آذار من “اليوروبوندز” الذي تؤيده مختلف الجمعيات والتنظيمات المنضوية تحت راية الثورة، لا يعني من وجهة نظر عضو “عامية 17 تشرين” جهاد فرح “أن يحمّلونا النتائج المترتبة عن عدم دفع السندات، في حال لم تكن الطريقة منظمة أو مدروسة ومترافقة مع خطة شاملة وواضحة”. وبرأي فرح فإن “الخوف الأكبر أن تهمل هذه السلطة الخطة الجدية وتكون حجتها الوحيدة للتوقف عن الدفع هي النزول عند رغبة اللبنانيين”.

التهرّب من المسؤولية والتعمية على الحقيقة هما الحقيقتان الوحيدتان اللتان تطبعان عمل هذه السلطة. في حين أن “البوصلة يجب ان تكون مصلحة الشعب اللبناني”، يقول عضو المرصد الشعبي لمكافحة الفساد جورج عازار، وبرأيه فإن “الطريقة التي ركب فيها الدين العام وتلك التي يعالج على أساسها غير عادلتين بالنسبة الى المودعين والشعب وبنية الدولة. لذلك فإن من المهم اليوم أن يكون التركيز في المعالجة على مصلحة صغار المودعين للمحافظة على ودائعهم، ومن ثم الدخول في عملية اصلاح شاملة بإعادة هيكلة الدين العام”.

هذه الخطة التي تحوّلت إلى مطلب عام، ما زال ينقصها بحسب الأمين العام لـ”الكتلة الوطنيّة” بيار عيسى “توافر أمرين: المعلومات ومعرفة أسباب الأزمة وإلا ستقتصر معالجتنا على ظواهر الأزمة.

ويلفت عيسى إلى أنّ “المعلومات غير متوافرة لأنّ سياسة الدولة والمصرف المركزي قائمة على التعتيم. فليس بمقدورنا أن نعرف ما هي الأرقام لجهة احتياطي مصرف لبنان والربح والخسارة لديه، وقطع حساب الدولة التي تقرّ موازنات من دونه، في حين أنّ وضع الخطة يتطلّب شفافيّة كاملة كي تكون فعّالة”.

مصلحة المودعين أوّلاً

قرار الامتناع عن الدفع وإعادة هيكلة الديون الذي ما زال يتأرجح بين القبول والرفض وانصاف الحلول، يجب ان يؤخذ فوراً. و”اذا تجاهلنا كل الاسباب الموجبة الاقتصادية والمالية يبقى أنّ القوانين تحفظ الأولويّة للمودعين على حساب حقوق حاملي السندات، فكيف اذا علمنا ان استحقاقات العام 2020 من سندات اليوروبوندز التي تصل قيمتها الى 4.5 مليارات دولار تساوي الودائع المستحقة لحوالى مليونين من صغار المودعين في المصارف”، يؤكد عضو “اللجنة التنفيذيّة” في “الكتلة” روبير فاضل. ويرى فاضل أن “بالاضافة الى أولوية إعطاء الافضلية للمودعين، فإن هناك أسباباً أخرى تحتّم التوقف فوراً عن الدفع، ومنها:

– ضرورة إعطاء الأولوية لتوظيف إحتياطي مصرف لبنان بالعملات الصعبة في تغطية الاحتياجات الأساسيّة للمواطنين من قمح ومحروقات وأدوية وغيرها، والتي تقدّر قيمتها بين 5 و7 مليارات دولار سنوياً.

– دعم القطاع الخاص، لأن عدم توفر العملات الصعبة ستكون له نتائج كارثيّة على النشاطات التجاريّة والصناعيّة والزراعيّة، وسيؤدّي إلى موجة جديدة من الصرف من العمل ولا سيّما أنّ ما يقارب الـ 220 ألف لبناني سبق أن خسروا وظائفهم في القطاع الخاص، بحسب إحصاءات Infopro”.”طريق” المعالجات

ويُشدّد فاضل على أن “المعالجات يجب أن تقوم على المحاور الآتية:

ـ وقف مسارب الهدر والفساد عبر تفعيل أجهزة الرقابة وضمان استقلاليّة القضاء وإصلاح القطاع العام واعطاء الاولوية للكهرباء.

ـ تعزيز إيرادات الدولة الضريبيّة وتوزيعها بشكل أكثر عدالة على المواطنين، عبر اعتماد الضريبة التصاعديّة، وإلغاء الإعفاءات الضريبيّة، وفرض ضريبة استثنائيّة لمرّة واحدة على كبار المودعين، ومكافحة التهرّب الضريبي والجمركي.

ـ خطة لتحصين شبكة الأمان الإجتماعي وحماية الطبقات الأكثر عرضة لنتائج الأزمة الاقتصاديّة.

ـ خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

ـ خطة لتحويل الاقتصاد من خلال دعم القطاعات المنتجة التي لديها قدرة تنافسيّة تتيح لها التصدير وتخلق فرص عمل للبنانيّين وتنمّي مناطق الأطراف”.

“في الأسابيع الثلاثة الأخيرة سجّل مستوى الوعي عند مختلف المواطنين إرتفاعاً لم نشهده خلال ثلاثين عاماً”، تلفت عضو جمعية “بيروت مدينتي” زينة عبلة. وتضيف أن “الجميع أصبح يرى بوضوح الترابط بين السياسة والإقتصاد الذي ظل مجهولاً لفترة طويلة”.

هذا الوعي من وجهة نظر الثوار سوف يتبلور في الأيام القادمة مزيداً من التصعيد في وجه السلطة، في المراقبة والمحاسبة وعدم السماح بتمرير قرارات تتعارض مع مصالح السواد الأعظم من الشعب اللبناني.​

خالد ابو شقرا.

أزمة لبنان المالية: ما مصير من يملك أكثر من 500 ألف دولار؟

أوضح الخبير الاقتصادي والأستاذ المشارك في الاقتصاد في الجامعة الأميركية – بيروت، جاد شعبان، أنه “توجد أمامنا خريطة محدّدة، تمثّل شبكة المصالح الموجودة في الوقت الرّاهن. وهذا المشهد يأتي بمعيّة أمر الواقع الذي يقوم على أن الحكومة الجديدة، ومن خلال انحيازها الى مصالح كبار المصارف، كما تبدو الى الآن، لن تتمكّن إلا من الحفاظ على مصالح معينة، وذلك دون إعادة العجلة الاقتصادية الى دورتها الطبيعية الصحيحة”.

وأشار  الى أن “من الخيارات المتاحة، ما هو مالي نقدي، والتي قد تتعلّق مثلاً بسندات “اليوروبوندز”، أو بأن لا يتمّ أي إعادة هيكلة للقطاع المصرفي مثلاً. كما من الممكن أن تتطلب تلك الخيارات اتّخاذ إجراءات تجمّد السّحوبات بالدولار، وتسمح القيام بها باللّيرة اللبنانية فقط. وبالتالي، توجد لائحة من الإجراءات التي يمكنها أن تحافظ على الأموال”.

ولفت الى أن “البيان الوزاري” يشير الى ما يقول إنه سيتمّ التركيز على هذا الموضوع، وذلك من خلال إعادة جدولة معيّنة للديون مثلاً. ولكن في الوقت نفسه، يبقى هذا البيان مُبهماً كثيراً في موضوع الحفاظ على النقد. فهو لم يتطرق الى ماذا يتوجب على المصارف أن تقوم به للحفاظ عليه (النّقد)، أو كيفية هيكلة القطاع المصرفي”.

وقال شعبان “حُكيَ في “البيان الوزاري” أيضاً عن الإقتصاد المنتج وعن الاستثمارات وغيرها، وهذه كلّها تحتاج الى تمويل، فمن أين ستُموَّل؟”.

وشرح “نحن حالياً في وضع لا مدخول فعلياً فيه يأتي من الضرائب. فضلاً عن أن لا تحويلات خارجية، ولا سياحة، ولا مورد لمدخول معيّن ومحدّد يُمكن الرّكون إليه بالكامل. كما لا يمكننا تنمية الصناعات المنتجة بلا دعم وقروض، أو حتى استثمارات محدّدة”.

وأضاف “هذا كلّه يُظهر أننا ضمن حلقة مفرغة انطلاقاً من كلّ هذا الوضع. ولكن هذه الحلقة نفسها ليست مفرَغَة بالنّسبة الى المصارف التي تطالب بدفع سندات “اليوروبوندز”، لمصلحتها الخاصة، لأن تلك السندات تعود إجمالاً لها (المصارف) ولأصدقائها من المصارف الموجودة في الخارج”.

وشدّد شعبان على أن “مصلحة الناس كلّهم، وليس فقط طبقة الـ 1 في المئة والمصارف، تكمُن بإقرار قيود واضحة جداً على ما يحصل داخل القطاع المصرفي”.

وتابع “هذا المسار يتعلّق مثلاً بعدم حصول سحوبات دون حدّ أدنى، لا أقصى، يتعلّق بها. وهو ما يعني مثلاً إلزام المصارف بتأمين 300 دولار أسبوعياً، للحسابات الجارية، لكلّ المودعين. فالحديث عن تأمين حدّ أقصى للسحوبات من تلك الحسابات، قد يصل الى 500 دولار أسبوعياً، يجعل الأموال المسموح سحبها لكلّ مودع ما نسبته 100 دولار ربما، في أحيان كثيرة”.

وأوضح “بالنسبة الى النّقد أيضاً، ولأن المصارف لديها مديونية كبيرة للمودعين حالياً، يُمكن ويتوجب استرجاع المبالغ الكبيرة جداً من كل المودعين الذين استفادوا منها، من خلال الفوائد المرتفعة التي أُعطِيَت لهم في وقت سابق”.

وشرح “يتوجّب الإسترجاع من الذين يملكون أكثر من 500 ألف دولار في حساباتهم المصرفية، عبر تحويل نصف ما جنوه من الفوائد المرتفعة الى أسهم في شركة “كفالات” مثلاً، أو في أي صندوق سيادي رسمي، لاستثمارها في الشركات الصغيرة وفي القطاعات المنتجة. وهذا الوضع يشابه مسألة فرض الضريبة على كبار المودعين وثرواتهم”.

وأشار شعبان الى أن “هذ الطريقة تؤمّن المال للبنان من الداخل اللبناني، ولا سيّما أنه توجد استحالة للإستدانة من الخارج بغير برامج من “صندوق النقد الدولي” مثلاً ومن غيره، لن يتحمّلها اللبنانيون في ظلّ الوضع الراهن الموجود في البلد”.

وأضاف “اقتطاع ضريبة كبيرة من الناس الذين ربحوا من النظام الاقتصادي الموجود، وخصوصاً من أصحاب كبار الثروات، وإعادة توزيعها على القطاعات المنتجة، هو حلّ محلّي ومنطقي، يحتاج الى إرادة سياسية لتنفيذه”.

وتبع “عدم تصحيح الأوضاع الحاصلة في المصارف سيُضرّ بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبطبقة العاطلين عن العمل، بسبب غلاء الأسعار، ولا سيّما إذا وصلوا الى عدم إمكانية شراء حتى أساسيّاتهم. بينما الطبقات الميسورة، وكبار المودعين، لن يتأثّروا، وذلك لأن لديهم حسابات مصرفية في الخارج. وهذا الوضع سيزيد أعداد المحتجّين في الشارع مستقبلاً”.