أرشيف التصنيف: ازمة لبنان المالية

«الثالوث المستحيل» نسف إستقلالية مصرف لبنان: الدولرة الزاحفة تتحكّم بمساره…

من المهمّ معرفة مبدأ «الثالوث المستحيل» في الأدبيات الاقتصادية، حيث قدّم كل من الاقتصاديين جون ماركوس فليمنغ وروبرت مونديل في مقالات عدة مختلفة بين عامي 1960 و 1963 طرحهما عمّا يُسمّى بالمعضلة الثلاثية الشهيرة أيضًا باسم Trilemma، وهو مفهوم في الاقتصاد يستحيل بموجبه على المصارف المركزية الجمع – في الوقت نفسه- بين الثلاثة الأقانيم التالية:

• سعر صرف أجنبي ثابت.

• حرّية حركة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية.

• سياسة نقدية مستقلة، وتعني قدرة البنك المركزي على تحديد أسعار الفائدة بشكل مستقل.

وقد تمّت ملاحظة فشل كل الاقتصادات التي حاولت تحقيق الأهداف الثلاثة معاً.

وفقًا لـ «الثالوث المستحيل»، يمكن للبنك المركزي أن يتبع سياستين فقط من السياسات الثلاث المذكورة في وقت واحد، مع استحالة تحقّق الثالثة. مما سيضطره إلى التخلّي عن أحد الأهداف الثلاثة. لذلك لدى البنك المركزي ثلاثة خيارات لتطبيق السياسات هي:

إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سياسة نقدية مستقلة، لأنّ تحديد سعر فائدة محلي يختلف عن سعر الفائدة العالمي، من شأنه أن يقوّض سعر الصرف المستقر… وكيف إذا كان المصرف المركزي في البلد المعني أيضاً يعاني من قلّة استقلالية عملياً بسبب انغماسه في تمويل عجز الدولة وديونها بالعملة المحلية والأجنبية؟ وأكثر من ذلك، كيف الحال إذا كان المصرف المركزي هو لاعب وحيد في اقتصاد بلد يغيب فيه التصويت على الموازنات طيلة 12 عاماً!؟ ويتمّ فيه اعتماد القاعدة الاثني عشرية طيلة هذه الفترة، مع اللجوء إلى مجلس النواب للتصويت على تخطّي سقوف الإنفاق وإمداد الدولة بسلفات خزينة متواصلة، ومن ثم جرّ الجهاز المصرفي كله للانغماس بتمويل الدولة، عبر الاكتتاب بسندات خزينتها بالعملتين المحلية والأجنبية، وثم عبر هندسات مالية لشراء الوقت، بغية تحقيق إصلاحات لم تتحقّق يوماً؟ وأبعد من ذلك، كيف يكون الوضع إذا أضفنا لكل هذه العناصر، أنّ البلد المعني هو بلد جداً جداً مدولر، وسلفات الخزينة والتمويل من المصرف المركزي يتمّ تحويلها عبره إلى الدولار الأميركي لتغطية مصاريف الدولة التي معظمها بالدولار، في بلد مدولر منذ أكثر من 40 عاماً، وبشكل متزايد من أزمة نقدية الى أخرى؟

إذا حدّدت الحكومة سعر صرف ثابتًا، وسمحت بحرّية حركة رؤوس الأموال، فسيتعيّن عليها تغيير أسعار الفائدة إستجابة للضغوط الخارجية. ستحتاج الحكومة إلى زيادة أسعار الفائدة (وجذب تدفقات الأموال الساخنة) من أجل الحفاظ على قيمة العملة المحلية وتثبيت سعر الصرف الثابت. كما يعني هذا أنّه في فترات الركود، قد لا تستطيع الحكومة خفض أسعار الفائدة، لأنّها إذا فعلت ذلك فسوف تتدهور العملة الوطنية.

وإذا اختار البنك المركزي تطبيق سياسة نقدية مستقلة وحرّية تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، لن يستطيع تطبيق سعر صرف ثابت. كيف ذلك؟ إذا كانت الحكومة ترغب في الحفاظ على الاستقلال النقدي وسمحت بحرّية تنقل رؤوس الأموال، فستحتاج إلى السماح بسعر صرف معوّم. على سبيل المثال، إذا كانت الحكومة في مواجهة مع التضخّم يمكنها زيادة أسعار الفائدة. لكن أسعار الفائدة المرتفعة هذه قد تؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة. البلدان التي ترغب في تعزيز النمو ستخفّض أسعار الفائدة، لكن أسعار الفائدة المخفّضة من شأنها أن تتسبّب في تدفق الأموال الساخنة إلى خارج البلاد، ومن ثم انخفاض سعر الصرف.

أما إذا اختار البنك المركزي تطبيق سعر صرف ثابت وسياسة نقدية مستقلة، لن يمكن للحكومة أن تتوقّع تدفقات رؤوس الأموال ، بل على العكس يتعيّن فرض ضوابط للتحكّم في تدفقات رؤوس الأموال. فإذا كانت الحكومة ترغب في تطبيق سعر صرف ثابت، وأيضًا تغيير أسعار الفائدة وفقًا لتفضيلاتها الخاصة، فستحتاج إلى التحكّم في تدفق الأموال إلى الخارج (فرض سقوف على شراء وبيع الأصول المالية، فرض ضرائب على المضاربات على العملة ، تحديد فترات استبقاء الأموال بالبلاد…) وقد تصل إلى ضبط حركة الاستيراد للتحكّم بنزف العملات الأجنبية الى الخارج…

فالمعروف أنّه في ظلّ حرّية حركة الرساميل التي كان يضمنها نظام الاقتصاد الحر المنفتح في لبنان، من الضروري الاختيار بين التضحية بثبات سعر الصرف والإبقاء على مرونته، لترك هامش تحرّك للمصرف المركزي لاعتماد الاستقلالية في تحديد وتنفيذ سياسته النقدية الهادفة إلى المحافظة على القدرة الشرائية للعملة الوطنية ومكافحة التضخّم وإدارة السيولة في السوق، أو القيام بالعكس تماماً، أي التضحية باسقلالية المصرف المركزي عبر توجيه خياراته للحفاظ على تثبيت سعر الصرف عبر ربط سعر صرف العملة الوطنية بالعملة الأجنبية الأكثر تداولاً واستقراراً وتعاملاً دولياً، وهي الدولار الأميركي، خصوصاً بعد اعتماده كعملة ثانية إلى جانب الليرة اللبنانية منذ الأزمة النقدية التي عرفها لبنان في الثمانينات، والتي أطلق على أثرها مسار دولرة مرتفعة غير رسمية، ولكنها «مفروضة» من قِبل القطاع الخاص كأمر واقع منذ ذلك الحين، بغرض الهروب من خطر تقلّبات سعر الصرف وافتقاد العملة الوطنية لمهامها الأساسية في الثمانينات، كأداة تسعير وتسديد للعمليات الشرائية الكبرى والمحافظة على القدرة الشرائية على المدى البعيد وصعوبة استعادة الثقة منذ ذلك الحين، على الرغم من جهود وكلفة تثبيت سعر الصرف على مدى 22 عاماً. علماً أنّه الخيار الأكثر فعالية لتحقيق الاستقرار النقدي في ظل اقتصاد مدولر كما هي الحال في لبنان، حيث لا نفع من الاكتفاء بإدارة السيولة بالليرة اللبنانية، طالما الحّصة الأكبر من السيولة المتداولة في السوق هي بالدولار الأميركي.

إلّا أنّ التحسينات التي كانت ممكنة ومطلوبة، كانت تكمن في معدّل سعر الصرف المناسب لعملية الربط بين العملتين، وفق تطوّر المؤشرات الماكرو-إقتصادية، خصوصاً منها ميزان المدفوعات، الذي يُظهّر رصيد دخول وخروج العملات الأجنبية لمختلف الأسباب بين لبنان والخارج، فضلاً عن سعر هامش تحرّك سعر الصرف ومرونة تدخّل المصرف المركزي في المحافظة عليه، بما يُبقيه ضمن مستوى مقبول من دون استنزاف كبير متواصل للاحتياطي بالعملات الأجنبية.

إنّ تدفق رأس المال، عن طريق خلق طلب زائد على النقد الوطني، يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية، ما لم يخزّن البنك المركزي جميع التدفقات الواردة في احتياطياته بالعملات الأجنبية. لبعض الوقت، إنّ المبالغة في تقييم العملة تحافظ على أسعار السلع المستوردة منخفضة، بينما في ارتفاع الأسعار يتمّ تعويض سلع التصدير من الاستثمارات المموّلة من القروض الخارجية.

قبل زيادة إنتاجية البلاد وقدرتها على التصدير واستقطاب الاستثمار والتوظيفات الخارجية، غالباً ما يظهر سعر الصرف مبالغاً فيه، تماماً كما شهده لبنان، لا سيما مع تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011 في لبنان، باستثناء سنوات الهندسات المالية عامي 2016 و2017 التي استقطبت بعض الرساميل من الخارج لشراء اليوروبوند وشهادات إيداع المصرف المركزي بالعملات الأجنبية، أي لإقراض القطاع العام (بين خزينة الدولة ومصرفها المركزي). الأمر الذي يؤدي تلقائياً الى ارتفاع الدين الخارجي الصافي بالعملات الأجنبية بالنسبة للاقتصاد المحلي (الناتج المحلي الإجمالي).

وبالتالي، إنّ لحظة حدوث أي خطأ في السياسات، والتوجّه المفرط لرأس المال المقترض نحو السلع غير القابلة للتداول، والمبالغة في التقييم المفرط للعملة والعجز الكبير في الحساب الجاري، في سياق ضعف في الاحتياطيات بالنسبة للديون الخارجية قصيرة الأجل، لا بدّ أن يُترجم ذلك بخطر إثارة أزمة ثقة في البلاد، وخروج جماعي مفاجئ وهائل للرساميل وانهيار سعر الصرف.

كما أنّ المصطلح العام للأزمة المالية يجمع هذه الأنواع الثلاثة للأزمات: أزمة ميزان المدفوعات، وأزمة السيولة ومعدل سعر صرف العملة، والأزمة المصرفية المحلية.

من هنا، ولتجنّب الأزمات المالية والنقدية، فإنّ حرية التنقّل الدولي المجاني لرأس المال، تتطلب نظرياً ظروف استقرار مماثلة لتلك الموجودة داخل البلدان التي تعتمدها.

أما أبرز الهواجس التي يعكسها العملاء الاقتصاديون اليوم إزاء مشروع قانون «تنظيم وضع ضوابط استثنائية وموقتة على بعض العمليات والخدمات المصرفية»، فهو أنّه لا يأتي من ضمن خطة استراتيجية متكاملة، في الوقت الذي يفترض أن يكون ضبط حركة الرساميل مجرد إجراء ظرفي ضمن خطة نهوض بنيوية للاقتصاد. وإن كان القرار هو ضبط السيولة المتبقية بالعملات الأجنبية، فمن الملحّ وضع خطة استراتيجية من جهة أولى لشرح سُبل ترشيد استعمال السيولة المتبقية بالدولار الأميركي، ومن جهة ثانية لكيفية تأمين استمرارية استيراد المواد الضرورية من الخارج، مما يتطلّب جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الوزارات المعنية. وتوفّر هذه الخطة الإطار الصحيح الذي يُبنى على أساسه مشروع قانون القيود المالية، ويتمّ تضمينه في الأسباب الموجبة للقانون. ومن جهة ثالثة اتخاذ القرار بشأن نظام القطع، حيث لم يعد من مفرّ من اللجوء إلى نظام الربط الصارم Hard Peg لليرة اللبنانية، وسط الارتفاع الهائل لمعدّل الدولرة الذي لا يسمح بالإبقاء على نظام الربط المرن الحالي، ولا باللجوء الى النظام الحرّ العائم، فلا يبقى سوى مجلس النقد/الدولرة الشاملة. وهذا يتطلّب اعتماد سعر صرف يتمّ على أساسه الذهاب الى الربط الصارم، مما يحتاج أيضاً كمية معيّنة من الاحتياطي بالعملات الأجنبية…

يبقى القول لمن يسأل عن فائض بميزان المدفوعات قبل البحث بإمكانية الدولرة الشاملة، انّه لو كان لدينا فوائض في ميزان المدفوعات لما كنا أساساً دخلنا في أشدّ أزمة نقدية – مالية – مصرفية – إقتصادية شاملة مع دولرة مزمنة منذ 40 عاماً، وباتت اليوم تفوق الـ 90 % !!! لا بل انّ الانتقال الى الدولرة الشاملة الرسمية هو الذي ساهم في الاكوادور مثلاً بتحسين ميزان المدفوعات وانتقاله من حالة العجز الى الفائض. وقد أثبتت الأدبيات الاقتصادية، أنّ من إيجابيات الدولرة الشاملة الرسمية، تفادي أزمات ميزان المدفوعات واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني مع ثبات عملته، مما يسهّل انخراطه بالاقتصاد والتجارة العالمية، وإعادة استقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والحركة السياحية، بخاصة اذا كان تاريخياً مهيأً لاستقطاب الرساميل والاستثمارات الأجنبية والإنفاق السياحي…

إنّ الاجراءات الظرفية لا يمكن تنفيذها بمعزل عن الرؤيا البنيوية التي تتطلّب بدورها جردة دقيقة وشفافة لحسابات مصرف لبنان، وتقييماً للحاجات الأساسية من قِبل الادارات العامة المولجة. من لا ينظر لبعيد يخاطر بالوقوع مجدداً عن قريب، بل يخاطر في إمكانية النهوض عمّا قريب…

د. سهام رزق الله

“قصة” القرار السياسي بــوقف المضاربة على الليرة

لن يكون الاختبار الذي سيتعرّض له اللبنانيون في الاسابيع المقبلة سهلاً، في حال صحّت «التنبؤات» في شأن استمرار الفراغ الرئاسي الى ما بعد نهاية العام 2023. وهناك تساؤلات متعددة في شأن مصير الليرة، والوسائل التي يمكن اعتمادها للحفاظ على الاستقرار النقدي الذي وعد به حاكم المركزي بالانابة.

حتى الآن، أنجزت ادارة مصرف لبنان بإشراف الحاكم بالانابة وسيم منصوري، «واجباتها» على اكمل وجه لجهة وقف تمويل الدولة من اموال الناس المتبقية، والتنسيق مع وزارة المالية للحفاظ على حجم الكتلة النقدية بالليرة مضبوطة في الاسواق. وقد أدّى ذلك الى استقرار سعر الصرف، بما انعكس ايجابا على الوضع المعيشي للمواطن. لكن الاستقرار النقدي القائم لن يساهم لوحده في تحسين ظروف الحياة، ولا في اعادة الاقتصاد الى سكة التعافي. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، سيكون من الصعب جداً الحفاظ على هذا الاستقرار لفترة طويلة. وبالمناسبة، هناك من يطرح تساؤلات في شأن الاستقرار النقدي القائم. بمعنى انه قد لا يكون مستغرباً ان يحظى سوق الصرف بفترة استقرار نسبي، عندما يتوفر الدولار لتلبية الطلب، في موازاة تصغير الكتلة النقدية بالليرة، لحجب ادوات المضاربة عن السوق. ومع ذلك، فإنّ سعر الصرف ليس مستقراً فحسب، بل شبه ثابت بما يشبه فترة التثبيت، ايام كانت الليرة مدعومة من قبل مصرف لبنان. فهل صحيح ما يهمس به بعض المشككين، لجهة انّ ثبات الليرة على سعرها، يرتبط، بالاضافة الى عامل تَوفُّر الدولارات بعد موسم سياحي ناشط، وبعد ضخ كميات كبيرة في تموز الماضي، بعامل توقّف المضاربة بقرار سياسي؟ وهل يوجد فعلاً طرف سياسي قادر على اطلاق كلمة سر، يمنع بموجبها عمليات المضاربة التي كانت تجري في مرحلة عمل منصة «صيرفة»؟

السؤال مطروح من دون ان يعني ذلك وجود معطيات ملموسة تسمح بدعم هذه الشكوك. لكن، البعض يعتبر ان الثقة التي تحدث بها وسيم منصوري حيال مَنع انهيار الليرة مجدداً، في معرض ردّه على سؤال في شأن احتمال ارتفاع الدولار مع بدء بلومبرغ في عملها في لبنان كمنصة تداول، دفعت المشككين الى اعتبار هذا الموقف بمثابة دليل اضافي على وجود قرار سياسي بوقف المضاربة. وعندما يقول منصوري انه لن يسمح بعودة الدولار الى الارتفاع، فهذا الموقف لا يمكن تفسيره، وفق المشككين، سوى بنقطتين:

اولاً – وجود قرار سياسي بوقف المضاربة، مع الاخذ في الاعتبار ان عنصر المضاربة هو العامل الرئيسي في ارتفاع الدولار.

ثانياً – وجود قرار غير مُعلن لدى مصرف لبنان بالتدخّل والدعم اذا اقتضى الامر، لمنع عودة الدولار الى الارتفاع.

في القراءة المنطقية لهذه الاجواء، وسواء كانت مسألة القرار السياسي بمنع المضاربة صحيحة ام لا، ينبغي التأكيد ان المضاربة لا يمكن ان تكون المسؤولة عن انهيار الليرة. وما جرى منذ نهاية العام 2019 حتى اليوم، لا يمكن سوى أن ينعكس على سعر العملة الوطنية وقدرتها الشرائية. اما المضاربة، فإنها تأتي كعنصر اضافي يساهم في اضطرابات سوق الصرف، ليس إلا.

كذلك فإنّ القول بوجود قرار ضمني لدى المركزي بدعم الليرة اذا اقتضى الامر، لا يبدو بدوره منطقياً، بعد المواقف الواضحة والصريحة لمنصوري بالامتناع عن صرف اي دولار من اموال المودعين المتبقية في المركزي. وفي الاساس، فإنّ الاستعانة بمنصة بلومبرغ انما يهدف الى تحرير سعر الصرف، وليس العكس.

أما لماذا يقول منصوري انه لن يسمح، مع زملائه في حاكمية مصرف لبنان، بعودة الدولار الى الارتفاع، فالجواب يكمن في وجود تصميم لدى حاكمية المركزي بمنع نمو الكتلة النقدية بالليرة. كما يستند الى تفهّم وتجاوب وزارة المالية في التنسيق مع المركزي حول هذه المسألة.

ومع ذلك، لن تكون وعود منصوري كافية، لأن استقرار الليرة لا يمكن ان يستمر اذا استمر الوضع الاقتصادي بالتراجع، واذا استمر العقم على مستوى القرارات السياسية لإقرار القوانين الضرورية لتمهيد الطريق امام مسيرة الانقاذ، واذا استمر الفراغ على المستوى رئاسة الجمهورية. ومع الاسف، كل الجهود التي تُبذل في الادارة النقدية، لن تجدي نفعاً. وهذا الواقع يعترف به مصرف لبنان يومياً، ويؤكد لمن يسأل ان المسألة عند الدولة، وليست لدى المركزي. وهذا يعني ان كل التأكيدات ليست سوى اعلان نيات، لا يمكن ترجمتها على ارض الواقع، اذا لم يتغيّر المشهد السياسي العام، وتبدأ مرحلة جديدة تتحمّل فيها الدولة (بشقيها التنفيذي والتشريعي) مسؤولياتها لإخراج البلد من أزمة سوف تتفاقم وتصبح أشدّ تعقيداً، كلما مرّ وقت اضافي من دون معالجات وحلول شاملة.

 

أنطوان فرح

استقرار نقدي غير ثابت… إلى أين يتّجه الدولار؟

فيما يشهد سعر صرف الدولار في لبنان استقراراً في الأشهر الماضية على سعر حوالي 89 ألف ليرة، تزامن مع الموسم السياحي وما رافقه من أموال ضخمة دخلت لبنان، تتّجه موازنة 2024 إلى توحيد سعر الصرف، وهو شرط من شروط صندوق النقد الدولي لمنح قرض بحوالي 3 مليارات دولار للبنان. وبينما كان الخبراء يؤكدون أنّ اتجاه الدولار سيكون صعودياً بعد انتهاء موسم الصيف، يظهر الدولار استقراراً في سعره، على عكس هذه التوقعات. ما السبب؟

في حديث سابق له، أكد حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري أنّ “الوقت اليوم هو المناسب لتحرير وتوحيد سعر الصرف، لمعطيات عديدة أبرزها انخفاض الكتلة النقدية من 80 تريليون ليرة إلى 60 تريليون ليرة، وارتفاع الجباية لدى الدولة إلى حدود 20 تريليون ليرة شهرياً، وجزء منها نقدي، وهذا ما يؤدي إلى سحب الليرة أيضاً من السوق. وتحرير سعر الصرف وتوحيده يعني أنّ سعر الدولار المقوَّم على الليرة اللبنانية يُحدَّد بحسب عمليات السوق دون تدخّل من المصرف المركزي”. بالتالي، بمجرد اتخاذ قرار توحيد سعر الصرف، تُلغى جميع أسعار الصرف المتعددة التي فرضتها التعاميم 151 و157 و158 و161.

في هذا الإطار، ترى المتخصّصة في الاقتصاد النقدي الدكتورة ليال منصور في حديثها لـ”النهار” أنّ “الاستقرار النقدي الحالي ناتج عن تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع عبر شراء العملات الأجنبية، إلى جانب عامل آخر له دوره في الاستقرار النقدي وهو الدولرة، فكلّما زادت، تراجع طبع الليرة إذ لم تعد تُستعمل إلا لتمويل القطاع العام”.

أيضاً، مع وجود المغتربين صيفاً وإدخالهم الدولارات، أسهموا في الاستقرار النقدي دون الحاجة الكبرى إلى تدخل مصرف لبنان بنسبة كبيرة لدعم هذا الاستقرار وبالتالي دون تكبّده تكلفة كبرى، لكن طبعاً عادة، تكون هذه التكلفة على حساب توفير الأموال هذه لاستيراد المحروقات والكهرباء وصيانة الطرقات وغيرها. فالاستقرار النقدي يكلّف الدولة كثيراً وتكلفته تراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار شهرياً.

وحتى في بلد غير منهار اقتصادياً وغنيّ، توضح منصور أنّه دائماً ما يكون تثبيت سعر صرف معيّن واستقرار النقد مكلفاً. وتنفي أن يكون لاستقرار النقد حالياً سبب سياسي، وتعطي مثالاً عن عملة الدينار الكويتي الأقوى في العالم، التي تتكبّد الكويت كلفة كبيرة لتثبيتها واستقرارها.

أمّا عن توحيد سعر الصرف وتداعياته، فهو يبدأ من تحرير العملة، أي تعريضها للعرض والطلب، وبذلك، تُلغى جميع أسعار الصرف الأخرى. وتحريرها يعني غياب تدخّل المركزي لتثبيتها واستقرارها. وبرأي منصور، “إقرار أي بند في الموازنة لا يعني وجوباً أنه سيُلتزم به في لبنان، وأصبح موضوع توحيد سعر الصرف في لبنان أمراً على المسؤولين تنفيذه ولو نظرياً لأنّه مطلوب من صندوق النقد الدولي. بالتالي، تداعيات موازنة 2024 محدودة جداً على العملة في بلد كلبنان، ولن تؤدي إلّا إلى بلبلة شفهية”.

فالليرة منهارة أصلاً وليس هناك أية عوامل قد تؤثر سلباً بشكل إضافي على العملة بعد، وفق منصور. فتوحيد سعر الصرف يجعل من سعر الدولار قابلاً لأن يرتفع أو ينخفض، لكنّه يبقى بسعر موحَّد غير متعدّد. لذلك، مع الدولرة الحالية، سيكون تأثير هذا الأمر ضئيلاً جداً.

ولأنّ لبنان أصبح مدولراً بامتياز، قد يكون توحيد سعر الصرف عاملاً إيجابياً، إلّا أنّ منصور لا ترى هذه الإيجابية و”الليرة لن تعود إلى الوراء”. لذا، تصرّ منصور على أنّ “مسار الدولار صعودي بمجرّد وقف تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع”.

على عكس رأي منصور، من جهته، يورد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجاقة في حديثه لـ”النهار”، أنّ “الاستقرار النقدي في لبنان هو نتيجة ضغوط سياسية أدّت إلى لجم المضاربين”. وحتى شركات الصيرفة المرخصة لم تعد تشتري الدولار في السوق، أي إنّ المضاربين والشركات توقفوا عن شراء الدولار.

فما عظّم الأزمة على شكلها الحالي، برأي عجاقة، هو المضاربة في السوق السوداء وهذا ما يبرّر استقرار سعر الصرف مع ذهاب هذا العنصر. لكن الأسباب الأساسية التي أدّت إلى الأزمة النقدية لا تزال موجودة، وهي غياب الدولارات الكافية لدى الحكومة لتسديد جميع نفقاتها. فهي بحاجة إلى الدولار لصرف رواتب القطاع العام واستيراد المحروقات وتسديد اشتراكاتها السنوية في المؤسسات الدولية وتسديد الأجور للسلك الديبلوماسي والسفارات والقنصليات. لذلك، بحسب عجاقة، “ما لم تُطبَّق الإصلاحات، فالاستقرار النقدي هذا هو استقرار غير ثابت، ونتوقّع أن تتّجه ضغوط سعر الصرف نحو الارتفاع”.

وبرأيه، “الأزمة ستتعاظم أكثر عندما سنصل إلى آخر السنة دون تمكّن مصرف لبنان من تمويل العجز المقدَّر بـ40 تريليون ليرة، هنا السؤال: ماذا ستفعل الحكومة؟”، يسأل عجاقة.

ما سبب الالتباس في موقف صندوق النقد حيال الودائع؟

بعد أربع سنوات على الانهيار، وبعد تقارير محاسبية وتدقيقية، ووقائع غير قابلة للانكار، في شأن الاسباب والطرق التي أدّت الى الوضع الافلاسي القائم حالياً، حان الوقت للانتقال الى مرحلة الواقعية والبدء في إقرار معالجات وتنفيذها على وجه السرعة للخروج من الحفرة التي لا تزال تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.

السياسة التي تتّبعها حاكمية مصرف لبنان حتى الآن، لا غبار عليها، وهي مطلوبة بدليل الاشادة التي حظيت بها هذه الاجراءات في البيان الختامي للزيارة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي الى بيروت. لكن هذه السياسة ينبغي ان تتماهى مع اجراءات وخطوات ينبغي ان تتخذها الدولة (السلطتان التنفيذية والتشريعية) لكي تكون مثمرة على مستوى الخروج التدريجي من الأزمة. والمفارقة في هذا الوضع، انه اذا امتنعت الدولة عن مواكبة النهج الجديد في المركزي، سينعكس ذلك ضغوطاً اضافية على الوضع المعيشي للمواطن. وهذا يعني ان اللبناني في هذه الحالة، سيعاني تراجعاً اضافياً في قدراته الشرائية، وقد تتعمّق دائرة الفقر، على اعتبار ان السياسة السابقة للمركزي كانت تستند، وبموافقة ودعم من الدولة، على مبدأ انفاق اموال المودعين المتوفرة في مصرف لبنان، لتخفيف وطأة الأزمة المعيشية على الناس. وعندما يتم اغلاق هذه الحنفية غير الشرعية، والتي هي أشبه بسرقة اموال الناس وتوزيعها على آخرين لإسكاتهم، من دون تأمين مصدر تمويل بديل يمكن خلقه عبر خطوات اصلاحية، واجراءات تنفيذية تباشرها الدولة، فمن البديهي انّ المواطن سيعاني ضغوطات معيشية اضافية، وستصبح الأزمة موجعة اكثر لغالبية اللبنانيين.

انطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من الانتقال بسرعة الى مرحلة جديدة على مستوى الدولة. ومن خلال زيارة وفد صندوق النقد، تأكد المؤكد، وهو ان المشكلة الاساسية التي تعيق هذا الانتقال، الى جانب اللامسؤولية وغياب الوعي لدى كل المسؤولين، ترتبط بكيفية اعادة الودائع. ونحن نتحدث هنا، عن اموال لم تعد موجودة، وبقي منها فعلياً حوالى 10 مليارات دولار، من اصل حوالى 90 مليار دولار مُسجّلة في قيود المصارف. فمن اين سنأتي بـ80 مليار دولار لحل مشكلة الودائع؟

في البداية، ينبغي ان نعرف انّ صندوق النقد الدولي لا يعترض على مبدأ اعادة الودائع، بل يرفض ان يتم تمويل اي صندوق لإعادة هذه الودائع من ايرادات الدولة. والسبب في ذلك انّ الصندوق وضع خطة، ورسم تقديرات لأداء الاقتصاد اللبناني في السنوات المقبلة، ولنسب النمو المتوقع، ولقدرة لبنان على اعادة القرض الذي سيقدمه الصندوق له وقيمته 3 مليارات دولار. وبالتالي، يرفض الصندوق ان يتم المَس بإيرادات الدولة او اصولها، حرصاً على بقاء تقديراته صحيحة، وعدم حصول ما قد يعرقل اعادة اموال القرض.

انطلاقاً من ذلك، ولأن خيار التخلي عن الصندوق هو خيار انتحاري، خصوصا مع دولة من هذا النوع، لا تؤتمن على اي اصلاح او التزام، وتكتفي بشعار قدسية الودائع، التي طار اكثر من نصفها، منذ إطلاق هذا الشعار في بداية الانهيار، لا بد من التفكير في حلولٍ تكون عادلة قدر الامكان لأصحاب الحقوق، ويمكن ان يوافق عليها صندوق النقد. هذا النهج في التفكير، يقود الى طرح مجموعة افكار، تستند جميعها الى مبدأ تأسيس صندوق لإعادة الودائع، لفصل هذه الأزمة التي قد يستغرق حلها نهائياً سنوات طويلة، عن مسار التعافي الذي قد يبدأ فور المباشرة في تنفيذ خطة الانقاذ بالاتفاق مع صندوق النقد. وتبقى المسألة الاساسية متعلقة بتمويل هذا الصندوق، من دون اثارة اعتراض صندوق النقد. وهنا تظهر مجموعة افكار منطقية، من أهمها:

اولاً – إنجاز شراكة كاملة بين القطاعين العام والخاص، والاتفاق مع صندوق النقد على تخصيص نسبة من الايرادات لتمويل صندوق الودائع مربوطة بالنمو. بمعنى انه عندما تتجاوز نسبة النمو التقديرات التي وضعها صندوق النقد للسنوات الخمس التي تلي بدء تنفيذ خطة الانقاذ، يمكن تحويل هذا الفائض الى الصندوق. هذا الاقتراح ورد بروحيته في ورقة الهيئات الاقتصادية ويحتاج الى بلورة اضافية، لإقناع صندوق النقد بعدم رفضه.

ثانياً – اعادة جزء من الاموال التي ضاعت بسبب اعادة القروض الدولارية بالليرة او باللولار. والمقصود هنا، القروض الضخمة التي تتجاوز قيمة الواحد منها المليون دولار. وهناك اثرياء وشركات ومسؤولون استفادوا من هذا الوضع وحققوا ارباحا طائلة في ظروف استثنائية. وهم بذلك اخذوا جزءا من اموال المودعين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاعت شركة مثل سوليدير ان تُعيد قروضها التي اقتربت قبل الانهيار من مليار دولار، بمبالغ زهيدة. وكذلك فعلت شركات اخرى كثيرة ومتموّلون كبار. ومن العدل ايجاد قانون يسمح باعادة جزء من هذه الاموال (ضريبة استثنائية) الى صندوق الودائع.

ثالثا – إيجاد صندوق لاعادة الودائع يتم تمويله من عائدات الغاز المستقبلية. هذه العائدات غير واردة في حسابات صندوق النقد عندما وضع تقديراته للنمو والايرادات في السنوات الخمس المقبلة. وبالتالي، لا مبرر لديه لرفض مثل هذا الاقتراح. والمفيد في هذا المشروع انّ اصحاب الحقوق (المودعون) يستطيعون ان يبيعوا حصصهم منذ انطلاق الصندوق، كما في امكانهم الانتظار للحصول على مبالغ اكبر، وربما تحقيق ارباح، قد تتجاوز قيمة الوديعة التي يريدون استردادها. وهذا الامر حصل في دول كثيرة، منها النروج التي يحاول لبنان ان يقلّدها في موضوع الصندوق السيادي. طبعاً اصحاب الحقوق في النروج لم يكونوا مودعين، بل كانوا مستثمرين استفادوا من الاستثمار قبل انطلاق عملية التنقيب عن النفط، وحققوا ارباحا طائلة عندما جاءت نتائج التنقيب ايجابية. من هنا يبدو اقتراح هذا الصندوق هو الاكثر واقعية وجدوى.

طبعاً، تبقى مسألة تشريح الودائع، ودراستها لضمان العدالة في اعادتها، او اعادة جزء كبير منها. والموضوع هنا لا يتعلق بودائع مؤهلة وغير مؤهلة، بل بعدالة لا بد منها. وعلى سبيل المثال، مَن اشترى وديعة بشيك ودفع 13 الى 15% من قيمتها الاسمية، ليس من العدل ان يأخذها كاملة تماماً مثل مُدّخر قضى عمره في الادخار، او باع أملاكه وسَيّلها. او حتى مثل نقابة تضع اموال رواتب التقاعد والتعويضات لكل اعضاء النقابة في المصرف. وبالتالي، لا بد من تشريح مفصّل للودائع، ودراستها لجهة تاريخ تكوينها وحجم الفوائد التي أُضيفت اليها، لاتخاذ قرار تصنيفها لكي يأتي قرار اعادة الوديعة عادلاً للجميع.

فهل سيتحرّك المسؤولون في اتجاه معالجات عملية، ام سيكتفون بمواصلة الانكار والتهرّب والاختباء وراء مواقف شعبوية لن تُنقذ الاقتصاد، كما لن تُعيد أي فلسٍ الى المودعين؟

 

أنطوان فرح

الدائنون الأجانب يراكمون “أسلحتهم” القانونيّة ضد لبنان

يومًا بعد يوم، تتزايد الأسلحة القانونيّة التي يجمعها الدائنون الأجانب -من حملة سندات اليوروبوند- ضد الدولة اللبنانيّة، قبل بدء التفاوض معها على إعادة هيكلة الديون. وهذا الواقع، هو تحديدًا ما يفسّر استمرار صبر هذه الفئة من الدائنين، وتأخّرهم في التحرّك قضائيًا في الخارج ضد الدولة اللبنانيّة، بالرغم من مضي ثلاث سنوات وستّة أشهر على تخلّف الدولة عن سداد سنداتها، من دون بدء التفاوض الجدّي بين الطرفين بعد.

أسلحة الدائنين التي تتراكم، هي الخطايا والارتكابات التي مازالت الدولة اللبنانيّة تقوم بها اليوم، والتي ستمثّل أوراق ضغط قانونيّة ضدها في محاكم نيويورك. وهذا ما سيفرض على لبنان لاحقًا القبول بشروط مجحفة لمصلحة الدائنين، عند التفاوض معهم لإعادة هيكلة الديون. وفي واقع الأمر، ثمّة الكثير من المتابعين الذين يشككون بأن ما يجري يتجاوز حدود الهفوات الناتجة عن قلّة معرفة، ما يعني أنّ هناك تآمرًا صريحًا من قبل بعض المسؤولين اللبنانيين على حساب اللبنانيين، لمصلحة الجهات الأجنبيّة النافذة ماليًا، التي تملك سندات اليوروبوند.

ومن المهم جدًا الإشارة إلى أنّ كل ما سيرد ذكره في هذا المقال، على حساسيّته المفرطة، لا يهدف حتمًا لإعطاء الدائنين الأجانب حجج قانونيّة إضافيّة في وجه الدولة اللبنانيّة، بل إلى تصويب الأخطاء الكارثيّة التي ترتكبها الدولة اللبنانيّة في إدارة هذا الملف، وهذا ممكن جدًا ومتاح اليوم. وكاتب هذه السطور لم يكن ليستطرد في شرح التداعيات القانونيّة الخطرة لهذه الأخطاء، والتي سيستفيد منها الدائنون الأجانب، لولا تيقنه –من مصادر موثوقة- من تتبّع كبار الدائنين لهذه الوقائع ومعرفتهم بنتائجها القانونيّة، بمعزل عن نشرنا لهذا التحليل.

الخطيئة الكبرى: التلاعب بأرقام الدين العام
كما بات معلومًا اليوم، قرّر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في الربع الأوّل من هذه السنة، وقبل مغادرة منصبه، إضافة بند في ميزانيّة المصرف المركزي، يرتّب على الدولة اللبنانيّة دينًا جديدًا بقيمة 16.5 مليار دولار أميركي. ما فعله سلامة كان احتساب كل عمليّات القطع منذ العام 2007، أي عمليّات بيع الدولارات لمصلحة الدولة، كديون على الدولة اللبنانيّة، لمصلحة المصرف المركزي نفسه.

وبهذا الشكل، كان سلامة يحاول رمي جزء من الخسائر المتراكمة في ميزانيّة المصرف المركزي والقطاع المصرفي، على كاهل الدولة اللبنانيّة والمال العام. وكان سلامة قد تذرّع بوجود “تفاهمات شفهيّة سابقة” (؟) مع وزارة الماليّة منذ العام 2007، لتسجيل هذه الديون خارج الميزانيّة، قبل الكشف عنها فجأة هذه السنة، أي بعد 16 سنة.

وكما بات معلومًا أيضًا، لايوجد حتّى اللحظة وثيقة واحدة تؤكّد تفاهم المصرف المركزي ووزارة الماليّة، منذ العام 2007، على احتساب عمليّات القطع كدين على الدولة. بل لم يخرج وزير ماليّة سابق واحد، من الوزراء المتعاقبين منذ ذلك الوقت، ليؤكّد وجود تفاهم من هذا النوع.

وحتّى لو توفّر تفاهم ضمني أو شفهي من هذا النوع، لم يكن سلامة أو مجلس الوزراء يملكان صلاحيّة قيد الديون العامّة بهذا الشكل، لتعارض ذلك مع آليّات الاقتراض المنصوص عنها في قانون النقد والتسليف، ولتعارضه مع دور المصرف المركزي كمصرف للدولة، الذي يفرض عليه بديهيًا بيع الدولارات للقطاع العام لا قيد عمليّات القطع كديون عامّة.

في جميع الحالات، باتت المشكلة الأساسيّة اليوم عدم مبادرة وزير الماليّة الحالي، يوسف الخليل، لتوضيح هذه المسألة أو تصحيحها، وعدم مبادرة حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري لمعالجة الخطيئة المميتة والقاتلة التي ارتكابها الحاكم السابق رياض سلامة، عبر إلغاء هذا البند في ميزانيّة مصرف لبنان. وهذا التملّص من المسؤوليّة، من جانب منصوري والخليل، سيحمّل الدولة أكلافًا وتداعيات خطيرة خلال الفترة المقبلة.

فحملة سندات اليوروبوند، قاموا بشراء السندات في الماضي وفقًا لنصوص مفصّلة تحدد حجم مخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار السندات، بما يشمل التصريح عن حجم الدين العام الإجمالي. وفي جميع تلك النصوص، لم يكن هناك أي ذكر لدين الـ 16.5 مليار دولار، الذي قرّر فجأة رياض سلامة إضافته إلى ميزانيّة مصرف لبنان في الربع الأوّل من العام 2023، على أساس أنّها ديون تراكمت منذ ال2007.

بمعنى أوضح: سيكون بإمكان حملة سندات اليوروبوند توجيه تهمة الغش والاحتيال، للدولة اللبنانيّة، على خلفيّة إخفاء ذلك الدين وتقليص الحجم المُعلن لمخاطر الدولة اللبنانيّة، عند إصدار سندات اليوروبوند. ولعلّ صمت وزارة الماليّة ومصرف لبنان في الوقت الراهن يمثّل دلالة إضافيّة على وجود تواطؤ متعمّد، أو على الأقل غض نظر، من جانب السلطتين التنفيذيّة والنقديّة الحاليّة، تجاه هذه العمليّة التي قام بها الحاكم السابق لمصرف لبنان.

الهدف الأخير لحملة سندات اليوروبوند أمام محاكم نيويورك، سيكون إثبات “سوء نيّة” الدولة اللبنانيّة، باعتبارها ورّطت حملة سندات اليوروبوند في ديون ذات مخاطر مرتفعة، من دون كشف الأوراق التي تشير إلى هذه المخاطر (أي دين مصرف لبنان). ثم سيشير حملة السندات إلى أنّ الكشف عن هذه المخاطر لم يجرِ إلّا بعد التعثّر وتوقّف الدولة عن سداد، ما ضخّم من حصّة مصرف لبنان في الدين السيادي، وهو ما يشير –مجددًا- إلى تلاعب مقصود وخبيث من جانب الدولة.

في خلاصة الأمر، ستكون الدولة اللبنانيّة في موقع قانوني ضعيف أمام الدائنين الأجانب، ما سيفرض عليها تخفيض سقفها التفاوضي في وجههم. وحين نتحدّث عن خفض السقف التفاوضي، فهذا يتعلّق بنتائج ماليّة حسّاسة، مثل قيمة السندات التي ستتم إعادة جدولتها، والفوائد التي ستسددها الدولة لحملة السندات في المستقبل.

بحسب مصادر قانونيّة، الحل الوحيد المتاح أمام الدولة اللبنانيّة لمعالجة هذه الثغرة هو التراجع عن الخطيئة الأساسيّة، المتمثّلة في إضافة دين الـ 16.5 مليار دولار إلى مصرف لبنان. فإضافة هذا الدين المشبوه، الذي لا يستند إلى أي مسوّغ قانوني، لا تخدم سوى هدفين: تحميل الدولة عبء إعادة رسملة القطاع المصرفي عبر تسديد هذا الدين الجائر لمصرف لبنان (ومن ثم المصارف)، وإعطاء الدائنين الأجانب قوّة تفاوضيّة أقوى أمام الدولة اللبنانية في مرحلة إعادة هيكلة الدين العام.

المطالبة بأصول الدولة ومصرف لبنان
الخطيئة المميتة الثانية، هي طريقة تعامل الدولة مع ملف توزيع خسائر القطاع المصرفي، وتحديدًا من جهة الإصرار على فكرة تحميل المال العام كلفة إعادة رسملة المصارف ومعالجة فجوة ميزانيّتها. وهذه الخطيئة تجري اليوم على مستويين:

– على المستوى الأوّل، تصرّ الغالبيّة الساحقة من الكتل المؤثّرة في البرلمان اللبناني على ربط تسديد الودائع بعائدات صندوق مخصص لاستيعاب المرافق والأصول العامّة واستثمارها، ما يعني تسديد خسائر القطاع المصرفي من رسوم هذه المرافق. وهذه الفكرة، ستدفع الدائنين الأجانب للمطالبة بحصّة في هذا المسار، أي في صندوق استثمار المرافق العامّة نفسه. فإذا كانت الدولة ستخصص إيرادات واستثمارات أصولها لتسديد خسائر القطاع المصرفي، فالأولى من زاوية قانونيّة أن تُستعمل هذه الإيرادات -التي كان يفترض أن تصب في الخزينة العامّة- لتسديد الدين الحكومي، لا خسائر المصارف. وهكذا، سيحل مبدأ وضع اليد على الأصول العامّة، مكان فكرة إعادة هيكلة الدين العام.

– على المستوى الثاني، لا يمكن تحقيق فكرة تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، التي تتبناها معظم الكتل الوازنة في المجلس النيابي، من دون الربط ما بين فجوة مصرف لبنان وماليّة الدولة. وهذا الربط، سيعطي الدائنين الأجانب ورقة ضغط قانونيّة تمكّنهم من الطعن بالاستقلاليّة الماليّة للمصرف المركزي، طالما أنّ خسائره باتت عبئًا على الدولة المدينة أصلًا لحملة سندات اليوروبوند. وهذا ما سيسمح للدائنين الأجانب بمحاولة ملاحقة أصول المصرف المركزي في الخارج، وبالأخص الذهب والاحتياطات الموجودة في المصارف المراسلة.

لكل هذه الأسباب، هناك ما يكفي من معطيات للتوجّس من مستقبل مفاوضات لبنان مع الدائنين الأجانب، ومن نتائج الهفوات القاتلة التي ارتكبتها الدولة اللبنانيّة خلال المرحلة الماضية. ولهذا السبب، ثمّة ضرورة اليوم لمراجعة هذا المسار وتصحيح تلك الأخطاء، عبر التراجع عن التعديلات المحاسبيّة التي قام بها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتخلّي عن الأفكار التي تصر على فكرة تحميل الدولة الخسائر المصرفيّة. فتحميل الدولة هذه الخسائر هو مجحف أولًا بحق دافعي الضرائب، وهو خطر ثانيًا على مستقبل التفاوض مع الدائنين الخارجيين، وعلى مستقبل تفاهم لبنان مع صندوق النقد الدولي.

 

علي نور الدين

توزيع خسائر الدولة على الشعب المنهوب

 

نسمع ونقرأ يومياً عن استراتيجيات عدّة لتسديد العجز المتراكم، لكن الهدف الأساس هو توزيع الخسائر. حينما نتحدث عن خسائر، هناك تحديد المسؤول المباشر عنها، ونذكّر أنها نتيجة وليست سبباً.

بحسب مرصد البنك الدولي، وكل تقارير صندوق النقد الدولي، والتي توالت في السنوات الأخيرة، ووفق التقرير الجنائي الذي أصدرته أخيراً شركة «ألفاريس آند مارسال» (Alvarez & Marsal) للتدقيق المالي الدولي، إن الخسائر الجارية قد تحدّدت بنحو 70 مليار دولار. علماً أن هذا الرقم الأخير يُكوّن كل العجز في المالية العامة الذي تراكم منذ العقود الأخيرة، وهذا الرقم المخيف، لا يضم أموال وإستثمارات المؤتمرات المانحة والتي إنعقدت من أجل لبنان مثل باريس (1 و2 و3) وغيرها. فبالحقيقة إن الخسائر أو بالأحرى السرقات والنهب، تزيد بأكثر من مئات المليارات.

بعدما توقفت كل مصادر التمويل، ونُهب الشعب، وسُرق المجتمع الدولي ومساعداته، وإنهارت مؤسسات الدولة والبنى التحتية، وتبخّرت كل أموال إعادة هيكلتها، إستيقظت الدولة اللبنانية، وتريد اليوم أن توزع خسائر الـ 70 مليار دولار على الشعب المنهوب والإقتصاد المدمر، كأن شيئاً لم يكن.

نُذكّر ونشدّد على أن الدولة اللبنانية والسياسيين هم المسؤولون المباشرون عن هذه الخسائر، ولا سيما من أكبر عملية نهب في تاريخ العالم. فاليوم، وبكل وقاحة تتحدث الدولة عن توزيع الخسائر والتي هي المسؤولة عنها، بسوء إدارتها، وتسديد العجز المتراكم بفرض ضرائب عشوائية على الشعب المذلول والمنهوب.

كأن الدولة ذاتها تريد طي صفحتها السوداء، وطمر رأسها في التراب، كأنه لم يحصل شي، وتريد العفو عمّا مضى، وتبحث عن عمليات جديدة، لإستكمال عملية النهب، وتحفيز الإنهيار المالي والنقدي، وتشجيع الفساد المستشري. وفي العناوين الوهمية والكاذبة، أمام صندوق النقد والمجتمع الدولي، تريد تسديد العجز بإعادة السياسة الضريبية، وتوزيع الخسائر على ما تبقّى من مودعين، من دون أن تتحمّل أيّ مسؤولية.

إن الضرائب التي تُفرض على الشعب اليوم، هي تكملة لعملية الإغتيال والنهب والسرقة، بطريقة رسمية، عوضاً عن الإعتذار وإعادة جزء ضئيل ممّا سرقته من الشعب.

إن هذه الضرائب التي هي أيضاً مفروضة على الإقتصاد الأبيض وعلى الشركات الشفّافة، والتي تتبع الحوكمة الدولية الرشيدة، تهدّد مما تبقى من المستثمرين والرياديين والمبتكرين، وتخلق وتجذب جيلاً جديداً من المبيضين والمهربين والمروجين.

نذكّر بأن خبرتنا في هذا البلد، وتاريخنا المظلم، علّمنا وأظهرَ لنا بأن زيادة الضرائب في لبنان تعني طعن الإقتصاد الأبيض وتحفيز الإقتصاد الأسود. وتعني أيضاً انخفاضاً بمداخيل الدولة، وزيادة التهريب. إنّ هذه السياسة الضريبية العشوائية الجديدة تهدف إلى القضاء على الضحايا وتكملة سلسلة الإغتيالات المالية والنقدية، حيال الشعب والشركات للقضاء عليهم أو تهريبهم نهائياً من أرضهم الأم.

في المحصّلة، إن عبارة توزيع الخسائر مرفوضة، وعلينا أن نستبدلها بتوزيع وتكملة النهب والسرقة على الشعب. فالمسؤول عن هذه الخسائر وهذا الإنهيار عوضاً أن يكون المحكوم، هو الحَكَم والقاضي وهو الذي يعد بالإصلاحات، ويُطالب بالشفافية وإعادة الهيكلة والنمو، وهو بالحقيقة الجلاّد والمجرم الذي يتبع إستراتيجية التدمير الذاتي، وتكملة خطته للنهب والسرقة.

 

د. فؤاد زمكحل

دور الأنظمة اللامركزية في التنمية الاقتصادية

من حيث المبدأ، يعزّز المجتمع المتنوع ثقافيًا الإبداع والابتكار. في الولايات المتحدة وسويسرا، يجلب التنوع الثقافي والديني طاقات متعددة ومهارات إلى الاقتصاد والمجتمع. يتيح التنوع الثقافي أيضا الفرص للتعلم المتبادل والتفاهم، مما يعزز التواصل والتعاون.

نظم حكومية لامركزية

لذلك تعتمد الولايات المتحدة وسويسرا على نظم حكومية لامركزية، حيث يتم منح الولايات أو الكانتونات سلطة كبيرة لاتخاذ القرارات المحلية. هذا يسمح للمجتمعات المحلية بالتحكم في شؤونها بمرونة وفقًا لاحتياجاتها الفريدة.

إحترام حقوق الإنسان

تلتزم الولايات المتحدة وسويسرا بمبادئ حقوق الإنسان والمساواة. تمنح هذه الالتزامات القوية للمواطنين والمقيمين حرية التعبير والمشاركة السياسية والدينية من دون تمييز. يساعد هذا التقدير لحقوق الإنسان في تعزيز التنوع وتقوية الشعور بالانتماء.

التعليم

تمتلك الولايات المتحدة وسويسرا نظم تعليم عالية الجودة، بما يتيح للأفراد فرصًا جيدة للتعلم وتطوير مهاراتهم. وتكمن القوة في التعليم في تمكين الأفراد من الازدهار والمساهمة في التنمية المستدامة.

تشجع الولايات المتحدة وسويسرا على التفاهم والتعاون بين مجتمعاتها المتنوعة. يتم ذلك من خلال تشجيع الحوار وبناء جسور التواصل بين مختلف الأديان والأعراق. وهذا يقوي الروابط الاجتماعية ويزيد من التفاهم المتبادل.

ويمكن للدول النامية أن تستفيد من الدروس التي تقدمها الولايات المتحدة وسويسرا في ما يتعلق بإدارة التنوع الثقافي والديني. من خلال تعزيز حقوق الإنسان والتعليم والتفاهم الثقافي، يمكن للدول النامية تحقيق الاستقرار والازدهار على الرغم من التحديات الدينية والعرقية التي تواجهها. وهناك لائحة طويلة من الفوائد المالية للدول والتي تؤمنها الانظمة الفدرالية.

إدارة الإنفاق الحكومي

تساهم هياكل الحكومة الفدرالية في تحسين إدارة الإنفاق الحكومي بشكل فعال. حيث يمكن للحكومة المركزية والكانتونات أو الولايات، التعاون في توجيه الإنفاق نحو القطاعات ذات الأولوية، وضمان أن الأموال تُستثمر بفعالية في المشاريع والبرامج ذات الأثر الكبير على المجتمع. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للدول الفدرالية أن تستفيد من التنافس الصحي بين الكانتونات أو الولايات في تقديم خدمات عالية الجودة للمواطنين بأفضل التكاليف الممكنة.

جباية الضرائب

تقوم الدول الفدرالية بتوزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وهذا يتيح تفعيل نظام جباية الضرائب بشكل فعال. يُمكن للكانتونات أو الولايات تحديد أسعار الضرائب وسياساتها الضريبية بناءً على احتياجاتها المحلية، بما يسمح بالاستجابة الأفضل لاحتياجات سكانها. هذا التنوع في سياسات الضرائب يساهم في توزيع العبء الضريبي بشكل أكثر عدالة.

إعداد الميزانية

هو عملية حساسة للغاية في الإدارة المالية الحكومية. في الدول الفدرالية، يتم تقديم ميزانيات منفصلة للحكومة المركزية وللكانتونات أو الولايات. هذا الامر يسمح بالتخصيص الفعال للموارد والمصادر المالية وفقًا للأولويات المحلية والوطنية. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشجيع الشفافية والمساءلة من خلال تقديم تقارير مالية دقيقة تسهم في بناء الثقة بين الحكومة والمواطنين.

لذلك فإنّ الدول الفدرالية تعمل بجد على تحقيق الاستقرار المالي والازدهار الاقتصادي من خلال توزيع السلطة والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. هذا التوازن يمكن أن يؤدي إلى إدارة أفضل للإنفاق الحكومي، وجباية الضرائب بشكل عادل، وإعداد الميزانيات بشكل شفاف. تظل الدول الفدرالية نموذجاً يمكن للدول الأخرى الاستفادة منه لتحقيق الاستدامة المالية والرفاهية لمواطنيها.

إنّ لبنان يعاني من تنوعه الديني والعرقي، والذي سبّب في التوترات السياسية والطائفية على مر العقود. من أجل معالجة هذه التحديات وتعزيز الاستقرار، يجب أن ينظر لبنان بجدية في الانتقال إلى نظام لامركزي موسّع. وهذه بعض الأسباب الرئيسية لذلك:

1- التنوع الديني: لبنان يضم مجموعة متنوعة من الطوائف والمجتمعات الدينية، بما في ذلك المسيحيين والمسلمين والدروز وغيرهم. نظام اتحادي سيسمح لهذه المجتمعات بالحصول على مزيد من الاستقلالية في إدارة شؤونهم الخاصة، مما يقلل من احتمال التصادمات الناجمة عن الصراعات الطائفية والسلطوية.

2- تمويل السلطة: النظام اللامركزي سيقوم بتمويل السلطة السياسية وتفويض المزيد من السلطة للحكومات المحلية أو الأقاليم. وهذا قد يؤدي إلى حكومة أكثر كفاءة واستجابة، حيث سيتم اتخاذ القرارات أقرب إلى الشعب المتأثر بها.

3- توزيع الموارد: موارد لبنان، سواء الطبيعية أو المالية، كانت مصدرًا للنزاعات التاريخية. نظام اتحادي يمكن أن يوفّر آلية أكثر عدالة لتوزيع الموارد بين الأقاليم، مما يساعد في تقليل الاختلافات الاقتصادية ومعالجة الشكاوى المتعلقة بتوزيع الموارد.

4- تهدئة النزاعات: تاريخ لبنان مليء بالحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، غالباً ما تنبع من الانقسامات الطائفية والصراعات على السلطة. وإنّ وجود نظام اتحادي يمكن أن يعمل كأداة لتهدئة النزاعات من خلال استيعاب مصالح مختلف المجتمعات وتوفير إطار للتعايش السلمي.

5- المساءلة: مع وجود حكومات محلية أكثر، يصبح من السهل على المواطنين محاسبة قادتهم على أفعالهم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى زيادة الشفافية وتقليل الفساد وتحسين الحكم بشكل عام.

6- تنمية اقتصادية: يمكن للأنظمة اللامركزية أن تعزّز من التنمية الاقتصادية عن طريق السماح للأقاليم بتصميم سياسات اقتصادية تتناسب مع احتياجاتها الخاصة. وهذا الأمر يمكن أن يجذب الاستثمارات ويحفّز النمو، مما يعود بالفائدة على البلاد بأكملها.

7- العلاقات الدولية: لبنان الاتحادي يمكن أن يحسّن من مكانته الدولية عبر تقديم مظهر أكثر استقرارًا وتماسكًا. وقد يؤدي هذا الأمر إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية والدعم.

8- قيم الديمقراطية: تسليط الضوء في الأنظمة الاتحادية على مبادئ الديمقراطية، مثل التمثيل ومشاركة المواطنين، ومن الممكن أن يعزّز هذا الأمر من التزام لبنان بالديمقراطية.

على الرغم من أن الانتقال إلى نظام اتحادي ليس بدون تحديات وتعقيدات، إلا أنه يمكن أن يقدم حلاً جديراً بالنظر لمشكلات لبنان السياسية والطائفية المستمرة. ومع ذلك، إنّ نجاح هذا الانتقال سيعتمد على التخطيط والتفاوض الدقيق واستعداد جميع الأطراف المعنية للعمل معًا من أجل مصلحة الوطن.

في الختام، يظهر النظام الفدرالي بوضوح أهميته الكبيرة في تعزيز الاستقرار والسلام في العديد من الدول حول العالم. يعمل هذا النظام على توزيع السلطة والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والكانتونات أو الولايات المحلية، مما يساهم في تحقيق العديد من الفوائد المالية والاقتصادية والاجتماعية. من خلال تمكين المجتمعات المحلية من اتخاذ القرارات التي تناسب احتياجاتها الفريدة، وتحقيق التنوع الثقافي والديني، وتوجيه الإنفاق بفعالية. يمكن للنظام اللامركزي أن يساهم بشكل كبير في الحفاظ على الاستقرار وتعزيز السلام داخل الدولة. إنه نموذج يستحق الاهتمام والدراسة لما يمكن أن يقدمه من منافع متعددة ومستدامة للمجتمعات والأمم.

 

بروفسور غريتا صعب

الودائع أحرجت الجميع وأسقطت الاتفاق والخطة

هناك مجموعة من الأهداف للزيارة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي الى بيروت الاسبوع الماضي، والتي انتهت ببيان تعدّدت القراءات في تفسير مضمونه، لكن الهدف الرئيسي للزيارة تمثّل في حسم البند المتعلّق بالخسائر والودائع، للبناء عليه في التعاطي مع الدولة اللبنانية في المستقبل.

منذ توقيع الاتفاق الأولي على مستوى الموظفين في نيسان الماضي، وتعهّد الدولة بكل أركانها، بما فيها الرئاسات الثلاث، بتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه للوصول الى اتفاقية تمويل لخطة انقاذ مع الصندوق، برزت مسألة جوهرية تتعلق بتوزيع الخسائر، وملف الودائع، على انها نقطة مبهمة، تعمّدت «الدولة» ان تكون كذلك، لأنها لم تجرؤ على مكاشفة المواطنين بموافقتها على شطب القسم الاكبر من الودائع، بذريعة ان نجاح خطة التعافي صعب، اذا كانت هناك التزامات مالية كبيرة، مطلوب من الخزينة تسديدها.

المشكلة في هذا الملف، لا تقتصر على خطورة موافقة السلطة على مبدأ الشطب، بل تتمدّد الى مسألة محاولات التذاكي على المواطنين، وعلى صندوق النقد. وهكذا كانت الدولة تقول للناس ان اموالهم مؤمّنة، وانّ الودائع مقدسة، وان لا صحة لما يُقال في شأن شطب الودائع في الخطة التي وضعتها الحكومة. وفي المقابل، كان المسؤولون في الحكومة يخاطبون صندوق النقد بلغة التطمين الى انهم أقرّوا الخطة كما تم الاتفاق عليها، اي ضمان 100 الف دولار لكل المودعين، وشطب ما تبقى بوسائل متعددة.

هذه الازدواجية ومحاولات التذاكي، وبصَرف النظر عن انّ ضمان الـ100 الف دولار، من دون ان تَفي الدولة ومصرفها المركزي، بجزء من ديونها على الاقل، كانت مجرد وهم وتدجيل، إلّا أن الطامة الكبرى تكمن في استمرار التلاعب، وكأن ملفاً بهذا الحجم، يمكن أن يُنجز بكذبة من هنا، وتمويهٍ من هناك.

في هذه الاثناء، كان المسؤولون عن الملف اللبناني في صندوق النقد يتابعون عن كثب ما يجري على خطين: الخط الاول يتعلق بتنفيذ الدولة الاجراءات التي تعهدت بها، كممرات الزامية للوصول الى توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق، وقد تبيّن ان تنفيذ هذه الاجراءات لم يصل الى نسبة 20% مما هو مطلوب، وظل الكابيتال كونترول والانتظام المالي واعادة هيكلة المصارف مجرد مشاريع عالقة بين الحكومة والمجلس النيابي. والخط الثاني يتعلق بخطة التعافي، والتي تحولت الى لغز، بحيث انها كادت ان تضيع بين الحكومة والمجلس. السلطة التنفيذية تدّعي انها انجزت وارسلت الخطة الى المجلس للمناقشة، والسلطة التشريعية تدّعي انها لم تتلق اية خطة للنقاش.

هذا الغموض غير البناء، كان متعمّداً، ذلك ان أي طرف لا يريد ان يعترف بوجود خطة كاملة، لأنه سيضطر في هذه الحالة الى الاعتراف بقرار شطب الودائع. وهكذا تم اللجوء الى مناورات هزيلة ومكشوفة، كأن يقال مثلا انّ الخطة تنصّ على فك الارتباط (الالتزامات المالية) بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. أو ان تتعهد الدولة بتمويل مصرفها المركزي بما يوازي مليارين ونصف مليار دولار، وهي تعلم ان المطلوبات على المركزي حيال المصارف يقارب الـ80 مليار دولار، وتعرف ان «ديونها» حيال المركزي تناهز الـ70 مليار دولار.

هذا التكاذب الذي اعتقدت الدولة انه قد يمر، ويُقنع المودعين وصندوق النقد في آن، يكشف حجم الغباء والاستخفاف في عقول بعض المسؤولين.

في هذه الاثناء، كان صندوق النقد يراقب هذا التمويه المتعمّد، وينتظر ما سيؤول اليه الوضع. لكن، وبعدما اقترب الموضوع من الحسم، وصار لزاماً على الحكومة وعلى النواب ان يتخذوا قرارات واضحة حيال مسألة الودائع، وقعَ المحظور. وعندما لاحظ المسؤولون في الصندوق وصول الامور الى مأزق، قرروا ان يزورا لبنان للاطلاع على حقيقة الموقف القائم.

وهكذا تبلّغ وفد الصندوق، بما لا يحتمل اي لبس، ان النواب لن يوافقوا على اقرار اية خطة تتضمّن شطباً للودائع. وهذا الوضوح ليس سيئا، لكنه جاء متأخرا، وبعدما أضاع البلد حوالى فترة طويلة أمضاها في التفاوض مع الصندوق.

ماذا سيجري في المرحلة المقبلة، بعدما عاد وفد الصندوق بخلاصة ان مسألة شطب الودائع لن تمر؟

النتائج مرتبطة بسلوك الدولة اللبنانية، التي لا تستطيع ان تقول لا، من دون ان توجِد البديل. وبالتالي، صار مطلوبا تغيير منهجية مقاربة فلسفة خطة التعافي، واعادة التفاوض مع صندوق النقد حول بند الودائع. ولكن المفاوضات لن تنجح اذا استمرت كما كانت في السابق، بل ينبغي تقديم براهين تُثبت ان الدولة سوف تغيّر في منهجية التعافي، أي على الدولة ان تُثبت انها ستقلب معادلات النمو، من خلال إشراك القطاع الخاص بقوة في ادارة مقدرات الدولة، بكل تفرعاتها، وبأن خطط تقليص نسب التهرّب الضريبي والتهريب، وتوسيع مروحة المكلفين، ستنتقل الى التنفيذ، وان الحسابات التي يجريها صندوق النقد لاحتمالات نمو الاقتصاد، والقائمة على حسابات كلاسيكية تفترض ان الامور ستستمر كما كانت في السابق، ينبغي تغييرها، لأن الاستدارة نحو تغيير النهج، والانتقال الى اقتصاد الشراكة بين العام والخاص، سيؤديان الى نسَب نمو كبيرة، تسمح للدولة بتسديد قسم من ديونها، من دون ان يعيق قدراتها على القيام بواجباتها حيال ضمان استمرار النمو والتعافي على مستوى الدولة.

والسؤال، هل ستأخذ الدولة قرار تغيير النهج في خطة التعافي؟ ومتى ستبدأ مرحلة المفاوضات الجديدة؟ ومن سيتولاها من الجانب اللبناني؟

أنطوان فرح

هل ينتهي «زمن» الهيركات مع بلومبرغ؟

مثل أي موضوع يُطرح في لبنان، حَظي التعاون مع بلومبرغ بقدرٍ كبير من التغطية الاعلامية، واصبحت كلمة بلومبرغ مرادفة للتساؤلات والقلق، وموضع نقاشات وخلافات، بين مؤيّد ورافض. فهل يستحق هذا الموضوع ويحتمل هذا القدر من الاهتمام؟

بداية، لا بد من التذكير بأن لا علاقة لبلومبرغ بما يجري من نقاشات في لبنان، بمعنى ان الموضوع في حقيقته يرتبط بقرار انهاء مرحلة، والبدء في مرحلة جديدة، تحتاج الى منصة تداول لتنظيم السوق. وبالتالي، سواء كانت هذه المنصة بلومبرغ، أو رويترز أو حتى بورصة بيروت، فإنّ النتيجة واحدة، ولا علاقة للمنصات بها، بل ان النتائج التي قد تتمخّض عن هذه النقلة، سوف تتقرر في ضوء المسار الذي ستسلكه التطورات الاقتصادية والسياسية. وما ستقوم به الدولة، وما لن تقوم به، سيظهر في السوق المالي، عبر «شاشة» بلومبرغ.

هناك مجموعة نقاط يمكن تسجيلها مع بداية المرحلة الجديدة، بعضها مطمئن، وبعضها الآخر يثير القلق. في الايجابيات البديهية، ما يلي:
اولاً – تقليص حجم الاقتصاد النقدي، وهو مطلب خارجي، ركّزت عليه واشنطن في الفترة الأخيرة، وتبلّغه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وحاكم المركزي بالانابة وسيم منصوري.
ثانياً – تساهم في خفض عمليات تبييض الاموال، في حال وجدت.
ثالثاً – تعيد السوق المالي اللبناني الى اتّباع المعايير العالمية المعتمدة، اي انها تسمح بمعرفة السعر الحقيقي لليرة بناء على العرض والطلب، وبناء على معطيات الاقتصاد.
رابعاً – تسمح بتتبّع حركة الاموال، وتخفيف المضاربات المشبوهة، المرتبطة بأهداف ربحية او بأهداف سياسية، وما شابه.

في النتيجة انها بداية عملية تحرير وتوحيد لسعر الصرف، والخضوع لمعايير السوق والاقتصاد في تحديد سعر الليرة. وهنا، لا بد من الاشارة الى معلومات تفيد بأنّ بدء عمل بلومبرغ سوف يترافق مع قرار بتوحيد سعر الصرف، وهذا يعني ان السعر الرسمي للدولار (15 الف ليرة) قد يتغير، وكذلك سعر سحب اللولار من المصارف (ايضاً 15 الف ليرة). وهذا يعني ان الهيركات على الودائع الدولارية الذي تنظّمه تعاميم لمصرف لبنان حالياً قد ينتهي. لكن من البديهي انه سيتم في هذه الحالة تحديد سقف جديد للسحب، أقل بكثير من السقف الشهري الحالي (1600 دولار). وهناك من يقول انّ السقف الجديد سيكون بما يوازي بالليرة، 200 دولار شهرياً. وبما ان السحب وفق التعميم 158 بات بدوره، يتم من دون هيركات، فهذا يعني ان كل انواع الهيركات لقاء السحب من الودائع، قد تنتهي مع البدء في تنفيذ الاجراءات المواكبة لبدء عمل بلومبرغ في السوق اللبناني.

وفي النقاط التي تثير تساؤلات، يمكن ايراد التالي:
اولاً – هل ستكون داتا المعلومات بين يدي الجهة اللبنانية التي ستشرف على حركة السوق المحلي، ام انها ستكون متاحة للجهات الاجنبية المشرفة على عمل المنصة؟
ثانياً – في حال صحّ ما يُقال عن وجود عمليات تبييض في السوق، فهل ان تقليص حجم التبييض بعد دخول بلومبرغ، سيتسبّب بضغط اضافي على الليرة، انطلاقا من انخفاض كمية الدولارات المعروضة؟
ثالثاً – كيف سيترجم السوق عجز مصرف لبنان عن التدخل، كما تفعل في العادة البنوك المركزية في العالم. على اعتبار ان تحرير سعر الصرف وجعله خاضعا لمعايير السوق (floating) لا يعني انتفاء دور البنك المركزي، الذي غالباً ما يتدخل لدوزنة السوق، ومنع الصدمات الكبيرة، ضمن هوامش مُحدّدة. هذا الدور قد لا يستطيع مصرف لبنان القيام به، بما سيجعل المواطن تحت رحمة السوق فقط. وهذا يعني انّ استمرار تقصير الدولة في القيام بواجباتها الاصلاحية سيدفع ثمنه اللبناني فوراً في سوق الصرف، من خلال تراجع في قدراته الشرائية، وزيادة التضخم.
يبقى السؤال الاهم والأبسط الذي يطرحه المواطن اليوم: هل سيؤدي دخول بلومبرغ الى السوق الى تراجع الدولار او ارتفاعه؟ وهل صحيح ما يُقال ان الدولار سيرتفع بسرعة الى اسعار قياسية وشبه خيالية؟

صحيح انه لا توجد اجابة واضحة، على طريقة ابيض او اسود، لكن ينبغي أن نشير الى ان السوق في الشهرين الماضيين كانت حُرّة تقريباً، بمعنى ان سعر الدولار شبه المستقر لم يكن اصطناعياً. وحتى الدولارات التي أمّنها المركزي للدولة، لم تكن نتاج ضَخ دولارات من الاحتياطي، بل تمّ جمعها من السوق. واذا استثنَينا عامل موسم السياحة الذي ساهم في ضخ دولارات اضافية، وعامل الدولارات التي ضخها المركزي حتى نهاية تموز، نستطيع ان نقول ان سعر الليرة بدأ يتظَهّر على حقيقته قبل بدء مرحلة بلومبرغ. وبالتالي، لا يفترض ان نتوقع مفاجآت كبيرة بعد بدء عمل المنصة. وبالتالي، وفي حال طال الوقت قبل بدء عمل بلومبرغ، لمدة 3 أو 4 اشهر فإنّ سعر الليرة الحقيقي سيتبيّن في السوق، في حال واصل المركزي سياسته الحالية. وبالتالي، عندما تبدأ بلومبرغ، لن يكون هناك تغيير في حركة السوق، ولا في سعر الدولار. لكن الخوف ان سياسة الدولة لم تتغير. وعندما تتغير السياسة النقدية، ولا تتغير السياسة المالية والاقتصادية، فهذا يعني ان مسيرة الانهيار ستستمر. وبالتالي، إنّ مسيرة انهيار العملة الوطنية تحصيلٌ حاصل، سواء كانت بلومبرغ موجودة او غير موجودة.

أنطوان فرح

 

من العجز على الورق إلى العجز في حياتنا اليومية

منذ نحو ثلاثة عقود، نسمع ونقرأ عن موضوع العجز، في قيودنا وسجلّاتنا، وموازنتنا، وأرقامنا، لكن هذا الأخير كان عنواناً للكابوس، وحبراً على ورق، من دون أي تأثير على حياتنا اليومية لأنّ هذا العجز المستدام كان يُسدد ويعالج بديون داخلية وخارجية، كانت بنحو نصف مليار بعد خروجنا من الحرب، ووصلت إلى الـ 100 مليار حين تسلّم ملوك الحرب الإقتصاد والمال العام.

إعتاد المواطنون أن يسمعوا عن هذا الموضوع الشائك من دون أن يشكل خطراً أو تغيّراً على معيشتهم. أما اليوم فقد تغيّرت المعادلة ووصل العجز إلى الكارثة الحقيقية، لأنه لا يوجد وسائل لتمويله، وسيبدأ النقص في كل الحاجات يدق الأبواب.

للتذكير لم يكن لدينا أي توازن مالي بين المدخول والمصروف، منذ أكثر من 30 عاماً، لكن اعتادت الدولة والسياسيون على صرف أضعاف قدراتهم، إلى جانب الإستفادات الخاصة والفساد المستشري والمشاريع الوهمية، والأرباح الفادحة، وتقاسم الحصص والمكاسب في ظل صرف مليارات الدولارات من خارج الموازنات طوال ثلاثة عقود. هذه السياسة الدراماتيكية أوصلت البلاد إلى دين عام تخطّى الـ 100 مليار، لكن الكارثة الكبرى تفوق الأرقام، وهي أن أصبحت العادة البسيطة هي صرف عشوائي من دون خطط ولا استراتيجيات، لأن الخسائر والعجز كانا فقط في السجلات، وكانا يُدفعان في الحقيقة من جيوب الناس والودائع من دون حسيب ولا رقيب ومن دون أن يُدرك أحد ما يحصل في الدهاليز عن هذه الجريمة المالية والنقدية.

للتذكير أيضاً، كان هذا العجز يُموّل بواسطة سندات دين داخلية بالليرة اللبنانية، وبسندات دين خارجية (اليوروبوندز) والتي كانت جميعها تؤمّن فوائد مرتفعة وجذّابة، فكلما كانت تزداد المخاطر كلما كانت تزداد الفوائد، وتُجذب الأموال لصرفها عشوائياً، حتى فهمنا أن معنى الدين في الدولة كان بالحقيقة السرقة والفساد.

كما كان العجز يُموّل عبر المؤتمرات الإستثمارية الدولية، والتي كانت تنظّم من أجل لبنان، مثل مؤتمر باريس 1 و2 و3، روما، ستوكهولم، بروكسل ولندن التي كانت تعوّل عليها من جديد هذه الدولة الفاشلة لتسدد العجز، وكانت أيضاً تشجع استمرار الفساد والسرقة من دون أي إصلاح ومراقبة وملاحقة. إضافة إلى ذلك، لن ننسى أنه كان هناك بعض الأعوام الذهبية من النمو والإستثمارات مثل العام 2009 حيث وصل النمو إلى 8 %. فكان العجز يمتصّ من الدورة الإقتصادية والإستثمارات الخارجية ومن العجلة التجارية.

أما اليوم، وفي ظل أكبر أزمة مالية واقتصادية ونقدية في تاريخ العالم، وإنهيار القطاع المصرفي، وتدمير الثقة، إن مصادر التمويل المذكورة لم تكن صالحة:

لا تستطيع الدولة إصدار أي سندات لانعدام الثقة الداخلية والدولية، وبعد التعثُّر المالي الذي هو إفلاس مبطن، وتصنيفنا الإئتماني الدولي إلى رتبة RD-RESTRICTED DEFAULT.
إضافة إلى ذلك، أوضح حاكم المركزي بالإنابة انّ هناك توقيفاً نهائياً لاقتراض الدولة. أما عن البلدان المانحة، فليس وارداً تمويل سنت واحد لما يُسمّونها عصابة الفساد والفشل، فالحل الوحيد الدولي هو عبر صندوق النقد الدولي IMF، وشروطه الصارمة وتفاوضه المعقد، وإذا نجحنا فتمويله لن يتجاوز الـ 3 مليارات حداً أقصى في السنوات الثلاث المقبلة.

أما الدولة اللبنانية، فلا تطبع دولارات لسوء الحظ، لكن تطبع بكثرة ليرتنا الوطنية، التي انهارت وخسرت قيمتها، فإذا لجأت الدولة إلى زيادة الكتلة النقدية، لشراء العملة الخضراء، فهنا ستصبح عملتنا أقل من حبر على ورق، أما إذا لجأت الدولة إلى تمويل عجزها بواسطة الضرائب فهنا الكارثة الأكبر، لأن الضرائب في لبنان، حسب معرفتنا وخبرتنا، لا تُجبى، بل تخفف مداخيل الدولة، وتُفاقم التهريب، والتبييض والترويج، وستقتل ما تبقى من النمو والإستثمار. وإذا كان مشروع الضرائب جدياً، فلماذا الأيادي السود تمنع الجباية الإلكترونية للضرائب، وتتابع إقفال الدوائر العقارية، والمعاينة الميكانيكية وغيرها، والتي يُمكن أن تضخ بعض الأوكسيجين لهذه الدولة الفاشلة.

في المحصّلة، إن الحقيقة المؤلمة تتمثّل في انّ العجز الذي كان فقط في قيودنا الرسمية، أصبح اليوم في حياتنا اليومية، ولا يوجد أي سبل لتسديده، وتمويل أقل الحاجات الإنسانية للتعايش والصمود. فبعد 30 عاماً من النهب والفساد، وبعد ثلاثة أعوام من إدارة أكبر أزمة دولية، وصل السكين الحاد إلى الرقبة، ونتّجه نحو عدم قدرة الدولة على تمويل ليتر واحد من الفيول، وساعة كهرباء، وحبّة دواء، وكتاب للتعليم ودولار للإتصالات. ولا شك في أن مسلسل التدمير الذاتي واستراتيجيته يتكاملان لذل الشعب اللبناني على نحو أكثر، وفصلنا نهائياً عن العالم المتحضّر.

د. فؤاد زمكحل

مصير الدولار في لبنان بعد إطلاق منصّة «بلومبرغ»

 

بعد حديث حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري عن توجّه المصرف المركزي لتوفير منصّة تبادل جديدة عبر «بلومبرغ»، لتسهيل التداول وقلب الليرات إلى دولار، أسئلة كثيرة تُطرح عن دور المنصّة ومن سيكون المستفيد منها، هل ستكون لتمويل احتياطات الدولة من الدولار فقط ام ستكون مفتوحة للجميع؟ ولعلّ الأبرز مصير سعر الصرف في المرحلة المقبلة، وهل من متغيّرات مرتقبة في سعر دولار المصارف؟

للوهلة الاولى يعطي الحديث عن إنشاء منصّة تداول دولية «بلومبرغ» انطباعاً ايجابياً عن المرحلة المقبلة، لاسيما اذا كانت معطوفة على التصريحات المتلاحقة لحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، وتأكيداته المتكرّرة بأنّ لا رجوع عن قرار عدم تمويل الدولة اللبنانية بالليرة أو بالدولار، وأنّه لم يعد بالإمكان الاستمرار في السياسات السابقة، الى جانب طمأنة منصوري الى أنّ إعادة الأموال للمودعين ليست مستحيلة، ولا ينبغي أن ينتظر المودعون لفترة أكثر.

هل يمكن التعويل على كلام منصوري لفتح نافذة جديدة على الشق المالي، لا سيما في ظلّ التحذيرات المتكّررة من خطورة التأخّر في إقرار القوانين الإصلاحية، وخطورة الاستمرار في الاقتصاد النقدي الذي يعرّض لبنان لمخاطر عزله عن النظام المالي الدولي؟ ومتى بدأ التداول عبر منصّة «بلومبرغ»، اي سعر صرف سيعتمد السعر الرسمي أي 15 الفاً أم السعر الذي توقفت عنده منصّة صيرفة 85 الفاً؟ وفي حال توحيد سعر الصرف، ما سيكون مصير سعر دولار المصارف، هل يبقى عند 15 الفاً أم سيرتقي لسعر السوق الحقيقي؟ واساساً، ما هو سعر الصرف الحقيقي الذي سيكشف عنه التداول عبر «بلومبرغ»، هل يتجاوز الـ 100 الف أم سيتراجع الى ما دون سعر صيرفة؟ وهل سيعتمد سعر التداول في الموازنة وتسعير الانترنت والكهرباء؟…

في السياق، يقول رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ«الجمهورية»، انّ هدف المنّصة الجديدة هو إضفاء نوع من الشفافية على العرض والطلب، الى جانب تحديد سعر الدولار الحقيقي في السوق اللبناني من دون اي دعم وتدخّل من مصرف لبنان.

أضاف: «انّ «بلومبرغ» هو اسم عالمي. لذا انّ الارتباط فيها اساسي»، موضحاً أنّ «آلية عمل المنصّة ستصدر عن مصرف لبنان وليس عن «بلومبرغ» التي ستكون المضيف الحاضنة للمنصّة».

وشرح انّ مصرف لبنان سيعطي الإذن للمصارف والمؤسسات المالية كما الصيارفة المرخّصين للتدخّل بشكل مباشر على هذه المنصّة طلباً للدولار باسم زبائنهم، مرفقاً بمعلومات كافية عنهم. وأشار الى اّن أكثر طرف يطلب الدولار هم كبار المستوردين الذين سيأتون بالدولار النقدي بغرض الاستيراد. وأشار الى انّ طلب الدولار سيكون وفق سعره في السوق السوداء وليس وفق سعر مدعوم. لذا ما من حافز يشجّع بقية الأفراد للتداول عبر هذه المنّصة على عكس منصّة صيرفة التي جذبت كل الافراد للتداول عبرها، مستفيدين من فارق الدولار بينها وبين سعر السوق السوداء.

ورداً على سؤال، أكّد غبريل انّه لا يمكن معرفة سعر الدولار الحقيقي في السوق قبل البدء بعملية التداول، لأنّ هذه المّرة سيكون سعر الدولار مبنياً على العرض والطلب الذي يمثل فعلاً الطلب بالاقتصاد اللبناني وليس الطلب على الدولار بغية تحقيق ارباح او المضاربة.

تابع: «يجب ان يستبق التداول عبر «بلومبرغ» تعاون السلطات التنفيذية والتشريعية لتطبيق الاصلاحات للخروج من الأزمة. لكن، وبما انّ الجو اليوم غير مؤاتٍ لتمرير القوانين الاصلاحية التي ينتظر إقرارها انتخاب رئيس للجمهورية، لذا يبدو انّ منصة التداول ستنطلق قبل ذلك».

وعمّا اذا كان التداول عبر «بلومبرغ» هو ممر لتوحيد سعر الصرف أكان سعر الصرف الرسمي او سعر دولار المصارف او دولار الموازنة وغيرها، قال: «انّ توحيد سعر الصرف هو أحد الإجراءات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وعندما رفع المصرف المركزي سعر الصرف من 1500 ليرة الى 15 الفاً أصدر التعاميم اللازمة لتوحيد بعض الاسعار، مثل اسعار السحوبات من المصارف والاسعار الواردة في التعميمين 151 و 158 على 15 الفاً، لكنه لا يزال من المبكر الحديث عن توحيد سعر الصرف، رغم انّه هدف منشود على المدى الطويل. لذا، تبقى انّ اول خطوة مطلوبة اليوم هي اطلاق المنصّة ولننتظر لنرَ الاجراءات التي يمكن اتخاذها لمواكبة هذه الخطوة، وصولاً الى توحيد سعر الصرف، اذا كان الهدف السير بالبرنامج الاصلاحي».

ايفا ابي حيدر

الضرائب التخريبية V/S الضرائب الإنمائية

 

نذكّر ونكرّر ونشدّد على أن مشروع الموازنة المقترح من مجلس النواب يضمّ إصلاحات وهمية في العناوين، ومبني على ضرائب حيال شعب منهوب، وإقتصاد مهترئ. ينبغي التركيز على هدف الضرائب في البلدان المتمدّنة، مقارنة بين الضرائب التخريبية والتدميرية والضرائب الإنمائية والإنتاجية.

تأتي الضريبة عادة، من ضمن رؤية واستراتيجية، إقتصادية ومالية ونقدية، وتهدف مبدئياً إلى تمويل الكلفة التشغيلية، ودفع رواتب وأجور القطاع العام، والمتعاقدين في الدولة، وخصوصاً لتأمين إستثمارات بنّاءة تهدف إلى النمو وخلق فرص الوظائف.

إن أساس السياسة الضريبية تهدف إلى تأمين إحتياجات المواطنين، في الصحة والتعليم والأمن وتأمين البنى التحتية، وتحسين نسبة عيشهم، وتوفير حاجاتهم. بمعنى آخر إن الضريبة هي استثمار مع مردود لهذا التمويل. فإذا أعطى المواطنون بيد، يسترجعون أضعافاً من الخدمة والإنماء والفرص من جهة أخرى.

إذا نظرنا في مبدأ الضرائب في لبنان، نرى بوضوح أننا مرة أخرى نسير عكس القطار، فإذا كان هدف الدولة تمويل الكلفة التشغيلية، نتساءل عن أي كلفة تشغيلية عندما نلاحظ أن معظم إدارات الدولة مقفلة ومتوقفة عن العمل. أما إذا ركّزنا على رواتب وأجور القطاع العام فلا نستطيع أن ننسى أو نتناسى أن هناك قسماً كبيراً من موظفي القطاع العام يجهلون مكان عملهم، ويتقاضون رواتب من مصادر عدة، من دون أن ننسى أن جزءاً كبيراً من التوظيف عادة يكون سياسياً، حزبياً وطائفياً وليس إنمائياً.

من جهة أخرى ندرك تماماً أن قسماً من موظفي الدولة، لا يعيشون من رواتبهم، لكن يتّكلون أساساً على الرشاوى التي يتقاضونها أضعافاً مضاعفة بالدولار الفريش. أما إذا ركّزنا على البنى التحتية، فهناك أموال هائلة صُرفت، هُدرت وسُرقت على مشاريع وهمية، وعلى بنى تحتية متهالكة ومهترئة. أما الإستثمارات فإذا حصلت، فإنّ عمودها الفقري الفساد وتوزيع المشاريع لأهداف خاصة بعيداً عن الإنماء. أما فرص العمل فهدفها إذا خُلقت، يكون عادة إنتخابياً وليس إنتاجياً.

من جهة ثالثة، إذا ركزنا على مَن يدفع الضرائب ولمن: مَن يلاحق بالضرائب هو شعب منهوب، ومذلول ومنكوب، ومسروق من الذي يُطالبه ذاته. فهذا المواطن يُلاحق بضرائب عشوائية من دون أي مردود، ومن دون أي خدمة بالحد الأدنى، أكانت أساسية أو إنسانية: فلا طبابة، ولا تعليم، ولا كهرباء، وطرقات، ولا مياه، ولا إتصالات ولا بنى تحتية، وحتى يمكن أن نصل إلى لا أمن. أما الذين يطالبون بالضرائب فهم المسؤولون المباشرون عن أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية ومالية ونقدية في تاريخ العالم، وهم المسؤولون عن أكبر عملية نهب في الكرة الأرضية، وها هم اليوم يلجأون إلى ضرائب إضافية لتمويل فشلهم وتمويل عجزهم ولا سيما تمويل خساراتهم.

فها هي البدعة الجديدة، بأن الضرائب ستُستعمل لتمويل الخسائر وتسديد العجز. نذكّر ونشدد على أن الخسارة وقعت، من سوء إدارتهم ومن فسادهم ومن سرقتهم، وإستُعملت لتمويل أهدافهم السياسية وحملاتهم الإنتخابية وبناء قصورهم. أما العجز فوقع من وراء سوء إدارتهم أيضاً، وإن أساساً أي عجز لن يُسدّد بالضرائب لكن بالإنماء والإستثمار وإستقطاب المستثمرين والرياديين والمبتكرين، وليس تهريبهم وطعنهم يوماً بعد يوم.

أخيراً إنه من المعروف في لبنان أنّ أقل من 50% من الشعب اللبناني يسدّد الضرائب، وأقل من 50% يُجبى من الدولة. وأي رفع للضرائب يعني زيادة التهريب والتبييض والترويج وتحفيز الإقتصاد الأسود، وطعن الإقتصاد الأبيض. بمعنى آخر إنّ زيادة الضرائب عشوائياً، تضرب النمو الحقيقي، وتزيد النمو التخريبي، ولا تزيد مداخيل الدولة لا بل تُنقصها.

في المحصّلة، إننا في لبنان بعيدون عن مبدأ الضرائب الإنتاجية والإستثمارية لا بل إننا ملوك الضرائب التخريبية والتدميرية، متّبعين الحفر في الخندق العميق ذاته من جهة القعر وليس من جهة النور.

 

د. فؤاد زمكحل