أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الاحترار العالمي والنفط المجنى عليه

حتى قبل أن يبدأ، كان من الواضح أن مهرجان «كوب28» تحت شعار «إنقاذ كوكب الأرض» الذي نظمته الأمم المتحدة، لن يفي بالتوقعات العالية التي كان بعضها متناقضاً، لدى 198 دولة وعشرات المنظمات غير الحكومية التي حضرت المؤتمر بمختلف الأجندات، بما في ذلك بعض الأجندات الخفيّة.

وعليه، فليس من المستغرب أن يعلن بعض المشاركين «فشلاً كبيراً» للمؤتمر حتى قبل أن يدق رئيسه، الشيخ سلطان أحمد الجابر، بمطرقة النهاية.

وكان لافتاً إلقاء اللوم على «العرب» وعلى منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بأسرها. غير أن الحقيقة هي أن منظمة «أوبك» ككلٍّ تمثل ما يزيد قليلاً على ثلث الإنتاج العالمي من النفط. وأن من بين كبار منتجي النفط هناك دولتان عربيتان فقط هما السعودية والعراق، إذ تحتل الولايات المتحدة وروسيا وكندا المركز الأول والثالث والرابع على التوالي كأكبر منتجين للنفط. ومن بين أكبر 20 مستهلكاً للنفط الخام، هناك دولتان فقط عضوان في «أوبك» هما إندونيسيا وإيران.

إذا كان أخطبوط «النفط السيئ العظيم» موجوداً فإن مخالبه تمتد إلى ما هو أبعد من العرب و«أوبك»، من الصين والهند إلى الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وكندا، والمكسيك، والبرازيل.

لكن السؤال: لماذا نشأ «النفط السيئ العظيم» في المقام الأول؟

أصبح النفط عنصراً لا غنى عنه لبناء ما أصبح يُعرف باسم «العالم الحديث» الذي وعد بنمط حياة من الحركة والسرعة في خدمة التجارة العالمية الحرة استناداً إلى نظرية الميزة النسبية. فمنذ البداية، أي في وقتٍ ما من القرن التاسع عشر، سيطرت على تجارة النفط حفنة من الدول الغربية، وباستثناء الولايات المتحدة كانت جميعها تمتلك شركات نفط مملوكة للدولة وآلة عسكرية لحماية وتوسيع مصالحها النفطية. وكان «العالم الحديث» يعني التحضر السريع، والمسافات المتنامية بين أماكن العمل والسكن التي تتطلب النقل، بما في ذلك السيارات التي تعد أحدث رمز للحرية الفردية، جرى الترحيب بها. وكان نمط الحياة الجديد يعني أيضاً بناء مدن رأسية عملاقة مستهلكة للطاقة، ويُنظر إليها بوصفها الرموز الأكثر فاعلية للثروة والسلطة. حتى اليوم، يعد بناء ناطحات السحاب تذكرة الدخول إلى «العالم الحديث». كما ساعد النفط الرخيص على جعل انتقال العمالة والهجرة إلى مستويات غير مسبوقة أمراً ممكناً.

من عجيب المفارقات هنا، أن الكثير من أنصار البيئة الغربيين الذين يلومون «النفط السيئ العظيم» ينسون كل ذلك، وينسون بضع حقائق أخرى؛ أولاها أن الحكومات الغربية تكسب المزيد من المال من الضرائب على النفط ومشتقاته أكثر من الدول الأعضاء المتوسطة في منظمة «أوبك».

في الوقت نفسه، يأتي الجزء الأكبر من الاستثمار في استكشاف وإنتاج احتياطيات نفطية جديدة من الشركات «الغربية»، وإلى درجة أقل من الشركات الروسية والصينية. في حين يتحدث أنصار البيئة الغربيون عن الحاجة إلى إنهاء سطوة النفط، فإن عاماً واحداً لا يكاد يمر من دون أن تفتتح شركاتهم حقول النفط الجديدة في البحر الأبيض المتوسط، وخليج غينيا، والبحر الأسود، بل حتى الدائرة القطبية الشمالية والقارة القطبية الجنوبية.

إذا كان الاحترار العالمي يشكل تهديداً حقيقياً لكوكب الأرض، فلا ينبغي لنا التعامل معه بوصفه مشكلة فنية يتعين على التكنوقراط حلّها. بل إنها مشكلة حضارية لا يمكن التعامل معها إلا إذا كنا مستعدين للتفكير والبدء في العمل من أجل نمط حياة بديل أقل اعتماداً على السرعة والحركة والمدن الضخمة والنمو الاقتصادي الذي يقوده المستهلك. والبدائل المقدَّمة في هذا الشأن تفتقر إلى المصداقية إلى حد بعيد.

إن الحفاظ على نمط الحياة الحالي الذي يتمدد على نحو عرضي إلى الصين والهند والكثير من «الدول الناشئة» بينما يحاول استبدال بدائل تشتمل على عدد من المجهولات بالنفط، ناهيكم بالمجهولات المجهولة. وقد تبدو الطاقة النووية ذات جاذبية، لكن الحقيقة هي أننا ما زلنا لا نعرف إلا القليل عن تأثيرها على المدى الطويل، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتخلص من النفايات الناجمة عنها.

إن إعادة فتح مناجم الفحم المهجورة منذ فترة طويلة في أستراليا، والولايات المتحدة، وبولندا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، من بين بلدان أخرى، ترقى إلى محاولة استخدام شر أكبر للتعامل مع شر أقل خطورة. ولا تزال الطاقات المتجددة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة الهيدروجين، وغيرها من العناصر في مهدها المبكر، وإذا ما استمرت مستويات الاستثمار والتقدم التكنولوجي الراهنة، ربما يستغرق الأمر عقوداً من الزمان حتى يتسنى لها دعم «العالم الحديث» كما نعرفه. ومن غير المرجح أن تنجح أفكار متطرفة مثل «نهاية الهوس بالنمو الاقتصادي» وثقافة جديدة لإعادة التدوير الجديدة، في تأمين الدعم الشعبي المطلوب للانتقال الجاد من أسلوب حياة إلى آخر.

على أي حال، يُظهر التاريخ أن الحضارات القائمة على إعادة التدوير وعدم النمو تنتهي إلى الزوال، وأبرز مثال على ذلك كان الحضارة السومرية القديمة.

إن إلقاء اللوم على «النفط السيئ العظيم» قد يوفر عذراً جاهزاً لفشل الزعامات السياسية، خصوصاً في البلدان الأكثر قوة، في تقديم المشكلة بوصفها مشكلة تتعلق ببناء نمط حياة عالمي مختلف وأكثر استدامة، وليس مجموعة من المسائل المنفصلة مثل غمر جزر المحيط، وانتشار تلوث الهواء إلى ما وراء المدن الضخمة التي تسمم سكانها بالفعل.

وبما أن النموذج الشائع حالياً استغرق تشكيله قرنين تقريباً، فمن السذاجة أن نتوقع ظهور بديل مع عدد قليل من تجمعات مؤتمر «كوب28» والحلول الزائفة، مثل بيع بعض الدول آثار الكربون لدول أخرى.

فمنذ مؤتمر باريس عام 2015، اختار أولئك الذين يقودون حملة «إنقاذ الكوكب» اتباع نهج تدريجي في التعامل مع مشكلة، إذا كانت قائمة لا يمكن حلها من خلال الحيل الدبلوماسية، وتحديد أهداف قطاعية مثل زيادة الحد الأقصى للانحباس الحراري العالمي بمقدار درجتين مئويتين بحلول تاريخ اعتباطي، ثم لعبة تمرير المسؤولية الحتمية.

على الطرف الآخر من الطيف، يندهش أنصار البيئة أيضاً من الآلام قصيرة الأمد حين يتظاهرون بأن إلقاء الطلاء على لوحة فان غوخ في المعرض الوطني أو منع الوصول إلى المترو في باريس من بين أفضل السبل لدعوة الناس إلى التفكير في التحول الذي ربما أصبح أمراً لا مفرَّ منه.

خمِّن أيَّ دولة صناعية قد حققت نجاحاً أكبر في الحد من بصمتها الكربونية أساساً عن طريق استبدال سيارات كهربائية بالسيارات الكلاسيكية. الجواب هي النرويج. ولكنها أيضاً خامس أكبر مُصدر للنفط في العالم وثالث أكبر مُصدر للغاز!

وما الدولة التي لديها أكبر إنتاج للطاقة الشمسية؟ الجواب هي الصين التي تعد أيضاً المستورد الأول للنفط في العالم.

إن قياس تأثير «النفط السيئ العظيم» ليس بهذه السهولة أبداً.

أمير طاهري

هذا هو الوقت المناسب لشراء العقارات في المملكة المتحدة

على مدار أكثر من عام، واجهت سوق العقارات في المملكة المتحدة عديداً من الضغوطات، لا سيما في ظل أسعار الفائدة المرتفعة، ما أسهم في إرباك واسع بالقطاع.

كذلك ارتفعت الإيجارات طيلة عامي 2022 و2023، في وقت أدت فيه اختلالات العرض والطلب إلى منافسة شرسة على العقارات المستأجرة.

وفي الوقت نفسه، بلغت معدلات الرهن العقاري أعلى مستوى لها منذ 15 عامًا في بريطانيا في وقت سابق من هذا العام، مدفوعة بارتفاع أسعار الفائدة وسياسات الحكومة البريطانية في هذا الصدد.

 ارتفع متوسط سعر الرهن العقاري الثابت لمدة عامين إلى 6.86% في يوليو (تموز)، حتى وصلت إلى 6%، وفقًا للأرقام الصادرة عن مزود البيانات  Moneyfacts.

الوقت حان!

وفي ظل تلك المعطيات، لا يبدو استئجار أو شراء عقار في المملكة المتحدة جذابًا بشكل خاص في الوقت الحالي. ولكن وفقاً لرئيس قسم الأبحاث السكنية في المملكة المتحدة في شركة Knight Frank العقارية، توم بيل،  فإن الأشهر المقبلة قد تكون الوقت المناسب لدخول السوق.

يقول بيل، في التصريحات التي نقلتها عنه CNBC: “إذا نظرت إلى ما يفعله بنك إنكلترا، فيمكن القول إن أفضل وقت هو الآن”. وعلى الرغم من أن التكهنات تحولت الآن إلى متى سيتم خفض أسعار الفائدة، يقول بيل إنه من غير المرجح أن تنخفض أسعار الرهن العقاري بشكل حاد، مردفاً: “نحن نتحدث عن حركات صغيرة للأسفل”.

رفع بنك إنكلترا، مثل عديد من البنوك المركزية حول العالم، أسعار الفائدة في محاولة لتهدئة الاقتصاد. وتشير البيانات الأخيرة، بما في ذلك أرقام التضخم، إلى أن أسعار الفائدة المرتفعة لها التأثير المطلوب في خفض الأسعار، وبما يزيد التوقعات بأن البنك المركزي قد يبدأ في خفض أسعار الفائدة الأسعار في العام 2024.

الرهن العقاري

وعادةً ما تؤدي معدلات الرهن العقاري المرتفعة إلى انخفاض أسعار المنازل، وهو اتجاه انعكس في المملكة المتحدة، على الرغم من أن الأسعار لا تزال أعلى من مستويات ما قبل الوباء، وفقًا لريتشارد دونيل، المدير التنفيذي للأبحاث في شركة البيانات العقارية Zoopla.

وتابع: “لقد انخفضت الأسعار بشكل متواضع بأقل من 5٪ مع بقاء أسعار المنازل أعلى بمقدار 40 ألف جنيه إسترليني عما كانت عليه قبل بدء الوباء في أوائل عام 2020”.
ومع ذلك، أشار دونيل إلى أن المعاملات انخفضت بنسبة 23% هذا العام، وعلى الرغم من أن هذه ليست أخبارًا جيدة لسوق العقارات، إلا أنها قد تكون جيدة لبعض المشترين.

وأوضح أن متوسط البيع المتفق عليه هو أقل بـ 18 ألف جنيه إسترليني من السعر المطلوب، وهو أعلى خصم منذ أكثر من 5 سنوات. وهذا يعني أن الوقت مناسب لدخول السوق للتفاوض بشكل أكثر جدية بشأن الأسعار مع زيادة عدد المنازل المعروضة للبيع بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي.

ووفق Knight Frank، فإن الأشهر الستة المقبلة قد تكون الوقت المناسب للصعود في سلم العقارات، ذلك لأن المعنويات تحسنت بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية.

انخفاض الأسعار

وقد تستمر الأسعار أيضًا في الانخفاض، كما يشير دونيل. والذي قال: “من المقرر أن تنخفض أسعار المنازل بنسبة 2٪ أخرى خلال العام 2024 حيث تتكيف الأسعار مع القوة الشرائية الأضعف حتى لو انخفضت أسعار الرهن العقاري بشكل أكبر”.

ومع ذلك، هناك رياح معاكسة محتملة لسوق المبيعات؛ تتمثل في الانتخابات العامة المتوقع إجراؤها في الخريف المقبل في المملكة المتحدة. وفي هذا السياق نوه بيل بأن أسواق العقارات غالبًا ما تتباطأ في الفترة التي تسبق الانتخابات، خاصة عندما يكون من المتوقع حدوث تغيير في القيادة – كما هو الحال الحال حاليا في بريطانيا.

وفي الوقت نفسه، من المتوقع أن تظل سوق الإيجارات ضيقة، مع استمرار ارتفاع الإيجارات، ومع مؤشرات القوة في سوق العمل، وارتفاع مستويات الهجرة وارتفاع معدلات الرهن العقاري، وجميعها عوامل تلعب دوراً، وفقا لدونيل.

تابع: “سيظل اختلال التوازن بين العرض والطلب حتى العام 2024، لكن الطلب سيضعف مع تزايد ضغوط القدرة على تحمل التكاليف.. ومع ذلك لا يزال من المتوقع أن ترتفع الإيجارات بنسبة 4-5% العام المقبل”.

ملايين البراميل الطوعية

لم تفهم السوق نتيجة اجتماع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) وحلفائها، ولهذا انخفضت أسعار النفط بعد انتهاء الاجتماع يوم الخميس 30 نوفمبر (تشرين الثاني).

كانت أسعار النفط بدأت في التفاعل مع تسريبات وكالات الأنباء قبل وخلال الاجتماع، حيث ذكرت كثير من الوكالات أن التحالف بقيادة السعودية وروسيا سيخفض مليون برميل يومياً كخفض جديد.

لكن بمجرد صدور بيان الاجتماع السادس والثلاثين في تاريخ المنظمة، انخفضت أسعار النفط. لماذا؟

سوق النفط والمضاربون لا يفهمون البروتوكولات الإعلامية للمنظمة. ولا يفهمون أن الدول كانت تتناقش حول تخفيضات طوعية وليست إلزامية، ولهذا لا يمكن وضعها ضمن بيان المنظمة الذي خرج هزيلاً وضعيفاً في نظر السوق.

البيان لم يأت بجديد سوى أن التحالف اتفق مع الدول الأفريقية الثلاث (أنغولا والكونغو ونيجيريا) حول حصتها الإنتاجية في اتفاق خفض الإنتاج الذي سيدخل حيز التنفيذ بدءاً من الأول من يناير (كانون الثاني).

وحتى هذه الجزئية لا تهم السوق كثيراً، لأن هذه الدول لا تستطيع الإنتاج بما يكفي، وماذا يعني أن حصة أنغولا ستصبح 1.1 مليون برميل يومياً بدلاً من 1.28 مليون برميل قبل انتهاء «رايستاد إنرجي» و«وود ماكينزي» و«آي إتش إس» من تقييم قدرتها؟

الأمر نفسه ينطبق على نيجيريا التي ستحصل على عكس أنغولا على زيادة قدرها 122 ألف برميل يوميا إلى 1.5 مليون.

بالطبع أنغولا رمت بالبيان الصحافي عرض الحائط، وقال محافظها في «أوبك» بعد الاجتماع إن بلاده لن تلتزم بهذا الرقم وستنتج 1.8 مليون برميل يومياً، في مشهد كلاسيكي لما يجري في «أوبك». وأنا هنا أشيد بموقفها، حيث لم تعلن خروجها من المنظمة والتحالف مثلما تفعل دول مثل الإكوادور في كل مرة لا تعجبها الحصة.

عموماً السوق كانت تبحث عن التخفيضات في البيان، ولكن بما أنها طوعية فهي لم تجدها، وكان على السوق الانتظار لحين تعلن الدول واحدة تلو الأخرى عن تخفيضاتها.

البداية كانت مع كازاخستان التي كانت أول دولة أعلنت عن كمية الخفض الطوعي، تلتها السعودية، ومن بعد ذلك الكويت وروسيا والإمارات وعمان والعراق والجزائر.

عموماً وصل حجم التخفيضات الطوعية إجمالا -والمعلنة كل على حدة- إلى 2.2 مليون برميل يومياً تستمر خلال ثلاثة أشهر من بداية يناير إلى نهاية مارس (آذار) من العام المقبل. هذه خطوة احترازية من التحالف للتحوط ضد هبوط الطلب في الربع الأول في نظري، ولكن محللين مثل مايكل روثمان رئيس شركة «كورنر ستون»، يرى أنها خطوة لمنع المخزونات من البناء خلال الفترة التي يضعف فيها الطلب.

السوق تجاهلت أن هناك اتفاقاً سيسري في أول يناير سيخرج نحو 3.6 مليون برميل يومياً من براميل تحالف «أوبك بلس» من السوق، وركز على بيان لم يرو غليل المضاربين.

هل نجحت «أوبك بلس» في اتفاق ملايين البراميل الطوعية؟ سنرى عما قريب. حيث ستحتاج السوق إلى دليل على أن البراميل الطوعية حقيقية وليست أرقاما للاستهلاك الإعلامي.

بالحديث عن الإعلام، كان من الأفضل تسريب اتفاق البراميل الطوعية للسوق عبر الإعلام وجعله حقيقة، ثم الخروج ببيان «أوبك» غير الواضح للسوق، وربما عقد مؤتمر صحافي لتوضيح الأمور للسوق بشكل أفضل. أعلم أن «أوبك» تشن حملة ضد التسريبات، وتحاول التحكم في كل ما يتناول في الإعلام، ولكن مرات يكون للتسريبات قيمة خاصة عندما تحافظ على دخل الدول ولا تجعل أسعار النفط تهبط.

 

وائل مهدي

منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار

إن مناخ الاستثمار هو منظومة من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحدد مستقبل الاستثمار، إذ إن هناك عوامل رئيسية تحفّز على الاستثمار، حيث إنه يمثل أهمية كبيرة لأي دولة، فهو يساهم في النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل، بالتالي تقليل البطالة وتحسين الناتج المحلي الإجمالي، وتحاول كل الدول جذب الاستثمارات إليها، وتنجح بعض الدول في ذلك بينما تخفق دول أخرى، إذ يتوقف ذلك على توفير عوامل جذب الاستثمارات في كل دولة، مما يحفز المستثمرين، سواءً من الأفراد أو شركات رأس المال، على ضخ رؤوس الأموال في تلك الدول.

ويُعَد عدم اليقين من المتغيرات المهمة في مناخ الاستثمار على المستوين الكلي والجزئي، وإن التوقعات التجارية ليست سوى تقديرات قائمة على حسابات الشركات، وقد تتغير هذه التوقعات بسرعة استجابة لشائعات أو أخبار عن التطورات التكنولوجية أو غيرها، ولذلك من الصعب حساب العائد السنوي على الأصول الرأسمالية، بسبب عدم التيقن الناتج عن التطورات التكنولوجية السريعة، وهذا يمثل متغيراً مهماً في مستقبل الاستثمار.

وإذا كان المخزون من السلع الرأسمالية كبيراً، فإنه سيُثني المستثمرين المُحتملين عن الدخول في عملية إنتاج السلع، وأما إذا كانت المنشأة أو المصنع تعمل بكامل طاقتها، فإن زيادة الطلب على السلع المُصنعة سوف تزيد الطلب على السلع الرأسمالية المستخدمة في عملية الإنتاج، مما يحفز على الاستثمار، وإذا ارتفع مستوى الدخل من خلال زيادة معدلات الأجور، سوف يزيد الطلب على السلع، مما يحفز على الاستثمار، من ناحية أخرى، إذا نتجت عن الاختراعات والابتكارات أساليب إنتاجية أكثر كفاءة تساعد على خفض التكلفة، على الأصول الرأسمالية الجديدة، مما يحفز الشركات على القيام باستثمارات أكبر في الأصول الرأسمالية.

وقد شكّل منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض محطة جديدة للتأكيد على أهمية الخطوات التي تنفذها السعودية في إطار «رؤيتها 2030 للتحول الاقتصادي» مع التركيز على الاستخدام الأمثل للتقنيات الحديثة ومجابهة تحديات الاقتصادات العالمية، إذ إن السعودية استطاعت أن تحوّل نفسها لتكون مركزاً للصناعات المتقدمة، إذ إن المنتدى افتتح أعماله في نسخته السابعة تحت عنوان البوصلة الجديدة، وسلط الضوء على الحلول الممكنة لمجابهة التحديات الاقتصادية والاعتماد على الاستخدام الأمثل للتقنيات الجديدة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، من أجل النهوض بالاقتصادات العالمية. ويعدّ المنتدى منصة تجمع كبريات الشركات، حيث خصصت قاعات لتبادل الآراء فيما بينها حول مناخ الاستثمار في السعودية والعالم، والتوقيع على كثير من الاتفاقيات، إذ إن السعودية استطاعت أن تحول نفسها لتكون مركزاً للصناعات المتقدمة.

وتناول المؤتمر الظروف التي يشهدها العالم، والجهود التي يبذلها الجميع في تحفيز مستقبل الاستثمار والاقتصاديات والمجتمعات لإيجاد نظام عالمي مستقر ومستدام، إذ إن المصارف المركزية وضعت سياسات رصد ومراقبة للحد من التضخم العالمي، وأن الحكومات وشركات القطاع الخاص في جميع أنحاء العالم تتأقلم مع هذا الواقع الجديد، إذ إن التطورات الهائلة التي تشهدها قطاعات التقنية في فترة وجيزة، ومن أهم هذه القوى الذكاء الاصطناعي الذي قد يزيد الناتج العالمي بنسبة أكثر من 15 في المائة وله القدرة على إيجاد مجتمعات أكثر شمولية ونموذج مستدام للتنمية.

حيث إن صندوق الاستثمارات العامة يشهد عهداً جديداً من النمو الاقتصادي والفرص الاقتصادية وفق «رؤية 2030»، فقد ركز على 13 قطاعاً لتحقيق التعددية وفرص جديدة، وأوجد 90 شركة جديدة في محفظته الاستثمارية، وأكثر من 560 ألف وظيفة، بهدف تحقيق الأثر الإيجابي محلياً وعالمياً، ولعل من المهم أن يسعى الجميع للإسهام في مجتمعات تحتضن التنوع بجميع أشكاله، مع العمل على الإمكانات الكاملة للإبداع والابتكار البشري، نحو الوصول إلى الشمولية، وأهمية السعي أيضاً وراء المعرفة والتعليم في عصر التقدم التكنولوجي السريع.

إن العالم يواجه تحديات كثيرة بدءاً من أسعار الفائدة وتعطل سلاسل التوريد وآثار الجائحة والتضخم وغيرها، ولكن السعودية تمكنت من تجاوزها وتحويلها إلى نقاط قوة مع وجود الاستقرار السياسي والاقتصادي، وتحويل التحديات إلى فرص من خلال الاستثمار في الشباب وريادة الأعمال والابتكار والتقنيات الحديثة بالشراكة مع الدول الصديقة والشركات الأجنبية.

وعلى الرغم من التباطؤ الاقتصادي العالمي، فإن السعودية استطاعت المضي لتصبح مركزاً عالمياً وسوقاً جاذبة للاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال من جميع أنحاء العالم، إذ هناك مجالات للتعاون بين مختلف دول العالم، ليس على مستوى السلع والخدمات فحسب، بل من ناحية تبادل الأفكار والابتكار ومناخ الاستثمار المناسب، حيث تعمل «رؤية 2030» على أن تكون السعودية مركزاً عالمياً ومنصةً اقتصاديةً شاملةً تعمل على استقطاب رؤوس الأموال الذي يُعَد من أهم المتغيرات التي تحدد مستقبل الاستثمار.

توطين التنمية في عالم شديد التغير (4)

أثارت قمة تجمع «بريكس» التي انعقدت في جوهانسبرغ الشهر الماضي، ردود أفعال وتعليقات تظهر أنه لا يمكن تجاهل هذه القمة، ليس فقط لما أسفرت عنه من قرارات من أهمها ضم أعضاء جدد، ولكن لما عبرت عنه من توجه مزداد التأثير عن الضيق ذرعاً بالنظام الدولي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. ففي هذا العالم شديد التغير؛ لم تعد حوكمة منظماته ومؤسساته المالية معبرة عن تغير الأوزان الاقتصادية، فضلاً عن اختلاف القوى السياسية عما كانت عليه الأوضاع في منتصف القرن الماضي، حيث لم يكن كثير من بلدان عالم الجنوب متمتعة باستقلالها أو معترفاً بوجودها أصلاً. ولم يتواكب التغير الطفيف في أسس عمل وتنظيم المؤسسات الدولية منذ تأسيسها ليستوعب التغيرات الكبرى بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة.

«بريك»، و«نيكست 11»، و«كيفيتس»، و«مينت»:

دأبت بنوك استثمار كبرى على استشراف آفاق نجوم صاعدة من الدول في الساحة العالمية اعتماداً على بعض مؤشرات قائمة وواعدة لأدائها. فإذا اشتركت هذه الدول في أرقام، ولا أقول خصائص، النمو المرتفع، جمعتها وفقاً لحروفها الأولى في مجموعة بدعوى التشابه في مستقبل واعد. ومن أشهر هذه الاجتهادات ما خرج عن بنك «غولدمان ساكس» في عام 2001، حيث ارتأى الاقتصادي جيم أونيل رئيس قسم بحوث الاقتصاد العالمي بالبنك حينئذ، أن البرازيل وروسيا والهند والصين أو دول «بريك»، تحقق افتراضات النمو الدافع للاستثمار فيها، ثم ضُمت إليها بعدها دولة جنوب أفريقيا فأصبح اسم المجموعة «بريكس».

وفي عام 2005، اختار البنك نفسه مجموعة دول سماها «نيكست إليفين» بمعنى الأحد عشر اقتصاداً تالياً في الصعود لـ«بريكس»، ناصحاً المستثمرين بها لما ينتظرها من نمو وتوسع اقتصادي؛ وكانت الدول وفقاً لترتيبها أبجدياً باللغة الإنجليزية هي: بنغلاديش ومصر وإندونيسيا وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان والفلبين وجنوب أفريقيا وتركيا وفيتنام. كما عدّت وحدة أبحاث «الإيكونوميست» في عام 2009، أي بعد أشهر من اندلاع الأزمة المالية العالمية، أن ست دول هي: كولومبيا وإندونيسيا وفيتنام ومصر وتركيا وجنوب أفريقيا، سمتها مجتمعة بالأحرف الأولى لها «كيفيتس»، تتمتع بفرص أعلى للنمو باقتصادات ديناميكية ومتنوعة وقطاعات مالية متطورة نسبية وبمميزات ديموغرافية. وفي عام 2013، روج جيم أونيل مصطلح دول «مينت»، الذي صاغه من قبل صندوق الاستثمار «فيدليتي» في عام 2011، اختصاراً بالأحرف الأولى لدول المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا؛ ورغم تباين هذه المجموعة من حيث خصائصها الاقتصادية والسياسية، كسابقاتها، جمعها كبر حجم اقتصاداتها ومواقعها الجغرافية الحيوية وشبابية هيكل السكان فيها، بما يحمله ذلك من فرص زيادة النمو بارتفاع الاستهلاك المحلي وزيادة الاستثمارات المطلوبة لتلبيته فضلاً عن التصدير.

ما هو أبعد من الاستثمارات الواعدة:

هناك اعتراف بتنامي دور هذه الدول المشكلة للتجمعات المذكورة في الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية عامة، بما يستوجب إفساح المجال لها في الحوكمة العالمية وعدالة وفاعلية تمثيلها في المؤسسات والمنظمات المعنية. وبمرور الأعوام على هذه الاجتهادات التجميعية لدول بحسبان ما قد يعود على المستثمر فيها من نفع صادف الاستثمار في بعضها ما هو متوقع، انحرف الأداء ببعضها الآخر عما كان مأمولاً. ولكن الهدف الأكبر لصاغة هذه المجموعات بأحرفها التسويقية المشهورة، تشكيل فئة استثمارية مميزة تحفز توجيه الاستثمارات بالتركيز عليها، بدلاً من المصطلح الفضفاض الذي يضم دولاً عديدة تحت اسم الأسواق الناشئة؛ والذي اقترحه الاقتصادي أنتوان فان أجتمل في عام 1981، أثناء عمله بمجموعة البنك الدولي، واصفاً بذلك دولاً في حالة انتقالية بين وضعها كاقتصادات نامية وطموحاتها لتصبح ضمن الاقتصادات المتقدمة. وقد تعدد وصف وتصنيف الأسواق الناشئة من قبل المحللين، فكان لإيان بريمر خبير السياسة الدولية تعبير لوصف الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة بأنها «تلك التي تشكل الاعتبارات السياسية فيها ما لا تقل أهميته للأسواق العالمية عن مقوماتها الاقتصادية».

وفي حين انزوت بعض التصنيفات المذكورة فكاد يطويها النسيان، إلا أن تجمع «بريكس» صمد وتطور عبر العقدين الماضيين وبخاصة لما كان من شأن الصين والهند تحديداً؛ ومن عوامل تماسك هذا التجمع اعتماده على دبلوماسية اجتماعات القمة والإعداد لها بمزيج من البراغماتية والطموح. ورغم تراجع نسبي لجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا بمعيار معادل القوة الشرائية في الاقتصاد العالمي، فإن الدول الخمس مجتمعة يفوق اقتصادها حالياً مجموعة الدول السبع، بالمعيار ذاته، بعدما كان نصيبها لا يتجاوز 40 في المائة من تلك الاقتصادات المتقدمة عام 1995. وستضيف الدول الست المدعوة للانضمام لـ«بريكس»، ومنها 3 دول عربية هي الإمارات والسعودية ومصر، زخماً اقتصادياً وتنوعاً جغرافياً للتجمع.

وهناك 3 أسئلة أختم المقال بإجابات مختصرة لها لأفصلها في مقال مقبل:

1- هل جوهانسبرغ 2023 بمثابة باندونغ 1955 الجديدة لعدم الانحياز؟

– لا! فنحن في عصر الانحياز حيثما تكون المصلحة الوطنية للدولة.

2- هل سيتخلى الدولار عن عرشه؟

– الإجابة تأتي شعراً من أحمد شوقي «ما نيل المطالب بالتمني…»، فالامتياز السخي للدولار كعملة صعبة كان محل نقد منذ الستينات؛ وقد تراجع انتشاره نسبياً كعملة احتياطية مفسحاً المجال لعملات أخرى، كما زادت حدة النقد ومحاولات التخلي عنه مؤخراً بعد «تسليحه». لكن تصور مستقبل العملات، والصعبة منها تحديداً، كعملة دولية تستدعي استحضاراً لتفاعل قوى الاقتصاد والسياسة والقانون والتكنولوجيا وثقافة العصر الرقمي.

3- هل هي بداية نظام عالمي جديد؟

– بل هي إرهاصات لبداية النهاية لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي ولى عهدها ولن تجدي محاولات الترقيع معها نفعاً؛ فالعالم قد تغير واتسع الخرق مع تغيره على الراقع!

د. محمود محيي الدين

التنويع الاقتصادي في «رؤية 2030»

تتباين مساهمات قطاعات الصناعات التحويلية والزراعية في توليد الناتج المحلي الإجمالي، استناداً إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2023؛ إذ تساهم الزراعة والصيد والغابات بنسبة 2.4 في المائة في توليد الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، والصناعات التحويلية بمقدار 14.7 في المائة، في حين تساهم الصناعات الاستخراجية بنسبة 33.1 في المائة، والتشييد 4.5 في المائة، والكهرباء والغاز والماء يمثل 1.06 في المائة، والتجارة والمطاعم والفنادق 8.2 في المائة، والنقل والمواصلات والتخزين 4.7 في المائة، والتمويل والتأمين والمصارف 4.4 في المائة، والإسكان والمرافق 5.2 في المائة، والخدمات الحكومية 14.2 في المائة، وأخيراً الخدمات الأخرى 2.4 في المائة. ويعدّ القطاع غير النفطي دافعاً أساسياً في النمو الاقتصادي، والذي يعكس نجاح السعودية في عملية التنوع الاقتصادي بعيداً عن النفط، وهو أحد أبرز مستهدفات «رؤية 2030».

وقد اتخذت السعودية إجراءات استباقية في ميزانية 2024 تحميها من الصدمات الاقتصادية الخارجية؛ إذ وجّهت إنفاقاً توسعياً يتجاوز 333 مليار دولار لتسريع تنفيذ الخطط الاستراتيجية القطاعية، حيث اتخذت إجراءات استباقية لتعزيز قدرة اقتصادها على مواجهة التحديات والتطورات وضمان الاستدامة المالية؛ وهو ما عكسته الأرقام الواردة في البيان التمهيدي لميزانية عام 2024، التي تستهدف من خلالها السعودية إيرادات بقيمة 312 مليار دولار، مقابل نفقات بنحو 333 مليار دولار، وبعجز محدود بقيمة 21 مليار دولار، أي ما يمثل 1.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.

وتطورت مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، الذي ساعد على تحقيق الاقتصاد السعودي أعلى معدل نمو في 2022 بين دول مجموعة العشرين، كما سجل هذا القطاع ثاني أعلى معدل نمو في 2023 ضمن المجموعة أيضاً، كما أعلن صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد السعودي يشهد تحولاً، بعد تنفيذ إصلاحات عدة للحد من الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز القدرة التنافسية؛ إذ إن التحسينات الهيكلية التي تجريها الحكومة عززت نمو الناتج المحلي للأنشطة غير النفطية، الذي انعكس إيجاباً على أداء الميزانية العامة للسعودية، حيث إن الإجراءات الإصلاحية عززت دور الأنشطة غير النفطية في أداء الميزانية، بفضل التنوع في مصادر الدخل، وعدم الاعتماد بشكل كبير على الإيرادات النفطية؛ إذ إن الاقتصاد السعودي طبّق سياسات إصلاحية فعّالة واحتوائية للأزمات مدعومة بوفرة مالية واحتياطيات نقد أجنبي مرتفع، حيث إن اقتصاد السعودية يقف على أسس صلبة ومتينة، انعكست على نتائج الميزانية العامة للدولة في 2024.

وترى مصادر مالية، أن العجز الذي يتوقع تسجيله يأتي بسبب زيادة الإنفاق على قطاعات مهمة؛ مثل الدفاع والتعليم والصحة، وتوقعت أن تزيد الإيرادات على تلك المتوقع لها بفعل التنامي الكبير للنشاط غير النفطي، وفي هذا الإطار، فإن الحكومة قدّرت الإيرادات لميزانية عام 2023 على أساس 82 دولاراً لسعر برميل خام برنت، وأفصحت السعودية في البيان التمهيدي لميزانية العام المالي 2024، عن الاستمرار في العمل على رفع كفاءة وفاعلية الإنفاق والضبط المالي، واستدامة المالية العامة، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية، وتحقيق مستهدفات «رؤية 2030».

لقد حدد الاقتصاديون مصادر النمو؛ إذ تعود إلى خمسة متغيرات، هي التوسع في الطلب الاستهلاكي، والطلب الاستثماري، والتوسع في الصادرات، وزيادة إحلال الواردات، ومن ثم التقدم التكنولوجي من خلال الابتكار والإبداع والبحث العلمي؛ إذ إن هذه المتغيرات تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد السعودي، فقد أكدت خطط التنمية الخمسية التي بدأ العمل بها منذ عام 1970 أهمية توسيع القاعدة الصناعية لتصبح مصدراً أساسياً للدخل؛ إذ تعدّ الصناعة مصدراً أساسياً للنمو إذا كانت نصيبها في الناتج المحلي الإجمالي لا يقل عن 25 في المائة، لكن البيانات تبين أن مساهمة الصناعة التحويلية في الإنتاج المحلي الإجمالي بلغت نحو 14.7 في المائة في السعودية عام 2022، استناداً إلى بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2023، ومقارنة بالدول حديثة العهد بالتصنيع، مثل البرازيل وتايوان وماليزيا، فإنها منخفضة بالمقارنة مع هذه الدول، حيث بلغت في ماليزيا نحو 23.9 في المائة استناداً إلى بيانات الصندوق النقد الدولي 2022.

وفي الختام، واصلت الحكومة السعودية عملية الإصلاحات الهيكلية على الجانبين المالي والاقتصادي؛ بهدف تنمية وتنويع اقتصادها، ورفع معدلات النمو المستدام مع الحفاظ على الاستدامة المالية، من خلال مواصلة تنفيذ برامج ومشروعات «رؤية 2030»، بالإضافة إلى إطلاق كثير من المبادرات والاستراتيجيات التي تسهم في تطوير القطاعات الاقتصادية الواعدة، وتعزيز جذب الاستثمارات، وتحفيز الصناعات، ورفع نسبة المحتوى المحلي والصادرات غير النفطية، بجانب الدور الفاعل لصندوق الاستثمارات العامة، والصناديق التنموية، مع استمرار تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي تعزّز من نمو الناتج المحلي للأنشطة غير النفطية بمعدلات مرتفعة ومستدامة، باتجاه التنويع الاقتصادي؛ كونه أحد أهم مستلزمات «رؤية 2030».

د. ثامر محمود العاني

قمة «أبيك» فرصة للتنمية الاقتصادية في العالم

عقدت القمة السنوية للرؤساء التنفيذيين لمنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي أبيك، في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، في الفترة من 14 إلى 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وجمعت القمة الرؤساء التنفيذيين ورجال الأعمال وقادة الفكر وأصحاب المصلحة الآخرين مع كبار القادة السياسيين من منطقة آسيا والمحيط الهادي، للحوار حول الفرص والتحديات العالمية التي تشكل الاتجاهات الاقتصادية والبيئية والمجتمعية في المنطقة، وتضمن برنامج القمة التركيز على خلق الفرص الاقتصادية من خلال مجموعة من المتحدثين الذين سلطوا الضوء على إمكانات التعاون والتفكير الجديد لبناء المستقبل من خلال التركيز على الاستدامة والشمول والمرونة والابتكار، وسيتضمن معرض القمة المصاحب، حلولاً وتقنيات رائدة يمكن أن تساعد في دفع النمو الاقتصادي العادل المستدام.

إن أبيك منتدى حكومي دولي يضم 21 دولة عضوا في حافة المحيط الهادي، وهو يعزز التجارة الحرة في جميع أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادي، بعد نجاح سلسلة المؤتمرات الوزارية لرابطة دول جنوب شرقي آسيا التي بدأت في منتصف الثمانينات، إذ تأسست المنظمة الاقتصادية في عام 1989، تلبية للنمو الاقتصادي المتزايد واستجابة للاعتماد المتبادل المتزايد لاقتصادات المنطقة وظهور التكتلات التجارية الإقليمية.

وتسعى أبيك لرفع مستوى المعيشة والتعليم من خلال تحقيق نمو اقتصادي متوازن وتشارك العوائد بين دول آسيا والمحيط الهادي؛ حيث يشكل تعداد السكان للدول المطلة على المحيط الهادي ما يقارب من 40 في المائة من عدد سكان العالم، ويعد المنتدى واحدا من أعلى التجمعات المتعددة الأطراف وأقدم المنتديات في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وله تأثير عالمي كبير في الملفات الاقتصادية المهمة في العالم، ويتكون من 21 دولة وهي: أستراليا، البيرو، الصين، الفلبين، المكسيك، أميركا، اليابان، إندونيسيا، بابوا غنيا الجديدة، بروناي، تايلاند، تايوان، تشيلي، روسيا، سنغافورة، فيتنام، كندا، كوريا الجنوبية، ماليزيا، نيوزيلندا، هونغ كونغ.

ويعد هذا الاجتماع في المؤتمر السنوي، لزعماء الاقتصادات الـ21، فرصة تاريخية مهمة لتعزيز التعاون الاقتصادي في العالم، إذ يحظى بأهمية كبيرة من خلال مشاركة أميركا والصين بوصفهما أكبر اقتصادين في العالم يسعيان إلى إيجاد قدر من الاستقرار بعد عام صعب في العلاقات الأميركية – الصينية، إذ إن قادة دول أبيك طرحت رؤيتها الاقتصادية للمنطقة، إذ هم المحرك البارز للنمو الاقتصادي المستدام في آسيا والمحيط الهادي، الذي يجعل المنطقة ذات أهمية حاسمة للنمو الاقتصادي في العالم.

إن دول أبيك ترغب في رؤية حوار أفضل بين أميركا والصين لأنه يقلل من خطر الصراع الإقليمي، وفي الوقت نفسه، يعلمون أن الآخرين في المنطقة يشعرون بالقلق من أن المحيط الهادي يُنظر إليه في كثير من الأحيان من خلال منظور تقوم فيه مراكز القوى المهيمنة في واشنطن وبكين باتخاذ القرارات المتعلقة بالمنطقة من دون مشاركة الدول الأقل قوة، لتحقيق هذه الغاية، فإن قادة الدول قدموا مبادرات جديدة لتعزيز استثمارات الاقتصاد النظيف، وتطوير سياسات مكافحة الفساد والضرائب من خلال المنتدى الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادي، وهي استراتيجية اقتصادية أُعلنت بهدف مواجهة القوة التجارية المهيمنة في المنطقة.

إن معظم أعضاء المنظمة غير جديين فيما يتعلق بالمنتدى الدولي الذي يركز على البيئة والطاقة، إذ تراجعت الشراكة عبر المحيط الهادي في بعد الأوقات، إلا أن المنطقة شهدت اتفاقات تجارية كبرى في السنوات الأخيرة، شملت الصين واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها من الاقتصادات الإقليمية الكبرى، ولدى أعضاء أبيك بعض الاهتمام بجوانب «أبيف»، مثل الجهود الرامية إلى تعزيز مرونة سلسلة للتوريد واقتصاد الطاقة النظيفة، لكنهم يريدون رؤية الدول في إفساح المجال أمام المزيد من الوصول إلى الأسواق الأميركية والصينية وغيرها من دول أبيك في سياق التجارة الحرة.

تعد أميركا والصين القوتين الاقتصاديتين الرئيسيتين في العالم والمنتدى، وتنتجان معاً أكثر من 40 في المائة من إجمالي السلع والخدمات عالمياً؛ لذا، فعندما تنخرط واشنطن وبكين في معركة اقتصادية، كما حدث لخمس سنوات متتالية، فإن العالم بأسره سيعاني أيضاً، إذ إن التوترات بين البلدين تؤثر سلباً على الاقتصاد العالمي، وإن اجتماع هذا العام، فرصة للحد من تلك التوترات وتعزيز التعاون الاقتصادي، وهذا ما يجعلها حدثاً بالغ الأهمية للاقتصاد العالمي؛ خصوصاً بعد أن عانى من سلسلة أزمات متتالية منذ عام 2020، مثل جائحة كوفيد – 19، وارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، والصراعات العنيفة في أوكرانيا ومؤخراً في غزة.

ويعتقد صندوق النقد الدولي أن هذا التباين الاقتصادي سيكون له تأثير سلبي على العالم؛ حيث من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الحواجز التجارية إلى خسارة 7.4 تريليون دولار من الناتج الاقتصادي العالمي، كما زادت الحواجز التجارية بشكل حاد في السنوات الأخيرة، إذ إنه في عام 2022، فرضت الدول ما يقرب من 3 آلاف من القيود الجديدة على التجارة، مقارنة بأقل من 1000 في عام 2019. ونتيجة لذلك، فمن المتوقع أن تنمو التجارة الدولية بنسبة 0.9 في المائة فقط هذا العام و3.5 في المائة في عام 2024، بانخفاض حاد عن المتوسط السنوي 2000 – 2019 البالغ 4.9 في المائة.

ومن الجدير بالإشارة، ضرورة التعاون في ملفات عدة، بدءاً من التغير المناخي ومكافحة المخدرات إلى فرص وتحديات الذكاء الاصطناعي، وضرورة النظر إليها في سياق واسع من التحولات العالمية المتسارعة وأن تتطور بطريقة تعود بالنفع على جميع شعوب العالم، إذ لا يمكن للدول، أن تدير كل منها ظهرها للأخرى، إذ إن النزاع والمواجهة لهما عواقب لا تُطاق، كما أن التعافي الاقتصادي العالمي بعد جائحة كوفيد – 19 لا يزال بطيئاً، ولا تزال سلاسل الصناعة وسلاسل التوريد معرضة لخطر الانقطاع، وخطر الحماية بوصفها مشكلة خطيرة حسب وجهة نظر دول مهمة في الأبيك.

وفي الختام، تعهد زعماء أبيك، بدعم إصلاح منظمة التجارة العالمية، وإصرارهم على توفير بيئة تجارية واستثمارية حرة ومنفتحة وعادلة وغير تمييزية وشفافة وشاملة يمكن التنبؤ بها، والعمل على الإصلاح الضروري لمنظمة التجارة العالمية لتحسين جميع وظائفها، بما في ذلك إجراء مناقشات بهدف وجود نظام كامل وفعال لتسوية النزاعات التجارية، إذ إن تعزيز التجارة سيساهم في توحيد صفوف الدول المطلة على المحيط الهادي، إذ إن الأهداف المشتركة لدول أبيك هي خلق فرص متكافئة وعلاقات اقتصادية مستمرة وذات مغزى ومتبادلة المنفعة.

د. ثامر محمود العاني

التكامل الاقتصادي الآسيوي

تسعى الكثير من الدول إلى التعاون مع جاراتها من البلدان للوصول إلى تكامل اقتصادي يحقق الازدهار لشعوبها، ويعطيها الثقل الاقتصادي الذي يمكّنها من تحقيق مصالحها ككتلة واحدة. ويبرز الاتحاد الأوروبي بوصفه أقوى كتلة إقليمية متعددة الدول وصلت إلى ذروة التكامل الاقتصادي في ما بينها. كما تبرز مجموعات أخرى لم تصل إلى هذه المرحلة من الاكتمال، ولكنها حققت مبتغاها مثل دول «نافتا» وهي اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وهناك نموذج آخر فريد من نوعه، هو لدول آسيا التي حققت تكاملاً اقتصادياً بطريقة منفردة، مكنتها من إخراج عدد كبير من سكانها من تحت خط الفقر خلال العقود الأخيرة، وهو إنجاز لم يتحقق في أي منطقة أخرى من العالم. فكيف نجحت دول آسيا في تحقيق هذا التكامل الاقتصادي في زمن شهد أزمات مالية وجيوسياسية خانقة؟

بداية، يعرّف التكامل الاقتصادي على أنه تحرير وتسهيل تدفق التجارة والسلع والخدمات والاستثمار وحركة الأشخاص عبر الحدود. هذا التعريف شبه شمولي، وقد يتحقق التكامل الاقتصادي دون تحقيق جميع عناصره. فعلى سبيل المثال، لم تلتزم مجموعة «نافتا» ببعض هذه العناصر، ولكنها نجحت في الوصول إلى بعض أهدافها، بينما التزم الاتحاد الأوروبي بكامل العناصر، ووصل إلى مستوى لم تبلغه كتلة اقتصادية من قبل. عدم الالتزام بشروط التكامل الاقتصادي لا يعني عدم النجاح فيه، وفي الحالة الآسيوية خير مثال على أن النجاح ليست له وصفة محددة، بل هو مزيج من العمل المشترك والسعي الدؤوب خلف المصالح المتبادلة، وإيجاد الحلول للعوائق التنظيمية التي تحول دون التبادل التجاري عبر الحدود.

وتختلف الدوافع لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة، فعلى سبيل المثال كان أحد الدوافع لتأسيس الاتحاد الأوروبي يكمن في الرغبة في تجنب حرب قارية أخرى، بعد سلسلة من الحروب بين هذه الدول. أما آسيا، والتي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة بـ «مصنع آسيا»، فقد كان الدافع هو تكامل السوق لتحقيق مصالحهم الاقتصادية. وخدم ذلك الاستراتيجية المشتركة لهذه الدول وهي القائمة على التوجهات التصديرية والاندماج في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.

ولم تكن طريق الدول الآسيوية في تحقيق تكاملها الاقتصادي سهلة، فصحيح أنها واجهت عالماً نامياً منفتحاً أمام التجارة العالمية وهو ما يسّر لها مهمتها، لكن العوائق الداخلية شكّلت تحدياً كبيراً لها، فالدول الآسيوية على عكس الأوروبية شديدة الاستقلالية، وحساسة للتدخلات الإقليمية فيها، وتملك إرثاً من الحروب الداخلية والكراهية المتبادلة في ما بينها تغذي هذه الرغبة الاستقلالية. كما أن أنظمتها السياسية متنوعة ومتناقضة، ففيها أنظمة ديمقراطية وعسكرية وشيوعية وملكية، وهو ما يجعل الرغبة في التعاون محل تشكك مستمر.

ومع كل ذلك، فإن نمو الدول الآسيوية والذي تؤكده أرقام النمو المذهلة لهذه الدول، لم يتحقق بفعل تجارة دول آسيا مع العالم الغربي أو الدول غير الآسيوية فحسب، بل جاء وبنسبة كبيرة بفعل التبادل التجاري بين الدول الآسيوية في ما بينها. وهذه بعض الأرقام التي تؤكد ذلك والتي نشرها بنك التنمية الآسيوي في تقريره هذا العام؛ فالتبادل التجاري داخل آسيا وصل إلى 46 في المائة في 2010، وزاد إلى 58 في المائة عام 2021، والاستثمارات الآسيوية البينية زادت من 48 في المائة إلى 59 في المائة بين هذين العامين. وزاد تدفق الاستثمارات المباشرة بين الدول الآسيوية بضعف مثيله من الاستثمارات الغربية. وحتى مع الأزمات المالية، زادت نسبة الإقراض المصرفي من 40 في المائة بُعيد الأزمة المالية إلى 54 في المائة اليوم.

ولا تزال الدول الآسيوية حتى اليوم تسعى في زيادة هذا التكامل لإزالة الحواجز التجارية من خلال اتفاقات جديدة مثل الشراكة الإقليمية الشاملة، ولعل قمة الرياض لدول «الآسيان» ودول الخليج أحد هذه المساعي من الدول الآسيوية لزيادة شراكاتها مع الدول لزيادة تبادلها التجاري، وتحقيق الازدهار لشعوبها.

إن الدول الآسيوية، وعلى الرغم من كل نزاعاتها العسكرية الدموية التاريخية، ورغم عدم امتلاكها ثقافة مشتركة، أو لغة موحّدة، أو حتى تاريخاً وكفاحاً مشتركاً، تمكنت من تجاوز ذلك كله لتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها، وتمكّنت من إخراج مئات الملايين من تحت خط الفقر بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، ودون المساس بسيادتها الداخلية. فما الذي ينقص الأقاليم الأخرى والتي ليس لديها حتى نصف هذه الصعوبات، والتي تمتلك من الثروة الطبيعية والبشرية والإرث التاريخي، ما لا تمتلكه الكثير من الدول الآسيوية، ولا حتى الغربية؟

د. عبد الله الردادي

اشتداد الأخطار الجيوسياسية والآثار على الصناعة البترولية

صرّح لورينزو سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لشركة «بيكر هيوز»، بأن المخاطر الجيوسياسية حالياً على أشدها مقارنةً بأحداث نصف القرن الماضي، الأمر الذي أخذ يؤدي إلى «مخاوف متزايدة بخصوص إمدادات النفط من ناحية، والطلب المتزايد على الغاز المسال من ناحية أخرى».

حسب سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لواحدة من ثلاث شركات خدمات هندسية كبرى عالمياً (شلمبرجير – هاليبورتون – بيكر هيوز)، في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز»، هناك اعتقاد سائد عند البعض أنه «إذا رجعنا إلى المقاطعة النفطية لعام 1973 سنجد الكثير من الأمور المتشابهة». لكن، أضاف رئيس شركة «بيكر هيوز» أنه «خلال فترة عملي، لم يكن الوضع الجيوسياسي هشاً بهذه الدرجة… هذا من الناحية السياسية، حيث الوضع متقلب جداً».

تأتي أهمية تقييم «بيكر هيوز» من أن الشركة الهندسية تعمل في الأغلبية الساحقة من الحقول النفطية حول العالم، فهي على اطِّلاع دقيق على ما يجري في الدول البترولية والمجريات السياسية فيها. كما تتزامن تصريحات سيمونيللي مع الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط، التي تتزامن بدورها مع الحرب الروسية – الأوكرانية في أوروبا التي هي الآن في عامها الثاني.

قفزت أسعار النفط إلى أكثر من 130 دولاراً للبرميل عند الغزو الروسي لأوكرانيا. وارتفعت الأسعار خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى نحو 100 دولار للبرميل بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر، وبعد انخفاض القلق الأولي من توسع الحرب إلى دول شرق أوسطية أخرى، وفي غياب عوامل اقتصادية تدفع إلى زيادة الأسعار، انخفضت الأسعار إلى نحو 79 – 80 دولاراً للبرميل.

إسرائيل، من جهة، دولة غير منتجة للنفط، حتى الغاز الذي تُنتجه ضئيل الحجم. من ثَمَّ، فأهميتها محدودة جداً في الأسواق العالمية. لكن من جهة أخرى، تبقى الأسواق حذرة من تدخل مباشر لإيران في الحرب، نظراً إلى علاقتها بحركة «حماس»، إذ إن احتمال تدخلها المباشر، سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وذكر سيمونيللي في هذا الصدد أن «المتوقع في استمرار التطورات على حالها المؤسف والحزين، سيعني بقاء الأسعار مضطربة. ولكن في نفس الوقت، فإنه من الواضح أيضاً، إذا تصاعدت أو توسعت الحرب ستؤدي إلى ما هو أسوأ، إذ ستتغير الأمور».

لقد أدت حرب أوكرانيا إلى تغييرات جذرية في صناعة الغاز المسال، نظراً لمقاطعة أوروبا غاز الأنابيب الروسي وتركيز روسيا على صناعة الغاز المسال. كما توسعت بسرعة صناعة الغاز المسال، بالذات في الولايات المتحدة، التي زادت صادراتها الغازية لأوروبا، إذ تلعب شركة «بيكر هيوز» دوراً في تزويد الخدمات الهندسية والأدوات الفنية.

تشير توقعات «بيكر هيوز» إلى أن مجمل الطلب على خدماتها وأدواتها الفنية في مجال صناعة الغاز المسال خلال عامي 2022 و2023 سيبلغ نحو 9 مليارات دولار، ويشكّل هذا الطلب زيادة ثلاث مرات على ما كان عليه لشركة «بيكر هيوز» في صناعة الغاز المسال خلال السنتين السابقتين 2020 و2021. ويتوقع سيمونيللي إمكانية ارتفاع الطاقة الإنتاجية العالمية للغاز المسال إلى 800 مليون طن سنوياً بحلول نهاية هذا العقد، مقارنةً بنحو 410 ملايين طن سنوياً في عام 2023. ويكمن السبب في ارتفاع صناعة الغاز المسال عالمياً في إمكانية شحن الغاز المجمَّد عبر مسافات طويلة من البحار والمحيطات، ومن ثم الاستفادة لاستغلال الغاز في أسواق جديدة وبعيدة، غير الأسواق الإقليمية والمحلية فقط. وهذا ما يحدث بتصدير غاز الخليج مسالاً إلى الأسواق الآسيوية أو الغاز الأميركي إلى الأسواق الأوروبية.

وأضاف سيمونيللي أن «بيكر هيوز» لديها «عقود في مجال صناعة الغاز المسال حتى عام 2050، في الوقت الذي لا يتوقع فيه نهوض قطاع غاز الأنابيب الروسي في المدى القصير كمنافس للغاز المسال، حتى في حال انتهاء الحرب الأوكرانية».

ارتفعت أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية إلى أكثر من 300 يورو للميغاواط-ساعة بعد غزو أوكرانيا. وتبقى الأسواق قلقة للمنافسة الأوروبية في حال تعويض الغاز الروسي. وقد ساعد الشتاء قليل البرودة في أوروبا السنة الماضية في الحفاظ على مخزون عالٍ من الغاز. أما بالنسبة إلى الشتاء المقبل، فأجاب سيمونيللي: «ساعد الشتاء المعتدل العام الماضي على التقاط الأنفاس في أوروبا. ويتضح لحد الآن، أن فصل الشتاء المقبل سيكون قليل البرودة أيضاً. لكن، إذا كان قارس البرودة، فسيترك بصماته على أوروبا».

وليد خدوري

الذكاء الاصطناعي يعزز الاقتصاد الرقمي

يعرف الاقتصاد الرقمي بأنه هو النشاط الناتج عن الاتصالات اليومية عبر الإنترنت، كما أن العمود الفقري له هو الارتباط التشعبي، ويعني ازدياد الارتباط والترابط بين الأشخاص والمؤسسات والآلات، وتكنولوجيا الهاتف المحمول وإنترنت الأشياء، وهو عموماً عبارة عن تصور ل‍قطاع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة ب‍التقنية الرقمية. وهو ذلك النوع من الاقتصاد الذي يقوم في مجمل عملياته على المعلومات، ويستند في أغلب خطواته على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي ألغت كل الحدود والحواجز أمام تدفق المعلومات والسلع والخدمات، وحركة رؤوس الأموال من وإلى أي نقطة في العالم، وفي أي وقت. يتميز الاقتصاد الرقمي بدخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

من ناحية أخرى، لقد أصبح الذكاء الاصطناعي مصطلحاً شاملاً للتطبيقات التي تؤدي مهام مُعقدة كانت تتطلب في الماضي إدخالات بشرية، مثل التواصل مع العملاء عبر الإنترنت. ويُستخدم غالباً هذا المصطلح بالتبادل مع مجالاته الفرعية، والتي تشمل التعلم الآلي والتعلم العميق، ومن المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من أن كل سُبل التعلم الآلي ما هي إلا ذكاء اصطناعي، فإنه ليس كل ذكاء اصطناعي يُعد تعلماً آلياً، والحصول على القيمة الكاملة من الذكاء الاصطناعي.

وتعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء المؤسسات وإنتاجيتها، عن طريق أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتطلب القوة البشرية فيما مضى، كما يمكن للذكاء الاصطناعي فهم البيانات على نطاق واسع لا يمكن لأي إنسان تحقيقه، وهذه القدرة يمكن أن تعود بمزايا كبيرة على الأعمال، وفيما يتعلق بالعوامل الدافعة لاعتماد الذكاء الاصطناعي، فهناك 3 عوامل تحث على تطوير الذكاء الاصطناعي عبر الصناعات، وهي توفر إمكانية الحوسبة عالية الأداء بسهولة، وبأسعار معقولة، مع وجود كميات كبيرة من البيانات المتاحة للتعلم، إضافة إلى أنها توفر تقنية الذكاء الاصطناعي التطبيقي، وتعطيه ميزة تنافسية.

وجاء إنشاء مركز خاص بالذكاء الاصطناعي ليعزز الاقتصاد الرقمي في السعودية، على خلفية ارتفاع الطلب على الذكاء الاصطناعي الذي يلعب دوراً متزايد الأهمية في دفع الاقتصاد السعودي في المستقبل، وفي محاولة لتسريع نمو التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، إذ جاءت الحاجة بإنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات هذا القطاع، من شأنه أن يعزز دور الدولة إقليمياً وعالمياً؛ حيث إن المركز الجديد جاء عقب إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) في 2019.

إن «رؤية السعودية 2030» و«برنامج التحول الوطني 2020»، يحددان التحول الرقمي هدفاً رئيسياً لتنشيط القطاعات الاقتصادية، ودعم الصناعات وكيانات القطاع الخاص، والدعوة إلى تطوير نماذج الأعمال بين القطاعين العام والخاص، والحد في نهاية المطاف من اعتماد السعودية على عائدات النفط من خلال تنويع الاقتصاد؛ إذ إن إنشاء المركز الجديد يعزز دور السعودية القيادي الإيجابي الفاعل في الصناعة التي تكتسح العالم، ويعزز الاقتصاد الرقمي، إلى جانب تحسين الجهود البحثية وتحقيق الاستخدام المسؤول.

إن إنشاء المركز الدولي الجديد يؤكد اهتمام السعودية الجاد بتبني التقنية وتطبيقاتها وتحدياتها، ويؤكد أيضاً دورها القيادي الإيجابي الفاعل في هذه الصناعة؛ إذ إن السعودية من خلال مؤسساتها المعنية، بما فيها «سدايا»، وهيئة الحكومة الرقمية، تبنّت واستغلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في كثير من الخدمات والتحليلات والاستنتاجات، والأتمتة، والقياس وغيرها، إذ إن القطاع الحكومي في السعودية هو القائد الفعلي والمستخدم الرئيسي لهذه التطبيقات بجانب القطاع الخاص.

يذكر أن التقنية، بقدر ما توفر من فرص، فهي تجلب كثيراً من التحديات الجديدة التي لم تكن معروفة سابقاً، وبالتالي أدركت السعودية تلك المخاطر بإنشاء مركز الذكاء الاصطناعي، ليساهم في معالجة هذه المعضلة ذات الوجهين، إذ إن التوجه العالمي للمركز جاء بناءً على طبيعة التقنية، ويعنى بالبحوث والأخلاقيات، وسيكون تركيزه على دعم الأبحاث وتبنّي نتائجها عالمياً، كما أن إنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يأتي في إطار الجهود المتواصلة للبقاء في طليعة الابتكار والتقدم؛ إذ يعد المركز الأول من نوعه في العالم، ويعزز التوجه نحو تسارع الخطوات لاستشراف المستقبل، والاستفادة الكاملة من التقنيات الحديثة.

وفي الختام، يتسق وجود المركز مع مُستهدفات «رؤية 2030» في ظل الدعم غير المحدود لجعل السعودية مركزاً تقنياً عالمياً لأحدث التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، إذ أطلقت السعودية خلال أعمال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في نسختها الثانية بمدينة الرياض، مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ضمن حزمة من المشروعات والمبادرات التي تسهم في تعزيز ريادة السعودية عالمياً في الصناعة، وتحقيق أهداف «رؤية 2030»، بما يعزز الاقتصاد الرقمي.

د. ثامر محمود العاني

توطين التنمية في عالم شديد التغير (2)

تجاوز العالم نصف المسافة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تم الاتفاق عليها في عام 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة على أن يتم الانتهاء منها في عام 2030. وفي تقرير أممي صدر مؤخراً عن الوضع العالمي لما تم إنجازه من الأهداف السبعة عشر للتنمية التي تتفرع إلى 169 هدفاً تفصيلياً تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية، فضلاً عن التصدي لتغيرات المناخ، اتضح أن الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140 هدفاً، كان منها 12 في المائة فقط على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن أكثر من 50 في المائة من أهداف التنمية منحرفة عن جادة المسار، بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 في المائة من هذه الأهداف بما في ذلك تلك المعنية بمواجهة الفقر والجوع.

دفعت هذه النتائج المفجعة الأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه نداء لسرعة تحفيز التمويل الموجه للتنمية بأن تخفض أعباء الديون الخارجية التي باتت تشكل عبئاً يلتهم حصيلة صادرات الدول النامية وتتجاوز فيها خدمة الديون من أقساط وفوائد ما ينفق على التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية للمواطنين. إذ ارتفعت نسبة الديون الخارجية للدول النامية من 71 في المائة من إجمالي صادراتها في عام 2010 لما يتجاوز 110 في المائة في عام 2022. ومع ارتفاع نسبة الديون الخارجية من مقرضي القطاع الخاص إلى 62 في المائة مقابل 24 في المائة من المؤسسات الدولية و14 في المائة من القروض الثنائية بين الدول، ازدادت نسبة الفائدة المدفوعة لتبلغ في المتوسط 12 في المائة في أفريقيا مقارنة بنحو 1.5 في المائة تدفعها ألمانيا قبل الزيادات الأخيرة.

لا غرو إذن أن البلدان النامية إلا قليلاً أمست في مواجهة أزمات وكوارث لديونها الخارجية، وأن نصف البلدان النامية أصبحت مطالبة بتخصيص ما لا يقل عن 7.4 في المائة من صادراتها لخدمة الديون، وأن منها ما هو مطالب اليوم بدفع مضاعفات هذا الرقم.

ومن عجب أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية طالبها المجتمع الدولي بما لا يتجاوز 5 في المائة من صادراتها لسداد ديون الحرب؛ حتى لا تتعثر جهودها في إعادة البناء وفقاً لاتفاقية لندن المبرمة في عام 1953. ولا نعلم أي حرب شنّتها البلدان النامية حتى تكبل بأصفاد الديون الخارجية التي انتهى بعضها في كثير من الحالات إلى سداد ديون سابقة، والبعض الآخر تسأل عنه تدفقات مالية غير مشروعة إلى ملاذات آمنة خارج البلدان النامية، وما تبقى وجه لمشروعات بعضها بعوائد اقتصادية وأخرى بلا عائد اقتصادي أو اجتماعي يذكر؛ ولا نغفل أن من هذه المشروعات بمكون استيرادي مرتفع تستفيد منه أيضاً بلدان دائنة. فمن أين سيأتي السداد إذن إلا خصماً من الاستثمار الموجه للتنمية وعلى حساب الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، ومن فرض أعباء تنوء بها كواهل المواطنين والقطاع الخاص العامل في البلدان النامية. فلا سبيل لتنمية تذكر إلا بتمويل ضخم ليس منه حتماً هذا النوع من الديون الذي جلب شراً أكبر من أي نفع، ولو زُينت الأرقام بحيل أكروباتية لتجمل واقعاً لبلدان في الجنوب أمست فيه أقرب للتخلف منها إلى التنمية.

ويذكر أن مشروع الإعلان، الذي سيعرض على قمة التنمية المستدامة التي ستعقد في إطار الجمعية العامة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل يتضمن مطالبة عاجلة بزيادة تمويل التنمية إلى 500 مليار دولار سنوياً مع مطالبة بتدعيم صناديق مواجهة الطوارئ. تزامن مع هذه المطالبات لمنع جهود التنمية من الانزلاق إلى هوة الفشل دعوة ملحة لإصلاح (النظام) المالي العالمي، الذي من قبيل المبالغة أن نطلق على الترتيبات المتناثرة المعمول بها في المعاملات الدولية وصف نظام أصلاً.

ولكن هذه المطالب، المنتظر عرضها في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة القادمة ما زالت تواجَه برفض وتحفظات من دول متقدمة على النحو الذي لخصه الكاتب الصحافي كولوم لينش في مقال صدر في مطلع هذا الشهر دورية «ديفيكس» المتخصصة في شؤون التنمية الدولية. ويبدو أن ممثلين لدول متقدمة ما زلوا منشغلين برغبات قديمة في الإبقاء على الحدود البيروقراطية الفاصلة بين مؤسسات التمويل والمنظمات الدولية مع الإبقاء على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لضمان استمرار الهيمنة والسيطرة على حوكمتها ومقدراتها وأولياتها. ولكن مثل هذا التعنت قد يكون من معجلات التغيير في نظام دولي هرم لم يعد ملائماً لتوازنات القوى الجديدة.

وتأتي هذه المطالب بزيادة التمويل المدعومة من البلدان النامية، خاصة مع التراجع النسبي في المساعدات الإنمائية وركود التمويل المقدم من بنوك التنمية الدولية عند أرقام متواضعة مقارنة بفجوة التمويل. فرغم زيادة محدودة في التمويل المقدم من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذه الزيادة وُجّهت لمواجهة تبعات الحرب في أوكرانيا في مساعدات إنسانية وغوث اللاجئين إلى غير ذلك. كما أن رؤوس الأموال المدفوعة لبنوك التنمية الدولية لم تواكب زيادة حجم الاقتصاد العالمي والنواتج المحلية للبلدان النامية فصار القادم منها لتمويل التنمية هزيلاً، خاصة فيما يتعلق بالبلدان متوسطة الدخل التي أصبحت أسقف التمويل المتاحة لها منخفضة وبشروط تمويل غير محبذة من حيث التكلفة وعمولات الارتباط وفترات السماح ومدد السداد.

وتأتي هذه المطالب أيضاً وفقاً لوثيقة تمويل التنمية المتفق عليها في أديس أبابا في عام 2015 التي تعهدت البلدان المتقدمة أثناء مناقشتها بمساندة تحقيق أهداف التنمية المستدامة وهو ما لم يتم، ووعدت المؤسسات المالية الدولية بزيادة قدراتها التمويلية وهو ما لم يحدث؛ واستخدام أسلوب الرافعة وتخفيف المخاطر وتقديم الضمانات لدفع الاستثمارات الخاصة للمشروعات التنمية وهو ما لم يتحقق منه إلا النذر اليسير.

 

د. محمود محيي الدين

لئلا تنهار الشركات القاصرة النظر

يشير قصر النظر في الشركات إلى التوجه قصير المدى في عملية صنع القرار، مع إعطاء الأولوية للمكاسب الفورية على الاستدامة طويلة المدى. وهذا السلوك، الذي غالباً ما يكون مدفوعاً بضغوط الأرباح الفصلية وتوقعات السوق، يمكن أن تكون له آثار عميقة في الاقتصاد الجزئي والنشاط الاقتصادي للشركات، كما قد يؤدي السلوك قصير النظر إلى قرارات تضحي بالتخطيط الاستراتيجي والابتكار والعلاقات مع أصحاب المصلحة. وقد تنتج عن هذا السلوك نكسات للشركات على مستويات عدة تمتد آثارها إلى الاقتصاد الوطني، وهو ما قد يستلزم تدخلاً حكومياً لا سيما في الشركات الكبرى التي تعتمد عليها البلدان استراتيجياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً.

وبينما يتضمن التفكير طويل المدى نهجاً استراتيجياً حيث تعطي الشركات الأولوية للاستثمارات في الابتكار وتطوير الموظفين والممارسات المستدامة، يميل السلوك قصير النظر إلى التركيز على المكاسب المالية الفورية، وغالباً ما يكون ذلك على حساب النمو على المدى الطويل. وفي حين أن التفكير طويل الأمد يعزز المرونة والقدرة على التكيف والممارسات الأخلاقية، فإن قصر النظر قد يؤدي إلى الركود وتشويه السمعة. ويعزز هذا السلوك رغبة المساهمين في الحصول على أرباح سريعة، وانعكاس ذلك على أسعار الأسهم بغض النظر عن خطط الشركات طويلة المدى، وذلك لا يبرر أن تتصرف الشركات على نحو يؤثر سلباً في مستقبلها.

ويمكن تلخيص مضارّ قصر النظر في نقاط عدة، أولاها أنه قاتل للابتكار في الشركات، فالابتكار استثمارٌ طويل المدى، وتزيد فيه نسبة عدم اليقين، وفي الشركات التي تعطي الأولوية للمكاسب قصيرة المدى قد تنخفض ميزانيات الابتكار. والأمثلة كثيرة لشركات أغفلت جانب الابتكار في استثماراتها فانتهى بها المطاف خارج السوق بعدما كانت اللاعب الرئيسي في صناعتها على مستوى العالم. ثانيتها، الأثر السلبي في الموظفين، فالشركات قصيرة النظر غالباً ما تبحث عن الموظفين الجاهزين، وهي بذلك لا تستثمر في موظفيها من ناحية التدريب والتطوير والمزايا المالية، وهو ما يؤدي حتماً إلى إحباط الموظفين وانفصالهم عن العمل. ثالثتها أن الكيانات ذات المصالح مع الشركات قصيرة النظر تدرك تبعات هذا السلوك عليها، لا سيما أن أبرز مظاهره هو إهمال العلاقات طويلة الأمد مع العملاء والموردين وهو ما يتسبب في تآكل الثقة فيما بينهم.

ويمكن معرفة هذه الشركات من خلال عدد من السلوكيات، فعلى سبيل المثال، هناك الشركات التي تنخرط بشكل مفرط في عمليات إعادة شراء الأسهم لتضخيم أسعار الأسهم قصيرة الأجل، بدلاً من الاستثمار طويل المدى والذي يرفع كذلك أسعار الأسهم، ويعظّم معها ثروة المساهمين. كذلك هناك الشركات التي تتجاهل القوانين البيئية الوطنية، مضحية بسمعتها على المدى الطويل مقابل أرباح قصيرة المدى، ومعرضة نفسها لعقوبات وغرامات حكومية قد تدفع بأسعار أسهمها للنزول. كما أن معدل دوران الموظفين في الشركات دليل آخر على قصر نظر الشركات، وعادة ما يقضي الموظفون سنوات قليلة في هذه الشركات قبل الانتقال إلى أخرى لغياب الرؤية فيها، وبالمقابل فإن الموظفين عادة ما يستقرون فترة أطول في الشركات العريقة ذات الاستثمارات طويلة المدى، وهي الشركات التي عادة ما تخرّج قادة لقطاعاتها.

وبمعرفة ذلك كله، يتضح أن التدخل الحكومي ومعالجة هذا السلوك هما ضرورة أساسية لتحقيق النمو المستدام للشركات وبالتالي للاقتصاد الجزئي؛ ولذلك فإن الكثير من الحكومات تتدخل في الشركات من خلال حوكمة الشركات التي تلتفت للأطر التنظيمية للشركات وتحديداً من خلال مجالس الإدارات. وقد تأتي هذه التدخلات على شكل مطالبات للشركات بالكشف عن خططها طويلة المدى للاستدامة المالية، أو من خلال توفير السبل للمساهمين بالتعبير عن مخاوفهم بشأن الممارسات قصيرة النظر.

إن ضبابية الرؤية لدى الشركات بشأن مستقبلها، وعدم مواءمة هذه الرؤية محيطها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هما أسهل وصفة لخروجها من السوق. والتاريخ ممتلئ بشركات فكَّر صنّاع القرارات فيها بأرباحها الربعية والسنوية دون النظر إلى الاستثمارات طويلة المدى، لأسباب منها معرفتهم بعدم استمراريتهم مدداً طويلة في مناصب قيادية، أو خوفهم من التشكك في الاستثمارات التي تؤتي أُكلها بعد سنوات، أو حتى استجابة لضغوطات المساهمين الذين يبحثون عن جني الربح السريع؛ ولذلك فإن تدخُل الحكومات لحماية هذه الشركات ضرورة تحمي من خلالها اقتصاداتها الوطنية، ولأنها في حال خسارة هذه الشركات، قد تضطر إلى مساعدتها حمايةً لاقتصاداتها. والشواهد على هذه الخسائر والمساعدات كثيرة، كان أبرزها تدخُل الحكومات لحماية المؤسسات المصرفية خلال الأزمة المالية، التي فُرضت بعدها قواعد صارمة على هذه المؤسسات للابتعاد عن السلوكيات قصيرة النظر.

 

د. عبد الله الردادي

توطين التنمية في عالم شديد التغير (1)

تتوالى التطورات الجيوسياسية والتغيرات في موازين القوى متسارعة في السنوات الأخيرة مؤكدةً أن الترتيبات المعمول بها في إطار العولمة إلى انقضاء، مفسحةً المجال لترتيبات جديدة للتجارة والاستثمار والتمويل وحوكمة المؤسسات الدولية. هناك محاولات للتمسك بما كان ولكنها تأتي متهافتة بوعود لا تلبَّى وتمويل هزيل ومنافع محدودة على النحو الذي شهدناه منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008 التي جاءت قاصمة لظهر البعير.

فمنذئذ وعلى مدار 15 سنة، كانت أكثرها عجافاً بين ركود وتضخم ومزيج بينهما، توالت الأزمات كباراً وصغاراً لم تكن أقلها جائحة كورونا وتبعاتها لتظهر عجز الترتيبات الدولية الراهنة عن تحقيق مزايا التضامن والتعاون الدوليين في مواجهة الصدمات. فهل سينسى العالم سوء توزيع اللقاحات عندما اشتدت الحاجة إليها لتستأثر بها بلدان متقدمة ثم تتيح ما تفضَّل منها بعد لأي؟ هل الناس لن يعتبروا مما كان من منعٍ للبلدان النامية من إنتاج اللقاحات بالتعنت في الاستمساك بقواعد الملكية الفكرية رغم الإلحاح باستثناءات مؤقتة لاعتبارات الضرورة الصحية؟

هل نغفل أنه بعد الاتفاق على إصدار وحدات حقوق سحب خاصة قوامها 650 مليار دولار، في أوج الجائحة لمواجهة آثارها على السيولة الدولية، فتستحوذ فرادى بلدان متقدمة، وفقاً لقواعد الحصص المعمول بها، على ما يزيد على ما تحصلت عليه دول القارة الأفريقية مجتمعة، ثم تُعقد القمم والمؤتمرات من أجل إعادة تدوير 100 مليار دولار للدول النامية باقتراضها مشروطة وإن كانت بفوائد ميسَّرة، فضلاً عن ملاحقة 100 مليار دولار أخرى موعودة منذ قمة المناخ في كوبنهاغن في 2009 لمساندة جهود تمويل العمل المناخي في البلدان النامية والتي تتجاوز فجوة تمويلها (باستثناء الصين) عشرة أمثال هذا الرقم؟

لقد تركت حالة الأزمة المستمرة أو ما أُطلق عليه «بيرماكرايسيس»، بأبعادها الاقتصادية والجيوسياسية، البلدان النامية عُرضة لتقلبات حادة في أسعار الطاقة، وتدهور خطير في أمنها الغذائي يبحث عن حل في روما هذا الأسبوع، خصوصاً وهي تعاني من وطأة مديونية خارجية تجاوزت تكاليف خدمتها في كثير منها ما تنفقه على التعليم والرعاية الصحية مجتمعين. ورغم ذلك نجد أن ترتيبات التعامل مع تحديات تعثر الديون تعاني من بطء شديد، وما زالت آلية مجموعة العشرين لا تشمل مقرضي القطاع الخاص إلزاماً، ولا تتضمن المقترضين من شرائح الدول متوسطة الدخل عمداً. وما زالت المطالبة بمراجعة شروط الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لا تلقى العناية الواجبة فيما يتعلق بفترات السماح والسداد ووضع حد أقصى على سعر الفائدة لمشروعات التصدي لطوارئ أزمة المناخ -التي لم تتسبب فيها أصلاً البلدان النامية- فضلاً عن إلغاء بند التكاليف الإضافية المجحفة على المقترضين الكبار رغم ثبات عدم عدالته وإضراره بماليات البلدان النامية. وكل ما تحقق حتى تاريخه هو قبول التوصية بتضمين عقود الإقراض الدولي بنداً للتيسير في حالة التعرض لكوارث طبيعية، وهو ما كان معمولاً به أصلاً في عدد من المؤسسات.

ليس غريباً إذن أن تعاني مسارات التنمية المستدامة ومحاولات التصدي لتغيرات المناخ لانحرافات عن جادتها وقصور في تحقيق أهدافها. فأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وتتضمن 169 هدفاً فرعياً، يشير تقرير الأداء الأخير للأمم المتحدة بشأنها إلى أن 12 في المائة منها فقط على المسار السليم، و50 في المائة منها تعاني من تخلف بين كبير وصغير عن المستهدف، أما باقي الأهداف فتراجعت عمّا كانت عليه عند إقرارها في سبتمبر (أيلول) 2015. وما زالت التقارير العلمية للهيئة الحكومية الدولية لتغيرات المناخ تنذرنا مؤخراً بأنه بدلاً من تخفيض الانبعاثات الضارة بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030 لنتفادى تبعات سخونة الأرض إذا بنا نزيد عليها رغم وعود وخطب من قادة الدول الأكثر أذى بالمناخ بأهمية عدم تجاوز سقف 1.5 درجة مئوية، فالعالم وهو ما زال عند 1.1 درجة فقط يعاني من موجات حرارة غير مسبوقة وحرائق غابات وفيضانات وجفاف وتصحر تهدد الحياة وأسباب المعيشة معاً.

لقد كان المطلوب على المستوى الدولي إنفاذ التعهدات بإتاحة التمويل والتعاون التكنولوجي ووضع قواعد رقابية مُلزمة لتغيير السلوك الضار من الحكومات والشركات والأفراد، ولكن ما نراه هو النقيض. فالدول المتقدمة يتخذ أكثرها إجراءات جديدة تحت مسميات المبادرات الخضراء والتصدي لتغيرات المناخ ودعم التحول الرقمي، ستعيد في ممارساتها ذكرى الحمائية والحروب التجارية؛ وإن عانت منها بلدان نامية. وكما أشرت في المقال السابق يُغدَق على هذه المبادرات بتمويل ضخم في مشاركات بين المؤسسات العامة والخاصة وجهات البحث والتطوير. وجدير بالذكر أن تدخل الدولة في البلدان الغنية ليس عودة لأنماط قديمة ثبت فشلها لملكية وإدارة بيروقراطية الدولة للمشروعات، بإهدار الموارد على مغامرات غير محسوبة انتهت بعد كل ما أُنفق عليها كأنها أعجاز نخل خاوية.

وإذا ما افترضت حكومات البلدان النامية أن عوناً سخياً سيأتي لها في ظل هذه الترتيبات الجديدة، فالسخاء حقاً هو في افتراضاتها حسنة النية، فما الذي جدَّ حقاً حتى نتوقع التزاماً بما لم يتم الوفاء به من قبل؟ فما الذي تحقق من وعد المساعدات الدولية التي قيل إنها ستتدفق سنوياً بما لا يقل عن 0.7 في المائة من الدخل القومي للبلدان المتقدمة؟ وماذا عن المائة مليار المتعلقة بتغيرات المناخ؟ وماذا عن تعهدات متناثرة بمساعدات إنسانية مع ما جرى من كوارث طبيعية؟ وإذا ما اعتقدت أن مؤسسات التنمية الدولية ستسدد فجوات التمويل فعليها الانتظار بصبر واحتمال إلى ما قد تجود به «خريطة طريق تطور» هذه المؤسسات التي تبحث في رؤيتها الجديدة وأساليب عملها ومواردها.

تستوجب هذه التطورات الحرجة التي لحقت بالعولمة نهجاً للتقدم يعتمد على توطين التنمية نستجلي ملامحه في مقال قادم.

د. محمود محيي الدين