أرشيف التصنيف: المقالات العامة

صحافة اقتصادية بلا صحافيين

هجر كثير من الصحافيين مهنة الصحافة واتجهوا للعلاقات العامة، التي توفر لهم مناخاً مهنياً واحترافياً، وفي حالات كثيرة أجراً أعلى.

وأنا شخصياً أعدّ هذا أمراً جيداً، لأنه طريقة طبيعية لفلترة القوى العاملة في الصحافة التي يدخلها الكثير، ويبقى فيها القليل.

وهذا ما يعرف في عرف الإدارة الأميركية باسم «تنظيف بركة السباحة»، حيث تعمل الشركات على الاستغناء بصورة سنوية عن كثير من الموظفين الذين تعتقد أنهم ليس بمقدورهم أن يكونوا منتجين. في الغالب «تنظيف البركة» يستهدف الاستغناء عن 5 بالمائة من الموظفين وإحلالهم بخريجين مميزين من الجامعات. إلا أن التنظيف في الصحافة ليس مبادرة من المؤسسة؛ بل من الصحافيين أنفسهم.

الأسباب التي تدفع هؤلاء للخروج كثيرة؛ أولها أنهم في الأصل لم يكونوا صحافيين، ولكنهم كانوا ممارسين للصحافة لا غير. الأمر الثاني القيود في المهنة، حيث يواجه الصحافي أنواعاً مختلفة من الرقابة.

الأمر الثالث والأهم هو الاستقرار الوظيفي وإمكانية التدرج داخل الشركات، فيما الهيكل الإداري في الإعلام ليس بالمرونة والتشعب الذي نجده في أقسام الاتصال المؤسسي والعلاقات العامة. هذا بالإضافة إلى الحوافز المالية.

في الحقيقة كثير من هؤلاء صحافيون، حتى إن اتجهوا لمهنة أخرى، وسيظلون يفكرون كصحافيين بل يتمنون العودة لمهنة البحث عن المتاعب.

لكن الأمور ليست واحدة على كل حال لكل أنواع الصحافة. مستقبل الصحافة اليوم يعتمد على الصحافة المتخصصة، ومن بين فروعها الصحافة الرياضية والاقتصادية.

توفر الصحافة الاقتصادية اليوم فرصة كبيرة جداً لندرة من يعملون بها وحاجة السوق لهم، خصوصاً مع تطور الأسواق المالية في المنطقة وعمليات التحول الاقتصادية التي يعلن عنها.

ومع هذا ما زلنا لا نجد صحافيين مؤهلين بما يكفي، وإن وجدوا فسوف يتم إغراؤهم بالمال من قبل شركات العلاقات العامة، أو أقسام التواصل المؤسسي لاستقطابهم.

هناك فرص كبيرة في هذا المجال خصوصاً بعد إطلاق خدمة «اقتصاد الشرق مع بلومبرغ» الإخبارية بجميع منصاتها، وإطلاق قناة العربية لخدمة «العربية بزنس» على تردد مستقل.

والسؤال هنا: كيف سنواكب كل هذا التطور والتحول الاقتصادي في المنطقة من دون صحافيين اقتصاديين كفاية؟!!

المجموعة السعودية للإعلام والأبحاث من خلال أكاديميتها تحاول تأهيل الشباب في هذا المجال، لكن المشكلة أعمق من مجرد تأهيل وتدريب، بل مشكلة هيكلية في صناعة الإعلام، ولا بد أن نجد لها حلولاً، وإلا ستكون هناك فجوة مهنية كبيرة بين الإعلام والاقتصاد.

وائل مهدي

تبعات حرب غزة على الاقتصادات العالمية

تؤدي الحروب إلى ارتدادات سلبية على الاقتصادات الدولية. ورغم أن حرب غزة لا تزال مستمرة، دون معرفة رقعتها الجغرافية النهائية، أو طبعاً فترتها الزمنية، فقد بدأت تصدر الدراسات والتوقعات لبعض النتائج الاقتصادية للحرب، مبنيّة على تجارب الحروب السابقة وما أدت إليه.

من المتوقع أن تشكل إمدادات الطاقة اهتماماً عالمياً واسعاً لنتائج الحرب، ولو أن المعارك الحالية بعيدة عن حقول الخليج العملاقة أو إيران. فبالنسبة للأسواق العالمية، فإن نشوب حرب كبرى شرق أوسطية له انعكاسات بترولية، إما على حجم الصادرات وإما على سلسلة الإمدادات.

من هذا المنطلق، نشر معهد «بروكينغز» في واشنطن دراسة تفيد بأن «الطاقة هي القطاع الاقتصادي الأهم على المدى القصير؛ حيث كانت أسعار النفط عالية في بداية النزاع العسكري، وقد تؤدي التطورات العسكرية اللاحقة إلى فوضى في سلسلة الإمدادات، أو الانقطاعات، بالذات فيما إذا كانت الأزمة ستشمل إيران أم لا، أو إذا أدت إلى توقف الإنتاج في بعض الحقول العراقية».

تضيف الدراسة: «ارتفعت أسعار النفط حتى الآن نحو 5 دولارات عن معدلها في بداية الحرب»، هذا، مع العلم بأن أسعار النفط العالمية تراجعت في الأيام الأخيرة إلى مستواها عند نشوب الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) لنحو 87 دولاراً لبرميل نفط برنت. لكن يبدو -حتى كتابة المقال- أنه لم تطرأ انعكاسات كبرى على إمدادات النفط العالمية.

وحسب صندوق النقد العالمي، فإن أي صدمات نفطية ستترك آثارها على الاقتصاد العالمي عامة، بالذات في الدول النامية، كما هو الأمر في باكستان؛ حيث يواجه اقتصادها تحديات كبرى. وهناك احتمالات أيضاً أن تتأثر سلباً الإمدادات الغازية كما توقف الإنتاج الإجباري لحقل تمار الغازي الإسرائيلي، وأيضاً كما حصل لارتفاع أسعار الغاز الأوروبي. هذا، ومن الممكن جداً أن يؤدي استمرار وتوسع رقعة الحرب إلى انقطاعات إمدادات الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا، في ظل وضع طاقة أوروبي صعب بسبب حرب أوكرانيا، والعقوبات الأوروبية التي فرضت على الصادرات البترولية الروسية.

لا تقتصر التهديدات للإنتاج النفطي على ارتفاع أسعار النفط، أو انقطاعات في سلسلة الإمدادات؛ إذ تتوسع الانعكاسات على صلب الاقتصاد العالمي، مثل قيم العملات المحلية بالنسبة للدولار، واختلاف نسب الفوائد من دولة إلى أخرى، أو زيادة كلف الإنتاج لمنتوجات الصناعات المحلية. ذلك، نظراً إلى الأهمية الاستراتيجية للبترول في الاقتصاد العالمي، ودوره المحوري في المواصلات والإنتاج الصناعي والزراعي، ناهيك عن أهمية الوقود في تشغيل آليات الحرب.

ويؤثر الارتفاع السعري للنفط بدوره أيضاً على جهود البنوك المركزية حول العالم، للحد من ارتفاع معدلات التضخم. وهنا يتوقع صندوق النقد الدولي أن ازدياد أسعار النفط نحو 10 في المائة (إلى نحو 100 دولار للبرميل تقريباً) قد يؤدي بدوره إلى زيادة معدل التضخم العالمي نحو 0.4 نقاط مئوية.

كذلك، يزيد اشتداد الآثار الجيوسياسية المقلقة، من الشعور بالضائقة والمخاطر المالية، مما يزيد في الوقت نفسه من الضغوط لرفع سعر الدولار. وتؤثر هذه الصعوبات الاقتصادية على الدول والمواطنين من التحديات المالية التي تضغط بدورها على اقتصادات الدول المعتمدة على استيراد معظم بضائعها الاستهلاكية، منها الدول ذات الأسواق والاقتصادات النامية التي تعاني مسبقاً من أعباء الديون الخارجية، بالإضافة إلى الأسواق المالية الضعيفة، أو تلك ذات القلاقل السياسية الداخلية، والاعتداءات الإرهابية، الأمر الذي يضعف إمكانية حصولها على ثقة ومساعدة الأسواق المالية، ومن ثم يتدهور اقتصادها المنهار أصلاً إصلاحه في هذه الظروف تحت هذه الصعاب الداخلية والخارجية، مما يزيد من الأعباء على هذه الدول أثناء الحروب، لترميم اقتصادها وإيجاد الحلول المناسبة لمواطنيها. وعلى سبيل المثال الدول العربية: اليمن، وسوريا، وليبيا، ولبنان والعراق.

تدل التجارب العالمية في حالات الضائقات المالية والحروب (بالذات في السنوات والعقود الأخيرة)، على ازدياد شعور الإحباط عند المواطنين في هذه الدول، وتوجههم إما للانتماء للأحزاب اليمينية المتطرفة، ناهيك عن تبني الحكومات سياسات شعوبية أو غامضة للفت نظر شعوبها عن المخاطر الحقيقية التي تحيط بالبلاد، وإما لجوء الملايين من السكان للهجرة إلى الدول البعيدة أو المجاورة، لأجل كسب لقمة عيش كريمة لعائلاتهم و/ أو سلامة عائلاتهم وتأمين مستقبل أولادهم. وقد أخذت هذه الهجرات المليونية تزيد من المشكلات الداخلية في بعض البلدان المستقبلة لهم، إما لعدم إمكانها استيعابهم في سوق العمل المحلية، وإما للنزاعات القومية والدينية التي تثيرها ما بين مواطنيها والمهاجرين. ومن غير المستبعد أن تثير الحرب هذه، كسابقتها من الحروب، هجرة واسعة، إقليمية أو عالمية الاتجاه، اعتماداً على الأوضاع المعيشية والصحية المتردية من ناحية، ومدى ترحيب دول الاستقبال لهجرات ضخمة جديدة أم لا، وما مدى تأثير هذه الهجرة على ردود الفعل المحلية عليها في وسط موجة متزايدة من الغضب والتزمت لشعوب الدول المستقبلة للهجرات السابقة. وتشير حرب غزة أيضاً إلى سياسات جديدة/ قديمة من «التهجير العرقي» لمواطنين ورثوا بلادهم عن آبائهم وأجدادهم.

التهجير الحالي للفلسطينيين من غزة هو استمرار لنكبات التهجير في عامي 1948 و1967. وما تهجير الأرمن مؤخراً من كاراباخ إلا تهجير عرقي آخر لشعب سكن أرضه هذه منذ آلاف السنوات.

وحافظت الأسواق المالية على هدوئها خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، رغم الانخفاض البسيط في قيم الأسهم العالمية، والفروقات الصغيرة نسبياً في الفوائد. لكن تكمن المخاوف من ارتفاع معدلات التضخم، ومعها أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، في حال استمرار الحرب لفترة أطول، وامتدادها لساحات أخرى.

وليد خدوري

الحروب والديون والعملة «الصعبة»

يشهد العالم حروباً وصراعات مسلحة لم يشهدها منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. ومن أشد الحروب بشاعة وإيلاماً ما يتعرض فيها المدنيون والأبرياء المسالمون من فقدان للأرواح، وإصابات جسيمة، وإهلاك للممتلكات، وفقدان لأسباب الحياة والمعيشة على مشهد ومسمع من العالم أجمع؛ كالمأساة التي تعيشها غزة على مدار الساعة رغم ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمناشدات الملحة بإيقاف القصف المروع وآلة الحرب ولو لهدنة إنسانية. ومن ناحية أخرى، فإن الحروب والصراعات وإن جاءت في دائرة جغرافية محددة كما يحدث في أوكرانيا وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة لكن تداعياتها الاقتصادية والسياسية الإقليمية والعالمية ظاهرة للعيان مع مخاطر متنامية لتوسع دائرة الحرب؛ ومع توالي الصراعات الجيوسياسية وتدهور الثقة بالنظام الدولي هناك نذر بصراعات مسلحة أكثر انتشاراً وحروب أكثر دماراً مع زيادة حدة الاستقطاب الدولي.

وفي إشارة للاستقرار النسبي على الصعيد العالمي في أثناء الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، يرى المؤرخ هارولد جيمس الأستاذ بجامعة برينستون الأميركية أن وراء ذلك عاملين، الأول التوازن النووي ضمن الردع المتبادل بين القوتين العظميين في وقتها ببديل وحيد هو الدمار الشامل للطرفين في حالة الحرب؛ والثاني هو هيمنة الدولار بوصفه عملة صعبة والذي عدّ سلاحاً نووياً مالياً تجري عليه ذات القاعدة بألا يجري تسليحه وألا يُستخدم إلا دعامة للاستقرار النقدي والمالي، بما عدّ وقتئذ أن تسليح الدولار إيذان بدمار نظامه شأنه في هذا شأن الأسلحة النووية التي رُوج لها أن كل قوتها في قدرتها فقط على الردع؛ وأن نهايتها، بل نهاية ممتلكيها، في حال استخدامها.

هذا مما كان من مسلّمات عهد الحرب الباردة البائد، أما العهد العالمي الحالي، الذي شهد انفراداً لفترة لقطب واحد، بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي بلا حرب إلا ما كان من حرب باردة، ثم تعدداً للأقطاب بعد تصاعد لقوى جديدة مدفوعة بأوزانها الاقتصادية. ولا يبدو أن للعهد الحالي مسلّمات تذكر، فظروف اللايقين وغياب القيادة وعجز الثقة وفائض الأزمات تطغى عليه. فها هي الأسلحة النووية يُلوح باستخدامها مراراً بعد بداية الحرب الأوكرانية؛ أما الدولار فقد جرى تسليحه بمنع روسيا من استخدامه في المعاملات الدولية بعد هذه الحرب، وكانت قد منعت من استخدام نظام «السويفت» للتحويلات البنكية من قبل، بعد إلحاقها لجزر القرم في عام 2014.

ولكي تكتسب العملة صفتها بوصفها عملة صعبة أو عملة احتياطية في النظام النقدي الدولي، فعليها أولاً ألا تكون عملة سهلة محلياً، بمعنى أن يرضى بها عموم الناس في القيام بوظائفها الثلاث المتعارف عليها بوصفها وحدة للحساب في المعاملات؛ ووسيلة مقبولة لدفع المستحقات ومخزناً للقيمة؛ أما إذا صارت العملة المصدرة سهلة بانهيار مستمر لقيمتها بسبب التضخم والتوسع في المعروض منها لسداد الديون، فسينصرف الناس عنها بإحلالهم نقوداً أخرى محلها، أو باللجوء لوسائل التوقي من التضخم كالذهب. وإذا ما استقرت العملة محلياً وتوسع اقتصادها إنتاجاً واستثماراً وتصديراً للخارج فسيقبل الناس عليها من خارج حدود الدولة لتقوم بذات الوظائف الثلاث عبر الحدود لتصبح بذلك عملة دولية في تسوية المعاملات. وإذا ما تطور شأن العملة الدولية فتمتعت باستقرار اقتصادي وسياسي وقوة للقانون تساندها في بلادها المصدرة صارت عملة احتياطية، فتستثمر البنوك المركزية والمؤسسات في الأدوات المالية المقومة بها كأذون وسندات الخزانة استفادة من سيولتها العالية، وحماية حقوق حامليها عبر الوقت.

وللدول المصدرة للعملة الصعبة امتيازات كبرى منها ما يبلغ حد الامتياز السخي الفياض على اقتصادها: بأن تقترض دولياً بعملتها المحلية ثم تكلف عملياً كل حامل للدولار حول العالم بالمساهمة في تكاليف سداد ديونها برفعها معدل التضخم الذي ينتقص من قيمة العملة. تماماً كحال الدولار الأميركي الذي ورث عرش الجنيه الإسترليني رسمياً في عام 1956 بعد حرب السويس، المشهورة بالعدوان الثلاثي على مصر؛ إذ ظهر جلياً بعد هذه الحرب أن الغلبة في المعسكر الغربي للولايات المتحدة التي أملت شروط وقف القتال تاركة بريطانيا تدرس تداعيات ما بات يعرف بعدها «بلحظة السويس»، وهي اللحظة التي يدرك فيها الطرف الأضعف حقيقة ما صار إليه من ضعف شهد به القاصي والداني، إلا أنه استمر في إنكاره لما كان عليه في عهد سابق من مجد، وظن أن ما يعتريه من ضعف مؤقت وأنه سيستعيد المجد التليد ولكن هيهات.

فقد كان الإسترليني عملة صعبة مسيطرة بارتياح على الاقتصاد العالمي حتى الحرب العالمية الأولى التي كبّدت بريطانيا خسائر اقتصادية ومالية رغم انتصارها السياسي والعسكري؛ فباعت أصولاً واستدانت بما يتجاوز 130 في المائة من ناتجها المحلي لتمويل المجهود الحربي بما يقدره الاقتصادي الأميركي باري أيكنغرين بستة أمثال مستوى ديونها قبل الحرب. ورغم ظهور الدولار منافساً محتملاً للإسترليني في العشرينات فإن الحكومة البريطانية اتخذت إجراءات للسيطرة على التضخم وضغط الإنفاق بما جعل الإسترليني يصمد في المنافسة الدولية؛ وهو ما كان هدفاً جيوسياسياً من مكونات الاحتفاظ بالقوة الشاملة لمركز الإمبراطورية التي شرعت الشمس في الأفول عنها بعدما كانت لا تغرب عنها أبداً.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فخرجت بريطانيا منها منتصرة عسكرياً وسياسياً مرة أخرى، ولكن بديون خارجية أكبر ومع ازدياد التزاماتها محلياً اضطُرت لتخفيض قيمة عملتها بعد الحرب. وشهد الإسترليني تراجعاً عن الاحتفاظ به من قبل البنوك المركزية، وانخفض الطلب عليه، ثم جاءت لحظة السويس الحاسمة التي امتنع فيها الرئيس الأميركي أيزنهاور عن مساندة بريطانيا وعملتها التي انخفضت بحدة إلا بعد انسحاب قواتها ووقف حرب السويس.

والسؤال الملح: هل سيستمر الدولار في هيمنته في هذا العالم المضطرب الشديد التغير؟ وهذا ما سنتناول إجابته في مقال مقبل.

 

د. محمود محيي الدين

هل كان فريدمان على حق؟

قبل 53 سنة، نشر عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة «نوبل»، ميلتون فريدمان، مقالاً في جريدة «نيويورك تايمز» يهاجم فيه فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات، مدافعاً عن قناعته بأن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة لها هي تعظيم الأرباح للمساهمين.

فريدمان معروف بإيمانه الشديد بالرأسمالية، ومن هنا كان هذا المقال دفاعاً عن الرأسمالية التي عدّ فريدمان أن فكرة المسؤولية الاجتماعية هي محاولة لتحويلها إلى نظام أشبه بالاشتراكية.

كلام فريدمان في ذاك الوقت قد يكون مقبولاً لدى العديد من المفكرين وقادة الأعمال، ولكنه اليوم قد يُنظر له على أنه دعوة للجشع والأنانية التي عُرفت بها الرأسمالية الغربية. وفي أميركا اليوم من الصعب أن يصدر أحد ليقول هذا الكلام.

ولو أراد فريدمان نشر كلامه اليوم في نفس الصحيفة (نيويورك تايمز) لتعرض لسيل من الانتقادات من جيل الألفية الذين يريدون أن يجعلوا الشركات تبحث عن القيمة والهدف وليس الربح.

في الحقيقة، أنا مع فريدمان في طرحه، وقد يزعج كلامي هذا العديد من الذين يتبنون المسؤولية الاجتماعية كمنهج أو كوظيفة.

المسؤولية الاجتماعية الوحيدة التي أومن بها هي توفير (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) وظائف لأبناء المجتمع وتوظيفهم، بغض النظر عن الدين والطائفة والعرق والجنس والجنسية التي ينتمون لها.

أما برامج إطعام الفقراء وتوزيع سلات غذائية على المحتاجين، وأخذ أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة في رحلات… فكل هذه الأمور مجرد صور نفاق اجتماعي، وليس دور الشركات، بل هو دور المجموعات الاجتماعية والجهات الحكومية.

فريدمان كان على حق عندما قال إن برامج المسؤولية الاجتماعية تأخذ أموالاً من أرباح المساهمين بلا وجه حق وتوزعها بالنيابة عنهم.

إحدى النقاط المهمة في مقال فريدمان هي أنه في الوقت الذي يدفع فيه المساهمون والشركات ضرائب للحكومة لكي تقوم برعاية أكثر الفئات احتياجاً، يتم اقتصاص أموال إضافية منهم من دون موافقة ورغبة لتحسين صورة الشركة، وبالتالي تكون الشركة قد أضافت ضريبة جديدة لهم.

حتى لو أردنا النظر إلى مفهوم العمل الاجتماعي للشركات في ظل النظام الإسلامي، فسنجده قريباً مما دعا إليه فريدمان؛ إذ إن الزكاة هي طهارة للمال وللأثرياء (المساهمين في هذه الحالة) تذهب إلى الفقراء. وهنا ليس المسؤول عن جبايتها وتوزيعها الشركات، بل الدولة.

نقطة أخرى في صميم هذا الموضوع، وهي أن أي مشروع حتى يكون مستداماً، يجب أن يكون ربحياً. ولنأخذ مثالاً على هذا من واقعنا؛ إذ تقوم بعض الشركات ببناء مراكز صحية لأمراض معينة، وبعض الأثرياء يبنونها من باب الصدقة الجارية. إدارة هذه المراكز عمل يتطلب خبرة، ويجب أن تكون هناك غاية تجارية منها حتى تستطيع مواصلة عملها لسنوات.

ما عدا ذلك فمن الأفضل أن تتبرع هذه الشركات بالمال للدولة لبناء هذه المراكز، وتدع الدولة تقوم بعملها بعد ذلك.

ما يجري في العالم اليوم هو منافٍ لكل الفكر الاقتصادي السليم، ولهذا نجد شركة تنتج ملابس مستدامة وصديقة للبيئة، ولكن في الحقيقة هذه الملابس قبيحة شكلاً وقماشاً ومضموناً. ولهذا تعتمد هذه الشركات على دعم المشترين لها لا على جودة منتجاتها وقدرتها على التنافس في سوق حرة مفتوحة.

لا يوجد شيء اسمه مشروع تجاري إنساني، ولكن يمكن أنسنة بعض الأعمال من خلال إضافة لمسات إنسانية لها.

وفي العالم اليوم حركة لتحويل اقتصاد المساهمين إلى اقتصاد أصحاب المصلحة، وهنا نتحدث عن أن الشركة يجب أن تترك تفكيرها في تعظيم الربح للمساهمين وتركز على إرضاء الموظفين والزبائن والمجتمع والموردين.

هؤلاء بطبيعة الحال يتم حسابهم في النظام التجاري للشركة، فالشركة الناجحة هي التي تضع أنظمة وتعطي حوافز للحفاظ على الزبائن والموظفين والموردين، ما عدا ذلك فسيتجهون لغيرها.

وفي عصر اتسمت فيه الشركات بالنفاق في الأغلب، وأصبح التوجه نحو ما يُعرف بالمسؤولية الاجتماعية، وتلاها الاهتمام بمعايير الحوكمة والمجتمع والبيئة، صار من الصعب أن يدافع أحد عن مبادئ الرأسمالية الأصيلة.

فما الحل إذاً؟! الحل أن تركز الشركات على عملها وتعظيم الربحية لمساهميها، وتقوم الدولة بدورها الحقيقي في تحصيل الزكاة والضرائب من الشركات لدعم أقل الفئات حظاً في المجتمع ولتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين. والأهم من هذا أن تضع الدولة قوانين صارمة لحماية أصحاب المصلحة والبيئة وتفرضها بالإكراه على الشركات حتى لو أدى هذا لتراجع ربحيتها.

وقتها ستقوم الشركات بعملها الحقيقي، ونتوقف عن هذه الموجة التي هي في حقيقة الأمر نفاق اجتماعي في أغلبها. وسأختم بنتيجة لدراسة حديثة لشركة «بي دبليو سي» أظهرت أن 88 في المائة من قادة الأعمال يعتقدون أن تقارير الاستدامة للشركات هي محاولة «تبييض للوجه» التي تُعرف باسم «الغسيل الأخضر».

لهذا أرى أن فريدمان على حق.

وائل مهدي

جاذبية دول الآسيان

اختتمت قبل أيام قمة الرياض بين مجلس التعاون لدول الخليج العربي ورابطة الآسيان، هذه هي القمة الأولى بين الكتلتين بعد سنوات طويلة من العلاقات التجارية المتنامية. جُدولت هذه القمة منذ فترة طويلة، وهدفت إلى وضع إطار عمل للتعاون بين الكتلتين بما يخدم مصالحهما المشتركة في عالم أصبح يدرك كما لم يدرك من قبل أهمية التحالفات والشراكات الاستراتيجية. ولكن لماذا دول الآسيان تحديداً؟ وما هي المميزات والاستراتيجية الاقتصادية التي تمتاز بها هذه الدول وتصب في مصلحة دول الخليج؟

تنامت أهمية دول رابطة الآسيان الاستراتيجية في السنوات الأخيرة، لأسباب منها أن العديد من الدول – والغربية تحديداً – أصبحت ترى فيها بديلاً للصين بما يعرف باستراتيجية الصين 1. وهو أسلوب تتبعه العديد من الدول التي تريد تقليل أخطار الاعتماد على الصين، سواء في الواردات أو سلاسل الإمداد. واستطاعت بعض دول الرابطة – ومنها إندونيسيا وتايلند وماليزيا – جذب رؤوس الأموال مستفيدة من فارق أجرة اليد العاملة بينها وبين الصين التي تصل إلى نسب تتراوح بين 10 و15 في المائة. ويخدم دول الآسيان في رأس المال البشري عدد سكان يربو على 700 مليون نسمة، نسبة كبيرة منهم تحت سن الخامسة والثلاثين. وانعكست هذه الأسباب على الاستثمار الأجنبي المباشر، فوصلت في دول الآسيان عام 2022 إلى نحو 174 مليار دولار، ولم تؤثر الجائحة في معدلات هذا الاستثمار، إذ عادت مستوياته إلى ما قبل الجائحة خلال عام واحد فقط، وفي ذلك انعكاس للتفاؤل السائد بشأن دول الرابطة.

ولهذا التفاؤل ما يبرره، فخلال السنوات الأخيرة أثبتت الإحصائيات أن دول الآسيان تفوق الكثير من غيرها في نمو التبادل التجاري. فبين عامي 2017 و2021، نمت التجارة العالمية بنسبة 24 في المائة، بينما نمت تجارة الآسيان بنسبة 33 في المائة، وبين عامي 2017 و2022، توسعت التجارة بين الولايات المتحدة والصين بنسبة لا تزيد على 6 في المائة، في المقابل ارتفع التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والآسيان إلى الضِعف، ونمت التجارة الثنائية بين الآسيان والصين بنسبة 95 في المائة. وقد نما القطاع الصناعي في 2021 بنسبة 134 في المائة ليصل إلى 45 مليار دولار في صناعات مثل السيارات الكهربائية، والإلكترونيات، والصناعات الطبية والدوائية. ويشكل قطاع الخدمات أكثر من 50 في المائة من الناتج القومي للكتلة الشرق آسيوية، بينما الصناعي 36 في المائة، والزراعي 10.5 في المائة، النسبة الأخيرة تحديداً دليل على تحول اقتصادات هذه الدول التي كانت في الأساس زراعية. ومن حيث الصادرات العالمية، فقد شكلت صادرات دول الآسيان في ذلك العام نحو 17 في المائة من الإلكترونيات الاستهلاكية، و12 في المائة من الملابس، و9 في المائة من منتجات السيارات.

ويُتوقع أن نمو دول الآسيان لا يزال في بداياته حتى مع كون نموها السنوي 5.7 في المائة. فقد أشارت دراسة إلى إمكانية زيادة صادرات الآسيان بنسبة 90 في المائة لتصل إلى 3.2 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2031، بينما قد لا تزيد التجارة العالمية في هذه الفترة على 30 في المائة. ويدعم هذه التوقعات ما تقوم به دول الرابطة من نشاط في اتفاقيات التجارة الحرة الدولية، مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، التي شملت دولاً إقليمية مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، وفُعّلت في مستهل 2022 لتصبح أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم بناتج قومي يعادل 30 في المائة من الناتج العالمي.

هذه الأرقام والتوقعات توضح أن التعاون بين رابطة الآسيان ودول الخليج تعاون واعد. فالطرفان طموحهما عالٍ من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية. والتعاون التجاري بينهما في ازدياد مطّرد خلال السنوات الأخيرة. وقد بلغ حجم التجارة بينهما نحو 137 مليار دولار، وهو ما يشكل 8 في المائة من إجمالي تجارة دول مجلس التعاون. ولا يزال لدى الطرفين الكثير لتقديمه لبعضهما البعض، لا سيما أن التعاون بينهما هو تعاون استراتيجي مبني على مصالح مشتركة، لا تدخل فيها الأجندات السياسية، وهو ما أصبح اليوم شديد الصعوبة في عالم تعصف به الأزمات الجيوسياسية، وتُقدم فيه الآيديولوجيات على الازدهار الاقتصادي.

إن امتداد أفق الشراكة بين الطرفين دفع وسائل إعلام دول الآسيان إلى الابتهاج بهذه القمة التاريخية، فقد عدتها علامة فارقة تفتح فرصاً جديدة للارتقاء بالعلاقات بين الطرفين إلى مستوى جديد من التعاون والتنمية المتبادلة. والإعلان عن «إطار التعاون بين مجلس التعاون ورابطة الآسيان» للفترة (2024 – 2028) يعني مزيداً من الازدهار للكتلتين. ودخول دول الخليج بصفتها كتلة واحدة لهذا الاتفاق مؤشر يؤكد أن أبعاد التضامن الخليجي متعددة.

د. عبد الله الردادي

ارتفاع الأسعار ومرحلة تحوّل الطاقة

تتراوح الأسعار حول 95 دولاراً لبرميل نفط برنت، وارتفعت إلى نحو 100 دولار لبرميل النفوط النيجيرية الخفيفة التي تعوض النقص الحاصل للنفط الصخري الأميركي الخفيف.

هذه ليست المرة الأولى التي تسجل فيها الأسعار هذا المستوى العالي، وقد فاقت هذا المستوى بكثير سابقاً. لكن المهم في الارتفاع السعري الحالي، هو تزامنه مع مرحلة «تحول الطاقة»، التي تتزامن بدورها مع النتائج المترتبة على جائحة كوفيد – 19، وتلتها مباشرة الحرب الأوكرانية ومقاطعة أوروبا للبترول الروسي.

شهدت ظاهرة تحول الطاقة خلال العقود الأخيرة مراحل عدة. الاهتمام البيئي الذي أصبح بنداً رئيسياً في مؤتمرات القمة والأمم المتحدة، بالإضافة إلى المساندة الواسعة له من قبل الرأي العام، عقدت على أثرها عشرات المؤتمرات، إلا أنها لم تحقق نجاحاً يذكر حتى مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغيير المناخ (كوب) في باريس عام 2015. ومن ضمن قرارات مؤتمر باريس، التي حازت على موافقة أغلبية دول العالم، هو قرار تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050. لكن رغم موافقة إدارة الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما على قرارات المؤتمر، عارضته لاحقاً إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب بحجة أنه يضر بالمصالح الاقتصادية الأميركية. ثم عاد ووافق الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن على قرارات مؤتمر باريس.

تم تكليف وكالة الطاقة الدولية برسم خريطة طريق لتصفير الانبعاثات. وألقت الوكالة معظم اللوم للانبعاثات على النفط، وأوصت بإيقاف الاعتماد على النفط في سلة الطاقة المستقبلية، مهملة بذلك حقيقة أن الدول الصناعية الغربية واختراعاتها التقنية كانت مسؤولة عن ازدياد استهلاك النفط، وأنه لولا الازدياد السنوي في الطلب العالمي على النفط، وبخس أسعار برميل النفط خلال النصف الأول من القرن العشرين، لما تأسست الصناعات المتعددة من وسائل النقل والأدوات الاستهلاكية. لقد أدى الاعتماد على النفط خلال القرن العشرين إلى اقتصاد اليوم.

كان هناك شعور بالغبن عند الدول المنتجة للنفط، تبين بشكل واضح وعلني عندما بادر الأمير عبد العزيز بن سلمان، وزير الطاقة السعودي، مباشرة بعد صدور تقرير خريطة طريق الوكالة بوصفه أنه «فيلم هوليوودي خيالي». والسبب في ذلك عدم أخذ التقرير بنظر الاعتبار واقع صناعة الطاقة العالمية، وما تحتاجه خريطة الطريق من تغييرات ووقت واستثمارات لتغيير الطاقة وتصفير الانبعاثات.

ومنذ أوائل هذا العقد، تستمر الوكالة في برنامجها الذي رسمته حيث تصدر على أساسه التغيرات المتوقعة، وآخرها كان توقع ذروة الطلب على النفط في عام 2030، وذلك لتشجيع الدول على إيقاف بيع مركبات محرك الاحتراق الداخلي. هذا رغم، أن دولتين مستهلكتين كبيرتين كانتا قد أعلنتا أن موعد التزامهما بتصفير الانبعاثات سيؤجل إلى ما بعد عام 2050، وناهيك عن عدم استعداد وإمكانيات الكثير من دول العالم الثالث التغيير في عام 2050. فقد أعلنت الهند استعدادها لتصفير الانبعاثات في 2060 والصين في 2070. فمن دونهما ودون الكثير من دول العالم الثالث، من الصعب جداً البدء بتصفير الانبعاثات عالمياً في 2050.

أيضاً، أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الأسبوع الماضي أنه سيرجئ لخمس سنوات (حتى عام 2035) حظراً على المركبات الجديدة التي تعمل بالغاز والديزل، والتي كان من المقرر أن يتوقف بيعها في بريطانيا عام 2030، قائلاً إنها «تكاليف غير مقبولة» على الناس العاديين. وأضاف أنه سيفي بوعده بتخفيض انبعاثات المملكة المتحدة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري إلى الصفر بحلول عام 2050، ولكن «مع نهج أكثر واقعية وسياسية».

ويشكل إعلان سوناك ضربة قاسية لتوقعات الوكالة بالنسبة لمنع بيع المركبات المستهلكة للبنزين والديزل، إذ كانت بريطانيا مع بقية الدول الأوروبية، من أولى الدول المتحمسة لهذا الاقتراح الذي يشكل خطوة مهيئة لتصفير الانبعاثات في 2050.

أدى التسرع في محاولة تهميش دور النفط، رغم زيادة الطلب السنوي عليه منذ انتهاء الجائحة ومع نشوب حرب أوكرانيا، إلى اضطراب الأسواق البترولية؛ نظراً لزيادة الأنباء المتضاربة وغير الدقيقة بمنع بيع المركبات المستعملة للبنزين أو الديزل قريباً. فقطاع النقل هو أكبر مستهلك للنفط، والتغييرات المخططة له ستترك بصماتها على صناعات وأسواق عالمية عدة. وهذه معضلة تواجه الأسواق، وهي الدعوة لتخفيض الاستثمارات في القطاع النفطي بحجة توصل العالم إلى ذروة الطلب على النفط بحلول عام 2030، كما تدعي وكالة الطاقة الدولية.

وذكر وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان في جلسة حوارية من ضمن «مؤتمر البترول العالمي» الذي انعقد الأسبوع الماضي في مدينة كالغاري في كندا، أنه «لا بد أن نكون استباقيين وحذرين»، وأضاف أن «الاستثمار في الطاقة التقليدية لا بد أن يستمر بالتوازي مع التحول للطاقة المتجددة»، بمعنى أخذ النفط بنظر الاعتبار في سلة الطاقة المستقبلية، جنباً إلى جنب مع الطاقات المستدامة، وبالذات لأن الطلب على النفط اليوم يفوق 100 مليون برميل يومياً، ولا تتوفر لحد الآن الطاقات المستدامة أو التقنيات للحلول كلياً محل النفط. كما أن هناك إمكانات وصناعات متزايدة لتقليص الانبعاثات الكربونية من النفط.

وقال: «إن كل الأمور التي حذرت منها وكالة الطاقة الدولية لم تحدث، إذ إن توقعاتها ابتعدت عن توقع أوضاع السوق لتضطلع بدور سياسي»، معتبراً أن «وكالة الطاقة صارت مؤدلجة».

ومن المتوقع أن تطرح وجهة النظر هذه التي تتبناها مجموعة «أوبك بلس» والسعودية في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب – 28» الذي سينعقد في دولة الإمارات نهاية هذا العام.

 

وليد خدوري

التحقيقات الأوروبية والحوافز الصينية

أطلق الاتحاد الأوروبي تحقيقاً حول الحوافز التي تقدمها الحكومة الصينية لمصانع السيارات الكهربائية، ويدّعي الاتحاد الأوروبي أن الصين «تشوّه» السوق بممارسات غير عادلة، أدّت إلى إضعاف المنافسة بين المصنّعين الصينيين وقرنائهم الأوروبيين. وصرحت رئيسة المفوّضية الأوروبية بأن الأسواق العالمية مغمورة بالسيارات الكهربائية الصينية الأرخص ثمناً. فلماذا يفتح الأوروبيون هذا التحقيق وهم أول من يسعى إلى نشر السيارات الكهربائية ضمن خططهم المناخية؟

خطّط الأوروبيون لهذا التحقيق منذ فترة طويلة، وقد يكون هذا التحقيق من أكبر التحقيقات التجارية بحكم حجم السوق المرتبطة به. ويهدف هذا التحقيق إلى أهداف، منها كسب ورقة ضغط على الحكومة الصينية لفتح أسواقها أمام الشركات الأوروبية؛ لا سيما أن العجز التجاري بينهما وصل إلى مستوى تاريخي بنحو 369 مليار يورو! كما أن مصنّعي السيارات الأوروبيين أبدوا تذمّرهم من غزو السيارات الكهربائية الصينية للأسواق الأوروبية.

وقد ارتفعت الحصة السوقية للسيارات الصينية (الكهربائية وغيرها) في الأسواق الأوروبية من أقل من 1 في المائة عام 2021 إلى نحو 2.8 هذا العام. أما السيارات الكهربائية الصينية فقد استحوذت على 8 في المائة من السوق الأوروبية، ويبدو أن هذه النسبة في ازدياد مستمر، مدفوعة بالتشريعات الأوروبية التي تضغط على السيارات التقليدية وتشجع على مثيلاتها الكهربائية.

والأوروبيون تعلموا من الدرس السابق في الألواح الشمسية المنتجة للطاقة المتجددة؛ حيث تمكّنت الصين من الهيمنة على هذه السوق، وإخراج كثير من الشركات الأوروبية خارج السوق بفضل أسعارها المنخفضة. وفي عام 2012 خصصت الحكومة الصينية حوافز ضخمة لمصانع الألواح الشمسية، حينها فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً جمركية على هذه السلع، إلا أنه تراجع عنها في عام 2018، محاولاً زيادة مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الأوروبي. ولكن ذلك جاء بنتائج مخيفة، فالشركات الأوروبية المصنّعة للألواح الشمسية في موقف حرج جداً اليوم بسبب هذا القرار. فقد أرسلت جمعيّة مصنّعي الألواح الشمسية رسالة إلى الاتحاد الأوروبي، دعت فيها إلى دعمها بنحو 100 مليون يورو خلال الأسابيع القليلة القادمة، إضافة إلى المطالبة بإنشاء بنك لتصنيع الألواح الشمسية بميزانية لا تقل عن 6 مليارات يورو، وإلا فإن كثيراً من الشركات ستعلن إفلاسها في المستقبل القريب. وقد أعلنت شركة نرويجية إفلاسها بالفعل منذ فترة، وعلّقت أخرى إنتاجها إلى نهاية العام، بسبب شراسة المنافسة في هذه الصناعة.

وتتمتع المصانع الصينية بميزات عديدة، منها انخفاض أسعار الطاقة المستخدمة في مصانعها، وانخفاض أسعار اليد العاملة، والتسهيلات التشريعية التي تقدمها الحكومة الصينية. كل ذلك أدى إلى أن تكون تكلفة التصنيع فيها أقل بكثير من مثيلاتها الأوروبية، كما أن الصين لم تعانِ من التضخم كما حصل في أوروبا. نتيجة ذلك كله أن أصبحت تكلفة تصنيع الألواح الشمسية في أوروبا ضِعف أسعار (وليس تكاليف) الألواح الصينية. هذا الفارق الشاسع أنهى المنافسة بين الشركات الصينية والأوروبية، وجعل المنتجات الأوروبية تبقى في المخازن دون مشترٍ. وأصبحت اليوم الألواح الشمسية الصينية تشكل نحو 75 في المائة من إجمالي الألواح في أوروبا، ولو استمرت الحال كما هي الآن فقد تزيد هذه النسبة.والأوروبيون يحاولون كذلك إطلاق تحقيق مشابه يختص بمكوّنات طاقة توربينات الرياح، والتي تتميز بها الصين كذلك. والهدف هنا واضح جداً، أن أوروبا لا تريد استبدال منتجات الطاقة المتجددة الصينية بالغاز الروسي. ولكن الأوروبيين يخشون من ردة الفعل الانتقامية للصينيين في حال اتخذوا هذا الإجراء، لا سيما أن الصينيين للتو حظروا تصدير المواد الخام لإنتاج الرقائق الإلكترونية لأوروبا، بعد ما اتبعت أوروبا حذو الولايات المتحدة بمنع صادرات الرقائق المتقدمة للصين.

إن أوروبا بالفعل تحذو الآن حذو الولايات المتحدة في سياسة الحماية الاقتصادية التي بدأها الرئيس السابق (ترمب) وامتعض منها بعض الأوروبيين حينها. وقد سبق للغرب محاربة سياسة الإغراق الصينية سابقاً في سلع مثل الحديد والصلب، ولكنهم الآن يحاربونهم في منتجات هم في أمسّ الحاجة إليها بحكم سياساتهم المناخية، وحاجاتهم الاستراتيجية للاستغناء عن الغاز الروسي. في المقابل فإن الصين حتى مع استنكارها سياسات الحماية الاقتصادية، اتفقت مع الأوروبيين لإيجاد (آلية شفافة) لحل هذه المشكلة وتخفيف حدة التوتر بين الطرفين. ويبدو أن الطرفين يريدان على الأقل تأجيل هذه المشكلة حتى لا تتفاقم، وحتى يتوصلا إلى حل يحافظ على ما يريده الأوروبيون، وهو السيادة الصناعية لقطاع السيارات الكهربائية، وما يريده الصينيون، وهو استمرار التوسع في هذا المجال خارج الأسواق الأوروبية.

د. عبد الله الردادي

حيرة «أبل»

لعل الشهر المنصرم هو أحد أكثر الأشهر صعوبة لشركة «أبل»؛ الشركة الأكبر تقييماً في العالم بقيمة سوقية تصل إلى 2.8 تريليون دولار. وشهر سبتمبر (أيلول) في العادة هو ذروة السنة لشركة «أبل»، ففيه تصدر النسخ الجديدة من هواتفها الذكية، وتجذب الأنظار بمؤتمر إطلاق هذه النسخ، وتحتفي بمطوريها وإنجازاتها السنوية. ولكن الشهر الماضي شهد حدثين لـ«أبل»، آخرهما ما انتشر عن ارتفاع درجة حرارة هاتفها الجديد، وأهمهما هو القرار الذي أصدرته الصين بخصوص هواتف «الآيفون».

فحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فرضت الحكومة الصينية على موظفيها عدم إحضار هواتف «الآيفون» لمقرات العمل، أو حتى استخدامها لهذه الأغراض. وأضافت «بلومبرغ» في اليوم التالي لهذا التقرير، أن الحكومة الصينية تعتزم كذلك تطبيق هذا النظام على جميع الشركات المملوكة للحكومة، والتي يزيد عددها على 150 ألف شركة، ويعمل فيها أكثر من 56 مليون مواطن صيني.

والصين هي أحد أهم الدول لشركة «أبل»، فهي تقع في المركز الثالث من ناحية حجم المبيعات بنحو 20 في المائة من مبيعات «أبل». والسوق الصينية نفسها ليست هي سبب أهمية الصين، فنحو 80 في المائة من مبيعات شركة «أبل» من الأجهزة، والسواد الأعظم من هذه الأجهزة يصنع في الصين. وللدقة، فإن 90 في المائة من أجهزة «أبل» تصنع في الصين. وهنا تكمن أهمية الصين لـ«أبل»، فهي مصنع الشركة الذي لا يمكن الاستغناء عنه.

وتعد شركة «فوكسكون» من أكبر شركاء «أبل» منذ أكثر من عقدين، ففي عام 2000، وقبل ازدهار علاقتها مع «أبل»، كانت عوائد «فوكسكون» السنوية لا تتجاوز 3 مليارات دولار، وفي 10 سنوات فقط، ومع ازدهار أجهزة «أبل» بأنواعها، وصلت عوائد الشركة إلى نحو 100 مليار دولار، وفي عام 2022 وصلت عوائدها إلى أكثر من 200 مليار! ويعمل في هذه الشركة نحو 1.2 مليون موظف، وهي من أكثر الشركات من ناحية عدد الموظفين في العالم.

ويمكن اختصار صعوبة استبدال دولة ثانية بالصين في نقطتين: أولاهما هي الإجراءات الحكومية، فالحكومة الصينية سهلت لـ«أبل» العمل في الصين على مدى سنوات طويلة. فلم تكن الإجراءات الحكومية أو التوظيف يوماً عائقاً في سبيل توسع شركة «أبل» في الصين، ولا يمكن لـ«أبل» أن تجد مثل هذه التسهيلات في الدول التي يُقترح أن تكون بديلة للصين، كالهند مثلاً. ولطالما كانت العلاقة بين الحكومة الصينية و«أبل» علاقة يسودها الاحترام المتبادل، فالحكومة الصينية تتجاوب مع متطلبات الشركة الأميركية، وفي المقابل فإن «أبل» تمتثل لرغبات الحكومة الصينية؛ سواء بحذف بعض التطبيقات من متجر التطبيقات الصيني، أو بعدم التصريح علناً ضد الحكومة الصينية.

وقد انتشر سابقاً مقطع لصحافية تحاول اللحاق بالرئيس التنفيذي لشركة «أبل» وانتزاع تصريح منه بذم الحكومة الصينية واستنكار مواقفها ضد حقوق الإنسان، ولكن محاولاتها لم تسفر إلا عن صمت مطبق من الرئيس التنفيذي تيم كوك.

والنقطة الثانية هي القوى البشرية، فاليد العاملة الماهرة التي تعمل في المصانع الصينية أكثر من سكان فيتنام كلها، التي يقترح كذلك أن تكون بديلة للصين. ويجدر بالذكر أن الجزء الأنشط في فيتنام هو الجزء الشمالي منها القريب من الصين، وأحد أسباب نهضته هو قربه الجغرافي من سلاسل التوريد الصينية. وقد درّبت «أبل» منذ 2008 أكثر من 24 مليون صيني للعمل في مصانعها، وهناك من الموظفين العاملين حالياً من سبق له العمل على النسخة الأولى من «الآيفون» التي صدرت منذ نحو 15 عاماً.

هذا التراكم المعرفي والثقافة المؤسسية التي تملكها مصانع «أبل» في الصين ليست سهلة النقل إلى دولة أخرى. ولا يمكن كذلك إغفال حجم استثمارات «أبل» في الصين والتي تتمثل في الأجهزة والمكائن الصناعية التي صُنعت وصُممت خصيصاً لإنتاج الهواتف الذكية، والتي تملكها شركة «أبل»، حتى لو وُجدت في مصانع شريكة لها.

إن شركة «أبل» اليوم في موقف حرج بسبب الحرب التقنية بين الولايات المتحدة والصين، فالأولى قاطعت الصين تقنياً بحرمانها من الرقائق الإلكترونية المتقدمة؛ بل وتحفز حلفاءها كاليابان وهولندا لفعل المثل. والصين ترد بإجراءات انتقامية مشابهة بمنع المواد الأساسية المستخدمة في تصنيع هذه الرقائق، وباستثمارات مليارية تزيد على 40 مليار دولار لإنتاج رقائق متقدمة. ولا يبدو أن هذه الحرب على وشك نهايتها، فحتى المستبشرين سابقاً بقدوم الرئيس بايدن أصيبوا بخيبة أمل، من استمراره في سياسة ترمب نفسها بمحاربة الصين، ولو فاز ترمب بالانتخابات الرئاسية فلا يمكن التنبؤ بما سيقوم به حيال الصين.

وفي وسط ذلك كله تقف الشركة الأعلى تقييماً في العالم حائرة فيما تفعل، فلا يمكن لها على المدى القريب نقل عملياتها الصناعية خارج الصين، ولا تستطيع كذلك الاستمرار على حالة عدم الاستقرار التي يبدو أنها في حالة تصاعد مستمرة.

د. عبد الله الردادي

رسائل نفطية مفتوحة حول سلة الطاقة المستقبلية

تدل مؤتمرات الطاقة المنعقدة مؤخراً على توصيل رسائل مفتوحة من الأقطار النفطية إلى مؤتمرات الطاقة، تحضيراً لمؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغيير المناخ (كوب- 28) الذي سيعقد في دبي ابتداء من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

تعتمد الأقطار النفطية في رسائلها المفتوحة و«سياستها الجديدة» على عدة عوامل: تجربة الأسواق خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، ومبادرات الأقطار النفطية في تشييد طاقات مستدامة، في الوقت نفسه الذي تستمر فيه في تطوير صناعاتها البترولية لملاقاة الزيادة المستمرة للطلب العالمي، والتنسيق القائم بين الأقطار النفطية ضمن مجموعة «أوبك بلس» لاستقرار الأسواق.

برزت مؤشرات هذه السياسة -أولاً- خلال الاجتماع السنوي الدولي لجمعيات اقتصاد الطاقة الذي عقد في الرياض، الربيع الماضي، ثم مؤتمر «أوبك» السنوي في فيينا أوائل الصيف الماضي. وبرزت هذه المواقف مؤخراً في اجتماع «ورلد بتروليوم كونغرس» الذي انعقد في كالغري بكندا، نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.

وأبرزت الدوريات ووكالات الأنباء المتخصصة في الطاقة الرسائل النفطية المفتوحة في مؤتمر كالغري. فذكرت الدورية الأسبوعية «بتروليوم أرغس» في صفحتها الأولى: «تميز مؤتمر (ورلد بتروليوم كونغرس) في كالغري بالثقة لدى مسؤولي الصناعة النفطية، من خلال كلامهم ومواقفهم بخصوص دور النفط والغاز المستقبلي. ساندتهم في حججهم ووجهات نظرهم إنجازات دولهم في تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ومن ثم الدور الذي يستطيعون لعبه في مرحلة تحول الطاقة».

وأضافت: «بتروليوم أرغس» أن «هناك تغييراً في لهجة الخطاب، مما شكل إطاراً ملحوظاً للتعامل الجديد مع سلة الطاقة المستقبلية، خلافاً عن الماضي… ففي العقد الماضي، وقبيل جائحة (كوفيد-19) والحرب في أوكرانيا، كان هناك نمط ملحوظ للخطاب حول كيفية التعامل مع مكافحة تغيير المناخ التي سادت بعيد اتفاقية باريس عام 2015، وكان الخطاب عندئذ موجهاً مباشرة على الوجود المستقبلي لصناعات الوقود الأحفوري، وكان على الصناعة النفطية الإجابة بمصداقية. وقد تخطت الصناعة النفطية هذه العقبة الآن، بالتركيز على الانبعاثات من مختلف مصادرها، وليس الوقود الأحفوري فقط، بالإضافة إلى التأكد من أن هناك مرحلة تحول (عادلة)، وإلى العقلانية والبراغماتية لما يمكن تحقيقه فعلياً».

وتابعت: «أدى التركيز السابق إلى بروز تحديات صعبة جداً للصناعة النفطية، في مواجهة الزخم النقدي الذي يواجهها. والأهم كيفية المحافظة على مصداقيتها في المناقشات التي كانت تهدف إلى تشريع القوانين وسن الأنظمة الهادفة إلى إنهاء صناعة النفط. أما الآن، فالشعور السائد هو أن قطاع النفط مسيطر، ويربح النقاش بطرق لم تكن متصورة سابقاً. على سبيل المثال، كان هدف شركات النفط قبل سنوات معدودة الدفاع عن وضع الغاز المستقبلي، باعتباره «جسراً» للوقود المنخفض الانبعاثات في المستقبل. أما الآن، فإن رسالة قطاع النفط هي التكلم بثقة عن الدور الضروري للنفط والغاز، في مرحلة تحول «عادلة» تأخذ بنظر الاعتبار مختلف التقنيات المنخفضة الانبعاثات، بمعنى تحويل النقاش إلى مجمل الانبعاثات، وليس التركيز فقط على تلك التي من الوقود الأحفوري».

وأشارت «بتروليوم أرغس» إلى أن «ما يقوم به قطاع النفط الآن هو التعامل مع الحقائق العالمية وواقع صناعة الطاقة الحالي، كما اضطر القطاع للتعامل مع واقع الطاقة السابق قبل تفشي جائحة (كورونا) ونشوب حرب أوكرانيا. اضطر القطاع النفطي قبل جائحة (كورونا) إلى الانطلاق من وضع صعب أمام الانتقادات الموجهة له حول الأضرار البيئية والمناخية، دون التطرق إلى أهمية دور النفط والغاز سواسية مع الطاقات المستدامة في سلة طاقة مستقبلية متكاملة ووافية، لتلبية الطلب العالمي على الطاقة مستقبلاً. واضطر القطاع عندئذ إلى عدم إبراز دور النفط المستقبلي بشكل ملحوظ، نظراً للاهتمام بالوصول إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن».

وأضافت: «أما الآن، فقد تغير الحوار. وسبب التغير مرده تقلبات الأسواق خلال السنوات الخمس الماضية من (كورونا) وأوكرانيا، وكذلك من بروز حقيقة ما رددته الدول النفطية سابقاً، ولسنوات عدة، من أن تحول الطاقة عملية مكلفة وباهظة الثمن، وأنه من دون مساعدات مالية ضخمة من الدول الصناعية، المسؤولة الكبرى عن الاحتباس الحراري منذ الثورة الصناعية، فلا يمكن للدول النفطية لعب دور كبير في تحول الطاقة خلال هذا القرن، ومن ثم لن تكون مسؤولة عن الاحتباس الحراري حينه».

من جهتها، نشرت وكالة «بلومبرغ» تقريراً، ذكرت فيه أن «المنتجين النفطيين يخططون للبقاء في قطاع الطاقة لفترة أطول بكثير مما يرغبه معارضوهم. وأشار مسؤولون في قطاع الطاقة إلى أن السبب في ذلك هو الازدياد المستمر في الطلب على النفط العالمي، بالذات في دول العالم الثالث، كما أن هناك المخاطر الكامنة في الاعتماد الكلي على الطاقات المستدامة».

واستنتجت وكالة «بلومبرغ» أنه «كان هناك إجماع واضح تقريباً في مؤتمر كالغري على الأهمية المستقبلية لصناعة النفط وتخزين الانبعاثات الكربونية. فهذه الصناعة تسمح بإنتاج النفط والغاز لمستواهما الحالي تقريباً، مع تقليص ضخم للانبعاثات».

وليد خدوري

خريطة طريق عالمية لتنسيق العمل بالعملات المشفرة

ناقشت قمة العشرين بالهند (9 و10 سبتمبر/ أيلول 2023) مواصلة مراقبة مخاطر التطورات السريعة في النظام البيئي للأصول المشفرة، إذ وضع المنظمون الماليون العالميون، وصندوق النقد الدولي خارطة طريق لتنسيق الإجراءات التي تمنع الأصول المشفرة من تقويض استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، إذ إن الأصول المشفرة هي مصطلح يشير إلى العملات الرقمية الافتراضية التي يتم التداول عليها إلكترونياً، فهي عملات لا وجود لها على أرض الواقع، ولكنها عُرفت من خلال الشبكة العنكبوتية، ويتم تداولها عليها، وقد استطاعت أن تجذب أنظار فئة من الناس إليها، وأصبحت من العملات التي تتمتع بقابلية محدودة من قبل الجمهور.

ما يميز هذه العملات ويجعلها قابلة للتداول المحدود والحذر، هو أنها تخضع لعمليات تشفير صعبة، ومربوطة بخوارزميات يصعب اختراقها، حيث يُمنع فيها تزوير القيمة، فمالك العملة لا يستطيع إرسال العملة نفسها لأكثر من شخص، وهذا جعلها محط اهتمام الجميع، خصوصاً أن محاولة اختراع عملات مشفرة بدأت قبل ذلك بكثير في عام 1998، وإمكانية خضوع العملات لعمليات تشفير واختراق، هي التي جعلت الفكرة بعيدة المنال.

وباتت الأصول المشفرة اليوم واحدة من أهم آليات التداول للسلع والخدمات، كما يتم التداول بها في السوق المالية العالمية، وأصبحت العديد من دول العالم تقبلها بوصفها آلية دفع، مقابل الخدمات التي تقدمها مؤسساتها، وليس من المستبعد يوماً أن نجدها هي الأساس الذي يتم به التداول العالمي للخدمات، خصوصاً أنها قدمت إمكانيات أفضل بكثير من النقود العادية إذا نجحت في وظائفها، كونها غير قابلة للتلف ولا السرقة ولا إرهاق نفسك في حملها. محفظة إلكترونية فقط على هاتفك الجوال يمكنك فيها حفظ ملايين الأصول المشفرة، واستخدامها في عديد من عمليات التداول.

وفيما يتعلق بالأصول المشفرة: السياسة والتنظيم، أكدت «قمة العشرين» في الهند 2023، القرار الرفيع المستوى لمجلس الاستقرار المالي، والتوصيات لتنظيم الأصول المشفرة والإشراف عليها، والإشراف على الأنشطة والأسواق وترتيبات العملات المستقرة العالمية، إذ طلبت القمة من مجلس الاستقرار المالي وضع المعايير التي تعزز التنفيذ الفعال في الوقت المناسب لهذه التوصيات بطريقة متسقة على مستوى العالم لتجنب المرابحة التنظيمية.

وقالت هيئة مراقبة المخاطر بـ«مجموعة العشرين» ومجلس الاستقرار المالي وصندوق النقد الدولي، إن هذه المخاطر تتفاقم بسبب عدم الامتثال للقوانين الحالية في بعض الحالات، وإن عديداً من الفوائد المزعومة من الأصول المشفرة، مثل المدفوعات الأرخص والأسرع عبر الحدود وزيادة الشمول المالي، لم تتحقق بعد. وإن الاعتماد على الأصول المشفرة على نطاق واسع يمكن أن يقوّض فاعلية السياسة النقدية، ويتحايل على تدابير إدارة تدفق رأس المال، ويؤدي إلى تفاقم المخاطر المالية، وتحويل الموارد المتاحة لتمويل الاقتصاد الحقيقي، وتهديد الاستقرار المالي العالمي.

وقد حدد تقرير هيئة مراقبة المخاطر، الجداول الزمنية لأعضاء صندوق النقد الدولي و«مجموعة العشرين» لتنفيذ التوصيات الأخيرة لتنظيم العملات المشفرة الصادرة عن مجلس الاستقرار المالي والمنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية، وهي مجموعة عالمية من منظمي الأوراق المالية، وإن التقرير الذي سيتم تقديمه إلى قادة مجموعة العشرين في القمة أوضح أن الاستجابة السياسية والتنظيمية الشاملة للأصول المشفرة ضرورية لمعالجة مخاطر الأصول المشفرة على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، وأن العناصر الأخرى تشمل تجنّب الحكومات العجز الذي يمكن أن يؤدي إلى التضخم الذي يؤثر في العملات الورقية، ويشجع البدائل مثل الأصول المشفرة، وينبغي أيضاً توضيح المعاملة الضريبية للأصول المشفرة، إلى جانب كيفية تطبيق القوانين الحالية على هذا القطاع.

وقد رحبت القمة بخطة العمل المشتركة لأصول التشفير لكل من مجلس الاستقرار المالي وهيئات وضع المعايير المشتركة لأصول التشفير، وبالورقة التجميعية لصندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي، بما في ذلك خارطة الطريق التي من شأنها أن تدعم سياسة منسقة وشاملة الإطار التنظيمي، مع الأخذ في الاعتبار المجموعة الكاملة للمخاطر والمخاطر الخاصة باقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية والتنفيذ العالمي المستمر لسياسات صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي لتطبيق معايير مجموعة العمل المالي (FATF) للتصدي لغسل الأموال ومخاطر تمويل الإرهاب. كما رحبت القمة بتقرير بنك التسويات الدولية عن النظام البيئي للعملات المشفرة: العناصر والمخاطر الرئيسية. يشار إلى أن وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، سيناقشون مسألة اتخاذ قرار تقديم خارطة الطريق في اجتماعهم في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

وفي الختام، ما زالت العملات المشفرة والرقمية في إطار الدراسة في صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي.

 

د. ثامر محمود العاني

أوبك ترد بقوة

في سلسلة أفلام حرب النجوم، القوة هي كل شيء، ولهذا يودع كل شخص من محاربي الجيداي الآخر بقوله «لتكن القوة معك».

ويبدو أن القوة أصبحت حاضرة في المواجهات الإعلامية بين منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، ووكالة الطاقة الدولية.

وكما في حرب النجوم، هناك محاربو جيداي انقلبوا على القوة وتركوا الجانب الطيب فيهم لينتقلوا إلى الجانب المظلم من القوة. وهنا يظهر الجيداي الطيبون لإقناع الأشرار بالعودة إلى جانبهم واستخدام القوة في الخير بدلا من الدمار والشر.

هذا الوصف يكاد ينطبق تماماً على فاتح بيرول الرئيس التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، الذي كان يوماً ما في صف محاربي الجيداي في أوبك، ثم انقلب عليهم وعلى النفط وأصبح ينادي العالم بالاستيقاظ لحقيقة أن الطلب على النفط سيصل إلى ذروته قبل نهاية العقد الحالي.

أمين عام أوبك هيثم الغيص لم يعد يترك المجال لبيرول لكي يروج فكرة ذروة الطلب على النفط خلال السنوات السبع القادمة أو غيرها.

ويوم الخميس أصدر الغيص بياناً للرد على نظريات بيرول (التي لا تدعمها الحقائق بحسب تعبير البيان). وتطرق الغيص إلى معلومة مفادها أن الوقود الأحفوري اليوم يشكل 80 في المائة من مزيج الطاقة العالمي، وهي النسبة نفسها قبل 30 عاماً رغم كل ما استثمرته الدول الغربية في الطاقات البديلة.

أوبك كان بيانها متزناً ولدى كل من فيها الوعي بأن العالم يحتاج إلى كل أنواع الطاقة. ولكن ما يزعج أوبك هو أن بعض الشركات تأخذ توقعات بيرول والوكالة على محمل جاد، ولهذا تتوقف عن الاستثمار في التنقيب عن المزيد من النفط والغاز والتوسع في إنتاجها.

في الحقيقة هناك مليارات من المواطنين في العالم، لا تهمهم الجدالات الإعلامية بين أوبك ووكالة الطاقة الدولية، لأنهم لا يجدون أي نوع من أنواع الطاقة سواء أحفورية أو شمسية.

العالم يحتاج إلى الطاقة وبشكل رخيص، ولا يهم أحدا مصدرها بل سعرها وتكلفتها. والحقيقة التي يجب أن نستيقظ لها جميعاً أن السعر هو ما يحدد كل شيء.

اللؤلؤ الصناعي قضى على اللؤلؤ الطبيعي بالسعر، والآن هناك ألماس صناعي ينتج في المختبرات ينافس الطبيعي لأن سعره نصف سعر الطبيعي.

والسعر ليس كل شيء بل كذلك الكميات، ولهذا فإن الوقود الأحفوري سيبقى هو السيد لأن سعره تنافسي ورخيص وكمياته أعلى ويلبي الطلب من كل القطاعات.

وائل مهدي

كيف نجعل الثقافة محركاً للاقتصاد؟

جوهر المسألة التي حاولت إيضاحها في الأسبوعين الماضيين، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم؛ لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكيلا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي، تهمني الإشارة إلى أنه ليس صفة سيئة. إنه أقرب إلى معنى العرف العام، أي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول إن هذا المجتمع بسيط أو متحفظ، وإن المجتمع الثاني كريم أو بخيل، والثالث نشط وسريع الاستجابة… إلخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع أو ذاك؛ لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة، أي مصادر الإنتاج ووسائله، وقابليتها للتجدد والتطوير، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على أفراد المجتمع. نعلم أن غالب المجتمعات العربية في وضع أقل من المطلوب؛ لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جداً، في مختلف المجالات، في إنتاج العلم والتقنية، وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة، إلى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا إلى العنصر الأول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. إن النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية، ومن سار على أثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا؛ لأننا في أمسِّ الحاجة إلى علاج ما أعده عقدة تفسد نفوسنا، وهي العقدة المتمثلة في إعلان الكراهية للغرب، وادعاء العداوة له، رغم ميلنا الصريح -أو الضمني- لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على أرضية الدين كما يتخيل كثيرون؛ بل «استعملت» عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات، والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. إن الشتيمة الآيديولوجية والشتيمة السياسية للغرب، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك «النفس المبتورة»، حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام إلى ركب منتجي العلم، ولن نقيم اقتصاداً قادراً على الصمود في وجه الأزمات، إلا إذا اجتهدنا في تنسيج أصول العلم والإدارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الأصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جدياً مع كثير من قناعاتنا وأعرافنا الموروثة. فإذا بقينا على «وهم» أن تبنِّي فلسفة الحياة الجديدة مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي، فلن نخرج أبداً من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد على 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام، مهما كان الثمن.

أما العنصر الثاني، فهو إعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بأن بعض الناس سيعترض قائلاً: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟ وجوابي لهم: إن الدين الذي يُفهم كمزاحم للعلم أو معارض له، لا يصلح لقيادة الحياة، ولا يمكن أن يكون دين الله؛ بل هو نسخة أخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم، ولا يحتل مكانه في إدارة الحياة وتسييرها.

للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر، ولا يمكن لأحدهما أن يحتل مكان الثاني. فإن أردت أن تعرف من يقود الحياة، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الأعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم أو في سياقه، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث، فإن أردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة، أي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. وأعني هنا الحياة العامة، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب إن شاء الله.

 

توفيق السيف

نادي باريس للديون

لعقود طويلة كانت الدول الغربية هي الدائن الرئيس في العالم، واستخدم كثير من الدول الغربية سلاح الديون كوسيلة للضغط على الدول النامية في مواقف متعددة. ومنذ منتصف القرن الماضي، أدركت الدول الغربية ضرورة وجود مظلة للدائنين تمكنهم من التنسيق فيما بينهم في حال تعثر دولة عن السداد، وتعطيهم الفرصة لتبادل المعلومات حول المستحقات لكل دولة. ومن هنا نشأ نادي باريس للديون، الذي تأسس سنة 1956.

في ذلك العام، أرادت الأرجنتين مقابلة دائنيها لدراسة كيفية الإيفاء بالديون المتراكمة عليها. كان هذا اللقاء في باريس (بداية نادي باريس)، الذي يهدف إلى إيجاد حلول مستدامة لتخفيف عبء الديون على البلدان غير القادرة على سداد قروضها الثنائية. ويوفر النادي قناة اتصال بين الدول المدينة مع مقرضيها بوجود وسطاء، وبالتنسيق مع المنظمات العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويتكون النادي من 22 دولة، معظمها من الدول الغربية، وهي الدول الدائنة، وتجتمع هذه الدول 10 مرات في باريس، برئاسة مسؤول ذي مستوى عالٍ من الخزانة الفرنسية. كما أن هناك عدداً من الجهات المراقبة للنادي، مثل الهند، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والمفوضية الأوروبية، والبنوك التنموية، مثل بنك التنمية الآسيوي. وقد لعب نادي باريس دوراً مهيمناً في الإقراض الثنائي، فقد كان الجهة الرئيسية التي تقصدها الدول النامية لإعادة جدولة سداد ديونها. ومنذ تأسيسه حتى الآن، أسهم النادي في أكثر من 470 اتفاقية، ضمت 102 دولة، وبلغت الديون المعالجة نحو 600 مليار دولار.

لكن دور النادي تضاءل خلال العقدين الماضيين، والسبب الأكبر لذلك هو بروز الصين كأحد أكبر المقرضين للدول النامية في العالم، والصين ليست عضواً في النادي، وقد رفضت مسبقاً الانضمام إليه. وما يلخص تأثير الصين في انحسار دور نادي باريس هو قصة الأزمة السريلانكية بداية هذا العام. حيث تواصلت سريلانكا مع النادي للحصول على خطة إنقاذ بقيمة 2.9 مليار دولار للخروج من أزمة اقتصادية عصفت بها. وفي العادة، يجتمع أعضاء النادي بالتنسيق مع البنك الدولي للنظر في استحقاقات الدول الدائنة لسريلانكا ومحاولة إيجاد سبل لإعادة جدولة الديون حتى الإعفاء من بعضها. لكن 52 في المائة من الديون على سريلانكا كانت من 3 دول، هي الهند واليابان والصين. واليابان عضو في النادي فلم تتسبب ديونها في أي مشكلات، إلا أن الهند والصين ليستا كذلك. أما الهند فرفضت الدخول في مفاوضات مع سريلانكا من خلال النادي، وفضّلت إجراء مفاوضات ثنائية مباشرة بينها وبين سريلانكا. في المقابل، كان إجراء الصين أن أجّلت السداد لمدة سنتين، دون الدخول في أي محادثات مع نادي باريس.

بعد هذه الحادثة، اتُهمت الصين من الدول الغربية علناً بإدخال الدول النامية في دوامات ديون لا تستطيع الخروج منها، تحت مظلة مبادرة «الحزام والطريق»، التي ترى الدول الغربية أنها إحدى المساعي الصينية لزيادة نفوذها الدولي. وتعثر الدول النامية في نظر الدول الغربية يعطي الصين قوة على هذه الدول النامية، ويمكنها من فرض شروط جديدة تزيد من نفوذها. وفي حين أن نادي باريس، بحسب مبادئه المعلنة، لا يفرض أي أجندات سياسية لإعادة هيكلة ديون الدول النامية، تُتهم الصين أن عمليات إعادة الهيكلة غير شفافة وذات شروط خفية.

في المقابل، فإن الصين تؤمن أن نادي باريس ليست لديه الصلاحية في فرض شروط على الصين، لأنه لا يمتلك صفة دولية، وتنظر الصين إلى مبادرات دولية أخرى، تخدم نفس الهدف، مثل مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين، التي أطلقتها مجموعة العشرين. وتعتقد الصين أن نادي باريس والبنك الدولي يحاولان الضغط على الصين من خلال التأثير على الدول المستدينة حتى لا تقبل عروض الصينيين لإعادة هيكلة الديون.

إن الوصول إلى آلية دولية لإعادة هيكلة الديون تحت مظلة دولية، مثل مجموعة العشرين، أو بريكس، أو غيرهما، هو أمر ضروري، في وقت أصبحت فيه الديون أداة أساسية لنمو الدول. إلا أن تنوع الشروط المفروضة عند منح هذه الديون يصعب الاتفاق الدولي على إعادة جدولتها، خاصة في حالة الصين. فالصين ترى أن النموذج التي تتعامل به مع الدول النامية يساعدها في النمو والاستثمار دون فرض شروط تعجيزية على الدول النامية، بينما ترى الدول الغربية مع البنك الدولي وصندوق النقد أن الخطط الحكومية التي عادة ما تكون تقشفية هي أحد الشروط الأساسية لمنح القروض أو إعادة جدولتها. وفي وسط هذه الاختلافات بين الدول الدائنة، تبقى الدول النامية تنتظر الوصول إلى حلول سريعة، تمكنها من الخروج من أزماتها الاقتصادية.

 

د. عبد الله الردادي