أرشيف التصنيف: المقالات العامة
هل انتهى العصر الصناعي الألماني؟
هل يُلبي قانون “نوبك” الأهداف الأميركية أم يُزيد التقلبات بأسواق الطاقة؟
عبر خطوة أثارت حفيظة الإدارة الأميركية مطلع الشهر الجاري، قررت أوبك+ خفض الإنتاج النفطي بنحو مليوني برميل يومياً.
وبعد القرار الأخير لـ أوبك+، أعلن البيت الأبيض أن إدارة بايدن ستتشاور مع الكونغرس حول الأدوات والسلطات الإضافية لخفض سيطرة أوبك على أسعار الطاقة.
ووصف بايدن القرار بأنه غير ضروري، فيما صرحت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأن القرار يضر بالاقتصاد العالمي.
كما فتح القرار باب التكهنات أمام خطوات عديدة قد تلجأ إليها إدارة جو بايدن وفي مقدمتها ورقة “نوبك”، وهو تشريع يمنح القضاء الأميركي الحق في النظر في دعاوى مكافحة الاحتكار ضد منتجي أوبك والحلفاء.
وكانت اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ مررت بالفعل مشروع القانون في مطلع مايو أيار الماضي، ويستهدف ما وُصف بحماية الشركات والمستهلكين في أميركا من ارتفاع أسعار الخام.
وجاءت تلك الخطوة بعد سنوات من الإخفاق في كل مرة تحاول فيها الولايات المتحدة الخروج بهذا القانون إلى النور.
كيف سيعمل قانون نوبك؟
من شأن التشريع أن يسهم في تعديل قانون مكافحة الاحتكار الأميركي لإلغاء ما وصف بـ “الحصانة السيادية” التي تحمي أوبك والحلفاء وشركات النفط الوطنية بالدول الأعضاء من الدعاوى القضائية.
ولذلك فإنه في حالة تمرير القانون، سيحصل المدعي العام الأميركي على خيار مقاضاة التكتل أو أعضائه في محكمة فدرالية.
ورغم ذلك، فإنه من غير الواضح بالضبط كيف يمكن لمحكمة فدرالية أن تنفذ قرارات قضائية لمكافحة الاحتكار ضد دول أجنبية.
كما أن مشروع القانون لا بد له أن يجتاز كل من مجلس الشيوخ والنواب بكامل هيئته، ثم تمريره إلى الرئيس ليصبح قانوناً.
وأشارت ClearView Energy Partners إلى أن “نوبك” في حالة تقديمه إلى مجلس الشيوخ سيحصل على عدد الأصوات التي يحتاجها وهي 60 صوتاً.
لماذا فشلت المحاولات السابقة لتمرير القانون؟
المحاولات السابقة لتمرير “نوبك” باءت بالفشل وسط مقاومة من قبل مؤسسات للصناعات النفطية، بما في ذلك معهد البترول الأميركي.
وكان معهد البترول الأميركي يرى أن القانون قد يضر بمنتجي النفط والغاز في أميركا.
ووفقاً لتصريحات مايك سومرز الرئيس التنفيذي لمعهد البترول الأميركي، فإن “نوبك” سيخلق المزيد من عدم الاستقرار في السوق، كما سيفاقم التحديات الحالية في التجارة الدولية.
وأضاف: مثل هذا التشريع لن يكون مفيداً في أي ظروف سوقية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
ومن ضمن المخاوف أن القانون قد يؤدي في النهاية إلى إفراط في الإنتاج من جانب أوبك، مما يخفض الأسعار.
ما الذي تغير الآن؟
لكن ما تغير هذا العام هو الغضب المتصاعد داخل الكونغرس بسبب زياد أسعار البنزين التي دفعت التضخم في أميركا لأعلى مستوى في عقود.
كما أن قرار أوبك+ الأخير بزيادة الإنتاج بأكبر وتيرة منذ بداية جائحة كورونا أسهم في زيادة هذا الغضب.
وصرح تشارلز شومر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي بأن مشروع القانون هو من بين الأدوات التشريعية التي يتم النظر إليها رداً على قرار أوبك+ الأخير.
تداعيات القانون قد تتجاوز أسواق النفط
هناك مخاوف من أن تتجاوز تداعيات القانون سوق النفط، وتمتد إلى أسواق أخرى.
وصرح بعض المحللين بأن نوبك قد يدفع بعض الدول لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد الولايات المتحدة بسبب حجب الإنتاج الزراعي لدعم الزراعة المحلية.
كما أن دول أوبك قد ترد بطرق أخرى، إذ هددت السعودية في 2019 ببيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار في حالة تمرير القانون، وهي خطوة ستتسبب في تقويض مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسة في العالم وتقلل من نفوذ واشنطن.
وتشير تكهنات أخرى إلى أن السعودية قد تتجه لشراء بعض الأسلحة من دول أخرى غير أميركا مما يضرب تجارة مربحة لمتعاقدي الدفاع الأمريكيين.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمملكة ومنتجي النفط الآخرين تقييد الاستثمارات الأميركية في بلدانهم أو رفع أسعار النفط المباع إلى أميركا، وذلك في وقت تواجه في الولايات المتحدة وحلفاؤها تحديات كبيرة في تأمين إمدادات طاقة موثوقة خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
تسليح العلوم والتقنية
حَلْب الشركات التقنية
لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى خلف عمالقة الشركات التقنية الأميركية، فبعد سنوات من ملاحقة هذه الشركات في قضايا الاحتكار، ومحاولات فرض الضريبة الرقمية، أصدر هذا العام قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية، لتنظيم عمل الشركات التقنية في أوروبا، هادفاً إلى تطبيق هذين النظامين على النطاق العالمي. هذه المساعي جاءت هذه المرة من خلال الشركات الأوروبية المزودة لخدمات الإنترنت. فقد أصدرت جماعة الضغط الأوروبية لمشغلي الاتصالات (إنتو) تقريراً في مايو (أيار) الماضي وضحت فيه أن أكثر من نصف حركة الإنترنت العالمية تعود إلى ست شركات فقط، هذه الشركات هي (أبل) و(مايكروسوفت) و(فيسبوك) و(أمازون) و(غوغل) و(نتفليكس). مجموع القيم السوقية لهذه الشركات الست هو 8.25 تريليون دولار، أقل بقليل من نصف مجموع الناتج القومي لدول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين (18 تريليون دولار). هذه الأرقام كانت وما زالت تسيل لعاب المفوضية الأوروبية التي لا تكل البحث عن وسائل لما قد يعبر عنه بـ(حَلْب) الشركات التقنية.
هذا المصطلح ليس قاسياً على ما يريده الاتحاد الأوروبي، فهو سيطلق العام المقبل مشاورات يناقش فيها إمكانية مشاركة الشركات التقنية العملاقة في تكاليف بناء شبكات الاتصالات في أوروبا. والمنطق هو أن هذه الشركات تستفيد من هذه الشبكات من خلال الوصول إلى المستخدمين، وعدم المساهمة في تكاليف بنائها تجعل الشركات التقنية أشبه بـ(الراكب المجاني) الذي ينتفع مادياً من البنى التحتية دون أي مساهمة. وزاد مشغلو الاتصالات الأوروبيين على ذلك أن الشركات التقنية لديها تعارض في المصالح، فهي تقدم خدمات صوتية وتلفزيونية منافسة لشركات الاتصالات، وتعتمد في ذلك على شبكات الاتصالات، ولا يحق لشركات الاتصالات منعها من تقديم هذه الخدمات، كما أنها لا تستطيع دفع الضرر عن نفسها من هذه المنافسة التي لا تبدو عادلة من وجهة نظر شركات الاتصالات.
وجهة نظر شركات الاتصالات فيها الكثير من المنطق، فهي من تستثمر في بناء وترقية شبكات الاتصالات، وهذه العملية مستمرة وغير منقطعة، فشبكات الجيل الرابع التي أنشئت قبل عقد من الزمن، بحاجة إلى ترقية إلى شبكات الجيل الخامس التي لن تستمر لأكثر من عشرة أعوام كذلك حين تنطلق خدمات الجيل السادس. في الوقت نفسه فإن الشركات التقنية مستفيدة بكل تأكيد من هذه الشبكات، ولم تكن لتحقق أرباحها دون مساهمة مشغلي الاتصالات في بناء شبكات التي مكنت الشركات التقنية تعظيم أرباحها ومضاعفة قيمها السوقية خلال سنوات قليلة.
ولكن المفارقة أن من يريد هذه المساهمة هي دول الاتحاد الأوروبي، التي تعد دولاً ثرية بالعديد من المقاييس، ولو كان لدول الحق في طلب هذه المساهمة فهي الدول الفقيرة مثل الدول الأفريقية والآسيوية التي تعاني فعلياً من ضعف القدرة على بناء شبكات الاتصالات رغم كل المنافع الاقتصادية التي قد تتحقق لها في حال امتلكت شبكات اتصالات قوية. والاتحاد الأوروبي يراهن كثيراً على عدد سكانه الذين (يفيدون) الشركات التقنية العملاقة، رغم أن سكانه لا يتعدون نصف مليار نسمة، مقارنة بالهند التي يزيد سكانها على 1.3 مليار نسمة! إذا لو كانت الأحقية بعدم القدرة المادية لكانت الدول الفقيرة أحق بهذه المساهمة، ولو كانت بالعدد لنافست دول عديدة مثل الهند والصين وإندونيسيا وغيرها من الدول ذات عدد السكان العالي.
ومشغلو الاتصالات الأوروبيين لديهم بالفعل مقترح لآلية جمع الأموال من الشركات التقنية، فهم يريدون تحديد حصة عادلة لحركة مرور الإنترنت، ومن ثم تحصيل الأموال من الشركات التي تزيد حركة مرورها على هذه الحصة العادلة، واستخدام هذه الأموال في بناء شبكات الاتصالات. وقد طلبت منهم المفوضية الأوروبية أدلة على أن حركة مرور الإنترنت لمواقع مثل (نتفليكس) و(يوتيوب) تزيد بالفعل على متوسط الحصة العادلة وذلك لاستخدامها في المشاورات التي ستبدأ في الربع الأول من العام القادم لمدة ستة أشهر.
هذه التوجهات الأوروبية تطرح سؤالاً، ماذا بقي لأوروبا؟ فهي مقارنة بالصين والولايات المتحدة تعد متخلفة تقنياً، وتعاني بشكل مستمر من نكبات اقتصادية، وقد استنفدت الكثير من مواردها الطبيعية أو كبلت نفسها بأنظمة تعيقها من الانتفاع بهذه الموارد، ووصلت مرحلة لا تستطيع حتى تدفئة شعوبها في الشتاء. ويبدو أنها الآن، وكما أنها في قرون سابقة تغذت على الموارد الطبيعية لدول أخرى، تستخدم المنهج نفسه، ولكن بأسلوب حضاري فرضه الزمن الحالي. ومحاولة تحصيل الأموال من الشركات التقنية هي محاولات يائسة، ولن تخضع لها الشركات التقنية بهذه السهولة، ولو خضعت فسوف تواجه موجات من المحاولات نفسها من دول لا مانع لديها من إيقاف خدمات الشركات التقنية داخل حدودها الجغرافية حتى تحصل على ما تريده.
د. عبد الله الردادي
الفاشية الاقتصادية
فازت (جورجيا ميلوني) بالانتخابات الإيطالية لتصبح بذلك أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إيطاليا. حزب (إخوة إيطاليا) الذي تقوده (ميلوني) هو كذلك أول حزب يميني متطرف يقود الحكومة منذ منتصف القرن الماضي، وكان آخر من تولى الحكومة الإيطالية من اليمين المتطرف هو (موسوليني)، مؤسس وقائد الحركة الفاشية في إيطاليا، الذي انتهى به المطاف إلى الإعدام على أيدي المقاومة الإيطالية. و(ميلوني)، التي يضم حزبها اثنين من أحفاد (موسوليني)، لم تخفِ إعجابها بـ(موسوليني) وقد سبق لها أن صرحت بأنه (فعل كل ما فعل لأجل إيطاليا)، فهل تنتهج (ميلوني) النهج الفاشي نفسه الذي اتبعته إيطاليا قبل قرن من الزمن؟
قامت الحركة الفاشية التي أسسها موسوليني قبل أكثر من مائة عام على فكرة (الطريق الثالث)، هذا الطريق يأتي وسطاً بين الرأسمالية الفردية، والاشتراكية الجماعية. إضافة إلى ذلك، فقد مزج (موسوليني) الفكر القومي إلى هذا المزيج، ولا يمكن إنكار أن حزب (إخوة إيطاليا) ورث الكثير من الحزب الفاشي، بل إن حزب (ميلوني) يحتوي على الشعلة الثلاثية ذاتها التي يحتويها شعار حزب (موسوليني). وهناك تشابه لا يمكن إنكاره بين فكر الحزبين، من ناحية المنهج القومي أو الشعوبي، والسياسة تجاه الهجرة، وغيرها.
تنعكس هذه الآيديولوجية على السياسة الاقتصادية الفاشية، فيشجع الاقتصاد الفاشي على المزج بين الملكية الخاصة والعامة، فهناك تركيز وتحفيز على الربح الخاص، ولكن المصلحة الوطنية هي الأهمية العليا في نهاية المطاف. لذلك فقد اعتمد الاقتصاد الفاشي على مساهمة الشركات في اقتصاد البلد، ودعم بشدة الشركات الوطنية التي تساهم في أهداف بلادها المهمة مثل الاكتفاء الذاتي. ولم يشجع الاقتصاد الفاشي على التجارة الدولية كما نبذ اقتصادات الأسواق الحرة والاستدانة من الخارج، وذلك في انعكاس واضح للفكر القومي. في المقابل، فإن الاقتصادات الفاشية اقترضت الكثير من الداخل لمشاريع البنى التحتية والمشاريع الاجتماعية وانخفضت معها معدلات البطالة إلى نسب قياسية. ويؤمن العديد من الاقتصاديين بوجود منهج اقتصادي فاشي، وأن الفكر الاقتصادي الفاشي لم يصل إلى مرحلة النضوج، وهو رأي طبيعي في هذا الزمن، بالنظر إلى أن الرأسمالية استغرقت عشرات السنين للنضوج، بينما لم يدم الاقتصاد الفاشي لأكثر من ثلاثة عقود.
ورغم أن مفردة (الفاشية) تستخدم اليوم كنوع من الإهانة، فإن هذا لم يكن شائعاً في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت الحركة الفاشية في بداياتها مؤسسة أحزاباً في دول عديدة مثل فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى إيطاليا التي استمر فيها الحزب بقيادة (موسوليني) وألمانيا بقيادة (هتلر). بل إن الولايات المتحدة حاولت آنذاك تطبيق السياسات الفاشية الاقتصادية، وما تزال تطبق العديد من هذه السياسات، وإن كان اسمها اختلف إلى (الرأسمالية المخطط لها) أو (السياسات الصناعية). ولا غرابة في ذلك، فقد انتعشت العديد من الصناعات في ألمانيا وإيطاليا إبان الحقبة الفاشية، ولعل شركة (فولكس فاجن) هي أبرز نجاحات تلك الحقبة، واسم (فولكس فاغن) يعني بالألمانية (سيارة الشعب)، وكان الهدف من إنشائها هو صنع سيارة بثمن مناسب للشعب، وهو انعكاس للنفَس الاشتراكي القومي للحزب الفاشي.
وقد أبدى العديد من السياسيين والمثقفين – خاصة الغرب – حينها إعجابهم الشديد بالفكر الفاشي وبقائده (موسوليني)، وذلك قبل أن تنقلب الفاشية عليهم. فقد كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» حينها أن «(موسوليني) هو (روزفلت) إيطاليا، فهو يتصرف أولاً، ومن ثم يسأل عن الأمور القانونية، وهو بذلك يقدم خدمة رائعة لإيطاليا». كما وصفه (غاندي) بأنه أحد أعظم رجال السياسة في عصره. وقال عنه الأديب البريطاني برنارد شو: «يجب أن يسعد الاشتراكيون أخيراً بالعثور على اشتراكي يفكر كما يفعل المسؤولون». ويوضح ذلك أن اختلاف العالم مع الفكر الفاشي لم يكن لأسباب اقتصادية، بل لأسباب آيديولوجية بحتة.
وبعد أن انقلبت الآراء على الفاشية، أصبح الاقتصاد الفاشي يوصف بهشاشته، وأن الفاشية ترى الاقتصاد وسيلة لتحقيق أهدافها الفكرية، وليس غاية لحد ذاتها. وقد يحمل هذا الوصف بعض الصحة، ولكن، أليس ذلك ما تفعله العديد من الدول اليوم؟ فالاتحاد الأوروبي نفسه، الذي يبغض الفاشية ويخشى أن تتحد (ميلوني) مع الأحزاب اليمينية الأخرى في أوروبا مثل المجر وبولندا، يضع التوجهات الفكرية نصب عينيه قبل أي قرار اقتصادي، حدث ذلك مع المجر حينما أوقف الاتحاد الأوروبي معونات الجائحة عنها بسبب موقفها تجاه المثلية الجنسية.
إن فوز (ميلوني) لا يعني أبداً عودة (الفاشية) إلى إيطاليا وأوروبا، فهذه الحركة انتهت وأصبحت وصمة لا يريد أي حزب أن يوصم بها، إلا أن أفكار هذه الحركة مطبقة اليوم في العديد من الحكومات التي تدعي معاداة الفاشية. ولكن وصول حزب يميني متطرف لرئاسة إيطاليا مقلق جداً لأوروبا المنقسمة اليوم، فإيطاليا ليست المجر أو بولندا، فهي ثالث اقتصاد أوروبي، وعضو مجموعة السبع ومجموعة العشرين. إلا أن غالبية المؤشرات تشير إلى أن (ميلوني) لن تحيد كثيراً عن الاتحاد الأوروبي، لأسباب منها حاجة الاقتصاد الإيطالي الماسة إلى معونات الاتحاد الأوروبي التي تقدر بـ200 مليار يورو، لا سيما في الوقت الذي تصل فيها ديون إيطاليا إلى أكثر من 150 في المائة من ناتجها القومي.
د. عبد الله الردادي
محافظو بريطانيا والرهان على الاقتصاد
انتهى الحداد الرسمي على وفاة الملكة إليزابيث الثانية (1926 – 2022)، وعدنا لنمط الحياة اللاهث السرعة في وستمنستر. الصحافيون يستكشفون التغيرات في سياسة فريق إليزابيث تراس، وما إذا كانت ستضع المصلحة القومية ومساعدة المواطنين عملياً، فوق الآيديولوجيا والشعارات، خاصة الاتهامات التي وجهت إلى حكومة المحافظين في السنوات الأخيرة (المحافظون في الحكم وحدهم منذ 2015 وقبلها في ائتلاف مع الديمقراطيين الليبراليين منذ 2010)، فيما يتعلق بالتزامهم بشعارات التيارات اليسارية والخضر وحركة البيئة، والتي كانت من أهم أسباب أزمة الطاقة في بريطانيا وزيادة فواتيرها، وأيضاً تنفيذ وعد المحافظين بإنهاء تقييدات الاتحاد الأوروبي للقوانين البريطانية، التي تعرقل محاولات وزارة الداخلية التعامل مع الهجرة غير الشرعية بقوارب مهربي البشر عبر فرنسا.
جاء التأكيد على السياسات الجديدة يوم الخميس عندما واجه جيكوب ريس – موغ، وزير الأعمال والطاقة والصناعات، مجلس العموم، متحدياً مزاجاً عاماً (يقارب هستيريا الهوس العقائدي) يسعى لهدف مثالي بتحويل البلاد إلى الطاقة الخضراء. وزير الطاقة ألغى الحظر على التنقيب عن الغاز الصخري الذي كانت حكومة جونسون فرضته بسبب احتجاجات جماعات الخضر والبيئة، الذين أثاروا مشاكل كانت تعرقل عمليات التنقيب وتجمد المشروع برمته. والحكومة أيضاً تبحث عن إصلاح وتعديل القوانين المتوارثة منذ معاهدة ماستريخت في الاتحاد الأوروبي، التي تعرقل إصدار تصريحات التنقيب عن حقول غاز وبترول في بحر الشمال.
ريس – موغ جادل بأن معارضة اليسار والخضر آيديولوجية الدوافع تتجاهل الواقع الاقتصادي، بل وتزيد من معدلات التلوث، فاستيراد بريطانيا الطاقة من الخارج، يعني شحن الغاز المسيل (باستهلاك طاقة) بناقلات تحرق محركاتها الوقود الكربوني بجانب تكلفة النقل، والخطر الاستراتيجي من الاعتماد على مصادر أجنبية ليس للبلاد قدرة على تأمينها.
قبل عرض وزير المالية الجديد، كوازي كوارتينغ، مشروع ميزانية الخريف على البرلمان أول من أمس، الجمعة، كانت الخزانة بدأت في تزويد الصحافة البرلمانية بقطرات من معلومات عن سياسة جديدة للنمو الاقتصادي، على المستويات المحلية، في 38 من المقاطعات والبلديات المحلية، وتسريب بعض المقترحات، مثل إلغاء الزيادة المتوقعة في الضريبة على الأعمال والشركات وإبقائها 19 في المائة؛ وإلغاء عدة رسوم وضرائب كان وزير المالية السابق، ريشي سوناك يعدها لدعم الرعايتين الصحية والاجتماعية.
الهدف من التسريبات كان أعداد المراقبين والمعلقين الاقتصاديين لتجنب مفاجأة الأسواق المالية والبورصات، بمشروع ميزانية راديكالي حتى لا تتذبذب الأسعار، خاصة أن بنك إنجلترا المركزي رفع سعر الفائدة مرة أخرى يوماً قبل الميزانية لتصل إلى أعلى مستوى لها لقرابة عقدين.
رغم ذلك، فور إعلان كوارتينغ الميزانية (كان لا يزال يقدمها لمجلس العموم) انخفض الجنيه أمام الدولار لأدنى مستوى له منذ قرابة أربعة عقود، والسبب أن كثيراً من الإجراءات المتخذة، خاصة تجميد أسعار فواتير الطاقة للمنازل والأعمال الصغيرة ستؤدي إلى اقتراض الخزانة ستين مليار جنيه (قرابة ثمانين مليار دولار قبل انخفاض الجنيه)، ويقدر خبراء المال والاقتصاد أنه إذا لم تنخفض أسعار الغاز بمعجزة في منتصف العام المقبل، لن يكون هناك مفر أمام حكومة تراس إلا الاستمرار في دعم أسعار الطاقة مما قد يرفع المديونية إلى مائة بليون جنيه إسترليني، وهو سبب تذبذب الأسعار، وانخفاض سعر الجنيه (الدولار هو الذي يرتفع أمام كل العملات الأخرى بسبب رفع البنك الفيدرالي سعر الفائدة).
ورغم أن الحكومة قدمت المشروع على أنه «تعديلات إصلاحية» فإنه أكبر ثورة في السياسات المالية والضرائبية لدعم الاستثمار منذ ميزانية 1972 لوزير مالية حكومة المحافظين وقتها، أنتوني باربر (1920 – 2005) ـ ولا يزال المؤرخون الاقتصاديون يختلفون حول ميزانيته (اشتملت على تسهيلات بنكية وتخفيض ضرائب وتبسيط القيود على المؤسسات المالية) وأدت إلى رواج اقتصادي سريع، فالاشتراكيون والكينزيون (أتباع نظرية الاقتصادي الإنجليزي جون كينز 1833 – 1946) على السواء يرون باربر مسؤولاً عن تضخم السبعينات والثمانينات، بعكس اقتصاديين حرية السوق وجذب رؤوس الأموال.
الاتهامات الموجهة اليوم لكوارتينغ من اليسار والعمال والاشتراكيين تكاد تكون نسخة كربونية للانتقادات التي وجهت إلى باربر منذ نصف قرن.
ميزانية كوارتينغ أدخلت تعديلات ضخمة لتخفيض تمغة شراء العقار – لتحرك سوقه، وأيضاً تبسيط تعقيدات الضرائب وتخفيضها. لكنها سياسة تثير الجدل، فالتخفيض في نظام الضرائب التصاعدية على الدخل المتبع في بريطانيا يجعل شرائح الدخول العليا أكثر استفادة من التخفيض من أصحاب الدخل المحدود ولا يفيد 43 في المائة لا يدفعون ضرائب أصلاً، إما لتلقيهم إعانات أو لانخفاض دخلهم الشهري عن الحد الأدنى (1250 دولاراً). حكومة تراس ألغت قيوداً وضعها الاتحاد الأوروبي على حوافز ومكافآت العاملين في البنوك، لجذب الاستثمارات وإبقاء لندن المركز المالي العالمي الأول.
الترحيب بالميزانية الجديدة من المستثمرين وأصحاب الصناعات الصغيرة وغرفة اتحاد الصناعات البريطانية لترويج الاقتصاد كان حذراً، ووصفها كثيرون بأنها «مراهنة»؛ لكن اقتصاديين آخرين يرون أن المضي في التقشف، رغم ارتفاع الديون سيكون «مقامرة» أكثر خطورة. تراس وكوارتينغ يجادلان بأن تخفيض الضرائب لجذب الاستثمارات، يؤدي لترويج الاقتصاد وزيادة الوظائف، وبالتالي مزيد من دخل الضرائب للخزانة لدفع الديون التي اقترضت لتمويل السياسة الجديدة.
النظرية بالطبع ثبتت صحتها عبر عقود، لكنها مراهنة تعتبر مجازفة سياسية، لأن فوائد هذه السياسة يجني المجتمع ثمارها على المدى الطويل، لا القصير، والمحافظون سيواجهون انتخابات عامة في خلال عامين، فقط، بينما تتزايد إضرابات الاتحادات المهنية المختلفة (عمال النقل، والبريد، والمواصلات، والمحامين، وعمال الموانئ)؛ أيضاً أغلبية الصحافة ومؤسسات تشكيل الرأي العام اليسارية الاتجاه تتربص بالمحافظين، واستقالة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون مجبراً لم تكن بسبب الاقتصاد، أو إخفاق الخدمات، بل لحملة الصحافة التي اتهمته بتضليل البرلمان في تبرير إقامة الحفلات بين موظفي مكتبه أثناء إغلاق وباء «كوفيد»، رغم نجاحه في الإسراع بتوفير أمصال التطعيم.
ميزانية باربر، وزير مالية حكومة المحافظين (1970 – 1974) منذ نصف قرن أدت إلى رواج اقتصادي لم يدم طويلاً؛ فقد اندلعت حرب الشرق الأوسط في خريف 1973. وتضاعفت أسعار الوقود، وصاحبها إضرابات عمال النقل والمناجم، وخسرت حكومة المحافظين بزعامة إدوارد هيث (1916 – 2005) الانتخابات عامين بعد ميزانية باربر.
عادل درويش
إشكالية العملات الرقمية
ناقشت قمة العشرين بالرياض (21 – 22 نوفمبر «تشرين الثاني» 2020) الأوضاع الاقتصادية في العالم، وكلفت صندوق النقد الدولي (IMF) دراسة الآثار المالية الكلية للعملات الرقمية وما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية، إذ أكد القادة في البيان الختامي في الفقرة 17 أنه على الرغم من قدرة الابتكارات التقنية المسؤولة على تحقيق فوائد كبيرة للنظام المالي والاقتصاد، فإننا نتابع التطورات عن كثب ونظل متيقظين للمخاطر الحالية والناشئة لهذه العملات. ويجب عدم تداول ما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية حتى يتم وضع جميع المتطلبات القانونية والتنظيمية والرقابية ذات الصلة بشكل مناسب وبما يتماشى مع المعايير المطبقة. ورحب القادة بالتقارير الصادرة عن مجلس الاستقرار المالي (FSB) ومجموعة العمل المالي وصندوق النقد الدولي بشأن ما يطلق عليها العملات المستقرة العالمية. وقد وجه القادة بوضع المعايير بمراجعة المعايير الحالية في ضوء هذه التقارير وإجراء التعديلات اللازمة، وكان من أهم ما وجه به القادة من خلال كلماتهم، دراسة ضرورة وجود تنسيق وتعاون نقدي دولي يعمل على وضع الأطر الكفيلة بحماية المتعاملين بهذه العملات، مع العمل على صياغة قوانين تضبط إصدار هذه العملات وآليات تداولها على المستوى الدولي، وأصدر تعليمات إلزامية تمنع تداول هذه العملات، لحين الوصول لضوابط دولية بشأنها.
انتشر التعامل بالعملات الرقمية في كثير من دول العالم، إذ إنها عملة ليس لها وجود مادي ويتم تداولها في الإنترنت فقط وتوليدها من خلال برامج خاصة في الحاسب الآلي ولا يزال غالبية الناس غير ملمين بخصائص ومخاطر هذه العملات، ولذا فقد وجهت القمة صندوق النقد الدولي لدراسة وبيان حقيقة العملات الرقمية وأنواعها وخصائصها، مع تحليل لأبرز الآثار الاقتصادية الناشئة عن انتشارها واستخدامها كوسيلة دفع حديثة.
وبناءً على تكليف القادة في قمة العشرين بالرياض (21 – 22 نوفمبر 2020)، نشر صندوق النقد الدولي (IMF) منشوراً حول الأصول المشفرة ولوائحها، إذ طالب الصندوق بنهج عالمي شامل لتنظيم الأصول الرقمية، وسلط الضوء على بعض القضايا الرئيسية المتعلقة بـ«بيتكوين» والأصول الرقمية الأخرى، حيث هناك مبالغة في تقدير الكثير من العملات الرقمية، ولا تزال حماية مستثمري العملات الرقمية مشكلة كبيرة بسبب عدم وجود لوائح واضحة. يعتقد الصندوق أن اتباع نهج عالمي غير منسق للوائح العملة المشفرة سيؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المالي. من ناحية أخرى، صرحت كريستالينا جورجيفا المدير الإداري لصندوق النقد الدولي (IMF)، بأنه من الصعب التعامل مع «بيتكوين» والعملات المشفرة الأخرى كأموال، وفي سياق الإطار التنظيمي للعملات المشفرة، حدد صندوق النقد الدولي الحاجة الملحة للتعاون الدولي لحل التحديات الفنية والإشرافية والتنظيمية المتعلقة بالعملات المشفرة، إذ تعتقد المؤسسة المالية أن العملات الرقمية تغير النظام النقدي والمالي الدولي.
أكد صندوق النقد الدولي أنه سيحتاج إلى تعزيز موارده مع سعيه للاضطلاع بدور المراقبة وإسداء المشورة والمساعدة في إدارة التحول واسع النطاق والمعقّد نحو العملة الرقمية، لا شك أن العملات الرقمية قادرة على تسهيل المدفوعات وتسريعها وخفض تكاليفها، لكن ذلك يتطلب أن يعالج صناع السياسات تحديات رئيسية، فالنقد الرقمي ينبغي أن يكون موثوقاً، كما يجب حماية الاستقرار الاقتصادي والمالي المحلي، واستقرار النظام النقدي الدولي، وعلى صندوق النقد دور حاسم في مساعدة أعضائه على الانتفاع بمزايا النقود الرقمية وإدارة مخاطرها، كما يجب على النقود الرقمية أن تخضع للإشراف التنظيمي وأن يسمح هيكلها وطريقة توافرها للدول بمواصلة السيطرة على السياسة النقدية والأوضاع المالية وأنظمة الصرف الأجنبية.
بدأت فكرة هذه العملة في أواخر عام 2008، وظهرت على أرض الواقع في بداية عام 2009 عن طريق مبرمج مجهول يدعى ساوتشي ناكاموتو، والذي تبنى فكرة العملة الرقمية بهدف تغيير العملات التقليدية السائدة واستبدال العملة الجديدة بها التي تحفظ خصوصية البائع والمشتري ولا تتحكم بها البنوك والحكومات، ويتم التعامل بها من خلال بروتوكول الند للند (متعامل مع متعامل) مع اعتماد تقنيات التشفير الحديثة بهدف زيادة الأمان فيها، ولذا فهي عملة لا توجد إلا في الإنترنت فقط ومن خلال المحافظ الإلكترونية وتعد العملة الافتراضية (بيتكوين) من أكثر النقود الافتراضية انتشاراً وقبولاً، ويمكن الحصول عليها إما عن طريق التعدين وفق آليات محددة، وإما من خلال الشراء من الأسواق والبورصات المتخصصة بهذه العملات.
وسوف يسبب انتشار هذا النوع من العملات الرقمية عند استخدامها عدداً من الآثار الاقتصادية السلبية؛ والتي ينبغي على المتخصصين دراستها، ولا سيما أنه لا دور للدول أو بنوكها المركزية في إصدار هذه العملة الجديدة، مما سيؤثر بشكل كبير في السياسات النقدية للدول، ويقلل من قدرة البنك المركزي على الحفاظ على الاستقرار النقدي من خلال إضعاف دوره في السيطرة على حجم السيولة النقدية وسرعة دوران النقود، وهذا بالإضافة إلى تأثير هذه النقود على السياسات المالية أيضاً، من خلال تأثيرها على حجم الإيرادات الضريبية، حيث سيكون من الصعب على السلطات المالية المختصة أن تراقب جميع الصفقات والدخول التي يتم دفعها أو تسلمها بالعملات الرقمية، علماً بأنه قد تُستخدم هذه العملات أو النقود كأداة لتمويل الصفقات غير المشروعة، ومع ازدياد ترابط الأسواق المالية الدولية وارتفاع معدلات التعامل الدولي بوسائل الدفع الإلكترونية، فإن حجم المشكلات الاقتصادية والمالية والقانونية التي يمكن أن تنشأ كنتيجة لظهور وشيوع النقود الرقمية سيكون كبيراً جداً.
إن العملات الرقمية لا تقدم أي إضافة نوعية متميزة عمّا تقدمه العملات المتداولة الحالية الدولار، واليورو، واليوان، والين وغيرها من العملات المتداولة إذ سيعقّد تداولها المشهد المالي الدولي من خلال تمويل الصفقات غير المشروعة والتهرب الضريبي وإرباك وظائف البنوك المركزية في العالم وغيرها من المشكلات المحتملة، إذ يتم تداول عدة ملايين من الأموال يومياً التي لا تنتمي لأي دولة، ولا يدعمها وينظمها ويطبعها أي بنك مركزي في العالم، ولا تخضع لسياسات الدول، كما أنها لا تتأثر إلا بقانون الثقة بين المتعاملين وسمعة التعاملات.
هذه إشكالية، بين استعمال العملات الرقمية، أو الامتناع عنها، حتى يضع صندوق النقد الدولي، التعليمات التي تضمن الاستعمال والتداول الآمن لهذه العملة، إذ بيّن مجلس الاستقرار المالي (FSB) أن فشل لاعب واحد في سوق العملات الرقمية كفيل بأن يفرض خسائر كبيرة على أهل القطاع ككل من مستثمرين وأسواق ناشئة وأنظمة بيئية أخرى في مجال العملات والأصول الرقمية.
د. ثامر محمود العاني
أسواق الدَين البريطانيّة: أسوأ عام منذ الحرب العالميّة الثانية
لا يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد مكّنها من تحييد اقتصادها عن تبعات الأزمة الاقتصاديّة التي تصيب الدول الأوروبيّة اليوم. بل وعلى العكس تمامًا، تدل جميع المؤشّرات إلى اتجاه بريطانيا نحو هاوية من الكساد الاقتصادي الذي لم تشهده في تاريخها، وبما يفوق بأشواط التأزّم الذي تعاني منه دول الاتحاد الأوروبي اليوم.
ومن الواضح أن أسواق المال البريطانيّة باتت تعاني اليوم من الضغوط نفسها التي تتعرّض لها سائر الدول الأوروبيّة، والمتصلة بأزمات الطاقة وتداعيات الحرب الأوكرانيّة وارتفاع الفوائد الأميركيّة. إلا أنّ بريطانيا تبدو اليوم أقل مناعة تجاه هذه الضغوط مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، بخلاف ما توقّعه مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي سابقًا، وهو ما يضعها اليوم في عين العاصفة الاقتصاديّة.
تدهور نقدي مقلق
على خطى اليورو والين الياباني وغيرهما من العملات الرئيسيّة، دخل الجنيه الاسترليني دوّامة الهبوط القاسي أمام الدولار الأميركي، لتلامس قيمته اليوم حدود 1.03 دولار أميركي، ما يدل على خسارته ربع قيمته مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، يكون الجنيه قد سجّل أسوأ مستوى له في تاريخه، بعد أن هبط إلى ما دون أدنى مستوياته التاريخيّة التي سجّلها عام 1985. أمّا سندات الدين الحكوميّة، فانخفضت قيمتها إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما سينعكس بارتفاع كلفة اقتراض الحكومة البريطانيّة إلى أعلى مستوى منذ ذلك الوقت.
ورغم سوداويّة المشهد الحالي، تذهب الغالبيّة الساحقة من الترجيحات إلى الإشارة إلى أنّ الأسوأ بالنسبة للاقتصاد البريطاني لم يحدث بعد. فحسب الأرقام، وبعد الانهيار الأخير في قيمة الجنيه وأسعار سندات الدين الحكوميّة، من المتوقّع أن ترتفع نسب الفوائد على الدين السيادي إلى مستويات أعلى من كل من إيطاليا واليونان، التي تعاني منذ زمن طويل من ارتفاع مخاطر ديونها السياديّة.
ولهذا السبب تحديدًا، أشار تقرير بنك أوف أميركا إلى أنّ أسواق السندات الحكوميّة البريطانيّة تسير في طريقها نحو أسوأ عام لها منذ العام 1949، يوم كانت أوروبا تخرج من تداعيات الحرب العالميّة الثانية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الارتفاع الشهري في كلفة اقتراض الحكومة البريطانية لم تشهده بريطانيا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ما يؤكّد توقّعات بنك أوف أميركا.
نحو كساد اقتصادي عظيم
باختصار، وتمامًا كأحجار الدومينو، تتداعى المؤشّرات النقديّة السلبيّة، والتي يتوقّع الجميع ترجمتها على شكل كساد اقتصادي كبير قبل نهاية العام الحالي. فتدهور قيمة الجنيه ستعني تفاقم معدلات التضخّم، التي تسجّل أساسًا معدلات مرتفعة تجاوزت حدود 10% خلال الصيف الماضي، ما مثّل أعلى مستوى تضخّم تعرفه البلاد منذ أربعة عقود. وارتفاع معدلات التضخّم، وبهذا الشكل الهستيري، سرعان ما سيُترجم بتراجع في قدرة البريطانيين الشرائيّة، وبركود تضخّمي قاسٍ.
أمّا ارتفاع الفوائد، فسيساهم بالضغط على كلفة اقتراض القطاع الخاص، ما سيزيد من المنحى الانكماشي الذي تسلكه البلاد اليوم. مع الإشارة إلى أنّ جميع التحليلات تركّز على الهواجس المتصلة بالقطاع العقاري بالتحديد، الذي يعتمد على الاقتراض إلى حد بعيد لتمويل الاستثمار والشراء. فبمجرّد ارتفاع الفوائد، من الطبيعي أن تتراجع جدوى الاقتراض لتمويل النشاط العقاري بالنسبة للمستثمر التجاري، كما من المتوقّع أن تتراجع قدرة المواطنين البريطانيين على الاقتراض لشراء العقارات السكنيّة.
وكان بنك إنكلترا قد رفع معدلات الفوائد على أمواله سبع مرّات منذ شهر تشرين الثاني الماضي، لمجاراة ارتفاع الفوائد الأميركيّة، وتخفيف ضغط التحويلات باتجاه السوق الأميركي. وآخر هذه الزيادات، جرت منذ أيّام، حين رفع بنك انكلترا معدل الفائدة الرئيسي لديه بمقدار 0.5%، ليبلغ حدود 2.25%. ومع ذلك، اعتبرت معظم التقارير أنّ هذه الزيادة مازالت غير كافية للتعامل مع معدلات التضخّم المحليّة، وضبط خروج الرساميل باتجاه الولايات المتحدة بعد ارتفاع الفوائد فيها. وهذا تحديدًا ما يشير إلى إمكانية تسجيل زيادات جديدة في معدلات الفوائد البريطانيّة، مع كل ما يعنيه ذلك من زيادة في الضغوط الإنكامشيّة على مستوى الاقتصاد البريطاني المحلّي.
أخيرًا، يبقى من الأكيد أن ارتفاع كلفة الاقتراض على هذا النحو بالنسبة للحكومة البريطانيّة، سيعني المزيد من تراجع الثقة بأداء الاقتصاد البريطاني وقدرة الحكومة على التدخّل، ما سيُترجم بمزيد من الضغط على أسواق المال البريطانيّة. وهذا تحديدًا ما جرى خلال الأيام الماضية، مع اندفاع حملة سندات الدين السيادي البريطانيّة إلى التخلّص منها، في ظل الخشية من تداعيات ارتفاع الفوائد، وعدم الثقة بالخطط الحكوميّة التي اقتصرت على رزم من الإعفاءات الضريبيّة لإنعاش الاقتصاد، والتي يُتوقّع أن تؤدّي إلى المزيد من الضغط على الميزانيّة العامّة.
سيناريو الأزمة الشاملة
رغم سوداويّة المشهد الحالي، ورغم تشاؤم جميع التحليلات، لا يمثّل كل ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث خلال الأشهر المقبلة. فخلال الأيام الماضية، شهدت أسواق الرهن العقاري تخبطات واضطرابات سريعة وغير مألوفة، وهو ما أجج المخاوف من إمكانيّة تداعي الأحداث السيئة بشكل متوقّع نحو سيناريو الأزمة الشاملة، كما حدث عام 2008. أمّا أكثر ما أجج هذا النوع من المخاوف، فهي التقارير التي استندت إلى بيانات بنك إنكلترا التي تعود إلى العام 1772، والتي تبيّن منها أن بريطانيا لم تسجّل المستوى الحالي من العجز في حسابها الجاري إلا ثلاث مرّات في تاريخها، أي خلال 249 سنة المشمولة بهذه البيانات. وهذا تحديدًا ما يدل على قسوة الأزمة الراهنة، وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات غير متوقعة.
خيارات بنك إنكترا خلال المرحلة المقبلة محدودة للغاية، وهي تبدأ بفرض زيادات إضافيّة في الفوائد، لحماية قيمة الجنيه، لكن هذه الخطوة ستؤدّي إلى المزيد من الأعباء على المقترضين من أسر وشركات، وعلى خدمة الديون السياديّة. كما يملك البنك خيار التدخّل المباشر في السوق، لدعم عملته، بأدوات مختلفة قد تشمل الشراء المباشر للجنيه أو التداول بأصول ماليّة أخرى. أمّا الحكومة، فيبدو أنّها مازالت أسيرة خيارات اليمين التقليديّة، المحصورة برزم الإعفاءات الضريبيّة، بدل التدخّل الفاعل لمعالجة الأزمة، ما يضيف من قلق الأسواق تجاه هذا التصلّب غير المفهوم في أداء الحكومة.
الإنتاج الصناعي في اليابان يرتفع بأكثر من المتوقع خلال أغسطس
رفع أسعار الفائدة عالميًا.. كيف تتصرف بأموالك؟
أقدمت معظم بنوك العالم المركزية على رفع أسعار الفائدة خلال الشهور الماضية وهي في طريقها للاستمرار في الزيادة لكبح التضخم الذي وصلت لمستويات قياسية في بعض البلدان.
كان آخر التحركات في سعر الفائدة والتي أحدثت تبعات، قرار الفدرالي الأميركي برفع الفائدة بنسبة 0.75% الأسبوع الماضي، وهو ما تبعه برفع مماثل في بنوك مركزية خليجية وأوروبية.
ومع تزايد ارتفاع أسعار الفائدة حول العالم يجدر بنا مراجعة كيفية تأثير هذه الزيادة على أموالنا، وبما ينصحنا الخبراء بشأن استراتيجيات الادخار والإنفاق والاستثمار بشكل أفضل للأموال في ظل معدلات الفائدة المرتفعة.
إعطاء الأولوية لسداد الديون
مع تحركات البنوك المركزية لرفع الفائدة فإن الاقتراض أصبح أكثر تكلفة، خاصة إذ كانت عدة أشكال من الاقتراض الاستهلاكي مرتبطة بسعر الفائدة في البنك المركزي للبلد وهو ما يعني ارتفاع النسبة مع أي زيادة.
يقول جريج ماكبرايد، كبير المحللين الماليين في Bankrate، لـ CNBC: إن “معدلات الفائدة على بطاقات الائتمان مثلًا في أميركا عند أعلى مستوى لها منذ عام 1996، ومعدلات الرهن العقاري هي الأعلى منذ عام 2008 وقروض السيارات هي الأعلى منذ عام 2012”.
لن تؤثر الزيادات الإضافية في أسعار الفائدة على قرض السيارة ذي السعر الثابت الذي قد تحصل عليه وينطبق الشيء نفسه على الرهون العقارية ذات السعر الثابت، لكن إذا كنت تحمل رصيدًا على بطاقة ائتمان، فإن السعر الذي تدين به على تلك الأموال سيستمر في الارتفاع جنبًا إلى جنب مع قرارات رفع الفائدة المستمرة.
وتقول ليزا فيذرنجيل ، المديرة الوطنية لتخطيط الثروة في Comerica: “الفائدة التي تدخرها من خلال سداد الديون هي نفس الشيء في حال استثمرت أموالك بنفس معدل العائد بدون مخاطر”.
“إذا كانت بطاقتك الائتمانية بها معدل فائدة 22%، فهذا يماثل ربح 22% على استثمارك بعد الضريبة، وإذا كنت غير قادر على سداد ديونك بسرعة، فإن تحويل دينك إلى بطاقة ائتمان وهو ما يمكن أن يضمن عدم وجود فائدة على رصيدك المستحق لمدة 6 إلى 21 شهرًا”.
وتشمل الخيارات الأخرى لتخفيف عبء الديون ذات معدلات الفائدة المرتفعة دمج ديونك في إطار قرض شخصي منخفض السعر أو الاشتراك في خدمة استشارات ائتمانية.
ارفع الفائدة على أموالك في البنك
أحد الجوانب الجيدة في بيئة ارتفاع أسعار الفائدة هو أنك ستصبح أكثر ربحًا من الادخار.
يقول كيلي لافين، نائب رئيس قسم سلوك المستهلك في Allianz Life، إن هذا الأمر يبدو بمثابة راحة للمدخرين الذين يعانون من تضخم بنسبة 8%.
ويضيف: “في هذه البيئة ستخسر المال إذا كان لديك نقودًا على الهامش”.
ومع ذلك يوصي الخبراء بالاحتفاظ بما يكفي من النقود لتغطية ما لا يقل عن 3 إلى 6 أشهر من نفقات المعيشة في صندوق الطوارئ، وبهذه الطريقة إذا حدث الأسوأ فلديك ما يكفي لتغطية فواتيرك، بحسب لافين.
ويضيف: “حتى لو أن معدلات الفائدة الحالية على احتياطاتك النقدية لا تواكب التضخم، فإن كسب شيء نظير أموالك المدخرة أفضل من لا شيء”.
اختر الاستثمارات بحكمة وفكر على المدى الطويل
إذا ألقيت نظرة على محفظتك وسط نظام رفع أسعار الفائدة الأخير، فمن المحتمل أنك لاحظت أن الأسهم والسندات الخاصة بك لا يبدو أنها من كبار المعجبين بالمعدلات المرتفعة، ولم تكن السندات التي ينظر إليها على أنها أثقل أقل تقلبًا نظرًا لأن أسعار السندات وأسعار الفائدة تتحركان في اتجاهين متعاكسين.
فإذا كنت مستثمرًا في الأسهم على المدى الطويل، “فأنت تريد التأكد من أنك لا تشعر بالذعر”، كما يقول لافين.
ويضيف “قد يكون من الصعب شراء الأسهم عندما ينخفض السوق ومن الأفضل لك الاستمرار في استثماراتك”.
وفي الوقت نفسه سيكون من الحكمة أن يتحقق مستثمرو السندات من متوسط مدة محفظتهم وهو مقياس لحساسية أسعار الفائدة.
وبشكل عام تأتي السندات ذات الاستحقاق الأطول بمدة أطول مما يعني أنها انخفاض قيمتها سيكون أكثر استجابةً لارتفاع أسعار الفائدة، وتميل السندات قصيرة الأجل إلى الصمود بشكل أفضل أثناء ارتفاع معدلات الفائدة.
ونظرًا لوجود استثمارات معقدة سيكون من الذكاء استشارة مخطط مالي قبل الدخول في الاستثمار، كما يقول لافين “لا ينبغي لأحد أن يشارك في أي نوع واحد من الاستثمار دون التحدث مع متخصص مالي أولاً”.
cnbc
الهند تتجاوز بريطانيا
في احتفالية فيها الكثير من الرمزية، احتفت الهند بتحقيق اقتصادها المركز الخامس عالميا من ناحية الحجم، متجاوزة بريطانيا التي انتقلت إلى المركز السادس. رمزية هذه الاحتفالية بسبب التزامن مع ذكرى مرور 75 سنة على استقلال الهند عن بريطانيا. لم يخف رئيس الوزراء الهندي (مودي) فخره بهذا الإنجاز، مذكراً أن الهند خلال خمس وسبعين سنة، تمكنت من تجاوز المستعمر الذي ربض على شبه القارة الهندية نحو 250 سنة. فكيف تمكنت الهند من تجاوز اقتصاد بريطانيا في وقت يعاني فيه العالم من أزمات اقتصادية وصراعات جيوسياسية؟
خلال العامين الماضيين عانى العالم من عدة عوامل، استطاعت الهند بشكل أو بآخر تجاوزها أو تقليل آثارها السلبية، أولها هو التضخم الذي يؤكد الخبراء أنه وصل قمته في أبريل (نيسان) الماضي، ليبدأ بعدها في الانخفاض، فوصل إلى 6.7 في المائة في شهر يوليو (تموز)، منخفضا عن مستوى يونيو (حزيران) (7 في المائة). ويعزى هذا الانخفاض إلى السياسة التي اتبعتها الهند في حِزم مساعدات ما بعد الجائحة، ففي حين ضخت العديد من الحكومات السيولة في بلدانها لتخفيف آثار الجائحة على المواطنين، ركزت الهند على دعم الشركات والاقتصاد المحلي، بضخ نحو 3 في المائة من حجم ناتجها القومي. كما أن الهند تفوقت على جارتها الصين في مرحلة ما بعد الجائحة، ويعود ذلك إلى اتباع الصين سياسة (صفر كوفيد) التي تسببت في تعطيل الاقتصاد الصيني وإيقاف الكثير من المصانع وإبقاء حالات العزل للعديد من المناطق في الصين.
كما أن الهند اتخذت موقفاً محايداً من الأزمة الروسية الأوكرانية، ولم تقف مع الغرب كما كان يتوقع، ولذلك هي لم تقاطع روسيا ولم تحاول إيقاف استيراد النفط الروسي، بل على العكس فقد تضاعف استيرادها للنفط الروسي بنحو أربعة أضعاف، مستفيدة من السعر المخفض بنحو 30 دولاراً للبرميل. ورغم أن الصين اتبعت أسلوباً مشابهاً، فإن إيقاف العديد من مصانعها قلل من استفادتها من النفط منخفض الثمن. هذا الحياد الهندي قلل من التضخم بشكل كبير في الهند، ولم يجعلها تعاني من أزمة الطاقة كما هي الحال في أوروبا وأميركا.
وتمكن الاقتصاد الهندي من النمو خلال الفترة الماضية لأسباب منها زيادة نشاط القطاع العقاري، وزيادة الاستهلاك المحلي الذي يقدر بنحو 55 في المائة من الناتج القومي، إضافة إلى استثمار العديد من رؤوس الأموال في البلاد. وقدر صندوق النقد الدولي حجم النمو للاقتصاد الهندي هذا العام بنحو 7.4 في المائة، ويتوقع أن يستمر النمو مقارباً لـ7 في المائة خلال الخمس سنوات القادمة. وتطمح الهند إلى أن تصل إلى المرتبة الرابعة عالميا في 2027 متفوقة على ألمانيا، والثالثة بحلول 2029 متعدية اليابان. كما توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تكون الهند في المرتبة الثانية عالمياً في منتصف هذا القرن، متجاوزة الولايات المتحدة وخلف الصين فقط!
ويجدر التوضيح أن تفوق حجم الاقتصاد الهندي على نظيره البريطاني لا يعطي بأي حال أفضلية لأحدهما على الآخر، فالاقتصاد الهندي بلغ حجمه 3.5 تريليون دولار، مقارنة بـ3.2 تريليون للاقتصاد البريطاني، ولكن سكان الهند يزيدون 20 ضعفا على سكان بريطانيا (1.4 مليار هندي مقابل 68 مليون بريطاني)، وينعكس ذلك على الرفاه المعيشي للبريطانيين، حيث يبلغ الدخل لكل فرد في بريطانيا 47 ألف دولار مقابل 2500 دولار فقط في الهند. ولكن هذا الإنجاز يبقى معنويا للهند التي انتقلت من الاقتصاد العاشر في العالم في 2014 إلى الخامس في أقل من عشر سنوات، وهو يعطيها إثباتاً على أنها في الطريق الصحيح، حتى لو لم تكن هذه الخطى ثابتة.
تبدو الهند الآن إحدى الدول البارزة اقتصادياً في العالم، وهي بمعدل نموها الاقتصادي للربع الثاني، والمتوقع لهذا العام (7.4 في المائة) جاءت ثانية بعد المملكة العربية السعودية التي يعد اقتصادها الأسرع نموا لهذا العام (بنسبة نمو 7.5 في المائة). وفيما راهن الغرب لفترة طويلة على الهند كقوة اقتصادية تستطيع مجابهة الاقتصاد الصيني، إضافة إلى تمتعها ببعض القيم الغربية الديمقراطية، فإن تفوق الاقتصاد الهندي جاء بطريق لم يقره الغرب، ومن ذلك عدم إنكار الحرب الروسية على أوكرانيا، ومخالفة العديد من القيم الديمقراطية الغربية. وجاء هذا الإنجاز الذي يحمل معاني معنوية ليعطي الهند بارقة أمل على التفوق الاقتصادي الذي لطالما سعت له، والذي تملك مقوماته بلا أدنى شك.
د. عبد الله الردادي
الإبداع عصب الاقتصاد الجديد
الأسبوع الماضي كنت متحدثة «منتدى العالم القادم» الذي استضافته العاصمة السعودية الرياض لمناقشة موضوعات حيوية، تجمع بين الترفيه والاقتصاد، بمشاركة أكثر من 1000 شخصية فاعلة في هذا المجال، لاحت في مخيلتي عبارة منسوبة لـ«ألبرت أينشـتاين»: «الخيال أهم من المعرفة… نعم الخيال أهم من المعرفة… فبينما المعرفة محدودة، فإن الخيال لا حدود له… الخيال هو حافز كل تقدم، ومنشئ أي تطور».
وكان هنالك سؤال يدور لدى البعض؛ ما هو الدور الذي ستلعبه السعودية في مستقبل الألعاب والرياضات الإلكترونية والصناعات الإبداعية بشكل عام؟ ليأتي إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي عن الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تؤكد أنها خطوة جديدة نحو الريادة وجعل السعودية مركزاً عالمياً في هذا القطاع، والأهم من ذلك ما قاله الأمير محمد بن سلمان؛ إن طاقة وإبداع الشباب السعودي وهواة الألعاب الإلكترونية هما المحرك للاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تلبي طموحات مجتمع الألعاب محلياً وعالمياً من خلال توفير فرص وظيفية وترفيهية جديدة ومميزة لهم، بهدف جعل السعودية مركزاً عالمياً لقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول 2030.
حقيقة التطورات المتسارعة التي شهدها العالم في الألفية الثانية تتحدث عن اقتصاد جديد مختلف عن القطاعات التقليدية التي سادت العالم في القرن الماضي؛ فالاقتصاد الإبداعي بدأ يتطور ويأخذ حيزاً كبيراً ويؤثر بشكل إيجابي في اقتصادات بعض الدول، مع إدراكها بأهميته في تنويع مصادر الدخل، وتوفير الوظائف، واستدامته، لأن مصدره خيال الموهوبين، وعقول المفكرين، فما دام هناك خيال يصنع واقعاً، فإن الاقتصاد الإبداعي سيستمر في النمو والتطور والازدهار… وبالتالي فإن الإجابة على السؤال؛ سعودية مبدعة… هي كلمة السر في فتح خزائن المستقبل.
وقد أجاب الأمير فيصل بن بندر رئيس الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية عن أسباب استثمار السعودية وتركيزها على هذا القطاع بقوله: «السؤال الآن يجب أن يتغير من؛ لماذا السعودية؟ إلى؛ لِمَ ليست السعودية؟ لدينا مجتمع شغوف بالألعاب والرياضات الإلكترونية، ونظّمنا كثيراً من الفعاليات العالمية في مختلف القطاعات، لدينا جميع المقومات لننافس، والأهم من ذلك أن كوادرنا الشابة، رجالاً ونساءً، أظهروا للعالم مدى كفاءتهم وقدراتهم».
لقد كانت السعودية من أوائل الدول في المنطقة التي وضعت الاقتصاد الإبداعي ضمن رؤيتها المستقبلية من خلال وزارة الثقافة وصندوق الاستثمارات العامة، وشهد هذا الاقتصاد خلال الأعوام القليلة الماضية تطوراً متسارعاً، سواء عبر ضخ استثمارات في شركات عالمية والاستحواذ على بعضها، أو تطوير قدرات ومهارات المبدعين لإعداد الجيل القادم من قادة الاقتصاد الإبداعي، وتقديم دعم لرواد الأعمال الشباب لتأسيس مشروعاتهم الإبداعية. كان ذلك مبادرة إطلاق اعتماد برنامج لتمويل الألعاب والرياضات الإلكترونية بميزانية قدرها 300 مليون ريال سعودي… تمتلك السعودية الإدارة والإمكانات لقيادة هذا الاقتصاد إقليمياً وعالمياً، فكما صنعت السعودية اقتصاداً مزدهراً على مدار 100 عام ماضية، هي قادرة أيضاً على صنع اقتصاد إبداعي مستدام يحقق «رؤية السعودية 2030».
شخصياً، واجهت كثيراً من التحديات عندما بدأت عملي في الصناعات الإبداعية قبل 8 سنوات، واليوم أصبحت الأحلام تتحقق بقيادة الأمير محمد بن سلمان، وخير دليل على ذلك الاستراتيجية التي أطلقها للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تعمل على إزالة العقبات والصعوبات التي واجهتنا في السابق، خاصة أن الصناعات الإبداعية لم تعد وسيلة للترفيه فحسب، بل أصبحت مساهماً قوياً في الناتج المحلي للدول، ومن أبرز الأمثلة ظهور مصطلح «الاقتصاد البرتقالي» الذي تبنته كولومبيا قبل 20 عاماً لتصبح اليوم من أكبر 5 اقتصادات في أميركا الجنوبية، ومن أسرع الاقتصادات نمواً… نمتلك المواهب والخبرات والقدرات والإمكانات لنصنع اقتصاداً إبداعياً تنافسياً، يؤمن مستقبلاً مشرقاً للأجيال القادمة… بالأمس كانت منطقتنا تستهلك المنتج الإبداعي الذي يصنعه غيرنا، واليوم فرصتنا لنصنع منتجات إبداعية لبقية العالم تحمل رؤيتنا وبصمتنا وهويتنا وثقافتنا.
قلت لصديق أثق في رأيه؛ هل نحن نبالغ في الحلم؟ ردّ بثقة وابتسامة: «الإبداع والحلم كلاهما لا يخضعان للمنطق… لأنهما ببساطة يصنعانه».
عزيزة الأحمدي