أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الانسياق خلف المشاهير

 

الممثل الأميركي المشهور مات ديمون سوّق في 28 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي للعملات المشفرة، في إعلان مدفوع لموقع Crypto.com. وقرن ديمون الاستثمار بالعملات المشفرة بأحداث وشخصيات غيّرت مجرى العالم مثل اختراع الطائرة، واستكشاف الفضاء، في رسالة واضحة إلى أن المخاطرة تؤتي أُكلها، وأن الطموحات تحتاج للإقدام، مختتماً الإعلان بمقولة «الثروة تفضّل الشجعان». ما لم يذكره ديمون أن المخاطرات غير المدروسة تُفقر كذلك، فمن انساق خلفه في هذا الإعلان المدفوع خسر إلى اليوم أكثر ثلثي استثماره، ففي تاريخ الإعلان كان سعر «بتكوين» أكثر بقليل من 60 ألف دولار، وانخفضت الآن إلى مستويات دون 20 ألف دولار.
والدروس هنا واضحة، وإن كان الكثير لا يحب الاستماع لها، وهي لا تتعلق بأي حال بأسواق العملات المشفرة فحسب، بل تشمل الاستثمار بشكل عام. أول هذه الدروس هو عدم الانسياق خلف هذه الإعلانات لأسباب منها أن أمثال ديمون لا يفقهون في الاستثمار البتة. فإسداء النصائح في الاستثمارات التقليدية (مثل أسواق الأسهم) صعب للغاية على المتخصصين، حتى مع وجود بيانات تاريخية ومنمذجة اقتصادياً توضح سلوك السوق والمستثمرين وتقارنه بعدد ضخم من العوامل الاقتصادية والسياسية وغيرها. إن كان هذا هو الحال في أسواق الأسهم، فماذا عن العملات المشفرة وهي التي لم يتضح حتى الآن سلوكها، وهي التي تتأثر بتغريدة من إيلون ماسك!
ثانيها أن الاستثمارات الخطرة لا تناسب الجميع واتّباع المشاهير فيها مغامرة، فالمشاهير يملكون أموالاً طائلة (تبلغ ثروة ديمون 170 مليون دولار)، ونسبة استثماراتهم الخطرة قد لا تُذكر من محفظة استثمارية ضخمة يملكونها، وفي حال خسارة هذه النسبة فهم يتقبلونها بالنظر إلى مدى خطورة الاستثمار. هذا الأمر قد لا ينطبق بكل حال على صغار المستثمرين الذين باندفاعهم قد يضخّون أموالاً قد تسوء حياتهم إن خسروها.
ثالثها أن هذه الإعلانات مدفوعة الثمن، والنصوص المكتوبة فيها مدروسة بعناية، ويحفظها المشهور عن ظهر قلب تماماً كما يحفظ نصوص الأفلام والمسلسلات، لتوضح وجهة نظر المُعلن. والشركات المعلنة تحرص على أن تقال هذه الكلمات من المشاهير لقبولهم وتأثيرهم لدى الناس. وأوضحت دراسة نُشرت هذا الشهر أن المستثمرين في أسواق الأسهم يتأثرون بشكل كبير بإعلانات المشاهير، ويعدّون هذه الإعلانات إشارات من الشركات إلى مستقبل الشركة. ولذلك فإن التشريعات المالية في الكثير من الدول تمنع هذا النوع من الإعلانات للشركات المدرجة. فإذا كان الأمر كذلك في أسواق الأسهم وهي التي تحكمها القوانين لحماية المستثمرين، فماذا عن العملات المشفرة التي تكاد تنعدم فيها قوانين حماية المستثمر.
رابعها، إدراك ما في هذه الإعلانات من تعارض للمصالح، فالإعلان عن منتج يختلف تماماً عن الإعلان عن استثمار، ففي الأول يحصل المشهور على ثمن الإعلان دون أي مكاسب أخرى على الأغلب، أما في الإعلان عن الاستثمار فإن المشهور قد يستفيد من ضخ أموال المتأثرين بهذا الإعلان، ولو اشترى المشهور العملة المشفرة أو السهم قبيل الإعلان وكان أثر الإعلان إيجابياً فإنه سيستفيد بكل تأكيد من ارتفاع سعر العملة أو السهم. ولذلك فإن الكثير من الدول تفرض على المشاهير الإفصاح عن المصالح قبل الإعلان، كانت الهند آخر هذه الدول حيث أقرت هذا الإفصاح الأسبوع الماضي ضمن إصلاحات قوانين حماية المستهلك.
خامسها أن الإعلانات عن الاستثمارات محط شك في الكثير من الحالات، فتباين المعلومات بين المستثمرين هو أحد أهم أسباب تحقيق الأرباح، ولو كانت المعلومة متوفرة لجميع المستثمرين لاختلفت الربحية كثيراً. والفرص الاستثمارية لا تتوفر معلوماتها في الإعلانات المصوّرة، ولا يتم تلميعها كما حدث في إعلان ديمون.
الإعلانات قوت المشاهير، وفيما غصّت مواقع التواصل الاجتماعي بالشماتة بالممثل ديمون، موضحين أن من أخذ بالإعلان خسر ثلثي استثماره. فإن ديمون قد قبض بالفعل ثمن الإعلان، ولم يتضرر من انهيار العملات المشفرة إلا إذا كان قد استثمر فيها بالفعل. وفيما قد تعود العملات المشفرة للارتفاع مرة أخرى، مظهرةً ديمون في موقف المنتصر، فإن هذا الانتصار معنوي لا يغيّر شيئاً في حقيقة أن من أخذ بنصيحته خسر الكثير من المال. والأمر لا يتعلق بانخفاض أو ارتفاع العملات المشفرة، فهذه تقلبات السوق التي تحدث بين الحين والآخر والتي ينتفع منها مستثمرون ويخسر منها آخرون. بل يتعلق بالاستفادة من هذا الدرس الذي وضّح أن إعلانات المشاهير يجب ألا تكون أبداً عاملاً للدخول في الاستثمارات.

 

د. عبد الله الردادي

الطاقة على مفترق طرق: تغير الأولويات

صدر عن دورية «فورين أفيرز» مقال يشرح بإسهاب التحولات الكبرى في أولويات سياسات الطاقة على ضوء حرب أوكرانيا، بالذات بروز أولويات الحرب وأمن الطاقة المحلي لتشارك أهمية التغير المناخي.
تمت كتابة المقال من قِبل جاسون بوردوف، مساعد الرئيس باراك أوباما لشؤون الطاقة والتغير المناخي في مجلس الأمن القومي الأميركي خلال عهد الرئيس أوباما ومؤسس ورئيس مشارك لمركز دراسات سياسات الطاقة الدولية في جامعة كولومبيا؛ وميغن أوسيلفان أستاذة العلاقات الدولية في معهد كيندي في جامعة هارفرد وكاتبة في شؤون الطاقة.
لماذا مفترق طرق؟ لقد حولت الحرب أولويات الدول والرأي العام. فهناك مخاوف رجال الأعمال من احتمال اضمحلال نظام العولمة والولوج في مرحلة من الكساد التضخمي. ويتخوف الأكاديميون العودة إلى الحروب لحل النزاعات السياسية في ظل عودة الصراع الغربي – الشرقي من جهة وتقوية اواصر العلاقات ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى.
كما تراجع معظم الدول، على ضوء الحرب، مختلف سياساتها: التجارية والموازنات والتحالفات العسكرية.
وضع بند أمن الطاقة ضمن أولويات الساسة، إلى جانب مكافحة التغير المناخي.
ومن المتوقع، أن يشكل هذان البندان تحولاً في تطلعات الدول نفسها؛ إذ ستولي الدول اهتماماً أكثر بمشاكلها الداخلية والمحلية، كما ستولي الاهتمام والأولويات لإنتاج الطاقة المحلي والتعاون الإقليمي خلال المسيرة المرحلية لتحقيق تصفير الانبعاثات.
سيؤدي هذا التحول في الأولويات والاهتمامات إلى انكماش الدول في تكتلات جغرافية وسياسية. الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تفكك عصر تحالفات الطاقة العالمية القائم حالياً.
السؤال «كيف ستتجاوب الدول مع التحديات الجديدة الناتجة من غزو روسيا لأوكرانيا؟ فمن خلال هذا التجاوب سيتبلور نظام الطاقة الجديد لعقود مقبلة».
تشكل النتائج المترتبة على الحرب: انهيار العولمة وبروز القومية الاقتصادية؛ وغموض نظام الطاقة المقبل لكثير من المراقبين. كما يتوقع تضخم دور الحكومات في قطاع الطاقة الجديد بحجم وشكل غير مسبوق.
فبعد أربعة عقود من المحاولات والسياسات لتخفيض دور الحكومات في قطاع الطاقة، نجد اليوم أن الحكومات الغربية تعترف بالحاجة إلى لعب دور واسع في جميع مراحل الطاقة من تشييد البنى التحتية للوقود الأحفوري، إلى تبني السياسات الدقيقة للتأثير على شركات الطاقة لتقليص الانبعاثات من خلال تسعير الكربون، ومراجعة مدى الدعم الحكومي للشركات لتبني الطاقات المستدامة، وتحديد القواعد والمقاييس التي يتوجب تبنيها في إنتاج الطاقة.
يتوقع الكاتبان أن تتحول أزمة الطاقة الناتجة من الحرب إلى «أسوأ أزمة طاقة منذ نصف قرن»، لكن هناك فروقاً مهمة عن أزمة الطاقة في السبعينات. إذ يعتمد الاقتصاد العالمي اليوم على كثافة طاقة أقل. فقد سبق النمو الاقتصادي نمو استهلاك الطاقة، بحيث إن العالم يستعمل اليوم طاقة أقل لكل وحدة من ناتج الدخل القومي.
كذلك، تزايد كثيراً عدد الشركات في أسواق النفط عن الماضي من ثم يتم توزيع النفط اليوم من قِبل شركات عدة، وليس حفنة منهم، كالسابق.
والأهم، أن أزمة الطاقة الحالية أبعد وأهم بكثير من النفط. فانعكاساتها أوسع على الاقتصاد. فالحرب تضع بصماتها على مختلف أنواع الطاقة؛ مما سيخلق فوضى كبرى. فروسيا ليست فقط واحدة من أكبر الدول المصدرة للنفط الخام والمنتجات البترولية عالمياً، لكن هي أيضاً أهم مصدر للغاز الطبيعي لأوروبا، كما أنها مصدرة مهمة جداً للفحم الحجري واليورانيوم المنخفض التخصيب الذي يستعمل لتوليد المحطات النووية، هذا بالإضافة إلى سلع تجارية أخرى.
لقد ارتفعت أسعار الفحم والبنزين والديزل والغاز الطبيعي وسلع أخرى، من ثم ستؤدي عراقيل أخرى لإمدادات الطاقة الروسية، إما بمبادرات روسية أو أوروبية، إلى التضخم، والكساد، وتوزيع الطاقة من خلال نظام الحصص التموينية، وإغلاق بعض الشركات.
عانى نظام الطاقة العالمي من الضغوط قبل الحرب. فقد واجهت أوروبا ومناطق أخرى تحديات عدة للحصول على طاقة كهربائية وافية. فقد كانت إمداداتهم الرئيسة من الكهرباء تأتي من إمدادات متقطعة من طاقة الشمس والرياح.
كما عانت بعض شركات الكهرباء سنوات من الخسائر والضغوط المترتبة لمكافحة التغير المناخي، بسبب تخفيض الاستثمارات في الصناعات الهيدروكربونية؛ مما أدى إلى تقليص الامدادات.
وأدى كذلك التأخير والتعديل في سلسلة الإمدادات التجارية العالمية بسبب جائحة «كوفيد – 19» إلى الشح في بعض السلع والضغوط على الأسعار. ففي عام 2021 وأوائل 2022، أدى ازدياد الطلب الضخم للغاز والارتفاع العالي للأسعار إلى إفلاس بعض شركات الطاقة وإجبار الحكومات زيادة دعمها لقطاع الكهرباء.
وكان من المحتمل أن تسوء الأمور لولا ارتفاع درجات الحرارة في حينه إلى أكثر من المعتاد؛ مما ساعد أوروبا وآسيا على تقليص الطلب قليلاً.
ساءت الأمور أكثر منذ نشوب الحرب. فتقلصت إمكانيات توفير القروض؛ مما قلص بدوره السيولة اللازمة لتجارة النفط؛ مما أدى بدوره إلى تحديات بالغة الصعوبة، منها ارتفاع أسعار النقط والغاز إلى معدلات عالية جداً.
رغم كل هذا، فالأسوأ قد لا يزال أمامنا. فالطلب على النفط قد يرتفع مع التخلص من الجائحة في الصين وإنهاء الإغلاقات التامة هناك.
ورغم أنه من الصعوبة تصور حظر أوروبي شامل على النفط والغاز الروسي، فإن الاحتمال وارد. لقد فاز الفحم في هذه المعركة. فالصين بصدد زيادة إنتاجها للفحم الحجري.
والاقتراح، في ظل الأزمات المتتالية، إعادة تقييم الدروس المستخلصة. دور الحكومات والقطاع الخاص، فالاعتماد على قوى السوق قد حافظ على توفير الإمدادات بأسعار معقولة طوال الـ40 سنة الماضية.
لكن الأزمة الحالية تستدعي دوراً أكبر للحكومات «لتجنب بعض إخفاقات السوق». ومن المتوقع في نظام الطاقة المقبل أن يكون «دور وتدخل الحكومات بحجم غير مسبوق في التاريخ المعاصر».

وليد خدوري

عندما يجتمع التضخم مع الركود الاقتصادي

تداولت وسائل الإعلام مصطلح (Stagflation)، ويعني التضخم المصحوب بالركود، وهو مصطلح تمت صياغته ليكون مرادفاً للزيادات المزدوجة في الأسعار، وفقدان الوظائف، وصور السيارات المصطفة في طوابير محطات البنزين. وبينما يشير المصطلح إلى الزيادة الحادة بالأسعار مع فقدان الوظائف، استخدم الاقتصاديون هذا المصطلح على نطاق أوسع إشارةً إلى الفترة التي يستمر فيها التضخم أعلى من هدف البنوك المركزية، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على النمو الاقتصادي.
وأعطى البنك الدولي صورة داكنة للاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة في تقريره الصادر الأسبوع الماضي، وتوقع البنك أن يتراجع النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2022، بعد أن بلغ 5.7% في عام 2021، كما يتوقع أن ينخفض مستوى دخل الفرد في الاقتصادات النامية هذا العام بنسبة 5%. وفي الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن يتباطأ النمو من 5.1% إلى 2.6%، أما في الاقتصادات النامية والناشئة، فقد ينخفض النمو من 6.6% إلى 3.4%، وهو أقل بكثير من متوسط العقد الماضي والذي وصل إلى 4.8%. وتوقع البنك الدولي أن ينخفض التضخم العام المقبل، ولكنه سيبقى أعلى من مستهدفات التضخم في الكثير من الدول، وقد يؤدي استمرار التضخم إلى انكماش الاقتصاد العالمي. ومعدلات التضخم المرتفعة تضر بالاقتصاد لكونها تضغط على ميزانيات الأفراد والأسر مما يجعلها تقلل الإنفاق الاستهلاكي، مما يُضعف النشاط الاقتصادي ويبطئ من نمو الشركات (هذا إن نَمَت)، وكذلك تراجع أرباحها.
هذا هو التضخم الأكثر حدة منذ أربعة عقود، مما جعل الكثير يقارنونه بالركود الذي حدث في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، حيث تضاعفت معدلات البطالة في الولايات المتحدة وأوروبا، وبلغ التضخم حينها 14%. وتتشابه هذه الحالة مع السبعينات في ثلاثة جوانب رئيسية: الأول، هو الاضطرابات المستمرة في جانب العرض، وهو ما يغذّي التضخم بشكل واضح. هذا النقص تمثل في عدد من الأشكال، منها الجائحة وكيف أثرت على سلاسل التوريد العالمية، ومثالها الأقرب هو نقص الرقائق الإلكترونية. كذلك اضطراب إمدادات الطاقة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية. ولعل ما جعل الكثير يربطون هذا الزمن بالسبعينات هو نقص إمدادات النفط آنذاك بفعل حظر عدد من الدول العربية للنفط، هذا الاضطراب شبيه لما أحدثته الحرب الروسية – الأوكرانية من هزة لأسواق الطاقة العالمية. السبب الثاني للتشبيه بالسبعينات هو السياسة النقدية التيسيرية التي تبعت الجائحة لتنشيط الاقتصادات المتقدمة، فسهّلت الكثير من الدول القروض بخفض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد بعد الجائحة، وأسهم ذلك في زيادة التضخم. أما الثالث فهو هشاشة بعض الأسواق الناشئة والتي تضررت بشكل كبير بفعل بسبب تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة.
وما يدعو للتفاؤل أن البنوك المركزية استفادت من دروس السبعينيات، فهي الآن تملك مستهدفاً واضحاً للتضخم بعكس السبعينات وتسعى للوصول لهذه المستهدفات من خلال سياساتها النقدية. كما أن الحكومات أصبحت أكثر قدرة بالمساهمة بتخفيف معدلات البطالة من خلال خلق استثمارات لتوفير الوظائف. والحكومات على استعداد للمكافحة حتى لا تصل إلى الحالة في السبعينات الميلادية حيث دخل الكثير من الدول في دوامات لسنوات طويلة لم يستطع بعضها حتى الآن في الخروج منها.
إن تخفيف ضغوط التضخم قد يكمن في حلّين رئيسين: الأول هو حل عقبات سلاسل التوريد والذي يقلل التكاليف على المنتجات والمواد الغذائية والوقود ويجعلها أكثر وفرة، وبالتالي أقل سعراً. ولا يبدو الحل لهذه العقبات في الأفق حتى الآن، فلا تزال الصين حتى الآن تعاني من تفشي فيروس «كورونا»، ولا يزال نقص الأيدي العاملة يشكّل تحدياً للموانئ والمخازن. ولذلك فإن البنوك المركزية لجأت إلى الحل الآخر وهو رفع سعر الفائدة لتقليل الطلب من الشركات والمستهلكين. وحتى الآن فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة المستهدف مرتين، وأعلن عن رفعه لمرة ثالثة قبل أيام، ومن غير المستبعد أن يرفعه مرتين أخريين بنهاية هذا العام. وعلى الرغم من أنه حل مثبت للتحكم بسعر التضخم، فإن رفع سعر الفائدة بهذا الشكل قد يتسبب في القضاء على النمو والوصول إلى ركود، وهي معضلة قد يستعصي على بعض الحكومات حلها.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

حتى تحل شرم الشيخ معضلات «دافوس»

وجد من قصدوا دافوس لاجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد منذ أيام، اختلافات كثيرة عما عهدوه من قبل. وأبسط هذه الاختلافات ما كان في موعد انعقاده، ليصبح هذه المرة في مايو (أيار) من ربيع العام، بدلاً من يناير (كانون الثاني) في ذروة شتائه كما جرت العادة في منتجع التزلج الجبلي السويسري، الذي ظل محتضناً اجتماعات المنتدى لعقود متوالية كأحد أهم فعالياته منذ تأسيسه منذ أكثر من نصف قرن.
وكان من التعليقات اللاذعة المتهكمة ما استمعت إليه من بعض شباب المشاركين في الاجتماعات، أن استمرار التدهور في أوضاع المناخ سيجعل ما نراه في مايو هو الطقس المعتاد لدافوس في يناير بلا جليد، أو تساقط للثلوج حتى في فصل الشتاء بفعل سخونة الأرض. فوفقاً للتقارير العلمية التي كثرت الإشارة إليها لسنا على المسار المطلوب للمحافظة على درجة حرارة الأرض لدرجة ونصف مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، كحد قرره العلماء لاستمرار الحياة وأسباب المعيشة، وإن كان سيصاحب هذا المستوى التي يطمح العالم إليها بمخاطر أشد مما نعايشه الآن ونحن لم نتجاوز بعد 1.1 درجة مئوية، مثل شدة الفيضانات وانتشار حالات الجفاف وحرائق الغابات والتصحر وتآكل الشواطئ.
ومن الاختلافات ما عكسته أغلفة المطبوعات المنتشرة في أروقة المنتدى ومداخل فنادقه وقد غلبت عليها عناوين الأزمات والتوترات الجيوسياسية: فبعنوان «العالم بعد الحرب» ظهرت مجلة الشؤون الدولية (فورين أفيرز) وعلى غلافها علم أوكرانيا كاسياً مجسم الكرة الأرضية إلا قليلاً منها، تعبيراً عن مدى الحرب وتأثيراتها؛ وأرادت مجلة السياسة الخارجية (فورين بوليسي) أن تتميز فجاءت عناوين غلافها بتركيز على «منافسة القرن» وتقصد بها المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف يريان بعضهما بعضاً قبيل الزيارة الآسيوية للرئيس الأميركي بايدن. ولكن أكثر الأغلفة إثارة للهلع العام ما كان من غلاف مجلة «الإكونوميست» البريطانية التي جعلت صورة غلافها التي بدلت حبات سنابل القمح بجماجم بشرية صغيرة تحت عنوان «كارثة الغذاء القادمة».
وجاءت في العموم الإصدارات الأفريقية والآسيوية أكثر اهتماماً ببراغماتية عن النواحي العملية للخروج من الأزمات.
وكانت أزمات الطاقة والغذاء والاقتصاد – خاصة فيما يتعلق بالتضخم ومخاطر الديون الدولية ومخاوف الركود مسيطرة على الجلسات، ولكن غلب على النقاش تداعيات الأزمات الجيوسياسية والحرب الأوكرانية.
وفي تقديري، أنه إذا عقدت المقارنات بين أداء القيادات الدولية ومجموعات عملها المنخرطة في مجموعات الدول السبع الصناعية، وكذلك مجموعة العشرين إبان الأزمة المالية العالمية في 2008 وما صحبها ثم تلاها من أزمات في أسعار الغذاء والطاقة ستجد أداءً أفضل في مواجهة الأزمة وتعاوناً فعالاً.
ورجوعاً إلى أزمة الغذاء الراهنة بين ارتفاع أسعاره وتكاليف نقله وتأمين شحناته، وشح كمياته المفترض تدفقها إلى مناطق تعاني من الجفاف؛ فإن التهوين من نسبة الاقتصادين الروسي والأوكراني في الاقتصاد العالمي وأنهما مجتمعين لا يشكلان أكثر من 4 في المائة من ناتجه، لا يتناسب معه ما كان اشتعالاً في الأسعار بعد الحرب. ولهذا تفسير بأن رغم الصغر النسبي للبلدين، فإن مساهماتهما في قطاعي الطاقة والغذاء كبيرة. فأوكرانيا تصدر وحدها 17 مليون طن من القمح بما يعادل 9 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية، وتتركز أسواقها في بلدان محددة، ولكن مع ذلك كيف يسبب ارتباك تصدير نسبة تقل عن 10 في المائة من سلعة من إجمالي سوقها إلى هذه الأزمة الدولية الطاحنة؟ هذا يرجع إلى طبيعة الاقتصاد السياسي السائد قبل الأزمة الأوكرانية في عالم يشهد حالة أقرب هي للمعترك الدولي من التعاون الدولي.
قيود على التجارة الدولية فرضها ترمب تشديداً على من سبقه، واستمرت بعده على منتجات الصين، وشل لحركة منظمة التجارة الدولية، وإجراءات حمائية شتى يفرضها أطراف التجارة على بعضهم بعضاً دون اكتراث لتعهدات دولية من باب الضرورات المبيحة للمحظورات حتى استشرى الحظر على حدود من تشدقوا بمبادئ حريات التجارة لما أتت الحريات بما لا يشتهون، وإن كانت بسلع ذات جودة وأرخص سعراً. ويذكرك ذلك بمقولة الكاتب الإنجليزي الآيرلندي أوسكار وايلد عن أن المبادئ لا يجب أن تغيرها الظروف، ولكنه منسوب له أيضاً ساخراً بأن لديه مجموعة من المبادئ كلما ضاق بها أتى بغيرها. فأي أوسكار وايلد تصدق: الحكيم أم الساخر؟
وحتى لا تحتار كثيراً، فالمعاملات الاقتصادية المستندة إلى قواعد يحدد قواعدها تلك الطرف الأقوى دائماً، مع إخراج مقنع بعدالتها وترك بعض المكاسب بتفاوت للآخرين من أطراف اللعبة حتى تستمر المباراة. أما إذا احترف الضعفاء قواعد اللعبة وشرعوا في تحقيق مكاسب فقد يتسامح صاحب قواعد اللعبة في بداية الأمر مظهراً إيمانه بقواعدها، متشدقاً بعدالته، فإذا ما استمر في الخسارة سرعان ما حاول تبديل القواعد سعياً لاستعادة المكاسب القديمة، ولكن هيهات. فهذا ليس كلعب الأطفال لكرة القدم في الأزقة والحواري، فيأتي صاحب الكرة ليختار لاعبي الفريقين ويضم نفسه إلى الفريق الأفضل ويختار جانب الأرض الأنسب، وربما يكون هو الحكم في غياب الحكم، فإذا انتصر استمر مهللاً، وإذا خسر ضاق باللعب وأخذ كرته وانصرف للعب بها مع آخرين.
وما حدث من أزمة غذاء أشد شراً؛ فمع اضطراب خطوط الإمداد الأوكرانية تناست الحكومات قواعد حرية التجارة فاتخذت 26 دولة إجراءات بحظر التصدير وفقاً لتحليل الاقتصادي المرموق كوشوك باسو، الذي عمل مستشاراً لحكومة الهند وكبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي؛ مسبباً ذلك ارتفاعات متوالية للأسعار بسبب داء التخزين وحكر البضاعة عن البيع مسببة سلوكاً مماثلاً لدى التجار والأفراد بتخزين البضاعة طمعاً في سعر أعلى، وخوفاً بلا مبرر فعليّ من نفادها؛ فنفادها نتيجة لأفعالهم.
ويذهب باسو في مقال أخير إلى أن تجربة الهند داخلياً بتنظيم أسواقها وتشريعاتها بما غير سلوكيات ضارة مثل التخزين والاحتكار، قد يستفاد منها عالمياً بإيجاد نظام ملزم للتعاون الدولي مساند بإجراءات قانونية وآليات اقتصادية لتوفير الغذاء ومنع المجاعات. وضرب مثلاً آخر بتعديل دستور الولايات المتحدة ليسمح بوجود مصدات مضادة للأزمات الغذائية في الولايات الأميركية وعبرها. ولعلك تجد في هذه الاقتراحات مثالية استفادت من أعمال الاقتصادي الهندي أمارتيا سن، الحائز جائزة نوبل، في دراساته عن المجاعة البنغالية التي حدثت في الأربعينات من القرن الماضي. وللأسف، لا أرى إرادة سياسية متوفرة في المجتمع الدولي تنتقل بهذه الأفكار إلى حيز التنفيذ، فالمتاح حالياً بما وصلنا إليه من وهن في التعاون السياسي الدولي هي إجراءات الحد الأدنى المانعة مزيداً من الانهيار الذي قد يطال من يظنون أنهم في منعة من شرور الأزمات.
ولكن، هناك ما يدعم هذا التوجه عملياً في إطار اتفاق باريس لعام 2015 وتعهدات موقّعيها الملزمة للتصدي لتغيرات المناخ، بمساندة دولية تدفع بطموحاتها همة المطالبين بحقوقهم في مناخ آمن وبيئة نظيفة من الأجيال الشابة ومنظمات المجتمع المدني وسائر الأطراف غير الحكومية بما في ذلك القطاع الخاص والشركات والمؤسسات المالية.
ومن الموضوعات التي تحظى بمساندة من رئاسة قمة شرم الشيخ القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) قضايا التغذية والغذاء. فهناك 800 مليون إنسان محروم من الغذاء بما يتناقض مع الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة. وهناك 76 في المائة من العالم يعتمدون في غذائهم على محاصيل زراعية تهددها تغيرات المناخ، فضلاً عن تغيرات في نوعياتها بسبب زيادة الانبعاثات الكربونية. يدعونا هذا إلى تبني مشروعات مشتركة في مجالات الزراعة والتغذية والطاقة وإدارة المياه، بما يحول الأفكار القيمة إلى استثمارات مجدية وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً في جلسات متخصصة تسبق قمة شرم الشيخ، التي تتبنى شعاراً عملياً وهو «معاً نحو التنفيذ»، فبعد تكرار على مدار سنوات طوال لتعهدات ووعود آن وقت تفعيلها على الأرض بما يحميها وينفع عموم الناس.

د. محمود محي الدين

الدولار والذهب والنفط وتداعيات الحرب

العلاقة بين أسعار الذهب والنفط والدولار وثيقة، إذ إنه كلما ارتفعت أسعار النفط، زاد في المقابل سعر الذهب، بينما يرتبط سعر الذهب بعلاقة عكسية مع الدولار، ويرتبط النفط والدولار بعلاقة عكسية، كما توجد علاقة متينة بين الذهب والنفط، وهذه العلاقة نتجت عن ارتباطهما بالدولار، ومن ناحية أخرى سعر النفط له علاقة بإنتاجية معظم السلع، لأنه يمثل جزءاً من مكونات التكلفة الأساسية لأي سلعة. وتتميز العلاقة بين النفط والذهب بأنها طردية، وصعود أسعار النفط يؤدي إلى ارتفاع حصيلة الدخل، ويمكن القول إن العلاقة بين النفط والذهب علاقة منطقية، فارتفاع أسعار النفط يُحدث زيادة في أسعار الذهب. على النقيض من العلاقة بين النفط والذهب، العلاقة بين الذهب والدولار علاقة عكسية، يمكن أن نسميهما مادتين بديلتين. فعندما يزداد الطلب على إحداهما ينقص سعر الأخرى.
هذه البداية وجدتها ضرورية لفهم طبيعة العلاقة بين الدولار والنفط والذهب والانعكاسات على الاقتصاد العالمي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل هيمنة روسيا وأوكرانيا على إنتاج وتصدير الغاز، وهذه العلاقة فتحت آفاقاً واسعة أمام روسيا لاستخدامها في المناورة في التعامل مع هذه الحرب. في ظل الجهود الدولية التي تحاول النهوض من تداعيات انتشار فيروس كورونا، واستعادة نشاطها الاقتصاديّ، جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتفرض واقعاً جديداً، إذ مع استمرار هذه الحرب وتداعياتها في ظلّ حالة عدم اليقين الجيوسياسي، تزداد عمليّات هروب المُستثمِرين من الأسهم والأصول الخطرة، واندفاعها نحو الديون السيادّية التي يرونها مضمونة على الرّغم من وجود مخاطر قليلة، ولذلك يبرز الذهب الأكثر أماناً كملاذٍ للمُستثمِرين والمُدّخرين.
دَخل الذهب بقوّة في حروبٍ عالميّة للتجارة والعملات، وتداعياتها على سعر النفط، كونه سلعة استراتيجيّة على مستوى الاقتصاد العالمي. وتمّ التركيز على الذهب لأنه ملاذ آمن للمُستثمِرين ومدّخراتهم، وكذلك لاحتياطات الدول في مصارفها المركزية، في ظلّ توتراتٍ جيوسياسيّة واضْطراباتٍ أمنيّة في مناطق عدّة من العالم. إذا كان للذهب أهميته، ويتمّ شراؤه كسلعة فاخرة وزينة للرفاهيّة الاجتماعيّة، فجاذبيّته الكبيرة لدى المُستثمِرين، تكمن في النظرة إليه كسلعة استراتيجية، ومن أكثر الأصول التي تلعب أدواراً أساسيّة في أي محفظة استثمارية.
إذا كان شراء الذهب يمثِّل الخيار المُفضَّل للمُستثمِرين عند حصول ارتباك في أسواق الأسهم والنفط، لتفادي توظيف السيولة في تلك الأسواق، وما يحيط بها من خسائر ومخاطر، كما حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالميّة عام 2008، وأزمة تفشّي وباء «كورونا» عام 2020. فإنّ كلّ التوقّعات اليوم تبقى رهينة متغيّراتٍ عسكرية وسياسيّة واقتصادية، في ضوء مستقبل تداعيات الحرب في أوكرانيا ومدّتها، إضافة إلى مَساراتٍ تتعلّق بالملفّ النووي الإيراني. وأيضاً يرتبط مُستقبل الذهب بمتغيّراتٍ تفرضها طريقة تعامُل المصارف المركزية مع الأزمة، والخيارات المرتبطة بأسعار الفوائد وسياسات التيسير المالي. وفي سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، قرَّرت روسيا الهروب من العملة الأميركيّة في علاقاتها الدوليّة وتعاملها المالي والمصرفي، ووجدت في الذهب ملاذاً آمناً لمُدّخراتها.
ووفق الإحصاءات الرسميّة، تتكوَّن الاحتياطيّات الروسيّة من صناديق العملات الأجنبيّة وحقوق السحب الخاصّة مع صندوق النقد الدولي والذهب، وقد بلغت قبل الحرب نحو 643.2 مليار دولار، ولكنّها انخفضت بحلول 25 مارس (آذار) إلى 604.4 مليار دولار، ومن الطبيعي أن يستخدم هذا الاحتياطي في تمويل الإنفاق الروسي العامّ، وبخاصّة الإنفاق الدفاعي وما تقتضيه متطلّبات الحرب مع أوكرانيا. وإذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة ودول الاّتحاد الأوروبي وجَّهت ضربة قوّية للاقتصاد الروسي، وجمَّدت نحو 300 مليار دولار من احتياطه النقدي، فإّنها لم تستهدف بشكلٍ مباشر احتياطي الذهب، لذلك تسعى أميركا وحلفاؤها إلى تشديد الخناق المالي على روسيا، وإصدار قانون يمنعها من التصرُّف في السيولة الموجودة في خزائنها، بما فيها استخدام الذهب، ويستهدف كذلك الأطراف التي تساعد روسيا في تمويل حربها من خلال شراء أو بيع الذهب، ومع تراكُم التداعيات السلبيّة للعقوبات وخسائر الحرب، بدأ سعر الروبل يتراجع حتّى وصلَ إلى نحو 150 مقابل الدولار الواحد، وفَقَدَ بذلك نصف قيمته، ولكنّ موسكو ردَّت بخطّة دفاعيّة، شملت سلسلة إجراءات وضوابط ماليّة، أهمّها الحدّ من خروج الأموال والاستثمارات الأجنبيّة، إضافة إلى إجراءَين. أولهما، دفْع ثمن مبيعات النفط والغاز بالروبل، والثاني إعلان بنك روسيا المركزي عن ربط الروبل بالذهب.
وهكذا يكون الروبل قد حقق بعض التقدم في مرحلة الدفاع عن قيمته أمام الدولار ولو بحدودٍ معيّنة، لكنّ احتمال انتقاله إلى مرحلة تحدّي الدولار هو أمرٌ مُستبعَد كلّياً لصعوبة تحقيقه، وخصوصاً أنه وفق الحسابات المالية، لا يوجد حالياً أي عملة قادرة على استبدال الدولار المُسيطِر على النظام المالي العالمي، وهو سلاح بوجه الدول التي تتحدّاها، وهي لا تزال قائدة للاقتصاد العالمي ومَصدراً رئيساً للسيولة العالميّة. وربّما يكون البديل تكتُّل قوى اقتصادية عالميّة مُتّحدة تواجِه النظام القائم، فهل يستطيع تكتُّلُ دول «البريكس» الذي يضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وُيمثّل 24 في المائة من الناتج المحلّي العالمي، أن يقود أحلافاً تجارّية عدّة إلى إنشاء آليّات دفع خاصّة بها، وأن تكون مستعدّة للقيام بتبادُلاتها التجارية بالعُملات المحليّة.
حاولت مجموعة البريكس بمُبادراتٍ لفكّ الارتباط بالدولار، مثل الصين التي أصدرت منذ سنوات قليلة عقوداً آجلة للنفط مقوَّمة باليوان ونظام تحويلات لليوان عبر الحدود، كما أسست روسيا نظاماً يوازي نظام «سويفت»، ونظاماً آخر خاصاً بالروبل. إنّ كلّ هذه الإنجازات محاولة للخروج العالمي عن هَيمنة الدولار. وفي ظل التحديات التي تواجها أميركا من خلالها الدولار، فإن التساؤلات ما زالت تطرح حول وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهل سيمكن الاحتفاظ بذلك أمام مجموعة من العملات المنافسة الأخرى، العملة الأوروبية (اليورو)، العملة الصينية (اليوان)، نظام حقوق السحب الخاصة والعملات المشفرة الافتراضية. إن صعود الصين واستمرار عجز أميركا عن معالجة الاختلالات الاقتصادية الكبيرة، سيجعل المستقبل بالتأكيد متعدد الأقطاب، خاصة في ظل التزام الصين والعمل على أن تكون قوة عالمية بحلول عام 2050 واستمرارها في تحقيق نمو اقتصادي قوي وممارسة مزيد من نفوذها الاقتصادي في الخارج وبشكل خاص مع مجموعة البريكس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا)، إذ استفادت روسيا في حربها مع أوكرانيا من خلال مجموعة البريكس ودعم الصين الاقتصادي لها، الذي لا يظهر بشكل واضح للعيان، ومن خلال تراجع فرنسا وألمانيا عن الاعتراف الفوري لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والناتو وخضوعهما لسلسلة إجراءات قد تأخذ سنين لإكمال مراحل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهذا يعزز من الموقف الاقتصادي والعسكري لروسيا على حساب أوكرانيا.
وفي الختام، إن هيمنة الدولار على العملات ليست حتمية في ظل المنافسة بين الدولار والذهب والنفط والغاز؛ حيث إن الحفاظ على وضع الدولار يحتاج إلى إرادة سياسية واقتصادية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة في عالم اليوم، من قبل أميركا، لتخفيض العجز المالي والتجاري، والحكمة في التعامل مع النزاعات والحروب التي تحدث في العالم، ومنها الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الصراعات، بجانب هذا، أدت المرونة التي تعاملت بها روسيا مع العلاقة التفاعلية بين الدولار والذهب والنفط والغاز، إلى تحييد مواقف دول مهمة مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي بقيت على الحياد أو مع روسيا في التعامل بالملف الاقتصادي والمالي بالضد من أميركا وبعض حلفائها الغربيين.

د. ثامر محمود العاني

* أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد، مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية سابقاً

نهاية العولمة

عادة ما تتسم المؤتمرات واللقاءات الدولية بجوٍ من التعاون والتفاؤل، والحث على التواصل بين الحكومات لحل المشكلات الدولية من خلال فتح قنوات الحوار والمحادثات لتسهيل الوصول إلى حلول تساهم في ازدهار الاقتصاد العالمي. ولكن مؤتمر دافوس هذا العام حمل مصطلحات مختلفة عن تلكم الإيجابية المعتادة في كل عام، مصطلحات مثل «الأقلمة»، وفصل العالم، وإعادة التأميم. هذه المصطلحات ذكرها الكثير من رجال الأعمال والمسؤولين في المدينة السويسرية، متخوفين من مستقبل تضمحل فيه العولمة، وتقل فيه التجارة الحرة، ويتجه فيه العالم إلى مزيد من العزلة الاقتصادية. هذه التوقعات لا تبدو مفاجئة على ضوء الأحداث في السنوات الخمس الأخيرة، التي مهدت الطريق لنهاية نجاح العولمة على مدى العقود الثلاثة الماضية.
أول أسباب هذه التوقعات هو الموجة الشعبوية التي شملت العالم، وتمثلت في أجلى صورها بتولي دونالد ترمب رئاسة أميركا، بشعاراته الشهيرة (أميركا أولاً) و(إعادة أميركا إلى العظمة). كانت أبرز أحداث حقبة الرئيس ترمب في الحرب التجارية على الصين والصدام مع الاتحاد الأوروبي برفع الرسوم الجمركية على الطرفين، وما نتج عن ذلك من إجراءات انتقامية. وبغض النظر عن الآثار المباشرة لهذه الرسوم من ارتفاع للأسعار، إلا أن هذه الإجراءات وسعت مدارك العديد من الدول إلى مدى اعتماد اقتصاداتها على سلاسل التوريد في بلدان أخرى، بلدان قد لا تكون على توافق سياسي معها. أدركت دول الغرب حينها مدى اعتمادها على الصين في توريد المواد الخام، وسلاسل الإمداد، كما أدركت أن العالم اعتمد على الصين كثيراً في العقدين الأخيرين في النمو العالمي.
ولم يفق العالم من حرب ترمب حتى غرق في الجائحة التي تداعت أحداثها سريعاً، لتجد بعض البلدان نفسها في ورطات عديدة، ابتداء من ضعف النظام الصحي، وصولاً إلى النقص الشديد في المواد الأساسية والطبية والغذائية. في هذه الجائحة أغلقت كل بلد حدودها أمام البشر والسلع. وانعزلت كل دولة بزادها وعتادها عن الآخر، واضطرت العديد منها إلى تحوير مصانعها لإنتاج المواد الضرورية للصمود. أظهرت الجائحة سلوكاً مختلفاً للعديد من الدول، وهو امتناع بعضها عن التصدير لضمان أمنها القومي، فامتنعت الهند عن تصدير المواد الصيدلانية، وامتنعت دول أخرى عن تصدير المعدات الطبية، وعززت هذه التصرفات التوجه الشعوبي الذي يشجع سياسات الاكتفاء الذاتي والبعد عن التكامل الاقتصادي والتجارة الحرة.
وقبل أن تنتهي الجائحة، بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، وانقسم العالم إلى قسمين، فدول استنكرت هذه الحرب، ودول رفضت الاستنكار. واصطدمت التوجهات السياسية بالمصالح الاقتصادية بشكل واضح، فمصالح الغرب مع روسيا لا يمكن إنكارها، ولكنه داعم لأوكرانيا في هذه الحرب، ومعادٍ بشدة لبوتين. وأصبح الغرب في موقف صعب، فهو لا يستطيع الاستغناء عن الغاز الروسي، ولا غنى له عن الصين ودورها المحوري في سلاسل الإمداد العالمية، وهي التي لم تعارض الإجراء الروسي. لتزيد رغبة الغرب في الاستقلال الاقتصادي عن الشرق بعد أكثر من عقدين من الاعتماد عليه. وظهر الغرب بوجه مختلف، فهو لا يخشى من استخدام نفوذه الاقتصادي للإضرار بالدول المعادية، فسحب الغرب استثماراته من روسيا، وأوقف المصارف الروسية من التعاملات الدولية.
توالي هذه الأحداث، وشدتها، جعلا فكرة «فصل العالم» أو «انفصاله» واردة، فالغرب لا يتوافق مع الشرق، وحديث المسؤولين الغرب عن اعتماد اقتصاداتهم على دول تقودها حكومات تصفها بـ«السلطوية» أصبح يطرح في المؤتمرات العلنية. أبرزها حديث وزير الخارجية الأميركي عن خطر الصين، التي لديها الإرادة والقدرة على تغيير النظام الدولي، وعن كونها غير جديرة بذلك، لأنها «لا تحمل القيم التي ازدهر بها العالم في العقود السبعة الماضية».
لقد كان تكامل العالم في العقود الأخيرة مبنياً على المصالح الاقتصادية، ولأجل ذلك تجاوزت الدول عن كثير من خلافاتها واختلافاتها لأجل ازدهار اقتصاداتها، ولكنها الآن وصلت إلى طريق يبدو مسدوداً، فالغرب من الناحية الاستراتيجية لا يريد المزيد من القوة للصين وروسيا، ومن الناحية السياسية بدأ في اتباع أسلوب «إن لم تكن معي فأنت ضدي». والنظام التجاري الذي خدم العالم قبل عقدين لا يبدو صالحاً لهذا الزمن ويحتاج إلى هيكلة جديدة، وسلاسل التوريد التي ربطت العالم ببعضه لا تملك المرونة التي تؤهلها للصمود أمام العديد من التغيرات. والتجارة العالمية هي المتضررة الأولى من كل هذا، وليست الجائحة هي الملامة في ذلك، ولا الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن النظام نفسه هش وغير قادر على التكيف مع التغيرات والأحداث، ويكفي لإدراك ذلك، معرفة ما سببته سفينة واحدة، سدت قناة السويس، وما تبع ذلك كله من اضطرابات تجارية حول العالم

د. عبدالله الردادي

الأسلوب الأميركي الجديد ضد الصين

منذ أن بدأ الاقتصاد الصيني بالازدهار نهاية القرن الماضي وبداية الحالي، والولايات المتحدة تراقبها عن كثب لمعرفة مدى إمكانية التهديد لسيادتها الاقتصادية في العالم. ولكن هذه المراقبة لم تثمر عن إجراءات فعالة منذ ذلك الحين، فالرئيس بوش الابن وصف الصين بـ«المنافس الاستراتيجي»، ولكنه انشغل عنها بأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما بعدها من حروب، وأوباما تحدث كثيراً عن المحور الآسيوي، لكن الأزمة الاقتصادية والتقلبات السياسية عصفتا بخططه. أما ترمب فاتخذ المواجهة سبيلاً له في تحجيم الصين، ففرض الرسوم الجمركية عليها، وأوقف التعامل مع الشركات الصينية، ومنع الاستحواذات الصينية على الشركات الأميركية. ولكنه في الوقت نفسه لم يتبع أسلوباً استراتيجياً مستداماً في التعامل مع الدول الآسيوية، فانسحب من الاتفاقية الشاملة لدول المحيطين الهندي والهادئ، تاركاً المجال للصين لتزيد من نفوذها التجاري في المنطقة.
وعندما تولى الرئيس بايدن الرئاسة، ارتأى العديد من الخبراء أنه سيكمل مسيرة سابقه في محاولة تحجيم الصين، ولكن بطرق أقل عنفاً وأكثر دبلوماسية، وذلك باستخدام حلفائه في المنطقة للضغط على الصين. وكان بداية ذلك هو إعلانه عن الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ومنذ ذلك الحين والحكومة الأميركية ترسم ملامح هذا الإطار، حتى انتهت إلى توصيفه بأربعة محاور؛ المحور الأول يُعنى بالتجارة الحرة والمرنة، والثاني بمرونة سلاسل الإمداد، والثالث بالبنية التحتية والطاقة النظيفة وإزالة الكربون، والرابع بالأنظمة الضريبية ومكافحة الفساد. ويتوقع أن يستغل الرئيس الأميركي جولته الآسيوية للإعلان عن هذا الإطار، وهي أولى زياراته لآسيا، وقد بدأها يوم الجمعة في كوريا الجنوبية، انتقالاً إلى طوكيو يوم الاثنين، حيث تعقد قمة الدول الأربعة (مجموعة الكواد) وهي أميركا وأستراليا والهند واليابان، وهي دول تتشارك في خوفها من زيادة النفوذ الصيني في المنطقة.
ويطمح بايدن إلى أن تدخل دول أخرى لهذا الإطار، مثل كوريا الجنوبية والفلبين وسنغافورة الذين عبروا عن اهتمامهم فيه بحذر. وقد رحبت كل من اليابان وتايلند بالدخول في المفاوضات لهذا الإطار الاقتصادي، كما يتوقع أن تنظم أستراليا ونيوزلندا له في مراحل قادمة، بينما لم توضح الهند أي موقف من الانضمام لهذا الاتفاق حتى الآن. والمتأمل في هذه الدول يجد أن الولايات المتحدة تطمح إلى محاصرة الصين تجارياً، من خلال إيجاد بدائل لسلاسل التوريد لهذه الدول، وزيادة خياراتها التجارية لتقليل التبادل التجاري مع الصين قدر الإمكان. ولكن الأمر ليس بهذه السهولة، ولعل كوريا الجنوبية هي أقرب مثال على ذلك، فالتبادل التجاري بينها وبين الصين يساوي مجموع التبادل التجاري لها مع اليابان وأميركا.
من الناحية السياسية، فالأمر أكثر تعقيداً، فالهند لا تزال على خلاف مع الولايات المتحدة بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، فهي رغم كونها حليفة لأميركا، إلا أنها لم تدن روسيا بشأن الحرب، لأسباب منها اعتمادها على الأسلحة الروسية، وغني عن الذكر أهمية الهند بخصائصها المختلفة في تحقيق التوازن ضد الصين. كما أن الفلبين – حليف أميركي آخر – انتخبت للتو رئيساً يُرى أنه أقرب للصين من سابقه. إضافة إلى ذلك، فإن الدول الآسيوية نفسها ليست على وفاق تام فيما بينها، فالإرث الاستعماري بين اليابان وكوريا الجنوبية لم يُنس بعد. والدول الآسيوية لم تنس كذلك تقلب السياسة الأميركية، فهي لا يمكنها أن تضمن ثبات هذه السياسة للسنوات المقبلة، لا سيما مع إمكانية تولي رئيس جديد عام 2024؛ رئيس قد يكون أكثر انعزالية من بايدن، وأقرب إلى سياسة ترمب، إن لم يكن هو نفسه.
واعتماد هذه الدول اقتصادياً على الصين يجعلها حذرة للغاية من الإجراءات الانتقامية التي قد تتخذها الصين حيال من يساهم في هذا الإطار الاقتصادي. خصوصاً أن بعض وسائل الإعلام الصينية تهاجمه منذ أن أعلن عنه بايدن العام الماضي، وقد وصفته بعضها بأنه استراتيجية للحرب الباردة على الصين، وأن هدفه – مهما أُعلن عنه – هو تحجيم الصين والإضرار باقتصادها. كما عبرت وسائل أخرى بأنها حرب غير متكافئة بسبب علاقات الولايات المتحدة المتينة مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، والذي يمكنها من التأثير سلباً على الاقتصاد الصيني.
إن هذا الإطار، الذي وصفته الإدارة الأميركية بـ«التنسيق الاقتصادي للقرن الواحد والعشرين» لا يزال في مهده، وملامحه مبهمة، حتى مع اتضاح أهدافه. والتحدي الذي ستواجهه الولايات المتحدة يكمن في جذب الدول للانضمام إليه، فهو حتى الآن لا يسعى إلى تحرير التجارة بين الدول المنضمة إليه والولايات المتحدة، فتخفيض الرسوم الجمركية وتسهيل الوصول إلى الأسواق الأميركية ليستا ضمن أهدافه، وهو ما يعني أن مصالح الدول الآسيوية ليست واضحة حتى الآن. ولذلك فإن الطريق لا يزال طويلاً حتى تتمكن الولايات المتحدة من صياغة كامل تفاصيله بعد انتهاء فترة المفاوضات التي قد تستغرق مدة طويلة. ولكن الإعلان عنه والاحتفاء به متوقعان خلال زيارة الرئيس الأميركي لطوكيو، ليكون ضمن منجزاته قبل الانتخابات النصفية.

د. عبدالله الردادي

بريطانيا وحسابات الضرائب الاستثنائية

انتهى الأسبوع بأخبار اقتصادية مزعجة؛ بنك إنجلترا (البنك المركزي الذي يحدد السياسات المالية وهو مستقل القرار عن الحكومة منذ 1997) رفع الفائدة للمرة الثالثة على التوالي، لتصل إلى أربعة أضعاف نسبتها (واحد في المائة بعد أن كانت ربعاً من الواحد في المائة قبل ستة أشهر)، كذلك البنك الفيدرالي الأميركي رفع الفائدة بنصف في المائة (ضعفا بنك إنجلترا).
البنوك المركزية تحاول استخدام سعر الفائدة أداة، إما لدعم النمو الاقتصادي (معدلات فائدة منخفضة تحفز على الاقتراض للاستثمار في مشاريع وخلق وظائف، بدلاً من الادخار لانخفاض نسبة العائد)؛ أو للحد من معدلات التضخم (ارتفاع الفائدة يؤدي لعكس المعادلة أعلاه، إذ يفضل الناس الادخار، وتقلل من الإنفاق على السلع والخدمات وزيادة عرض المنتجات على الطلب يخفض الأسعار). توظيف سعر الفائدة هو الوسيلة المجربة لعقود طويلة بالنسبة لأي سوق داخلية (في مجتمعات السوق الرأسمالية الحرة المفتوحة).
أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، حذر في المؤتمر الصحافي للإعلان عن أسعار الفائدة، من أن الاقتصاد يمر بمرحلة صعبة، وأن المواطنين يعانون من ارتفاع الأسعار وقلة الدخل، مع توقعه أن تصل معدلات التضخم إلى عشرة في المائة، وهي الأعلى منذ ثمانينات القرن الماضي.
وبعكس الثمانينات، لا توجد حالة بطالة، بل نقص الأيدي العاملة، والإنتاجية أكثر ارتفاعاً، لأن أسباب التضخم اليوم ليست من السوق الداخلية في أي بلد رأسمالي، وإنما أسباب خارجية عالمية أساسها ارتفاع أسعار الطاقة، وبدورها تؤدي إلى رفع تكلفة المنتجات والخدمات، سواء في تشغيل المصانع أو نقل البضائع، وازادت الأزمة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والحصار الاقتصادي على الأولى، وبدورها أثرت على واردات الطاقة، وأيضاً صادرات الحبوب والمنتجات الزراعية من أوكرانيا إلى العالم، مما رفع أسعارها، وهي عوامل لا يعتقد كثير من خبراء المال والاقتصاد أن الأداة المجربة، أي سعر الفائدة، ستكون فعالة في التأثير عليها.
في الأسبوع نفسه بلغت أرباح شركة البترول البريطاني في الربع الأول من هذا العام ستة مليارات ومائتي مليون دولار، أما شركة «شل» الشهيرة فقد بلغت أرباحها في الفترة نفسه رقماً قياسياً تجاوز تسعة مليارات ومائة مليون دولار.
حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون (التي تلقت صفعات وركلات انتخابية موجعة في الانتخابات البلدية المحلية يوم الخميس) تواجه خيارات اقتصادية صعبة، وملايين من الناخبين ينخفض مستواهم المعيشي والمالي. ارتفعت النداءات من المعارضة العمالية، والصحافة وشبكات البث (أغلبها يسارية ليبرالية) ومن أحزاب المعارضة؛ الديمقراطيون الليبراليون، والخضر، والقوميون الاسكوتلنديون، بفرض ضريبة استثنائية على شركات الطاقة الكبرى، خصوصاً «شل»، والبترول البريطاني. ضريبة بنسبة ما بين عشرين إلى أربعين في المائة على الأرباح، وهو ما قد يزود الخزانة البريطانية بما بين خمسة وسبعة مليارات دولار، تطالب المعارضة بأن تستخدمها الخزانة لدعم فواتير الطاقة المنزلية لمحدودي الدخل والفقراء.
حكومة المحافظين بزعامة جونسون، ترفض الفكرة شكلاً وموضوعاً.
فهي ليست فقط سيئة من الناحية السياسيةـ بل إنها غالباً ما ستكون مخربة للنمو والتطور الاقتصادي، وتخلق مشكلات للمسؤولين عن تخطيط السياسة المالية وتحديد المعدلات الضرائبية لميزانيات السنوات المقبلة.
الضريبة الاستثنائية، تعرف بـ«windfall tax» (ضريبة على أرباح أتت بها رياح مواتية)؛ أي أن الدخل أو الربح نفسه استثنائي ولم يكن متوقعاً. وإذا افترضنا الحد الأقصى من الدخل من الضريبة، أي سبعة مليارات دولار، ماذا ستفعل بها الخزانة البريطانية؟
هل تستخدمها لتخفيض الضرائب؟
دخل مصلحة الضرائب البريطانية في السنة المالية المنتهية في الخامس من الشهر الماضي كان 718 ملياراً و200 مليون جنيه (890 مليار دولار)، أي أن الدخل من الضريبة الاستثنائية سيضيف أقل من 0.008 في المائة من دخل الخزانة. فماذا ستكون نسبة التخفيض الضرائبي لمعلم أو ممرضة من متوسط مرتب سنوي ثلاثين ألف جنيه سنوياً؟ بعد حساب الإعفاءات والاستثناءات سيكون حوالي ستة جنيهات شهرياً.
وماذا عن العام المقبل والأعوام التي تليه؟ كيف ستخطط وزارة المالية لسياستها بلا ضمان «لرياح مواتية» تهبط على مؤسسات أخرى بثروة تفرض عليها ضرائب؟
أم هل تخصص وزارة المالية دخل الضريبة الاستثنائية منحةً تصرف للأسر التي تواجه «فقر الطاقة» مثلما تطالب المعارضة والتيارات اليسارية والاشتراكية؟
دراسة معهد «ريزليوشن فونديشن» (خزانة تفكير لبحوث خطط لتحسين أحوال محدودي الدخل) في الشهر الماضي توقعت أن يتجاوز عدد الأسر التي تواجه «فقر الطاقة» خمسة ملايين منزل، يواجهون زيادة في فواتير الطاقة ما بين سبعمائة و1101 جنيه في العام، إذا ظلت أسعار الغاز على ما هي عليه.
لو وزعت وزارة المالية كل دخل الضريبة الاستثنائية على بيوت فقراء الطاقة، سيكون نصيب الأسرة حوالي مائة جنيه من الفاتورة السنوية التي تتجاوز في المتوسط ألفين من الجنيهات (مائة وستون جنيهاً شهرياً). ماذا عن بقية أشهر السنة؟
وهنا يحضرنا القول الصيني الشهير «اعط رجلاً سمكة تكفه وجبة عشاء، علمه الصيد تطعمه مدى الحياة».
معلقون وخبراء اقتصاد حرية السوق والاستثمار الرأسمالي يدعمون وزير الصناعة والأعمال والطاقة، غريغ هيندز، في محاولته إقناع الشركتين الكبيرتين، «شل»، و«البترول البريطاني»، باستخدام الأرباح غير المتوقعة في الاستثمار في التنقيب عن حقول غاز وبترول جديدة في بحر الشمال. وكان التنقيب واكتشاف مزيد من الغاز متوقفين منذ سنوات بسبب الحملة الهستيرية التي يشنها الخضر والبيئيون في مظاهرات ضد منشآت مقاولي التنقيب. مستشارو وزارة الصناعة والطاقة ينسقون مع الشركتين للتخطيط لتوجيه جزء من الأرباح للاستثمار في مشاريع توليد الطاقة الخضراء، وكلا النشاطين سيخلق عشرات الآلاف من الوظائف، ويؤدي لرواج اقتصادي في مناطق مستواها الاقتصادي متدنٍ.
أسعار أسهم الشركتين ارتفعت في البورصات؛ والاشتراكيون يتعمدون عدم ذكر أن حملة الأسهم لهذه الشركات أغلبها صناديق استثمار لمعاشات الاتحادات العمالية ومؤسسات ترعى الأرامل، أو مؤسسات تأمين صحي وتعاونيات.
جونسون ووزراؤه يخشون أن تشكل الضريبة الاستثنائية سابقة، وبالتالي تفزع المستثمر. شركتا البترول، «شل»، و«البريطانية»، بينهما يوظفان قرابة أربعين ألفاً مباشرة و185 ألفاً في أعمال تعتمد على المباشرين، وينفقان ثمانية عشرين مليار دولار سنوياً في بريطانيا، والخوف من ضرائب لم يخطط لها قد تدفع الاستثمارات الكبرى لتجنب بريطانيا.

عادل درويش

ماذا يريد إيلون ماسك؟

غرد إيلون ماسك، في أواخر الشهر الماضي، ضمن موجة التعليقات الآيديولوجية التي رافقت استيلاءه المستمر على «تويتر»، قائلاً: «لقد دعمت أوباما لمنصب الرئيس، لكن الحزب الديمقراطي اليوم تعرض للاختطاف من قبل المتطرفين». في وقت متزامن تقريباً، أشعل ماسك النار في منصة وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة نشر رسم كاريكاتوري يظهر رسم عصا مائلة تجاه يسار الوسط في عام 2008، وهو ما أعيد تعريفه بأنه متعصب يميني بحلول عام 2021، لأن رسمة العصا اليسارية قد انطلقت بعيداً إلى اليسار. ثم في الأسبوع الجاري، عبر ماسك عن نفس النوع من التفكير بأسلوبه المختصر الذي اشتهر به الموقع، وهو أن «تويتر لديه تحيز يساري قوي».
والآن، أخيراً، لدينا أخبار أنه من المحتمل أن يسمح لدونالد ترمب بالتغريد بحرية مجدداً. كل هذه التعليقات والوعود تضع أغنى رجل في البلاد مع الجانب الأيمن في الحرب الثقافية. لكن رغم أنني لا أعرف ماسك – فأنا لم أقابله مطلقاً ولم أتسكع في أي مخبأ سري برفقة الملياردير الشهير – فإنني أعتقد أنني أعرف ما يكفي عنه، وأعرف عدداً كافياً من الناس في وادي السيليكون مثله، مما يشير إلى أنه لا توصيفاته الذاتية على «تويتر» ولا الانتقادات التي يتم إلقاؤها في طريقه تعكس ما يميز منصبه ورؤيته للعالم.
إن مصطلحاً مثل «المحافظ» لا يناسب رجل أعمال بحجم رئيس شركة «تسلا»، وحتى وصف «تحرري». ورغم أنها أقرب إليه، فإن ماسك يرتبط بالعديد من الأفكار التي لا أعتقد أنه يهتم بها بدرجة كبيرة. تأتي التسمية الأفضل من فيرجينيا بوستريل، في كتابها الصادر عام 1998 بعنوان «المستقبل وأعداؤه»، حيث تبدو شخصية ماسك أقرب إلى «الديناميكي»، ويعني هذا الشخص الذي تتمثل التزاماته الأساسية في الاستكشاف. هو شخص يعتقد أن المجتمع الأفضل هو مجتمع دائماً ما يخترع ويتحول ويفعل شيئاً جديداً.
إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو غير مثير للجدل، فكر مرة أخرى. أولاً، قد لا يهتم الديناميكي بالمصدر الذي ينبع منه الابتكار والاختراع: على عكس الليبرالي البحت، قد يكون غير مبالٍ بمسائل الإنفاق العام مقابل الإنفاق الخاص، ويسعد باحتضان المساعدة الحكومية إذا كان هذا هو ما يتطلبه الأمر للحصول على شيء جديد – ويسعدنا أن نأخذ هذه المساعدة من أنظمة مثل الصين الشيوعية كما نحصل عليها من منطقتنا. وقد يكون على استعداد للمخاطرة بأكثر من خصاله كشخص تقدمي نموذجي أو كمحافظ نموذجي من أجل الابتكار. يمكن التفاوض على المبدأ السياسي والاستقرار الاجتماعي والنظام الأخلاقي عندما يكون الاكتشاف وحده هو «الهدف الأسمى».
بالنسبة لكثير من الناس، الديناميكية مشروطة بمدى استثمارك في العالم كما هو، وما إذا كنت ستخسر أو تستفيد من الابتكارات، وأين يكمن حدسك الأخلاقي. حتى في عالم التكنولوجيا، فإن شهيتك للديناميكية تعتمد على المكان الذي تقف فيه: إذا كنت محظوظاً بما يكفي للعمل في واحدة من شبه الاحتكارات في «وادي السيليكون»، القوى الجديدة للعصر، قد لا تكون مهتماً بمزيد من التغيير.
قد يتطور ماسك نفسه إلى هذا النوع من الاحتكار المريح، لكن في الوقت الحالي، وانتظاراً للاكتتاب العام لشركة «MarsCorp» في عام 2047، يظل ماسك ديناميكياً بالكامل. ومن هذا المنطلق، فإن تحوله الأخير من ديمقراطي مناصر لأوباما إلى تقدمي محبط يبدو منطقياً تماماً في ضوء التحولات التي مرت بها الليبرالية نفسها مؤخراً.
لكن منذ أن طوع ترمب التاريخ ليسير في طريقه، تضاءلت هذه الثقة أو انهارت. الآن ينظر الليبراليون بشكل متزايد إلى الإنترنت على أنها منطقة للوحوش والمعلومات المضللة غارقة في الليبرالية، ويمكن التلاعب بها بسهولة من قبل الديماغوجيين، وهي أرض خصبة للمتمردين.
في الوقت نفسه، فإن القيم الكامنة وراء الديناميكية – وقبل كل شيء، الركيزة الخاصة الممنوحة للتفكير الحر وحرية التعبير – هي أيضاً أصبحت موضع شك أكبر داخل ليبرالية اليوم. توجد روح تنظيمية جديدة للثقافة وكذلك الاقتصاد، وموقف كبير جداً تجاه تداول الأفكار التي يحتمل أن تكون خطرة، والإيمان بمؤسسات السلطة العلمية والفكرية، ولكن ليس بالضرورة المؤسسات المتاحة لتحقيق مفتوح.
تماماً كما قد يفضل الديناميكي، في أقصى اتجاه يمكن أن يصل إليه، نظاماً ملكياً يحمي الابتكار أكثر من ديمقراطية لا تشجعه، فإن بعض التقدميين اليوم يتخذون نفس الخطوة في الاتجاه المعاكس: إذا كانت الديمقراطية مهددة بالتغير التكنولوجي وحرية التعبير غير المقيدة، ثم الأسوأ من ذلك بكثير بالنسبة لحرية التعبير. الشيء المهم هو إنقاذ الحكم الذاتي الديمقراطي، حتى لو اضطررت إلى سحب «الحريات» مؤقتاً من «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» أو إبعاد جون ستيوارت ميل.
أياً كان ما يريده ماسك من «تويتر» – ومن الواضح أنك يجب أن تفترض أنه يريد جني الكثير من المال – يبدو أن هذا الاتجاه الآيديولوجي الذي يأمل مقاومته أو إيقافه، هو التراجع الليبرالي عن الديناميكية، والتحول التقدمي نحو التنظيم الآيديولوجي، والانتشار والتوسع. يخشى اليسار أن «التعديل الأول»، وحرية التعبير، يتم تسليحها ويحتاجان إلى نوع من المراقبة.
إذن السؤال المثار الآن: إذا كان هذا هو طموحك – بغض النظر عما إذا كنت تعتقد أنه مثير للإعجاب أو خطير – فهل سيكون شراء «تويتر» منطقياً؟
تنص النظرية الإيجابية على أنه نظراً لأن «تويتر» هو ساحة رقمية أساسية ومكان مأهول بشكل كبير من قبل الليبراليين المتعلمين جيداً، إذا تمكن ماسك من النجاح من خلال نهج أخف في إدارة المحتوى، فقد يأمل من منظور ديناميكي في تحقيق هدفين في وقت واحد. أولاً: سيحافظ ببساطة على مساحة مهمة يمكن أن يحدث فيها نقاش حر. ثانياً: بافتراض أنه يمكن أن يأتي ببصمة خفيفة يقبلها المستخدمون ذوو الميول اليسارية – فإنَّه سيدرب برفق ليبراليي «تويتر» على العودة إلى معتقداتهم.
نظراً لأن جزءاً كبيراً من نجاح وثروة ماسك يأتي من البحث عن تطبيقات التكنولوجيا في العالم الحقيقي – بمعنى السيارات والصواريخ والأنفاق، وليس فقط التطبيقات والتغريدات – فمن المحتمل جداً أنه قد فكر بالفعل في كل هذا، وأن لديه رؤية نهائية لـ«تويتر» كشبكة افتراضية تربط المؤسسات التي تم إصلاحها أو تنشيطها في العالم الحقيقي.
أو بدلاً من ذلك، ربما يعتقد أن العالم الافتراضي، قريباً جداً، سيحل محل عالم الطوب والأجساد تماماً، وأنه بشراء «تويتر» فهو يشتري حرفياً العقارات الرقمية، حيث سيبني زملاؤه الديناميكيون المؤسسات العظيمة للغد.
إنها إحدى نقاط القوة في الديناميكية كآيديولوجيا إرشادية يمكنها أن تلهم هذه الأنواع من القفزات. لكن ضعفها عادة ما يكون هو نفسه الذي قضى على «إيكاروس» (في الأسطورة اليونانية القديمة). في بعض الأحيان تستطيع أن تقفز وتكون لديك أجنحة طائر لتحملك إلى الأعلى، وفي بعض الأحيان، قد يكون كل ما لديك هو ريشها المتحلل، لكن الأسوأ من كل ذلك ألا يكون لديك حتى ريشها، بل تغريداتها.

روس دوثات

عن العقوبات الاقتصادية وعواقبها

عندما هدد الرئيس الأميركي جو بايدن روسيا «بفرض عقوبات شديدة وقيود على الصادرات» في حالة غزوها لأوكرانيا، لم يكن هذا إجراءً مستغرباً فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية وضعاً افتراضياً معتاداً للسياسة الخارجية الأميركية مع كل أزمة دولية.
ويبدو أن الرئيس الروسي بوتين قد أدرج هذا في حساباته قبل الحرب فبلاده كانت بالفعل هدفاً لعقوبات، ولم يبالِ بالتهديد بأن العقوبات الجديدة ستكون أشد عنفاً من تلك التي طُبقت بعد أزمة جزر القرم في عام 2014؛ وهو ما حدث بالفعل ولم تكفِ العقوبات المشددة في الردع أو عدم تصعيد العمليات العسكرية. ولم تكن هذه حالة استثنائية لعجز العقوبات عن تحقيق أهدافها الأمنية أو العسكرية بمنع الحرب، فيذكر محلل السياسات الدولية جوشوا كيتينغ أن سجل العقوبات به خليط من الإخفاق والنجاح، وهي إلى الإخفاق أقرب حيث لم تحقق نجاحاً إلا في 33% من الحالات.
ويُرجع المؤرخون أول استخدام للعقوبات إلى عهود الإغريق، إذ أشار لها المؤرخ اليوناني القديم ثوكيديدس في فرض أثينا حظراً على تجارة مدينة ميجارا في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما رجع إليه المؤرخ الأميركي نيكولاس مدلر في كتابه الصادر قبل حرب أوكرانيا بأسابيع تحت عنوان «السلاح الاقتصادي وزيادة استخدام العقوبات كأداة في الحروب الحديثة». ويفرق مدلر بين العقوبات الحديثة وتلك القديمة بأنها، كما حدث في أثناء الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستند إلى القانون الدولي وأعرافه وكثيراً ما استخدمتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم – الكيان الأممي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأنهته فعلياً الحرب العالمية الثانية. ووصف الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العقوبات الاقتصادية المضمَّنة في المادة السادسة عشرة من اتفاق عصبة الأمم بأنها من شأنها «أن تسبّب ضغوطاً تفوق قدرة أي دولة حديثة على تحملها».
ونجحت هذه العقوبات في بعض الحالات مثل إنهائها الغزو اليوناني للأراضي البلغارية في العشرينات من القرن الماضي. ولكنها فشلت في منع القوات الفاشية بقيادة موسيليني من غزو إثيوبيا في الثلاثينات، بل جعلته يتقرب من ألمانيا بقيادة حاكمها النازي هتلر. ومع فشل العقوبات الاقتصادية في ردع موسوليني، فما عساها تفعل قبال هتلر وأطماعه الأوروبية أو لتحجيم اليابان بمنعها في الاستمرار في غزو الصين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية فلم يكن أمام التحالف إلا الإذعان لما يحدث من عدوان أو إعلان الحرب، وهو ما كان في نهاية الأمر بما خلفته من ضحايا ودمار.
ويحدد المؤرخ الشهير بول كينيدي، مستعيناً بكتاب السلاح الاقتصادي، ثلاثة دروس تزداد فيها احتمالات فاعلية العقوبات: 1) ألا تكون ناعمة كأنها تُظهر مجرد عدم رضا عن الفعل، بل يجب أن تكون مُنزلة لألم شديد بالخصم. 2) أن تكون ذات ستار حديدي خالٍ من الثغرات التجارية والمالية وبلا أي استثناءات. 3) ألا يتمتع الخصم خلالها بسند من قوة أو قوى اقتصادية تمده بما يحتاج. ولهذا نجحت العقوبات الاقتصادية تاريخياً في حالات التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الهشة أو شديدة الانكشاف الاقتصادي باعتمادها على الخارج. ولكن الدول ذات الاقتصادات الأكبر لن يلحقها الأذى إلا وقد مس خصومها أذى مثله. وهو ما حذّر بوتين بايدن من حدوثه في لقائهما الافتراضي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر الفيديو بأن إقناع الأوروبيين بعدم الإسهام في خط غاز «نورد ستريم الثاني» لا يخيفه بل سيؤذي حلفاء أميركا.
ويبدو أن الاستخدام المعاصر للعقوبات الاقتصادية، بوصفها أدوات أنعم من العتاد الحربي، جعل الخطوط الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم مبهمة باستخدام متكرر لأدوات من شأنها إلحاق دمار بالإمكانيات والأنشطة الاقتصادية، بل بحياة الناس أنفسهم، في وقت قد يعرف اسماً بالسلم لغياب حرب تقليدية معلنة.
كثيراً ما يترتب على القرارات بما في ذلك إجراءات العقوبات الاقتصادية في حالتنا هذه نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وقد أشرت من قبل على صفحات هذه الجريدة الغراء إلى أنه في أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن عدّه مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجماً وضرراً ما كان مستهدفاً منها.
ويذكر روبرت مرتون، الباحث في علم الاجتماع، في مقال نشره عام 1936 خمسة أسباب للوقوع في فخ النتائج غير المقصودة للقرارات:
1) الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور في البيانات والمعلومات أو لضعف القدرة على التحليل.
2) الخطأ في المعالجة لنقصٍ في الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار.
3) الاستناد إلى بعض المثل والمبادئ الأساسية التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها في إطار من التوازن والاعتدال.
4) الرغبة الملحّة في تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمداً عن أي آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح وكأنه قد قرر تجاهل أي أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره.
ومما لم تتناوله الحوارات مع إرهاصات الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، الأثر على الأطراف الثالثة أو ما يشبه إبان الأزمات الكبرى الأبرياء المتفرجين على سباق محتدم بين متصارعين رُعُن، فيطولهم الأذى بما يطيش من سلاحهم دون اكتراث. أما الأبرياء المقصودون هنا فهم أهل الدول النامية، وفي مقدمتها دول عربية وأفريقية، فقد ساء تقدير أثر قيام حرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين لا يتجاوز إسهامهما في الاقتصاد العالمي 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة في قطاعات الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة فضلاً عن تأثيرهما في السياحة الدولية. وتأتي هذه الحرب بمربكاتها مع وضع اقتصادي عالمي هش يعاني أصلاً، بسبب الجائحة وتداعياتها، من تراجع في معدلات النمو والتشغيل وزيادات في التضخم لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود وديون خارجية تعتلي موجاتها بمخاطرها ما سبق من موجات انتهت كل واحدة منها بأزمة عالمية مشهودة.
– آثار ممتدة لتسليح أدوات الاقتصاد وتلغيم قنواته
ورغم أن العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك الموصوف منها بالذكاء، لم تحقق أهدافها المعلنة بكفاءة ما زال هناك من ينادي بها مثلما فعل الديمقراطيون في الكونغرس الأميركي بمطالبتهم بفرض عقوبات اقتصادية ضد الكيانات التي تهدد المناخ، أو ما كان من مطالبة باستخدام عقوبات دولية ضد من يحجب معلومات عمّا يهدد الصحة العالمية كالأوبئة. ويجعل مثل هذا التخوف من احتمالات استخدام عقوبات اقتصادية خطراً متزايداً، بما يضطر المسؤولين في دول مختلفة إلى اللجوء إلى بدائل، سواء لتحويل الأموال، وهو ما يجري فعلاً في الصين من خلال نظامها للتحويل المصرفي عبر الحدود والذي تطور منذ أزمة القرم بمنع روسيا من استخدام نظام «سويفت»؛ وكذلك إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار بعيداً عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية.
هذا فضلاً عن البحث كذلك عن عملات دولية بديلة للدولار الأميركي، فرغم انخفاض نسبته في الاحتياطيات الدولية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 60% حالياً، فما زال الدولار يحظى -حتى الآن- بما وصفه الرئيس الفرنسي ديستان بـ«امتياز سخي» كعملة دولية يتمتع مصدرها بأن يشارك في سداد ديونه كل من يحمل عملته. ولكنْ هناك آثار على النظام النقدي الدولي من خلال التوسع في العملات الرقمية للبنوك المركزية بما في ذلك من الصين كـأكبر دولة نصيباً في التجارة العالمية، ومع حالة الاستقطاب الدولي بين نظامين في الشرق والغرب، تزداد الآراء المرجحة لتراجع هيمنة الاقتصاد الأميركي ومن ثم عملته خاصة، بما جعل زانغ يانلينغ، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لبنك الصين، تقول لمستمعيها في محاضرة، أشارت إليها صحيفة «الفاينانشيال تايمز» في تحقيق عن مستقبل الدولار الشهر الماضي، إن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية الدولار في الأجل الطويل، وتبشر مستمعيها بالبزوغ الدولي للعملة الصينية اليوان وبأن «الصين ستساعد العالم في التخلص من الهيمنة الدولارية أقرب من المتوقع». أي إنه بعد عهد من «الدولرة» قد يأتي عهد «اليوننة»، نسبةً إلى اليوان!
عادةً ما يستمر وصف الترتيبات النقدية والمالية المعمول بها بأنها تخدم المتعاملين بها والمستفيدين منها على نحو جيد، حتى يتم استبدالها! فتحل محلها ترتيبات جديدة تتوافق مع المستجدات في عالم شديد التغير.

د. محمود محيي الدين

بريطانيا وحسابات الضرائب الاستثنائية

انتهى الأسبوع بأخبار اقتصادية مزعجة؛ بنك إنجلترا (البنك المركزي الذي يحدد السياسات المالية وهو مستقل القرار عن الحكومة منذ 1997) رفع الفائدة للمرة الثالثة على التوالي، لتصل إلى أربعة أضعاف نسبتها (واحد في المائة بعد أن كانت ربعاً من الواحد في المائة قبل ستة أشهر)، كذلك البنك الفيدرالي الأميركي رفع الفائدة بنصف في المائة (ضعفا بنك إنجلترا).
البنوك المركزية تحاول استخدام سعر الفائدة أداة، إما لدعم النمو الاقتصادي (معدلات فائدة منخفضة تحفز على الاقتراض للاستثمار في مشاريع وخلق وظائف، بدلاً من الادخار لانخفاض نسبة العائد)؛ أو للحد من معدلات التضخم (ارتفاع الفائدة يؤدي لعكس المعادلة أعلاه، إذ يفضل الناس الادخار، وتقلل من الإنفاق على السلع والخدمات وزيادة عرض المنتجات على الطلب يخفض الأسعار). توظيف سعر الفائدة هو الوسيلة المجربة لعقود طويلة بالنسبة لأي سوق داخلية (في مجتمعات السوق الرأسمالية الحرة المفتوحة).
أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، حذر في المؤتمر الصحافي للإعلان عن أسعار الفائدة، من أن الاقتصاد يمر بمرحلة صعبة، وأن المواطنين يعانون من ارتفاع الأسعار وقلة الدخل، مع توقعه أن تصل معدلات التضخم إلى عشرة في المائة، وهي الأعلى منذ ثمانينات القرن الماضي.
وبعكس الثمانينات، لا توجد حالة بطالة، بل نقص الأيدي العاملة، والإنتاجية أكثر ارتفاعاً، لأن أسباب التضخم اليوم ليست من السوق الداخلية في أي بلد رأسمالي، وإنما أسباب خارجية عالمية أساسها ارتفاع أسعار الطاقة، وبدورها تؤدي إلى رفع تكلفة المنتجات والخدمات، سواء في تشغيل المصانع أو نقل البضائع، وازادت الأزمة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والحصار الاقتصادي على الأولى، وبدورها أثرت على واردات الطاقة، وأيضاً صادرات الحبوب والمنتجات الزراعية من أوكرانيا إلى العالم، مما رفع أسعارها، وهي عوامل لا يعتقد كثير من خبراء المال والاقتصاد أن الأداة المجربة، أي سعر الفائدة، ستكون فعالة في التأثير عليها.
في الأسبوع نفسه بلغت أرباح شركة البترول البريطاني في الربع الأول من هذا العام ستة مليارات ومائتي مليون دولار، أما شركة «شل» الشهيرة فقد بلغت أرباحها في الفترة نفسه رقماً قياسياً تجاوز تسعة مليارات ومائة مليون دولار.
حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون (التي تلقت صفعات وركلات انتخابية موجعة في الانتخابات البلدية المحلية يوم الخميس) تواجه خيارات اقتصادية صعبة، وملايين من الناخبين ينخفض مستواهم المعيشي والمالي. ارتفعت النداءات من المعارضة العمالية، والصحافة وشبكات البث (أغلبها يسارية ليبرالية) ومن أحزاب المعارضة؛ الديمقراطيون الليبراليون، والخضر، والقوميون الاسكوتلنديون، بفرض ضريبة استثنائية على شركات الطاقة الكبرى، خصوصاً «شل»، والبترول البريطاني. ضريبة بنسبة ما بين عشرين إلى أربعين في المائة على الأرباح، وهو ما قد يزود الخزانة البريطانية بما بين خمسة وسبعة مليارات دولار، تطالب المعارضة بأن تستخدمها الخزانة لدعم فواتير الطاقة المنزلية لمحدودي الدخل والفقراء.
حكومة المحافظين بزعامة جونسون، ترفض الفكرة شكلاً وموضوعاً.
فهي ليست فقط سيئة من الناحية السياسيةـ بل إنها غالباً ما ستكون مخربة للنمو والتطور الاقتصادي، وتخلق مشكلات للمسؤولين عن تخطيط السياسة المالية وتحديد المعدلات الضرائبية لميزانيات السنوات المقبلة.
الضريبة الاستثنائية، تعرف بـ«windfall tax» (ضريبة على أرباح أتت بها رياح مواتية)؛ أي أن الدخل أو الربح نفسه استثنائي ولم يكن متوقعاً. وإذا افترضنا الحد الأقصى من الدخل من الضريبة، أي سبعة مليارات دولار، ماذا ستفعل بها الخزانة البريطانية؟
هل تستخدمها لتخفيض الضرائب؟
دخل مصلحة الضرائب البريطانية في السنة المالية المنتهية في الخامس من الشهر الماضي كان 718 ملياراً و200 مليون جنيه (890 مليار دولار)، أي أن الدخل من الضريبة الاستثنائية سيضيف أقل من 0.008 في المائة من دخل الخزانة. فماذا ستكون نسبة التخفيض الضرائبي لمعلم أو ممرضة من متوسط مرتب سنوي ثلاثين ألف جنيه سنوياً؟ بعد حساب الإعفاءات والاستثناءات سيكون حوالي ستة جنيهات شهرياً.
وماذا عن العام المقبل والأعوام التي تليه؟ كيف ستخطط وزارة المالية لسياستها بلا ضمان «لرياح مواتية» تهبط على مؤسسات أخرى بثروة تفرض عليها ضرائب؟
أم هل تخصص وزارة المالية دخل الضريبة الاستثنائية منحةً تصرف للأسر التي تواجه «فقر الطاقة» مثلما تطالب المعارضة والتيارات اليسارية والاشتراكية؟
دراسة معهد «ريزليوشن فونديشن» (خزانة تفكير لبحوث خطط لتحسين أحوال محدودي الدخل) في الشهر الماضي توقعت أن يتجاوز عدد الأسر التي تواجه «فقر الطاقة» خمسة ملايين منزل، يواجهون زيادة في فواتير الطاقة ما بين سبعمائة و1101 جنيه في العام، إذا ظلت أسعار الغاز على ما هي عليه.
لو وزعت وزارة المالية كل دخل الضريبة الاستثنائية على بيوت فقراء الطاقة، سيكون نصيب الأسرة حوالي مائة جنيه من الفاتورة السنوية التي تتجاوز في المتوسط ألفين من الجنيهات (مائة وستون جنيهاً شهرياً). ماذا عن بقية أشهر السنة؟
وهنا يحضرنا القول الصيني الشهير «اعط رجلاً سمكة تكفه وجبة عشاء، علمه الصيد تطعمه مدى الحياة».
معلقون وخبراء اقتصاد حرية السوق والاستثمار الرأسمالي يدعمون وزير الصناعة والأعمال والطاقة، غريغ هيندز، في محاولته إقناع الشركتين الكبيرتين، «شل»، و«البترول البريطاني»، باستخدام الأرباح غير المتوقعة في الاستثمار في التنقيب عن حقول غاز وبترول جديدة في بحر الشمال. وكان التنقيب واكتشاف مزيد من الغاز متوقفين منذ سنوات بسبب الحملة الهستيرية التي يشنها الخضر والبيئيون في مظاهرات ضد منشآت مقاولي التنقيب. مستشارو وزارة الصناعة والطاقة ينسقون مع الشركتين للتخطيط لتوجيه جزء من الأرباح للاستثمار في مشاريع توليد الطاقة الخضراء، وكلا النشاطين سيخلق عشرات الآلاف من الوظائف، ويؤدي لرواج اقتصادي في مناطق مستواها الاقتصادي متدنٍ.
أسعار أسهم الشركتين ارتفعت في البورصات؛ والاشتراكيون يتعمدون عدم ذكر أن حملة الأسهم لهذه الشركات أغلبها صناديق استثمار لمعاشات الاتحادات العمالية ومؤسسات ترعى الأرامل، أو مؤسسات تأمين صحي وتعاونيات.
جونسون ووزراؤه يخشون أن تشكل الضريبة الاستثنائية سابقة، وبالتالي تفزع المستثمر. شركتا البترول، «شل»، و«البريطانية»، بينهما يوظفان قرابة أربعين ألفاً مباشرة و185 ألفاً في أعمال تعتمد على المباشرين، وينفقان ثمانية عشرين مليار دولار سنوياً في بريطانيا، والخوف من ضرائب لم يخطط لها قد تدفع الاستثمارات الكبرى لتجنب بريطانيا.

عادل درويش

الأفراد والشركات والاقتصادات والبلاد محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية للإستمرار

الإقتصادات العالمية تغيّرت بعد الحرب العالمية الثالثة، ضدّ الوباء ولا سيما جائحة «كوفيد-19». فلم يُبلسم العالم بعد جروحاته إزاء التغيّرات الكبرى التي واجهت الشعوب والشركات والاقتصادات. إذ فوجئنا بحرب عالمية رابعة باردة ناجمة عن الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، والتي سيكون لها أبعاد وتغيّرات اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية هائلة.

إنّ هذه التغيّرات الكبرى التي ستحصل في العالم ككل سيكون لها تأثير مباشر، على الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان. لذا إنّ المجتمعات اليوم محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية في معرفتها، وخبراتها، وأفكارها وابداعاتها وابتكاراتها، وحتى في طريقة عملها واستراتيجياتها وخططها. فنقاط القوة التي كانت تملكها لم تعد صالحة، لمواجهة هذه الأزمة الراهنة. فكل فرد، أكان طالباً أو ريادياً، أم رجلاً أو سيدة أعمال، أو موظفاً، بات محكوماً بمراجعة مسيرته وإعادة بناء ذاته من جديد، في ظل هذه الانقلابات الكبرى.

 

أما الشركات الخاصة في كل دول العالم فباتت محكومة أيضاً بإعادة الهيكلية الداخلية، لمتابعة مسيرتها وتمويل وتطوير أعمالها، وتنويع سلعها، وأسواقها، وتغيير رؤيتها وإستراتيجياتها. فلم يعد ممكناً أن تتكل هذه الشركات القائمة على أمجادها الماضية وقدرتها وتقدّمها السابق، والتي لم تعد صالحة في هذا العالم الإقتصادي الجديد. فكل المؤسسات اليوم محكومة بتغيير مسيرتها ونظرتها وخططها، لتتماشى مع هذا التغيير، للتطوير والإنماء من جديد على أسس حديثة.

 

أما الإقتصادات، فهي أيضاً تحت المجهر، وفي عين العاصفة، ومجبرة على إعادة الهيكلية الداخلية والخارجية لمواجهة هذا التسونامي العالمي. فعليها إعادة النظر في كل الاتفاقات الدولية السابقة، أكانت تجارية أو صحية، أو مالية، أو نقدية، وحتى سياسية وأمنية وثقافية. فيوماً بعد يوم تتغيّر أسس التبادل التجاري، وسلاسل التوريد، حول الكرة الأرضية. فالاقتصادات محكومة بتغيير نهجها وإستراتيجياتها حيال ارتفاع أسعار النفط، وكل المشتقات النفطية، لذا عليها إعادة النظر في تمويل اقتصاداتها وتمويل سيولتها التشغيلية.

 

أما البلدان والسياسات فهي أيضاً محكومة بإعادة النظر في استراتيجياتها ونظرتها ورؤيتها وحتى في تحالفاتها، لمواجهة هذه التغيّرات القائمة. فمن بعد مواجهة جائحة كورونا وتوقيف عقارب الكرة الأرضية لنحو سنتين، إستيقظت على حرب جديدة وتضخّم مخيف، وارتفاع في كلفتها التشغيلية، لذا عليها مواجهتها على كل الأصعدة، وعلى جبهات عدة، أكانت صحية، أو اقتصادية، أو تجارية أو صناعية، أو معيشية. فكل مؤسساتها وقطاعاتها في ظلّ العاصفة محكومة بإعادة الهيكلية، لمتابعة أعمالها.

 

في الخلاصة، شئنا أم أبينا، إنّ التغيير حاصل، ولا نستطيع مواجهته، لكن علينا أن نتماشى معه، ونستخرج الأفضل عوضاً عن التمسّك بالماضي، والترحّم على الأمجاد. لذا نكرّر ونشدّد على أنّ الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان، باتت محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية وإعادة النظر في رؤيتها وإستراتيجياتها، لاحتضان هذا التغيير، واستخراج الأفضل منه.

د. فؤاد زمكحل

{الخزانة} الأميركية والنفط الروسي

حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يللين، الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين، من حظر تام للنفط والغاز الروسيين. وقد صرحت يللين بذلك للإعلاميين في واشنطن يوم الخميس المصادف 21 أبريل (نيسان)، وذكرت أن هناك نتائج غير محسوبة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من الحظر الشامل، بحسب دورية «أويل برايس».
أضافت يللين أن الحظر الشامل له مضار أكثر من الفوائد. إذ، كما ذكرت، أن أوروبا بحاجة إلى تقليص اعتمادها على استيراد النفط والغاز الروسي، الأمر الذي سيقلص من الريع البترولي لروسيا، لكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى «حرمان السوق الأوروبية من كثير من إمدادات الطاقة التي هي بحاجة ماسة إليها».
تأتي تصريحات وزيرة الخزانة الأميركية بعد بيان صدر للمؤسسة المالية الأميركية «جي بي مورغان»، الذي أشار فيه إلى أن مقاطعة النفط الروسي ستؤدي إلى حرمان أوروبا لأكثر من 4 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، ما سيرفع أسعار النفط الخام إلى نحو 185 دولاراً للبرميل.
من الجدير بالذكر، أن الإمدادات النفطية الروسية للولايات المتحدة ضئيلة جداً ولا تشكل إلا نسبة قليلة جداً من مجمل واردات النفط الأميركية.
وتعقد الولايات المتحدة وأوروبا محادثات منذ اندلاع حرب أوكرانيا في أواخر شهر فبراير (شباط) الماضي، حول مقاطعة النفط الخام الروسي. لكن هناك تبايناً في الآراء ما بين الطرفين وضمن أعضاء السوق الأوروبية، بالذات ألمانيا. وحتى لو قررت دول السوق المقاطعة، فإن الأقطار الأعضاء بحاجة إلى أشهر من المفاوضات للتفاوض مع الدول المنتجة للوصول إلى قرار نهائي، بحسب تصريحات لمسؤولين أوروبين، الذين أضافوا أن السوق الأوروبية تفاوض حالياً دولاً منتجة أخرى للحصول على بدائل غير نفطية للطاقة، وذلك محاولة منها لفك الاعتماد على النفط الروسي.
هذا، وتتزامن هذه التصريحات مع قرار الأسبوع الماضي، لشركة «غازبروم»، بإيقاف الصادرات النفطية الروسية لكل من بولندا وبلغاريا.
واعترفت يللين بأن مقاطعة أوروبية للنفط الروسي ستزيد من أسعار النفط عالمياً، «ما سيؤدي بدوره إلى ترك آثار سلبية محدودة على الاقتصاد الروسي. لأنه بينما ستصدر روسيا نفطاً أقل، فإن ريعها من كل برميل سيكون أعلى». من جانبها، تعاني الحكومة الأميركية من الشكاوى بارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة، نتيجة ارتفاع أسعار النفط الخام منذ فصل الخريف الماضي.

وليد خدوري