أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الغاز الطبيعي: التطورات الجيوسياسية والأسواق

 

 

هيمنت الخلافات الجيوسياسية الراهنة ما بين روسيا والأقطار الأوروبية على تجارة الغاز الطبيعي، حيث تزود روسيا أغلبية واردات أوروبا من الغاز، الذي يشكل بدوره المصدر الرئيسي للطاقة في أوروبا. وقد خفضت روسيا في أواخر 2021 كميات الإمدادات الغازية إلى أوروبا إلى أدنى مستوى لها منذ أوائل 2020؛ مما أدى إلى نقص حاد في الإمدادات في نفس وقت ازدياد الطلب الأوروبي على الغاز بسبب البرد القارص لفصل الشتاء والحاجة إلى التدفئة.
بدأت أول ملامح الخلاف بانخفاض الصادرات الغازية الروسية عبر أوكرانيا نحو 25 في المائة خلال عام 2021، فسجلت 41.6 مليار طن متري. تعددت الأسباب لهذا الانخفاض للإمدادات عبر أوكرانيا. فمن ناحية، تدهورت العلاقات ما بين كييف وموسكو بعد الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم في 2014 ومن ثم نشوب المعارك في شرق أوكرانيا. وتستفيد أوكرانيا عادة بنحو ملياري دولار سنوياً من تجارة الترانزيت عبر أراضيها للغاز الروسي. لذا؛ فإن تخفيض الإمدادات له انعكاسات سلبية على الاقتصاد الأوكراني، ناهيك عن شح إمدادات الغاز.
من جهتها، اتهمت كييف موسكو بتخفيض الإمدادات لزيادة أسعار الغاز في أوروبا وللضغط على الأقطار الأوروبية للموافقة على شبكة أنابيب غازية جديدة تتفادى أوكرانيا، بالذات خط «نورد ستريم – 2».
وتقول روسيا في المقابل، إنها تمد أوروبا بحسب العقود بينهما، وإن أي نقص في الإمدادات الغازية في أوروبا يعود إلى السياسات الأوروبية نفسها. واتهم الرئيس بوتين في حديث له ألمانيا بإعادة بيع الغاز إلى أوكرانيا وبولندا.
هناك مشكلة كبرى أخرى تحيط بالخلافات القائمة. فقد شيدت روسيا خط «نورد ستريم – 2» البحري إلى ألمانيا والذي يمتد مباشرة بين البلدين عبر بحر البلطيق متفادياً الترانزيت عبر أقطار أوروبية. وبلغت كلفة تشييد الخط 11 مليار دولار، وأصبح جاهزاً للتصدير في سبتمبر (أيلول) الماضي وتديره شركة «غازبروم». وقد شاركت الشركات والمؤسسات الأوروبية التالية بدفع نصف نفقات الخط: «ونترشال وينيبور» الألمانية، و«شل»، و«أو إم في» النمساوية و«إينجي». وتطالب موسكو بعقود طويلة الأجل لشراء الغاز، بينما عرضت الشركات الأوروبية شراء الغاز بعقود فورية أو قصيرة المدى… الأمر الذي اعتبرته موسكو غير ذي جدوى اقتصادياً لها.
هناك أيضاً خلاف جديد – قديم. فقد عارضت الولايات المتحدة خط «نورد ستريم – 2» محذّرة من زيادة اعتماد أوروبا على واردات الغاز الروسي. وقد عارضت الولايات المتحدة بشدة أيضاً في منتصف عقد الثمانينات تشييد خطوط الغاز الضخمة من روسيا إلى أوروبا. لكن، هناك عامل جديد الآن، ألا وهو الإمكانيات الواسعة المتوفرة لتصدير الغاز المسال الأميركي إلى الأسواق الأوروبية. وقد زادت الولايات المتحدة من طاقتها التصديرية للغاز المسال لتصبح الآن ضمن مجموعة أكبر ثلاث دول مصدرة في هذا المضمار (أستراليا وقطر والولايات المتحدة). وتخشى روسيا من منافسة قوية وخسارة لحصتها في الأسواق الأوروبية وللمعادلات السعرية التي ممكن التوصل إليها بين الشركات الأميركية والأوروبية.
طرأت تغيرات مهمة في مجال العرض والطلب العالمي على الغاز المسال منذ 2021. مثلاً، أصبحت الصين أكبر مستورد عالمياً، بينما استطاعت الولايات المتحدة زيادة صادراتها لتأخذ مركزاً مرموقاً مع نهاية 2022 لتصبح من كبار الدول المصدرة للغاز المسال، حيث تتجه معظم صادراتها إلى أوروبا والبرازيل والأرجنتين.
وتعكس هذه المتغيرات في مجال تصدير الغاز المسال ديناميكية الصناعة من حيث التقدم الكبير في تكنولوجيتها باستعمال الناقلات الضخمة وتشييد مصانع التسييل الضخمة؛ مما يقلص من النفقات. كما أن استعمال العقود القصيرة الاجل والفورية بدلاً من العقود الطويلة الأجل التي تمتد إلى نحو عقدين من الزمن دون تغيير أعطى المرونة الكافية في التسويق التي كانت غير متواجدة سابقاً.
كما ازداد الطلب على الغاز الطبيعي مع محاولات دول عدة تقليص استهلاكها للفحم في توليد الكهرباء للتقيد باتفاقية باريس 2015، وبتنافسية أسعار الغاز مع الفحم. ومما قد يزيد من الطلب على الغاز مستقبلاً أيضاً توصيات المفوضية الأوروبية للأقطار الأوروبية اعتبار الغاز وقوداً «انتقالياً» يمكن استخدامه في تحول الطاقة.
بلغت احتياطات الغاز في الدول العربية في 2020 نحو 54.4 ترليون متر مكعب، بحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021 الصادر عن صندوق النقد العربي. وتوقع التقرير أن يستحوذ الغاز على حصة تبلغ 49.7 في المائة من مزيج مصادر الطاقة الأولية المستهلكة في الدول العربية حتى عام 2040، بينما ستبلغ حصة النفط 44.9 في المائة، وتليها الطاقات المتجددة بحصة 3.9 في المائة، والطاقة النووية بحصة 1.3 في المائة، والفحم بحصة 0.2 في المائة. هذا، ويستهلك معظم الغاز في محطات توليد الكهرباء.

وليد خدوري

مستقبل التعدين

 

«ما لا يمكن زراعته، يجب تعدينه»، مقولة شهيرة في قطاع التعدين توضح الدور الذي يقوم به هذا القطاع في عالمنا اليوم بصفته مورد المواد الأساسية المستخدمة في جميع جوانب الحياة. ولا يمكن للعالم العيش دون تعدين، ويمكن النظر في دور هذا القطاع في توفير الحديد للسيارات والمنشآت، والمساكن، والمنتجات الاستهلاكية، وغيرها. ولإعطاء فكرة بسيطة عن مساهمة هذا القطاع في بعض الصناعات، فقد أصدر معهد المعلومات المعدنية الأميركي تقريرا يوضح أن الهواتف الذكية التالفة في الولايات المتحدة، وعددها 130 مليون هاتف، تحتوي على ما يقرب 2100 طن من النحاس، و46 طنا من الفضة، ونحو 4 أطنان من الذهب، فإذا كانت هذه النسبة في المنتجات التالفة من قطاع واحد في دولة واحدة، فماذا عن بقية القطاعات في العالم بأسره؟
والتعدين أحد المحركات الاقتصادية العالمية، فصناعة التعدين مسؤولة عن تحريك تريليون دولار سنويا، وتعتمد أكثر من 70 دولة في العالم على قطاع التعدين بشكل أساسي، كما يمثل التعدين ما بين 60 إلى 90 في المائة من الاستثمار الأجنبي في الدول ذات الدخل المنخفض. وقد شهد التعدين ثورة خلال العقدين الأخيرين، مدفوعا بالطلب العالمي، وقد كان لنمو الصين دور مهم في زيادة الطلب على المعادن. ويسهم التعدين في زيادة الإيرادات المباشرة من الضرائب والصادرات، كما يسهم في توفير فرص العمل وتطوير البنية التحتية خاصة في المناطق الريفية والطرفية، وقد ساهم بشكل فعال في نقل التقنية إلى الدول ذات الموارد الطبيعية الغنية من خلال الشركات الأجنبية المستثمرة.
وخلال الأسبوع الماضي أطلقت وزارة الصناعة والثروة المعدنية في السعودية مؤتمر التعدين الدولي الذي يهدف إلى إبراز دور المملكة ورؤيتها في هذا القطاع الاستراتيجي. وتعد السعودية إحدى الدول الغنية بالموارد المعدنية غير المستغلة حتى الآن، فبينما يقدر مخزون المملكة من المعادن بنحو 1.3 تريليون دولار، لا تزيد مساهمة هذا القطاع على 17 مليار دولار سنويا، وهو ما جعل المملكة تضع نصب عينيها هذا القطاع بصفته أحد القطاعات الواعدة الممكن استثمارها لتحقيق التنوع الاقتصادي الذي تهدف إليه. وبحسب وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي، فإن المملكة تهدف إلى أن تصل مساهمة هذا القطاع إلى 64 مليار دولار سنويا بحلول عام 2030، أي ما يقل بقليل عن أربعة أضعاف الرقم الحالي.
وهذا الهدف ليس مبالغا فيه بحسب التجارب الدولية، فعلى سبيل المثال، بلغت الاستثمارات في قطاع التعدين في الأرجنتين نحو 56 مليون دولار عام 1995، وارتفع هذا الرقم بحلول 2008 ليصل إلى 2.4 مليار دولار (أي أكثر من أربعين ضعفا)، ونمت الصادرات الأرجنتينية من المعادن بنسبة 275 في المائة خلال هذه الفترة. وفي التسعينات الميلادية، لم تزد استثمارات التعدين في دولة تنزانيا على 10 ملايين دولار سنويا، لتصل إلى أكثر من 50 مليونا سنويا خلال أقل من 10 أعوام. وفي منغوليا، وهي إحدى الدول التي تعتمد بشكل كبير على التعدين، زادت صادرات التعدين من 260 مليون دولار عام 2000 إلى 2.3 مليار عام 2010، ونمت مساهمة هذا القطاع في الناتج القومي من 7.8 في المائة إلى 25 في المائة. والتعدين ليس مهما للدول النامية أو منخفضة الدخل فحسب، بل هو قطاع رئيسي في دول مثل أستراليا وكندا، ففي الأولى يشكل القطاع نحو 15 في المائة من الناتج القومي ويوظف أكثر من 10 في المائة من القوى العاملة في البلد، وفي كندا يشكل هذا القطاع نحو 5 في المائة من الناتج القومي.
وللتعدين دور إيجابي على التنمية البشرية بحسب العديد من الدراسات، وأوضحت إحدى الدراسات أن الدول ذات الموارد المعدنية الثرية هي الأكثر تحسنا في مؤشر التنمية البشرية مقارنة بغيرها من الدول، فكانت تشيلي – وهي أكبر مصدر للمعادن في أميركا الجنوبية – الأسرع نموا خلال العشرين عاما الماضية وحصلت على أفضل ترتيب في مؤشر التنمية البشرية. كما تحسن ترتيب بوتسوانا – وهي من الدول الأكثر اعتمادا على المعادن في أفريقيا – بشكل واضح في ذات المؤشر.
ويمكن القول إن مستقبل العالم يعتمد بشكل جوهري على الاستثمار في التعدين، فالعديد من الصناعات الحالية والتوجهات المستقبلية تعتمد على أداء التعدين. ولعل قطاع الطاقة هو أحد أهم المراهنين على التعدين، فالطلب على المعادن من قطاع الطاقة لوحدة قد يتضاعف 6 مرات خلال العشرين سنة القادمة، فجميع مشاريع الطاقة النظيفة ترتكز على المعادن. كما أن النمو السكاني خلال الأعوام القادمة سيزيد الطلب على مواد البناء الأساسية من حديد وإسمنت ونحاس وغيرها. ولذلك فإن العديد من الدول اليوم – أيا كانت اعتباراتها البيئية – تحرص على زيادة استثماراتها وتحسين عملياتها الصناعية في هذا القطاع، وهو ما حرصت عليه السعودية منذ إطلاق رؤيتها المستقبلية.

د. عبد الله الردادي

عن التوقعات وعودة التضخم ومصير الفقاعات

قلَّما تقرأ استشرافاً أو توقعاً عن تطورات الاقتصاد العالمي في بداية هذا العام من دون كلمات رقيقة تنبّه القارئ أن كاتبها قد رغب في أن يكون أكثر تفاؤلاً، ولكن مسارات الاقتصاد ما زالت عصية على سالكيها.
على أي حال لا يملك المستشرفون والمتوقعون بلورات مسحورة تطلعهم على مستقبل المتغيرات الاقتصادية أو ما يؤثر فيها ويتأثر بها من مستجدات سياسية وعوامل اجتماعية، فمنهم من يعتمد على نماذج قياسية معقدة، أو بسيطة، للتنبؤ، ومنهم من يستمزج اتجاهات الرأي العام وتقارير الخبراء المختصين ليخلص إلى توقعه.
القضية هنا، أنه إذا كان «الحكم على الأمر فرع من تصوره» كما يقال، فإن هذا التصور مقيد بحدود المعرفة والبيانات المتاحة والقدرة العلمية على تحليلها. وفي الظواهر الاجتماعية، وفي مقدمتها الاقتصادية، يصعب الفصل بين الموضوع محل التحليل من ناحية وانحيازات المحللين الفكرية وانتماءاتهم الآيديولوجية، بل وتمنياتهم الشخصية. المشكلة تظل في حالة الاقتصاد أن التوقعات لها دور في تشكيل الظاهرة ومساراتها. وأبرز مثال على أثر التوقعات في الاقتصاد هو ما يرتبط منها بالتضخم.
ومن المدارس الاقتصادية ما يعدّ المحدد الرئيسي للتغيرات في الأسعار هو توقعات عموم الناس كمستهلكين ومستثمرين ومدخرين، بمعنى أن تقلبات الأسعار ترجع لعوامل نفسية يصعب قياسها كمياً أو التنبؤ بها. ويتفق أنصار هذه المدرسة على أن زيادة عرض النقود بكمية لا تتناسب مع العرض الحقيقي للسلع والخدمات المنتجة تؤدي حتماً إلى زيادة في المستوى العام للأسعار. فإذا كان هناك علم لدى عموم الناس بزيادة في عرض النقود بما يتجاوز الناتج، فسوف يستخدمون هذه المعلومة لتغيير سلوكهم بما يتواءم مع التغير في مستويات الأسعار المتوقعة. معنى هذا ببساطة أن ما يتوقعه الناس لمسار التضخم سيحدث لأنهم يسببون حدوثه وهم شركاء بتوقعاتهم هذه في صنعه.
هناك آراء ونماذج متعددة تدرس أثر التوقعات على الأداء الاقتصادي، وقد حصل الاقتصادي الأميركي روبرت لوكاس على جائزة نوبل في الاقتصاد لأعماله التي طورت نماذج اعتمدت على فروض التوقعات الرشيدة. ويعتبر لوكاس من أكثر الاقتصاديين تأثيراً في الربع الأخير من القرن الماضي، بما قام به من دراسات غيرت من طبيعة التحليل الاقتصادي، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين التضخم والبطالة، وفقاً لما ذكرته لجنة جائزة نوبل لعام 1995 كحيثية لحصوله على هذه الجائزة المرموقة. ولعلنا نتذكر في هذا الصدد مقولة تتردد في المحافل الأكاديمية مفادها «أنه وفقاً للنظرية لا يوجد فرق بين النظرية والتطبيق، ولكن في التطبيق هناك فرق!». ورغم الجدل حول مدى انطباق فكرة التوقعات الرشيدة في الواقع العملي، وما تحتاج إليه من بيانات ومعلومات يجب توفيرها لكي يتوصل الناس لتوقعاتهم، وإذا ما كانت في النهاية رشيدة فعلاً أم لا، فإن مسألة التوقعات حيال معدل التضخم وتأثيرها في مساراتها المستقبلية مسألة حيوية في أعمال البنوك المركزية وإدارتها للسياسة النقدية.
وقد ارتفعت معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا عن المستهدف، الذي كان لا يتجاوز فيهما 2 في المائة سنوياً، لتقترب من 7 في المائة في أميركا وتتجاوز 5 في المائة في الاتحاد الأوروبي، وهي أرقام مرتفعة لم تشهدها الولايات المتحدة منذ 40 عاماً كما لم يشهدها الاتحاد الأوروبي منذ خروج عملته – اليورو – منذ عقدين.
وتعول البنوك المركزية الرئيسية على التأثير في التوقعات عن زيادة الأسعار وجعلها تميل إلى معدلات أقل من خلال التأكيد على أنها «ستقوم بكل ما يمكنها لمنع زيادة معدلات التضخم»، وأنها تملك أدوات السياسة النقدية المباشرة، كسعر الفائدة، وغير المباشرة، من خلال تدخلها مشترية أو بائعة للأصول المالية، بما يحقق هذه الأهداف كما فعلت من قبل.
أفرد هذا الجانب الأكبر لمناقشة وضع التضخم في الاقتصاد الأميركي، ليس فقط لأنه الاقتصاد الأكبر عالمياً، حتى الآن، ولكن لتأثير الدولار كعملة احتياطي وعملة دولية للتجارة والاستثمار. فعملة الدولار ما زالت تحتل 60 في المائة من الاحتياطي الدولي في عام 2021، نزولاً من 71 في المائة في عام 2000 ويليها اليورو بنسبة 21 في المائة والين بمقدار 6 في المائة والإسترليني 5 في المائة والرينمينبي الصيني 2 في المائة، وأغلبية الاحتياطي الدولاري للدول المحتفظة به مشكل من سندات على الخزانة الأميركية. ويحتفظ المستثمرون والأفراد حول العالم بنحو 950 مليار دولار أو 50 في المائة من إجمالي البنكنوت المصدر. كما أن الدولار ما زال يشكل 95 في المائة من تسوية معاملات التجارة في الأميركتين، و74 في المائة في المعاملات التجارية الآسيوية و79 في المائة في باقي العالم، والاستثناء الوحيد هو أوروبا، حيث يسيطر فيها اليورو. كما يشكل الدولار 60 في المائة من سوق الديون الدولية ويأتي بعده اليورو بفارق كبير بنصيب 23 في المائة.
وهناك رأي بأن البنك المركزي الأميركي قد بالغ في اعتبار أن التضخم الذي شهده الاقتصاد مؤقتاً عابراً، رغم دلائل بأنه مستمر لاعتبارات تتعلق بجموح الطلب على السلع والخدمات مع عجز خطوط الإنتاج قنوات التجارة وعرض العمل عن ملاحقته، لأسباب أوضحتها في مقالات سابقة عدة في هذه الصحيفة الغراء. وكان من مبررات هذه المبالغة التي ساقها بعض الاقتصاديين هي محاولة التأثير على التوقعات حتى لا تأخذ بالتضخم لمسار أعلى مما يفسره الوضع الاقتصادي.
وعند سؤال الكاتب الاقتصادي المخضرم بصحيفة «الفاينانشيال تايمز» مارتين وولف، عما إذا كان معدل التضخم الأميركي سيعود لهدفه القديم مع نهاية عام 2022، والذي كان يحدده البنك الفيدرالي بمقدار 2 في المائة سنوياً؟ كانت إجابته بلا! معللاً ذلك بأن وصف التضخم المرتفع الذي شهدته الولايات المتحدة بأنه مؤقت كان خطأً. ورغم احتمال انخفاض حدة نقصان السلع والخامات والخدمات التي شهدها الاقتصاد في هذا العام، فهناك ضغوط على سوق العمل ستزيد تكلفة الأجور، كما أن سعر الفائدة الحقيقي أصبح سلبياً بما يجعل احتمال زيادة مؤشر التضخم الرئيسي أكبر من انخفاضه.
وفي تقديري أن مكافحة التضخم المستمر والمتزايد ستعود لتحل محل البطالة كأولوية أولى للسياسة الاقتصادية العامة في الدول المتقدمة في هذا العام. وفي حالة الولايات المتحدة تظهر المؤشرات أنه بالإضافة إلى سحب إجراءات التيسير النقدي سيتبع ذلك زيادات متتابعة عدة لأسعار الفائدة، في حدود ربع نقطة مئوية في المرة، ووفقاً لتقديري الشخصي سيصل بذلك سعر الفائدة على الدولار الأميركي في خلال عامين من الآن إلى مدى يتراوح بين 1.75 في المائة و2 في المائة، ارتفاعاً من مستواه الحالي الذي يقع في مدى صفر إلى 0.25 في المائة منذ مارس (آذار) 2020؛ وقد تتغير هذه النسب بهامش محدود وفقاً لمستجدات التضخم وأداء سوق العمل والأجور. ورغم هذه الزيادات التي تبدو محدودة، فإن أثرها على تخفيض التضخم سيكون كبيراً إذا ما صاحبها تواصل يعزز الثقة في توجهات البنك المركزي. ولكن آثارها على الفقاعات التي تعاني منها أسواق المال وأسعار الأصول العقارية والذهب وكذلك ما يسمى بالأصول المالية المشفرة ستكون أكبر. بما سيعدّه البعض تصحيحاً وقد يعدّه البعض الآخر بداية لموسم فقء الفقاعات لأصول حلقت أسعارها بما يتجاوز قيمها وعوائدها الاقتصادية الحقيقية. وسيصاحب ذلك تقلبات في أسواق المال والتدفقات الرأسمالية الموجهة للأسواق الناشئة والدول النامية بما في ذلك من تبعات.
وفي هذه الأثناء، فعلى الدول النامية الاستمرار في مكافحة التضخم من خلال استكمال بناء وتطوير إطار استهداف التضخم وقد أوضحت هذا الإطار في ستة عناصر، كإسهام تحت عنوان التضخم في الموسوعة العربية للمعرفة التي أعدتها الأكاديمية العربية للعلوم بالتعاون مع اليونيسكو في عام 2006، ألخصها فيما يأتي:
1. الإعلان العام عن أرقام معدل التضخم المستهدف الوصول إليها في الأجلين القصير والمتوسط.
2. الالتزام المؤسسي الصارم باستقرار الأسعار كهدف للسياسة الاقتصادية عامة وليس النقدية فقط.
3. وضع سياسة شاملة للمعلومات وضوابط الإفصاح عنها وتداولها وحمايتها.
4. تطبيق أسس الشفافية والإفصاح في تنفيذ السياسة النقدية وتفعيل الاتصال مع الجماهير والأوساط المعنية بهذه السياسات.
5. تمكين البنوك المركزية قانونياً وعملياً من الصلاحيات والأدوات الكافية لتحقيق أهداف الاستقرار النقدي والمالي، وضمان استقلالها في تفعيل هذه الأدوات.
6. استخدام إطار استهداف التضخم المعلن في تقييم أداء السياسات العامة وجودة التنسيق بين السياسات المالية العامة والسياسة النقدية.
بالإضافة إلى استهداف تخفيض التضخم، فالدول النامية مطالبة بالحفاظ على معدلات عالية للنمو والتشغيل تواجه بها تحديات الفقر وتفاوت توزيع الدخل، وهي في توجهها هذا عليها تجنب الوقوع في فخاخ المديونية. وبداية العلاج التنموي لهذه المعضلات هو الاستثمار في البشر والبنية الأساسية والتكنولوجية وفي قدرات المجتمعات على التصدي لتغيرات المناخ وإدارة التحول المطلوب وفقاً لنهج التنمية المستدامة.

د. محمود محي الدين

إليزابيث هولمز والتحايل على الابتكار

المليارديرة العصامية، الشابة الناجحة، المرأة التي لمعت في عالم الأعمال الذي يتسيده الرجال، هكذا كانت توصف «إليزابيث هولمز» التي ثبتت تهمتها الأسبوع المنصرم بالتحايل على المستثمرين في شركتها التقنية «ثيرانوز». حكاية هولمز بدت ملهمة للكثيرين، القصة التي قد تبدو تقليدية عن مبتكرٍ لم يكمل الدراسة في جامعة ستانفورد وتركها بعمر 19 سنة؛ لكي يؤسس شركته الخاصة، ويصبح من المبتكرين الذين غيروا العالم. بعد أن أسست شركتها، ولعدة سنوات ادعت هولمز أن أجهزتها الطبية تستطيع إجراء أكثر من 200 اختبار طبي باستخدام قطرة دم تؤخذ من إصبع اليد بدلاً من قوارير الدم التي تؤخذ من الذراع، وازدهرت شركتها وتوسعت بناء على هذا الادعاء ليزيد عدد موظفيها على 800 موظف، وعدد مواقع أجهزتها على 40 موقعاً، ولتصل قيمة الشركة إلى 9 مليارات دولار!
ولكنّ تحقيقاً بدأته صحيفة «وول ستريت جورنال» في عام 2015 أسفر عن عدم فاعلية وقصور أجهزة «ثيرانوز»، وأدى إلى سلسلة من التحقيقات نتج عنها اتهامها بالتحايل على الشركات الطبية والمرضى والمستثمرين؛ لتثبت عليها 4 تهم من أصل 11 تهمة الأسبوع الماضي، وقد تواجه بسببها السجن لعشرين عاما على الأقل، لتصبح المليارديرة عنواناً للصحف، ولكن في قسم الفضائح بدلاً من الإنجازات! فكيف تحايلت «هولمز» على المستثمرين وأقنعتهم بنجاحها؟
المتأمل في مسيرة «هولمز» يلاحظ حرصها الشديد على مظهرها، والذي بسببه تمكنت من كسب قلوب وإعجاب المستثمرين والمشاهير والصحافة حتى أصبحت رؤية صورتها على أغلفة المجلات الشهيرة أمراً معتاداً. وأدركت «هولمز» أثر المظاهر فظهرت في أكثر من مناسبة بقمصان سوداء ذات ياقة مرتفعة على طريقة «ستيف جوبز» مالك ومؤسس شركة آبل؛ لإضفاء الانطباع عن كونها قيادية ملهمة وعملية في نفس الوقت، كما ظهرت في أكثر من صورة بمعطف المختبر بجانب أجهزة طبية معقدة رغم عدم امتلاكها لشهادة جامعية متخصصة في العلوم الصحية. وحتى في محاكمتها، جاءت «هولمز» بحقيبة أمهات لتؤثر على هيئة المحلفين، كونها أُمّاً شابة لطفل ذي ستة أشهر.
ونتيجة لهذه المظاهر، ولامتلاكها لكاريزما ساحرة، فقد جمعت «هولمز» في مجلس إدارتها العديد من المشاهير ورجال الدولة السابقين في الولايات المتحدة، فكان وزيرا الخارجية السابقين «هنري كيسنجر» و«جورج شولتز» عضوين في مجلس إدارة «ثيرانوز»، وكذلك وزيرا الدفاع السابقان «جيمس ماتيس» و«ويليام بيري». كما كان رجل الإعلام الشهير «روبرت مردوخ» أحد المستثمرين في شركتها. وقد زارها الرئيس الأميركي «جو بايدن» حين كان نائبا للرئيس أوباما، ووصف مختبراتها المتقدمة بأنها مختبرات المستقبل، وأن «هولمز» ملهمة للجيل الناشئ، واتضح لاحقاً أن المختبر أُعد وجُهز خصيصا لزيارة «بايدن».
ولوجود هؤلاء المشاهير حولها، أصبح من الصعب التشكيك في كفاءة «هولمز» وقدراتها والتقنيات التي تدعي امتلاكها، وتمكنت بذلك من جمع أكثر من مليار دولار في جولاتها الاستثمارية. وقد يكون هذا أحد أهم الدروس المستقاة من قصة «هولمز»، فالعديد من المستثمرين يخلطون بين الكفاءة والكاريزما، ويعتقدون أن امتلاك القائد للكاريزما تجعله قادراً على الإيفاء بوعوده الاستثمارية. ونتيجة لهذه الثقة، لم يحاول المستثمرون انتقاد ابتكارات شركة «ثيرانوز» بشكل علمي، رغم أن ادعاء الشركة إمكانية فحص الدم من الإصبع بدلا من الذراع كان ثوريا من الناحية التقنية، لدرجة تحتم على المستثمرين فحصه وتمحيصه بشكل علمي. ولكن «ثيرانوز» تمسكت بملكيتها الفكرية، ولم تسمح للمجتمع البحثي بفحص تقنياتها، لدرجة من السرية المعتادة للملكيات الفكرية إلى التستر المريب، رغم أن فحص هذه التقنيات من خبراء مستقلين يمكن أن يحفظ خصوصيتها وسريتها.
ويأتي درس آخر مهم من قصة «هولمز» وهو الاندفاع خلف الاستثمارات التي يسوق لها المشاهير، وكان الأحرى بالمستثمرين عدم الأخذ بتأييد المشاهير عند الإقدام على الاستثمار، بل دراسة الاستثمارات بالنظر إلى القوائم المالية، وأداء الشركة وتقنياتها من خلال خبراء مستقلين. وفيما قد تشكل هذه الشركة جزءا بسيطا من محفظة ضخمة لأحد المشاهير، فإن بعض المستثمرين قد يرمي بكل ما لديه في الشركة لمجرد أن مشهورا استثمر فيها، وقد لا يكون هذا المشهور مستثمرا في الشركة، بل إن ظهوره مع ملاك الشركات هو مجرد إعلان مدفوع الثمن، وهو ما لا يفصح عنه المشاهير في كثير من الأحيان.
إن «إليزابيث هولمز» وقصتها أصبحت ملهمة ولكن بشكل معاكس لما كانت عليه، فاليوم هي درس لرؤوس الأموال الجريئة التي تركض خلف المبتكرين، وتضخ الأموال في ابتكاراتهم دون اتخاذ الإجراءات الفاحصة لاستثماراتهم. وما فعلته «هولمز» يفعله الكثير من المبتكرين في وادي السيليكون، وثقافة «تصنع حتى تنجح» دارجة في عالم المبتكرين في وادي السيليكون وغيره، ولذلك فإن ضخ الأموال دون دراسة كافية لجدوى الاستثمارات قد يكون له أثر عكسي على الابتكار وذلك بفقدان الثقة في المستثمرين، ونقص الشفافية لن يخدم الابتكارات، خاصة في قطاعات مثل الصحة، فحين تكون حياة البشر على المحك، لا يمكن التسامح مع الضبابية في المعلومات والذي قد يؤدي إلى التحايل، تماما كما فعلت «هولمز».

د.عبدالله الردادي

محاربة التضخم تعني الاستيلاء على الشركات

منذ زمن إدارة كارتر، كانت السياسة النقدية هي الأداة الرئيسية التي يستخدمها الرؤساء للحد من التضخم الذي كان في ارتفاع: ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 6.8 في المائة في العام حتى نوفمبر (تشرين الثاني)، فيما يعد أسرع وتيرة منذ عام 1982، وتبنى رئيس مجلس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، سياسة نقدية أكثر صرامة بإعلانه عن خطط لتقليص مشتريات البنك المركزي من السندات ورفع أسعار الفائدة العام المقبل.
ومع ذلك، فإن التضخم لا يرتفع، وينحسر فقط بسبب السياسة النقدية، وذلك نتيجة للخيارات التي تتخذها الشركات. ويظهر التاريخ أن الرؤساء لديهم القدرة على كبح جماح التضخم من خلال الاستيلاء على سلطة الشركات، إذا اختاروا ذلك.
ففي حين اشتهر فرانكلين روزفلت بتوسيع نطاق الصفقة الجديدة لشبكة الأمان الاجتماعي، فقد قام أيضاً بحماية الأميركيين من التضخم في زمن الحرب. فخلال الحرب العالمية الثانية، فرض مكتبه المتحكم في إدارة الأسعار سقوفاً للأسعار على ثلاثة ملايين شركة وأكثر من ثمانية ملايين سلعة. كما وضع المكتب سقوفاً للإيجارات في 14 مليون منزل يسكنها 45 مليون ساكن وأصدر طوابع تموينية لسلع مثل اللحوم لإدارة الإمدادات. ووفقاً «لاستطلاعات رأي غالوب»، فقد فضل أكثر من ثلاثة أرباع الجمهور توسيع نطاق السيطرة بعد الحرب.
عندما خسر هاري ترومان معركة مريرة في الكونغرس لتنفيذ ذلك، كانت هناك عواقب وخيمة. وعندما حل السلام، واجه الأميركيون المتحمسون لإنفاق مدخراتهم المخزنة نقصاً في الإمدادات: فقد كان على المصنعين العودة مرة أخرى إلى الإنتاج في زمن الحرب.
في صيف عام 1946، قفزت تكلفة المعيشة من دون ضوابط. ففي يوليو (تموز)، تضاعفت أسعار اللحوم إلى 70 سنتاً للرطل. وفي انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر، فقد الديمقراطيون السيطرة على الكونغرس لأول مرة منذ عام 1932.
في عام 1948، مع بلوغ معدل التضخم 7.7 في المائة، أدان ترومان الجمهوريين «الذين لا يفعلون شيئاً» الذين ألقوا باللوم في ارتفاع الأسعار على القوة النقابية الجديدة. وفي حملته لإعادة انتخابه في ذلك العام، وعد ترومان بتوسيع الصفقة الجديدة وواجه قوة الشركات. وقال في ذلك العام: «الجمهوريون لا يريدون أي تحكم في الأسعار لسبب واحد بسيط: فكلما ارتفعت الأسعار، زادت أرباح الشركات».
عند توقف حملته في مدينة كنتاكي في أكتوبر (تشرين الأول) 1948، انتقد تومان الرابطة الوطنية للمصنعين، وهي مجموعة ضغط تجارية عارضت تحديد الأسعار، لتورطها في «مؤامرة ضد المستهلك الأميركي». ودعا الكونغرس إلى جلسة صيفية خاصة لإعادة ضبط الأسعار، لكن هذا الجهد باء بالفشل.
عاد الديمقراطيون إلى صناديق الاقتراع، وأعطى عمال السيارات ترومان 89 في المائة من أصواتهم، ما ساعده على تأمين إعادة انتخابه في منافسة متقاربة. وكان أحد مفاتيح نجاحه هو تشديد الخطاب الحازم ضد التضخم ودعم البرامج الليبرالية لرفع مستويات المعيشة للأميركيين العاديين.
وبدءاً من رئاسات ترومان إلى ليندون جونسون، تمسك الديمقراطيون بالبرنامج. وشأن ترومان الذي ذهب إلى حد طلب الاستحواذ على مصانع الصلب في البلاد عندما أعلن رفع الأسعار، قام جون كينيدي وجونسون أيضاً بتوبيخ المسؤولين التنفيذيين في صناعة الصلب علناً بسبب ارتفاع الأسعار.
تحدثوا جميعاً ضد جهود ويليام ماكيسني مارتن، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، لرفع أسعار الفائدة. واشتهر مارتن بتأكيد استقلاليته ورفع سعر الفائدة. كانت وظيفة الاحتياطي الفيدرالي هي «رفع صينية المشروبات بعيداً عن الحضور عندما يشعر أن الحفل يسير على ما يرام»، وهو ما جعل ترومان يصفه بـ«الخائن».
عندما ضرب التضخم في السبعينات، أدرك ريتشارد نيكسون التوقعات التي وضعها مكتب روزفلت لإدارة الأسعار. فبصفته مفتشاً للوكالة في فترة الحرب العالمية الثانية، أصيب نيكسون بالرعب من فكرة قيام البيروقراطيين بالتحقق من قرارات التسعير الخاصة بالشركات الخاصة، واستقال. ومع ذلك، بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض، لم يتردد في فرض ضوابط على الأسعار رداً على ارتفاع تكلفة لحوم البقر والغاز.
شجب ميلتون فريدمان، خبير اقتصاد السوق الحرة، ومحافظون آخرون، رد نيكسون ووصفوه بأنه ثقيل – وهي رسالة استوعبها خليفته جيرالد فورد. وبدلاً من تحديد الأسعار، تبنت شركة فورد حملة «اضرب التضخم الآن» وطالبت بتقشف الميزانية.
عندما وقع التفكير الاقتصادي الأميركي تحت تأثير فريدمان، فقدت أدوات روزفلت – ترومان فاعليتها. ومع بلوغ التضخم رقماً مزدوجاً (فوق 10 في المائة) في عام 1979، عين الرئيس جيمي كارتر، بول فولكر في مجلس الاحتياطي الفيدرالي لاستخدام السياسة النقدية لمحاربة التضخم. وعندما تولى رونالد ريغان منصبه، أيّد تحرك فولكر القوي برفع أسعار الفائدة ودفع الاقتصاد إلى الركود لمحاربة التضخم. وتمسك الرؤساء اللاحقون إلى حد كبير بهذا النهج للسيطرة على التضخم.
ووسط الجائحة، أظهر بايدن استعداداً للاعتماد بقوة على الشركات الأميركية وتبني أدوات نمط الصفقة الجديدة لتخفيف الضغوط التضخمية.
كما حذر بايدن شركات تصنيع اللحوم الأربع الكبرى من الممارسات المانعة للمنافسة التي ربما أسهمت في ارتفاع الأسعار، بما في ذلك الضغط على المنافسين. وتعهدت إدارته باتخاذ إجراءات أكثر صرامة بشأن تحديد الأسعار غير القانوني ومكافحة الاحتكار، بينما تعمل على تحقيق المزيد من الشفافية في أسواق الماشية. وبحسب مستشاريه الاقتصاديين، فإن أسعار اللحوم المرتفعة «ليست مجرد عواقب طبيعية للعرض والطلب في السوق الحرة – فهي أيضاً نتيجة لقرارات الشركات للاستفادة من قوتها السوقية في سوق غير قادرة على المنافسة، على حساب المستهلكين والمزارعين ومربي الماشية، واقتصادنا».
في الأسابيع المقبلة، يتعين على بايدن استخدام منبره المتنمر ليوضح للأميركيين أن الشركات تضخ أرباحها بينما تكافح العائلات العاملة خلال فترة الوباء. فقد كان لدى ما يقرب من ثلثي الشركات المتداولة علناً هوامش ربح أكبر بكثير هذا العام مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019، قبل الوباء. وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنه في عام 2021، شهد ما يقرب من 100 منها ارتفاع هوامش أرباحها بنسبة 50 في المائة على الأقل مقارنة بعام 2019.
إن إظهار الأميركيين العاملين حصولهم على هذه الأرباح سيساعد بايدن على تأكيد اهتمامه، بحسب ما أخبرني خبير استطلاعات الرأي الديمقراطي جويل بينينسون. وأضاف: «ليست لدينا مشكلة تضخم، لكن لدينا مشكلة جشع الشركات. وعلى الرئيس أن يضع اللوم في مكانه».
نظراً لأن بايدن يعتمد على الشركات الكبرى للتخفيف من ارتفاع الأسعار، فإنه يحتاج أيضاً إلى الضغط بشدة من أجل السياسات التي يكون لها تأثير أكبر بكثير من التقلبات في الأسعار، لذا يحتاج بايدن إلى أن يكون صارماً.

ميغ جاكوبس

* أستاذة التاريخ والشؤون العامة في جامعة برينستون

2022: بدايات مرجوة ونهايات مأمولة

مع اقتراب بداية كل عام تبدأ لعبة التوقعات والتنبؤ بما سيحدث، والعام المقبل ليس استثناءً. وفي مجالات الاقتصاد والسياسة والشأن العام دأبت مراكز أبحاث ومؤسسات إعلام عالمية على استعراض قدراتها على حصر موضوعات تعتبرها ذات أولوية فتستشرف احتمالات حدوثها وما ينبغي عمله حيالها. وتتباين درجة ثقة أصحاب التوقعات بتوقعاتهم عما سيحدث ودفاعهم عنها وفقاً لمدى اقتناعهم باستيعابهم لما حدث فعلاً في الماضي، فتجد أكثرهم إفراطاً في الثقة بتوقعاتهم عن المستقبل هم أكثرهم توهماً بفهمهم الكامل لأحداث الماضي. فنحن في عالم تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة في استخدامها.
ويلخص مدى جدية التوقعات المستقبلية عبارة لا تخلو من سخرية مضمونها، أن «التوقع أمر في غاية الصعوبة، خاصة إذا ما كان عن المستقبل»! وهي عبارة منسوبة لكثيرين، منهم العالم الدنماركي نيلز بوهر، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عن صياغته نماذج فهم البنية الذرية وإسهاماته في علم ميكانيكا الكم. وقد بنى على هذا الرأي عالم فيزياء آخر من أصحاب جائزة نوبل أيضاً وهو دينيس جابور البريطاني المجري مخترع التصوير الثلاثي الأبعاد، فله مقولة مفادها أن «المستقبل لا يمكن توقعه، لكن يمكن اختراع أكثر من مستقبل؛ فقدرة الإنسان على الاختراع هي ما طورت المجتمعات الإنسانية إلى ما هي عليه». وبمثل ذلك قال المخترع الأميركي الشهير ستيف جوبز، الذي طور أجهزة الكومبيوتر الشخصي وكان وراء اختراعات أجهزة التليفون المحمول الذكي – آيفون – وغيره من أجهزة أحدثت نقلة في حياة البشر.
على أي حال، تستمر لعبة التوقعات التي تزداد صعوبة، والصعوبة هنا ليست في أن تصادف التوقعات الواقع الذي تتنبأ به فحسب، ولكن في حصر ما هو جدير بالتوقع والتتبع من حيث الأولوية في ظل ظروف اللايقين التي تكتنف عالم ما بعد الجائحة.
وتيسيراً للأمر؛ فلنلق نظرة على ما تكرر من إشارة إلى اتجاهات عامة مؤثرة في عالم ما بعد الجائحة اعتباراً من العام المقبل – 2022 – الذي ستغلب عليه جهود التكيف والتعايش مع خصائص الواقع الجديد، بعدما كانت سنة 2021، التي تلملم ما تبقى من ساعاتها، مسيطرة عليها إجراءات التصدي الصحية والمالية للجائحة وتداعياتها.
ومع كثرة بيوت الخبرة والمراكز التي تصنف الفرص والمخاطر، إلا أن كاتب هذه السطور يعطي وزناً وتفضيلاً لما يصدر عن مؤسسات التأمين؛ لأن الكبريات منها لا تكتفي بقدراتها البحثية الداخلية، ولكنها تستعين بخبرات متنوعة من خارجها تعينها على تحديد سياساتها. وهي تحتفظ بسجلات مستمرة التحديث عن حسابات المخاطر وتغيراتها وما أصابها من خطأ في التقدير. وأهميتها تأتي من أنها لا تتوقف عند مجرد سرد المخاطر، ولكنها تقوم بتسعيرها من خلال خدمات التأمين عبر دول وقطاعات وأنشطة متباينة. وفي تقرير حديث لمؤسسة «أكسا» للتأمين، بالتعاون مع مجموعة «يوراسيا» التي يرأسها محلل السياسة الدولية المعروف إيان بريمر، تم تقسيم العالم إلى أربعة أجزاء لأغراض التحليل: أوروبا، والأميركتان، وأفريقيا، والشرق الأوسط وآسيا. ووفقاً لاستمارة استقصاء رأي تم سؤال 3600 خبير مختص في المخاطر وإدارتها لاختيار خمسة مخاطر وفقاً لأولويتها من قائمة تضم 25 سؤالاً، وبالإضافة لهؤلاء الخبراء الذين يعيشون في 60 دولة حول العالم تم سؤال عينة من 20 ألف شخص من 15 دولة، وجاءت المخاطر الخمسة الأولى على هذا الترتيب:
1 – تغيرات المناخ
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – الجوائح والأمراض المعدية
4 – المخاطر الجيوسياسية
5 – مخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية
ويلاحظ أن هذا الترتيب العالمي للمخاطر من وجهة نظر الخبراء قد اختلف بشأن ما يشغل المرتبة الأولى باختلاف الأقاليم الجغرافية، حيث ظلت تغيرات المناخ في المرتبة الأولى للمجموعة الأوروبية، بينما شغلت مخاطر الأمن السيبراني المرتبة الأولى في حالة الأميركتين، ثم جاءت الجوائح في المرتبة الثالثة للمجموعتين. وهذا يُفسر بأن أوروبا وأميركا كانتا قد قطعتا شوطاً جيداً في التعامل مع الجائحة، التي احتلت المرتبة الأولى لهما في عام 2020. كان أن هذا المسح قد أُعلنت نتائجه قبل انتشار متحور «أوميكرون»، وفي حين ظلت الجائحة شاغلاً يومياً للأفراد محل البحث، إلا أن الخبراء ينزعون إلى النظر للأبعاد الأطول مدى، فحظيت بذلك تغيرات المناخ وأمن المعلومات بالسبق في التصنيف.
أما بالنسبة لمجموعة الدول الآسيوية والشرق الأوسط، فكان ترتيب المخاطر فيها على النحو التالي:
1 – الجوائح والأمراض المعدية
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – تغيرات المناخ
4 – الاستقرار المالي
5 – المخاطر الجيوسياسية
وقد اشتركت أفريقيا مع هذه المجموعة في الترتيب للمخاطر الأولى والثانية، فبدأت بالجوائح والمخاطر الصحية وثنتها بمخاطر أمن المعلومات، ولكنها جعلت المخاطر الجيوسياسية في المرتبة الثالثة قبل تغيرات المناخ التي جاءت رابعة في الترتيب، ثم جاءت في المرتبة الخامسة مشكلات الأمن الجديدة والإرهاب، وتبعها مباشرة مخاطر الاستقرار المالي، بما في ذلك الديون.
من الملاحظ تنامي الاهتمام حول العالم بالمعلومات وأمنها، فهي إما تحتل مرتبة الخطر الأول كما في الأميركتين أو الثاني في سائر الأقاليم الأخرى؛ فقد كان للجائحة أثر معجل لدور شبكة المعلومات والتحول الرقمي مع تزايد وتكرار الإغلاق الكلي والجزئي للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشار جيف ديجاردان، مؤسس شركة «فيجوال كابيتاليست»، في كتاب جديد بعنوان «إشارات»، إلى تعدد مصادر تهديد أمن المعلومات بين ما تقوم به جهات تابعة لحكومات أو عصابات أو أفراد منتظمو الهجوم على المواقع أو حالات عشوائية منفردة أو من تحركهم دوافع مالية أو أمنية أو لإحداث فوضى. وأن الأكثر تهديداً من الشركات هو ما يعمل منها في مجالات الخدمات المالية والبيع بالتجزئة ثم النقل والإعلام، بخسائر في الإيرادات وثقة المتعاملين والتعرض لانخفاض حاد في أسعار الأسهم. وإن كان الأكبر تأثيراً وخطورة على الأمن وسلامة المجتمع هو ما يوجه للمرافق العامة وشبكات الطاقة.
ومع زيادة الاستخدام لشبكات المعلومات ترتفع مخاطر تعرضها لمشكلات شتى: إذ أكد الأفراد المشاركون مخاوفهم من احتمال الإغلاق المفاجئ لخدمات أساسية تعتمد على شبكة المعلومات، والتعرض للتهديد والابتزاز وطلبات الفدية وسرقة البيانات الشخصية والتعدي على الخصوصية وحقوق الملكية الفكرية. ويبدو أن هناك تخوفاً من عدم قدرة السلطات العامة على مواجهة مخاطر الأمن السيبراني، حيث ذكر 26 في المائة فقط من الخبراء المشاركين في تقرير «أكسا»، أن هذه الجهات المعنية لديها استعدادات كافية للمواجهة، ومع تزايد حالات اختراق أمن شبكات المعلومات ارتفعت القيود الرقابية وإجراءات الحماية المطلوبة، بما جعل سوق أمن المعلومات من الأكثر نمواً في خلال الأعوام الماضية مع اتجاه عام لمزيد من التوسع في المستقبل.
ومع هذا الرصد لتوجهات عالمية تقدر المخاطر الظاهرة، تتجلى أيضاً أهمية استبيان الفرص الكامنة في سبل التعامل معها بدءاً من أدوار مراكز البحث العلمي على مستوى كل دولة، فتستعين بأهل الخبرة وأصحاب التخصصات المختلفة لتحليل مدى تأثر الدولة والمجتمع بهذه المتغيرات. فحسن الاستعداد للمخاطر المذكورة يدركها مبكراً قبل استفحالها وتحولها إلى أزمات مستمرة. ولا يُكتفى في هذا الشأن بتأسيس نظم للإنذار المبكر على قواعد علمية فحسب؛ فهذا شرط ضروري، فالشرط الكافي لا يتحقق إلا بالإعداد المبكر للبشر الذين يتعاملون معها ويستفيدون من معلوماتها من خلال الاستثمار في قدراتهم تعليماً وتدريباً. هذا من شأنه منع المخاطر أو على الأقل تحجيمها والتوقي منها، وسرعة التعامل معها حال حدوثها. والبشر مع هذه التحديات بين رجاء وأمل. رجاءً في أن تكون بداية عام جديد شروعاً في عمل يصلح ما سبق من عجز وإهمال في التصدي الواجب لهذه المخاطر؛ وأمل في أن تأتي الجهود المبذولة بنهايات لها أو التعاون على احتوائها بأقل تضحيات ممكنة.

 

د. محمود محيي الدين

 

زمن التحولات الاقتصادية الكبرى في الشرق الأوسط

يطوي العالم ومنطقة الشرق الأوسط عامهما الثاني في مواجهة أزمة صحية واقتصادية عالمية غير مسبوقة على وقع تحديات جديدة كتداعيات تفشي الموجات المتكررة من الجائحة وآخرها متحور «أوميكرون» وظهور تحولات اقتصادية مستجدة، كارتفاع معدلات التضخم وتزايد أوجه عدم اليقين حول المستقبل الاقتصادي. وفي ختام هذه السنة الحافلة بالأحداث وحيث أضحى الأفق الاقتصادي ملبداً بالغيوم، من المفيد العودة إلى أهم التطورات التي شهدتها المنطقة هذا العام واستشراف الآفاق الاقتصادية للسنة المقبلة.

اتسمت سنة 2021 بعودة التعافي التدريجي للمنطقة مع تحقيق العديد من بلدانها تقدماً ملحوظاً بعد الأزمة الاستثنائية التي أدت إلى انكماش غير مسبوق في الناتج المحلي خلال العام الماضي.

ففي حصاد هذا العام، تمكنت دول المنطقة، وإن بنسب متفاوتة، من احتواء الصدمات الاقتصادية المتأتية عن أزمة الجائحة وهي تتطلع إلى تحقيق نمو بنسبة 4.1 في المائة هذا العام. في المقابل، يتسم التعافي الحالي بالتباين بين مسارات الدول في ظل معاناة البعض منها من تداعيات اقتصادية واجتماعية عدة، على وقع بطء عملية التطعيم، وخصوصاً تلك التي تواجه تحديات عدم الاستقرار أو تعاني أعباء النزاعات والتقلبات السياسية. من ناحية أخرى، شهدت سوق النفط تحسناً كبيراً هذا العام مع وصول سعر البرميل إلى أكثر من 84 دولاراً أميركياً في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) بالمقارنة مع مستويات متدنية جداً شهدها سعر النفط العام الماضي، إذ انخفضت إلى ما دون عتبة 25 دولاراً أميركياً للبرميل في شهر أبريل (نيسان) 2020، كذلك تمكنت دول المنطقة من المحافظة على قدرتها التمويلية من الأسواق المالية العالمية، وقد أسهم في ذلك الدعم المقدم من صندوق النقد الدولي الذي قارب 60 مليار دولار، من خلال التمويل الذي بلغ نحو 17 مليار دولار، بالإضافة إلى تخصيص حقوق السحب الخاصة (SDR) بـ42 مليار دولار في أغسطس (آب) من هذا العام.

وفي خانة الإنجازات، أسهمت أزمة الجائحة في تسريع مسارات التحول الاقتصادي، حيث أحرزت دول عدة تقدماً في مجالات الاستثمار في التكنولوجيا وتطوير الاقتصاد الرقمي، بالإضافة إلى تكييف أنماط الإنتاج لتتلاءم مع التحولات العالمية وسلاسل التوريد. وشكلت الاستفادة من المسارات الجديدة مناسبة لتطوير البرامج الاجتماعية. وتؤدي التكنولوجيا والتحول الرقمي دوراً أساسياً وتُعتبران عَصَب أي استراتيجية موجهة نحو بناء المستقبل. كذلك ستكون لنشاطهما أهمية بالغة في دعم شبكات الأمان الاجتماعي، واستحداث قطاعات جديدة رافدة للنمو، وضمان تنافسية المنطقة عالمياً.

أما لجهة التحديات الجديدة، فقد ارتفعت نسب التضخم في بلدان المنطقة، حيث من المتوقع أن تلامس حدود 13 في المائة في عام 2021، بالتوازي مع ارتفاع الأسعار عالمياً، مصحوبة بارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة، يشكل مصدر قلق لجهة تأثيره السلبي على الأوضاع المعيشية لأصحاب الدخل المحدود والفئات الأكثر ضعفاً. كل ذلك ينذر بمخاطر نشوء اضطرابات اجتماعية، لا سيما في البلدان المنخفضة الدخل والاقتصادات الهشة. ومن شأن ذلك أن يزيد أيضاً من التحديات أمام البلدان التي تعاني عجزاً مرتفعاً في ماليتها العامة. وبوجه أشمل، باتت آفاق الاستقرار الاقتصادي أكثر تعقيداً في الكثير من البلدان، مع ارتفاع مخاطر تعرضها لتداعيات تشنج الأوضاع المالية بصورة مفاجئة.

على الصعيد الاجتماعي، لا تزال معدلات التوظيف ضعيفة في نهاية هذا العام، وأوجه عدم المساواة إلى ازدياد بين فئات المجتمع. فقد ارتفع معدل البطالة في المنطقة بنحو 1.5 في المائة منذ اندلاع الجائحة حيث بلغ 11.6 في المائة في العام الماضي – وهي نسبة تفوق بكثير تلك التي كانت سائدة أثناء الأزمات السابقة. كما أن فئتي الشباب والنساء كانتا الأكثر تضرراً. فعلى سبيل المثال، تراجعت مستويات توظيف الشباب بنحو 10 في المائة مقارنة بـ4.3 في المائة للبالغين، كما شهد توظيف النساء انخفاضاً بنسبة 6.1 في المائة في عام مقارنة بانخفاض 3.9 في المائة للرجال. من ناحية أخرى، تواجه نحو 15 في المائة إلى 25 في المائة من المؤسسات الصغيرة احتمال إعادة الهيكلة أو التصفية. كما لم يؤمن القطاع غير الرسمي، على عكس فترات الركود السابقة، درعاً في مواجهة الصدمات، حيث أدت إجراءات التباعد الاجتماعي إلى إغلاق الكثير من مؤسسات هذا القطاع وفقدان العاملين فيها وظائفهم.

أما بالنظر إلى عام 2022، فيمكن تسميته عام التحولات الاقتصادية الكبرى، حيث يدخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة تتسم بالضبابية والترقب لأسباب عدة؛ منها: عودة تفشي موجات جديدة من الجائحة وتأثيرها على الحركة الاقتصادية والتنقل، واستمرار التشنجات في سلاسل الإنتاج والتوريد التي تعزز مخاطر استمرار التضخم وتجذره، وتداعيات احتمال تراجع الطلب في بعض الاقتصادات الكبرى مثل الصين، بالإضافة إلى احتمال تعديل سياسة الفوائد وما لها من تأثير على حركة الاستثمارات العالمية ومخاطر خروج رؤوس الأموال من بعض الأسواق الناشئة وبالتالي الضغط على عملاتها. كذلك سيؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى جعل الاقتراض أكثر تكلفة في كل أنحاء العالم، ما يجهد المالية العامة.

هذه التطورات العالمية المرتقبة في العام المقبل ستضع الكثير من بلدان المنطقة في مواجهة مفاضلات دقيقة على صعيد القرارات الاقتصادية، نظراً لانحسار هامش الحركة والاتساع المستمر في الفوارق الاجتماعية. من هنا تبرز أهمية الإدارة الحكيمة للسياسات الاقتصادية والتي إن نجحت ستساعد على التعامل بدقة مع المفاضلات الصعبة. لذا، من المهم أن يتسم مسار السياسات الاقتصادية في العام المقبل بالمواءمة ما بين اجتياز التحديات الداهمة والعمل على تحويل هذه الأزمة قاعدة انطلاق لتحقيق تعافٍ صلب يؤمن العبور نحو نمو احتوائي مستدام.

في البداية، لا تزال إدارة المرحلة الراهنة تستدعي العمل للحفاظ على استقرار الدورة الاقتصادية وحماية الاقتصادات من أي صدمات جديدة في عام 2022، ذلك بالإضافة إلى الجهود المطلوبة لمواجهة الموجات المتكررة من الجائحة التي تشكل الأولوية الأكثر إلحاحاً، إذ تُعتبر عملية التطعيم الوسيلة الفضلى لحماية حياة المواطنين، فالإسراع في التطعيم يسهم في تحفيز النمو والحد من أوجه عدم المساواة بين فئات المجتمع. ومن الضروري التذكير هنا بالأهمية القصوى لتوثيق أطر التعاون على الصعيدين الإقليمي والدولي في تأمين اللقاحات وضمان توزيعها على جميع شرائح المجتمع.

من ناحية أخرى، يستدعي التضخم المتصاعد عالمياً متابعة وثيقة من قبل البنوك المركزية في المنطقة، وقد تظهر الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة من منطلق احترازي في حال استمرار ارتفاع توقعات التضخم عالمياً. كذلك ستتعين المواءمة بين الدعم المقدم من خلال السياسات المالية والنقدية على المدى القصير وبين الجهود المبذولة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ويكتسب تعزيز أطر السياسات أهمية بالغة، للحفاظ على مستوى الديْن في حدود مستدامة وتعزيز الصدقية في قدرة البلدان على الاستجابة بفاعلية لمتطلبات الاستقرار والنهوض. فقد أدى تراكم الديون في عام 2020 إلى زيادة كبيرة في الاحتياجات التمويلية المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث من المتوقع أن تصل خلال فترة 2021 – 2022 إلى 1075 مليار دولار، مقارنة بـ784 مليار دولار في 2018 – 2019. ويمثل عدد صغير من البلدان الجزء الأكبر من حاجات التمويل الحكومية.

على صعيد آخر، ثمة حاجة لاتخاذ خطوات جريئة لمعالجة أوجه عدم المساواة، وتوفير فرص عمل، وتخفيف المخاطر الاجتماعية. وتبرز فرصة مهمة لتحويل اهتمامات المنطقة باتجاه دعم قطاعات الصحة والتعليم، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لبناء منظومة اجتماعية جديدة. ومن شأن تحسين فرص التأهيل المهني وتقديم حوافز للتوظيف أن يساعدا العمالة في الانتقال إلى قطاعات أكثر إنتاجية، ودعم فرص العمل للشباب ومشاركة أكبر للنساء في النشاط الاقتصادي.

وفي مسار موازٍ، تحتل الجهود الرامية للتكيف مع التغير المناخي أهمية قصوى لبلدان المنطقة وذلك بالنظر إلى ازدياد وتيرة الكوارث المناخية والتكاليف المرتبطة بها، فهي مرشحة لمزيد من الارتفاع في العقود المقبلة. ومن الأهمية بمكان استكمال عملية التكيف مع متطلبات محاربة التغيير المناخي من خلال استثمارات جيدة الاستهداف تساعد على استحداث وظائف جديدة ومستدامة للأجيال المقبلة.

إن العبور نحو غد أفضل يبقى الهدف المركزي للسياسات الاقتصادية لدول المنطقة في عام 2022، وذلك من خلال بناء اقتصاد أكثر تقدماً وصلابة واحتواءً لجميع فئات المجتمع، وجعل هذا التعافي لحظة تحول مفصلية بالنسبة للمنطقة. إن عدم التحرك الاستراتيجي والسريع سيكبد شعوب المنطقة أعباءً كبيرة ويحرم الأجيال الطالعة فرصة تاريخية للنهوض والازدهار، لذا فإن العام المقبل سيكون عام التحولات الاقتصادية الكبرى، التي في حال حسن استخدامها، يمكن أن تشكل محطة فارقة في مسار بناء مستقبل اقتصادي واعد ومزدهر.

د. جهاد أزعور

* مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى

في صندوق النقد الدولي

دبلوماسية جديدة في تحوّل الطاقة

برزت مؤخراً بوادر وسائل دبلوماسية جديدة في مجال تحول الطاقة، هدفها استصدار قرارات دولية للتنديد بالآثار المترتبة على التغيير المناخي، ووسيلتها اللجوء إلى المحافل الدولية ذات الصلاحيات في إصدار القرارات، مثل: مجلس الأمن ومحكمة العدل الجنائية الدولية. وطرح مشروع قرارين بهذا الصدد أمام هذين المحفلين خلال أقل من شهر بعد مؤتمر «كوب 26»، لكن أخفقت المحاولات الأولية في هذه الدبلوماسية الجديدة في تحقيق أهدافها في كلتا الحالتين.
قدمت آيرلندا والنيجر مسودة قرار لمجلس الأمن يقضي باعتبار التغيير المناخي «خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي». واعترضت روسيا على مسودة القرار باستعمال حقها للنقض (الفيتو)، كما رفضته الهند وامتنعت الصين عن التصويت.
من الجدير بالذكر، أن مجلس الأمن كان قد ناقش في الماضي موضوع التغيير المناخي، إلا أن أهمية هذه المسودة تكمن في كونها المرة الأولى التي يطرح فيها مشروع قرار يطالب فيها بإدراج التغيير المناخي ضمن صلاحيات وأعمال مجلس الأمن، واعتبار التغيير المناخي «خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي». لكن صرح السفير الروسي فاسيلي نيبينيزيا أثناء تصويت المجلس على مشروع القرار، بأنه «غير مقبول» لحكومته، وأضاف «نحن نعارض خلق مجال جديد لأعمال مجلس الأمن بإنشاء علاقة مباشرة وأتوماتيكية ما بين التغيير المناخي والأمن الدولي، فهي محاولة لاستغلال موضوع علمي واجتماعي – اقتصادي وتحويلهما إلى مسألة سياسية». كما صرحت السفيرة الهندية ليندا توماس – غرينفيلد في اعتراضها، قائلة «لماذا الحاجة إلى قرار مجلس الأمن لاتخاذ خطوات عملية حول التغيير المناخي في الوقت الذي لدينا (اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيير المناخ؟)».
تكمن أهمية مواقف روسيا والصين والهند، في كونها دولاً طاقوية كبرى ذات مصالح ضخمة في موضوع تحول الطاقة. تحاول الدول الصناعية الغربية الإسراع في عملية تحول الطاقة وتهميش مصالح هذه الدول (روسيا باحتياطاتها النفطية والغازية الضخمة، والصين والهند باحتياطاتهما الضخمة من الفحم الحجري). والأمر نفسه ينطبق في المواقف التي تدعو إلى إيقاف الاستثمارات البترولية و/ أو تخفيض استهلاك الوقود الأحفوري مباشرة، رغم مشاريع بعض كبرى الدول المنتجة في تقليص الانبعاثات الكربونية من إنتاجها البترولي. ورغم عدم إيفاء الدول الصناعية بوعودها في تقديم المساعدات المالية للدول المنتجة في تقليص الانبعاثات أو الدول المتضررة من آثار التغيير المناخي. فمن دون هذه المساعدات من غير الممكن على أغلبية الدول في العالم الثالث المضي قدماً في إنفاق مليارات الدولارات سنوياً لدعم تحول الطاقة في بلادها. إذ لا تتوفر إمكانات مالية بهذا الحجم لدى الأغلبية الساحقة من دول العالم الثالث. من ثم، إذا استمرت هذه الطريقة في التعامل مع الدول ذات المصالح المختلفة، سيعني ذلك تأخر تحقيق تصفير الانبعاثات على صعيد معظم الكرة الأرضية.
من جهة أخرى، قدمت ثلاث دول مهددة بآثار التغيير المناخي، هي بنغلادش وساموا وفانواتو، طلباً إلى الاجتماع السنوي لمحكمة العدل الجنائية الدولية في لاهاي (عضويتها 123 دولة) التي تشكلت حسب اتفاقية روما. طلبت الدول الثلاث تعديل اتفاقية روما باعتبار دمار التغيير المناخي والبيئي جريمة خامسة «جريمة إبادة بيئية»، إضافة إلى الجرائم الأربع المنصوص عليها في الاتفاق: الإبادة الجماعية، وجرائم ضد البشرية، وجرائم حرب، وعدوان بشأن حرب غير قانونية. وتقدمت الدول الثلاث بالطلب خلال الاجتماع الافتراضي الأخير للمحكمة. وشكّل تعهد الدول الصناعية تعويض الدول المتضررة بالأعاصير والفيضانات ونقضها لهذه التعهدات الشكوى الرئيسة لهذا المشروع. وكانت الدول الثلاث وغيرها من الدول الساحلية والبحرية قد أثارت الموضوع بشكل واسع في مؤتمر «كوب 26» قبل أسابيع.
طلبت الدعوة الإضافة إلى ميثاق روما «جريمة خامسة» باعتبار دمار التغيير البيئي والمناخي نوعاً جديداً من أنواع الجرائم ضد البشرية. ولكن تطلبت الدعوة تعديلاً في ميثاق روما؛ الأمر الذي استدعى الالتزام بإجراءات إدارية وبروتوكولية قبل النقاش والتداول في صلب الموضوع. لكن أخفقت الدول الثلاث التي تقدمت بالطلب الالتزام بالإجراءات الإدارية والبروتوكولية المطلوبة.

وليد خدوري

كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة

«فيسبوك»… ثورة خفية وتلاعب بالبيانات البشرية

ليست «فيسبوك» مجرد شركة عادية، لقد وصلت إلى وضعية التريليون دولار خلال عشر سنوات فقط من خلال فرض منطق أسميه «رأسمالية المراقبة» – وهو نظام اقتصادي مبني على الاستخراج السري ثم التلاعب بالبيانات البشرية – في رؤيتها لربط العالم بأسره. والآن تسيطر شركة «فيسبوك» وغيرها من الشركات الرأسمالية الرائدة في مجال المراقبة على تدفقات المعلومات والبنية الأساسية للاتصالات في مختلف أنحاء العالم.
إن هذه البنية التحتية حيوية للغاية لإمكانية قيام مجتمع ديمقراطي، ومع ذلك فإن ديمقراطيتنا قد سمحت لهذه الشركات بامتلاك وتشغيل والتوسط في مجالات معلوماتنا غير مقيدة بالقانون العام. وكانت النتيجة ثورة خفية في كيفية إنتاج المعلومات وتعميمها والعمل على أساسها. ويشهد استعراض الإفصاحات المتكررة منذ عام 2016، الذي جرى تضخيمه من خلال توثيق المُبلغة فرنسيس هاوغن وشهادتها الشخصية، على عواقب هذه الثورة.
تواجه الديمقراطيات الليبرالية في العالم اليوم مأساة «الاستثناءات». فالمساحات الإعلامية التي يفترض الناس أنها عامة تحكمها بشكل صارم المصالح التجارية الخاصة من أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من الربح. لقد كشف النقاب أن الإنترنت باعتبارها سوقاً ذاتية التنظيم هي تجربة فاشلة. فرأسمالية المراقبة تخلف في أعقابها أثراً من الحطام الاجتماعي: التدمير الشامل للخصوصية، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وتسميم الخطاب الاجتماعي بمعلومات فاسدة، وهدم الأعراف الاجتماعية، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية.
هذه الأضرار الاجتماعية ليست عشوائية؛ إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتأثيرات تطور العمليات الاقتصادية. وكل ضرر واقع يمهد الطريق للضرر التالي ويعتمد على ما سبقه.
لا توجد طريقة للفرار من أنظمة الآلات التي ترصدنا، سواء كنا نتسوق أو نقود السيارات أو نتنزه في الحدائق. جميع الطرق إلى المشاركة الاقتصادية والاجتماعية الآن تتحرك من خلال الأرضية المؤسسية لتعظيم أرباح رأسمالية المراقبة، وهو وضع اشتد خلال ما يقرب من عامين من تفشي الوباء حول العالم.
هل سيؤدي العنف الرقمي في «فيسبوك» إلى التزامنا باستعادة «الاستثناءات»؟ ولكن هل نجابه التساؤلات الجوهرية التي طالما كانت موضعاً للتجاهل فيما يتصل بحضارة المعلومات: كيف ينبغي لنا أن ننظم ونحكم فضاءات المعلومات والاتصالات في القرن الرقمي على النحو الذي يدعم ويعزز القيم والمبادئ الديمقراطية؟
خرجت «فيسبوك» كما نعلم الآن من ضلع «غوغل» الأعوج؛ إذ لم تخترع شركة مارك زوكربيرغ رأسمالية المراقبة بالأساس. بل قامت «غوغل» بذلك. في عام 2000، عندما كان يتم تخزين 25 في المائة فقط من معلومات العالم رقمياً، كانت «غوغل» مجرد شركة ناشئة صغيرة جداً مع محرك بحثي رائع مع عائد ضئيل للغاية.
بحلول عام 2001، وفي أوج أزمة «دوت كوم»، وجد قادة «غوغل» انفراجة عبر سلسلة من الاختراعات التي من شأنها أن تحول دفة الإعلانات في العالم. لقد تعلم فريقهم كيفية الجمع بين تدفقات البيانات الضخمة من المعلومات الشخصية والتحليلات الحسابية المتقدمة للتنبؤ بالمكان الذي ينبغي أن يتم فيه وضع إعلان بغرض تحقيق أقصى حد ممكن من «النقر عليه». تم حساب التوقعات في البداية من خلال تحليل مسارات البيانات التي تركها المستخدمون من دون قصد في خوادم الشركة عند بحثهم وتصفحهم لمختلف صفحات «غوغل». وتعلم علماء الشركة كيفية استخراج البيانات الوصفية التنبؤية من «عادم البيانات» هذا واستغلالها في تحليل الأنماط المحتملة للسلوك في المستقبل.
وكان «التنبؤ» هو الحتمية الأولى التي حددت الحتمية الثانية: «الاستخراج». فالتنبؤات المربحة استلزمت تدفقات من البيانات البشرية على نطاق لا يمكن تصوره. ولم يكن المستخدمون يشكون في أن بياناتهم قد لوحقت سراً وجُمعت من كل زاوية من زوايا الإنترنت، ثم من التطبيقات، والهواتف الذكية، والأجهزة، والكاميرات، والمستشعرات لاحقاً. وكان إدراك «جهل» المستخدم بما يجري من أوثق مقومات النجاح. وكان كل منتج جديد وسيلة لمزيد من «الارتباط»، وهو تعبير ملطف يستخدم لإخفاء عمليات «الاستخراج» غير المشروعة.
عندما سُئل لاري بايج (أحد المؤسسين المشاركين للشركة): ما هي «غوغل»؟، وصف هذا المشروع في عام 2001، وفقاً لرواية مفصلة نشرها دوغلاس إدواردز، أول مدير للعلامة التجارية في «غوغل»، في كتابه «أشعر بأنني محظوظ» قائلاً: «التخزين رخيص. الكاميرات رخيصة. والناس سوف ينتجون كميات هائلة من البيانات. كل ما تسمعونه، أو تشاهدونه، أو تجربونه سوف يصبح قابلاً للبحث. حياتك كلها سوف تكون قابلة للبحث».
وبدلاً من بيع محرك البحث إلى المستخدمين، واصلت «غوغل» العمل من خلال تحويل محرك البحث لديها إلى أداة متطورة للمراقبة يمكنها التقاط البيانات البشرية. ولقد عمل المسؤولون التنفيذيون بالشركة على إبقاء هذه العمليات الاقتصادية سرية، وخفية عن المستخدمين، والمشرعين، والمنافسين. فقد عارض السيد بايج أي شيء من شأنه «إثارة قضية الخصوصية ويعرض قدرتنا على جمع البيانات للخطر»، كما نوه دوغلاس إدواردز.
وكانت عمليات الاستخراج على نطاق واسع هي حجر الزاوية في البناء الاقتصادي الجديد، وحلت محل اعتبارات أخرى، بدءاً من جودة المعلومات، لأنه في منطق رأسمالية المراقبة، لا ترتبط نزاهة المعلومات بالأرباح.
هذا هو السياق الاقتصادي الذي تنتصر فيه المعلومات المضللة. ومؤخراً في 2017، أقر إريك شميدت، الرئيس التنفيذي لشركة «ألفابيت» الشركة الأم لـ«غوغل»، بدور عمليات تصنيف اللوغاريتمات لدى «غوغل» في نشر المعلومات المضللة. وقال: «هناك خط لا يمكننا عبوره حقاً. من الصعب للغاية إدراك الحقيقة». فالشركة التي تضطلع بمهمة تنظيم جميع المعلومات العالمية وجعلها في متناول الجميع باستخدام أكثر أنظمة الماكينات تطوراً لا تستطيع تمييز المعلومات الفاسدة.
بدأ زوكربيرغ حياته المهنية في مجال الأعمال الحرة في عام 2003 بينما كان طالباً في جامعة هارفارد. وقد دعا موقعه الإلكتروني «فيس ماش» الزوار إلى تقييم جاذبية الطلاب الآخرين. وسرعان ما أثار غضب نظرائه وأغلق الموقع. ثم جاء «ذا فيسبوك» في عام 2004، ثم «فيسبوك» في عام 2005، عندما استحوذ زوكربيرغ على أول مستثمرين محترفين لديه.
زاد عدد مستخدمي «فيسبوك» بسرعة عالية؛ ولكن العائدات لم ترتفع بالتوازي. ومثله كمثل «غوغل» قبل بضعة أعوام، لم يتمكن زوكربيرغ من تحويل الشعبية إلى أرباح. وبدلاً من ذلك، انتقل من خطأ فادح إلى خطأ فادح آخر. وقد أدت انتهاكاته الفظة لتوقعات خصوصية المستخدمين إلى ردود فعل عنيفة من جانب عامة الناس، وإلى تقديم الالتماسات، والعرائض، ورفع الدعاوى القضائية. ويبدو أن زوكربيرغ أدرك أن الإجابة عن مشاكله تتعلق باستخلاص البيانات البشرية من دون موافقة لصالح الجهات المُعلنة، ولكن تعقيدات المنطق الجديد استعصت عليه.

شوشانا زوبوف