أرشيف التصنيف: المقالات العامة
اليورو يتجاهل قفزة التضخم والدولار يترقب بيانات وظائف أمريكية
Apple أول شركة في العالم تصل قيمتها السوقية إلى 3 تريليون دولار
المؤشرات الأوروبية تُنهي أولى جلسات عام 2022 على مكاسب جماعية
ستاندرد اند بورز 500 قرب مستوى قياسي في بداية مشرقة للعام الجديد
2022: بدايات مرجوة ونهايات مأمولة
مع اقتراب بداية كل عام تبدأ لعبة التوقعات والتنبؤ بما سيحدث، والعام المقبل ليس استثناءً. وفي مجالات الاقتصاد والسياسة والشأن العام دأبت مراكز أبحاث ومؤسسات إعلام عالمية على استعراض قدراتها على حصر موضوعات تعتبرها ذات أولوية فتستشرف احتمالات حدوثها وما ينبغي عمله حيالها. وتتباين درجة ثقة أصحاب التوقعات بتوقعاتهم عما سيحدث ودفاعهم عنها وفقاً لمدى اقتناعهم باستيعابهم لما حدث فعلاً في الماضي، فتجد أكثرهم إفراطاً في الثقة بتوقعاتهم عن المستقبل هم أكثرهم توهماً بفهمهم الكامل لأحداث الماضي. فنحن في عالم تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة في استخدامها.
ويلخص مدى جدية التوقعات المستقبلية عبارة لا تخلو من سخرية مضمونها، أن «التوقع أمر في غاية الصعوبة، خاصة إذا ما كان عن المستقبل»! وهي عبارة منسوبة لكثيرين، منهم العالم الدنماركي نيلز بوهر، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عن صياغته نماذج فهم البنية الذرية وإسهاماته في علم ميكانيكا الكم. وقد بنى على هذا الرأي عالم فيزياء آخر من أصحاب جائزة نوبل أيضاً وهو دينيس جابور البريطاني المجري مخترع التصوير الثلاثي الأبعاد، فله مقولة مفادها أن «المستقبل لا يمكن توقعه، لكن يمكن اختراع أكثر من مستقبل؛ فقدرة الإنسان على الاختراع هي ما طورت المجتمعات الإنسانية إلى ما هي عليه». وبمثل ذلك قال المخترع الأميركي الشهير ستيف جوبز، الذي طور أجهزة الكومبيوتر الشخصي وكان وراء اختراعات أجهزة التليفون المحمول الذكي – آيفون – وغيره من أجهزة أحدثت نقلة في حياة البشر.
على أي حال، تستمر لعبة التوقعات التي تزداد صعوبة، والصعوبة هنا ليست في أن تصادف التوقعات الواقع الذي تتنبأ به فحسب، ولكن في حصر ما هو جدير بالتوقع والتتبع من حيث الأولوية في ظل ظروف اللايقين التي تكتنف عالم ما بعد الجائحة.
وتيسيراً للأمر؛ فلنلق نظرة على ما تكرر من إشارة إلى اتجاهات عامة مؤثرة في عالم ما بعد الجائحة اعتباراً من العام المقبل – 2022 – الذي ستغلب عليه جهود التكيف والتعايش مع خصائص الواقع الجديد، بعدما كانت سنة 2021، التي تلملم ما تبقى من ساعاتها، مسيطرة عليها إجراءات التصدي الصحية والمالية للجائحة وتداعياتها.
ومع كثرة بيوت الخبرة والمراكز التي تصنف الفرص والمخاطر، إلا أن كاتب هذه السطور يعطي وزناً وتفضيلاً لما يصدر عن مؤسسات التأمين؛ لأن الكبريات منها لا تكتفي بقدراتها البحثية الداخلية، ولكنها تستعين بخبرات متنوعة من خارجها تعينها على تحديد سياساتها. وهي تحتفظ بسجلات مستمرة التحديث عن حسابات المخاطر وتغيراتها وما أصابها من خطأ في التقدير. وأهميتها تأتي من أنها لا تتوقف عند مجرد سرد المخاطر، ولكنها تقوم بتسعيرها من خلال خدمات التأمين عبر دول وقطاعات وأنشطة متباينة. وفي تقرير حديث لمؤسسة «أكسا» للتأمين، بالتعاون مع مجموعة «يوراسيا» التي يرأسها محلل السياسة الدولية المعروف إيان بريمر، تم تقسيم العالم إلى أربعة أجزاء لأغراض التحليل: أوروبا، والأميركتان، وأفريقيا، والشرق الأوسط وآسيا. ووفقاً لاستمارة استقصاء رأي تم سؤال 3600 خبير مختص في المخاطر وإدارتها لاختيار خمسة مخاطر وفقاً لأولويتها من قائمة تضم 25 سؤالاً، وبالإضافة لهؤلاء الخبراء الذين يعيشون في 60 دولة حول العالم تم سؤال عينة من 20 ألف شخص من 15 دولة، وجاءت المخاطر الخمسة الأولى على هذا الترتيب:
1 – تغيرات المناخ
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – الجوائح والأمراض المعدية
4 – المخاطر الجيوسياسية
5 – مخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية
ويلاحظ أن هذا الترتيب العالمي للمخاطر من وجهة نظر الخبراء قد اختلف بشأن ما يشغل المرتبة الأولى باختلاف الأقاليم الجغرافية، حيث ظلت تغيرات المناخ في المرتبة الأولى للمجموعة الأوروبية، بينما شغلت مخاطر الأمن السيبراني المرتبة الأولى في حالة الأميركتين، ثم جاءت الجوائح في المرتبة الثالثة للمجموعتين. وهذا يُفسر بأن أوروبا وأميركا كانتا قد قطعتا شوطاً جيداً في التعامل مع الجائحة، التي احتلت المرتبة الأولى لهما في عام 2020. كان أن هذا المسح قد أُعلنت نتائجه قبل انتشار متحور «أوميكرون»، وفي حين ظلت الجائحة شاغلاً يومياً للأفراد محل البحث، إلا أن الخبراء ينزعون إلى النظر للأبعاد الأطول مدى، فحظيت بذلك تغيرات المناخ وأمن المعلومات بالسبق في التصنيف.
أما بالنسبة لمجموعة الدول الآسيوية والشرق الأوسط، فكان ترتيب المخاطر فيها على النحو التالي:
1 – الجوائح والأمراض المعدية
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – تغيرات المناخ
4 – الاستقرار المالي
5 – المخاطر الجيوسياسية
وقد اشتركت أفريقيا مع هذه المجموعة في الترتيب للمخاطر الأولى والثانية، فبدأت بالجوائح والمخاطر الصحية وثنتها بمخاطر أمن المعلومات، ولكنها جعلت المخاطر الجيوسياسية في المرتبة الثالثة قبل تغيرات المناخ التي جاءت رابعة في الترتيب، ثم جاءت في المرتبة الخامسة مشكلات الأمن الجديدة والإرهاب، وتبعها مباشرة مخاطر الاستقرار المالي، بما في ذلك الديون.
من الملاحظ تنامي الاهتمام حول العالم بالمعلومات وأمنها، فهي إما تحتل مرتبة الخطر الأول كما في الأميركتين أو الثاني في سائر الأقاليم الأخرى؛ فقد كان للجائحة أثر معجل لدور شبكة المعلومات والتحول الرقمي مع تزايد وتكرار الإغلاق الكلي والجزئي للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشار جيف ديجاردان، مؤسس شركة «فيجوال كابيتاليست»، في كتاب جديد بعنوان «إشارات»، إلى تعدد مصادر تهديد أمن المعلومات بين ما تقوم به جهات تابعة لحكومات أو عصابات أو أفراد منتظمو الهجوم على المواقع أو حالات عشوائية منفردة أو من تحركهم دوافع مالية أو أمنية أو لإحداث فوضى. وأن الأكثر تهديداً من الشركات هو ما يعمل منها في مجالات الخدمات المالية والبيع بالتجزئة ثم النقل والإعلام، بخسائر في الإيرادات وثقة المتعاملين والتعرض لانخفاض حاد في أسعار الأسهم. وإن كان الأكبر تأثيراً وخطورة على الأمن وسلامة المجتمع هو ما يوجه للمرافق العامة وشبكات الطاقة.
ومع زيادة الاستخدام لشبكات المعلومات ترتفع مخاطر تعرضها لمشكلات شتى: إذ أكد الأفراد المشاركون مخاوفهم من احتمال الإغلاق المفاجئ لخدمات أساسية تعتمد على شبكة المعلومات، والتعرض للتهديد والابتزاز وطلبات الفدية وسرقة البيانات الشخصية والتعدي على الخصوصية وحقوق الملكية الفكرية. ويبدو أن هناك تخوفاً من عدم قدرة السلطات العامة على مواجهة مخاطر الأمن السيبراني، حيث ذكر 26 في المائة فقط من الخبراء المشاركين في تقرير «أكسا»، أن هذه الجهات المعنية لديها استعدادات كافية للمواجهة، ومع تزايد حالات اختراق أمن شبكات المعلومات ارتفعت القيود الرقابية وإجراءات الحماية المطلوبة، بما جعل سوق أمن المعلومات من الأكثر نمواً في خلال الأعوام الماضية مع اتجاه عام لمزيد من التوسع في المستقبل.
ومع هذا الرصد لتوجهات عالمية تقدر المخاطر الظاهرة، تتجلى أيضاً أهمية استبيان الفرص الكامنة في سبل التعامل معها بدءاً من أدوار مراكز البحث العلمي على مستوى كل دولة، فتستعين بأهل الخبرة وأصحاب التخصصات المختلفة لتحليل مدى تأثر الدولة والمجتمع بهذه المتغيرات. فحسن الاستعداد للمخاطر المذكورة يدركها مبكراً قبل استفحالها وتحولها إلى أزمات مستمرة. ولا يُكتفى في هذا الشأن بتأسيس نظم للإنذار المبكر على قواعد علمية فحسب؛ فهذا شرط ضروري، فالشرط الكافي لا يتحقق إلا بالإعداد المبكر للبشر الذين يتعاملون معها ويستفيدون من معلوماتها من خلال الاستثمار في قدراتهم تعليماً وتدريباً. هذا من شأنه منع المخاطر أو على الأقل تحجيمها والتوقي منها، وسرعة التعامل معها حال حدوثها. والبشر مع هذه التحديات بين رجاء وأمل. رجاءً في أن تكون بداية عام جديد شروعاً في عمل يصلح ما سبق من عجز وإهمال في التصدي الواجب لهذه المخاطر؛ وأمل في أن تأتي الجهود المبذولة بنهايات لها أو التعاون على احتوائها بأقل تضحيات ممكنة.
د. محمود محيي الدين
زمن التحولات الاقتصادية الكبرى في الشرق الأوسط
يطوي العالم ومنطقة الشرق الأوسط عامهما الثاني في مواجهة أزمة صحية واقتصادية عالمية غير مسبوقة على وقع تحديات جديدة كتداعيات تفشي الموجات المتكررة من الجائحة وآخرها متحور «أوميكرون» وظهور تحولات اقتصادية مستجدة، كارتفاع معدلات التضخم وتزايد أوجه عدم اليقين حول المستقبل الاقتصادي. وفي ختام هذه السنة الحافلة بالأحداث وحيث أضحى الأفق الاقتصادي ملبداً بالغيوم، من المفيد العودة إلى أهم التطورات التي شهدتها المنطقة هذا العام واستشراف الآفاق الاقتصادية للسنة المقبلة.
اتسمت سنة 2021 بعودة التعافي التدريجي للمنطقة مع تحقيق العديد من بلدانها تقدماً ملحوظاً بعد الأزمة الاستثنائية التي أدت إلى انكماش غير مسبوق في الناتج المحلي خلال العام الماضي.
ففي حصاد هذا العام، تمكنت دول المنطقة، وإن بنسب متفاوتة، من احتواء الصدمات الاقتصادية المتأتية عن أزمة الجائحة وهي تتطلع إلى تحقيق نمو بنسبة 4.1 في المائة هذا العام. في المقابل، يتسم التعافي الحالي بالتباين بين مسارات الدول في ظل معاناة البعض منها من تداعيات اقتصادية واجتماعية عدة، على وقع بطء عملية التطعيم، وخصوصاً تلك التي تواجه تحديات عدم الاستقرار أو تعاني أعباء النزاعات والتقلبات السياسية. من ناحية أخرى، شهدت سوق النفط تحسناً كبيراً هذا العام مع وصول سعر البرميل إلى أكثر من 84 دولاراً أميركياً في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) بالمقارنة مع مستويات متدنية جداً شهدها سعر النفط العام الماضي، إذ انخفضت إلى ما دون عتبة 25 دولاراً أميركياً للبرميل في شهر أبريل (نيسان) 2020، كذلك تمكنت دول المنطقة من المحافظة على قدرتها التمويلية من الأسواق المالية العالمية، وقد أسهم في ذلك الدعم المقدم من صندوق النقد الدولي الذي قارب 60 مليار دولار، من خلال التمويل الذي بلغ نحو 17 مليار دولار، بالإضافة إلى تخصيص حقوق السحب الخاصة (SDR) بـ42 مليار دولار في أغسطس (آب) من هذا العام.
وفي خانة الإنجازات، أسهمت أزمة الجائحة في تسريع مسارات التحول الاقتصادي، حيث أحرزت دول عدة تقدماً في مجالات الاستثمار في التكنولوجيا وتطوير الاقتصاد الرقمي، بالإضافة إلى تكييف أنماط الإنتاج لتتلاءم مع التحولات العالمية وسلاسل التوريد. وشكلت الاستفادة من المسارات الجديدة مناسبة لتطوير البرامج الاجتماعية. وتؤدي التكنولوجيا والتحول الرقمي دوراً أساسياً وتُعتبران عَصَب أي استراتيجية موجهة نحو بناء المستقبل. كذلك ستكون لنشاطهما أهمية بالغة في دعم شبكات الأمان الاجتماعي، واستحداث قطاعات جديدة رافدة للنمو، وضمان تنافسية المنطقة عالمياً.
أما لجهة التحديات الجديدة، فقد ارتفعت نسب التضخم في بلدان المنطقة، حيث من المتوقع أن تلامس حدود 13 في المائة في عام 2021، بالتوازي مع ارتفاع الأسعار عالمياً، مصحوبة بارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة، يشكل مصدر قلق لجهة تأثيره السلبي على الأوضاع المعيشية لأصحاب الدخل المحدود والفئات الأكثر ضعفاً. كل ذلك ينذر بمخاطر نشوء اضطرابات اجتماعية، لا سيما في البلدان المنخفضة الدخل والاقتصادات الهشة. ومن شأن ذلك أن يزيد أيضاً من التحديات أمام البلدان التي تعاني عجزاً مرتفعاً في ماليتها العامة. وبوجه أشمل، باتت آفاق الاستقرار الاقتصادي أكثر تعقيداً في الكثير من البلدان، مع ارتفاع مخاطر تعرضها لتداعيات تشنج الأوضاع المالية بصورة مفاجئة.
على الصعيد الاجتماعي، لا تزال معدلات التوظيف ضعيفة في نهاية هذا العام، وأوجه عدم المساواة إلى ازدياد بين فئات المجتمع. فقد ارتفع معدل البطالة في المنطقة بنحو 1.5 في المائة منذ اندلاع الجائحة حيث بلغ 11.6 في المائة في العام الماضي – وهي نسبة تفوق بكثير تلك التي كانت سائدة أثناء الأزمات السابقة. كما أن فئتي الشباب والنساء كانتا الأكثر تضرراً. فعلى سبيل المثال، تراجعت مستويات توظيف الشباب بنحو 10 في المائة مقارنة بـ4.3 في المائة للبالغين، كما شهد توظيف النساء انخفاضاً بنسبة 6.1 في المائة في عام مقارنة بانخفاض 3.9 في المائة للرجال. من ناحية أخرى، تواجه نحو 15 في المائة إلى 25 في المائة من المؤسسات الصغيرة احتمال إعادة الهيكلة أو التصفية. كما لم يؤمن القطاع غير الرسمي، على عكس فترات الركود السابقة، درعاً في مواجهة الصدمات، حيث أدت إجراءات التباعد الاجتماعي إلى إغلاق الكثير من مؤسسات هذا القطاع وفقدان العاملين فيها وظائفهم.
أما بالنظر إلى عام 2022، فيمكن تسميته عام التحولات الاقتصادية الكبرى، حيث يدخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة تتسم بالضبابية والترقب لأسباب عدة؛ منها: عودة تفشي موجات جديدة من الجائحة وتأثيرها على الحركة الاقتصادية والتنقل، واستمرار التشنجات في سلاسل الإنتاج والتوريد التي تعزز مخاطر استمرار التضخم وتجذره، وتداعيات احتمال تراجع الطلب في بعض الاقتصادات الكبرى مثل الصين، بالإضافة إلى احتمال تعديل سياسة الفوائد وما لها من تأثير على حركة الاستثمارات العالمية ومخاطر خروج رؤوس الأموال من بعض الأسواق الناشئة وبالتالي الضغط على عملاتها. كذلك سيؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى جعل الاقتراض أكثر تكلفة في كل أنحاء العالم، ما يجهد المالية العامة.
هذه التطورات العالمية المرتقبة في العام المقبل ستضع الكثير من بلدان المنطقة في مواجهة مفاضلات دقيقة على صعيد القرارات الاقتصادية، نظراً لانحسار هامش الحركة والاتساع المستمر في الفوارق الاجتماعية. من هنا تبرز أهمية الإدارة الحكيمة للسياسات الاقتصادية والتي إن نجحت ستساعد على التعامل بدقة مع المفاضلات الصعبة. لذا، من المهم أن يتسم مسار السياسات الاقتصادية في العام المقبل بالمواءمة ما بين اجتياز التحديات الداهمة والعمل على تحويل هذه الأزمة قاعدة انطلاق لتحقيق تعافٍ صلب يؤمن العبور نحو نمو احتوائي مستدام.
في البداية، لا تزال إدارة المرحلة الراهنة تستدعي العمل للحفاظ على استقرار الدورة الاقتصادية وحماية الاقتصادات من أي صدمات جديدة في عام 2022، ذلك بالإضافة إلى الجهود المطلوبة لمواجهة الموجات المتكررة من الجائحة التي تشكل الأولوية الأكثر إلحاحاً، إذ تُعتبر عملية التطعيم الوسيلة الفضلى لحماية حياة المواطنين، فالإسراع في التطعيم يسهم في تحفيز النمو والحد من أوجه عدم المساواة بين فئات المجتمع. ومن الضروري التذكير هنا بالأهمية القصوى لتوثيق أطر التعاون على الصعيدين الإقليمي والدولي في تأمين اللقاحات وضمان توزيعها على جميع شرائح المجتمع.
من ناحية أخرى، يستدعي التضخم المتصاعد عالمياً متابعة وثيقة من قبل البنوك المركزية في المنطقة، وقد تظهر الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة من منطلق احترازي في حال استمرار ارتفاع توقعات التضخم عالمياً. كذلك ستتعين المواءمة بين الدعم المقدم من خلال السياسات المالية والنقدية على المدى القصير وبين الجهود المبذولة للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ويكتسب تعزيز أطر السياسات أهمية بالغة، للحفاظ على مستوى الديْن في حدود مستدامة وتعزيز الصدقية في قدرة البلدان على الاستجابة بفاعلية لمتطلبات الاستقرار والنهوض. فقد أدى تراكم الديون في عام 2020 إلى زيادة كبيرة في الاحتياجات التمويلية المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط، حيث من المتوقع أن تصل خلال فترة 2021 – 2022 إلى 1075 مليار دولار، مقارنة بـ784 مليار دولار في 2018 – 2019. ويمثل عدد صغير من البلدان الجزء الأكبر من حاجات التمويل الحكومية.
على صعيد آخر، ثمة حاجة لاتخاذ خطوات جريئة لمعالجة أوجه عدم المساواة، وتوفير فرص عمل، وتخفيف المخاطر الاجتماعية. وتبرز فرصة مهمة لتحويل اهتمامات المنطقة باتجاه دعم قطاعات الصحة والتعليم، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي لبناء منظومة اجتماعية جديدة. ومن شأن تحسين فرص التأهيل المهني وتقديم حوافز للتوظيف أن يساعدا العمالة في الانتقال إلى قطاعات أكثر إنتاجية، ودعم فرص العمل للشباب ومشاركة أكبر للنساء في النشاط الاقتصادي.
وفي مسار موازٍ، تحتل الجهود الرامية للتكيف مع التغير المناخي أهمية قصوى لبلدان المنطقة وذلك بالنظر إلى ازدياد وتيرة الكوارث المناخية والتكاليف المرتبطة بها، فهي مرشحة لمزيد من الارتفاع في العقود المقبلة. ومن الأهمية بمكان استكمال عملية التكيف مع متطلبات محاربة التغيير المناخي من خلال استثمارات جيدة الاستهداف تساعد على استحداث وظائف جديدة ومستدامة للأجيال المقبلة.
إن العبور نحو غد أفضل يبقى الهدف المركزي للسياسات الاقتصادية لدول المنطقة في عام 2022، وذلك من خلال بناء اقتصاد أكثر تقدماً وصلابة واحتواءً لجميع فئات المجتمع، وجعل هذا التعافي لحظة تحول مفصلية بالنسبة للمنطقة. إن عدم التحرك الاستراتيجي والسريع سيكبد شعوب المنطقة أعباءً كبيرة ويحرم الأجيال الطالعة فرصة تاريخية للنهوض والازدهار، لذا فإن العام المقبل سيكون عام التحولات الاقتصادية الكبرى، التي في حال حسن استخدامها، يمكن أن تشكل محطة فارقة في مسار بناء مستقبل اقتصادي واعد ومزدهر.
د. جهاد أزعور
* مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى
في صندوق النقد الدولي
دبلوماسية جديدة في تحوّل الطاقة
برزت مؤخراً بوادر وسائل دبلوماسية جديدة في مجال تحول الطاقة، هدفها استصدار قرارات دولية للتنديد بالآثار المترتبة على التغيير المناخي، ووسيلتها اللجوء إلى المحافل الدولية ذات الصلاحيات في إصدار القرارات، مثل: مجلس الأمن ومحكمة العدل الجنائية الدولية. وطرح مشروع قرارين بهذا الصدد أمام هذين المحفلين خلال أقل من شهر بعد مؤتمر «كوب 26»، لكن أخفقت المحاولات الأولية في هذه الدبلوماسية الجديدة في تحقيق أهدافها في كلتا الحالتين.
قدمت آيرلندا والنيجر مسودة قرار لمجلس الأمن يقضي باعتبار التغيير المناخي «خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي». واعترضت روسيا على مسودة القرار باستعمال حقها للنقض (الفيتو)، كما رفضته الهند وامتنعت الصين عن التصويت.
من الجدير بالذكر، أن مجلس الأمن كان قد ناقش في الماضي موضوع التغيير المناخي، إلا أن أهمية هذه المسودة تكمن في كونها المرة الأولى التي يطرح فيها مشروع قرار يطالب فيها بإدراج التغيير المناخي ضمن صلاحيات وأعمال مجلس الأمن، واعتبار التغيير المناخي «خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي». لكن صرح السفير الروسي فاسيلي نيبينيزيا أثناء تصويت المجلس على مشروع القرار، بأنه «غير مقبول» لحكومته، وأضاف «نحن نعارض خلق مجال جديد لأعمال مجلس الأمن بإنشاء علاقة مباشرة وأتوماتيكية ما بين التغيير المناخي والأمن الدولي، فهي محاولة لاستغلال موضوع علمي واجتماعي – اقتصادي وتحويلهما إلى مسألة سياسية». كما صرحت السفيرة الهندية ليندا توماس – غرينفيلد في اعتراضها، قائلة «لماذا الحاجة إلى قرار مجلس الأمن لاتخاذ خطوات عملية حول التغيير المناخي في الوقت الذي لدينا (اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيير المناخ؟)».
تكمن أهمية مواقف روسيا والصين والهند، في كونها دولاً طاقوية كبرى ذات مصالح ضخمة في موضوع تحول الطاقة. تحاول الدول الصناعية الغربية الإسراع في عملية تحول الطاقة وتهميش مصالح هذه الدول (روسيا باحتياطاتها النفطية والغازية الضخمة، والصين والهند باحتياطاتهما الضخمة من الفحم الحجري). والأمر نفسه ينطبق في المواقف التي تدعو إلى إيقاف الاستثمارات البترولية و/ أو تخفيض استهلاك الوقود الأحفوري مباشرة، رغم مشاريع بعض كبرى الدول المنتجة في تقليص الانبعاثات الكربونية من إنتاجها البترولي. ورغم عدم إيفاء الدول الصناعية بوعودها في تقديم المساعدات المالية للدول المنتجة في تقليص الانبعاثات أو الدول المتضررة من آثار التغيير المناخي. فمن دون هذه المساعدات من غير الممكن على أغلبية الدول في العالم الثالث المضي قدماً في إنفاق مليارات الدولارات سنوياً لدعم تحول الطاقة في بلادها. إذ لا تتوفر إمكانات مالية بهذا الحجم لدى الأغلبية الساحقة من دول العالم الثالث. من ثم، إذا استمرت هذه الطريقة في التعامل مع الدول ذات المصالح المختلفة، سيعني ذلك تأخر تحقيق تصفير الانبعاثات على صعيد معظم الكرة الأرضية.
من جهة أخرى، قدمت ثلاث دول مهددة بآثار التغيير المناخي، هي بنغلادش وساموا وفانواتو، طلباً إلى الاجتماع السنوي لمحكمة العدل الجنائية الدولية في لاهاي (عضويتها 123 دولة) التي تشكلت حسب اتفاقية روما. طلبت الدول الثلاث تعديل اتفاقية روما باعتبار دمار التغيير المناخي والبيئي جريمة خامسة «جريمة إبادة بيئية»، إضافة إلى الجرائم الأربع المنصوص عليها في الاتفاق: الإبادة الجماعية، وجرائم ضد البشرية، وجرائم حرب، وعدوان بشأن حرب غير قانونية. وتقدمت الدول الثلاث بالطلب خلال الاجتماع الافتراضي الأخير للمحكمة. وشكّل تعهد الدول الصناعية تعويض الدول المتضررة بالأعاصير والفيضانات ونقضها لهذه التعهدات الشكوى الرئيسة لهذا المشروع. وكانت الدول الثلاث وغيرها من الدول الساحلية والبحرية قد أثارت الموضوع بشكل واسع في مؤتمر «كوب 26» قبل أسابيع.
طلبت الدعوة الإضافة إلى ميثاق روما «جريمة خامسة» باعتبار دمار التغيير البيئي والمناخي نوعاً جديداً من أنواع الجرائم ضد البشرية. ولكن تطلبت الدعوة تعديلاً في ميثاق روما؛ الأمر الذي استدعى الالتزام بإجراءات إدارية وبروتوكولية قبل النقاش والتداول في صلب الموضوع. لكن أخفقت الدول الثلاث التي تقدمت بالطلب الالتزام بالإجراءات الإدارية والبروتوكولية المطلوبة.
وليد خدوري
كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة
«فيسبوك»… ثورة خفية وتلاعب بالبيانات البشرية
ليست «فيسبوك» مجرد شركة عادية، لقد وصلت إلى وضعية التريليون دولار خلال عشر سنوات فقط من خلال فرض منطق أسميه «رأسمالية المراقبة» – وهو نظام اقتصادي مبني على الاستخراج السري ثم التلاعب بالبيانات البشرية – في رؤيتها لربط العالم بأسره. والآن تسيطر شركة «فيسبوك» وغيرها من الشركات الرأسمالية الرائدة في مجال المراقبة على تدفقات المعلومات والبنية الأساسية للاتصالات في مختلف أنحاء العالم.
إن هذه البنية التحتية حيوية للغاية لإمكانية قيام مجتمع ديمقراطي، ومع ذلك فإن ديمقراطيتنا قد سمحت لهذه الشركات بامتلاك وتشغيل والتوسط في مجالات معلوماتنا غير مقيدة بالقانون العام. وكانت النتيجة ثورة خفية في كيفية إنتاج المعلومات وتعميمها والعمل على أساسها. ويشهد استعراض الإفصاحات المتكررة منذ عام 2016، الذي جرى تضخيمه من خلال توثيق المُبلغة فرنسيس هاوغن وشهادتها الشخصية، على عواقب هذه الثورة.
تواجه الديمقراطيات الليبرالية في العالم اليوم مأساة «الاستثناءات». فالمساحات الإعلامية التي يفترض الناس أنها عامة تحكمها بشكل صارم المصالح التجارية الخاصة من أجل تحقيق أقصى قدر ممكن من الربح. لقد كشف النقاب أن الإنترنت باعتبارها سوقاً ذاتية التنظيم هي تجربة فاشلة. فرأسمالية المراقبة تخلف في أعقابها أثراً من الحطام الاجتماعي: التدمير الشامل للخصوصية، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وتسميم الخطاب الاجتماعي بمعلومات فاسدة، وهدم الأعراف الاجتماعية، وإضعاف المؤسسات الديمقراطية.
هذه الأضرار الاجتماعية ليست عشوائية؛ إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتأثيرات تطور العمليات الاقتصادية. وكل ضرر واقع يمهد الطريق للضرر التالي ويعتمد على ما سبقه.
لا توجد طريقة للفرار من أنظمة الآلات التي ترصدنا، سواء كنا نتسوق أو نقود السيارات أو نتنزه في الحدائق. جميع الطرق إلى المشاركة الاقتصادية والاجتماعية الآن تتحرك من خلال الأرضية المؤسسية لتعظيم أرباح رأسمالية المراقبة، وهو وضع اشتد خلال ما يقرب من عامين من تفشي الوباء حول العالم.
هل سيؤدي العنف الرقمي في «فيسبوك» إلى التزامنا باستعادة «الاستثناءات»؟ ولكن هل نجابه التساؤلات الجوهرية التي طالما كانت موضعاً للتجاهل فيما يتصل بحضارة المعلومات: كيف ينبغي لنا أن ننظم ونحكم فضاءات المعلومات والاتصالات في القرن الرقمي على النحو الذي يدعم ويعزز القيم والمبادئ الديمقراطية؟
خرجت «فيسبوك» كما نعلم الآن من ضلع «غوغل» الأعوج؛ إذ لم تخترع شركة مارك زوكربيرغ رأسمالية المراقبة بالأساس. بل قامت «غوغل» بذلك. في عام 2000، عندما كان يتم تخزين 25 في المائة فقط من معلومات العالم رقمياً، كانت «غوغل» مجرد شركة ناشئة صغيرة جداً مع محرك بحثي رائع مع عائد ضئيل للغاية.
بحلول عام 2001، وفي أوج أزمة «دوت كوم»، وجد قادة «غوغل» انفراجة عبر سلسلة من الاختراعات التي من شأنها أن تحول دفة الإعلانات في العالم. لقد تعلم فريقهم كيفية الجمع بين تدفقات البيانات الضخمة من المعلومات الشخصية والتحليلات الحسابية المتقدمة للتنبؤ بالمكان الذي ينبغي أن يتم فيه وضع إعلان بغرض تحقيق أقصى حد ممكن من «النقر عليه». تم حساب التوقعات في البداية من خلال تحليل مسارات البيانات التي تركها المستخدمون من دون قصد في خوادم الشركة عند بحثهم وتصفحهم لمختلف صفحات «غوغل». وتعلم علماء الشركة كيفية استخراج البيانات الوصفية التنبؤية من «عادم البيانات» هذا واستغلالها في تحليل الأنماط المحتملة للسلوك في المستقبل.
وكان «التنبؤ» هو الحتمية الأولى التي حددت الحتمية الثانية: «الاستخراج». فالتنبؤات المربحة استلزمت تدفقات من البيانات البشرية على نطاق لا يمكن تصوره. ولم يكن المستخدمون يشكون في أن بياناتهم قد لوحقت سراً وجُمعت من كل زاوية من زوايا الإنترنت، ثم من التطبيقات، والهواتف الذكية، والأجهزة، والكاميرات، والمستشعرات لاحقاً. وكان إدراك «جهل» المستخدم بما يجري من أوثق مقومات النجاح. وكان كل منتج جديد وسيلة لمزيد من «الارتباط»، وهو تعبير ملطف يستخدم لإخفاء عمليات «الاستخراج» غير المشروعة.
عندما سُئل لاري بايج (أحد المؤسسين المشاركين للشركة): ما هي «غوغل»؟، وصف هذا المشروع في عام 2001، وفقاً لرواية مفصلة نشرها دوغلاس إدواردز، أول مدير للعلامة التجارية في «غوغل»، في كتابه «أشعر بأنني محظوظ» قائلاً: «التخزين رخيص. الكاميرات رخيصة. والناس سوف ينتجون كميات هائلة من البيانات. كل ما تسمعونه، أو تشاهدونه، أو تجربونه سوف يصبح قابلاً للبحث. حياتك كلها سوف تكون قابلة للبحث».
وبدلاً من بيع محرك البحث إلى المستخدمين، واصلت «غوغل» العمل من خلال تحويل محرك البحث لديها إلى أداة متطورة للمراقبة يمكنها التقاط البيانات البشرية. ولقد عمل المسؤولون التنفيذيون بالشركة على إبقاء هذه العمليات الاقتصادية سرية، وخفية عن المستخدمين، والمشرعين، والمنافسين. فقد عارض السيد بايج أي شيء من شأنه «إثارة قضية الخصوصية ويعرض قدرتنا على جمع البيانات للخطر»، كما نوه دوغلاس إدواردز.
وكانت عمليات الاستخراج على نطاق واسع هي حجر الزاوية في البناء الاقتصادي الجديد، وحلت محل اعتبارات أخرى، بدءاً من جودة المعلومات، لأنه في منطق رأسمالية المراقبة، لا ترتبط نزاهة المعلومات بالأرباح.
هذا هو السياق الاقتصادي الذي تنتصر فيه المعلومات المضللة. ومؤخراً في 2017، أقر إريك شميدت، الرئيس التنفيذي لشركة «ألفابيت» الشركة الأم لـ«غوغل»، بدور عمليات تصنيف اللوغاريتمات لدى «غوغل» في نشر المعلومات المضللة. وقال: «هناك خط لا يمكننا عبوره حقاً. من الصعب للغاية إدراك الحقيقة». فالشركة التي تضطلع بمهمة تنظيم جميع المعلومات العالمية وجعلها في متناول الجميع باستخدام أكثر أنظمة الماكينات تطوراً لا تستطيع تمييز المعلومات الفاسدة.
بدأ زوكربيرغ حياته المهنية في مجال الأعمال الحرة في عام 2003 بينما كان طالباً في جامعة هارفارد. وقد دعا موقعه الإلكتروني «فيس ماش» الزوار إلى تقييم جاذبية الطلاب الآخرين. وسرعان ما أثار غضب نظرائه وأغلق الموقع. ثم جاء «ذا فيسبوك» في عام 2004، ثم «فيسبوك» في عام 2005، عندما استحوذ زوكربيرغ على أول مستثمرين محترفين لديه.
زاد عدد مستخدمي «فيسبوك» بسرعة عالية؛ ولكن العائدات لم ترتفع بالتوازي. ومثله كمثل «غوغل» قبل بضعة أعوام، لم يتمكن زوكربيرغ من تحويل الشعبية إلى أرباح. وبدلاً من ذلك، انتقل من خطأ فادح إلى خطأ فادح آخر. وقد أدت انتهاكاته الفظة لتوقعات خصوصية المستخدمين إلى ردود فعل عنيفة من جانب عامة الناس، وإلى تقديم الالتماسات، والعرائض، ورفع الدعاوى القضائية. ويبدو أن زوكربيرغ أدرك أن الإجابة عن مشاكله تتعلق باستخلاص البيانات البشرية من دون موافقة لصالح الجهات المُعلنة، ولكن تعقيدات المنطق الجديد استعصت عليه.
شوشانا زوبوف
أقوى وسيط بيانات في العالم ينتصر في الحرب ضد أميركا
خرج الرئيس بايدن من القمة التي جمعته بالرئيس الصيني شي جينبينغ في 15 نوفمبر (تشرين الثاني)، ملتزماً المضيَّ قدماً فيما أطلق عليه «المنافسة البسيطة والمباشرة» مع الصين. ومع ذلك، تبدو بكين متفوقة بالفعل على الولايات المتحدة وحلفائها في مجال واحد حاسم، ألا وهو البيانات.
في الواقع، تعد البيانات بمثابة نفط القرن الحادي والعشرين، أي المورد الذي لا غنى عنه والذي سيغذي خوارزميات الذكاء الصناعي والقوة الاقتصادية والقوة الوطنية.
أما مصدر هذه البيانات فهو منا جميعاً: سجلاتنا الصحية والتسلسلات الجينية، وعاداتنا عبر الإنترنت، وتدفق سلسلة التوريد لأعمالنا، وعدد تيرابايت من الصور التي تلتهمها الهواتف والطائرات من دون طيار والسيارات ذاتية القيادة.
تتطلب المنافسة على النفوذ العالمي في القرن الحادي والعشرين حماية هذه البيانات وتسخيرها لتحقيق مزايا تجارية وتكنولوجية وعسكرية. وحتى الآن، يبدو الفوز من نصيب الصين، بينما الغرب يشارك بالكاد.
من خلال مجموعة من القوانين واللوائح الحديثة، عمل الرئيس الصيني شي جينبينغ بجد لجعل الحزب الشيوعي الصيني أقوى وسيط بيانات في العالم. والسؤال هنا: كيف تنجز بكين ذلك؟ من خلال عزل البيانات الصينية عن العالم، وممارسة سلطة جديدة خارج الحدود الإقليمية على تدفقات البيانات العالمية ووضع الشركات الأجنبية العاملة في الصين في مأزق قانوني، وكل ذلك أثناء استيعاب بيانات البلدان الأخرى عبر وسائل مشروعة وغير مشروعة.
ويدرك شي جيداً أنه حتى إغلاق البيانات الصينية فقط، التي تمثل أنماط وسلوك نحو 1.4 مليار شخص، من شأنه أن يعيق منافسي بكين في سعيهم لتحقيق التفوق الاقتصادي العالمي.
من ناحيتها، تحدثت إدارة بايدن عن أهمية البيانات في المنافسة مع الصين، ومع ذلك لم تتضح حتى الآن معالم استراتيجية محددة في هذا الاتجاه؛ الأمر الذي يهدد خصوصية الأميركيين، والقدرة التنافسية الاقتصادية للبلاد، والأمن الوطني والمكانة العالمية المستقبلية. ومن المؤكد أن هذا سيكون هذا اختباراً أساسياً لسياسة واشنطن إزاء الصين خلال عام 2022.
إن «النقطة العمياء» لواشنطن بشأن الدور المحوري للبيانات الضخمة في مساعي تحقيق طموحات بكين والطرق التي تُستغل بها بياناتنا في خدمة تلك الطموحات أمر محير، في وقت يتزايد فيه قلق السياسيين الأميركيين حيال جمع البيانات الضخمة واستغلالها المحتمل من الشركات التكنولوجية الأميركية العملاقة.
ويزيد هذا الأمر حيرة أكبر؛ لأن الأميركيين يدركون كذلك السبل التي تستغل من خلالها بكين موارد الولايات المتحدة الأخرى وتحولها إلى سلاح بيدها، مثل أسواق رأس المال.
ويتضح هذا في الكيفية التي بدأت بها واشنطن أخيراً – وإن كانت متقطعة – في معالجة التدفق المدمر للذات للدولار الأميركي باتجاه أجهزة المراقبة العسكرية والعالمية في الصين. في حين أن هذا النوع من الإجراءات لا يزال في حاجة إلى التوسع بشكل كبير، فإن صانعي السياسات على الأقل لديهم الآن بعض الأدوات للحد من وصول بكين السهل إلى رأس المال الأميركي.
يختلف الأمر فيما يخص البيانات، مع اعتقاد بكين أن لها مطلق الحرية، وأن الغرب مشتت للغاية أو عاجز عن الاستجابة بشكل بنّاء. من جانبه، يفكر شي ويتصرف على نطاق ضخم، وكانت الحال كذلك منذ أيامه الأولى في السلطة.
على سبيل المثال، عام 2013، بعد فترة وجيزة من توليه الرئاسة في بكين، أعلن شي، أن «المحيط الهائل من البيانات، تماماً مثل موارد النفط أثناء فترة التحول إلى الصناعة، ينطوي على قوة إنتاجية وفرص هائلة. ومن يتحكم في تقنيات البيانات الضخمة سوف يتحكم في موارد التنمية وتكون له اليد العليا بكل تأكيد.
ومنذ ذلك الحين، تعكف بكين على بناء إطار عمل لضمان أن التراكم الجماعي للبيانات يصب باتجاه خدمة المصالح الاستراتيجية للحزب الشيوعي الصيني.
وأكدت سلسلة من القوانين التي جرى تنفيذها عام 2017 قدرة الحزب على الوصول إلى البيانات الخاصة على الشبكات الصينية، سواء في الصين أو المرتبطة بشركات صينية مثل «هواوي» في الخارج.
واليوم، سنّت بكين بهدوء مجموعة جديدة من القوانين، كان أولها قانون أمن البيانات في سبتمبر (أيلول)، تلاه في نوفمبر قانون حماية المعلومات الشخصية، الذي يتمادى إلى حد المطالبة ليس فقط بالوصول إلى البيانات الخاصة، وإنما كذلك بالسيطرة الفاعلة عليها.
ومن شأن ذلك ترك تأثير كبير على الشركات الأجنبية العاملة في الصين؛ ذلك أنه ليس فقط يجب أن تبقى بياناتهم الصينية داخل الصين وأن تكون في متناول الدولة، وإنما تطالب بكين أيضاً اليوم بالسيطرة على ما إذا كان يمكنهم إرسالها إلى مقرهم الرئيسي، إلى معمل شركة في كاليفورنيا، مثلاً، أو إلى حكومة أجنبية تقدمت بطلب لإنفاذ القانون أو طلب تنظيمي.
وربما تجرّم قوانين بكين الجديدة الامتثال للعقوبات الأجنبية المفروضة على الصين والتي تتضمن بيانات، مثل إغلاق الخدمات المصرفية أو الخدمات السحابية لكيان صيني مرتبط بتجاوزات بمجال حقوق الإنسان. في هذه الحالات، يمكن للشركات الأجنبية الامتثال للقانون الأميركي، أو يمكنها الامتثال للقانون الصيني، ولكن ليس كليهما.
ويبدو تأثير مثل هذه القوانين واضحاً، فقد اختارت «تيسلا» و«آبل» وغيرهما بناء مراكز بيانات صينية متخصصة – أحياناً بالشراكة مع كيانات تتبع الدولة الصينية؛ خوفاً من فقدان الوصول إلى السوق الاستهلاكية الصينية الضخمة. كما واجهت مؤسسة «غولدمان ساكس» ضغوطا كبيرة كي تمتنع عن إرسال مذكرات عمل إلى الولايات المتحدة.
وتأتي الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها بكين لتكمل جهودها الطويلة في شراء البيانات وسرقتها والحصول عليها بطريقة أو بأخرى من مصادر أجنبية في جميع أنحاء العالم. المؤكد أن بكين تخترق قواعد بيانات الشركات متعددة الجنسيات، وتدير برامج «توظيف المواهب» في الجامعات والشركات الأجنبية، وتشتري شركات أجنبية، مثل شركة إيطالية لتصنيع طائرات عسكرية من دون طيار. كما أنها تمول شركاتها الناشئة القائمة على البيانات في الأسواق الخارجية المفتوحة، مثل وادي السيليكون.
مات بوتينغر وديفيد فيث
سيناريوهات «أوميكرون»
خلال سنة واحدة، ومنذ ديسمبر (كانون الأول) 2020، سجلت منظمة الصحة العالمية 5 متحورات من فيروس «كورونا»؛ ابتدأت بمتحور «ألفا» الذي سُجل في بريطانيا، وانتهت بمتحور «أوميكرون» الذي سجل في جنوب أفريقيا الشهر الماضي. وعند بداية ظهور كل متحور يتكرر السلوك نفسه من الأسواق، ولكن بدرجات متباينة، بهبوط للأسواق المالية، وزيادة اختناق سلاسل الإمداد والتوريد، وزيادة القيود على المصانع، وزيادة احتمالات التضخم. ولا يبدو أن العالم تأقلم حتى الآن مع ظهور المتحورات الجديدة، فقد شهدت الأسواق العالمية هبوطاً في بداية الأسبوع الماضي ونهاية الأسبوع السابق له. ولم تظهر حتى الآن بيانات يمكن الاعتماد عليها بشأن خصائص «أوميكرون»… وعليه؛ فإن كل ما يحدث في الأسواق العالمية الآن لا يعدو مخاوف تؤججها حالة عدم التيقن التي يفرضها المتحور الجديد.
وقد صرحت «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» في بيان لها بأثر المتحور الجديد في زيادة حالة عدم التيقن التي يعاني منها الاقتصاد العالمي بالفعل قبل ظهور المتحور. وزادت المنظمة من توقعاتها زيادة التضخم عام 2022 من 3.9 في المائة إلى 4.4 في المائة، مبيّنة أن أكثر من قد يتضرر من زيادة معدل التضخم هما بريطانيا والولايات المتحدة، وذلك بارتفاع التوقعات من 3.1 في المائة إلى 4.4 في المائة. كما توقعت المنظمة انخفاض معدل النمو لبعض الدول، مثل أوروبا والصين والولايات المتحدة، بينما لم تتوقع ضرر دول أخرى مثل الهند واليابان، مستنتجة أن النمو العالمي إجمالاً قد لا يتغير كثيراً العام المقبل عن التوقعات السابقة والتي أعلنتها بداية الربع الرابع من هذا العام.
وبالنظر إلى المتحورات السابقة؛ فقد وضعت المنظمة احتمالين لتأثير المتحور على التضخم: الأول أن يتسبب المتحور الجديد في مزيد من الاضطرابات في سلاسل الإمداد وأن يطيل التضخم لفترة أطول. أما الثاني فيفترض تفاقم المتحور فيكون هناك مزيد من القيود على التنقل كما حدث في بداية الوباء، وفي هذه الحالة سوف ينخفض الطلب مسبباً انحساراً سريعاً للتضخم. كما حدد «غولدمان ساكس» 4 سيناريوهات للمتحور الجديد:
الأول: أن يكون هذا المتحور مجرد إنذار كاذب، وبذلك ينتشر «أوميكرون» بسرعة أقل من سابقه متحور «دلتا»، ويكون له تأثير اقتصادي طفيف.
الثاني: أن ينتشر «أوميكرون» أسرع من سابقه، ولكنه يكون أقل فتكاً منه، والتأثير في هذه الحالة يكون متواضعاً.
الثالث: أن يكون المتحور الجديد أكثر عدوى وفتكاً من سابقه، وفي هذه الحالة يكون الأثر والانكماش الاقتصادي كبيراً.
والسيناريو الأخير هو أن يستمر المتحور الجديد في الانتشار بشكل تصاعدي؛ لكنه أقل فتكاً من متحور «دلتا»، مؤثراً بذلك على التوقعات المستقبلية، ولكن الواقع قد يتغلب على هذه التوقعات، تماماً كما حدث خلال الأشهر الماضية حيث كان التعافي العالمي أسرع من المتوقع.
وتنتظر جميع هذه التوقعات بيانات واقعية من العلماء ومن المستشفيات لتعطي صورة أوضح عن الوضع المقبل؛ لا سيما أن التخوف الأكبر للأسواق هو فرض قيود جديدة على المصانع والموانئ والشحن، مما يعني مزيداً من اختناقات سلاسل الإمداد التي تعاني قبل ظهور المتحور. كما تخشى الحكومات كذلك أن يستدعي تفاقم الوضع الاقتصادي إطلاق حزم مساعدات جديدة، وقد بلغت المساعدات التي وفرتها دول «مجموعة العشرين» نحو 10 تريليونات دولار. هذه المساعدات قد تعاني منها الدول الغربية أكثر من غيرها؛ وذلك لارتفاع الديون لديها الآن، بينما تملك الدول الآسيوية احتياطات تمكنها من إطلاق هذه المساعدات دون الاعتماد على الديون وحدها.
والأكيد أن المتحور الجديد لن يكون بالشدة نفسها لوقع بداية الوباء، فالعالم اليوم اعتاد وجود الفيروس، والدليل أن الإصابات والوفيات في هذا العام أكثر بكثير من مثيلاتها العام الماضي، ومع ذلك؛ فلم يكن التأثير على عجلة الاقتصاد بالشدة ذاتها. ولكن المخاطر قد تأتي من الإغلاق الحكومي كما يحدث في اليابان حالياً من إغلاق للحدود، أو بابتعاد طوعي من الأفراد عن التجمعات والاختلاط الاجتماعي خوفاً من العدوى، أو من زيادة في القيود المحلية كما حدث في الصين التي قد يؤثر الوضع فيها على سائر العالم بما تملكه من قوة اقتصادية وأثر كبير على سلاسل الإمداد.
إن ظهور 5 متحورات خلال عام واحد لهو دليل على أن فيروس «كورونا» لن يتوقف عن أنه تهديد لأي بلد في العالم حتى يتوقف عن أنه تهديد لجميع البلدان. وظهور متحورين من الخمسة في جنوب أفريقيا ليس محض صدفة، حيث لم تزد نسبة أخذ الجرعات على 25 في المائة. ولذلك فالحري بالحكومات – بدلاً من تغيير السياسات النقدية بوصفها حلولاً مؤقتة – الالتفات بشكل جدي إلى توفير اللقاح للدول الفقيرة التي لا يزيد معدل أخذ اللقاح فيها على 7 في المائة مقابل 65 في المائة للدول الغنية. وتوفير اللقاح للدول الفقيرة ليس تصرفاً خيرياً؛ بل هو ضرورة يحتمها واقع أن العالم اليوم في مركب واحد، فعدم توفير اللقاح يعطي فرصة لانتشار الفيروس بشكل أسرع، وبالتالي زيادة إمكانية ظهور متحورات جديدة تزيد من التقلبات الاقتصادية في العالم، وتؤخر تعافي النمو الاقتصادي.+
د. عبد الله الردادي
بتكوين قرب مستوى 49 ألف دولار الاثنين 6 ديسمبر
مع «أوميكرون»… القلق مشروع والهلع ممنوع
في قائمة المربكات الكبرى، التي تضطرب بعد ظهورها حياة البشر وتختلف أحوال معيشتهم تأثراً بها، تتربع على قمتها الجوائح والأوبئة. فبعد عامين من ظهور فيروس كورونا في ووهان بالصين، يحيي الفيروس ذكراه السنوية بمتحور جديد أُعلن عنه في جنوب أفريقيا ومنحته منظمة الصحة العالمية اسم «أوميكرون». ويشكل المتحور الجديد مع المتحور السابق عليه المعروف بـ«دلتا»، الذي ظهر في الهند في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، خطراً جديداً على صحة الإنسان واستقرار المجتمعات وتطورات اقتصاداتها.
وحتى كتابة هذه السطور ظهرت حالات متعددة للإصابة بالفيروس المتحور مرت بأفريقيا وآسيا، وتكاثرت مع اكتشافها بالاختبارات المتلاحقة في أوروبا وكندا. ولم تظهر حالات بعد في الولايات المتحدة ولكن رئيسها جو بايدن، قال إنها فقط مسألة وقت حتى يصل «أوميكرون» إلى أميركا، بما يدعو للقلق ولكنه دعا شعبه لعدم الذعر أو الهلع الذي يزيد الأمور ارتباكاً. كما ذكر بايدن بعد اجتماع مع كبير خبراء الأمراض المعدية الأشهر أنتوني فاوتشي، بأن بلاده ستتعرف على هذا المتحور وستهزمه، وأنه سيحيط الشعب بالمستجدات. ووفقاً لفاوتشي، فإن اللقاحات المتاحة توفر حماية للأشخاص الملقحين بالكامل، ولكن فريقه سيحتاج إلى أسبوعين للتعرف على مزيد من المعلومات عن مدى خطورة السلالة الجديدة وخصائصها وسبل التعامل معها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الدكتور فاوتشي إلى الالتزام بالإجراءات الاحترازية المألوفة منذ إعلان الجائحة، وتعزيز كل من حصل على جرعتين من اللقاح بثالثة، وأن يمتد التطعيم ليشمل الأطفال، يواجه العالم معضلتين فيما يتعلق باللقاح. أولهما عزوف الكثيرين في أميركا وأوروبا عن تلقي اللقاح لعدم ثقتهم به علمياً، أو لاقتناعهم بالمناعة الطبيعية كبديل لعملية السيطرة بفرض لقاحات، أو لتمردهم على الانصياع لأي ضوابط أو قيود باعتبارات تمسكهم بحرياتهم وسيادتهم على أجسادهم. وفي حين يتعرض فاوتشي وفريقه لهجوم شديد لتمسكه بضرورة التلقيح للبالغين، خصوصاً من سياسيين من الجنوب الأميركي من المنتمين للحزب الجمهوري، ذكرت مجلة «نيويوركر» على لسان دكتور فاوتشي رده على هذا الهجوم بأن «متحوراً فيروسياً للغباء تم التعرف عليه في تكساس! وأن هذا المتحور سريع الانتشار لديه مناعة شديدة ضد كل المعلومات». ويستمر السجال والجدل المتواصل بين من يملكون رفاهية الاختيار في الدول الغنية، ففي نهاية الأمر لديهم العلاج في منظومتهم الصحية إذا ساءت اختياراتهم، رغم ما في ذلك من مخاطر تتجاوز في تكلفتها ما تتطلبه الوقاية.
المعضلة الثانية الأكبر خطراً هي عدم العدالة في توفير اللقاحات حول العالم. وفي مقال نشر الأسبوع الماضي بصحيفة «الشرق الأوسط» الغراء بقلم جوردون براون رئيس الحكومة البريطانية الأسبق، بصفته سفيراً لمنظمة الصحة العالمية لتمويل الصحة العالمية، أقر بفشل المجتمع الدولي في الوفاء بتحقيق التوزيع العادل للقاحات. فرغم أن العالم مع نهاية هذا العام سيكون قد أنتج 12 مليار لقاح، فإن 95 في المائة من البالغين في الدول الأفقر ما زالوا محرومين من اللقاح الذي تستحوذ عليه الدول الأغنى. ولن تصل أكثر من 80 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل للحد الأدنى المقرر عالمياً بتطعيم 40 في المائة من البالغين من سكان كل دولة. وهو ما حذرنا منه تكراراً منذ الإعلان رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 عن الانتصار العلمي بتطوير عدة لقاحات ناجعة في زمن قياسي. ففي حين انتصر العلم خابت الإرادة السياسية وخارت قواها المحدودة أمام جشع المستحوذين على اللقاح، الذين ستنتهي في مخازنهم صلاحية 100 مليون جرعة قبل نهاية هذا العام لن ينتفع بها فقير أو غني.
وهكذا لم تشهد الدول النامية بعد كل اجتماع دولي للتعهدات إلا اتساعاً في الفجوة بينها وبين الدول ذات اللقاحات إنتاجاً أو اقتناء، ولم تجد الدول الأفقر مع هذا الحرمان إلا سخاء في وعود لم يوف بها. فوفقاً لبراون، فإن الدول الأغنى اشترت بالفعل ما يقترب من 90 في المائة من كافة اللقاحات، كما تسيطر على 70 في المائة من توريدات المستقبل. هذا في حين أن عدد من حصلوا على اللقاح في أفريقيا يقل عن 7 في المائة وفقاً لمنظمة الصحة العالمية. وعن صافي حسابات الوعود، فقد أوفت الولايات المتحدة بحوالي 22 في المائة من تبرعاتها الموعودة فحسب، وهي بذلك أفضل نسبياً من أداء الاتحاد الأوروبي الذي لم يتجاوز نسبة 15 في المائة.
وتجتمع هذا الأسبوع جمعية الصحة العالمية، وينتظر منها أن تتبنى قرارات مهمة لمنع تكرار حالات الإهمال السابقة على الأوبئة التي يعقبها هلع بعد الإعلان عن تفشيها، وذلك من خلال الاستثمار في تدابير وقائية وإتاحة التمويل الكافي للعمل الصحي الدولي، والنظر فيما تتبناه إدارة منظمة الصحة العالمية من اقتراح لمعاهدة دولية جديدة تدعم التنسيق الدولي في الاستعدادات المانعة لتفشي الأوبئة، والدفع بسرعة المواجهة حال حدوثها دوت إبطاء.
ومن العجيب أنه على بعد مسافة قريبة من مقر منظمة الصحة العالمية، حيث تقبع منظمة التجارة العالمية، ما زال هناك إصرار على عدم منح الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية لما يتعلق بمواجهة جائحة من لقاح وعلاج. وضيع العالم وقتاً ثميناً منذ تقدمت جنوب أفريقيا والهند في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2020 بطلب الإعفاء الذي رفضته إدارة ترمب الأميركية ودول غنية معها، ثم عاودتا الكرة ومعهما ستون من الدول النامية في شهر مايو (أيار) من هذا العام بطلب جديد، ولم يحرك هذا ساكناً رغم موافقة ما أظهرتها الولايات المتحدة منذ عدة شهور، بعدما كانت معترضة على الموافقة من قبل، لتعارضها الآن دول أوروبية بحجج واهية.
هناك ضرورة عالمية الأثر تحتم السماح للدول النامية ذات القدرة على إنتاج اللقاحات بالسير قدماً في ذلك، ولكن يعطلها التعنت بالتمسك بحقوق الملكية، وهو ما ينبغي التصدي له، وعدم الاكتفاء بوعود بقروض ميسرة أو دعم بمنح اللقاح. فالمنطق البسيط، فيما يفهم من شرح أهل الاختصاص، إما أن تكون في الدول النامية معامل وطاقات لإنتاج اللقاح وسرعة توزيعه فتصبح بذلك جزءاً من الحل، وإلا أصبحت جزءاً من المشكلة بجعلها مأوى ومكامن لخطر تحور مستمر للفيروس وعدم السيطرة سريعاً عليه؛ فلم يكن «دلتا» آخر التحورات، ولن يكون «أوميكرون» آخرها أيضاً.
ورغم ما مر به العالم من خبرة عن الأثر الاقتصادي لهذه التطورات فقد تكون هناك تساؤلات معلقة، ألخصها في حوار مفترض على طريقة الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت، في مسرحيته الشهيرة في «انتظار جودو» بين بطليه إستروجان الملول المتعجل، وفلاديمير الفيلسوف الهادئ:
– ما الذي ينتظر العالم من تغيرات اقتصادية؟
* الإجابة يسيرة وليست سارة.
– أفصح بالله عليك!
* بحكم ما رأيناه من تجربة مريرة خلال العامين الماضيين علينا أن نتوقع مزيداً من عدم اليقين، وتقلباً في الأسواق مع انخفاض في معدلات النمو والتشغيل لضعف الاستثمارات، مع زيادة في التباين في الدخول والثروات لصالح الدول الأغنى المستحوذة على اللقاحات، مصحوب ذلك كله بارتفاع في معدلات التضخم في الأسعار.
– وكأنك تقرأ تقرير مريض متعدد العلات! ولكنك تقول بوجود تضخم رغم ما نراه من مظاهر الركود؟ هل يجتمعان معاً.
* العين أسيرة ما تراه. ربما ترى أنت ركوداً حيث تعيش وتعمل، ولكن الركود ليس شاملاً لكل القطاعات؛ وإن كانت هناك مخاوف مما يسمى بالركود التضخمي مثلما حدث في السبعينات باجتماع الشرين معاً، وهو ما لا أرجح حدوثه فما زال هناك نمو يقترب من 6 في المائة في هذا العام، و5 في المائة في العام المقبل.
– أرقامكم لا نراها إلا في التقارير كثيرة التعديل والتغيير.
* ملاحظتك لا بأس بها، ولكن لا تنس أنها تتحدث عن توقعات تصيب وتخطئ. كما أن الأرقام متوسطات محسوبة لإجمالي أرقام متباينة في عالم يعاني من التفاوت أصلاً.
– ولكن ما سبب هذا التضخم؟ وهل هو مؤقت أم مستمر؟
* أراك تتابع تصريحات جيروم باوال رئيس البنك الفيدرالي الأميركي ومعارضيه. هو يراه مؤقتاً وهم يرونه مستمراً.
– وكيف تراه أنت؟
* أراه تضخماً محدوداً في الدول المتقدمة سينحسر بعد حين، ولكنه سيكون غلاء في الدول الأفقر التي تفتقد نظماً شاملة للضمان الاجتماعي. فستضار بزيادة تكلفة المعروض باستمرار ارتباك سلاسل الإمداد، ولاعتمادها على سلع مستوردة بتكاليف تعلو مع انخفاض سعر الصرف، مع زيادة خدمة الديون المقترضة لشراء هذه السلع بسبب إجراءات ستتخذها الدول المتقدمة لكبح جماح التضخم عندها برفع أسعار الفائدة.
– هل هذا من العدل في شيء؟
* لا!
– تقولها ببساطة… ولكن حقاً ما العمل؟
* أو لم تسمع عن نصيحة الرئيس بايدن؟
– وماذا قال؟
* خلاصة ما قاله إن القلق مشروع والهلع ممنوع
– أحقاً قال ذلك؟ أستطيع أنا أيضاً قول مثل هذا الكلام وأكثر.
* حسناً… قله إذن!
– لا نستطيع الاستمرار هكذا.
* هذا ما تظن
د. محمود محيي الدين.
اقتصادي مصري
ما بين ميردوخ وزوكربيرغ
قبل نحو أسبوعين، عاود قطب الإعلام الشهير روبرت ميردوخ، شن هجماته على شركات التكنولوجيا العملاقة من جديد، مركزاً انتقاداته هذه المرة على شركتي «ألفا بيت» المالكة لمحرك البحث الأشهر «غوغل»، و«ميتا» المالكة لموقع «التواصل الاجتماعي» الأهم «فيسبوك».
يجسد ميردوخ حالة إعلامية فريدة بسبب النفوذ الكبير لشركته «نيوز كورب»، التي يُضرب بها المثل أحياناً على الاحتكار في مجال «الإعلام التقليدي»، والنزوع الربحي، الذي يتجاوز معايير الأداء المرعية، ويضرب بقيَم العمل الصحافي عرض الحائط، سعياً لتحقيق المصالح التجارية.
ومع ذلك، فقد وجد ميردوخ أن «غوغل» و«فيسبوك» يرتكبان مخالفات كبيرة يمكن أن تؤثر سلبياً في قدرة «وسائل الإعلام التقليدية» على الاستدامة من جانب، وأن تضر بمصالح بعض الأطراف وتقوض السلامة المجتمعية من جانب آخر.
ففي اجتماع الجمعية العمومية لحملة أسهم «نيوز كورب»، كرر قطب الإعلام الشهير انتقاداته لـ«غوغل»، لأنه يعيد نشر المواد الصحافية التي تنتجها «وسائل الإعلام التقليدية» من دون أن يدفع المقابل المناسب لها، بما يحد من قدرتها على مواصلة تمويل أعمالها. كما انتقد «فيسبوك»، لأنه «يمارس سياسة انتقائية تؤدي إلى تغييب الأصوات المحافظة، وتعكس انحيازاً لليسار والديمقراطيين»، وهو الانتقاد الذي يتكرر منذ سنوات، رغم محاولات رئيس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ الحثيثة لنفيه.
من المدهش حقاً أن تصدر تلك الانتقادات المتكررة عن ميردوخ، الذي تورطت وسائل الإعلام التي يملكها في أخطاء كبيرة، كلفته في بعض الأحيان التضحية ببعضها، كما حدث في إطار فضيحة صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد»، التي اضطر إلى إغلاقها بينما كانت في ذروة ازدهارها، بسبب تورطها في فضيحة تنصت على هواتف بعض المصادر.
ورغم وجود ميردوخ شبه الدائم على «لوحة التنشين» باعتباره هدفاً سهلاً للهجوم والنقد عند الحديث عن مدى التزام شركته بمعايير الأداء الصحافي والقيم المهنية والمؤسسية، فإن انتقاداته لشركات التكنولوجيا العملاقة تحظى بقدر من الوجاهة. وتستمد انتقادات ميردوخ وجاهتها من أن وسط «الإعلام التقليدي» الذي تعمل خلاله شركته يتمتع بميراث ضخم من آليات الضبط والتقنين وإخضاع الأداء للتقييم، وهو الأمر الذي تفتقده شركات التكنولوجيا العملاقة رغم توسعها وانتشارها ونفوذها الكبير. ففي شهر أبريل (نيسان) الماضي، تحدثت صوفي زانغ، الموظفة السابقة في «فيسبوك» إلى عدد من وسائل الإعلام عن أخطاء فادحة ترتكبها الشركة في حق الأمن القومي والسلم الأهلي لعديد الدول، بسبب عدم اتخاذها الخطوات الملائمة للحد من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
ورغم خطورة ما كشفت عنه زانغ، فإن موقعها في الشركة لم يحرك الرأي العام والحكومات والمؤسسات التشريعية بالشكل الكافي، وهو الأمر الذي تغير تغيراً جذرياً حين خرجت المسؤولة السابقة في الشركة فرانسيس هوغن، على الإعلام، مفجرة مفاجآت جديدة وصادمة في هذا الصدد.
فقد قالت هوغن في تصريحات إعلامية وفي شهادة أمام الكونغرس الأميركي، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن «فيسبوك» يُغلب اعتبارات الربحية وزيادة التفاعل على حساب سلامة المستخدمين، كما قدمت وثائق تثبت تلك الاتهامات، مطالبة زوكربيرغ بالتنحي عن رئاسة الشركة بسبب «عجزه عن اتخاذ القرارات السليمة». وكان من سوء حظ «فيسبوك» أن العاصفة التي فجرتها شهادة هوغن تزامنت مع أزمة انقطاع خدمات منصات الشركة الرئيسة، الأمر الذي جسد المحنة التي يعانيها «فيسبوك»، وعظم الشعور بخطورة وضعه الاحتكاري وأنموذج الأعمال الذي يتبعه. وفي استجابة مثيرة لتلك التطورات، صدر تصريح مهم يوجه سهام انتقاد لاذعة إلى «فيسبوك» وغيره من شركات التكنولوجيا العملاقة؛ إذ قالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض، إن «التسريبات التي كشفتها هوغن توضح أن التنظيم الذاتي في شركات التكنولوجيا العملاقة لا يعمل».
والتنظيم الذاتي ببساطة هو مزيج من المعايير التي تحدد أنماط الأداء المناسبة لوسائل الإعلام، بما يضمن لها الحفاظ على حرية الرأي والتعبير من جانب، ويصون مصالح الجمهور والأطراف المعنية من جانب آخر.
ويُعد التنظيم الذاتي أحد المكاسب المتولدة عن تفعيل نظرية المسؤولية الاجتماعية في العمل الصحافي، ويعكس نمط التزام طوعي من قبل الناشرين والعاملين في المجال الإعلامي بمبادئ وقيم وأساليب عمل لا تُغلب الاعتبارات الربحية والدعائية على المعايير المهنية والمسؤولية تجاه الجمهور. وفي مختلف الوقائع التي كان ميردوخ عرضة خلالها للانتقاد، كان التنظيم الذاتي في مجال «الإعلام التقليدي» يعمل، ويحد من انفلاتاته، ويُقوم أداء وسائله الإعلامية، وهو أمر لم ننجح حتى الآن في أن نقنع زوكربيرغ وزملاءه بتطويره وتبنيه.
د. ياسر عبد العزيز