أرشيف التصنيف: المقالات العامة

رسائل ما وراء النهر

تذكر بلاد ما وراء النهر عند استدعاء تاريخ عصور الفتوحات الإسلامية الأولى للأراضي الواقعة بين نهري جيحون أمور داريا جنوباً وسيحون سار داريا شمالاً في آسيا الوسطى، وتشمل اليوم أوزبكستان وطاجيكستان وجنوب كل من كازاخستان وقرغيزستان. كما تتردد أسماء حواضرها وبواديها عند تناول أعمال كبرى لأعلام في علوم الدين والدنيا مثل الترمذي والبخاري والفارابي والخوارزمي والبيروني وابن سينا. ومنذ أيام استضافت طشقند عاصمة أوزبكستان الاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإسلامي، فترددت أسماء هؤلاء العلماء النوابغ وغيرهم في مداخلات المشاركين، وفي كلمة رئيس البلد المضيف شوكت ميرزوييف نوه بإسهاماتهم في الحضارة الإنسانية بفخر مستحق.
وقد أحسن البنك الإسلامي للتنمية، الذي يقع مقره الرئيسي في جدة، بأن جعل استضافة الاجتماعات السنوية لدوله الأعضاء السبع والخمسين بالتناوب بين أعضائه، بما يتيح فرصاً لمشاركة أكبر للمجتمع المدني والقطاع الخاص المحلي. فضلاً عما تتيحه هذه الاستضافات من تعرف على الثقافات المختلفة والمعالم المميزة للدول الأعضاء وإعطاء لمحات عن مشروعات البنك في الدولة المضيف وفرص التمويل والاستثمار والمشاركة فيها. وكان هناك حرص على أن تكون الاجتماعات بالحضور الشخصي، وهو أمر لم يعد مألوفاً منذ بداية جائحة كورونا العام الماضي، وكان لافتاً للانتباه الاستجابة العالية للمشاركة على مستوى رفيع من التمثيل لوفود الدول والمنظمات الدولية والقطاع الخاص بما يعكس اهتماماً بدور البنك وتقديراً للدولة المضيف، رغم ما في السفر من مشقة في ظل قيود التوقي من الوباء.
وتأتي اجتماعات البنك الإسلامي للتنمية هذا العام في ظل أجواء اقتصادية عالمية عالية المخاطرة وتطورات سياسية دولية شديدة الخطورة. ولا يمكن بحال تجاهل الأبعاد الإقليمية لهذه التطورات، خاصةً أن مناقشات المجتمعين تدور في أحد بلدان الجوار لأفغانستان. وبمتابعة للمناقشات ومن خلال مشاركتي بإحدى الجلسات التي خصصت لمناقشة دور القطاع الخاص يمكن استخلاص خمس رسائل:
الرسالة الأولى: أن التباعد الاقتصادي بين الدول في ازدياد. فبعدما يقترب من العقدين من التقارب الاقتصادي بارتفاع معدلات نمو الدول النامية عن تلك المتقدمة حدث تراجع منذ عام 2014، وهو ما يفسره الاقتصادي الأميركي جيفري فرانكل بانحسار فرص التجارة وثبات نسبتها من النواتج المحلية الإجمالية للدول النامية بعدما كان نمو التجارة يبلغ ضعف نمو اقتصاد هذه الدول قبل الأزمة المالية العالمية في 2008. واليوم بعد أزمة كورونا تزداد مشكلة التباعد حدة؛ ففي حين يقدر النمو الاقتصادي العالمي لهذا العام بحوالي 6، نجد أن نمو أغلب اقتصادات الدول النامية والأسواق الناشئة التي تنتمي لها الدول الأعضاء ببنك التنمية الإسلامي يقل عن متوسط النمو العالمي. ويرجع ذلك إلى قدرة الدول المتقدمة في ضخ تسهيلات مالية وتقديم تيسيرات كبيرة لدعم اقتصاداتها وما قامت به من عمل ضخم لتوفير اللقاح لمواطنيها. فرغم أن دول المجموعة تشكل 25 في المائة من سكان العالم إلا أن نصيبها من اللقاحات يقل عن 10 في المائة من إجمالي جرعات اللقاح، بما يرسخ التفاوت ويزيد من تباين فرص التعافي.
الرسالة الثانية: أن تداعيات التباعد الاقتصادي لن تكون محلية فحسب. إن مشكلة التباعد ليست مجرد إحصاءات تنشر، ولكنها ذات أبعاد مؤثرة على الحياة والتنمية داخل الدول وعلاقاتها الخارجية. فهي تعني زيادة مؤشرات الفقر المدقع الذي وقع في براثنه أكثر من 120 مليون في الدول النامية، 80 في المائة منهم في دول متوسطة الدخل. كما تعني عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات التعليم والرعاية الصحية وتفشي الأوبئة وتحور فيروساتها المعدية التي لا تعترف بالحدود الدولية، وإن حصنت مداخلها.
كما تؤثر على معدلات البطالة، إذ تقدر منظمة العمل الدولية بقاء 200 مليون متعطل خارج سوق العمل، بما يدفع زيادة حالات الهجرة غير المشروعة، فضلاً عن ارتفاع احتمالات الاحتقان الداخلي والنزاعات عبر الحدود.
الرسالة الثالثة: أن مخاوف الركود التضخمي تعقد من مشكلة المديونية العالمية. لا يمكن إلقاء اللوم على الجائحة في تفاقم المديونيات العالمية فقد كثر الحديث عن موجة رابعة للديون قد تنتهي بأزمة في نهاية عام 2019، ثم ازدادت بعدها باقتراض مدعوم بتيسير نقدي سخي في الدول المتقدمة وببعض من المساندة المحلية في الدول النامية. ولكن نسبة عالية من هذه الديون الحكومية انتهت في محافظ البنوك المحلية بما لا يقل عن 60 في المائة في الدول النامية، بينما تحملت البنوك المركزية دور الدائن الأكبر للحكومات في الدول المتقدمة بنسبة لا تقل عن 20 في المائة. وسيكون لذلك تبعات في عمليات إدارة الديون والتخارج منها. ومنع حدوث أزمات سيولة أو تعثر في السداد. ومن الملاحظ ارتفاع معدلات التضخم بسبب سرعة تعافي جانب الطلب، متزامناً ذلك مع تعثر في جانب العرض وارتباكه بسبب اختناقات سلاسل الإمداد ونقصان مداخل الإنتاج، بما يجعل صانعي السياسة الاقتصادية في مأزق الوقوع في ركود تضخمي يقيد من مرونة استخدام الأدوات النقدية والمالية خشية معالجة بالتضخم على حساب مزيد من البطالة المستشرية أو العكس، وهو ما يستلزم حنكة في صياغة السياسات العامة وتحديد أولوياتها وشرحها لعموم الناس.
الرسالة الرابعة: أن القطاع الخاص يستطيع أن يكون جزءاً مهماً من الحل. ولكن هذا يتطلب تدابير عاجلة لتيسير عمله كمشغل أكبر للعمالة في الاقتصاد، تبدأ بتدعيم الثقة في مناخ الأعمال والاستثمار، والامتناع عن القرارات المرتجلة من دون دراسة أو تشاور مع المعنيين، وزيادة فرص المشاركة الفعلية بين القطاعين الخاص والحكومي في مشروعات البنية الأساسية والتكنولوجية والتحول للاقتصاد الأخضر ودفع توطين التنمية المستدامة مع إعطاء الأولوية للتعليم والرعاية الصحية.
الرسالة الخامسة: الدور الجديد المرتقب لبنك التنمية الإسلامي. للبنك تمويل هام وأنشطة مساندة للمشروعات العامة والخاصة من خلال برامج التمويل وضمانات الاستثمار وتحجيم مخاطره والتأمين على أنشطته ودفع تمويل التجارة خاصةً للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. وقد تناول الرؤساء التنفيذيون للأذرع المساندة للقطاع الخاص بالبنك في الجلسة المشار إليها برامج التمويل المتاحة، واستخلصت من مداخلاتهم إدراكاً عالياً للدور المنوط بمؤسساتهم في ظل أجواء المخاطر الراهنة، وكذلك الفرص الكامنة من خلال التمويل بالمشاركة والاستثمار المباشر كبديل عن الإفراط في الاقتراض.
وأؤكد أن من مزايا عمل البنك قدرته على دمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للتنمية وتطبيقها في مناطق وقطاعات يحجم عنها الآخرون، من خلال شبكة متميزة للمشاركات. كما أن عمل البنك سيزداد أثره التنموي من خلال زيادة نطاق تمويله مع سرعة أكبر في إنجاز مراحل البت في تمويل مشروعات التنمية وتقديم الاستشارات والمساعدات الفنية. وفي هذا الشأن سعدت بما أعلنه رئيس البنك الجديد واسع الخبرة الدكتور محمد الجاسر من موافقة مجلس المحافظين على زيادة رأسماله، بما سيمكنه من تعزيز قدراته وحشد موارد مطلوبة من الأسواق المالية وتوجيهها أينما تحتاجها أولويات التنمية. وأحسب أن البنك، وفقاً لما ذكره رئيسه من أولويات سبعة أوردها في كلمته، سيساند جهود الدول في تعاف أكثر شمولاً واعتماداً على التحول الرقمي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي تراجعت مؤشراتها في جل الدول الأعضاء بعد الجائحة، وقد كانت متواضعة الأداء فيها قبلها إلا قليلاً.
كما أعتقد أن البنك سيركز على أهمية صياغة حلول تتوافق مع متطلبات التنمية المحلية، وأنه من خلال تأثيره كعضو رئيسي في تجمع بنوك التنمية العالمية سيعلي من قيمة الارتكاز على بيانات مدققة ومعلومات تفصيلية ومعرفة شاملة بأولويات عموم الناس في مناطق عمليات تمويل التنمية، بانياً في هذا الشأن على نهج فاعل للتعاون زرع جذوره رئيس البنك الأسبق الدكتور العتيد أحمد علي ونمى ثماره الرئيس السابق الدكتور بندر الحجار بدعم مخلص من إدارة البنك العليا وخبرائه. وأنه في ذلك كله سيستمر في إعلاء قيمة العلم في متابعة المستجدات وتقديم الحلول العملية وتفعيل منصات إدارة المعرفة والاستفادة من آليات المشاركة والتعاون بين الدول الأعضاء ومؤسساتها والمنظمات الدولية وبيوت الخبرة العالمية. ومع التباين في الأوضاع الاقتصادية للدول الأعضاء ومستويات دخولها بين دول غنية وأخرى فقيرة، يبقى عامل مشترك حرج فيها جميعاً وهو إيجاد العمل اللائق للشباب إناثاً وذكوراً، وهو ما لن يتحقق إلا بنمو شامل للكافة في اقتصاد متنوع الأنشطة محقق لقيمة مضافة في عالم شديد التغير. فسواء كان المرء وراء النهر أو أمامه، فإنه لن يستحم فيه مرتين، كما قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، فماء النهر دائم التغير وما زادته أحوال اليوم إلا شدة في التغير.

د. محمود محي الدين

أوهام القوة وحقائق الوهن

بعد عشرين سنة بدأت بالغزو المسلح لأفغانستان وانتهت بما وُصف بالانهيار الكبير، عرف العالم على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن أن الغرض من المهمة «لم يكن بناء دولة أو خلق ديمقراطية»، وصرح قيادي بحركة «طالبان» بأنها «لن تعتمد النظام الديمقراطي على الإطلاق». وتواترت تصريحات منسوبة لمسؤولين في دول الغرب والشرق بأن أفغانستان «مقبرة الإمبراطوريات»، وهو ما كان من اليسير التعرف عليه بالاطلاع على أي من كتب التاريخ المتراكمة على رفوف مراكز البحث ذات الأسماء البراقة في عواصم هذه الدول. ولكنها دروس التاريخ التي لا يتعلم الناس منها شيئاً، ستضاف إليها مؤلفات عن دروس جديدة من الأحداث الأخيرة قد تلقى المصير ذاته من التجاهل، ويدفع التكلفة دائماً عموم الناس بأرواح تزهق وثروات تهدر، وعقود تفقد من التنمية والبقاء في مصائد التخلف.
ومع انتشار مشاهد بائسة من مطار كابل وما اجتاحه من فوضى وضحايا اللحاق بطائرات الإجلاء، وصور تتناقلها الوسائط الإعلامية عن مظاهر الارتباك والهلع، أظهرت لقطات فوتوغرافية أفراداً من حركة «طالبان» يبدون محبتهم لتناول الآيس كريم وركوب سيارات الملاهي الاصطدامية.
وبعد أيام ستفسح أحداث أفغانستان المجال الذي تتصدره اليوم في الصحف ووسائل الإعلام لأحداث ومستجدات أخرى على ما جرت عليه العادة مع توالي الأزمات ثم الاعتياد عليها. ولكن ستبقى هناك أسئلة حرجة سيبقى كثير منها من دون إجابات شافية:
السؤال الأول، وهو أيسرهم، ما الذي جرى؟ وسيأخذنا أهل الاختصاص إلى جذور الأزمة في عام 1979 وربما قبلها، بالمحاولات التي قامت بها إدارة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر إبان الحرب الباردة لمساندة المقاومة الأفغانية المناوئة للحكومة الموالية لموسكو وتداعيات ذلك بتورط الاتحاد السوفياتي في غزو البلاد التي عانت منذئذ من صراعات وحروب امتدت ليومنا هذا. شهد التدمير أشده بإعلان الرئيس الجمهوري جورج بوش غزو أفغانستان من خلال تحالف بقيادة أميركية في رد على الهجمات الإرهابية على الأراضي الأميركية في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، مطيحاً بالنظام الحاكم في كابل.
ويردد اليوم خبراء أميركيون، كان بعضهم في الحكم أثناء ولاية الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، بأنه كان على أميركا الخروج من أفغانستان بعد قتل أسامة بن لادن في أبوت آباد الباكستانية في مايو (أيار) من عام 2011؛ ويزايد على ذلك خبراء آخرون كانوا من كبار الموظفين في إدارة بوش بأن الخروج من أفغانستان كان واجباً بعدما تبين هروب بن لادن من كهوف جبال تورا بورا بولاية ننجرهار بعد معارك دارت هناك في ديسمبر (كانون الأول) 2001. أما لماذا بقيت قوات الغزو لعقدين كاملين منذ معركة تورا بورا، أو عشر سنوات منذ مقتل بن لادن، فهذا ما تحتار فيه الإجابات لمهمة قال الرئيس الدولة الأميركي الحالي إنها لم تكن أصلاً لبناء الدولة! في حوار استمعت إليه قبل كتابة هذه السطور ما قاله ريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية الأميركية في إدارة بوش بأنه كان على أميركا الخروج في عام 2002، ولكنها وضعت الأمر في حالة قيادة بما سماه «الطيار الآلي»، التي استمرت لفترة طالت على النحو الذي انتهت إليه.
يتفق الأميركيون اليوم على أن الخروج كان لازماً وأنه تأخر، ولكنهم يختلفون على ما إذا كان الدخول غزواً كانت له ضرورة أصلاً. كما أنهم يتفقون – إلا قليلاً – على أنه كانت هناك استراتيجية للخروج، وهذا يقودنا للسؤال الثاني: لماذا حدث هذا الانهيار المفاجئ؟ وقد حاول المحلل السياسي إيان بريمر تفسير ما سماه أول أزمة كبرى في عهد بايدن باعتبارها فشلاً في التنفيذ، وليس في الاستراتيجية، للخروج من وضع كان لا يمكن الاستمرار فيه فلم تكن هناك فرصة للأميركان بالفوز، كما لم يكن هناك مجال لـ«طالبان» للخسارة. ويحدد بريمر أربعة أبعاد تظهر مواطن الوهن التي أدت لهذه الأزمة الكبرى: 1 – فشل عسكري واستخباراتي، 2 – فشل في التنسيق مع الحلفاء في إجراءات الخروج و تبعاته السياسية، 3 – فشل في التخطيط بمعنى التحسب للاحتمالات المختلفة وتدبير الموارد المناسبة لها، وهو ما جعل الإدارة ترسل جنوداً للمساعدة في الخروج بأكثر من ضعف العدد الذين سحبتهم، ثم ما رآه العالم على الشاشات من ارتباك من هول مفاجأة السقوط السريع للنظام أمام حركة «طالبان»، 4 – فشل في الإعلام والتواصل بالتقليل من احتمال وقوع البلاد بشكل شامل أو سريع تحت سيطرة «طالبان»، والتأكيد بأن مشاهد المروحية الأميركية، التي تشبث بسلمها لائذون بالهرب في سايغون في 1975، لن تعود فإذا بما هو أكثر منها تراجيدية يحتل الشاشات بما سيكون مادة لأفلام هوليوود لسنوات.
السؤال الثالث هو عن ماهية الدولة ومستقبلها في أفغانستان. وهذا ما ستفسر عنه الأيام المقبلة، فقد ترك الغزو رغم ما أنفقه دولة فاشلة على أرض أفغانستان، باقتصاد مهمل ومجتمع أكثر تفككاً وتناحراً مما كان. وأمسى اليوم جلياً ما كان من المفترض أن يدرك قبل هذا الغزو المدمر بديهياً، بأنه يستحيل بناء دولة وطنية بأيدي دخلاء أجانب، هذا مع افتراضات مفرطة السخاء في حسن النوايا. فما بالنا وقد أتى الدخيل تسبقه المدمرات المهلكة يباركها مبشرون بنظريات تعسة عن فوضى خلاقة. حقاً قد حدثت الفوضى ولم تخلق إلا الدمار. وعودة للاقتصاد المهمل، يشير الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس في مقال بعنوان «دماء على الرمال» إلى أن تقريراً صدر في مطلع هذا العام للمفتش العام الأميركي لإعادة بناء أفغانستان، بأن 964 مليار دولار تم إنفاقها في 20 عاماً منذ الغزو؛ منها 86 في المائة ذهبت نفقات للقوات الأميركية، وما تبقى وهو في حدود 130 مليار دولار أنفق منه 83 مليار على قوات الأمن الأفغانية، وما فضل منها تناثر بين مكافحة المخدرات ومساندة وكالات أميركية عاملة في أفغانستان، تاركة 21 مليار دولار فقط مساعدات اقتصادية. أي ما ذهب من هذه المبالغ الهائلة لتنمية أفغانستان يقل عن 2 في المائة، فلا عجب أن تستقر البلاد في قاع جداول المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية باستثناء تحسن محدود في بعض مؤشرات الصحة وكذلك تعليم الفتيات التي يخشى تدهورها إذا لم تحظَ بمساندة كافية من النظام القادم الذي لم تتضح معالمه أو يسفر صراحة عن أولوياته.
السؤال الرابع يتعلق بمستقبل السياسة الخارجية الأميركية، والأهم مستقبل النظام الدولي الراهن في عالم متعدد الأقطاب سريع التغير بعد هذا الإخفاق المدوي… فما حدث ليس إخفاقاً فقط بمنظور مشاهد اللقطات الأخيرة في مطار كابل، ولكن بمسيرة مشاهدات دونتها سجلات من الأداء التعيس على أصعدة متعددة. يدفع هذا تيارات رأي متنامية عبر عنها تشارلز كوبتشان أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون بأن أولويات السياسة الأميركية يجب أن تكون إعادة بناء الداخل بالاستثمار في البنية الأساسية والسياسات الاجتماعية وضرب المثل من خلال إصلاح الديمقراطية في الداخل وبسياسة خارجية تحظى بمساندة شعبية. ويذكرنا محرر صحيفة «الفاينانشيال تايمز» بتاريخ أميركا الممتد بدوراته المتعاقبة بين التدخل السافر والانزواء لاعتبارات متعددة. فهناك عوامل داخلية تدفعها لعدم إقحام نفسها في الصراعات الخارجية إلا اضطراراً كما حدث في الحربين العالميتين الأولى ثم الثانية، وأنها في كل الأحوال ستظل حريصة على استقرار وأمن الحلفاء في أوروبا وآسيا، رغم الدعاوى المتصاعدة في الداخل لتحجيم التدخل الخارجي.
يكرر الأميركيون مقولة مفادها أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً، ولكن في حالة أفغانستان كان على الأميركان أن يرحلوا مبكراً، وكان من الأجدى حقاً ألا يأتوا إليها على هذا النحو أبداً.

د. محمود محي الدين

د. عبد الله الردادي – ماذا لو انهارت «بتكوين»؟

بعد أزمة 2008 المالية، قامت الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأخرى، بإلزام البنوك باختبارات سنوية، تكشف من خلالها قدرة هذه المؤسسات المالية على تجاوز سيناريوهات مثل انهيار أسعار العقار وغيرها، وذلك لتفادي الدخول في أزمة مالية أخرى تؤثر على الاستقرار المالي والاقتصادي. واليوم، يُطرح السيناريو نفسه على النظام النقدي الجديد، وهو العملات الرقمية: ماذا لو انهارت العملات الرقمية، وفي مقدمتها «بتكوين» سيدة العملات الرقمية وقائدتها؟ هل سيتأثر الاقتصاد العالمي والنظام والمؤسسات المالية؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب التأكيد على أن هذا السيناريو ممكن الحدوث، فإذا كان النظام المالي التقليدي معرض لهذا السيناريو، وهو الذي بني على تجارب طويلة، فماذا عن العملات الرقمية التي تعد ناشئة نسبياً. كما يجب كذلك معرفة الوضع الراهن للعملات الرقمية اليوم؛ هذا الوضع الذي يتغير بتسارع غير معقول. ففي حين تزايدت العملات الرقمية لتصل إلى 6 آلاف عملة رقمية في العام الماضي، بقيمة سوقية وصلت إلى 330 مليار دولار، تضاعف عددها في السنة الأخيرة وحدها ليصل إلى أكثر من 11 ألف عملة رقمية، بقيمة سوقية تعدت الـ1.6 تريليون دولار، وهو رقم يوازي الناتج القومي لدولة كبرى!
وقد تغير شكل العملات الرقمية عما بدأت به قبل أكثر من 10 سنوات، فعدد المحافظ الرقمية اليوم تعدى المائة مليون محفظة، ولم تعد السوق للمستثمرين المغامرين فحسب، بل دخلت المؤسسات الاستثمارية وصناديق التحوط والشركات الكبرى إلى هذه السوق، وأصبحت تلك المؤسسات تشكل أكثر من نصف التداولات في العملات الرقمية، بعد أن كانت لا تشكل أكثر من 10 قبل 4 سنوات! هذا الأمر تسبب في تكامل بين العملات الرقمية والنظام الاقتصادي والمالي القائم بعدد من الأشكال: أولها أن نسبة لا يستهان بها من تمويل محافظ العملات الرقمية يأتي من ديون تحصل عليها المستثمرون من المصارف التقليدية، وثانيها أن كثيراً من العملات الرقمية هي انعكاس مباشر للعملات التقليدية، مثل الدولار واليورو، التي تستخدم بصفتها وسيطاً للشراء بين العملات التقليدية والرقمية. وهاتين النقطتين هما مربط الفرس في التأثير المحتمل لانهيار العملات الرقمية على النظام المالي التقليدي، فلو انهارت العملات الرقمية ستحدث أزمة دين ضخمة لدى كثير من المؤسسات المالية بسبب عدم قدرة المستثمرين على السداد، ولذلك فإن كثيراً من المؤسسات تقوم بشراء العملات الرقمية بمالها الخاص، دون اللجوء إلى الاستدانة. كما ستتأثر العملات الوسيطة بشكل مباشر، في حال محاولات الهروب من عالم العملات الرقمية إلى التقليدية، وقد سبق لوكالة «فيتش» الائتمانية التحذير من الدور التي تلعبه العملات الوسيطة، ومن آثارها المحتملة في حال انهيار العملات الرقمية.
أما سلوك المستثمرين في العملات الرقمية، فسيختلف بحسب توجهاتهم. وبحسب الاقتصادي المصري محمد العريان، فإن المستثمرين في العملات الرقمية أصبحوا في 3 أصناف: أولهم من سماهم «الأصوليين»، وهم أولئك الذين يرون أن المستقبل للعملات الرقمية، وأنها سوف تقوم مقام العملات التقليدية عاجلاً أم آجلاً؛ وثانيهم المستثمرون التكتيكيون، وهم الذين دخلوا سوق العملات الرقمية لتوقعهم نمو هذه العملات في المستقبل؛ وثالث هذه الأصناف هم الجمهور، وهم مستثمرون يميلون إلى المخاطرة في الاستثمار، ويبحثون عن مضاعفة رؤوس أموالهم باستثمارات مغامرة أسرع من تلك التقليدية.
وفي حال انهيار العملات الرقمية، وكما هو حال انهيار أي سوق للعملات، فإن حالة من الهلع قد تعم السوق، وتؤدي إلى محاولات النجاة برؤوس الأموال في أسرع وقت ممكن، وهو السلوك الذي لا يزيد الطين إلا بلة في غالب الأحيان. ولكن هذا السلوك قد لا يشمل جميع أصناف المستثمرين، فقد لا يحاول «الأصوليون» الهروب من السوق لقناعتهم بجدوى العملات الرقمية في المستقبل، بغض النظر عن أسعارها في أي وقت، بينما قد يراقب المستثمرون السوق دون استعجال للخروج، حتى لو حاول بعضهم ذلك، أما الجمهور فهم أول من سيقفز من السفينة، ذلك أن كثيراً منهم دخل السوق بحثاً عن ربح سريع، وعند بوادر الانهيار يكونون أول من يسعى للنجاة برأس مالهم، والبحث عن فرص أخرى.
وقد تتأثر الشركات والمؤسسات بشكل كبير، خاصة تلك التي دخلت سوق العملات الرقمية خلال العام الماضي (أي خلال ارتفاع أسعارها)، وتشير التوقعات إلى أن الخسائر السوقية -المباشرة وغير المباشرة- التي قد تتعرض لها الشركات الكبرى قد تصل إلى نحو تريليوني دولار، ويشمل ذلك الخسائر في القيمة السوقية لشركات كبرى مثل «أمازون» و«باي بال» و«فيزا»، وغيرها من الشركات الكبرى.
إن غياب الفرص الاستثمارية في فترة الجائحة تسبب في دخول كثير من المستثمرين إلى عالم العملات الرقمية متشجعين بانخفاض سعر الفائدة، وقد يكون الخروج من سوق العملات الرقمية أكثر سرعة من الدخول إليه، خاصة في حال عمت حالة الهلع التي عادة ما تتصاحب مع هبوط الأسواق، إلا أن الفارق في حالة العملات الرقمية أنه لا توجد جهة أو حكومة يمكنها أن تطمئن المستثمرين باستقرار النظام الاقتصادي أو السوق المالية. وحينها، يمكن معرفة ما إذا كان استقلال العملات الرقمية عن سيطرة الحكومات من مصلحة العملات الرقمية أو لا.

د. عبدالله الردادي

تسعير النفط… سياسة أم اقتصاد؟

تسعير النفط موضوع معقد جداً فوق ما يتوقعه الجميع. أولاً هناك العديد من الخامات التي تختلف نوعياتها بين الثقيلة والخفيفة والحامضة والحلوة. وكل خام يختلف عن الآخر بشكل جذري من ناحية قيمته عند التكرير؛ بحيث لو تم تغيير نوع الخام؛ فإن المصفاة لن تتمكن من إنتاج الكمية المطلوبة من الديزل أو وقود الطائرات.
هذا الأمر بالتحديد كان عاملاً مؤثراً في كل مرة تُفرض فيها عقوبات على النفط الإيراني، حيث إن المصافي التي تعمل بهذا النوع من النفط لم تتمكن من إيجاد النوع الملائم الذي يعوضها عن نفط إيران، ولهذا لجأت إلى أقرب شيء له مثل «خام الأورال» الروسي، وهذا عزز موقف خام روسيا في أوروبا؛ حيث إن روسيا لديها موثوقية أعلى ونفطها يتدفق بلا توقف إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية نظراً لأن النفط يُنقل بالأنابيب وليس بالسفن.
ولهذا؛ فإن تسعير النفط وتسويقه مسألة سياسية في بعض الأحيان؛ حيث تلعب العوامل الجيوسياسية دوراً عند التفاوض مع البائعين من الدول المضطربة سياسياً والمعرضة للعقوبات أو الانقطاعات.
في الوقت ذاته؛ لم تتمكن المصافي الأوروبية من تعويض الخامات الليبية، مثل «خام السدرة»، والتي تمتاز بجودة عالية من ناحية الحلاوة (مستوى الكبريت في النفط) ومن ناحية الثقل (مدى كثافة ولزوجة النفط)؛ إذ إنها خامات حلوة وخفيفة يصعب جداً تعويضها عند أي انقطاعات لها، والأقرب لها هي الخامات الأميركية التي تُنتَج من النفط الصخري، وهذا مما جعل النفط الأميركي يصل إلى أوروبا في السنوات الأخيرة؛ حيث يجري تعويض ارتفاع تكاليف الشحن من الأطلنطي إلى القارة الأوروبية من خلال الحصول على شحنات ثابتة.
هذه العوامل تؤثر كثيراً في كيفية تسعير النفط؛ إذ إن لكل نوع من النفط سعراً بحسب كمية المنتجات التي تُشتق منه، وبحسب السوق وطبيعتها. ولنضرب مثالاً على ذلك؛ فإن الهند سوق كبيرة للديزل، ولهذا لا ترغب المصافي الهندية في النفوط الخفيفة؛ بل تميل إلى النفوط الثقيلة والمتوسطة؛ لأنها عند التكرير تعطي كميات أعلى من الديزل. بينما في اليابان السوق هناك تحتاج لخامات خفيفة؛ إذ إنهم يحتاجون إلى النافثا (أحد مشتقات النفط الخفيفة) بشكل كبير لاستخدامه في عمليات أخرى كلقيم لمصانع البتروكيماويات، حيث تعتمد هذه الصناعة هناك على اللقيم السائل أكثر من الغاز.
وفي كل شهر ميلادي تستخدم شركات النفط الحكومية معادلات معقدة جداً لتسعير النفط، تُبنى على معطيات كثيرة معقدة. فعلى سبيل المثال؛ عندما يريد مشترٍ في الولايات المتحدة شراء نفط الآن من «أرامكو السعودية» في أغسطس (آب)؛ فإنه سيشتريه بناء على تحميله في سبتمبر (أيلول) بناء على الأسعار المعلنة في أغسطس لشهر سبتمبر. ولكن حتى تصل شركة حكومية للمعادلة المناسبة؛ فعليها تقييم فرق السعر بين شهر سبتمبر وشهر نوفمبر (تشرين الثاني)؛ إذ إن النفط سيصل إلى البائع ويتم تفريغه في أكتوبر (تشرين الأول)، ويكرَّر ويباع منتجات في نوفمبر.
هذه التعقيدات كلها سبب في تعقيد التسعير وقيام سوق العقود الآجلة وظهور المشتقات، مما يجعلنا لا نستطيع النظر إلى الأسعار بمعزل عن السياسة. والخلاصة هنا أن سوق النفط وأسعاره عملية معقدة وفنية وحساسة، ولهذا؛ فإن العوامل السياسية تجعل بيعه وتسعيره وتسويقه أمراً صعباً أو سهلاً. وعندما لا تستطيع المصافي حساب مخاطرها وتكاليفها بشكل جيد؛ فإن هذا ينعكس على سعر بيع المنتجات، وهو مما يجعل الدول تضغط سياسياً من أجل البحث عن بدائل للنفط أو الحصول على شحنات مستقرة إما عن طريق الاتفاقيات السياسية؛ وإما عن طريق الاستيلاء على الحقول عنوة مثل ما حدث في دول كثيرة منذ زمن الاستعمار حتى اليوم. ولكن لا يوجد بديل حقيقي للنفط، ولهذا سيظل الصراع قائماً لفترة طويلة.

وائل مهدي

عن تكاثر الشائعات والتضليل في عصر المعلومات

هناك مقولة قديمة يتداولها المتعاملون في بورصات الأسواق المالية مفادها «اشتر عندما تصلك شائعة وبع عندما يأتيك الخبر اليقين». وهذه مقولة تستوجب استخداماً حكيماً من محترفي التعامل في البورصات وكانت محل دراسات تطبيقية مدققة. كأن يشيع احتمال زيادة إيرادات شركة متداولة قبل أن يصدر تقرير معتمد لقوائمها المالية، فيقوم المضارب في البورصة بشراء أسهمها آملاً في تحقق هذه الشائعة محققاً مكسباً إذا صادفت الشائعة الحقيقة فيزيد إقبال المستثمرين على شراء سهم الشركة أو يمنى بخسائر فادحة إذا ما جاءت النتائج الفعلية على خلاف الشائعات. نحن هنا لسنا بصدد استغلال معلومات داخلية وهو ما تجرمه كافة القوانين المنظمة للبورصات، فالمضارب في هذه الحالة لا علم له إلا بما هو متاح للكافة من معلومات موثقة ولكنه تجاوزها بمطاردته للشائعات، وهي معلومات أيضاً ولكنها غير موثقة، أملاً في الكسب الذي قد ينتهي إلى خسارة.
وفي واقعة رصدها الاقتصادي ماركوس برونيرمير في دراسة منشورة عام 2001 عن إحدى شركات الخدمات البترولية التي حققت خسائر في عام 1993 ولكن قبل أن تنشر هذه الخسائر رسمياً بلغ بعض المضاربين شائعة الخسائر فقاموا بالبيع المبكر محققين مكاسب بالبيع قبل انخفاض السهم ثم بعدما ازداد السعر انخفاضاً بعد تداول المعلومات الموثقة قاموا بالشراء. أي أنهم حققوا مكاسب من ذات السهم مرتين مستفيدين من السبق في البيع ثم لمعرفتهم العامة بأن بعض حملة السهم قد يبالغون في رد الفعل بالبيع بأسعار أقل من السعر العادل للسهم. وانتهت الدراسة بتوصيات مهمة مساندة لجهات الرقابة والسلطات التشريعية لتشديد القيود الملزمة للتعامل مع المعلومات الداخلية وتغليظ العقوبات على استغلالها كجريمة ذات آثار وخيمة على الاقتصاد وحقوق المستثمرين.
وفي دراسة للبنك الفيدرالي الأميركي عن الآثار الممتدة للشائعات والمعلومات المضللة نشرت عام 2011، وخلاصتها أنه في عام 2008 انتشر على شبكة المعلومات – الإنترنت خبر قديم يعود لست سنوات سابقة عن تقديم الشركة الأم لخطوط طيران يونايتد لطلب بإجراءات إفلاسها بما سبب انخفاض سعر سهمها بأكثر من 75 في المائة في دقائق معدودة. وبعد إيقاف تداول السهم من قبل سلطات بورصة ناسداك وتصحيح المعلومات وتكذيب الأخبار المغلوطة عمداً تحسن سعر السهم ولكن أقفل اليوم بأقل من سعره السابق بنحو 11 في المائة وظل السهم لفترة يعاني من نقصان سعره بسبب تطاير هذه الشائعة المستندة لخبر قديم دس عمداً للتأثير على سعر السهم.
أؤكد أن ما يمكن للقانون منعه وتجريمه هو استغلال المعلومات الداخلية قبل اتخاذ إجراءات إتاحتها لعموم المستثمرين بشفافية والتزام، ولكن يعجز أي قانون عن منع الشائعات كمعلومات غير موثقة وإن كانت جهات الرقابة المالية والمسؤولون المعنيون بالشركات المتداولة مخاطبة بقوانين تحث على المواجهة المبكرة للشائعات بمعلومات وافية وفقاً لقواعد الإفصاح والشفافية المتعارف عليها وتتسلح بترسانة من العقوبات المغلظة في حالات التجاوز، ولكن الشائعات لا مانع لها إذا ما انطلقت ومن موضوعاتها المتداولة ما لا يخضع لسلطات الشركة أو جهات الرقابة عليها كأن يشيع خبر عن تغير معدلات الضرائب أو أسعار الصرف أو رسوم الجمارك أو مستجدات سياسية تؤثر في النهاية على أسهم الشركة، وبالتالي فالمخاطب بالإفصاح والشفافية ليس الشركة المعنية فقط ومراقبيها ولكن عموم أطراف الشأن العام. وبما أننا لن نصل لحالة مثالية من شفافية واكتمال المعلومات وإتاحتها للكافة بافتراض أنهم سيتعاملون معها بكفاءة، فستظل الشائعات محل تداول وتزداد انتشاراً محققة لمكاسب وخسائر لمستغليها وضحاياها.
ورغم التشدق بأننا نعيش في عصر المعلومات والمنصات الرقمية التي تتدفق من خلالها البيانات بسرعات وكميات غير مسبوقة، وتتباري جهات تدقيق وتحليل البيانات في النشر والإفصاح، تتكاثر الشائعات كمعلومات غير موثقة ويروّج لها باحث عن اهتمام أو صاحب مصلحة، وتتداولها جلسات الثرثرة بين الناس ويزيدها انتشاراً منصات التواصل الاجتماعي. وإن كنت قد أشرت لأمثلة معاصرة لتأثير الشائعات على البورصات والاستثمار والاقتصاد، فجدير بالإشارة أن الشائعات منذ القدم تحمل ما يستعد المتلقي لتصديقه. وقد تحمل أملاً أو تحذر من مكروه وإن كان الإصدار المنظم لها عادة ما يقصد به التضليل والإلهاء. وفي حالات المنافسة العاتية والنزاع تستخدم الشائعات كأداة من أدوات إلحاق الضرر بالخصوم، وهي من أشد الأسلحة فتكاً في حالات الصراع والحروب لإحداث الفوضى في صفوف العدو وجبهته الداخلية.
وقد أوضحت كيلي بورن المديرة التنفيذية لمركز جامعة ستانفورد للسياسات السيبرانية ما قامت به بعض الدول من تعديلات قانونية لتغليظ العقوبات المالية على شركات ومنصات تداول المعلومات في حالة عدم إزالتها في خلال 24 ساعة أي محتوى غير قانوني أو مضلل، وبلغت العقوبة المالية 60 مليون دولار في حالات التحريض والتسبب في أذي من خلال خطابات الكراهية والعنصرية والعنف. ولكنها توضح ست عقبات في سبيل فاعلية إجراءات الرقابة المانعة للتضليل وسوء استخدام المعلومات الضارة بالمجتمع والاقتصاد. العقبة الأولى ترتبط بانتشار وتنوع مصادر المعلومات بمختلف درجاتها من الدقة والمصداقية فأي شخص أو جهة بحساب على شبكات التواصل بقدر معقول من المتابعين يمكن أن يروج المعلومات وإن كان في هذا الأمر من منافع غير منكورة إلا أنها لا تخضع لقواعد التدقيق والمراجعة التي كانت منوطة بالصحف ووكالات المعلومات الرصينة.
العقبة الثانية: أن نشر هذه المعلومات لم يعد مكلفاً، فلا يحتاج الأمر لتكلفة تذكر لكي تصل المعلومة الصائبة أو المغلوطة لجموع القراء والمشاهدين، وقد كان قيد التكلفة في السابق يستلزم تدقيقاً في ما إذا كانت المعلومة تستحق النشر والتوزيع فيما قبل العصر الرقمي.
العقبة الثالثة: أن مصدر المعلومة بات مشتبهاً بين المصادر ذات المصداقية والاحتراف وأخرى مدعية ولا تتمتع بمهنية علاوة على من يتعمد الإيذاء والتضليل، وفي دراسة لمعهد الإعلام الأميركي اتضح أن مصدر المقال أو المعلومة أصبح أقل أهمية من المجموعة التي تقوم بتوزيع الرابط للمقال، وقد يكون مصدر المقال الأصلي أحد أنصار نظريات المؤامرة وهم كثر.
العقبة الرابعة تتمثل في مجهولية مصدر المعلومة وموزعها في أحوال كثيرة بغض النظر عن طبيعة الموضوع وحساسيته.
العقبة الخامسة هي القدرة الفائقة لوسائل توزيع المعلومات على استهداف وتصميم المعلومة وفقاً لمتلقيها من خلال التعرف على المتلقين وهواياتهم وتفضيلات حياتهم بما يسهل اختراق سلوكهم والتأثير في تصرفاتهم، بما يصعب معه حمايتهم من المعلومات المضللة.
العقبة السادسة أن وسائط تداول المعلومات في العصر الرقمي كمنصات التواصل الاجتماعي لا تخضع فعلياً إلا لنوع من أنواع الرقابة الذاتية وفقاً لميثاق للسلوك تتبناه وفقاً لما تراه مناسباً لها. وقد عانت دول مثل الولايات المتحدة لسنوات في محاولة إرساء معايير يتم التوافق لحملات الدعاية الانتخابية ومصادر تمويلها.
وكما ذكرت جيلان تيت الكاتبة في «الفاينانشيال تايمز» البريطانية إذا ما سئل قراء صحيفة رصينة كصحيفتها هل يستطيعون التفرقة بين الأخبار الصادقة والأخبار الملفقة، فسيجيبون بـ «نعم». ولكن دراسة تطبيقية لمركز أبحاث بجامعة نيويورك أفصحت أن المشاركين في الاستقصاء أثبتوا قدرة طيبة على التعرف على الأخبار الصادقة، ولكن قدرتهم على التعرف على الأخبار المزيفة أو الملفقة لم تكن جيدة على الإطلاق.
لم يختلف الأمر إذن في نتيجته سواء في عصر المعلومات، الذي نعيشه اليوم عن عصور سابقة عانت من حجب المعلومات، فالحصول على المعلومة الدقيقة ليس أمراً سهلاً. وعلى من أراد الحقيقة وتنقيتها من التضليل وشوائب الشائعات أن يبذل جهداً في الوصول إليها بالاحتكام إلى العقل واستفتاء القلب، ويعين على هذا استثمار لا ينقطع في إتاحة المعلومات المدققة من مصادرها وتبسيطها، ولا بأس أبداً بتطوير سبل عرضها وسردها لتنافس الشائعات انتشاراً، فهي لا تخلو عادة من طرافة وجاذبية حتى يتداولها الناس بشغف.
وعلى سبيل التمرين للتعرف على الحقائق من المعلومات المضللة أطرح هذه الأسئلة البسيطة:
هل هناك وباء فعلاً تعاني منه البشرية أم هذا محض ادعاء؟
هل لقاح «كورونا» أكثر ضرراً من فيروس «كورونا»؟
هل تغيرات المناخ حقيقة مهددة للبشرية ومستقبل الأرض؟

محمود محي الدين

مستقبل النقود في العصر الرقمي

تفصلنا أعوام وأشهر قليلة عن بداية التداول الموسع لعملات رقمية تصدرها البنوك المركزية وتجد طريقها لمحافظ رقمية على تطبيقات هاتفية يحملها عموم الناس بلا حاجة إلى أوراق بنكنوت أو حسابات مصرفية.
وعلى اختلاف أشكال النقود وتطورها فعليها دائماً الوفاء بوظائف ثلاث مجتمعة، فهي يجب أن تكون وحدة للحساب ومخزناً للقيمة ووسيطاً للتبادل. وإذا فقدت النقود أياً من وظائفها الثلاث ضاعت الثقة بها وبحث الناس عن بديل عنها. وقد نقل مارك كارني محافظ بنك إنجلترا، في كتابه الأخير عن القيمة والقيم، عن الاقتصادي الأميركي هايمان منسكي مقولة مفادها «أي شخص يمكنه أن يخلق النقود، المشكلة ستكمن في قبولها»، وهذا القبول كما نعلم منوط بالثقة. والثقة في عالم المال تحتاج إلى سنوات طوال لبنائها، وثوانٍ لتحطيمها، وزمن طويل في محاولة استعادتها.
وقد أحدثت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 اهتزازاً في الثقة بالبناء المالي ومؤسساته ولجأ الناس إلى بدائل لنظام مالي تبين ارتفاع مخاطره وعدم شموله للكافة وارتفاع تكاليف إدارته. فتكلفة المعاملات المالية بين البنوك ووحدات الوساطة المالية التي يتحملها الأفراد تتراوح بين 0.5 في المائة و2 في المائة لكل معاملة، وتصل إلى أضعاف هذه النسب في حالة تسوية معاملات عبر الحدود أو القيام بتحويل مصرفي. وما زال هدف تخفيض تكلفة تحويل الأموال عبر الحدود الأموال لنسبة 3 في المائة أمراً صعب المنال رغم التوصيات الدولية.
ومع مستجدات العصر الرقمي وتطور تكنولوجيا سلسلة الكتل «البلوك تشين» يبدو أننا أمام ثلاثة بدائل، أرجّح هيمنة ثالثها، في تطور النقود: طريق الأصول المالية المشفرة، وسبيل ما يعرف بالعملات المستقرة، ونهج العملات الرقمية للبنوك المركزية.
أولاً: الأصول المالية المشفرة، رغم ارتفاع أسعار هذه الأصول المالية مثل البيتكوين وأخواتها، فإنها شديدة التقلب عالية المخاطرة بما يحرمها من وظيفة حيوية للنقود كمخزن للقيمة، كما يعقد استخدامها كوحدة للحساب إلا بربطها بما يعادلها من عملات متداولة مثل الدولار، وهذا يجعل شيوع استخدامها كوسيط للتبادل محل شك. ولا يعد تبني البيتكوين في رأيي من قبل إحدى الدول – وهي السلفادور – إيذاناً بنجاح التجربة. فقد لجأت لها هذه الدولة التي تبنت الدولرة الكاملة منذ عشرين سنة بعدما أعيتها الحيل لتحقيق استقرار اقتصادي ولحفظ قيمة افتقدتها في عملتها ولتخفيض تكلفة باهظة تتكبدها عند تحويل أموال مهاجريها من الخارج. فاللجوء إلى بيتكوين في هذه الحالة ما هو إلا إشارة إلى العجز الدولي عن الوفاء باحتياجات دول في حالة السلفادور بما يستدعي المراجعة والإصلاح.
ولا أرى كذلك أن هذه الأصول المالية ستختفي بعدما أوجدت لنفسها تصنيفاً عالياً في المخاطرة متقلباً في العائد في محافظ المضاربة المالية. فهي لا تتمتع بقيمة ذاتية كامنة وليست مساندة بأي أصل له قيمة ذات عائد، ولكنها باتت أشياءَ للتجارة كما أوضح رئيس أكبر صناديق التحوط «مان غروب» في تصريح لصحيفة «الفاينانشيال تايمز». فهي توفر لصندوقه الذي يدير 127 مليار دولار من المحافظ في الأصول المالية، فرصاً للتداول والمضاربة والتجارة انتفاعاً بالمدى الواسع لتغيراتها. وقد أوجد لمثل هذه الأشياء قيمة ما أصاب عملاء هذا الصندوق وغيره من تخوف من التضخم واحتمالات خروجه عن سيطرة البنوك المركزية مع استمرار الانخفاض الشديد لأسعار الفائدة بما يلجئهم لمثل هذه المضاربات. وفي تقديري، أنهم بسلوكهم هذا كالمستغيث من الرمضاء بالنار.
وأعتقد أننا سنرى مزيداً من الضوابط والمطالب الرقابية على هذه الأصول المالية المشفرة للدفع بدرجات أعلى من الإفصاح، خاصة من المؤسسات المالية ورفع درجات الإلزام الضريبي، والتوافق مع ضوابط البيئة في عمليات تعدينها المهدرة للطاقة وتتبع سوء استخدامها في عمليات غسل الأموال وجرائم القرصنة والفدية الإلكترونية.
ثانياً: ما يعرف بالعملات المستقرة، وهي تميز نفسها عن الأصول المالية المشفرة باستنادها إلى احتياطي من الأصول والعملات التقليدية، ولكنها مثل أشهرها المعروفة بعملة «تيثير» تكتنفها مخاطر مماثلة لما يعرف ببنوك الظل مثل صناديق السوق النقدية المتداولة التي تعرضت لخسائر جمة أثناء الأزمة المالية في 2008. وقد أسفر تحقيق النائب العام في نيويورك، عن أن شركة «بيتفينيكس»، التي تدير عملة تيثير، لم تظهر احتياطاتها على نحو سليم، وقد حذرت مؤسسات تصنيف ائتماني من عواقب أي تسييل مبكر للأصول المالية المساندة لهذه العملات المسماة بالمستقرة. ومن أمثلة العملات المستقرة ما كان من أمر عملة ليبرا المستندة إلى سلة عملات مستقرة والتي أعلنت عن إصدارها في عام 2019 شركة «فيسبوك» ذات المليارين من المستخدمين من خلال كيان في سويسرا انضمت إليه، ثم سرعان ما انسحبت منه شركات فيزا وماستركارد وباي بال. وقامت «فيسبوك» بتأسيس كيان آخر في كاليفورنيا لكي يصدر عملة جديدة تحت اسم «دايم» بعد تخليها عن الاسم القديم الذي كان مرتبطاً بعملة القيصر الروماني أغسطس، وجاء ذلك بعد فشل «فيسبوك» في إقناع السلطات المالية والتشريعية الأميركية بحيثيات إصدارها لليبرا فاستكانت لبديل ما زال تحت الإصدار، وإن كان لا يحمل أي من هذا بشائر باستقرار يرجى من مسميات هذه العملات.
ثالثاً: العملات الرقمية للبنوك المركزية: لم تكن الدول ذات السيادة لتفرط في السيطرة على نظم الدفع وتتركها في يد شركات التكنولوجيا أو مغامرين ومضاربين ونشطاء حاذقين في تقنية المعلومات وتطبيقاتها وشبكاتها الرقمية. فمن يملك السيطرة على نظم الدفع وتسوية المعاملات يسيطر على مقدرات الدولة ويحتكر ريع الإصدار. وفي حين أعلن عن التجارب الحثيثة التي تقوم بها البنوك المركزية يتضح أن بعضها يستخدم تكنولوجيا البلوك تشين وآليات التشفير التي يتبعها القطاع الخاص وبعضها يستخدم نظاماً جديداً مطوراً من بدايته. وهناك 14 دولة، بعضها في مجموعة العشرين، في مرحلة التطبيق التجريبي وقامت دولة البهاما بإصدار أول عملة رقمية سيادية باسم ساند دولار. ويذكر أن الصين في مرحلة متقدمة تطبيقية في عدد من مقاطعاتها، وأنها ستقوم بتداول لليوان الرقمي مع افتتاح الدورة الأوليمبية الشتوية على أرضها في شهر فبراير (شباط) من العام المقبل. ويشير الاقتصادي محمد العريان، رئيس كلية كوينز بجامعة كمبردج، إلى أنه في الوقت الذي انشغل فيه الغرب في مباريات صفرية تطبق الصين رؤية متكاملة من القمة للقاعدة وتعد الساحة لآليات تحول كبرى على أرضها بإمكانات تتجاوز حدودها الجغرافية.
هناك أسئلة عملية عند تطبيق العملات الرقمية، منها ما أثارته آن كروغر، النائبة السابقة لمدير صندوق النقد الدولي، حول مقر الاحتفاظ بحسابات الودائع الرقمية للأشخاص؟ وهل ستكون لدى البنك المركزي؟ وماذا عن اعتبارات السرية والخصوصية؟ ما هو دور البنوك التجارية في هذا النظام؟ كيف يمكنها منح القروض إذا ما حرمت من ودائع الأفراد؟
سيحدث النظام الجديد في تقديري طفرة في الكفاءة المالية وتخفيض تكلفة المعاملات وزيادة الشمول المالي وسيستوجب تغييراً في أنماط عمل القطاع المالي ونظمه التشغيلية وقواعد المنافسة والابتكار وتطوير الخدمات للعملاء وقواعد التعرف عليهم كمدخرين ومقترضين. لكن النقلة الأكبر ستكون على صعيد النظام النقدي الدولي وإدارة الاحتياطي من النقد الأجنبي. فرقمنة العملة ستدخل لاعبين جدداً في الساحة الدولية ممن ستكون لهم الغلبة في تكنولوجيا العملة الدولية وقواعد البيانات الكبرى وإدارتها بنظم الذكاء الصناعي. وبالإضافة إلى الدولار الذي يسيطر حتى الآن على 60 في المائة من المعاملات الدولية، واليورو الذي يحتفظ بنسبة 20 في المائة، وعملات دولية أخرى كالين والإسترليني والفرنك السويسري، سيتصاعد دور اليوان الرقمي إذا ما قررت الصين تدويله مستنداً إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمياً والمركز الأول في التجارة العالمية وانتشار متزايد في الاستثمارات الدولية.
مع كل هذه المتغيرات، فهناك عامل شديد الثبات سواءً قبل بزوغ العصر الرقمي أو بعده: فالعملات صعبة لا تكون لمن يكتفي بالاحتفاء بآثار قوة ناعمة لمجد قديم، بل تلحق بأصحاب القوة الشاملة ذوي السبق والتقدم.

د. محمود محي الدين

الأسلوب الصيني في التطور التقني

بين عامي 2007 و2019، زاد حجم الناتج القومي للصين من 3.5 ترليون دولار إلى أكثر من 14 ترليون دولار؛ أي نحو أربعة أضعاف. وتزامن مع هذه الزيادة في حجم الاقتصاد الصيني تطور تقني ملحوظ، نتج عنه تضاعف الصادرات عالية التقنية من 343 إلى 715 مليار دولار. ولا تعبر الصادرات عالية التقنية عن قدرة البلد على الصناعات التقنية فحسب، بل على قدرة هذه الصناعات على المنافسة العالمية، والتغلب على صناعات دول أخرى متقدمة. فكيف تمكنت الصين خلال هذه المدة من مضاعفة صناعاتها المعتمدة على التقنيات المتقدمة؟
اتبعت الصين خلال العقود الماضية 3 سياسات رئيسة في تطورها: الأولى هي الهندسة العكسية، وهي الأكثر شهرة عن الصين. وفي هذه السياسة، تشتري الصين المنتجات المتقدمة، وتكلف مهندسيها وعلمائها بدراسة هذه التقنيات بهدف تصنيع منتجات مثيلة. وقد برعت الصين في تقليد الصناعات حتى ارتبط اسم الصناعة الصينية بتقليد الصناعات الغربية المتقدمة. والصين استخدمت هذا الأسلوب كثيراً في الصناعات العسكرية، ابتداء من الأسلحة التقليدية حتى الطائرات الحربية. وما تزال كثير من الشركات الغربية تقاضي الشركات الصينية بدعوى الهندسة العكسية، وكان آخر هذه القضايا من شركة «آبل» التي اتهمت «هواوي» بسرقة تقنياتها عن طريق الهندسة العكسية. ولم تفعل الصين ما لم تفعله الدول الأخرى، فقد أهملت أوروبا قانون الملكية الفكرية بعد الحرب العالمية الثانية من أجل تنمية صناعاتها، وفعلت الولايات المتحدة المثل بعد الثورة الصناعية في أوروبا للحاق بركب هذه الثورة، وسرق الاتحاد السوفياتي تصميمات القنبلة النووية من أميركا لمجاراة التفوق العسكري الأميركي. والصين كذلك مارست السلوك نفسه لتتطور تقنياً، سواء لأهداف تجارية أو عسكرية.
السياسة الثانية التي اتبعتها الصين هي سياسة الاستحواذ على الشركات التقنية، ومن ثم نقل تقنياتها (سواء بشكل قسري أو غيره) إلى الصين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك استحواذ شركة السيارات الصينية «جيلي» على الشركة السويدية الشهيرة «فولفو» في عام 2010 التي كانت مملوكة حينها لـ«فورد». فبعد تأثر «فورد» بالأزمة المالية العقد الماضي، اضطرت إلى بيع كثير من شركاتها، وكانت «فولفو» من نصيب الصينيين الذين اشتروها بمبلغ زاد على 1.3 مليار دولار، والنتيجة لذلك اليوم هو ازدهار سيارات «جيلي» خارج الصين بشكل ملحوظ. والمثال الآخر تجسد في وحدة الحواسيب الشخصية المملوكة لشركة «آي بي إم»، حيث اشترت شركة «لينوفو» الصينية هذه الوحدة في عام 2005 بنحو 1.25 مليار دولار، لتملك «لينوفو» اليوم أكبر حصة عالمية في سوق الحواسيب الشخصية (نحو ربع مبيعات الحواسيب الشخصية في العالم من لينوفو). وقد ركزت الصين في استثماراتها الخارجية واستحواذاتها على الشركات التقنية، خصوصاً تلك المؤثرة في الصناعات المستقبلية، مثل الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنيات الواقع المعزز والسيارات ذاتية القيادة وتقنيات التعديل الجيني. وتشمل هذه الاستثمارات عمليات الاندماج والاستحواذ والاستثمار الملائكي واحتضان وتسريع وتمويل الشركات الناشئة. الإكثار من هذه العمليات هو ما دعا الرئيس الأميركي السابق لمنع استحواذ الشركات الصينية على الشركات التقنية الأميركية، لا سيما أن هذه السياسة كانت في أوجها عام 2015؛ أي قبل توليه (ترمب) للرئاسة. أما السياسة الثالثة، فهي البحث والتطوير، وهي العمليات الأصيلة التي تقوم بها الشركات ومؤسسات البحوث داخل الصين بهدف تطوير صناعاتها التقنية. وتشكل الصين اليوم نحو 21 في المائة من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير الذي يزيد على تريليوني دولار، لتأتي في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة. ويزيد الإنفاق الصيني على البحث والتطوير بنسبة 18 في المائة سنوياً، بينما لا يزيد الإنفاق الأميركي إلا بنسبة 4 في المائة؛ أي أنه من المتوقع أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في السنوات المقبلة. كما تضاعفت القوة البشرية الصينية العاملة في البحث والتطوير 5 مرات منذ عام 2000، لتصل اليوم إلى 1.65 مليون عامل. وقد استثمرت الصين في تعليم طلابها خارج الصين بشكل هائل. ففي عامي 2014 و2015 فحسب، زاد عدد الطلاب الصينيين خارج الصين على 800 ألف طالب، معظمهم في جامعات متحدثة باللغة الإنجليزية. إن المتأمل في السلوك الاقتصادي للصين يجدها تركز على مفاصل النمو الاقتصادي في المستقبل، وقد استفادت الصين من أخطائها السابقة حين كانت تنفق على الاستحواذات بشكل مكثف لا لشيء إلا لزيادة صادراتها أو حصصها السوقية خارج الصين، إذ إنها غيرت مؤخراً هذه الاستراتيجية لتركز على الاستحواذات التي تنفعها بشكل أكبر على المدى الطويل. والصين اليوم ما تزال تمارس السياسات الثلاث نفسها، فهي تدرس بشكل مستمر التقنيات الغربية، وما تزال تستحوذ على شركات تقنية حول العالم، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة، وما تزال تنفق بكرم على البحث والتطوير. هذه السياسات دفعت بالمحللين إلى توقع أن يزيد حجم الاقتصاد الصيني على مثيله الأميركي خلال العشرين سنة المقبلة، وأن يصل حجم الاقتصاد الصيني في 2050 إلى ما نسبته 150 في المائة من حجم مثيله الأميركي!

د. عبد الله الردادي

عن توقعات كرة القدم وتنبؤات الاقتصاد

قبل المباراة النهائية لكأس أمم أوروبا لكرة القدم، سأل مذيع قناة «بي بي سي» البريطانية أحد مشجعي الفريق الإنجليزي المتحمسين عن توقعاته لنتيجة المباراة النهائية بين فريق بلاده وإيطاليا، وقبل أن تصله الإجابة قال المذيع: «أعلم أنه لا معنى للتوقعات الآن، وأعرف مدى صعوبتها، ولكني سأسألك على أي حال». وأجاب المشجع بحماس على السؤال عن توقعه بفوز محتوم للفريق الإنجليزي الذي يلعب على أرضه بفريق هو في رأيه الأفضل تشكيلاً وأداءً، وأنه فريق الآمال التي طال انتظارها الذي سيتوج بكأس الفوز، واسترسل المشجع عما سيقوم به مع باقي أنصار الفريق من أشكال الاحتفال حتى اليوم التالي الذي جعلته الحكومة عطلة في عموم البلاد. ولم يتحقق كما نعلم أي من ذلك، إذ انتهت المباراة القوية الشيقة بالتعادل لهدف لكلا الفريقين، ثم فازت إيطاليا بركلات الترجيح عائدة بالجائزة الكبرى لروما محاطة بنشوة النصر، مع حسرة الإنجليز وخيبة توقعات هذا المشجع ورفاقه، وربما قضى يوم العطلة مجتراً أحزانه، محللاً أسباب ضياع البطولة، لائماً حظاً عاثراً أو فرصة ضائعة أو خطأ للاعب.
وأسوق هذا المثال لتوضيح صعوبة العمل الذهني لاتخاذ التوقعات، وقد قيل على سبيل التهكم إن التوقعات عملية شديدة الصعوبة، خاصة عندما تكون عن المستقبل! فالتوقعات أسيرة خبرة عن ماضٍ لا يتحكم بالضرورة في مصائر المستقبل. والتوقعات، وكذلك القرارات، مقيدة بحدود المعرفة المتاحة في الحاضر، وهي تعاني بدورها من تحيز، كحالة هذا المشجع لفريقه، كما يضلل التوقعات ما يعرف بالضوضاء أو مؤثرات مشوهة لسلامة الرؤية والتقدير. فالتحيز، هو ما يصفه دانيال كانمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتاب جديد ألفه مع أوليفر سيبوني وكاس سنستين بالانحيازات أو «الانحرافات المنهجية». والتحيز يكون مسبق الإعداد ويؤثر سلباً في القرار أو التوقع كافتراض أحد المحققين في جريمة ما بأن شريحة معينة من المجتمع أكثر عنفاً وضلوعاً في ارتكاب الجرائم. فإذا مثل أحد المنتمين لهذه الشريحة المجتمعية أمامه في حادثة كان هذا التحيز مسيطراً على تفكيره ومن ثم قراره بغضّ النظر عن الحقيقة التي قد تضيع ومعها العدل بسبب هذا التحيز.
ويذهب كانمان وزملاؤه إلى أن هذه التحيزات معروفة ويمكن التعامل معها بأساليب مختلفة حتى يتم التوصل للحقيقة كمراجعة الأحكام والطعن في سلامة التحقيق بسبب ما عرف عن المحقق من تحيز.
لكن هناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن التحيز في اتخاذ القرار وأكثر صعوبة في التعامل معها وهو ما يوصف بالضوضاء التي تجعل القرار معانياً مما يعرف «بالبعثرة العشوائية». فرجوعاً إلى مثال المحقق لا تتوقف المشكلة عند انحيازه ضد جماعة معينة أو معها، ولكن في إطار الحكم على عناصر من ذات الجماعة قد يعاني القرار من عيوب وعدم اتساق، بناء مثلاً على الحالة التي كان عليها المحقق ذهنياً أو صحياً قبل أو أثناء التحقيق. والخلاصة هو أنه عندما يتم اتخاذ قرار أو حكم أو نصيحة طبية، على سبيل المثال، يجب العمل على تقليص التأثير السلبي لهذه التحيزات وكذلك مؤثرات الضوضاء على القرارات للاطمئنان على سلامتها من المشوهات.
وفي عالم الاقتصاد، إذا ما زادت ظروف المخاطرة يصعب اتخاذ القرار حتى إذا اتخذت التدابير للتخلص من التحيز في الأحكام أو تقليل أثر الضوضاء. ولهذا يتم اتخاذ القرار في حالة المخاطرة وفقاً لبدائل تتعلق باحتمالات المستقبل. أما في ظروف اللايقين فهي تتجاوز المخاطرة لأن احتمالات حدوث الواقعة وبدائلها لا تكون معروفة أصلاً. فهي كمحاولة إصابة هدف في ظلمة حالكة. وفي هذه الحالة ترتفع تكاليف اتخاذ القرار والتوقي من آثاره.
وإذا ما تابعنا نتائج وقرارات اجتماعات مجموعة العشرين التي انتهت منذ أيام تجدها حتماً تعاني من مشكلة التوقعات. فقراراتها تعتمد على شكل التعافي في النمو الاقتصادي في هذا العام والعام المقبل، وإذا ما كان معدل النمو سيتبع المسار المتوقع، في حدود 5.5 في المائة إلى 6.5 في المائة. لكن هذا التوقع يرتبط بدوره بتوقعات التعافي الصحي والسيطرة على الجائحة التي ما زالت تعصف بحياة الناس وأسباب معيشتهم. وهذا التوقع يرتبط بمدى فاعلية اللقاحات في التعامل مع فيروس كورونا وتحوراته المستجدة من ناحية وكذلك مدى فاعلية إجراءات التحفيز الاقتصادي في دفع قطاعات الإنتاج والتشغيل لتحقيق المستهدف منها.
وفي هذه الأثناء يهدد هذه التوقعات الاقتصادية، شديدة الارتباط بافتراضات متشابكة، 4 معوقات كبرى…
– عدم كفاية اللقاحات وعدم إتاحتها للبلدان النامية بما يهدد زيادة الإصابات والوفيات وارتباك القطاعات الصحية مع تحور الفيروس، وانتقال عدواه عبر الحدود بما في ذلك الدول المتقدمة التي نجحت في تطعيم نسب كبيرة من مواطنيها. علماً بأن وعد مجموعة السبع بتوفير لقاحات لا يفي إلا بأقل من 10 في المائة من عجز اللقاحات. وما زال هناك تعنت في السماح بإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وذلك بتمسك دول متقدمة بقيود حقوق الملكية الفكرية رغم المطالبة في منظمة التجارة العالمية بالإعفاء المؤقت منها.
– تباين قدرات الإنفاق المالي للتصدي للجائحة والتعافي منها، ففي حين أنفقت البلدان المتقدمة ما يزيد على 25 في المائة من نواتجها المحلية الإجمالية، تقل هذه النسبة عن 7 في المائة في البلدان متوسطة الدخل، كما لا تتجاوز 2 في المائة في البلدان الأقل دخلاً.
– تداعيات ارتفاع التضخم، خاصة في الولايات المتحدة الذي وصل فيها معدل الارتفاع السنوي للرقم القياسي لأسعار المستهلكين، إلى 5 في المائة في شهر مايو (أيار) الماضي، وهو رقم مرتفع بمعايير الدول المتقدمة. ويؤثر ذلك على توجهات أسعار الفائدة وتكلفة الاقتراض وأوضاع الدين الخارجي ومدى استقراره، فضلاً عن ارتفاع تكلفة سلع أساسية مستوردة على ميزانيات الدول.
– جانب من النمو المتوقع لا يرتبط بخلق فرص عمل، ما يزيد من حدة التباين في توزيع الدخول والثروات.
هذه التفاصيل مهمة عند تحليل توقعات النمو، وبها تكمن شياطين، تُعيق التوصل للتعافي المأمول لصحة عموم الناس واقتصادهم. فقد اختزلت إجراءات التعافي في مجالات لا تجعل هذا التعافي شاملاً أو مستقراً أو مستداماً. فقد أصبح النمو بلا عمل والكسب بلا جهد. فأرقام النمو المذكورة غير مقترنة بالتشغيل للمتعطلين الذين تجاوز عددهم 250 مليوناً، وتتزايد أعداد أصحاب المليارات وتتفاقم ثرواتهم في حين يُدفع بأكثر من 120 مليون إنسان لهوة الفقر المدقع. هذا التباين في سرعات التعافي بين الدول لا يحمل معه سوى التوتر والنزاعات والاضطرابات الاجتماعيات التي طالما أعقبت الأزمات. والأزمة الراهنة من أشد أزمات العصر الحديث وطأة، بما يستلزم إجراءات أكثر حسماً وسرعة لإنقاذ حياة الناس وأسباب معيشتهم وأمن مجتمعاتهم.

محمود محي الدين

مهمة «أوبك بلس» لم تنتهِ بعد

ولّد اتفاق تحالف «أوبك بلس» – وهو التحالف القائم بين أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) وكبار المنتجين خارجها – حالة من التفاؤل والإيجابية، إذ إنه زاد من عمر التحالف سنة أخرى لينتهي الاتفاق الجاري بنهاية عام 2022. وفي رأيي قد يستمر التحالف عاماً آخر أو أعواماً رغم كل محاولات روسيا السابقة للخروج منه مبكراً بسبب عدم رغبة شركات النفط الروسية في الاستمرار في أي اتفاق طويل الأجل يقوض من صلاحيتها في إنتاج كل ما تريد إنتاجه من نفط وضخه للأسواق.
وإذا فرضنا جدلاً أن هذا الاتفاق هو الأخير للتحالف أو أنه غير ذلك، فهذا لا يعني أن مهمة التحالف انتهت عند هذا الاتفاق الذي بموجبه ستستطيع المملكة وروسيا وباقي الدول ضخ كميات إضافية من النفط قدرها 400 ألف برميل يومياً حتى نهاية العام الجاري، بدءاً من شهر أغسطس (آب). إن مهمة التحالف ستكون أطول مما تتوقعه الدول لأن السوق تنظر للتحالف على أنه مصدر الاستقرار الوحيد في ظل الجائحة الحالية التي لا يُعلم منتهاها حتى الآن مع تجدد فرض الحظر في العديد من الدول وتزايد الحالات بفضل النسخة المتحورة منه (دلتا).
وبسبب الأوضاع الحالية التي تشهدها السوق، التي قد تؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط بنحو مليون برميل يومياً، بحسب تقديرات «غولدمان ساكس»، فإن الاتفاق الذي عقده التحالف يوم الأحد الماضي قابل للتغير إذا ما ساءت الظروف. إن أخطر ما يمكن لنا تخيله هو أن نتصور أن التحالف اتفق على زيادة 2 مليون برميل من النفط حتى نهاية 2022 وبذلك انتهت القصة، بل في الحقيقة إن القصة بدأت.
أمام التحالف العديد من المجاهيل في السوق التي ستجعل عمله غير مكتمل حتى الآن، فهناك تأثير «كورونا» على الطلب، وعودة المخزونات إلى الارتفاع مع تباطؤ أو ركود الطلب. وهناك 2 مليون برميل يومياً من النفط الإيراني قد تعود إلى السوق في أي لحظة مع التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والقوى العظمى. كل هذا يفرض على التحالف الحذر ومراجعة الاتفاق شهرياً للتفاعل مع تطورات السوق.
وحتى إذا افترضنا أن السوق سوف تتحسن بشكل كبير خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، فإن العجز المتوقع في السوق قد يصل إلى 5 ملايين برميل يومياً، مع رغبة المشترين في إعادة بناء المخزونات التي تناقصت كثيراً هذا الصيف، وكذلك مع دخول الشتاء وانحسار تمدد الفيروس ومواصلة العديد من الدول فتح مطاراتها. معنى هذا أن الكمية التي سيضيفها التحالف ليست بالكافية لسد العجز إذا تحسّنت الظروف.
وفي ظل ظروف مثل التي نمر بها، أصبح التخطيط بعيد الأجل صعباً ولا يستطيع أحد أن يتوقع حالة العرض والطلب بعد أكثر من 3 أشهر، وسيتعين على الجميع الاستمرار في المراقبة شهرياً. أما الأسعار فهي وإن شهدت هبوطاً كبيراً مع مخاوف السوق من انتشار كورونا وتداولها تحت 70 دولاراً للبرميل، إلا أن الحزمة المعقولة لها ستظل بين 70 إلى 80 دولاراً للبرميل.
وما يجب علينا فهمه عن تطور التحالف هو أنه سيستمر في العمل وتسلم زمام الأمور من «أوبك» للعام السادس على التوالي، وقد يستمر لفترة أطول، والأهم من هذا هو أن قرارات التحالف متغيرة وقابلة للتعديل بصورة شهرية وسريعة، وهي في مجملها لا تستهدف مستوى معيناً من الأسعار، لأن مصالح روسيا أبعد من سعر معين للنفط، إذ إنها لا تحتاج إلى أسعار نفط عالية لميزانيتها المالية مثل دول «أوبك».

وائل مهدي

قريباً… الطائرات الصينية

حتى عام 1970، كانت شركة «بوينغ» الأميركية محتكرة سوق صناعة الطائرات في العالم، وفي ذلك العام قرر عدد من الدول الأوروبية إنشاء شركة «إيرباص» لتكون منافسة في هذه الصناعة الاستراتيجية ولتكسر احتكار «بوينغ» التي أنشئت عام 1916. ولأهمية هذه الصناعة، شهدت كلتا الشركتين دعماً حكومياً سبب حزازات بينهما خلال الـ17 عاماً الماضية، حتى وصلا إلى اتفاق في الشهر الماضي أنهى هذه الحزازات بشكل مؤقت. وكان السبب في هذا الاتفاق دخول عدو مشترك لهما؛ هو شركة «كوماك» الصينية، التي أعلنت أنها ستبدأ بشكل رسمي تصنيع الطائرات المدنية بنهاية العام الحالي.
وانبثقت شركة «كوماك» من «مؤسسة صناعة الطائرات الحربية» في الصين عام 2008، ومنذ ذلك الوقت والحكومة الصينية تستثمر في هذه الشركة، ويقدر ما أنفقته الحكومة الصينية عليها بما بين 49 و72 مليار دولار. وبينما شهدت مشاريع هذه الشركة تعثرات كثيرة، فإنها استمرت في دعم هذه الشركة. وفي لقاء مع الرئيس الصيني عام 2014، أوضح أن الصين تنفق المليارات على شراء الطائرات، وأنه حان الوقت لاستثمار هذه الأموال في مشاريع تطوير تصنيع الطائرات.
والواقع أن الصين تشكل نسبة لا يستهان بها من الطلب على الطائرات، لدرجة أن ربع إنتاج «بوينغ» قبل الوباء كان يذهب للسوق الصينية. والطلب الصيني في ازدياد مستمر، وتوقعت «بوينغ» أن تشتري الصين خلال السنوات العشرين المقبلة نحو 8600 طائرة، بتكلفة نحو 1.73 تريليون دولار! والحكومة الصينية لا تريد لهذا المبلغ الضخم أن يتسرب إلى خارج الصين، ولذلك؛ فإن ما تستهدفه الحكومة الصينية، على الأقل على المدى القريب، هو توفير هذا التسرب. ويتوقع أن تستغل الصين سوقها المحلية في تسويق طائرات «كوماك» حتى تتمكن من المنافسة العالمية بعد فترة، وتوقع خبراء «بوينغ» أن تدخل «كوماك» وبطرازها الحالي «C919» المنافسة الدولية بعد نحو 10 سنوات، وحتى ذلك الوقت فستكتفي بتغطية السوق المحلية. وأعلنت «كوماك» أن لديها طلبات بنحو ألف طائرة تتوقع تسليمها نهاية العام الحالي. ويشكك الغرب في قدرة الشركة على تسليم هذه الطائرات، بالإضافة إلى تصريح العديد من وسائل الإعلام الغربية بأن هذه الطلبات جاءت بضغط من الحكومة الصينية على شركات الطيران لدعم الشركة المحليّة.
إلا إن «كوماك» لا تزال تعتمد في تصنيعها للطائرات على التقنيات الغربية، وتشكّل القطع المستوردة من الشركات الغربية معظم مكوّنات طائراتها وأكثرها أهمية، بينما تستخدم القطع المصنعة في الصين بشكل محدود في الطراز الحالي من طائرات «كوماك». وسلاسل التوريد في صناعة الطائرات المدنية تعدّ من الأكثر تعقيداً على مستوى الصناعات، فقد يزيد عدد القطع في الطائرات على 500 ألف قطعة، تصنّع من قبل عشرات إذا لم يكن مئات الموردين، والتكامل بين هذه المكوّنات من الناحية التشغيلية والإدارية شديد التعقيد.
وإضافة إلى عامل التقنية المتقدمة الذي تفتقد إليه «كوماك»، فإنها تفتقد الخبرة التراكمية الموجودة لدى «إيرباص» و«بوينغ»؛ فالأولى بدأت أبحاثها في الطيران منذ أكثر من مائة عام، أما الأخيرة فلديها نحو 50 عاماً من الخبرة في زمن ازدهار صناعة الطائرات. والشركتان تطورتا بفعل التنافس المستمر بينهما، وتكونت لديهما معرفة عن توجهات العملاء وعن أسرار النجاح في تلبية رغباتهم. وبين المائة والخمسين عاماً المشتركة بين هذين العملاقين، تأتي «كوماك» بأقل من 20 عاماً من الخبرة، وبمشاريع عرفت بتعثرها وعدم وفائها بأوقات انتهائها.
إن دخول الصين إلى صناعة الطائرات المدنية يشكل تهديداً حقيقياً لسطوة الغرب على هذه الصناعة، ومن يشكك في أن الغرب يرى نفسه قوة واحدة ضد غيره، فإنه يمكنه التأمل كيف طرحت القوتان «بوينغ» و«إيرباص» خلافاتهما جانباً لمجرد ظهور تهديد مشترك لهما يتمثل في «كوماك» الصينية. ولا يمكن استبعاد أن يضغط الغرب على الصين؛ وذلك لتعطيل هذا المشروع، وقد يكون هذا الضغط على الشركات الموردة؛ تماماً كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع شركات المعالجات الحاسوبية الأميركية ضد شركة «هواوي» الصينية. ويبدو أن الصين ماضية في كل الأحوال في هذا المشروع، فهي الآن أكبر من أن تستسلم لهذه الضغوطات؛ لا سيما أنها قطعت شوطاً كبيراً في هذه الصناعة، ولدى «كوماك» دعم غير محدود يكفيها للمنافسة المحلية حتى تتمكن من المنافسة العالمية.

د. عبدالله الردادي

قائمة المليارديرات في الذكرى المئوية للصين الشيوعية

تستطيع من مشهد ترتيب الزهور الممتدة عبر ساحات المدينة استنتاج أن الاستعدادات للاحتفال بالعيد المائة للحزب الشيوعي الصيني قد اكتملت.
يركز غالبية السكان البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة على عروض الألعاب النارية الكبيرة والاستعراضات الباهظة، لكنّ المستثمرين والمدونين الماليين والمضاربين، لديهم وجهات نظر محددة في الاعتبار، هي أن المليارديرات الصينيين يريدون بشغف أن يروا أنفسهم في الاحتفالات؛ يريدون معرفة من دخل القائمة ومن خرج منها، وهو ما يمكن أن يطلق الألعاب النارية الحقيقية في الأسواق.
إن دعوة الأحزاب الكبيرة في بكين لرجال الأعمال امتياز هائل وعلامة على التأييد الرسمي، حيث تمت دعوة روبين لي، رئيس شركة «بيدو إنك» ثلاث مرات للاحتفال بعيد استقلال الصين. ومن بين الرؤساء التنفيذيين وكبار رجال الأعمال البارزين أيضاً في المسيرات دونغ مينجزو رئيس شركة «غري إلكتريك أبلاينس» التي تعد رائدة أعمال بارزة.
شهدت الذكرى السبعون لتأسيس جمهورية الشعب في 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وجود لي جون، رئيس مجلس إدارة شركة «شاومي كورب» للهواتف الذكية والأجهزة المنزلية الذكية التي تبلغ قيمتها 90 مليار دولار، وهو يتقدم وسط المسيرات الملوّحة بالزهور. وعلى موقع خدمة المدونات الصغيرة الشهير «ويبو»، قال لي كم إنه فخور ومتحمس لأنه سار وسط ساحة «تيانانمين» وشاهده الشعب كله.
كان لدى الحكومة أسباب وجيهة لوضع لي، رئيس شركة «بايدو» وكذلك لي من شركة «شاومي» في أدوار البطولة. فقد كان لي «سلحفاة بحرية»، وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى المهاجرين العائدين من وادي «السيليكون» الذين كانوا يدفعون التقدم التكنولوجي للصين. وابتكر لي هواتف ذكية متطورة ميسورة التكلفة للأسواق الناشئة، وهو نوع المؤسسات التي تقع في صميم «مبادرة الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس شي جينبينغ.
ثم كان هناك قطب العقارات هوي كا يان، مؤسس «مجموعة إيفرغراند» الصينية. ففي احتفال عام 2019، التقط صوراً في برج بوابة ميدان «تيانانمين» الذي يعتبر منصة المشاهدة الرئيسية لنخبة النخبة، وقد تم عرض صور حضوره على الإنترنت. وذكرت مؤسسة «إيفرغراند» صورة له في قسم «المعالم» في تقريرها السنوي لعام 2019، حيث قالت إن هوي بدا شاباً بالنسبة لشخص يبلغ 60 عاماً، وكذلك بدا ثرياً وقوياً ووسيماً. في الواقع، ربما تكون المكانة والنفوذ الواضح اللذان شهدهما وضع هوي البارز في ميدان «تيانانمين» قد ساعدا على تعافي سندات «إيفرغراند» الدولارية المتعثرة في أواخر عام 2019، فما الذي يمكن أن يطلبه الملياردير أكثر من ذلك؟
يمكن لهوي استخدام بعض علامات التفضيل الجديدة. هذا العام طُلب منه تقليص الديون بعد أن تجاوزت مؤسسة «إيفرغراند» – المطور العقاري الأكثر مديونية في البلاد – جميع «الخطوط الحمراء الثلاثة» لبكين حدود الاقتراض التي تمت صياغتها في أغسطس (آب) 2020. يقال إن المنظمين يبحثون في معاملات «إيفرغراند» مع الأطراف ذات الصلة، شركة «بنك شنغن» المتوسطة الحجم، والتي تعتبر «إيفرغراند» أكبر مساهم فيها. ولم يبد هوي أي تعليقات عامة على هذه القضية.
العام الجاري، هناك حافز مالي حقيقي لأصحاب المليارات للتنافس على دعوات لحضور الحفلة الكبيرة للحزب. ذلك ليس فقط لدعم غرورهم، فقد تكون ثرياً بشكل لا يصدق، لكن في هذه الأيام، حتى الملياردير يجب أن يُنظر إليه على أنه الجانب المشرق من الحكومة لكي يزدهر. ما عليك سوى إلقاء نظرة على ملحمة جاك ما، مؤسس مجموعة «علي بابا» القابضة المحدودة، الذي شوهد بالكاد منذ نهاية عام 2020، عندما اختلفت مجموعة «آنت» مع المنظمين الحكوميين.
في الآونة الأخيرة، استدعت الحكومة وانغ شينغ، مؤسس شركة «مياوتن»، ثالث أكبر شركة للتكنولوجيا في الصين، وحذرته من محاولة لفت الأنظار. ونشر قطب توصيل الطعام قصيدة قديمة على الإنترنت في مايو (أيار)، اعتبرها الكثيرون بمثابة انتقاد مبطّن لقوانين الحكومة لمكافحة الاحتكار.
تشعر بكين في الوقت الحالي بالقلق من كبار المطورين لأنهم مثقلون بالكثير من الديون لدرجة أنهم ساعدوا في تحويل الصين إلى واحدة من أكثر دول العالم نفوذاً. ففي أكتوبر الماضي، عندما جاء شي إلى «شنتشن» للاحتفال بالذكرى الأربعين للمدينة كمنطقة اقتصادية خاصة، لم يقم مطور واحد بوضع قائمة الحكومة لأهم 40 شخصاً ساهموا في نهوض المدينة. وفي الوقت نفسه، تشعر الحكومة بالقلق من شركات التكنولوجيا الكبرى أيضاً، حيث تشعر أن الشركات استخدمت امتيازات السوق لخنق المنافسة والابتكار. كما طُلب من عمالقة التكنولوجيا الآخرين، من «تينسينت هولدنغ ليمتد» إلى «بايتي دانس»، كبح التجاوزات في مراجعة بكين لمكافحة الاحتكار.
هل يمكن أن يشير مقعد جيد في الحزب الشيوعي الكبير إلى تغيير في السياسة الرسمية؟ هل يعني الغياب عن المسيرات أن الأسوأ لم يأتِ بعد للمليارديرات في مرمى النيران؟ هل يمكن أن تؤدي العودة إلى ميدان «تيانانمين» إلى إحياء سندات إيفرغراند الدولارية؟
إن معنويات السوق بشأن السندات الدولارية لشركة «إيفرغراند» في أسوأ حالاتها منذ عمليات الإغلاق في مارس (آذار) 2020.
كان هوي – ولا يزال – أكثر رجال الأعمال الخيرية في الصين. بعبارة أخرى، يعتبر هو الرجل الوطني الأكرم. ويتكهن المدونون الصينيون بأن سخاءه ربما أكسبه دعوة عام 2019 إلى منصة تيانانمين الكبرى. لكن ذلك كان قبل عامين، فالعمل الخيري وحده قد لا ينفع إذا كنت تريد أن تكون على قائمة «A». ماذا سيحدث؟ سيشاهد الكثير من المستثمرين المصابين بجنون العظمة احتفال هذا الأسبوع لتحليل من سيدخل ومن سيغادر القائمة، وسيشاهدون الأشخاص المفضلين لتلك الاحتفالات.

شولي رين