أرشيف التصنيف: المقالات العامة

«جيو استراتيجيات» خريطة طريق «صفر انبعاثات»

أثار تقرير وكالة الطاقة الدولية حول خريطة طريق «صفر انبعاثات 2050» أسئلة وانتقادات عدة؛ أهمها تمحور البحث، أكثر من أي شيء آخر، حول أهداف ومصالح الدول الصناعية. من المفهوم أن وكالة الطاقة تعمل وتدافع عن مصالح أقطارها الأعضاء؛ الدول الصناعية، لكن ما يثير التساؤل حول دراسة خريطة طريق التغيير المناخي العالمي بالذات هو أنه من المفروض أن تشمل كيفية معالجة التغيير المناخي حول الكرة الأرضية جمعاء وليس الدول الصناعية فقط… بمعنى الاستمرار في النهج الذي أدى إلى إنجاح «اتفاق باريس للمناخ 2015»، وهو الاتفاق على أن كل دولة تحدد تعهداتها والجدول الزمني لتنفيذ التزاماتها ضمن الأهداف العامة لـ«اتفاق باريس»، حسب إمكاناتها الاقتصادية.

هذا يعني أنه كان من المفروض على خريطة الطريق المقترحة أن تأخذ في الحسبان مصالح وإمكانات الدول النامية والبترولية وبقية دول العالم الثالث في تنفيذ الأهداف المرسومة، وليس المصالح والإمكانات للدول الصناعية فقط.

على سبيل المثال؛ أثارت الوكالة كثيراً من اللغط في اقتراحها إيقاف الاستثمار في الصناعة النفطية بعد عام 2021، بعيداً عن أي نقاش أو مداولات مع أقطار منظمة «أوبك».

الغريب في هذا الاقتراح المفاجئ، هو أن الوكالة لا تكف عن المطالبة في تقاريرها الدورية والسنوية عن زيادة الاستثمار في تطوير الحقول البترولية؛ أكانت لتلبية الزيادة السنوية في الطلب النفطي العالمي، على الأقل إلى حين توفير الطاقات المستدامة الوافية على الصعيد العالمي برمته، أم زيادة إمدادات الغاز الطبيعي؛ لأنه الوقود الوسيط والأنظف نسبياً للمرحلة الانتقالية ما بين عصري الطاقة.

من الواضح، من خلال تقرير الوكالة نفسه، أن دول العالم ليست جاهزة حالياً للانتقال من عصر الطاقة الهيدروكربوني إلى عصر الطاقات المستدامة، كما لا توجد معالم واضحة لإمكانية تنفيذ الاتفاق بحلول 2050.

هناك اتفاق عالمي على ضرورة معالجة الاحتباس الحراري والحد من ارتفاع درجة الحرارة أكثر من 1.5 إلى درجتين مئويتين لإنقاذ البشرية. لكن هذا الأمر لا يمكن تمريره بتوصية من وكالة دولية تمثل مصالح الدول الصناعية فقط؛ فالأمر يحتاج إلى تشريعات وطنية وإقليمية، وفترة زمنية حددت في مؤتمرات الأمم المتحدة، وتريليونات الدولارات سنوياً لتغيير منشآت الطاقة ووسائل المواصلات برمتها، ناهيك بالشركات المختصة لتنفيذ هذا الانتقال على صعيد الكرة الأرضية برمتها… فمن دون عولمة الانتقال، من الصعب جداً تحقيق «صفر الانبعاثات» بحلول 2050… فالبديل هو «انبعاثات أقل» وليس «صفراً».

تمادى بحث وكالة الطاقة في افتراضاته بأن التغيير المناخي أمر يتعلق بالدول الصناعية فقط. ولربما السبب هو أن الاستشارات والمداولات التي قامت بها الوكالة كانت مع مؤسسات من بيئتها نفسها. ومن ثم؛ التوصية المثيرة للجدل بالإيقاف السريع لتطوير صناعة الوقود الأحفوري.

تتطلب الصناعة البترولية سنوات عدة للتخطيط لتطوير حقول بترولية وبتكلفة ملايين الدولارات لكل حقل. وهناك مشاريع معلنة في دول عربية عدة في الوقت الحاضر لتطوير حقول جديدة، حيث تخطط معظم الدول العربية لزيادة طاقتها الإنتاجية، بالذات السعودية التي تخطط لزيادة طاقتها الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يومياً. من نافلة القول إن صناعة الطاقة حيوية جداً لاقتصاد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما أن هذه الصناعة مهمة لجميع دول العالم، إلى أن تستطيع طاقة جديدة الحلول كلياً محل البترول.

تعلم وكالة الطاقة جيداً أن الصناعة البترولية لا تعني فقط تزويد الأسواق العالمية بالطاقة، بل أيضاً هي المصدر الاقتصادي الرئيسي لدول عدة. من ثم؛ فمن غير المعقول الطلب بتهميش هذه الصناعة فجأة ودون سابق إنذار.

على سبيل المثال، تخطط وتدرس دول بترولية عدة؛ منها أقطار عربية، إمكانية إنتاج الهيدروجين من البترول. كذلك إمكانية تجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون الصادر عن الإنتاج البترولي، ضمن سياسة «صفر انبعاثات». وهناك أيضاً محاولات جادة لتنقية الميثان من الانبعاثات الكربونية.

أما بالنسبة لاستهلاك البترول، فلا تزال الأغلبية الساحقة من محطات الكهرباء العالمية تعتمد على الـ«فيول أويل» أو الغاز. كما أن الأغلبية الساحقة من سيارات العالم تستعمل البنزين أو الديزل. ويستهلك كل من قطاع الكهرباء والمواصلات نحو 30 في المائة لكل منهما من مجمل الاستهلاك البترولي في الدول الصناعية. ومن المعروف أن 80 في المائة من مصانع الكهرباء الجديدة عالمياً تزود بالطاقات المستدامة، وأن هناك نحو 10 ملايين سيارة كهربائية على الطرق مقارنة بأكثر من مليار سيارة تقليدية. من ثم؛ هذا لا يعني أن استهلاك البترول سيتقلص غداً. فقد تراوح الاستهلاك النفطي العالمي حول 100 مليون برميل يومياً قبل وباء «كورونا»، وانخفض الاستهلاك إلى نحو 80 مليون برميل يومياً خلال منتصف عام 2020. وقد عاد الاستهلاك إلى نحو 95 مليون برميل يومياً حالياً، والتوقعات بالعودة إلى معدل 100 مليون برميل يومياً بحلول نهاية السنة مع عودة الحياة الطبيعية عالمياً.

لقد دق تقرير وكالة الطاقة جرس الإنذار للدول البترولية العربية. كيف يمكن الاستفادة من الاحتياطات البترولية الضخمة في منطقتنا؟ وما الأسس الاقتصادية والعقد الاجتماعي في عصر الطاقات المستدامة؟ وماذا عن جيوسياسات المنطقة عند منتصف هذا القرن، أو حتى قبله؟

وليد خدوري

حزب ديون «كوفيد» لا يزال نشطاً في أوروبا

هي مهمة محيرة أن تتبع قصة نجاح ساحق، لكن الاتحاد الأوروبي لم يواجه مثل هذه المشاكل مع بيع سنداته ذات الشريحة المزدوجة البالغة 15 مليار يورو (18 مليار دولار) لمدة خمس سنوات و30 سنة، الثلاثاء الماضي.
بعد الافتتاحية الأكروباتية في منتصف يونيو (حزيران) لصندوق إنعاش «جيل الاتحاد الأوروبي الجديد»، مع بيع سندات بقيمة 20 مليار يورو لأجل 10 سنوات، كان حجم الطلب على المتابعة في نفس المستوى. هذه المرة، كان هناك أكثر من 130 مليار يورو من الطلبات لجمع أموال بلغت 15 مليار يورو – وهي نتيجة أقوى نسبياً من البيع الأول. كان الأمر مثيراً للإعجاب أيضا مع الاستحقاق لأجل 30 عاماً. كان التسعير الإجمالي أقرب بكثير إلى المنحنى الحالي لقضايا الاتحاد الأوروبي المعلقة من علاوة الإصدار الجديدة السخية المشار إليها في البداية لمدة 10 سنوات.
على الرغم من أن العائد على شريحة الاتحاد الأوروبي لأجل خمس سنوات أقل من -0.3 في المائة، فإنه لا يزال أعلى بأكثر من 20 نقطة أساس من عائد الديون المماثلة الصادرة عن الحكومة الألمانية. وتعتبر شريحة 30 عاماً التي تزيد على 0.7 في المائة جذابة للمستثمرين الذين يبحثون عن مدة أطول مع تحصيل 40 نقطة أساس عن المكافئ الألماني.
ويستقر الجدول الزمني لإصدار برنامج التعافي من «كوفيد» التابع للاتحاد الأوروبي المتعدد السنوات الذي تبلغ تكلفته 800 مليار يورو في منطقة سلسة، مع استمرار الطلب القوي عبر منحنى العائد بأكمله.
من المفيد أن يتمكن البنك المركزي الأوروبي من شراء ما يصل إلى نصف كل إصدار في برامج شراء سندات التيسير الكمي، لكن اهتمام المستثمرين كبير جدا في الوقت الحالي لدرجة أن السيولة الإضافية التي يوفرها بديل ذو عائد أعلى للمعيار الألماني بات موضع تقدير على نطاق واسع.
اهتمام المستثمرين مهم للغاية إذا كان التعافي في منطقة اليورو سيرتفع بسرعة. وهناك الكثير من التمويل الذي يجب جمعه، وليس فقط للاتحاد الأوروبي ككيان مُصدرٍ حديثٍ.
في النصف الأول من العام الجاري، جرى جمع 310 مليارات يورو من الديون السيادية بالطريقة المجمعة (حيث تتعامل البنوك الاستثمارية مع طلب المستثمرين بدلاً من عملية المزاد العادية) – حوالي 10 في المائة أكثر من العام الماضي وتقريباً ثلاثة أضعاف النسبة عام 2019، فيما تتنازل السيادات عن 30 في المائة من إجمالي الديون المبيعة في أوروبا العام الجاري.
وعلى الرغم من أن هذا لم يزاحم مصدري الشركات بعد، فإن مثل هذا الحوت يوضح جدول الأعمال إلى حد ما؛ أربع شركات فقط تحدت سوق الإصدارات الجديدة الثلاثاء الماضي، ومع ذلك، سيعود العرض للظهور قريباً بما يكفي بمجرد استقرار المياه من دفقة الاتحاد الأوروبي العملاقة.
أيضاً من الجيد أن نرى أن المفوضية الأوروبية قد خففت قبضتها على العديد من البنوك الاستثمارية بشأن الانتهاكات السابقة للتواطؤ في الأسعار. فبعد استبعادها من صفقة «نيكست جينريشن» الافتتاحية، كان «كرديت أغريول إس إيه» و«دورتيش بنك آي جي» و«جي بي مورغان تشيس»، و«يوني كريديت» جميعها على قائمة هذه الصفقة.
ومع عدم وجود وقت نضيعه في بدء أول دفعة حوافز مالية جماعية في الاتحاد الأوروبي، فلن يكون الصيف هادئاً بالنسبة للحكام السياديين في أوروبا. والمستثمرون سعداء ومستعدون للانضمام.

ماركوس اشوورث

عن صراعات المناخ وحروب التجارة و«مستقبل لم يعد كما كان»

في أثناء مشاركتي بإحدى حفلات الخريجين في الجامعات البريطانية لهذا العام، استمعت لمتحدثة باسم الخريجين وهي تكرر في كلمتها مقولة «إن المستقبل لم يعد كما كان»، مشيرة إلى أنه رغم سعادتها وأقرانها بإنجازهم الدراسي وحصولهم على مؤهلات أكاديمية من جامعة مرموقة، فإنهم يستشعرون قلقاً أكبر لما ينتظرهم في اقتصادات عانت من تقلبات حادة بسبب الجائحة وما سبقها من سنوات شهدت أزمات مالية وحروباً تجارية تراها تعود بقوة، ويتزامن مع ذلك كله إجراءات للتصدي لتغير المناخ لن تكون كلها بالضرورة حانية على سوق العمل.
وكلمات الخريجة النابهة ذات الأصول الأفريقية محقة في تخوفاتها، ويشاركها فيها أقران لها في بلداننا، ولن يهدئ من هذه التخوفات تعاطف مستحق أو إبداء تفهم لأسبابها. فالمطلوب حقاً هو نهج جديد للاستثمار والنمو المقترن بتوليد فرص للعمل اللائق.
ويردد مسؤولو الدول المتقدمة مقولة «إعادة البناء بشكل أفضل»، قاصدين بها السعي لنمو ذكي أخضر يعتمد على التحول الرقمي ومراعاة الاشتراطات البيئية. وقد رصدوا لذلك موازنات ضخمة ممولة بتكاليف منخفضة بسبب تدني أسعار الفائدة المصاحبة بإجراءات غير مسبوقة من البنوك المركزية، حتى تجاوز الإنفاق العام للتصدي للجائحة والتعافي الاقتصادي 10 في المائة في كثير من البلدان الغنية، وما زالت مستمرة في إنفاقها حتى الاطمئنان على التعافي.
أما في بلداننا النامية فلا يهدد فرص التعافي الاقتصادي فيها تحورات في فيروس كورونا ونقص اللقاحات وقلة الموارد المتاحة للإنفاق العام فحسب، بل ما يتجدد من صراع دولي حول أولويات التصدي لتغيرات المناخ، وشحذ استعدادات ترسانة الحمائية في سبيل حركة التجارة الدولية. ومع قدوم أجيال جديدة بأعداد غفيرة إلى سوق العمل في بلداننا يثور تساؤل مشروع، مماثل لما طرحته الخريجة البريطانية ذات الأصول الأفريقية، حول فرص التحاقهم بعمل لائق، وإن كانت التحديات أمامهم أكبر. وهذا يؤكد مرة أخرى ضرورة تبني سياسات دافعة للاستثمار والتشغيل والنمو مع التصدي لعقبات التمويل، ولكن كيف سيكون ذلك في ظل صراعات المناخ وحروب التجارة؟
– خطورة تبني سياسات للتصدي لتغيرات المناخ بمعزل عن إطار التنمية المستدامة: يجد المتابع للجدل الدائر حول تغير المناخ تسييساً مفرطاً في أولوياته، واستقطاباً حاداً حول برامجه، وتغلبت فيه الآيديولوجيا فأزاحت أهل العلم عن الصدارة، وصار إطار الحديث عن تغيرات المناخ والمشاعر المشحونة يذكرك بالصراعات الدينية في القرون الوسطى. فكأنك بين أشياع مبشرين وجموع من المشككين وآخرين متهمين بالهرطقة. وفي عصر يتباهى بتطورات العلم كان من المفترض أن تكون الأدلة المثبتة هي السند الأساسي للحوار حول تغيرات المناخ. وقد أكد أهل الاختصاص ما يحيق بعالمنا من مخاطر وجودية بسبب الانبعاثات الضارة بالمناخ وبما يهدد الحياة. ثم تأتي بعد هذا منطقياً الإجراءات التي ينبغي اتخاذها للتعامل مع هذه المخاطر، وقد استقر الأمر باتفاق دولي ملزم تم إبرامه في باريس في عام 2015. ثم يأتي بعد ذلك التنفيذ المحكم لما تم الاتفاق عليه، بما في ذلك وفاء الدول الغنية بتعهداتها السابقة بتوفير 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية لتعينها في تمويل استثمارات التوافق مع متطلبات حماية المناخ. وهو رقم زهيد لم يتم الوفاء به، رغم الاحتياجات المكلفة، خاصة أن الدول النامية مطالبة للإسهام في إصلاح ما أفسدته الانبعاثات الضارة المتولدة من الدول المتقدمة. فوفقاً لمعهد الموارد العالمية هناك مصادر كبرى أكثر ضرراً بالمناخ والبيئة ومنها المصادر التسع التالية: 1) إنتاج الكهرباء والتدفئة بنسبة إسهام تقدر بنحو 33 في المائة. 2) النقل والمواصلات بنسبة 15 في المائة. 3) التصنيع والتشييد بنسبة 13 في المائة. 4) الزراعة والإنتاج الحيواني بنسبة 11 في المائة. 5) حرق أنواع مختلفة من الوقود بما في ذلك الأخشاب بنسبة 8 في المائة. 6) منتجات صناعية كثيفة الاستخدام للطاقة مثل الألمونيوم والإسمنت وغيرها بنسبة 6 في المائة. 7) إزالة الغابات الشجرية الاستوائية بنسبة 6 في المائة. 8) انبعاثات مرتبطة بإنتاج الطاقة بنسبة 5 في المائة. 9) دفن النفايات والمخلفات الصلبة 3 في المائة.
هذه المصادر ترتبط بها حياة البشر والإنتاج، ولكنها تتركز في دول بعينها أكثر استهلاكاً ودخلاً، وعليها أن تتحمل أعباءها ولا تحيلها إلى غيرها. كما أن القطاعات الحيوية المذكورة يمكن تسييرها وإدارتها بطرق أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وأفضل فاعلية في توافقها مع الاعتبارات البيئية. وهنا تأتي الحلول الاقتصادية بما ينفع الناس؛ وأولها الاستثمار في التكنولوجيا والبحوث والتطوير، فبفضلها أصبحت الطاقة البديلة أكثر كفاءة وأقل تكلفة. فقد أوضح تقرير أخير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، أن تكلفة الطاقة الشمسية قد انخفضت بمقدار 16 في المائة في العام الماضي وحده، بينما انخفضت تكلفة الطاقة المولدة من الرياح بنسب تتراوح بين 9 في المائة و13 في المائة، بما جعل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أقل مما كانتا عليه سعراً منذ عشر أعوام بنحو 85 في المائة و52 في المائة على الترتيب.
الأمر إذن يتعلق بإدارة التحول بعناية حتى لا تأتي الهرولة والتعجل غير المنضبط بدعوى حماية المناخ بنتائج عكسية تضر بالنمو وفرص العمل بما يعوق في نهاية الأمر سياسات حماية المناخ نفسها. وعلينا أن نتذكر أن هدف حماية المناخ هو الهدف رقم 13 من 17 هدفاً عاماً من أهداف التنمية المستدامة لا يقل أي منها عنه أهمية بحال؛ فمنها القضاء على الفقر المدقع والجوع، والارتقاء بالتعليم والصحة، وزيادة النمو والتشغيل، وتوفير الطاقة والمياه، وغيرها من أولويات لا تستقر حياة المجتمعات ولا تطور الاقتصادات من دونها.
– أضرار العودة للسياسات الحمائية: يبدو أن دولاً متقدمة قد استمرأت التبني لإجراءات تدعو لها مبشرة طالما استفادت منها، ثم تحيد عنها بعدما تصل بها إلى مبتغاها. وقد كان هذا الشأن مع تحرير التجارة وإزالة معوقاتها كالتعريفة الجمركية والحصص. وقد لامت دول متقدمة التجارة الدولية على تعثر مشروعات وخسارتها على أرضها، في حين أن الأوْلى باللوم هو تراجع الإنتاجية والكفاءة وانخفاض مهارة العمل وارتفاع تكلفته. وقد لجأت أحزاب وحركات شعبوية لتأجيج مشاعر الغضب وتوجيه الاتهام لوارداتها من دول أكثر كفاءة وأفضل نوعية وأقل تكلفة. وحركت بعض الدول الغنية الحنين إلى ماضيها الصناعي برفع التعريفة الجمركية وزيادة قيود التجارة وتحجيم المنافسة وزيادة الدعم الموجه لصناعات فقدت مزاياها النسبية. ولم تحقق أكثر هذه الإجراءات إلا زيادة في أعباء الإنفاق العام والدعم. وفي مقال للاقتصادي الأميركي أدم بوزن في مجلة «الشؤون الدولية» عن ثمن الحنين إلى الماضي، ومقال آخر للاقتصادية الأميركية آن كروجر عن السياسة الصناعية الأميركية المضطربة، تحذير واضح عن التوغل المكلف في سياسات مدفوعة بمقاصد جيدة للتشغيل وحماية الصناعات وزيادة الإنفاق العام المرتبطة بها، ولكنها ستنتهي إلى ما انتهت إليه إجراءات سابقة عجزت عن انتقاء مشروعات مرشحة للنجاح، فقد كانت فعلياً أقرب للفشل والخسارة، وهو ما كان.
لا مراء أن للدولة واستثماراتها دوراً في علاج قصور السوق وعجز إمكانات المشروعات الخاصة المحلية والأجنبية وحدها عن الوفاء بمتطلبات التنمية. وهذه الاستثمارات العامة أولى بها أن توجه إلى البنية الأساسية والتكنولوجية ومساندة البحث والتطوير وتجويد التعليم والرعاية الصحية والإسهام في زيادة مهارات وقدرات رأس المال البشري وتأهيله للمنافسة الدولية في عالم سريع التغير. وإذا كان على الدولة أن تقدم دعماً، كما هو متوقع منها وفقاً لوظائفها، فيجب أن يكون موجهاً لمستحق من خلال نظم الضمان الاجتماعي الشامل. أما تبني الإجراءات الشعبوية كتقييد حركة التجارة والمنافسة فهي قصيرة الأمد عالية التكلفة، وإنْ صاحبها تشجيع المتهافتين في بدايتها فسيتبرأون منها بعدما تلحقه من دمار وإضاعة لفرص عمل حقيقية كتلك التي يمكن أن تلتحق بها هذه الخريجة الجامعية وأقرانها، إذا وفقت السياسات في تحديد أولوياتها صياغة وتنفيذاً.

د. محمود محي الدين

النفط إلى أين بعد اجتماع «أوبك بلس»؟

اليوم (الخميس) اجتماع مصيري آخر لتحالف منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) مع كبار المنتجين خارجها، وهو التحالف المعروف باسم «أوبك بلس». وفي ظروف مثل التي يمر بها الاقتصاد العالمي مع جائحة كورونا، فكل اجتماع للتحالف هو مصيري على ما يبدو. وبالنسبة للملايين الذين لا يتابعون أخبار «أوبك بلس»، ولا يهتمون لما يجري، فعليهم معرفة أن هذا التحالف اليوم يتحكم في أكثر من نصف الطاقة الإنتاجية للنفط في العالم؛ أي أن القرار الذي سيتخذه وزراء التحالف اليوم سيؤثر على أسعار وقود السيارات في المرة المقبلة التي سنذهب لتزويد مركباتنا به، خاصة أن أسعار النفط حتى لحظة كتابة هذه السطور عند أعلى مستوى لها منذ عامين (حول 75 دولاراً).
وحتى نعرف اتجاه الأسعار في الأشهر المقبلة، نحتاج إلى فهم ما سيجري في الاجتماع، حيث سيتم فيه مناقشة وضع عام 2021 الذي تبقى فيه النصف، وكذلك مناقشة ما يجب فعله في 2022، وهو جزء مهم كذلك مع توقع الجميع تعافي الاقتصاد العالمي.
هناك موقف واحد يجتمع عليه الجميع، وهو الحاجة لرفع إنتاج دول التحالف التي من بينها روسيا والسعودية، ابتداءً من شهر أغسطس (آب) المقبل، لكن الاختلاف حول: هل يتم رفع الإنتاج دفعة واحدة أم يُرفع تدريجياً على مراحل؟ ولكل اتجاه ما يؤيده ودوافع تؤدي إليه، غير أن النتيجة لن تكون واحدة في كل الاتجاهين. ولو أخذنا الاتجاه الأول، وهو رفع الإنتاج كاملاً دفعة واحدة، الذي تدعمه روسيا، فإن الكمية التي يمكن للتحالف إضافتها ما بين نصف مليون إلى مليون برميل إضافية، ولكنها ليست كافية لسد العجز في الإمدادات في السوق، وهذا الدافع هو ما أعلنته روسيا بطريقة غير مباشرة على لسان مصادر غير معلنة.
وبالنسبة للسوق، فإن زيادة الإنتاج دفعة واحدة بمليون برميل لن تكون غير متوقعة، بل قد تكون غير كافية إذا ما نظرنا للتوقعات المختلفة. فإذا أخذنا توقعات وكالة الطاقة الدولية (المنظمة المنافسة لأوبك)، فإن السوق ستمر بعجز هذا العام والعام المقبل، لولا أن يتحرك التحالف لضخ 1.4 مليون برميل يومياً بشكل إضافي. وإذا نظرنا لأرقام «أوبك»، فإن السوق في حالة شح، خاصة مع هبوط المخزونات التجارية من النفط في الدول الصناعية المتقدمة، لتصل عند مستوى أقل من مستوى متوسط الخمس سنوات (2015 – 2019) بنحو 20 مليون برميل، وهذا مؤشر مهم على أن السوق تعاني من شح في الإمدادات، مع وجود تحسن في الطلب. وفي الوقت ذاته، تتوقع «أوبك» زيادة الطلب على النفط بنحو 5 ملايين برميل في النصف الثاني من هذه السنة، وترجح أن يكون متوسط العجز بين الطلب والعرض في السوق بنحو 1.9 مليون برميل في النصف الثاني. أما مصرف «غولدمان ساكس»، فيرى أن السوق حالياً حتى هذه اللحظة تمر بعجز قدره 2.5 مليون برميل يومياً، وسيصل العجز إلى 5 ملايين برميل يومياً بنهاية العام الحالي.
إذن، نستطيع أن نفهم أنه حتى لو زادت «أوبك بلس» إنتاجها بمليون برميل يومياً دفعة واحدة ابتداءً من أغسطس (آب)، فإن السوق ستظل تشهد عجزاً بين 900 ألف برميل يومياً إلى 4 ملايين برميل. وفي هذه الحالة، لماذا يتردد التحالف في زيادة الإنتاج، خاصة أنه قادر على إضافة 5.8 مليون برميل إضافية ابتداءً من هذا الشهر؛ أي خمسة أضعاف الكمية التي يتم التفاوض عليها؟
لا تزال هناك بعض عوامل الضبابية في السوق التي تتطلب من التحالف أن يزيد إنتاجه تدريجياً؛ أولها تأثير الاتفاق النووي الإيراني الذي لا يزال التفاوض مع إيران جارياً عليه. فمتى توصلت إيران إلى اتفاق مع الدول الكبرى، صار من المحتمل أن يتم السماح لها بتصدير نفطها مجدداً، مما يعني دخول مليوني برميل تقريباً من النفط إلى السوق. ثانياً، لا أحد يعلم قدرة المنتجين خارج «أوبك» على زيادة إنتاجهم هذا العام والعام المقبل مع بقاء الأسعار مرتفعة. ثالثاً، لا يزال العالم يواجه جائحة جديدة مع «كورونا المتحور»، وحركة السفر والسياحة لم تنتعش بالشكل المطلوب. رابعاً، بافتراض أن التحالف أراد ضخ مليون برميل الآن في السوق، ماذا سيفعل ذلك في الأسعار؟ تقريباً لا شيء يذكر. والسبب في هذا أن الدول إذا زادت إنتاجها في أغسطس (آب)، فإن النفط سيصل إلى المصافي على نهاية الشهر، ويدخل في دورة تكرير، ومن ثم بيعه للمستهلكين، وهذه الدورة تأخذ بين 30 إلى 45 يوماً؛ أي أن موسم الصيف سينتهي، وسيقل الطلب في الربع الثالث، ولن يستفيد من هذه الزيادة، إذا تمت بصورة مستعجلة، المستهلك ولا الدول المنتجة.
وبالأخير، سيصل التحالف إلى حل وسط، مثل ما حدث في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وتبقى النقطة المهمة التي يحرص عليها الجميع هي: ما تأثير كل هذا على الأسعار؟ لا أزال أرى صحة توقعات «غولدمان ساكس» بأن النفط في 2021 سيصل إلى 80 دولاراً (مع هامش صعود ونزول حوله). ويتوقع «غولدمان ساكس» أن زيادة «أوبك بلس» نحو مليون برميل ستؤثر بنحو 3 دولارات هبوطاً (أي 77 دولاراً). لذا من المنطقي أن نتوقع سعر النفط هذا العام في حزمة بين 70 و80 دولاراً؛ خبر جيد لميزانيات الدول، وغير جيد للمستهلك الذي سيذهب لمحطات الوقود الشهر المقبل. أما عام 2022، فمن المبكر توقع أسعاره في ظل كل المتغيرات أعلاه.

التكنولوجيا التي يخشاها الأميركيون أكثر من أي شيء آخر

لطالما كانت الولايات المتحدة دولة من المتفائلين بالتكنولوجيا، لكن في الوقت الذي يبدو فيه العالم مستعداً لمرحلة ازدهار إنتاجية تقودها التكنولوجيا، تبنى الأميركيون نظرة صارمة قاتمة تجاه مسيرة التقدم. ويؤدي ازدياد المخاوف من عدم استفادة الجميع من المنافع والمكاسب إلى مقاومة تهدد بعرقلة تقدم الأمة بل وتقهقرها. وسوف تتطلب استعادة مواقف الماضي الجريئة أكثر من مجرد كلمات أو خطابة، حيث سيحتاج الأمر إلى تغييرات كبيرة في السياسات.
ربما يعتقد المرء أنه قد حان الآن وقت اتحاد الأميركيين وتجمعهم حول تملّق التكنولوجيا، ففي النهاية لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال «إم آر إن إيه» المبتكر في طريقه إلى إنقاذ الناس من أخطر وأكبر وباء شهده العالم خلال قرن من الزمان، إضافة إلى مساعدته لهم في التحرر وتمكينهم من استعادة حياتهم الطبيعية؛ وربما يتم استخدام التقنيات نفسها في المستقبل لمكافحة مرض السرطان. على الجانب الآخر، يعد ازدهار الابتكار في مجال الطاقة الشمسية والبطاريات واعداً فيما يتعلق بالحد من تكاليف تفادي التغير المناخي. وربما بعد عشر سنوات ستشهد البلاد انتشاراً واسعاً للطاقة المنخفضة التكلفة، وهو ما من شأنه تحقيق طفرة جديدة في الإنتاجية. كذلك تسمح الوسائل التكنولوجية، التي تتيح العمل عن بعد، لكثير من الأشخاص التمتع بقدر كبير من المرونة في حياتهم. وتحمل وسائل تكنولوجية حديثة أخرى مثل اللحم الذي يتم تصنيعه داخل المختبر، والذكاء الصناعي، ونظام «كريسبر» (التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة المنتظمة التباعد)، وعلم الأحياء التركيبي، وعوداً بتحقيق عجائب وإنجازات أكثر وأكبر في المستقبل القريب.
ولا يزال كثير من الأميركيين من المتفائلين بالتكنولوجيا على نحو ما، حيث تمثل التكنولوجيا العنصر والعامل الذي يتم ذكره كثيراً في سياق تحسين الحياة خلال نصف القرن الماضي. مع ذلك يبدو أن هذا التفاؤل قد تراجع وتآكل تدريجياً خلال السنوات القليلة الماضية ليحلّ محلّه التشكك والخوف. وبدلاً من احتفاء البلاد بهزيمة «كوفيد – 19»، كما فعلنا مع لقاح شلل الأطفال منذ عقود، حوّل الأميركيون اللقاح إلى حرب ثقافية، ورفض الكثيرون تلقي اللقاح. ولا يزال هناك إعجاب بكل من موقعي «أمازون» وشركة «غوغل» بوجه عام، لكن تراجع مستوى تقبلهم رغم مساعدتهم لأكثر الأميركيين في التعايش مع الوضع أثناء انتشار الوباء. ويظهر التشاؤم بوضوح في عالم الفن، حيث لا يهتم سوى قليل من الفنانين بتقديم رؤى إيجابية مستقبلية في أعمالهم، كما كانت الحال خلال فترة الخمسينات.
مع ذلك، فإن التكنولوجيا، التي يخشاها الأميركيون أكثر من أي شيء آخر، هي التحول نحو التشغيل الآلي، حيث لا يرى أكثر الناس أن هذا التحول سوف يزيد الفاعلية والكفاءة، أو يوفر وظائف وفرص عمل ذات أجر مرتفع، بل يرونه وسيلة تؤدي إلى تسارع عدم المساواة وغياب تكافؤ الفرص. وقد دعا سياسيون بارزون مثل بيل دي بلاسيو، عمدة نيويورك السابق، إلى فرض ضرائب على الروبوتات، وحتى بيل غيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت» انضم إليهم في تلك الدعوات.
ويهدد هذا التشاؤم من التكنولوجيا الاقتصاد الأميركي، حيث تخسر البلاد الحصة السوقية في الصادرات المصنعة باستخدام التكنولوجيا بخطى متسارعة.
الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة لا يمكنها الاعتماد على ميزة العمالة الرخيصة من أجل البقاء والاستمرار في العمل، لذا عليها اللجوء إلى التشغيل الآلي. وتفهم النخبة، سواء في مجال الأعمال أو السياسة في الدول الغنية الأخرى، هذا الأمر جيداً. ورغم خوف شعوب تلك الدول من التخلي عنهم وفقدانهم لوظائفهم، استعان بعض تلك الدول بالروبوتات في مجال التصنيع على نطاق أكبر وأوسع مما فعلته الولايات المتحدة.
وتتأخر الولايات المتحدة في مسار التحول إلى التشغيل الآلي والاستعانة بالروبوتات كقوى عاملة. ورغم أن الصين لم تنخرط كثيراً في هذا المجال، وتتوسع في استخدام الروبوتات، تسعى إلى القيام بذلك. على الجانب الآخر، تحول بعض الموانئ بها إلى التشغيل الآلي بالكامل، وهو ما مكّنها من التفوق على الموانئ الأميركية التي لا تزال تعمل بالطرق التقليدية العتيقة.
وتقاوم اتحادات العمال في بعض المناطق الساحلية هذه التكنولوجيا الجديدة خشية منها على وظائف أعضائها. مع ذلك يعدّ التحول إلى التشغيل الآلي سباقاً لا يمكن للولايات المتحدة تحمّل خسارته، لكنه في الوقت ذاته ليس السباق الوحيد الذي نتخلف فيه عن الصفوف الأمامية، فقد عارضت اتحادات ناشطة في سان فرانسيسكو، التي تعد مركز أزمة الإسكان في البلاد، استخدام تكنولوجيا بناء المنازل المسبقة الصنع الجاهزة التي تحمل آمالاً ووعوداً بالمساعدة في خفض تكاليف البناء المرتفعة بشكل كبير.
الخوف من اللقاح، والخوف من التحول إلى التشغيل الآلي، والخوف من استخدام الطرق الحديثة العصرية في مجال تشييد المنازل؛ تعرقل كل تلك المخاوف مسيرة التقدم، وتهدد بتآكل القدرة التنافسية، وتؤدي إلى نقص السلع الأساسية. إذا كانت الولايات المتحدة تريد الاستفادة من الازدهار التكنولوجي الذي شهده العقد الثاني من الألفية الثانية، فينبغي عليها التخلص من خوفها واستعادة الموقف الجريء المتفائل بالتكنولوجيا الذي كان سائداً في منتصف القرن العشرين.
مع ذلك كيف يمكن تحقيق ذلك؟ يحتاج الأميركيون إلى أمرين مهمين على الأقل حتى يشعروا بالثقة بقدرة التكنولوجيا على تحسين حياتهم. الأمر الأول هو الأمن. إذا تم توفير تأمين صحي على مستوى البلاد، وتقديم المساعدة في العثور على وظائف، سيكون الأميركيون أقل قلقاً تجاه الانتقال من وظيفة إلى أخرى. وسوف يتيح لهم ذلك النظر إلى التحول نحو التشغيل الآلي باعتباره فرصة أكثر من كونه تهديداً. الأمر الثاني هو توزيع الثروة على نطاق أوسع بين المواطنين. لقد تزامن ازدهار تكنولوجيا المعلومات منذ ثمانينات القرن العشرين مع تفاقم انعدام المساواة على المستوى الاقتصادي، وربما لم تكن التكنولوجيا هي السبب وراء هذا التفاوت وعدم التكافؤ بشكل كبير، لكن لا يسع الناس سوى الخلط بين التزامن والسببية. كذلك يعني عدم المساواة عدم شعور الكثيرين بقدرتهم على الاستفادة من منافع ومكاسب التكنولوجيا. لذا حتى يرحب المواطن الأميركي العادي بالمستقبل، علينا منحه نصيباً منه.
إن من الجيد نشر الرؤى المستقبلية الجميلة، والتغني علناً بالإنجازات الحقيقية الفعلية للعلماء والمهندسين، حيث ينبغي علينا الإكثار من فعل ذلك، لكن دون وجود أنظمة اجتماعية تنشر الرخاء الذي تعمل التكنولوجيا على تحقيقه، سوف نظل في آتون معركة حامية الوطيس لجعل الأشخاص العاديين يحبون التكنولوجيا ويقبلون عليها.

«الاستثمارات المؤثرة»

عادة ما ينفصل مفهوم العمل التجاري عن العمل الخيري؛ فالأول يهدف إلى الكسب المادي البحت، أما الثاني فيسعى إلى تحقيق النفع بشكل غير مادي؛ سواء أكان هذ النفع اجتماعياً أم بيئياً أم غيرهما. ويجيء مفهوم «الاستثمار المؤثر» ليكون حالة في المنتصف بين العملين التجاري والخيري، فهو يسعى لخلق منافع اجتماعية وبيئية، دون الإخلال بالعوائد المالية الربحية. ويعدّ البريطاني ناثانيال روثسشايلد أحد أوائل من التفت إلى الاستثمارات المؤثرة، ففي عام 1885، أطلق ناثانيال صندوقاً يهدف إلى إيجاد مساكن للطبقة العاملة البريطانية بعائد ربحي لا يتعدى 4 في المائة. وقد أعيد تشكيل هذا المفهوم في عام 2007 بعد أن كان شبه مهمل في المائة والعشرين عاماً التي تلت ناثانيال، ولعل إهمال هذا المفهوم تمثل في عدم توفر بيانات واضحة عن حجم هذه الاستثمارات المؤثرة والقائمين عليها.
واليوم؛ وبحسب «الشبكة العالمية للاستثمار المؤثر»، فإن حجم الاستثمارات المؤثرة يصل إلى 715 مليار دولار. وقد التفت إليه العديد من الصناديق الاستثمارية حول العالم، فعلى سبيل المثال، أسست شركة «بلاك روك» – وهي من أكبر صناديق الأصول في العالم – شعبة مختصة في الاستثمارات المؤثرة، كما استحوذ بنك «غولدمان ساكس» في السنوات القليلة الماضية على شركة استثمارات مؤثرة، كما أسست شركات عالمية عدة أخرى صناديق للاستثمارات المؤثرة. هذه التحركات من كبريات الشركات لم تأت إلا بطلب من مستثمرين يودون الدخول في استثمارات ليست ذات عوائد مالية فحسب! وقد أوضح استبيان شمل 6 آلاف شخص في بريطانيا أن 70 في المائة منهم يفضلون أن تعود استثماراتهم بالنفع على البشر والبيئة. كما عبر أحد مديري الصناديق الاستثمارية عن أن تحوّل الثروات العائلية إلى الورثة من الشباب والنساء أحد أهم أسباب التفات رؤوس الأموال إلى الاستثمارات المؤثرة. والاستثمارات المؤثرة أثبتت بكثير من الأمثلة جدواها الاقتصادية، فقد أوضحت دراسة قامت بها «كلية لندن للأعمال» أن الشركات التي تقرر تحسين استدامتها في أعمالها الرئيسية تحقق عوائد أعلى من مثيلاتها التي لا تفعل، وضربت مثالاً بشركات التعدين التي تركز على تقليل الآثار السلبية على البيئة.
إلا إن الاستثمارات المؤثرة – رغم منفعتها لأطراف متعددة – تشهد عدداً من التحديات؛ لعل أهمها عدم توفر البيانات بخصوصها، فحتى هذه اللحظة لا يمكن معرفة حجمها العالمي بدقة؛ فهو بحسب «الشبكة العالمية للاستثمار» يتعدى 715 مليار دولار، إلا إنه قد يصل كذلك إلى 2.1 تريليون دولار، والفارق بين الرقمين شاسع ودلالة واضحة على عدم دقة البيانات. كما يعاني الراغبون في هذه الاستثمارات من عدم توفر الفرص الاستثمارية المؤثرة، أو عدم قدرتهم على الوصول إلى هذه الاستثمارات والمشاركة فيها. وتدعم الأمم المتحدة ممثلة بأهداف التنمية المستدامة هذه الاستثمارات المؤثرة، وتهدف إلى أن يصل حجم الاستثمارات المؤثرة في عام 2030 إلى 5 تريليونات دولار على الأقل، والفجوة كبيرة بين أفضل حالة ممكنة اليوم، والمستهدف من الأمم المتحدة بنحو 2.9 تريليون دولار.
ويواجه العالم اليوم عدداً من التحديات التي قد تكون الاستثمارات المؤثرة حلاً لها، فعلى سبيل المثال، تعد أزمة المناخ – التي تعهد رؤساء دول العالم بحلها – من كبرى المشكلات التي يمكن للاستثمارات المؤثرة المساهمة في حلها. وتتشارك معها أزمات أخرى مثل عدم المساواة الاقتصادية، أو التفرقة العنصرية، أو عدم تضمين النساء في القوى العاملة. هذه المشكلات كبيرة لدرجة أن الحكومات – فضلاً عن المؤسسات الخيرية – لا تستطيع حلها دون تدخل الشركات الكبرى والصناديق الاستثمارية الضخمة. ولكن هذه الشركات الكثيرة لم تحدد حتى الآن تعريفاً واضحاً لـ«الاستثمارات المؤثرة»، فينظر إليها بعض الشركات على أنها الاستثمارات التي لا تعرض البيئة للخطر، وينظر إليها البعض الآخر على أنها الاستثمارات التي تحقق شروط الحوكمة الاجتماعية والبيئية.
وفي كل الأحوال؛ فإن تعريف «الاستثمارات المؤثرة» يختلف من ثقافة بلد إلى أخرى، فما يعدّ عملاً خيرياً نافعاً للبشرية في دولة، قد لا يعدّ كذلك في دولة أخرى. وعليه؛ فإن كل دولة يمكن لها الوصول إلى تعريف لهذه الاستثمارات لتحقيق المنافع المرجوة منها. ويمكن للحكومات أن تقدم الحوافز المناسبة التي تشجع القطاع الخاص على الدخول في هذه الاستثمارات، وتشجيع القطاع الخاص يأتي أولاً بتوعيته بأن هذه الاستثمارات ليست أعمالاً خيرية بحتة، بل هي أعمال تجارية ذات عوائد مالية مجزية، إلا إنها وفي الوقت نفسه تعود بالنفع على المجتمع والبيئة.

د. عبدالله الردادي

عن إصلاح مسارات التعافي المعوجة

هكذا اجتمعت مجموعة الدول السبع في قمة ضمت قادتها في كورنوال المطلة على الساحل الجنوبي الغربي لإنجلترا على مدار ثلاثة أيام. وجاءت القمة الأخيرة بعد فترة من تعثر هذه الاجتماعات في السنوات الماضية وعجزها عن التوصل لنتائج تُذكر، حتى انتهت إحداها في عام 2019 بدون بيان مشترك لفشلها في الاتفاق حول موقف موحد من قضايا التجارة العالمية. وقد كانت نشأة المجموعة في أوج الحرب الباردة لتتبنى سياسات مشتركة في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي ولتتيح لمؤسسيها فرصاً للتعاون والتنسيق في مواجهة الركود المصاحب بتضخم خصوصاً بعد ارتفاع أسعار البترول في أعقاب ما اتخذته منظمة أوبك من إجراءات لحظر تصدير النفط إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
أسست المجموعة ست دول في عام 1975 وهي الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة واليابان وإيطاليا وألمانيا الغربية، ثم انضمت لهم كندا كدولة سابعة بعد عام، ثم شارك في اجتماعاتها الاتحاد الأوروبي منذ عام 1981. وعند بداية هذه المجموعة، التي كانت توصف بالسبع الصناعية الكبرى، كان نصيبها من الاقتصاد العالمي يتجاوز 70 في المائة، أما اليوم فنصيبها يقل عن 45 في المائة منه بعد تصاعد نمو الصين والهند وغيرهما من دول الجنوب والأسواق الناشئة؛ ووفقاً لمعادل القوى الشرائية فنصيب هذه الدول من الناتج العالمي لا يتجاوز 30 في المائة. ورغم وصفها بالصناعية فنسبة إسهام قطاع الصناعة في اقتصادات هذه الدول في تراجع مستمر إذ لا يتجاوز على سبيل المثال 19 في المائة في حالة المملكة المتحدة – الدولة المضيفة لقمة هذا العام.
ما يجمع هذه الدول السبع حقاً هو استنادها إلى مبادئ ديمقراطية مشتركة، أكثر مما تبقى لها من هيمنة اقتصادية تذكر، كما أشار لذلك اللورد جيم أونيل، وهو الاقتصادي البريطاني الذي صاغ مصطلح «البريكس»، الذي يضم الأحرف الأولى من البرازيل وروسيا والهند والصين، في عام 2001 مستشرفاً دورهم المتصاعد في الاقتصاد العالمي وهو الذي ما زالت تتمتع به مع تفاوت في الإسهام وبتميز واضح للصين التي تحتل اليوم المركز الثاني في الاقتصاد العالمي والمركز الأول في التجارة وجذب الاستثمارات. وبالتالي تبدلت أرضية المقارنة لهذه المجموعة كسبع دول صناعية رأسمالية كبرى مقابل المعسكر الشيوعي الشرقي، إلى التركيز على أنها مجموعة ديمقراطية تواجه دولاً ذات نظم أوتوقراطية أو سلطوية وفقاً لما هو صادر عن المجموعة.
عُقدت القمة الأخيرة في أجواء احتفائية بعودة الولايات المتحدة لصدارة المشهد كما وعد رئيسها جو بايدن، وانتهت بصدور تعهدات في مجالات توفير اللقاحات وجهود التعافي من وباء «كورونا»، والتعامل مع أزمة تغيرات المناخ وتعافي كوكب الأرض من العلات البيئية، والتعاون في تعافي الاقتصاد العالمي على النحو الآتي:
أولاً، التعافي الصحي: تعهدت المجموعة بتوفير مليار جرعة من اللقاح للدول النامية ورغم كبر الرقم فإنه لا يلبي الاحتياجات الفعلية والتي قدرتها منظمة الصحة العالمية بمقدار 11 مليار جرعة للسيطرة على الوباء. كما أن الفترة الزمنية التي سيستغرقها توفير اللقاح المقدرة بثمانية عشر شهراً أطول مما تستهدفه الدوائر الصحية بالوصول لرقم من يتم تلقيحهم فعلياً إلى 40 في المائة بنهاية هذا العام و60 في المائة مع منتصف العام القادم. واستغراق فترة أطول يعني مزيداً من المصابين والضحايا وإرهاقاً للنظم الصحية واحتمالات أكبر لمزيد من تحورات الفيروس المقاوم للقاحات المتعارف عليها وتعطلاً في مجريات الحياة والنشاط الاقتصادي بما يهدد أيضاً ما شهدته مجموعة الدول السبع من تحسن نسبي في مؤشرات صحتها العامة واقتصادها. كما أن عدم النص صراحة على الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية الفكرية لأغراض توفير اللقاح يعوق توفير اللقاحات بتصنيعها في البلدان النامية. ونؤكد هنا ما ذكره مارك لوكوك، منسق الشؤون الإنسانية والإغاثة بالأمم المتحدة، من أن قيام الدول المتقدمة بتقديم العون في مكافحة الوباء يتضمن ضرورة لحماية لمصالحها وليس فقط من موجبات الإخاء والتعاون الإنساني.
ثانياً، تغيرات المناخ وتعافي الأرض: تشكل عودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس لتغيرات المناخ الموقعة في عام 2015 سنداً مهماً لجهود المجتمع الدولي في هذا الشأن. وكان من المتوقع أن تقدم القمة المزيد من المساندة الممهدة لإنجاح قمة الأمم المتحدة للمناخ في غلاسكو هذا العام، ولكنها لم تأت بجديد بشأن التعهدات المالية المعلقة منذ قمة كوبنهاغن لعام 2010 لتوفير 100 مليار دولار توجه للدول النامية لتمويل مشروعات إعادة الهيكلة المطلوبة للتصدي لتغيرات المناخ، خصوصاً في مجالات الطاقة والبنية الأساسية والمياه والزراعة والتوافق البيئي لقطاعات الصناعة والنقل. كما أن الاجتزاء المستمر للاستدامة في قضايا المناخ مع تجاهل قضايا التنوع البيئي والتلوث وعدم تحقيقها في إطار عملي لتحقيق التنمية المستدامة يهدد إمكانية تحقيق أهداف تغيرات المناخ إذا لم يصحبها قضاء على الفقر وسيطرة على عدم العدالة في توزيع الدخول وزيادة البطالة. وقد حذر تحليل نشرته صحيفة الفاينانشيال تايمز في مطلع هذا الشهر من أن عدم مراعاة تسعير الكربون لقواعد إدارة التحول العادل في الاتحاد الأوروبي، سيؤثر سلباً على الفقراء في دوله وهو ما يؤكد على ما طالبنا به من ضرورة فض الاشتباك غير المبرر بين أهداف التنمية المستدامة من ناحية وأهداف تغيرات المناخ في إطار منضبط من السياسات العامة وتمويلها.
ثالثاً، استمرار مساندة التعافي الاقتصادي: تشير توقعات البنك الدولي وصندوق البنك الدولي إلى أن نمو الاقتصاد العالمي سيتراوح بين 5.6 في المائة إلى 6 في المائة في هذا العام معوضاً ما خسره العام الماضي بعد ركود وانخفاض النمو إلى سالب 3.3 في المائة. ولكن هذا النمو سيكون متبايناً معوجاً مصاحباً بمزيد من تفاوت الدخول والثروات وقلة في توليده لفرص العمل بعد زيادة البطالة من جراء الجائحة. وقد أحسنت هذه القمة فيما يلي:
1- تأكيدها على ما بدر من وزراء مالية المجموعة بمساندة إصدار ما يعادل 650 مليار دولار من وحدات حقوق السحب الخاصة تضاف للسيولة الدولية واحتياطيات البنوك المركزية بنسبة 95 في المائة من حصة كل دولة من الدول الأعضاء بصندوق النقد الدولي.
2- تأييدها لتدعيم موارد صندوق مساندة الدول الأقل دخلاً بصندوق النقد الدولي.
3- إعطاؤها إشارة خضراء لإنشاء صندوق جديد يخصص لجهود التعافي ومرونة الاقتصادات واستدامتها في الدول متوسطة الدخل.
4- تدعيمها لجهود التعاون الضريبي بين الدول ووضع حد أدنى للضرائب بمقدار 15 في المائة على الشركات الكبرى دولية النشاط وربطها بمصدر تحقيق الأرباح وليس بمركزها في الدولة الأم. وهي بداية مطلوبة لتفعيل التنسيق المانع لمزيد من تسرب الأموال من الدول النامية إلى الملاذات الضريبية الآمنة سواء بطرق مشروعة أم من خلال الاحتيالات للتهرب الضريبي، هذا بالإضافة إلى تدفقات الأموال غير المشروعة من الدول الأفقر للأغنى.
وقد كان من المأمول أن تسفر هذه القمة عن مساندة فعالة للنظام التجاري الدولي، لكنها اكتفت بذكر عبارات فضفاضة عن تجارة أكثر عدالة وإحالة الأمر لمشاورات مجموعة العشرين، واجتماع وزراء التجارة القادم في نوفمبر (تشرين الثاني) في إطار منظمة التجارة العالمية.
كما لم تعلن القمة أي مبادرة لاحتواء تفاقم المديونيات الدولية أو الإعفاء منها أو التصدي لاحتمالات زيادة مشكلات التعثر وعدم السداد مع زيادة تكاليف الاقتراض، كما لم تشر إلى تطوير مطلوب في آليات إعادة هيكلة الديون المتعثرة وتسويتها. وقد قوبلت نتائج القمة بمزيج من القبول لبعضها لإيجابيته، والإحباط لتواضع ما انتهت إليه في بعضها الآخر، فضلاً عن التخوف مما ستؤدي إليه توصيات صدرت عنها بشأن الاستقرار الدولي خصوصاً فيما يتعلق بسبل معالجتها للصعود الصيني بما يعنيه من تصاعد للتوجهات الحمائية. وقد اشتركت هذه القمة مع قمم سابقة من قبل، لأن قراراتها جاءت في شكل تعبيرات إنشائية وتوصيات دون مساندة عملية أو مالية إلا قليلاً، بما يتطلبه ذلك من متابعة لآليات التنفيذ. بما يؤكد أن عبء تصحيح مسارات التعافي المشار إليها يعتمد في نهاية الأمر على قدرة كل دولة في تعبئة إمكانياتها الوطنية وتفعيل مشاركاتها التنموية سواء مع مجموعة الدول السبع أم غيرها.

د. محمود محي الدين

وكالة الطاقة: خريطة طريق نحو «صفر انبعاثات»

نشرت وكالة الطاقة الدولية في 18 مايو (أيار) الماضي تقريرا من 224 صفحة تشرح فيه بإسهاب التوقعات والسيناريوهات حول خريطة الطريق للتوصل إلى عالم «صفر الانبعاثات في 2050». وقد أعدت الوكالة التقرير بناء على طلب الرئاسة البريطانية لمؤتمر الأمم المتحدة لتغيير المناخ «كوب 26»، المقرر عقده في غلاسكو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والذي يعتبر أهم مؤتمر للمناخ منذ اتفاق باريس، حيث من المتوقع أن تناقش الدول تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها. وقد حذرت الوكالة في تقريرها من أن التعهدات الدولية الحالية لتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» غير كافية للحد من زيادة درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية. كما حذرت أيضا من مسؤولية قطاع الطاقة على الاحتباس الحراري، الذي وصفته بأنه أهم تحد تواجه الإنسانية. وقد شكّل هذا التحذير ركناً أساسياً من أركان التقرير، وإحدى الأولويات الواجب معالجتها.
شمل التقرير أموراً رئيسية، الأولى: رسم خريطة الطريق والسيناريوهات لإمكانية التوصل إلى الهدف المناخي المنشود بمنتصف القرن، وما هو المطلوب تنفيذه لتحقيق ذلك. ثانيا: الإشارة إلى التوقعات والإمكانيات للحصول على الطاقات المستدامة اللازمة، ثالثا: تبيان مدى التزام الدول الكبرى بتقليص ظاهرة الدفيئات عن طريق التحول من العصر الهيدروكربوني إلى عصر الطاقات المستدامة، نظرا لأهمية ذلك في مكافحة الاحتباس الحراري. فقد استعرض التقرير بإسهاب مرحلتين زمنيتين – قصيرة المدى حتى عام 2030 وبعيدة المدى حتى عام 2050. توقعت الدراسة توفر جميع تقنيات الطاقات المستدامة المطلوبة لتحقيق الأهداف المرجوة بحلول 2030، لكن لا يزال حوالي نصف التقنيات المطلوبة لعام 2050 تحت التجربة (بالذات لاستعمال وقود الهيدروجين والميثان وتطوير سعة البطاريات الحديثة وتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون). كما تبنى التقرير أكثر من 400 معلم لمختلف أنواع الطاقة والتقنيات التي يتوجب توفرها بحلول 2050 لتحقيق الهدف المناخي المنشود. وبما أن التعامل مع التغير المناخي يشمل، بطبيعته، دول العالم بأجمعها، فإن نجاح التحول الطاقوي يجب أن يشمل مختلف دول العالم لكي تنجح المحاولات للتأثير على التغير المناخي. لكن الطريقة التي اعتمدت في اتفاقية باريس، هي أنه يتوجب على كل دولة رسم استراتيجيتها للتحول الطاقوي والالتزام بالتغير المناخي حسب إمكانياتها وقدرتها. وهذا هو بالضبط ما أدى إلى قلق المسؤولين عن مؤتمر غلاسكو المقبل، إذ اكتشفوا أن التعهدات غير كافية وكذلك الالتزامات التنفيذية. ومن ثم، يتوجب مراجعة هذه التعهدات ورسم خريطة طريق جديدة لمدى تنفيذ التعهدات. وخير دليل على خطورة هذا التحدي هو أن عدد الدول المتعهدة بتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» قد تزايد، وتشكل في مجملها مسؤولية 70 في المائة من كبح الانبعاثات، لكن من الملاحظ في نفس الوقت ازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. هذا سيعني أنه سيوجد 22 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون حول العالم بحلول 2050، وأن درجة الحرارة سترتفع إلى 2.1 درجة مئوية في منتصف القرن. ويقترح التقرير حلولا متعددة، منها: «عدم ضرورة الاستثمار في صناعات الوقود الأحفوري». كما يتوقع ارتفاع حصة الطاقات المستدامة في توليد الكهرباء من 12 في المائة في عام 2020 إلى 35 في المائة في 2050، وأن ينخفض استهلاك النفط إلى حدود دنيا، بحيث تنحصر مستقبلا في السلع البلاستيكية التي تحتوي على الانبعاثات داخلها وعلى المنشآت التي لديها الوسائل التقنية لتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون أو الوقود ذي الانبعاثات الضئيلة.
خلاصة الأمر، يمكن تشبيه خريطة طريق وكالة الطاقة الدولية بتحرك قطار على سكة حديد دولية. فالقاطرة موجودة ومتأهبة للانطلاق. كما أن هناك عربات محدودة العدد تحتوي على عدد محدود من الركاب. لكن، رغم توافر العوامل الأساسية هذه لانطلاق القاطرة والعربات على السكة، فإن تشييد السكة لم يكتمل بناؤه حسب المواصفات المطلوبة في جميع الدول، كما هو مفروض. فمن المتوقع استكمال التشييد تدريجيا قبل وصول القطار، كما أن عدد الركاب سيزداد تدريجيا في المحطات المقبلة. لكن عددهم غير معروف بالضبط حتى موعد انطلاق القاطرة من المحطة الأولى.
لقد أوضحت الكثير من الدراسات العالمية بإشراف الأمم المتحدة أن العالم يعاني من أزمة مناخية، متمثلة بذوبان الكتل الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وحرائق غابات الأمازون وغيرها من الغابات وغرق الجزر والسواحل. كما تفترض معظم الدراسات العلمية هذه أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان تلعب دورا رئيسيا في هذا التلوث. وبالفعل، فقد انطلق العالم خلال العقود الماضية لإيجاد السبل اللازمة لحل المشكلة الكبرى التي تعانيها الكرة الأرضية.
وقد انتقلنا الآن إلى حالة هجينة، حيث لا تزال المصادر الأحفورية (النفط والغاز والفحم) مهيمنة على الصناعات بمختلفها (توليد الكهرباء ووقود السيارات ومصانع البتروكيماويات، الخ). لكن، قد بدأ التحول فعلا إلى طاقات جديدة وعالم هجين. فهناك حوالي 10 ملايين سيارة كهربائية على الطرق الآن، مقارنة بنحو 1.5 مليار سيارة ذات محرك الاحتراق الداخلي (البنزين والديزل)، وأن 80 في المائة من محطات الكهرباء الحديثة في العالم تزود بالطاقات المستدامة.
فقد بدأ هذا العالم الهجين وانطلقت القاطرة والمركبات على السكة الحديدية. السؤال هل من الممكن التوصل إلى نهايتها في الموعد المحدد بما هو متوفر من تقنيات وأموال وعلاقات «جيدة» ما بين الدول؟
فرغم البحث القيم والمزود بمختلف الفرضيات والتوقعات، فلم نقرأ عن النتائج المترتبة على الخلافات الاقتصادية والعلمية ما بين الدول، أو حتى في داخل بعض الدول الكبرى المؤثرة على عملية تحول الطاقة. فالخلاف الجيوسياسي ما بين الولايات المتحدة والصين له انعكاسات وردود فعل على موضوع التغير المناخي. وإمكانية تسلم زعيم يميني متشدد في دولة كبرى، كالرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة، الذي اعتبر اتفاقية باريس مضرة للاقتصاد الأميركي وسحب عضوية بلاده منها، رغم أهميته، لم نجد تأثير هذه العقبات أمام التمكن من تحقيق صفر انبعاثات في موعده المحدد 2050.

وليد خدوري

مستجدات دور الدولة وضرائبها وعملتها

استوجبت الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية المتزامنة تدخلاً غير مسبوق للدولة. اتخذ هذا التدخل حزماً من الإنفاق للعام لمواجهة هذه الأزمات والتعافي منها. وفي حين يتصف إنفاق المواجهة طبيعة مؤقتة تنتهي بنهاية الأزمة الصحية بالسيطرة على انتشار الوباء، إلا أن التعافي يتطلب استثماراً عاماً مستثمراً لتنشيط الأسواق وحفز القطاع الخاص. كما تمتد استثمارات التعافي لمساندة قطاعات التعليم والرعاية الصحية، وتطوير البنية الأساسية والتكنولوجية على النحو الذي نراه الآن في الولايات المتحدة التي أنفقت 1.9 تريليون دولار وهي بصدد إنفاق 3 تريليونات أخرى في هذه المجالات بما يتجاوز 20 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام واحد. ويتجاوز الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي متوسط 10 في المائة من ناتجها وكذلك تفعل باقي الدول ذات القدرة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
استعانت هذه الدول في إنفاقها المالي بإمكانية تعبئتها لتمويل منخفض التكلفة بدعم من سياسات نقدية لبنوكها المركزية وجودة في تصنيفها الائتماني تجعل الأسواق المالية تمنحها ما تحتاج بتكاليف زهيدة. أما الدول النامية فلا تملك ترفاً مالياً أو سخاءً نقدياً فتجدها مقيدة في إنفاقها. وهي إن تجاوزت حدودها هددها التضخم المحلي ولوحت لها مؤسسة التصنيف الائتماني بعواقب الأمور وما يترتب عليها من تكاليف وأعباء في التمويل الخارجي. وبعد سنوات من التقارب الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية تجد إشارات واضحة للتباين والتفاوت لصالح الدول الأغنى التي ستشهد تعافياً أسرع من الجائحة ونمواً اقتصادياً أعلى دون أن تتعرض لأزمة مديونية؛ كتلك التي تحدق بأشباحها وتداعياتها على الدول النامية، خاصةً بعدما تسارعت معدلات نمو تراكم مديونياتها من قبل صدمة الجائحة فيما عرف بالموجة الرابعة للديون.
ستترك الأزمات الراهنة صناع القرار أمام تساؤلات هامة:
– ما هو شكل التعافي؟ فمن الأرجح أن يأخذ التعافي شكل حرف K، بما يعكس التفاوت بين الدول والقطاعات في معدلات نموها وبما يكرس عدم العدالة وينذر بتوترات اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاقتصادي.
– ما هو مستقبل العمل؟ لقد كان الحديث قبل الجائحة مشغولاً بآثار الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها على البطالة. وقد أثرت إجراءات الإغلاق الكلي والجزئي للنشاط الاقتصادي لتحجيم الوباء على سوق العمل فأضافت ما يربو على 250 مليون متعطل في السوق الرسمية وأضعاف هذا الرقم في السوق غير الرسمية. وهنا يأتي دور الاستثمارات العامة للدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي وكذلك دور سياسات الدولة في ضبط قواعد إعادة فتح المشروعات والقطاعات الاقتصادية للعمل، ومدى تفعيل نماذج التشغيل الهجين بالتفاعل الكفء بين نظم العمل التقليدية ومن خلال الوسائل الافتراضية وعبر شبكات الإنترنت.
– ما هي احتمالات عودة التضخم؟ فبعد عقدين من السيطرة على التضخم، هناك جدل محتدم حول الآثار التضخمية لحزم الإنفاق العام خاصةً في الولايات المتحدة، التي بلغ متوسط معدل التضخم فيها 1.2 في المائة في العام الماضي 2020، ولكن هذا المعدل في شهر مارس الماضي قد بلغ 2.6 في المائة. وهناك رأي يقوده لاري سمرز وزير الخزانة الأميركية الأسبق بأن حزم الإنفاق العام الأخيرة تتجاوز حجم المطلوب لتجسير الفجوات التي سببتها الجائحة وأن هذا الإنفاق سيكون تضخمياً. في حين يترقب بنك الاحتياطي الفيدرالي آثار هذا الإنفاق مفرقاً بين ما يمكن أن يكون تضخماً مؤقتاً انتقالياً أو ذا طبيعة متواصلة تستوجب التدخل. وإن كان الأمر يتطلب في كل الأحوال عدم إغفال عامل التوقعات التي تشكل سلوك المستهلكين والمدخرين والمستثمرين خاصةً في ظروف اللايقين التي تسود الأسواق.
– ما هي مسارات سعر الفائدة؟ رغم التراجع النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي فما زال الدولار يهيمن على أسواق الصرف ويشكل أكثر من 60 في المائة من احتياطي البنوك المركزية و85 في المائة من التداول في سوق العملات الدولية. ومن ثم فإن تغيرات أسعار الفائدة على الدولار ستستمر في تأثيراتها المعتادة على أسعار الفائدة للعملات الرئيسية وكذلك أسعار الصرف والتدفقات المالية خاصةً قصيرة الأجل.
وفي ظل تزايد دور الدولة يلزم حسن توجيه إنفاقها العام، فكلما كان هذا الإنفاق في «مهمة موجهة» وفقاً للاقتصادية الإيطالية – الأميركية ماريانا مازوكاتو أصبح الأثر تكافلياً ومسانداً لنمو اقتصادي أكثر شمولاً وأعلى في قيمته المضافة طويلة المدى. وقد يكون هذا الإنفاق مكثفاً للبحث والتطوير في مجالات الأبحاث الطبية والتكنولوجية أو في جهود السيطرة على الانبعاثات الضارة بالمناخ. أما إذا كان الإنفاق العام مزاحماً للقطاع الخاص مقيداً لحركة السوق مشوهاً للمنافسة فسيتجاوز ضرره نفعه، ولو بعد حين.
ويتطلب توسع الدولة في إنفاقها العام مراجعة لهيكل إيراداتها خاصةً من الضرائب. فنجد، على سبيل المثال، الإدارة الأميركية الجديدة وهي تتوسع في الإنفاق العام تراجع معدلات الضرائب على أرباح الشركات فتزيدها من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وتتخذ إجراءات لتفعيل تحصيل الضرائب، وتقترح حداً أدنى للضرائب على الشركات دولية النشاط لا يقل عن 21 في المائة عبر الحدود بما يستلزمه ذلك من اتفاقات وتنسيق دولي، كما تنظر في تغييرات في الضرائب على الأرباح الرأسمالية، بما قد يحقق في مجمله زيادة في الإيرادات الضريبية تغطي جانباً من الإنفاق المستجد وتسهم في إعادة توزيع الدخول.
من ناحية أخرى تجد تغييراً مهماً في شكل العملات لن تستقيم إدارة السياسة الاقتصادية إلا بإدراك تبعاتها على الاقتصاد والاستقرار النقدي. فقد تنامى الإقبال على الأصول المشفرة وفقاً لخوارزميات مركبة مثل البيتكوين، ولكن لا يمكن اعتبارها من العملات بحال فهي شديدة التقلب لا يمكن الاعتماد عليها كمخزن للقيمة أو وسيط مقبول ذي قوة إبراء واسع النطاق. ولكنها أتت حاملة مزايا تفهم تطور المجتمعات والتقدم في تطبيقات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات. كما أنها تستفيد من خصائص اللامركزية بين أطراف المعاملات دون وسيط أو تكلفة معاملات، بتأمين نظام «سلسلة الكتل» وقاعدة بياناته الموزعة دون تحكم من مركز واحد. وقد حاولت ابتكارات من نوع العملات المستقرة التي تستخدم تكنولوجيا الأصول المشفرة ولكنها تحاول الحفاظ على استقرارها وتحجيم تقلباتها بربطها بأصول حقيقية ذات قيمة مادية مثل النفط والذهب أو عملات دولية مثل الدولار واليورو، ومن أمثلة هذه العملات المستقرة «ليبرا» التي طورتها شركة فيسبوك مع شركاء لها وواجهت صعوبة في الحصول على الموافقات اللازمة وما زالت تحاول الحصول على الموافقات المطلوبة من خلال الشكل المعدل لها المعروف بوحدة «دايم» استناداً إلى قوة منصتها التي تضم 2.5 مليار مشترك حول العالم بدعوى تعزيز الشمول المالي. ويستلزم تفعيل العملات المستقرة موافقة صريحة من البنوك المركزية التي سترتبط بها هذه العملات وهو ما زال يواجه صعوبات.
المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو «العملات الرقمية للبنوك المركزية»، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية، ولكن الإجراءات القانونية والتطوير المؤسسي اللازم لتفعيل العملات الرقمية للبنوك المركزية يستغرق زمناً قدره البنك المركزي السويدي، المتقدم في هذا المجال، بخمس سنوات، هذا وإن قامت بالفعل البهاما بإصدارها الأول تحت مسمى «ساند دولار» ولكنه لاقتصاد صغير الحجم والتأثير. ووفقاً لمسح قام به بنك التسويات الدولية فهناك 60 في المائة من البنوك المركزية بصدد إصدار عملاتها الرقمية و14 في المائة منها في مرحلة الاختبارات التجريبية ويترقب المتعاملون ما قد يسفر عن إحراز اليوان الصيني سبقاً في هذا المضمار؛ وعندئذ ستتغير قواعد اللعبة في السوق النقدية الدولية وليس فقط في أدوار اللاعبين الرئيسيين.

د. محمود محي الدين

نقاط تحول في الجائحة والنفط والاستدامة

ينشغل العالم بسبل القضاء على حدة الجائحة باستهداف توفير اللقاح لما لا يقل عن 40 في المائة من مواطني كل دولة قبل نهاية هذا العام، ثم الارتفاع بهذه النسبة إلى 60 في المائة مع منتصف العام القادم تمهيداً للسيطرة الكاملة على الوباء.
ووفقاً لدراستين صدرتا مؤخراً من خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإنَّ هذا يستلزم توفير 50 مليار دولار من التمويل الفعلي، وليس مجرد تعهدات مرسلة تُفَضُّ بها مجالس المؤتمرات. وهذا مبلغ زهيد إذا ما قورن بالتكاليف اليومية التي يتكبدها العالم للتعامل مع أضرار الوباء الاقتصادية والاجتماعية. وأولويات إنفاق هذا التمويل موزعة في مجالات توفير مستلزمات الاختبار للفيروس والعلاج ومتطلبات الحماية، وزيادة طاقة إنتاج وتوزيع اللقاح، ودعمه للدول الأفقر، ومساندة النظم الصحية للقيام بعملها.
وبالإضافة لهذا التمويل الضروري، فلا غنى عن تيسير التجارة في اللقاحات، والمضي قدماً في إجراءات الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية الفكرية المانعة من إنتاج اللقاحات في الدول النامية ذات القدرات التصنيعية، وفقاً للمعايير الدولية. فما زال الطلب الذي قدمته هذه الدول، متضامنة مع اقتراح للهند وجنوب أفريقيا، معلقاً من دون استجابة عملية رغم مرور ثمانية شهور من المحاولات ومضي أربعة أسابيع منذ إشارة الإدارة الأميركية لاستجابتها للاقتراح؛ فما زالت هناك معارضة أوروبية للاقتراح تعوق التوصل لاتفاق في منظمة التجارة العالمية. كما أنَّ هناك حاجة عاجلة للتبرع بفوائض الجرعات في الدول المتقدمة، بما لا يقل عن 500 مليون جرعة كاملة، فمن هذه الدول من احتجز عشرة أمثال احتياجاتها الفعلية من الشركات المنتجة.
إذن فبداية القضاء على الجائحة ممكنة عملياً وتمويلياً وتجارياً، بعد هذا الانتصار العلمي في تطوير اللقاحات في زمن قياسي، ولا يوجد مانع إلا غياب الإرادة السياسية الدولية لتحقيقه.
وفي حين تتعثر محاولات السيطرة على الوباء في الدول النامية بين إغلاق كلي وجزئي في بعض أنحائها، تتعافى حركة الاقتصاد في دول متقدمة ودول أخرى أحسنت السيطرة على الوباء منذ بداياته أو كانت أطيب حظاً في عدم التعرض الشديد لحدته. بما يضفي بعداً جديداً للتباين بين بلدان العالم في مسارات التعافي الاقتصادي. كما أن حدة التباين في توزيع الدخل والثروة التي تزايدت على مدار العقد الماضي ستتعمق أيضاً داخل الدول وبين قطاعاتها وأقاليمها وعبر شرائحها العمرية، وبين النساء والرجال. فإذا كانت الجائحة قد أصابت أنشطة اقتصادية بالخسارة والإفلاس فقد استفادت منها أنشطة أخرى لضرورتها وزيادة الطلب عليها.
وفي حين عانت شرائح كبيرة من البطالة ونقص في الأرزاق لما يقترب من 250 مليون من العاملين الذين فقدوا وظائفهم في القطاع الرسمي، تدفقت أموال إلى جموع المستفيدين من حزم التمويل العام التي اختلفت في مدى سخائها وحسن استهدافها للمستحقين، كما زادت ثروات انتفع أصحابها من تضخم أصولهم المالية مع ماراثون ارتفاع الأسهم والأصول العقارية وغيرها.
هذا التباين الذي لا يفسره في أحوال كثيرة عمل مفيد أو قيمة اقتصادية مضافة أو علاقة منضبطة بين التكلفة الاستثمارية والعائد عليها. كما لم تحسن إدارة المالية العامة في كثير من البلدان القيام بدورها في إعادة توزيع الدخول من خلال آليات الضرائب الكفؤة والعادلة والإنفاق العام وفقاً لأولويات تحقق النفع لعموم الناس. ولا يمكن إلقاء التبعات كلها على مشاجب الجائحة وما صاحبها من أزمات، فمن أوجه قصور السياسات العامة ما كان سابقاً على الأزمة.
لا تعني بدايات التعافي الاقتصادي العودة لأوضاع ما قبل الأزمة، فلم يحدث هذا مع أزمات سابقة أهون شأناً وأقل شمولاً وأخف أثراً. كما لم تخل أزمة اقتصادية، كتلك المصاحبة حالياً للجائحة، من آثار سياسية واجتماعية أحدثت تغييراً أو اضطراباً أو ارتباكاً بعد نهايتها على النحو الذي شهده العالم، بعد أزمة الكساد الكبير والأزمات المالية في الأسواق الناشئة في القرن الماضي، وكذلك ما تبع الأزمة المالية العالمية في 2008 من اضطرابات سياسية واستقطاب وصعود تيارات متطرفة وشعبوية وعنصرية. والدول التي ستتوقى هذه الآثار هي الدول الأكثر تمتعاً بالمرونة في التعامل مع تطلعات عموم الناس، وهي الدول الأسرع توجيهاً لسياساتها العامة وتشجيعها للاستثمارات لتوفير فرص العمل اللائقة، وهي الدول الأفضل في تطوير نظم الضمان الاجتماعي والتصدي للغلاء الذي تظهر نذره بارتفاع لمعدلات التضخم وتوقعاته السلبية، في دول كانت قد نسيته كظاهرة منذ عقود.
إن اعتبارات الاستدامة وتحقيق أهداف التنمية بعد الأزمة تستلزم توازناً وموارد مالية عامة وخاصة، وكذلك حسن إدارة المرحلة الانتقالية نحو تحقيق هدف الوصول لصافي الصفر من الانبعاثات الضارة بالمناخ في عام 2050 وفقاً لالتزامات الدول باتفاقية باريس.
ولكن هناك تحولات معجلة للتغيير وفقاً لما شهدته شركات النفط الكبرى الأسبوع الماضي في قاعات المحاكم وجمعياتها العمومية، بما يعتبر نقطة تحول بتأثير من الفاعلين في مجالات البيئة وتغيرات المناخ واعتبارها من حقوق الإنسان. فبعد أيام من صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة المحذر من فشل الوصول لأهداف اتفاقية باريس، أعقبه إصدار محكمة هولندية لحكم يلزم شركة شل بتخفيض انبعاثاتها بمقدار 45 في المائة في خلال العشر سنوات القادمة وهي فترة أقصر مما استعدت له الشركة للتوافق مع التزاماتها. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي اتفقت صناديق استثمار كبرى على إخراج عضوين في مجلس إدارة شركة إكسون موبيل لصالح آخريْن من المدافعين عن المناخ والبيئة رشحهما صندوق تمويل حديث احتجاجاً على تباطؤ اتخاذ الشركة لإجراءات جدية نحو حماية المناخ. استتبع ذلك تصريح شركات تصنيف الائتماني بزيادة مخاطر شركات البترول الكبرى.
نقطة التحول هذه عجلت بها مطالبات المجتمع المدني في الدول المتقدمة التي سبقت خطى الحكومات والجهات الرقابية في التأثير على قرارات مؤسسات التمويل والمستثمرين، وهي بداية سيكون لها ما بعدها في هيكل سوق النفط وسلوك وأداء شركات البترول الكبرى، وكذلك الشركات الوطنية الكبيرة والشركات الأصغر في التعامل مع مستجدات سياسات المناخ وتبنيها لحلول تكنولوجية تمكنها من تخفيض الانبعاثات الكربونية. وفي حوار لي مع أحد المديرين التنفيذيين في قطاع الصناعات الاستخراجية ذكر لي أن نقطة التحول هذه كانت متوقعة، ولكنها أتت سابقة لأوانها، فكان رأيي أن أزمة الجائحة عجلت بها وهو ما لم يعترض عليه.
في ظل هذه المستجدات المتسارعة تبرز آليتان للتغيير والتقدم في سباق الأمم استمدتا زخماً من معترك أزمة الجائحة، الأولى آلية الاستدامة التي لا يجب اختزالها في تغيرات المناخ ولكن تؤخذ بمنهج شامل لتحقيق أهداف رؤى 2030 بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وهي تتضمن حتماً استثمارات للتعامل مع تغيرات المناخ، فضلاً عن تفعيل أسس الحوكمة والمشاركات المحلية والدولية. والآلية الثانية هي التحول الرقمي الذي أصبح عابراً للقطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، فمستحدثاته وتطبيقاته صارت أسلوب حياة وتواصل بين الناس ومعينة في تقديم خدمات التعليم والصحة والترفيه. ومن خلاله يتم التحكم في قطاعات الإنتاج والنقل والطاقة والمياه، ومن دونه لا تنجز معاملات مالية، وبه ستتغير أنماط العمل وأشكال النقود الصادرة من البنوك المركزية ونظم تسوية المعاملات.
هذه رياح التعافي فلتستعد لها القلاع، وقديماً قالوا:
إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها

د. محمود محيي الدين