أرشيف التصنيف: المقالات العامة

مخاوف التضخم المبالغ فيها

لقد حان الوقت للتوقف عن الثرثرة الفارغة الخاصة بالتضخم. وينبغي الترحيب بالتوقعات ذات الصلة بالتحسن اللائق في وتيرة ارتفاع الأسعار، إذ إننا بعيدون كل البعد حالياً عن الأيام السيئة التي شهدناها في سبعينات القرن الماضي.
ومع الارتفاع الملحوظ الذي سجلته مقاييس التضخم في الولايات المتحدة مع نهاية العام الماضي، إلا أنها أدنى بكثير من المستويات المستهدفة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وفي الصين، سجلت أسعار المستهلكين انخفاضاً غير متوقع بنسبة 0.3 نقطة مئوية في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. ويبدو المسؤولون الاقتصاديون في اليابان وكأنهم قد تخلوا فعلاً عن هدفهم المحدد ببلوغ نقطتين مئويتين هذا العام. وحتى في جنوب شرقي آسيا، حيث سجل النمو الاقتصادي ارتفاعاً سريعاً وتاريخياً عن بلدان العام المتقدم، فإن تحركات الأسعار في الأسواق تبدو ضعيفة للغاية. ولا تزال حكومة كوريا الجنوبية تغازل الانكماش الاقتصادي، في حين تحاول ماليزيا وتايلند تحمل أعبائه.
وتعكس مقاييس السوق عودة واضحة للتضخم؛ إذ تجاوزت عوائد السندات الثلاثينية مستوى نقطتين مئويتين خلال الأسبوع الماضي للمرة الأولى منذ عام كامل، في حين تراجعت السندات الحكومية في المملكة المتحدة مع ارتفاع النفط. وتكمن الفكرة في أن الانتعاش الاقتصادي، بمعاونة من المحفزات المالية والنقدية الهائلة، سوف يشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار المستهلكين. ومما يؤسف له، وفي غالب الأمر ما يوصف ذلك بلهجة الترويع المخيفة مثل «الفيضان»، و«الانفجار»، و«الإنذار»، وحتى «نهاية عهد السخاء». ويتجاوز هذا دروس العقد الماضي السابق عن ظهور جائحة فيروس «كورونا» المستجد. وبعيداً عن وصفها بنذير الشؤم والهلاك، فإن الطفرة الكبيرة في الأسعار يمكن اعتبارها انتصاراً واضحاً للسياسة المالية المعتمدة.
عبر سنوات، كنا نسمع أن النمو الاقتصادي كان بطيئاً للغاية، وأن التضخم منخفض للغاية، وأن محافظي البنوك المركزية الكبيرة قد أخفقوا في السيطرة على الأمر. هل تتذكرون العناء الشديد الذي خبرناه قبل سنوات عندما تراجعت أسعار الفائدة في الأسواق إلى ما دون الحد الصفري؟ هل تدور الانتقادات حالياً حول أن المسؤولين قد قاموا بعملهم بصورة جيدة للغاية؟ فقط عندما تستقر نسبة التضخم عند نقطتين مئويتين ينبغي على صناع السياسات التفكير في سحب التحفيز المالي.
ومن هذا المنطلق، فإننا أبعد ما نكون عن نهاية الدعم النقدي. والاستنتاج بخلاف ذلك معناه تجاهل تام لما يقوله صناع القرارات السياسية بالفعل. يتوقع السيد جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، بل ويرغب في، ارتفاعات أسرع في الأسعار. ولقد قال في يناير الماضي: «من المفيد النظر إلى الوراء في ديناميات التضخم التي شهدتها الولايات المتحدة منذ عقود مضت، وملاحظة أنه كان هناك ضغط هائل مضاد للتضخم الكائن لفترة من الوقت بلغت عقدين كاملين».
كان بول فولكر، الذي وافته المنية في نهاية عام 2019 عشية ظهور الوباء، سوف يسخر للغاية من مخاوف اليوم. عندما تولى إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979 كانت أسعار المستهلكين ترتفع بنسبة 15 نقطة مئوية. ولقد رفع أسعار الفائدة إلى 20 في المائة لمصارعة هذا الوحش الكاسر. ولم يعد التضخم على وضعه مرة أخرى ثم انحسر تهديده منذ ذلك الحين. ويواصل خلفاء السيد فولكر البحث عن مثل هذه الديناميات بهدف تكرارها، غير أنهم كثيراً ما تصيبهم خيبة الأمل الشديدة. وكانت التوقعات تفيد بأن التيسير الكمي والعجز الكبير عقب الأزمة المالية العالمية في 2007 و2009 من شأنهما تصحيح ذلك الاتجاه تلقائياً، غير أن ذلك لم يحدث، ولقد تأثر بنك الاحتياطي الفيدرالي كثيراً بتلك التجربة المؤلمة.
بيد أن الأموال المتداولة داخل النظام النقدي في عصر الوباء الراهن هي أكبر من ذلك بكثير، لذلك فإن العودة السريعة سوف تكون قوية مع مبررات أفضل للمخاوف، كما تقول الحجج المطروحة. ولكنني غير مقتنع بذلك. لقد دخلت الولايات المتحدة في توسع مالي كبير في عام 2017 عندما أقر الكونغرس التخفيضات الضريبية التي تزعمها دونالد ترمب، تماماً كما لو كان الاقتصاد يعاود الانطلاق من جديد. وكان يُنظر في تلك الأوقات أنه من غير المعتاد أن يقع مثل هذا التحول الهائل إثر مرور وجيز لفترة الركود العصيبة. ولقد ارتفعت معدلات النمو بصورة كبيرة مع انخفاض معدلات البطالة في المقابل إلى 3.5 نقطة مئوية، وهو أدنى مستوى مسجل منذ 50 سنة، إذ كان التضخم لطيفاً في تلك الأثناء.
ومثلما كان التضخم منخفضاً بصورة كبيرة في عام 2010 فمن سيقول إنه لن يفاجئنا بالارتفاع مجدداً؟ عندما يحين وقت الانخفاض، يكون المستثمرون على حق في انتظار الألم، بصرف النظر تماماً عن مدى دقة التوقعات. ولقد تعلم السيد بن برنانكي هذا الدرس بالطريقة العسيرة: مجرد الاقتراح بطرح التناقص التدريجي في عام 2013 أسفر عن تدهور شائع في الأسواق آنذاك.
والأنباء السارة بالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية تتعلق بأنه إذا صار الارتفاع في الأسعار مشكلة حقيقية – بدلا من عودة الظهور بمظهر صحي جديد – فإن من يحتلون المناصب بعدهم سيكونون المسؤولين عن حل هذه المشكلات. وفي غضون ذلك، دعونا نتجاوز بعض الكآبة التي تكتنف الأمر الواقع. هناك الكثير من دروس التاريخ التي تعين في التغلب على المشكلة قبل أن يتحول التضخم لدينا إلى وحش كاسر يصعب ترويضه.

دانيال موس.

ثالوث الأزمات العالمية والمثلث الأوروبي الجديد

ما زال ثالوث الأزمات العالمية، المشكل من وباء كورونا وحدة الركود الاقتصادي وتزايد أعباء الديون، جاثماً على الصدور وتراه يزداد وطأة بمرور الوقت رغم توافر الحلول ووفرة الإمكانيات. فأين مصادر الخلل؟ وهل سيشهد هذا العام انفراجاً في العمل الدولي بعد سنوات من التوتر والانعزالية والحمائية والانسياق وراء دعاوى الشعبوية؟
شهدت الساحتان الأميركية والأوروبية تغييرات في قياداتها. وزفت البشائر بعود أميركي، نحسبه حتى الآن حميداً، إلى المسارات الدولية متعددة الأطراف؛ فأعلن عن عودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس لتغيرات المناخ بعد غياب طال، ونشرت كلمات عن مساندة منظمة الصحة العالمية ومساعدتها مالياً بعد انقطاع، ومهد الطريق لتولية قيادة أفريقية مرموقة إدارة منظمة التجارة العالمية بعد فترة من الجمود دون قرار.
وفي أوروبا تولى هذا الشهر الاقتصادي المخضرم ماريو دراجي رئاسة حكومة إيطاليا، والتي ترأس هذا العام مجموعة العشرين. وفي خطابه الذي ألقاه منذ أيام عن أولويات حكومته أفصح دراجي عن سياسات تزكي المصالح الأوروبية وليس الإيطالية فحسب، في صياغة العلاقات الدولية خاصةً مع الولايات المتحدة والصين وروسيا. جعل هذا بعض المحللين السياسيين، مثل ميلفين كراوس الأستاذ في جامعة نيويورك، يتحدث عن بزوغ مثلث أوروبي جديد يتضمن إيطاليا مع ألمانيا وفرنسا، اللتين قادتا إعادة إحياء الاتحاد الأوروبي بعد أزمة «بريكست» التي انتهت بانفصال بريطانيا. وقد اشتهر دراجي بعباراته الرنانة ومحاولاته لتنفيذ محتواها؛ فهو صاحب المقولة الشهيرة «مهما كانت التكلفة» التي رددها في يوليو (تموز) عام 2012 أثناء رئاسته للبنك المركزي الأوروبي عن عزمه في الدفاع عن اليورو الذي عركته الأسواق من خلال برنامج لشراء السندات. ونجحت كلماته بفضل مصداقية مؤسسته وسياسته المنضبطة في حماية اليورو من التردي بتهدئة المستثمرين والمتعاملين في أسواق النقد.
ويواجه دراجي مشكلات اقتصاد أعياه الوباء، وإذا ما أحسن السيطرة على تداعيات الجائحة الصحية فإن الناتج المحلي لإيطاليا لن يعود لمستويات ما قبل الجائحة إلا بعد عامين على أفضل تقدير. ولكن سعي الحكومة الإيطالية في الإصلاح الداخلي سيتخذ منهجاً وحدوياً أوروبياً صدره رئيسها دراجي بمقولة «بدون إيطاليا، لن تبقى أوروبا». ولم يغفل دراجي تأكيده على العلاقات عبر الأطلنطي مع الولايات المتحدة في استعادة للخط التقليدي للتحالف على عكس الخطوات التي اتخذها سلفه جوزيب كونتي في التقارب مع الصين؛ معضداً في ذلك تجديد أواصر التعاون الأوروبي – الأميركي بعد حديث العودة الأميركية لتحالفاتها التقليدية في ظل إدارة بايدن.
وعودة لثالوث الأزمات العالمية، بعد هذا التطرق للمثلث الأوروبي الذي عثر مؤخراً على ضلعه المفقود. فما زال العامل المشترك بين الإدارات الأوروبية وما يقابلها عبر الأطلسي هو هذا التوجه نحو الداخل الذي لا ينصرف بمقدار ملموس خارج الحدود. حسناً فعلت الدول المتقدمة والغنية بأن رصدت في المتوسط ما يتجاوز 10 في المائة من دخولها القومية لدعم اقتصاداتها والمضارين من مواطنيها من تداعيات الجائحة. وها هو الاتحاد الأوروبي يرصد حوالي 2.2 تريليون دولار لحزم مالية محفزة لاقتصاد ما بعد الجائحة تمول جماعياً من خلال الموازنة الموحدة للاتحاد. وكذلك فعلت وأكثر الموازنة الفيدرالية الأميركية على مدار العام الماضي وعلى هذا النهج ستستمر هذا العام حتى يبين لها بوادر التعافي وتطمئن إليه، رغم جدل حول تكلفة حزم التيسير وفاعليتها والمنتفعين بها.
ومن أسف أنه في هذه الأثناء كبلت الموازنات المنهكة للدول النامية قدرات حكوماتها على الاستجابة لتداعيات الأزمة الصحية فلم يتجاوز الإنفاق الاستثنائي في الكثير منها 1 في المائة من دخولها القومية. كما أن أعباء الديون وضعف التصنيف الائتماني السيادي لها، يمنعها من الاقتراض رخيص التكلفة الذي تتمتع به الدول المتقدمة. فهناك من الدول تتمتع بطعام غذاء مجاني لانخفاض سعر الفائدة لما يقترب من الصفر على سنداتها؛ أما الدول النامية فمن نصيبها وجبات قروض باهظة التكلفة، وأكثرها يعود من الأسواق المالية خماصاً كما ذهبت إليها، فلا مقرض لها أو مستثمر في سنداتها. ومع تراجع معدلات النمو تتزايد البطالة بلا إعانة تذكر للمتعطلين، وتتزايد الفجوة في الدخول بين الدول المتقدمة والنامية بعدما شهدت فترات من التقارب بفعل زيادة النمو الأعلى في الدول الأقل دخلاً.
قد تعين الدول المتقدمة، إذا أرادت، في حل معضلات ثالوث الأزمات باتخاذ إجراءات عاجلة قبل منتصف هذا العام، فكل يوم يمر بلا تيسير على عموم الناس يدفع أفقرهم تكلفته بحياتهم قبل أسباب معيشتهم. والإجراء الأول يجب أن يكون في تيسير الحصول على اللقاح بشكل عادل، فقد تعاقدت هذه الدول مع شركات إنتاج اللقاح مباشرة غير مبالية باحتياجات آلية الكوفاكس التي تديرها منظمة الصحة العالمية لصالح الدول الأفقر، وقام بعض هذه الدول بحجز ما يتجاوز أعداد سكانها مجتمعين عدة مرات.
ولعل الدول المتقدمة تستمع لنصح سبعة علماء متخصصين في الأمراض الفيروسية. فقد نشروا مقالاً علمياً مشتركاً هذا الشهر في مجلة لانست الطبية واسعة الانتشار عن الضرورات العلمية لعدالة توزيع اللقاح على مستوى العالم كله وزيادة إنتاجه وسرعة نشره وإتاحته بلا عائق سعري أو لوجيستي، حتى تتحقق أهداف السيطرة على الجائحة وإلا تبددت منافع النصر العلمي في سرعة تطوير اللقاحات المعتمدة بشكل قياسي لأسباب سياسية وإدارية. ولعل الدول المتقدمة تتجاوب مع مطالب الدول النامية التي تقدمت بها لمنظمة التجارة العالمية في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لتيسير الحصول على الترخيص اللازم لإنتاج اللقاحات المطورة والأدوية المعالجة.
الإجراء العاجل الثاني هو منع تفاقم مشكلات المديونية للدول النامية ومنع تحولها لأزمة عالمية. وفي هذا الشأن يتطلب الأمر مد فترة السماح لإرجاء أقساط الديون للدول الأكثر فقراً والتي ستنتهي في شهر يونيو (حزيران) القادم لسنة أخرى، مع وضع ضوابط ميسرة للاستفادة من إطار إدارة الديون المتعثرة الذي أوصت به مجموعة العشرين، وأن يشمل في تطبيقه مقرضي القطاع الخاص بفاعلية والتأكيد على شفافية الإفصاح عن البيانات من جانب المقرضين والمقترضين، والتعاون في تطوير منظومة إدارة الديون السيادية الخارجية وآليات فض منازعات الديون المتعثرة وإرساء معايير عادلة في التفاوض على تسويتها، وإتاحة سبل التعاون الفني خاصةً في مجالات مبادلة الديون في ظل اقتراحات ربطها بتغيرات المناخ.
الإجراء الثالث يتمثل في المراجعة العاجلة لإطار تمويل التنمية المستدامة بداية من الاستثمارات في التعافي الاقتصادي والإفلات من فخ الركود. وهذا يتطلب تجاوز النهج التقليدي للمساعدات الإنمائية التي تنحسر قيمة وتأثيراً لتراجع تدفقاتها حتى صارت التدفقات المالية الخارجة من القارة الأفريقية، على سبيل المثال، يتجاوز ما يرد إليها من مساعدات واستثمارات خارجية. ولعل الاختبار الأهم للتعاون الدولي في هذا الشأن هو طرح الزيادة العاجلة المنتظرة لوحدات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، لتيسير حصول الدول النامية على احتياجاتها الضرورية من النقد الأجنبي.
هذه الإجراءات المحددة للتصدي لثالوث الأزمات العالمية الراهنة تتطلب حتماً تمويلاً وإرادة سياسية في الدول المتقدمة لتوفيره. من السهل سرد كلمات تدبج في محبة التعاون الدولي ونشدان الرخاء للبشرية والحفاظ على السلم والاستقرار، فما لم تترجم هذه الكلمات لبنود مخصصة في الموازنات المالية فهي فاقدة المعنى عديمة الأثر.

د. محمود محي الدين

فقاعة «روبن هود»

في وقت ينشغل فيه عموم الناس بتداعيات جائحة كورونا وتأثيراتها على حياتهم وصحتهم وأسباب معيشتهم، تشهد البورصات المالية أحداثاً لا تؤكد تباعدها عن الاقتصاد الحقيقي فقط، بل انفصالها عن الواقع برمته.
فهناك مزيج يتفاعل بقوة مشكلاً لظواهر جديدة في أعمال البورصات العالمية تتألف عناصره من منصات رقمية للتداول في الأسهم والأوراق بلا تكلفة يتحملها المستخدم مثل منصة «روبن هود»، ومنتديات لتبادل المعلومات والاتفاق المسبق على الصفقات واستهداف عمليات مالية بعينها، مثل موقع «ريديت» واسع الاستخدام للتواصل بين مجموعات حول موضوعات مختارة، وأموال سهلة حصل عليها جموع من الأفراد من حكوماتهم في شكل إعانات نقدية لمواجهة كورونا.
وبهذا التحالف الثلاثي بين المنصات الرقمية ومنتديات التواصل الاجتماعي والأموال السائلة وجدت أعداد غفيرة من المستثمرين الهواة الصغار ضالتهم في أسهم البورصة. وتقدر أعداد متابعي مجموعة المضاربات على أسهم بورصة وول ستريت بنحو 8 ملايين متابع على موقع «ريديت». ويبدو أن هؤلاء المستثمرين الصغار من مستثمري التجزئة لم يكتفوا بالعوائد العالية التي حققتها الأسهم القائدة في البورصة مؤدية لارتفاع مؤشراتها في الشهور الماضية غير مبالية بانكماش اقتصادي أو بطالة أو انتشار للإصابات بكورونا. فقادهم التفكير إلى تحدي الكيان المؤسسي للبورصة على غرار الاتجاهات الشعبوية التي شهدناها مؤخراً في المضمار السياسي التي عبرت في تصويتها باختيارات خارج البدائل التقليدية بعدما ضاقت بها ذرعاً، وإن عانت هذه الاختيارات من شطط بالغ.
وما حدث ببساطة هو أن هذه الجموع الغفيرة من المستثمرين الصغار الهواة قد اتفقوا في العلن على استهداف عدة أسهم كانت قد انهارت أسعارها لخسائرها الجسيمة ولفقدان أي فرصة في صلاح أحوالها. فضخوا أموالهم مجتمعين في أسهم لشركات تعيسة الأداء مثل «جيم ستوب» وهي سلسلة محال لبيع اللعب الإلكترونية فقدت عملاءها بسبب منافسة الشراء عبر الإنترنت ثم أجهزت عليها جائحة كورونا التي منعت مَن تبقى من عملاء التسوق المباشر من محالها المتناثرة. كما ضارب هؤلاء المستثمرون على أسهم شركة تصنيع الهواتف «بلاك بري» التي كانت ذات صيت ثم تهاوت لفشلها في الابتكار في سوق شديدة المنافسة، وكذلك فعلوا مع أسهم شركات أخرى مثيلة في سوء الأداء وانخفاض الأسعار. وبهذا الطلب المتزايد ارتفعت أسعار أسهم «جيم ستوب» في خلال أسابيع بمقدار 8750 في المائة، حيث ارتفعت قيمة السهم إلى 350 دولاراً، علماً بأن سعره كان قد انخفض من 57 دولاراً في عام 2013 حتى وصل إلى 4 دولارات قبل أن يرتفع السهم بهذه الارتفاعات الجنونية بفعل مضاربة رعناء لا تستند إلى أي أسس منطقية للاستثمار في شركة لا مستقبل لها حتى بعد تعافي العالم من وباء كورونا، لأن خسائرها سابقة على الجائحة بسنوات وبضاعتها التي تبيعها من ألعاب تتم تجارتها إلكترونياً.
عند كتابة هذا المقال انخفض سعر «جيم ستوب» بنحو 80 في المائة في خلال أيام معدودة ليصل إلى 64 دولاراً في مسيرة متواصلة للانخفاض بما يعكس في النهاية القيمة العادلة لشركة بلا أرباح اليوم وبلا مستقبل غداً.
لكن الأمر يتجاوز في أهميته أحداث ارتفاع سهم ثم انخفاضه أو حتى خطورة التقلبات الشديدة في السعر بإحداث فقاعات مالية لبعض الأسهم تنفجر أو تتبدد. فلا يمكن تجاهل اعتبارات الاقتصاد السياسي لأسواق المال في العصر الرقمي. ويحلو للبعض تصوير الأمر على أنه منافسة بين المستثمرين الصغار المستضعفين مقابل عتاة السوق من صناديق الاستثمار والتحوط والمستثمرين الكبار في عقود المشتقات المالية والخيارات، والمقصود في هذه الحالة تحديداً مستثمرو عمليات البيع المكشوف التي تستخدم في حالة توقع هبوط في سعر السهم فيقترض المستثمر السهم من صاحبه، ثم يبيعه بسعر معين ثم يعيد شراءه بسعر أقل، ثم يرد الورقة المالية المقترضة لصاحبها ويستفيد المستثمر من الفرق بين السعرين، شريطة أن ينخفض السعر وإلا خسر. وحاول مستثمرو «روبن هود» من رواد موقع «ريديت» القيام بعمل مناوئ لصناديق الاستثمار والتحوط برفع أسعار الأسهم. ثم قامت منصة «روبن هود» بوضع ضوابط وقيود على تعامل الأسهم المستهدفة مثل «جيم ستوب» تسببت في التعجيل بانخفاض الأسعار مرة أخرى على غير رغبة المستثمرين الصغار، وبما ألحق بهم خسائر عالية ومتوالية. جعل هذا أعضاء في الكونغرس الأميركي، من ضمنهم الغريمان السياسيان الديمقراطية ألكساندريا أوكازيو – كورتيز والجمهوري تيد كروز، يطالبون بلجان استماع عاجلة للتعرف على حقيقة ما جرى.
يبدو أن توجه جهات الرقابة المالية هو وضع منصة التبادل «روبن هود» تحت المجهر بالتحقيق فيما تم من ممارسات بين سماح بالتداول والارتفاع المفرط في الأسعار ثم التقييد المفاجئ في المعاملات، ولكن هذا لن يعوض المستثمرين الصغار عن خسائرهم. وفي حين يؤكد الاقتصادي محمد العريان تعاطفه معهم، لكنه يذكرنا بدرس تعلمه مبكراً بأنه «لا صديق لك في بورصة وول ستريت»، فقد ظن صغار المستثمرين أن موقع «روبن هود» صديق لهم ثم تبينت لهم الحقيقة بخسائر فادحة.
وأشارك جيفري فرانكل، الأستاذ بجامعة هارفارد، ملاحظته عن اتجاهات صغار المستثمرين والمضاربين المعتادة في حالة الخسارة في لوم الجهة التي تحذرهم من خسائرهم، بدلاً من توجيه لومهم لمن ضللهم كقطيع سار وراء وهم أرباح لا تتحقق في أي نشاط اقتصادي متعارف عليه. تماماً كما حدث من قبل مع حالات النصب المالي فيما عرف بـ«خديعة بونزي» ومثل ما نراه في بلادنا من خداع البسطاء والنصب على واهمين باسم توظيف الأموال، وإن كان يجري خارج البورصات المنظمة.
إن الأمر برمته لا يتجاوز أعمال المقامرة وإن اتخذ مظهراً يشبه الاستثمار. فلا يوجد في حقيقة الأمر في شركات مثل «جيم ستوب»، التي أصبحت كالمسخ، ما يستدعي الاستثمار فيها، ولكنها مقامرة محسوبة من قبل من ساق القطيع وغير محسوبة من المسوقين فيه. ومهدت لأعمال المقامرة هذه منصات تداول رقمية عديمة التكلفة لمستخدميها فيقبلون عليها مندفعين، ومنتديات تواصل، تروج لاستهداف أسهم بمعلومات متباينة الدقة، وأموال منح التيسير المالي التي ضلت طريقها لأيد تبغي مكاسب سريعة، وفي غفلة من رقيب لم يطور أدوات إشرافه على السوق ومستجداتها، فنجم عن ذلك كله فقاعة بتداعيات طالت البريء قبل المذنب. وقد تنشغل جلسات الاستماع وجهات الرقابة في محاولة التعرف على أوجه التجاوز وتحديد المتجاوزين المتسببين في الفقاعة الأخيرة، وقد تصدر تشريعات ولوائح جديدة بشأن تنظيم عمليات التداول والتزامات أطرافها في العصر الرقمي. ولكن الأهم متابعة مسار الانفصال المتزايد بين أداء الشركات وأسعار أسهمها، وتحجيم مدى اعتماد الاقتصاد على مصادر مالية قوامها أصول مالية متضخمة بفعل تدنٍّ لن يدوم في أسعار الفائدة وحزم دعم نقدية سينقضي أجلها تاركة الأسواق المالية لاختبارات أسس التسعير التي ستكشف، برفق أو عنف، عن ضرورة التصحيح ومداه. وعندئذ ستكون الذكرى بأن «روبن هود» كان فارساً من نسج الخيال لا يناسب اليقظة الواجبة في عالم الأسواق.

مستقبل «إكسون ـ موبيل»

«إكسون – موبيل» هي الشركة التي لم تخسر في التاريخ، كان ذلك حتى أعلنت الشركة عن نتائجها السنوية لعام 2020، حيث حققت الشركة خسارة سنوية بلغت 22 مليار دولار، وهي التي بلغت أرباحها في سنة 2019 أكثر من 14 مليار دولار! لم تخسر «إكسون – موبيل» بعد أزمة 2008 المالية حيث عُدّت الخسارة أمراً مقبولاً لعديد من الشركات، ولكنها خسرت في أثناء جائحة «كورونا»، في أمر قد يعد منطقياً في سنة نزل فيه سعر النفط تحت الصفر، وفي عام توقف العالم فيه عن الدوران، وقبع فيه الناس في بيوتهم من الخوف؛ فلا طائرات في الجو، ولا مصانع تعمل، ولا سيارات في الشوارع. وليست «إكسون – موبيل» وحدها التي حققت خسائر من ضمن شركات النفط التي أعلنت عن أرقامها في الأيام القليلة الماضية، فشركة «بريتيش بتروليوم» خسرت نحو 5.7 مليار دولار بعد أن ربحت 10 مليارات في العام السابق. أما شركة «كونوكو – فيلبس»، وهي أحد أكبر منتجي النفط في الولايات المتحدة، فقد خسرت 2.7 مليار دولار مقارنةً بأرباح العام السابق التي فاقت 7.9 مليار دولار. ولكن لماذا يختلف الوضع في «إكسون – موبيل» ما دامت خسارة شركات النفط في هذا العام أمر منطقية مقارنةً بما حدث؟
«إكسون – موبيل» شركة لا تشابهها شركة أميركية أخرى، فهي رمز النفط في الولايات المتحدة؛ كونها أكبر منتجي النفط فيها على الإطلاق، وقد كانت الشركة في عام 2013 تملك أعلى قيمة لشركة مساهمة حول العالم بقيمة زادت على 410 مليارات دولار، ولكنها الآن لا تساوي حتى نصف هذه القيمة! وما زاد على ذلك أن الشركة خرجت في أغسطس (آب) الماضي من مؤشر «داو جونز» الصناعي، وذلك بعد 92 عاماً من وجودها فيه. ومنذ اندماج الشركتين «إكسون» و«موبيل» عام 1999 والشركة تعد أحد أكبر اللاعبين في سوق النفط حول العالم، إلا أن أداء الشركة اختلف كثيراً منذ ذلك الوقت وحتى الآن، فحجم الإنتاج لم يختلف كثيراً للشركة منذ عام 2010 حتى 2019 وذلك على الرغم من اعتماد الشركة على كثافة الإنتاج وليس على قيمته.
أما الأداء المالي فيُظهر أن الشركة في انحدار مستمر خلال الأعوام الماضية، فالعائد من استثمار رأس المال في استخراج النفط انخفض من 30% في العقد الأول من الألفية، إلى 6% في السنوات الخمس التي سبقت الجائحة. وديون الشركة ارتفعت خلال العقد الأخير من مبلغ ضئيل لتصل إلى 63 مليار دولار، وعلى الرغم من انخفاض الربحية في الشركة، وزيادة الديون فإن الشركة استمرت في توزيع الأرباح للمستثمرين بنحو 15 مليار دولار سنوياً. وحتى في عام 2020 فقد وزّعت الشركة الأرباح على المساهمين على الرغم من تسريحها الكثير من موظفيها بسبب الجائحة.
واليوم تنظر «إكسون – موبيل» إلى مستقبل مظلم، فالشركة قد لا تصمد إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، حتى ظهرت شائعات بأن العملاق الأميركي قد يندمج مع عملاق نفطي آخر وهي شركة «شيفرون»، وفي حال اندمجت الشركتان فبإمكانهما توفير 7% من الطلب العالمي للنفط! ولكن حتى هذا الاندماج قد لا يتم بالنظر إلى ما يعاني منه قطاع النفط الأميركي في الوقت الحاضر.
وما يزيد الطين بلة، أن الشركة خرجت بهذه الحالة المادية بعد انتهاء فترة أكثر رئيس أميركي دعماً للقطاع النفطي، وببدء فترة ولاية لرئيس أميركي جديد أخذ على عاتقه حماية الكوكب والبيئة من الانبعاثات الكربونية، بل كان أول قراراته الانضمام إلى اتفاقية باريس المناخية، وهو ما يعني أن القطاع النفطي الأميركي بأكمله قد يعاني من القرارات التنظيمية التي قد تتبع هذه السياسة البيئية.
إن خسارة الشركات النفطية في عام 2020 ليست مستغرَبة، فهي مكوّن من مكونات السوق، وبتوقف الأسواق والمصانع عن العمل، كان من الطبيعي أن تخسر شركات النفط في هذا العام. وما يتداول أن هذه الخسارة بسبب استخدام الطاقة النظيفة غير منطقي على الإطلاق، فحتى هذه اللحظة لم نشاهد طائرة تطير بالطاقة النظيفة، وما زلنا نشاهد المصانع والسيارات تعمل بالطاقة المستمدة من النفط. ولكن ما يثير القلق في حالة «إكسون – موبيل» أن المستثمرين توقعوا هذه النكسة للشركة بعد سنوات من الانحدار في الأداء، وما حدث هذا العام أثار القلق بشأن المستقبل القريب للعملاق النفطي، لا بشأن مستقبل النفط.

د. عبدالله الردادي

القواعد المالية لأوروبا عفّى عليها الزمن

إحدى نتائج «كوفيد – 19» كانت التنسيق الوثيق بين السلطات النقدية والمالية. وقد أدى ذلك إلى ثورة في سياسة الاقتصاد الكلي يتعين على البلدان مواصلة البناء عليها.
فمثلما كانت البنوك المركزية تعيد التفكير في أطرها، فهناك حجة قوية لأن تعيد الحكومات النظر بالمثل في نهجها تجاه السياسة المالية. لدى أوروبا الآن فرصة مثالية للقيام بذلك، فقد تم تعليق القواعد الصارمة لاتفاق الاستقرار والنمو الأوروبي الذي يحد من السياسات المالية للدول الأعضاء في منطقة اليورو حتى عام 2022. وهو ما يمنح الاتحاد الوقت لتأسيس نظام مالي جديد يساعد على تحقيق استقرار النشاط الاقتصادي ومعالجة التحديات الطويلة الأجل مثل تغير المناخ.
ما من شك في أن الحكومات يجب أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً في إعادة اقتصادات أوروبا إلى مسارها الصحيح. فقد أدى الانخفاض المستمر في أسعار الفائدة المتوازنة إلى تقليص ما يمكن أن يفعله البنك المركزي الأوروبي، ومن الصعب تصديق أن هذه الأسعار سترتفع بشكل كبير في القريب العاجل.
هذا هو المكان الذي يمكن أن يعاق فيه سبيل «اتفاق الاستقرار والنمو». فرغم الإصلاحات والتوسيعات المجزأة المختلفة، لا يزال الاتفاق عبارة عن مجموعة من القواعد المالية الصارمة التي عفّى عليها الزمن بشكل متزايد والتي تحد من عجز الدول الأعضاء إلى 3 % من الناتج المحلي والديون إلى 60 % من الناتج المحلي. وكان هذا الحد منطقياً عندما تم تصميم الإطار المالي لأول مرة قبل 3 عقود.
واليوم، يتجاوز النمو أسعار الفائدة بهامش كبير، ما يقلل تكاليف خدمة الديْن حتى عند المستويات المرتفعة. ومن ثم يبدو أن مستويات الدين الحكومي الآن يمكن تحملها عند أعلى بكثير من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. في الواقع، في المرحلة الحالية يمكن للقواعد الحالية أن تطلق تقشفاً مالياً مبكراً كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية، عندما فرضت تخفيضات في الخدمات العامة وأخرجت الانتعاش عن مساره.
ويمكن لمثل هذا التقشف السابق لأوانه التراجع عن الفوائد التي رأيناها في عمل السياسة النقدية والمالية معاً خلال هذه الأزمة. على سبيل المثال، هناك قدر أكبر من تقاسم الأعباء بين البلدان على مستوى الاتحاد الأوروبي، مع خطة الميزانية البالغة 2.2 تريليون دولار، بما في ذلك مبلغ 750 مليار يورو مودعة في «صندوق الاتحاد الأوروبي للجيل القادم»، كما يتضمن برنامج الشراء الطارئ للوباء الموسع التابع للبنك المركزي الأوروبي التزاماً أكبر بمزيد من المرونة في شراء الأصول. وعند النظر في كل تلك العناصر مجتمعة، يمكن القول إن هذه المبادرات كانت ضرورية لتهدئة المخاوف في أسواق الديون السيادية حول محيط منطقة اليورو.
مع نشر اللقاحات في أنحاء القارة، يكون لدى الحكومات حافز أقوى لمواصلة سد الدخل حتى يتم التعافي من الوباء. فالنهاية تلوح في الأفق، وسيضمن اللقاح أن جزءاً من التدابير المالية غير المسبوقة سيثبت أنها مؤقتة بطبيعتها.
غالباً ما تدفع الحوافز المالية الجيدة التصميم تكاليفها، عن طريق تعزيز النشاط الاقتصادي على المدى الطويل. ومع ذلك، فإن مثل هذا الإنفاق العام يحتاج إلى التنفيذ الجيد، وهذا هو السبب في أن «برنامج الجيل القادم للاتحاد الأوروبي» يطلب من الحكومات تقديم «خطط انتعاش وطنية» تحدد كيف تنوي إنفاق هذه الأموال.
ويمكن للبنك المركزي الأوروبي أيضاً الضغط من أجل تنسيق أوثق بين السلطات النقدية والمالية من خلال مراجعة إطار السياسة الخاصة به، والتي تنتهي في النصف الثاني من هذا العام. من وجهة نظري، فإن الخطر الأكبر الذي يهدد استقلال البنك المركزي الأوروبي ليس ارتفاع مستويات الدين العام، بل حقيقة أن أوروبا لا تزال تفتقر إلى اتحاد مالي مكتمل. حتى الخطوة الإضافية نحو إنشاء اتحاد مكتمل ستكون موضع ترحيب. وبدون إحراز بعض التقدم في الاتحاد المالي، قد تستغرق الجراح الاقتصادية لأوروبا وقتاً أطول بكثير.

الغا بارتش

سباق السيارات الكهربائية

في عام 1996، بدأت جنرال موتورز إنتاج السيارات الكهربائية بشكل تجاري، بطموح الريادة في سوق السيارات الكهربائية. إلا أن هذا الإنتاج توقف في عام 1999، لتسحب الشركة سياراتها المبيعة والمؤجرة من السوق بحلول عام 2002. لم تكن محاولة عملاق السيارات الأميركي مشجعة، لأسباب منها أن السوق لم تكن جاهزة لاستقبال هذا النوع من السيارات، أو لأن السيارات نفسها لم تكن منافسة لمثيلاتها التقليدية. وبعد إقفال المشروع بسنة واحدة، وفي عام 2003، تأسست شركة تيسلا، الرائدة اليوم في عالم السيارات الكهربائية، ذات الحصة السوقية الأكبر من سوق السيارات الكهربائية في العالم، والتي يعد مالكها (إلون ماسك) أثرى أثرياء العالم اليوم.
صارت سوق السيارات الكهربائية مشجعة اليوم، ولربما بدا كذلك لسنوات قليلة ماضية، هذا التغير في السوق دفع بالتوجه العالمي للحفاظ على البيئة والتخلص من السيارات التقليدية المعتمدة على الوقود. كما زادت جديتها بعد أن اتضح أن دولا عدة بدأت في تبني محاربة السيارات التقليدية، ومنها بريطانيا التي يتوقع أن تصدر قرارا بمنع بيع السيارات المعتمدة على الوقود النفطي بحلول عام 2030.
ولذلك يلاحظ أن العديد من الشركات بدأت في الإعلان عن الاستثمار في السيارات الكهربائية، كان آخرها جنرال موتورز التي عادت مرة أخرى لفتح خط إنتاج السيارات الكهربائية بعد نحو عقدين من إغلاقه، وأعلنت الشركة في مارس (آذار) الماضي أنها ستستثمر نحو 20 مليار دولار في السيارات الكهربائية، لتزيد هذا الرقم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إلى 27 مليار دولار. ووقعت جنرال موتورز مع شركة كندية قبل أيام لفتح مصنع لسيارات النقل الكهربائية بعقد زاد على 780 مليون دولار، وهو ما يعني أن الشركة الأميركية دخلت هذه السوق بالفعل. وصرح مسؤول في الشركة أن جنرال موتورز لا تسعى لأن تكون شركة مصنعة للسيارات الكهربائية فحسب، بل تسعى لأن تكون الرائدة في هذا المجال، موضحا أنها تسعى لأن تطلع أكثر من 30 طرازا من السيارات الكهربائية بحلول عام 2025.
وسوق السيارات الكهربائية بدت جاذبة للغاية، لدرجة أن شركة «أبل» قد تستثمر في هذه السوق. وخلال السنوات الماضية، ظهرت إشاعات أن عملاق الهواتف الذكية بدأ في البحث في إمكانية إنتاج السيارات الكهربائية، إلا أن الأسابيع الماضية شهدت أحداثا أكدت هذه الإشاعات، فقد أعلنت شركة «هيونداي» الكورية – وهي الخامسة في مبيعات السيارات عالميا – عن بدء محادثات مع شركة أبل لبناء تحالف لتصنيع السيارات الكهربائية بحلول عام 2027، وهو ما رفع أسهم الشركة 20 في المائة خلال يوم واحد. وبدا من خلال هذا التحالف أن «هيونداي» سوف تتولى تصنيع السيارات والبطاريات، بينما تتولى أبل التمويل والدعم التقني لهذا المشروع الطموح. وتمتلك «أبل» احتياطيا ضخما من النقد يزيد على 200 مليار دولار، ولهذا المخزون قابلية للزيادة السنوية بنحو 70 مليار دولار. ومع أن أبل أعلنت أن هذا التحالف لن يتم بسبب تسريب «هيونداي» لهذه الأخبار، إلا أن اهتمام أبل بإنتاج هذه السيارات تأكد وبشكل كبير. هذا الاهتمام دعا المدير التنفيذي لـ«فولكس فاغن» الألمانية للتصريح بأن أكبر منتجي السيارات الكهربائية في عام 2030 سيكونان «أبل» و«تيسلا».
والمتأمل في سوق السيارات الكهربائية اليوم يلاحظ أمرين، أولهما أن الاستثمار فيها متزايد، وهذا الاستثمار يستهدف وبشكل رئيسي تذليل العقبات المرتبطة بالسيارات الكهربائية وخاصةً سعة البطاريات المستخدمة فيها. الأمر الآخر هو الهيمنة المنتظرة للشركات الأميركية على هذه الصناعة، فبعد أن سيطرت الشركات الأميركية على صناعة السيارات خلال معظم القرن الماضي، خسرت الشركات الأميركية حصتها السوقية إلى الشركات اليابانية والكورية والألمانية خلال العقدين الأخيرين. ولكن هذه السيطرة في طريقها للعودة مع التوجه نحو السيارات الكهربائية، فمن بين المنتجين والمهتمين بإنتاج السيارات الكهربائية، تظهر تيسلا في مقدمة هذه الشركات وبدون منافس حقيقي حالي، متنافسة مع شركات مثل نيسان وفولكس فاغن. إلا أن استثمارات الشركات الأميركية في هذه السيارات، وبقيادة أبل وجنرال موتورز وفورد وغيرها يجعل الكفة تميل نحو الولايات المتحدة.
قد لا تبدو فكرة السيارات الكهربائية منطقية اليوم، خاصةً مع الفروقات الكبيرة بينها وبين السيارات التقليدية والتي تعطي الأخيرة ميزات من ناحية الأداء. إلا أن العديد من الابتكارات لم تكن مناسبة ومريحة في بداياتها، ومنها السيارات التقليدية نفسها التي استمرت في التحسن حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم. والسيارات الكهربائية مدفوعة اليوم بالتوجهات البيئية، وحتى التوجهات السياسية، والتي لا تريد للنقل والخدمات اللوجيستية الاعتماد على المصادر النفطية. ولذلك فإن التطور السريع في السيارات الكهربائية متوقع وبشكل كبير خلال السنوات الخمس القادمة، وهيمنتها على أسواق السيارات غير مستغربة خلال العقدين القادمين.

د. عبدالله الردادي.

عن نشر اللقاح ودراهم الوقاية وقناطير العلاج

انتصر العلم الحديث فسبق أكثر التوقعات تفاؤلاً، وطور لقاحات عدة لمواجهة وباء كورونا في زمن وجيز. فما كان مقدراً له أن يستغرق ما لا يقل عن ثمانية عشر شهراً، تم إنجازه قبل أن تنتهي سنة الجائحة المشهودة بأسابيع.
ولم يكن غريباً أن تخرج هذه اللقاحات من معامل وأوساط علمية شهدت استثمارات ضخمة في عمليات البحث والتطوير المنظمة والموجهة لمهام محددة في الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا. ومما يميز هذه الاستثمارات سياسات المساندة لها، وعمل مؤسسي داعم للعلماء والباحثين، ومشاركات بين مراكز البحث العلمي والحكومات والشركات، وتعاون دولي فعال بين هذه الأطراف بما يشجع على استمرار هذه الجهود عالية الإثمار.
فتهديد الوباء ما زال مستمراً مع تزايد أعداد المصابين والضحايا، كما يشكل تحوره تهديداً جديداً لزيادة احتمال التعرض لمخاطره يستوجب إسهاماً مطرداً للعلم في مطاردته. وليحقق العلم وثماره نفعاً لعموم الناس يحتاج الأمر إلى نظم فاعلة وموارد كافية على النحو الذي أكد عليه تقرير مجلس متابعة الاستعدادات العالمية لمكافحة الأوبئة؛ وهو المجلس نفسه الذي حذَّر من الوباء قبل اندلاعه بشهور؛ انتفاعاً بخبرة التعامل مع أوبئة سابقة؛ ولم تؤخذ التحذيرات بجدية فصدق توقع التقرير بأن العالم حيال الأوبئة بين إهمال في الاستعدادات الواجبة قبلها، وهلع وارتباك بعد حدوثها. ونفهم من تقرير المجلس الأخير تحت عنوان «عالم مضطرب» خمسة دروس جاءت متناغمة مع توصيات تقريره السابق: أن على القيادة مسؤولية كبرى في ألا تجعل حماية حياة الناس في تعارض مع أسباب معيشتهم؛ وأن الاستعدادات الفاعلة ضد الأوبئة لا تقتصر على ما تقوم به الحكومات لحماية الناس، بل تعتمد على ما يقوم الناس لحماية بعضهم بعضاً؛ وأن أثر الأوبئة يتجاوز الأضرار الصحية إلى أبعاد اجتماعية واقتصادية تنوء بأثقالها الفئات الأشد فقراً وعرضة للمخاطر؛ وأن ما بُذل من جهد في التوقي من الجائحة لم يكن كافياً بالاعتبارات الصحية والاجتماعية أو بما يكفي الاستجابة الملائمة؛ وأن العائد على الاستثمار في تأمين النظام الصحي عالمياً شديد الارتفاع.
وتأتي تقديرات العائد على الاستثمار في نظم الوقاية على ما يجري به المثل العربي الشائع بأن «درهم وقاية خير من قنطار علاج»، فما خسره العالم بسبب الجائحة كان كافياً للإنفاق على التوقي منها لفترة لا تقل عن 500 سنة، هكذا باعتبار أن تكلفة التصدي للجائحة تجاوزت 11 تريليون دولار حتى إعداد التقرير المذكور، يضاف إليها 10 تريليونات أخرى من الإيرادات المفقودة بسبب الوباء؛ في حين أن تكلفة الاستعدادات الوقائية لم تكن لتتجاوز 5 دولارات للشخص الواحد سنوياً وبإجمالي 39 مليار دولار سنوياً لسكان العالم. ويبدو أن دروس الجائحة لم تترسخ بعد؛ إذ تواجه آلية «كوفاكس» التابعة لمنظمة الصحة العالمية، والتي تستهدف إتاحة اللقاحات في الدول النامية، عجزاً بلغ 85 في المائة من إجمالي تمويلها البالغ 38 مليار دولار منذ تأسيسها العام الماضي.
بجانب علاج معضلة التمويل من المهم التأكيد أيضاً على أن الاستعدادات العالمية المطلوبة للتوقي من الوباء والتعامل معه ليست مجرد حاصل جمع لمبادرات فردية هنا وصفقات هناك؛ فالتعامل مع الوباء كصدمة عالمية ينبغي التعامل معه بمنظومة واحدة متكاملة. فالمنظومة الصحية تقاس قوتها بمدى صلابة أضعف حلقاتها، ومن الأخطاء الفادحة مجرد الظن بأن مشكلة العالم مع الوباء ستنتهي إذا ما تحصن القادرون فيه بلقاحات وتدابير مانعة من الاختلاط بغيرهم. فالدافع لتوفير اللقاح للكافة، بما في ذلك الفقراء في الدول الأقل دخلاً، يحتمه مفهوم الحفاظ على المصلحة الشخصية، هذا إذا لم يكن كافياً دوافع وقيم أولى بالاتباع بالتراحم والتضامن في مواجهة أعتى أزمة إنسانية واجتماعية واقتصادية تواجه البشرية في العصر الحديث. وهذا النهج البسيط للتضامن الدولي، والذي لا يغيب عن المفهوم العام بالضرورة، تعوق تطبيقه ممارسات، كتسييس اللقاحات وفقاً لبلد المنشأ أو البلد المستفيد، أو المبالغة في حجز لقاحات بما يتجاوز الاحتياجات الفعلية في الدول القادرة على تدبير التمويل اللازم، أو التراخي في مساندة الدول الأكثر فقراً.
لتيسير مواجهة الجائحة في الدول النامية، بما في ذلك الدول العربية والأفريقية، ينبغي منع تقويض جهود التصدي والاستجابة لتداعياتها الصحية والاجتماعية والتعافي من آثارها الاقتصادية. ومن سبل المنع أن يُحال بين هذه الدول والوقوع في أزمات في السيولة بسبب تراجع النمو، وما تعرضت له الاقتصادات من انكماش، أو الدخول في أزمة مديونية، خاصة في ظل تصاعد بوادر لما يعرف بالموجة الرابعة لتراكم الديون التي تأتي في أعقاب موجات ثلاث على مدار العقود الخمسة الماضية، انتهت بأزمتين في دول نامية، ثم الأزمة المالية العالمية في عام 2008 التي جاءت في أعقاب الموجة الثالثة. وقد تزايدت المخاوف من الموجة الرابعة للديون بعدما ارتفعت القروض بمقدار 7 في المائة سنوياً قبل الوباء، وتزايدت بعدها إلى نحو 9 في المائة، وفقاً لتقرير أخير للبنك الدولي.
لقد أتت الجائحة والعالم العربي، باستثناءات محدودة، يعاني من عقد مفقود للتنمية بسبب تدني معدلات النمو وتراجع الاستثمارات العامة والخاصة والتصدير، فضلاً عن معاناة عدد من الدول العربية من صراعات واضطرابات داخلية، بما جعل هذا الإقليم الوحيد بين الأقاليم كافة في العالم التي تتزايد فيها نسبة الفقر المدقع. تعرضت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم أغلب البلدان العربية لانكماش اقتصادي بحدود 5 في المائة في العام الماضي لن يعوضه نمو محدود يقدر بنحو 2 في المائة في العام الحالي بما يستوجب ضبط أولويات الإنفاق العام لمساندة التصدي للجائحة وتدعيم نظم الضمان الاجتماعي، والدفع باستثمارات عامة حيوية تجذب وتمهد الطريق لاستثمارات خاصة محلية وأجنبية تفتح مجالات للتشغيل.
إذا كان من شأن استثمارات عامة في دول متقدمة وأسواق ناشئة بمقدار 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي أن تزيد الاستثمارات الخاصة بنحو 10 في المائة بما يزيد من النمو وفرص العمل، فإن تقديرات مماثلة للعلاقة الإيجابية ينبغي إجراؤها لتوجيه الاستثمارات العامة بما يحفز النشاط الاقتصادي في فترة ما زال الاقتصاد العالمي يعاني فيها من ركود يُخشى تحوله إلى كساد مع استمرار انحسار الطلب في ظل تبعات الجائحة. ومن المجالات ذات الأثر الإيجابي على عموم الناس والاقتصاد الاستثمارات المستدامة المتوافقة مع البيئة وتغيرات المناخ والاستثمارات الذكية التي تدفع بالتنافسية في العصر الرقمي. مثل هذه الاستثمارات الحيوية هي للاقتصاد ومستقبله كما الدراهم المذكورة في شأن الوقاية التي تغني عن قناطير العلاج.

د. محمود محي الدين.

هل كان 2020 عاماً سيئاً لصناعة النفط؟

لو أن هناك عاماً بحاجة إلى أن يتبع المرء إزاءه توجه «نصف الكوب المليء»، فإنه بالتأكيد 2020 – هكذا أخبرني مسؤول تنفيذي بمجال النفط خلال محادثة دارت بيننا في وقت قريب. وبطبيعة الحال، تطرق الحديث إلى الوباء وصناعة النفط. وأعرب المسؤول عن اعتقاده بأنه رغم الارتباك الذي أحدثه الوباء، فإننا مع ذلك استهلكنا 90 مليون برميل يومياً – فكيف إذن نعت ذلك بأسوأ تراجع في الطلب على النفط على الإطلاق؟
وأبدى المسؤول أسباباً وجيهة تدعوه للتفاؤل، على رأسها أنه في أعقاب الانهيار المفاجئ الذي وقع في الربيع، ينهي النفط العام بنشاط متجدد. وعاود خام «برنت» لما يزيد على 50 دولاراً للبرميل، بجانب نجاح أسهم الطاقة، التي عانت من انكماش شديد جعلها أصغر القطاعات في مؤشر «ستاندرد آند بورز 500»، في تسلق طريقها من جديد نحو الأعلى.
من جانبها، تقدر منظمة «أوبك» أن متوسط الطلب بلغ ما يقل قليلاً عن 90 مليون برميل يومياً هذا العام، بانخفاض قدره 9.8 مليون برميل يومياً عن 2019. على الجانب الآخر، بالنظر إلى أن متوسط السعر يبلغ 42 دولاراً، فإن هذا يعني عائداً اسمياً بقيمة 1.4 تريليون دولار فقط لقطاع المنبع فقط. بالتأكيد هذا ليس أداءً سيئاً لعام ضرب العالم خلاله وباء. ونظراً لأن هذا التراجع تسببت فيه حالة الإغلاق، تحمل الغازولين ووقود الطائرات العبء الأكبر.
وكانت هذه تحديداً وجهة المسؤول التنفيذي الذي تحدثت إليه، وهي أن 10 في المائة من الطلب على الوقود تتعلق بصورة أساسية بالسفر جواً لرؤية أفراد الأسرة وقيادة السيارة إلى المتجر أكثر عن الضروري. إلا أن الـ90 في المائة المتبقية مرتبطة باحتياجات ضرورية لا يمكن لشيء إيقافها – بمعنى انتقالات لا يمكنك تجنبها وصناعات بلاستيكية وما إلى غير ذلك. وعندما يجري احتواء فيروس «كوفيد – 19»، ستعاود الـ10 في المائة الإضافية للظهور بقوة.
وأعتقد أن هذه الصيغة القائمة على 10/90 تبدو مفيدة في النظر إلى ما تحمله لنا الفترة المقبلة.
ويمكنك النظر إلى الـ10 في المائة باعتبارها تجارة قصيرة الأجل. والمؤكد أن الطلب سيقفز من جديد العام المقبل، لكن ليس على نحو كامل، ذلك أن «أوبك» تتوقع عودة 60 في المائة فقط من الطلب المفقود خلال عام 2020 في عام 2021. ويعني ذلك 5.9 مليون برميل يومياً. ومع استمرار مجموعة «أوبك+» حجب براميل خارج السوق وتراجع الاستثمار في الإمدادات الجديدة على نحو بالغ، تبدو الساحة مهيأة لارتفاع الأسعار.
في تلك الأثناء، فإن استمرار سياسات التيسير النقدي والمحفزات المالية (المتوقعة) من شأنها تأجيج التضخم. ومن شأن ذلك دفع المال نحو المواد الخام – جدير بالذكر هنا أن «مؤشر بلومبرغ للسلع» وصل لتوه إلى أعلى مستوى له منذ ست سنوات.
وينبغي الانتباه هنا إلى أنه في الوقت الذي يبدو فيه التعافي في الطلب على النفط حقيقياً، فإنه يبقى بمثابة هدف متحرك داخل سوق عادة ما تشهد كثيراً من التقلبات. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه العقود الآجلة للنفط الخام، تظل المؤشرات المادية مثل هوامش التكرير منخفضة في هذا الوقت من العام. فيما يتعلق بإمدادات النفط الخام، تتعرض «أوبك+» لضغوط متزايدة، وهو أمر لا يثير الدهشة: فبعد أربع سنوات من ظهورها لأول مرة، ظل سعر النفط كما هو دونما تغيير، وينتج الأعضاء أعداداً أقل من البراميل.
فيما يتعلق بالتضخم، فإننا جميعاً نعلم أن الماء السهل يطلق العنان في مرحلة ما للبعبع القديم: التضخم. إلا أن التساؤل الذي لا يزال قائماً: هل سنصل إلى هذه النقطة في أعقاب الوباء مباشرة، خصوصاً بالنسبة لسوق النفط، حيث تصل الطاقة الفائضة إلى 8 ملايين برميل في اليوم؟ في الواقع، من المحتمل أن يسبب التحفيز المالي موجة من التضخم، لكن الانهيار التشريعي لمشروع قانون المساعدات الأخير لا يعزز الثقة فيما هو آتٍ.
هنا، تبدو سياسة أن تعمل الشركات على معاونة نفسها بنفسها أكثر منطقية ورشداً، وإن كانت لا تزال قيد التجربة. ولا يعني ما سبق أن نسبة الـ10 في المائة محكوم عليها بالفشل، وإنما المقصود أن الامر قد ينطوي على صعوبات وتقلبات أكبر عن الزيادة التي شهدها الشهر الماضي. على أي حال، فإنَّ جزء الـ90 في المائة من وجهة النظر العالمية هو ما ينطوي على الأهمية الحقيقية، وهو يتعلق بالاستثمار والشراء والاحتفاظ بدلاً عن التجارة قصيرة الأجل. ويعتمد هذا الجزء على حقيقة أساسية: أن النفط متأصل بعمق في مجتمعنا وسلوكنا اليومي.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه خلال الصيف، فوجئت بمدى السرعة التي تحولت بها الطرق في منطقتي من فارغة بشكل مخيف، إلى شيء يقترب من الحالة الطبيعية قبل جائحة فيروس «كوفيد – 19».
في المقابل، يرى البعض أن رقم 90 مليون برميل يومياً لا يكشف حقيقة الضرر الفعلي الذي ألحقه فيروس «كوفيد – 19» بالقطاع النفطي. جدير بالذكر هنا أنه في أبريل (نيسان)، عندما كانت الشوارع فارغة في الوقت الذي تعج فيه أجنحة المستشفيات بالحركة بمختلف المدن في أرجاء العالم، انخفض الطلب بأكثر عن 20 مليون برميل يومياً.
في الواقع، إن أسلوب إنفاق الدولارات التحفيزية خلال عام 2021 أمر بالغ الأهمية، ليس فقط فيما يتعلق بتجارة النفط على المدى القصير، وإنما كذلك لمستقبل الـ90 مليون برميل يومياً سالفة الذكر.
وربما يأمل البعض من كبار المعنيين بسوق النفط في أن يحرز الجمهوريون انتصارات انتخابية في جورجيا في الخامس من يناير (كانون الثاني)، وذلك سعياً لإحباط الأهداف المرتبطة بحماية البيئة في أجندة الرئيس المنتخب جو بايدن. ومع هذا، فإنه يتعين على هؤلاء الانتباه لحقيقة أن وجود مجلس شيوخ منقسم على ذاته سيضر بجهود تحقيق انتعاش اقتصادي.
والأهم من ذلك السياق العام ذاته، ذلك أننا اليوم نمر بثاني أزمة منذ ما يقرب من عقد من الزمان التي عززت دور الحكومة كجهة فاعلة اقتصادياً – ويحمل هذا تداعيات فيما يخص إلى أي مدى سترسم الأسواق ملامح السياسة الوطنية تجاه المناخ. وتكمن النقطة الأساسية هنا ليس في أن «الاتفاق الأخضر الجديد» لن يتم تفعيله، وإنما في مسألة طرحه من الأساس – فقد نجح ذلك في دفع النقاش العام الدائر بالبلاد نحو تصور تتدخل الحكومة في إطاره في الاقتصاد بدرجة أكبر. على هذه الجبهة، يمكن أن يكون انتصار بايدن الذي ينتمي إلى حد ما لتيار الوسط مفيداً لصناعة النفط.

ليام دانينغ

استثمار القيمة واستثمار النمو

يدخل المستثمرون إلى أسواق الأسهم بهدف واحد، وهو الربح سواء على المدى القصير أو الطويل، ولتحقيق ذلك يتبع المستثمرون طرقاً ومدارس وفلسفات متعددة، بحسب طبيعة السوق والظروف الزمنية والاقتصادية وحتى ثقافة السوق. ولعل أشهر فلسفتين للاستثمار هما: استثمار القيمة واستثمار النمو. ولكل من هذه المدرستين قصص نجاح واقعية لكبار المستثمرين والشركات حول العالم.
ويعرّف استثمار القيمة بأنه الاستثمار في الشركات التي يقيّمها السوق بأقل من قيمتها الحقيقية، وتكون ذات قابلية للارتفاع في المستقبل. أي أن المستثمر يشتري سهماً يعتقد أن قيمته العادلة أعلى من قيمة السوق، ليبيعه مستقبلاً بسعر مرتفع. وتعد هذه الفلسفة من أقدم المدارس في الاستثمار، وتعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. وتقاس قيمة الأسهم بعدة مؤشرات، منها حساب سعر السوق نسبة إلى القيمة الدفترية للشركة، ونسبة الأرباح إلى العوائد، أو مكرر الأرباح للشركة، وغيرها من طرق التقييم التي يتبعها المستثمرون وعادة ما تكون متاحة للعامة في المواقع المهتمة بالأسهم. وقد تنخفض أسهم الشركات لأسباب عدة، فتدخل حينها في نطاق الشركات منخفضة السعر، إلا أن المهم ألا يكون هذا الانخفاض بسبب ضعف أداء الشركة، أو عدم وضوح مستقبل القطاع أو غيره. ولذلك من المهم الاطلاع على معلومات أخرى غير المؤشرات الرقمية للأسواق. وقد يكون هذا الانخفاض بسبب مشاكل وقتية، مثل تأثر سوق الأسهم بحالة أسواق الأسهم العالمية، أو أحداث سياسية عابرة، أو غيرها. ويعد «وارن بافيت» أحد أشهر المستثمرين المتبعين لهذه الفلسفة، وهو تلميذ لبنجامين جراهام المسمى بـ«أبو استثمار القيمة»، والمؤلف للكتاب الشهير «المستثمر الذكي» في منتصف القرن الماضي.
أما استثمار النمو، فهو الاستثمار في مستقبل الشركات، وهو أن يبحث المستثمر عن شركات لها مستقبل واعد، حتى وإن لم تكن الشركات في الوقت الحالي شركات رابحة، أو شركات توزع أرباحاً سنوية، ولكنها شركات يُعتقد أن قيمتها تزداد مع الزمن وذلك للأهمية المستقبلية لنشاطاتها، ويتوقع كذلك أن تتفوق هذه الشركة على أقرانها في المستقبل. وكثيراً ما تكون هذه الشركات تقنية، والفارق بينها وبين استثمار القيمة، كالفارق بين من يستثمر في قطاع البنوك، ومن يستثمر في قطاع التقنية المالية (فنتيك). فالمستثمر في البنوك هو مستثمر للقيمة، فالبنوك شركات قائمة ورابحة في الوقت الحالي وتوزع أرباحاً بشكل مستمر وشبه ثابت، والاستثمار فيها عند انخفاض سعرها هو حالة نموذجية من استثمار القيمة. وفي المقابل فإن الاستثمار في شركات التقنيات المالية هو استثمار نمو، ذلك أن معظم شركات التقنيات المالية هي شركات نامية لم تصل حتى الآن إلى مرحلة توزع فيها أرباحاً، إلا أن الواضح من الأوضاع الحالية أنها شركات سوف تتحكم بحصة كبيرة من القطاع المالي في المستقبل. والأمثلة على هذه الشركات متعددة، ولعل أقربها هي الشركات التقنية الأميركية، حيث سبب نمو شركة مايكروسوفت زيادة سعر أسهمها أكثر من 10 أضعاف خلال العقد الأخير، وينطبق ذات الأمر على شركة «تيسلا» التي زادت خلال السنوات الثلاث الأخيرة من 40 دولاراً إلى أكثر من 500 دولار في الأشهر الأخيرة.
وفي كلتا المدرستين، فإن المستثمر يريد الشراء بسعر منخفض، والبيع مستقبلاً بسعر مرتفع. والحديث هنا عن المستثمر على المدى المتوسط أو الطويل، أما المضاربون في الأسهم فغالباً لا تنطبق هذه المدارس عليهم، فلا يتوقع من مضارب على المدى القصير أن يراقب مستقبل شركة تقنية وهو يتوقع أن يبيع أسهمه بعد فترة قصيرة. ويزيد معدل الخطر في استثمار النمو، وبالتالي فإن العوائد المحتملة لهذا النوع تكون أكبر من استثمار القيمة. ويمكن معرفة استثمارات النمو من خلال معرفة الخطط المستقبلية للشركات بمتابعة إعلاناتها وتقاريرها السنوية، كذلك بدراسة سلوك إدارة الشركات خلال السنوات الأخيرة وطموحاتها التوسعية.
إن المستثمر الذكي فعلاً هو من لا يضع البيض في سلة واحدة. وكما أن دخول سوق الأسهم من خلال الاستثمار في شركة واحدة فقط هو استثمار عالي الخطورة، فإن اتباع طريقة واحدة في الاستثمار خطيرة كذلك. ولذلك فإن التنويع في المحفظة الاستثمارية مهم للغاية، والتنويع يكون في اختلاف القطاعات وأحجام الشركات، وكذلك في فلسفة الاستثمار. فتوزع المحفظة بين شركات موزعة للأرباح ذات سعر منخفض، وشركات يتوقع لها مستقبل في السنوات القادمة. ولا توجد طريقة مفضلة على أخرى في الاستثمار، فحتى وقت قريب، أوضحت الدراسات أن المستثمرين في النمو حققوا مكاسب أعلى خلال العشر سنوات الأخيرة. إلا أن استثمار القيمة حقق نتائج أفضل خلال الأشهر الأخيرة فيما بعد الجائحة، خاصة مع تشاؤم الكثير من المستثمرين وتوجههم للشركات الكبيرة التي توزع أرباحاً بشكل مستمر والتي انخفضت أسعارها بسبب الجائحة. وحتى هذه اللحظة، فلا يوجد إثبات علمي يبرر الانحياز لفلسفة دون الأخرى.

الاقتصاد والثروة البشرية

يعد رأس المال البشري أحد عناصر الإنتاج الأربعة، برفقة الأرض ورأس المال وإدارة الأعمال. وخلال العقود الأخيرة بدأ رأس المال البشري يكتسب أهمية أكبر في الإنتاج بشكل خاص وفي الاقتصاد بشكل عام. ومعرفة تأثير هذا العنصر مهم للغاية لأثره المباشر في النمو الاقتصادي، ولأن الشواهد تظهر أن دولاً تقدمت اقتصادياً بسبب تطور رأس مالها البشري، بينما لم تستثمر دول أخرى كثافتها السكانية من الناحية الاقتصادية، بل على العكس شكلت هذه الكثافة عبئاً اقتصادياً عليها.
وتعرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية رأس المال البشري بـ«المعارف والمهارات والكفاءات وما يتصف به الأشخاص ويمكن من خلاله خلق الرفاه الشخصي والاجتماعي والاقتصادي». ويلاحظ من خلال هذا التعريف أن عدد السكان ليس العامل الجوهري في رأس المال البشري، ولعل أوضح مثال على ذلك ما تعاني منه الهند اليوم، وهي الدولة ذات المليار وثلاثمائة مليون نسمة. فالهند هي إحدى أكثر الدول تقدماً في الخدمات المعلوماتية، ويبلغ عدد العاملين في قطاع تقنية المعلومات بالهند أكثر من 20 مليون موظف، ومع ذلك فلا يزال نقص رأس المال البشري في الهند عاملاً مؤثراً في نمو هذا القطاع.
ومع التوجه نحو الاقتصاد المعرفي، تزيد أهمية العنصر البشري في النمو الاقتصادي، حتى أصبحت مؤشرات رأس المال البشري أحد المقاييس الاقتصادية لتقييم الدول. ويمكن قياس هذا العنصر بعدد من المؤشرات التي تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يعنى بالتعليم، مثل عدد سنوات التعليم، ونسبة الأميّة، وجودة التعليم، ومتوسط سنوات الخبرة لدى العاملين. أما القسم الثاني فيعنى بالصحة، مثل الوعي الصحي، والتغذية ومتوسط الأعمار، وغيرها. والواقع أن تقييم رأس المال البشري (المؤثر بالاقتصاد الوطني) من خلال الصحة والتعليم هو أمر مثير للاهتمام، فلطالما اعتبر الكثيرون أن هذين القطاعين يستنزفان ميزانيات الدول، بينما تظهر الدراسات أن النمو الاقتصادي من خلال رأس المال البشري يتأثر وبشكل مباشر من مهارات العاملين (التعليم) ومن قدرتهم على العمل (الصحة).
وفي عصر يلعب فيه الابتكار دوراً مفصليّاً في الاقتصاد، يأتي هذا الابتكار من العقول المفكرة التي تستند بشكل رئيسي على جودة التعليم. وتشير الدراسات إلى أن النمو الاقتصادي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجودة التعليم. كما تشير الدراسات إلى أن اعتماد النظام الدراسي الحالي في دول العالم كان له أثر كبير في النمو الاقتصادي الحالي، ودللت على ذلك بدول مثل كوريا الجنوبية التي يبلغ معدل نموها الاقتصادي السنوي نحو 7.4 في المائة منذ السبعينات الميلادية حتى 2015، وهو معدل ضخم مقارنة بدولة ليست بغنى غيرها من ناحية الموارد الطبيعية، ولا تنافس الدول المجاورة لها بضخامة عدد السكان.
ولذلك فإن الدول تتفاوت فيما بينها في مدى ثرائها برأس المال البشري، وغالباً ما يقترن مستوى هذا الثراء بالحالة الاقتصادية للدولة، ويمكن القول إن العلاقة بين رأس المال البشري والناتج القومي هي علاقة سببية، فقد تكون الدولة فقيرة بسبب ضعف جودة التعليم فيها، وقد تكون جودة التعليم منخفضة بسبب فقر الدولة. إلا أن المؤكد أن نهوض الدول اقتصادياً لا يكون إلا بنضوج رأس مالها البشري.
ويشكل العنصر البشري رافداً مهماً للاستثمارات، فأول ما تنظر له الشركات قبل إقبالها على الاستثمار في دولة ما، هو مدى توفر المهارات والكفاءات، فإن توفرت هذه الكفاءات كانت الفائدة للطرفين (الدولة المستثمر فيها والشركة)، وقد لا تستثمر الشركة إن لم تجد الكفاءات اللازمة لها، حتى وإن استثمرت، فقد تكون هي الرابح الوحيد من الاستثمار في دولة لم تستفد إلا من الوجود المكاني للشركة في أراضيها، دون تشغيل لمواطنيها أو تخفيض لمستويات البطالة. ولذلك يلاحظ على كثير من الدول الآسيوية التفاتها إلى تطوير مواردها البشرية لاجتذاب الشركات الأجنبية، ولا يقف الأمر على انخفاض تكلفة اليد العاملة فحسب، وإلا فإن أواسط أفريقيا قد تكون خياراً مناسباً بدلاً عن آسيا.
وحين بحثت الشركات الأميركية عن بدائل للصين خلال الحرب الاقتصادية في السنوات القليلة الماضية، لم تخرج ببديل يملك الميزات نفسها التي تملكها الصين، على الرغم من أن اليد العاملة دول محيطة مثل فيتنام أقل تكلفة من الصين. ولكن امتلاك المعارف والمهارات هو ما تميزت فيه الصين عن غيرها، ويمكن القول إن هذه المهارات هي ما تتميز به الصين عن بقية دول العالم، بل إن إنجاز الصين الأكبر خلال العقود الأخيرة كان تحويل عائقها الأكبر وهو كثرة السكان، إلا ميزة تنافسية لا تستطيع دولة في العالم مجاراتها فيها، أما النمو الاقتصادي فلم يكن إلا نتيجة لهذا التحوّل.

د. عبدالله الردادي.

النفط والطاقات البديلة

ارتكز الاقتصاد العالمي في القرن العشرين على النفط، وكان الاهتمام السياسي والاقتصادي مرتبطا بكميات النفط المتوافرة وسعر البرميل.  كلما تأزم الانتاج النفطي لأي سبب، تأزم الاقتصاد العالمي وتوجه الناس الى الشارع للاحتجاج والمطالبة بالحلول.  تغير العالم كثيرا في القرن الواحد والعشرين ولم يعد النفط مهما كما في السابق.  أتت الكوروونا لتضيف الى الموضوع أي لتخفض الطلب على النفط وبالتالي تخفض الأسعار مما أحدث خللا كبيرا في ميزانيات الدول المنتجة واضطرارها لتسريع التنويع الانتاجي حماية للمستقبل. فرضت الكورونا على المواطنين العمل من المنزل أي عدم استهلاك النفط للانتقال أو السفر. العمل من المنزل يظهر أنه رفع انتاجية العمل، وبالتالي لن تعود طرق العمل الى ما كانت عليه قبل الكورونا.

تقوم الأمم المتحدة عبر مؤسساتها بجهد كبير لتخفيف التلوث البيئي وتحقيق التنمية النظيفة أو المستدامة.  تهتم الأمم المتحدة بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية للمواضيع البيئية كالفقر والصحة. تهتم بالموارد الطبيعية والحفاظ على استمراريتها للتنمية ولنوعية الحياة كالغابات والمحيطات والبحور. تهتم بتقوية دور المجموعات المهتمة بالبيئة كالنساء والشباب والأعمال.  تهتم أيضا بكيفية تنفيذ هذه الاصلاحات كي لا تكون حبرا على ورق أي التمويل والتكونولوجيا والتعليم والتدريب كما القوانين والوعي الشعبي لأهمية البيئة وتأثيرها. في الحقيقة ما زال العالم ينفق على استهلاك الكماليات أكثر بكثير من انفاقه على ضروريات الحياة والمستقبل.

تضرر كثيرا قطاعا السيارات والنقل الجوي كما تتعثر السياحة العالمية بسبب الكورونا وبالتالي ينهار الاستهلاك النفطي. من الصعب توقع عودة النفط الى أهميته السابقة لأن فترة السماح الحالية تعطي العالم المنتج فرصة لتطوير الطاقات البديلة وهذا ما يحدث.  يؤكد مستوى أسعار أسهم الشركات المنتجة للنفط مقارنة بأسعار الشركات المنتجة للطاقات البديلة على هذا التغيير الكبير في مصادر الطاقة.  الأولى تنخفض والثانية ترتفع.

تراجع الاقتصاد العالمي واستمرار الفوائد منخفضة الى حدود الصفر سمح للشركات المنتجة بالاقتراض لتطوير الطاقات البديلة.  ينتقل العالم بسرعة من الطاقات الملوثة الى الأخرى النظيفة، أي يطور البنية التحتية الخضراء كما لم يحصل سابقا.  استمرار الفوائد منخفضة كما ضخ النقد والمال من قبل الدولة لتخفيف الأوجاع سمحا للمواطن أيضا بالاقتراض لتوسيع المنزل أو للانتقال الى منازل أكبر لأن العمل من المنزل أصبح النظام المعتمد.  هذا رفع أسعار المنازل في عز زمن الكورونا.

يتنبه العالم أكثر فأكثر الى محاربة التلوث البيئي الآتي من مصادر مختلفة.  أصبح العالم واعياً للضرر الذي يحدثه تلوث البيئة على الصحة والنمو بل على نوعية الحياة. لم يأتِ التلوث فقط من الصناعات المختلفة، بل أتى أيضا من اهمال المواطنين في استهلاكهم. أتى من عدم اهتمامهم بكميات ونوعيات وفرز النفايات التي تصدر عنهم مما يؤثر سلبا على النظافة البيئية ويلوث ركائز الحياة من هواء وماء وأرض.  يعي العالم اليوم أنه لا يمكن الاستمرار بتلويث البيئة وبالتالي يجب معالجة الأسباب والمصادر بطريقة جدية ومستدامة.

في حملته الانتخابية، وعد الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بانفاق ألفي مليار دولار على تنظيف البيئة الأميركية، أي عمليا العودة الى اتفاقية باريس للمناخ التي أخرجها منها الرئيس ترامب.  ستنفق الوحدة الأوروبية 30% من برنامجها الانقاذي المقدر بـ880 مليار دولار على المناخ والسياسات الكفيلة بالتنظيف البيئي.  الحقيقة أنه لا رجوع الى الوراء فيما يخص البيئة بالرغم من الانتكاسات الزمنية القليلة المحدودة.  هنالك نوع من الاجماع العالمي على أن القرن الواحد والعشرين سيكون أنظف بيئيا وأفضل لصحة الانسان، مما ينعكس ايجابا على الاستقرارين السياسي والاقتصادي.  هذا يعني ان حصة الطاقات النظيفة من المجموع العالمي سترتفع من 5% حاليا الى 25% في سنة 2035 والى 50% في سنة 2050 تبعا لوكالة الطاقة العالمية.

ستكون الدول المستوردة للنفط المستفيدة الأولى من هذا الانتقال الكبير وفي طليعتها الصين التي تلوث كثيرا لكنها مهتمة بتغيير عاداتها والتحول أكثر الى النظافة في الاستهلاك والانتاج.  يقول الرئيس شي أن الصين ستتوقف عن الاساءة الى البيئة بدءاً من سنة 2060 وبالتالي لن تضيف بعدها الى حجم الكاربون العالمي.

من أهم أسباب التلوث هي نوعية الطاقة التي نستهلكها في حياتنا والتي في معظمها تصدر الغازات الفحمية المؤثرة سلبا على تنفس الانسان وحياته وعمره المرتقب.  يحاول العالم الانتقال بهدؤ من الطاقة الملوثة الى الأخرى النظيفة من شمس وهواء ومياه وغيرها علما ان العالم لا يستطيع الاستغناء كليا عن أي نوع من الطاقات المستعملة حاليا بما فيها الطاقة النووية.  ينجح العالم في هذا الانتقال الذي بدأ لكنه يواجه تحديات كبيرة للاستمرار والنجاح:

أولا: ارتفاع تكلفة الطاقات النظيفة البديلة وخاصة الانتاج الكهربائي والتسعيرة المطلوبة من المواطنين.  حاليا يستعمل العالم أكثر فأكثر السيارات الكهربائية أو الأخرى العجينة، لكن معظم الدول النامية لا يملك الكهرباء الكافية للانتقال الكلي الى السيارات الكهربائية بالاضافة الى أن أسعارها ما زالت فوق قدرة المواطن العادي.  تكلفة الانتاج الكهربائي غير المدعومة ما زالت مرتفعة مما يشير الى أن تكنولوجيا الانتاج الكهربائي ما زالت غير متطورة ومكلفة وبالتالي يحتاج العالم الى تكنولوجيات حديثة تخفض التكلفة الحقيقية.

ثانيا:  هنالك دول طبقت الضريبة على الكربون لدفع المواطنين الى استعمال مصادر أخرى للطاقة أي عمليا الكهرباء النظيفة.  هذه الضريبة صعبة التطبيق بالاضافة الى أن مواطني الدول النامية عاجزون عن دفع ضرائب اضافية حتى لو كانت مبررة.  هنالك في نفس الوقت ضرورة للانتقال الى الطاقات النظيفة في التدفئة والنقل وخاصة في الزراعة التي هي أساس الحياة النوعية.  في الاحصائيات الحديثة وفي الولايات المتحدة مثلا، نسبة الكهرباء المنتجة من الفحم تدنت من 50% في سنة 2005 الى 21% اليوم.  في بريطانيا، تدنت النسبة نفسها من 30% في سنة 2014 الى 5% في سنة 2018 وهذا لا شك تقدم هائل في التكنولوجيا وحسن الاستعمال.

أخيرا تواجه الدول العربية العدو الكوروني بكافة الطرق والوسائل المتاحة.  هنلك دول تنجح بفضل السياسات والقدرات المالية وأخرى تتعثر بسبب المال وعدم احترام المواطنين للتوجيهات العامة.  القدرات المالية للدول العربية حتى النفطية متعثرة عموما اليوم، لكن لا يمكنها اهمال الخطر الصحي وضرورة الاقفال مع احترام القدرات المعيشية للمواطن.  التحديات التي نواجهها عربيا أتت في وقت لسنا فيه أقوياء وبالتالي ترشيد استعمال القدرات المالية والانسانية والطبية وغيرها هو في أقصى درجات الأهمية.

د. لويس حبيقة.

اقتصاديات المدن

في عالمنا اليوم، يعيش أكثر من 55 في المائة من البشر في المدن، أي نحو 4.2 مليار إنسان، هذه النسبة لم تكن تزيد على 36 في المائة في عام 1970. ويتوقع أن تزيد بحلول عام 2050 لتصل إلى نحو 66 في المائة. لهذه الزيادة في عدد السكان أسباب متعددة، ولها نتائج أيضاً، وفيما تسعى بعض الدول لزيادة عدد سكان المدن، يسعى البعض الآخر إلى العكس. وأدت زيادة السكان في المدن إلى تحول بعض المدن إلى أشبه بالدول من ناحية عدد السكان والناتج القومي والتأثير الاجتماعي والاقتصادي.
فعلى سبيل المثال، يبلغ الناتج القومي لمدينة نيويورك نحو 1.8 تريليون دولار، وهو أكثر من الناتج القومي لكندا بأكملها. كما يبلغ الناتج القومي للوس أنجليس تريليون دولار، وهو يساوي الناتج القومي لماليزيا. وتشكل العديد من مدن العالم أهمية اقتصادية لدولها بعدد سكانها المرتفع ومساهمتها في الناتج القومي، فعلى سبيل المثال، تشكل نسبة سكان مدينة ساو باولو نحو 11 في المائة من سكان البرازيل، بينما تبلغ نسبة مساهمتها في الناتج القومي البرازيلي 20 في المائة. وفي شنغهاي الصينية يعيش 1.2 في المائة من سكان الصين، يساهمون بـ2.9 في المائة من الناتج القومي الصيني. وفي الهند، يعيش 2 في المائة من السكان في مدينة مومباي، تشكل مساهمتهم 6.3 من الناتج القومي الهندي.
ولهذه الأرقام دلالات عدة، منها أن التجمّع السكاني في منطقة واحدة يزيد من الإنتاجية، فعدد سكان نيويورك لا يزيد على 9 ملايين نسمة، ولكن ناتجها القومي يزيد على كندا ذات الـ38 مليون نسمة. وكذلك حول الحال للوس أنجليس ذات الأربعة ملايين نسمة، والتي تتفوق بناتجها القومي على ماليزيا ذات الـ32 مليون نسمة. وزيادة سكان المدن ترتبط ارتباطاً إيجابياً بزيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي فيها. هذه النتائج هي أحد أسباب حرص الدول على زيادة عدد التجمعات السكانية، من خلال دراسة العوامل الجاذبة للسكان في المدن، والأثر المتوقع لهذه الزيادة.
وتتعدد عوامل الجذب والقوّة للمدن والتي عادة ما تكون معروفة لدى القائمين عليها، فمنها الميزات الطبيعية، مثل الجو المعتدل، أو القرب من البحر. ومنها تركز الأنشطة القطاعة مثل الصناعات أو الخدمات، ومنها تقدم البنية التحتية والخدمات والاتصالات والمواصلات. إضافة إلى بعض المميزات الأخرى كالسياحة والأماكن التاريخية والنشاطات الترفيهية. كما أن زيادة السكان ترتبط بمعدل التوظيف في المدن، ومستوى جودة الحياة، وخصائص الشركات الناشطة فيها، ومستوى الابتكار والتعلم، وبيئة الأعمال.
ويمكن تفسير الارتباط الإيجابي بين الإنتاجية وعدد السكان بعدة طرق. أولها أن تجمع الشركات ذات القطاعات المتشابهة وتركزها في مكان واحد يزيد من تنافسيتها. كما أن وجودها في ذات المنطقة الجغرافية يجعلها تتشارك في الخدمات المساندة التي تحتاج لها، مثل الخدمات اللوجيستية والقرب من الموردين. كما أن التركّز الجغرافي يخلق ثقافة لهذه القطاعات في المناطق التي تتركز فيها، وهو ما يزيد من تبادل الأفكار ويعطي مجالاً أكبر للإبداع والابتكار. ولا ينحصر هذا الاجتماع في الشركات ذات الأنشطة المتشابهة، بل حتى وجود شركات متعددة القطاعات في منطقة واحدة يعطي جاذبية لانتقال المواهب لهذه المنطقة، ويزيد من النشاط الاستهلاكي والاقتصادي فيها.
إن من الصعوبة إغفال الأهمية الاقتصادية للمدن، وفي أكبر 600 مدينة في عالم اليوم، يعيش أكثر من 20 في المائة من سكان العالم، وينتج أكثر من 60 في المائة من إجمالي الناتج العالمي. هذه الأرقام في ازدياد مستمر، وقد يكون توسع بعض المدن على حساب بعضها الآخر، والذي قد يتضرر كثيراً من نزوح السكان منه. ولذلك فإن الجذب المستمر للسكان مهم جداً، ولا بد من أن تكون هذه الزيادة تدريجية حتى لا تستفيد مناطق على حساب أخرى. وأن تتوازى هذه الزيادة مع تطوير في البنى التحتية من مواصلات واتصالات ومياه ومساكن. وإلا فإن رؤوس الأموال لن تجد جاذبية في هذه المدن، خاصة أنها تلتفت وبشكل كبير للمواهب التي يهمها كثيراً هذه البنى التحتية. كما أن خلق ثقافة لريادة الأعمال مهم جداً في المدن، لا سيما مع كون الشركات الناشئة جزءاً مهماً من الاقتصاد العالمي.

د.عبدالله الردادي