أرشيف التصنيف: المقالات العامة

احتكار الشركات التقنية

«غوغل»، «آبل»، «أمازون»، «فيسبوك»، «مايكروسوفت».. هذه الشركات الخمس هي قائدة الشركات التقنية بالعالم، وتبلغ القيمة السوقية لها نحو 4 تريليونات دولار، وهي تسيطر بشكل كبير على العالم الرقمي، إما بالبرمجيات مثل «مايكروسوفت»، أو بالتجارة الإلكترونية مثل «أمازون»، أو بمحركات البحث وتطبيقات الهواتف الذكية مثل «غوغل»، أو بتطبيقات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك»، أو بالأجهزة الذكية مثل «آبل». وقد يندر ألا يستخدم شخص في العالم تطبيقات هذه الشركات الخمس، فاستخدام الهاتف الذكي يعني استخدام «آيفون» أو «آندرويد»، ودخول مواقع التواصل الاجتماعي قد يعني استخدام «فيسبوك» أو «إنستغرام» أو «واتساب»، وجميعها مملوكة لشركة «فيسبوك»، واستخدام الأجهزة المكتبية يعني وجود «مايكروسوفت». هذه القوة المفرطة والانتشار الواسع أعطيا الشركات التقنية القدرة على احتكار الأسواق، والتحكم في تنافسية السوق، بشكل أدى إلى صعوبة التنافس معهم، بل واستحالته، وهو ما أدى إلى رفع كثير من قضايا الاحتكار ضد الممارسات غير العادلة لبعض هذه الشركات.
والبداية مع أكثر هذه الشركات مواجهة لقضايا الاحتكار، وهي «مايكروسوفت»، التي واجهت عشرات الاتهامات بالاحتكار منذ التسعينيات الميلادية، وكادت حينها أن تتعرض للفصل إلى شركتين مختلفتين بسبب هذه القضايا. وكانت آخر الاتهامات ممارساتها الاحتكارية مع تطبيق «تيمز» الذي استخدم بكثرة مع التباعد الاجتماعي في أثناء الجائحة، حيث اتهمت شركات مثل «زووم» و«سلاك» شركة «مايكروسوفت» بالتسويق لبرنامج «تيمز» من خلال شبكتها الواسعة من العملاء الذين يشملون مستخدمي بريد «آوتلوك» والبرامج المكتبية الأخرى، وهو ما أعطاها ميزة تنافسية لا تستطيع بقية الشركات الحصول عليها.
أما «فيسبوك»، عملاق مواقع التواصل الاجتماعي، فقد اتهمت كثيراً بالممارسات الاحتكارية. وكان أبرز هذه الممارسات استحواذ «فيسبوك» على «إنستغرام» في عام 2012 بمليار دولار، وكانت «إنستغرام» حينها مكونة من 13 موظفاً فقط. وقد اتهمت «فيسبوك» بقمعها لأي منافس مستقبلي بهذا الشراء. أما القضية الثانية، فكانت في 2014 بشراء «واتساب» ذات الـ55 موظفاً بمبلغ زاد على 19 مليار دولار. ويتطلع عدد من المدعين العامين الآن إلى إعادة فتح ملفات هذين الاستحواذين، بينما تتحجج «فيسبوك» بأن عمليات الاستحواذ هذه تمت بشكل شفاف قانوني حينها.
أما «غوغل»، فممارستها الاحتكارية تنقسم إلى قسمين: الأول منهما يتمثل في توجيه نتائج محركات البحث بحسب سياستها غير المعلنة (وفق الاتهام)؛ وتزيد حصة «غوغل» السوقية من محركات البحث على 90 في المائة. كما تتهم كذلك -بصفتها مالك نظام «آندرويد» التشغيلي- بتوجيه نتائج البحث في متجر التطبيقات إلى التطبيقات الخاصة بها، مما يعطي تطبيقاتها ميزة تنافسية على التطبيقات الأخرى. وهذا الاتهام يوجه كذلك لشركة «آبل» التي قد تعطي ميزات أكبر للتطبيقات الخاصة بها، علاوة على وجود كثير من هذه التطبيقات بشكل تلقائي عند بيع الأجهزة.
أما «أمازون»، فقد اتهمت كثيراً بالممارسات الاحتكارية، سواء في السيطرة على بيع الكتب سابقاً، أو الضغط على دور النشر من خلال إبعادهم عن نتائج البحث بالكتب. والآن، تواجه اتهامات بتفضيل منتجاتها على منتجات البائعين في موقعها الإلكتروني. كما وجهت اتهامات عدة لـ«أمازون» في السابق عن شرائها لشركات قد تنافسها في المستقبل، ومن ثم إنهاء نشاط هذه الشركات بعد شرائها، وذلك لقمع المنافسة بشكل نهائي.
إن القوى المتزايدة لدى الشركات التقنية مصدر قلق مستمر للحكومات، فهذه الشركات هي صانعة التقنيات الحديثة، ولها الفضل الكبير في تغيير العالم إلى ما هو عليه اليوم، إلا أن هذه القوى لا بد أن تحكم بالقوانين. وهذه الشركات لديها من الأذرع الممتدة ما يجعل السيطرة عليها أمراً شديد الصعوبة، فهي تتحكم بالمحتوى الرقمي في العالم، وهي أكبر سوق للإعلانات، وهي تستطيع التأثير على الشركات الأخرى والأسواق بما لديها من وصول إلى المستخدمين في جميع أنحاء العالم. وفي حال استمرت هذه السيطرة، فإن الابتكار في خطر، وقمع الشركات الناشئة بسبب احتمالية منافستها للشركات الضخمة هو دحض واضح للابتكار، وحرمان للمستهلك من المنافع التي يحصل عليها بسبب التنافسية بين الشركات. فالشركات الضخمة تستطيع إبعاد المستخدمين عن الشركات المنافسة لها بإخفاء نتائج البحث عنها، أو بامتناعها عن الإعلان لها في قنواتها الاجتماعية، أو بالاستحواذ عليها ومن ثم إنهائها. ولذلك، فإن حماية للشركات الناشئة، ووجود سيطرة قانونية على الشركات الضخمة، هي مسؤولية تقع على حكومات الدول التي يقع دورها في التأكد من أن هذه الشركات لا تخرج عن دورها بصفتها شركات، إلى ما هو أكبر من ذلك.

د. عبدالله الردادي.

عن توقعات العام الجديد

مع اقتراب كل عام جديد تظهر توقعات جديدة مبشرة ومنذرة عن ما قد تحمله الأيام المقبلة من تطورات مؤثرة في أحوال الناس. ومن أكثر من يقوم بهذه التوقعات بجدية المتخصصون في مجال حسابات المخاطر والتأمين عليها؛ فعملهم يرتبط بتوقع الأحداث واحتمالات تحققها وفقاً لسيناريوهات متعددة، بغرض تسعير المخاطر وطرح أدوات للتأمين ضد حدوثها. وأصدرت مؤخراً إحدى كبرى شركات التأمين – أكسا – بالتعاون مع مجموعة يوراسيا للبحوث، التي يرأسها إيان بريمر، المحلل السياسي المعروف، توقعاتها المبنية على بحث ميداني أجرته خلال الأشهر الماضية شارك فيه 2600 خبير من 53 دولة حول العالم، فضلاً عن استطلاع رأي شارك فيه نحو 19000 شخص من 15 دولة. وجاءت التوقعات للمخاطر في عام 2021 على النحو التالي:
1 – الأوبئة والأمراض المعدية.
2 – تغيرات المناخ.
3 – أمن نظم البيانات والمعلومات.
4 – توترات إقليمية وجيوسياسية.
5 – صراعات واضطرابات محلية.
6 – تهديدات جديدة للأمن (بعضها مرتبط بمستحدثات تكنولوجية).
7 – مخاطر اقتصادية.
8 – مخاطر في الموارد الطبيعية والتنوع البيئي.
9 – مخاطر مالية.
10 – التلوث البيئي.
بمقارنة هذه النتائج عن التوقعات لعام 2021 مقارنة بعام 2020 تجد أن مخاطر الأوبئة قفزت 7 درجات لتحتل المرتبة الأولى بعدما كانت في المرتبة الثامنة في توقعات العام الماضي؛ وجدير بالذكر أن كثيراً من مراكز استطلاع الرأي لم تدرج أصلاً مخاطر التهديدات الوبائية في قائمة أولوياتها، وإن وضعها البعض في مراكز متأخرة في المخاطر المحتملة رغم تحذير الدوائر الطبية المتخصصة من تهديدات وبائية شاملة على النحو الذي ورد في تقرير «عالم في خطر» الصادر عن لجنة دولية مستقلة لتقييم الاستعداد الوبائي، التي أكدت أن العالم حيال الأوبئة يتراوح بين الإهمال والهلع من دون استيعاب دروس أوبئة سابقة أو اعتبار مما خلفته من ضحايا في الأنفس ونقص في الأموال والأرزاق.
وقد ارتفعت المخاطر الاقتصادية المتوقعة للعام المقبل مع زيادة البطالة المرتبطة بالركود الذي سببته الجائحة، وكذلك ارتفاع المخاطر المالية بسبب زيادة ارتفاع الديون، المتضخمة أصلاً قبل انتشار الوباء.
تلاحظ أيضاً استمرار ارتفاع مخاطر تغيرات المناخ رغم أنها أفسحت المرتبة الأولى التي احتلتها العام الماضي للوباء وتداعياته. ويزيد من أهميتها تكرار الإشارة لمخاطر بيئية متنوعة مرتبطة بها.
ويبدو أن موضوع المناخ سيحتل أهمية كبيرة في العام المقبل مستفيداً من قوة الدفع بعودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس لتغيرات المناخ واستعداد الإدارة الجديدة لإنفاق تريليوني دولار في مشروعات البنية الأساسية المتوافقة مع الاعتبارات المناخية والبيئية. كما تجد برامج الإصلاح والتعافي في أوروبا ودول آسيوية تعتمد نهج الاستدامة بإدراج النمو الأخضر في قواعد منح التمويل وتوجيه الاستثمارات بما يساند جهود السعي نحو تخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ والبيئة.
كما تتكرر الإشارة في التوقعات إلى تزايد المخاطر الأمنية التقليدية في صورة صراعات ونزاعات داخل حدود الدول أو عبرها بشكل مباشر أو من خلال حروب الوكالة والإرهاب. وتتزايد مخاطر الاحتقان مع تزايد تفاوت الدخول؛ ويبدو أن أكثر حروف الهجاء الإنجليزية تعبيراً عن مسار التغير الاقتصادي من الوضع المتدني الحالي في كثير من البلدان هو حرف K، الذي يعبر عن صعود فئات وانخفاض أخرى بعد نقطة الافتراق. فبعد صدمة الجائحة تجد أن هناك قطاعات وشركات ازدادت إيراداً وربحاً ومشروعات أخرى خسرت وأفلست مخلفة أعداداً هائلة من المتعطلين بلغت في القطاع الرسمي نصف مليار إنسان وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
وقد أتت هذه التغيرات السلبية بعد عقد من زيادة تفاوت الدخول وتركزها، تأثراً بتداعيات الأزمة المالية العالمية بما أجج من صعود التيارات الشعبوية والحركات المنتسبة لليمين السياسي المتطرف.
ولا ينبغي النظر إلى هذه التوقعات على أنها حتميات واقعة، فهي تخضع لافتراضات تصيب وتخطئ، وانطباعات أسيرة ما ترى، واحتمالات متسعة المدى. ولكن أهميتها تعكس ما يفكر فيه خبراء ونفر من عموم الناس، تعين في تحديد الأولويات وتوجيه الموارد.
وحري بنا ونحن نعيش في ظروف سياسية يغلب عليها حالة من اللانظام عالمياً واتساع فجوة الثقة بين الدول إقليمياً، فضلاً عن تزايد حالة اللايقين اقتصادياً، أن نستمسك بقواعد مبدئية للتعاون في التعامل مع تبعات جائحة كورونا. فليس من الصالح مثلاً أن يتم تسييس اللقاح إنتاجاً أو توزيعاً – فهذا يستحسن اللقاح الشرقي ويروّج له، وذاك يزكي اللقاح الغربي ويسوّق له، مع افتقار لتمويل لا يتجاوز 30 مليار دولار مطلوبة لتوفير اللقاح للدول الأفقر في عام 2021، وهو مبلغ زهيد مقابل ما يخسره العالم يومياً من جراء الجائحة تُستنقذ به أنفس زكية.
ولشدة ارتباط هذه المخاطر المتوقعة بما أطلقت عليه من قبل مسمى «المربكات الكبرى»، وشرحت أمثلها لها في مقالات سابقة في هذه الصحيفة الغراء، عن صدمات مباغتة وتغيرات متسارعة في سبيل مسارات التنمية، يلزم أن نستدعي لها ما يواجهها بالاستثمار في رأس المال البشري تعليماً وتثقيفاً ورعاية صحية، وبالاستثمار في رأس المال المادي تدعيماً للبنية الأساسية والرقمية، وبالاستثمار في رأس المال الاجتماعي مساندة لتماسك المجتمع بنظم للضمان الاجتماعي.
ولعلي أؤكد ونحن في استقبال عالم جديد على ثلاثة أمور في شأن إدارة السياسات العامة: أولاً، الاعتماد على الأدلة والبيانات المحدثة في تحديد أولويات الاستثمار وتوجيه التمويل له، خاصة في ظل مخاطر زيادة الديون العالمية التي تستدعي حصافة في إدارة ملفاتها.
والأمر الثاني، هو أهمية الدفع بتنافسية الاقتصاد في عالم شديد التغير ينتقل مركز جاذبيته الاقتصادية شرقاً باطراد، بما يستدعيه ذلك من اتباع منهج يتسم بالبراغماتية المبدئية، أي بسياسات وإجراءات مرنة مستندة إلى دعائم دولة قوية محددة الأهداف.
والأمر الثالث، أنه في سبيل تحقيق التقدم والاستمرار في مضماره يلزم العمل وفقاً لقواعد ممكنة للكافة من الترقي والحراك اجتماعياً إلى أعلى مع مساندة الفئات التي استضعفت على مر أجيال بحرمانها من فرص التعليم الراقي والتدريب الملائم والعمل اللائق.
فمجرد التعلق بشعارات الجدارة والأهلية في اختيار من يفوز بالفرص الأفضل في مجتمع يفتقد فرص المنافسة العادلة قد يتضمن بين طياته تجاهلاً للحيثيات الحقيقية لحاملي صفات الجدارة على النحو الذي حذر منه الفيلسوف السياسي مايكل ساندل، الأستاذ بجامعة هارفارد في كتابه الجديد؛ فإذا ما تركز المؤهلون المتميزون الجديرون هؤلاء في فئات متميزة أصلاً وورثت ومنحت فرص التميز لذويها فالتحقوا بأفضل المدارس والجامعات والوظائف بدعوى الجدارة، والآخرون من حولهم لا يعينهم جهد يبذلونه ولا يساندهم اجتهاد على تخطي عقبات اجتماعية واقتصادية حائلة دون الاستفادة من الفرص المتاحة فسنكون بصدد حالة بائسة من «طغيان الجدارة» لا ينبغي أن نستقبل بها العام الجديد من العقد الثالث لهذا القرن.

د. محمود محي الدين.

العالم الثالث ساحة مواجهة بين الصين وأميركا

كانت دول العالم الثالث ساحة معركة كبرى أثناء الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة تتنافس مع الاتحاد السوفياتي على النفوذ والمكانة حول العالم؛ وتعود المنطقة نفسها اليوم لتصبح ساحة قتال وتنافس مرة أخرى، لكن المعركة هذه المرة بين أميركا والصين. ومع قرب نهاية فترة حكم الرئيس دونالد ترمب، يبدو أن واشنطن قد تفادت، عن طريق المصادفة، الخطر المتمثل في محاولة الصين إقصاءها عن الدول الديمقراطية في أوروبا، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
إذا كانت الحدود العالمية تتجه نحو قلب الصراع الأميركي الصيني، فهذا يُعزى إلى أن الجوهر الديمقراطي لم يعد متزعزعاً كما كان منذ وقت قريب. في نهاية عام 2019، وحتى مع بداية عام 2020، هدد تقدم الاقتصاد الصيني، وسلوك أميركا إبّان حكم ترمب، بإحداث خلافات عميقة في العالم الغربي؛ وبدا من الممكن أن تميل أجزاء كبيرة من أوروبا نحو حدوث تعادل بين الصين وأميركا، بل وحتى إلى أن تصبح معتمدة تكنولوجياً على بكين. ولم يتبدد ذلك الخطر بعد.
لقد عملت بكين على إحداث موجة من الضربات الدبلوماسية المضادة. كذلك تراجع مستوى تقبل الصين في كل من أوروبا وشرق آسيا، ووصفها الاتحاد الأوروبي بـ(خصم ذي طابع منهجي).
وتتمثل المفارقة الجيدة لفترة حكم ترمب في أن مؤسسة الرئاسة ساهمت في تكوين تدريجي لائتلاف وتحالف ديمقراطي لمواجهة النفوذ الصيني. لسوء الحظ الوضع مختلف في الدول النامية، فخلال الحرب الباردة كان العالم الثالث يمثل نقطة ضعف استراتيجية بالنسبة إلى أميركا لأن امتزاج التوجهات الآيديولوجية الفكرية المتطرفة، إلى جانب التراجع الاقتصادي، جعل تلك المناطق سهلة التأثر بالنفوذ الشيوعي.
تغيرت الظروف بشكل كبير، وبدأ استخدام مصطلح العالم الثالث في التراجع، حيث كثيرا ما يتم تفضيل استخدام مصطلحي (الدول النامية) أو (الأسواق الناشئة).
أيضاً تميل الدول النامية بفضل تجربتها التاريخية في الاستعمار، إلى تفضيل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهي أقل ميلا أيضا إلى إدانة الانتهاكات التي يرتكبها الحزب الشيوعي الصيني. لذا يمثل التنافس على النفوذ في الجنوب جوهر الاستراتيجية الجيوسياسية لبكين. ونظرا لأن دول العالم الثالث متعددة، فدعمها ضروري في سياق الجهود التي تبذلها بكين من أجل السيطرة على المؤسسات الدولية أو الانضمام إليها.
بالمثل تستهدف مبادرة (الحزام والطريق) إقامة روابط اقتصادية ودبلوماسية وتكنولوجية بين الصين وأغلب أنحاء العالم النامي.
يقدّر المسؤولون الأميركيون حجم هذا الخطر؛ فخلال فترة حكم ترمب وصف مسؤولون رفيعو المستوى، من بينهم ريكس تيلرسون، وزير الخارجية، وجون بولتون، مستشار الأمن الوطني، علنًا مخاطر الإمبريالية الحديثة ذات الطابع الصيني.
مع ذلك تجذب القروض الصينية، ومشروعات البنية التحتية، التي تنفذها في أنحاء العالم، الدول نحو التقارب التكنولوجي مع الصين، ولا يزال النفوذ الدبلوماسي لبكين يزداد اتساعا.
سوف يتيح تعزيز الولايات المتحدة لتعاونها مع كل من اليابان، وأستراليا، والاتحاد الأوروبي، للدول الديمقراطية الكبرى توظيف مواردها المجتمعة على نحو أكثر استراتيجية من أجل دعم نمو العالم الثالث والبنية التحتية به.
على الجانب الآخر يتيح انتشار فيروس (كوفيد-19) فرصة لتدشين برنامج لتوزيع جرعات اللقاح المضاد للمرض في الدول النامية؛ وهو أمر سيكون وسيلة لمواجهة دبلوماسية اللقاح التي تمارسها بكين بالفعل. وبمرور الوقت سيكون على واشنطن وحلفائها تأكيد أهمية الإصلاح الديمقراطي في الدول النامية لأن تحقيق تقدم في هذا الصدد سوف يجعل من الصعب على الصين إبرام اتفاقيات أو صفقات مع قادة دول مستبدين. وفي الوقت الذي تمثل فيه تعزيز المشاركة الإيجابية أفضل ضمانة لترسيخ النفوذ الأميركي، ينبغي على واشنطن وأصدقائها التركيز على الجوانب الأكثر استغلالية لسلوك بكين في منطقة الجنوب من استخراج للموارد، إلى دعم الحكام المعادين للتحرر.
مع ذلك هناك تحول في جغرافية التنافس على النفوذ، وسوف يتطلب تحقيق النجاح في الدول النامية ما هو أكثر من مجرد حسن الطالع.

هال براندز

 

الحماية التجارية

منذ أن ظهرت التجارة الدولية، وبدأت منتجات الدول الصناعية غزو أسواق الدول الأقل تطوراً، لجأ كثير من هذه الدول إلى حماية أسواقها من هذا الغزو، وذلك باستخدام سلطاتها الحكومية بمنع أو تحجيم دخول بعض المنتجات إليها، أو بفرض رسوم جمركية على بعضها الآخر. وتتنوع أسباب هذه السياسة بحسب الدول وبحسب وجهة النظر وانتمائها، فقد تطبق بعض الدول هذه السياسة لحماية صناعاتها الناشئة، أو لتطوير بعض صناعاتها الداخلية وحمايتها من منافستها المستوردة، أو لأسباب سياسية مع دول أخرى مصنّعة، أو لتقليل البطالة من خلال فرص العمل التي توفرها الصناعات المحميّة، وغيرها من الأسباب. وتوصف هذه السياسات بأوصاف متناقضة بحسب وجهة النظر، فما قد تراه الدولة مصلحة لها، تراه دولة أخرى تعنّتاً سياسياً وحرباً ضد التجارة الحرة.
والأمثلة على الحماية التجارية في عالمنا اليوم متعددة؛ أولها ما يحدث بين الصين والولايات المتحدة، فالولايات المتحدة تفرض رسوماً جمركية متوالية على المنتجات الصينية لحماية أسواقها ومنتجاتها، والصين ترد برسوم انتقامية على هذه الإجراءات. وكل دولة منهما تسوّق للتجارة الحرة وأنها الحل الأمثل للاقتصاد العالمي. وثاني هذه الأمثلة بين الصين وأوروبا، وترى دول الاتحاد الأوروبي أن الصين تغرق الاقتصاد الأوروبي بالمواد الخام منخفضة التكلفة، مما أدى إلى خروج كثير من الشركات الأوروبية المنافسة من السوق. وتعاني الشركات الأوروبية من ارتفاع الضرائب عليها، خصوصاً البيئية منها، بينما ترفل الشركات الصينية في نعيم دعم حكومتها غير المحدود. ويرى الاتحاد الأوروبي أن سيادته الاقتصادية أصبحت في خطر باعتماده على المواد الأولية الصينية، مما يعني أنه قد ينحى للحماية التجارية في وقت قريب. وما زاد لهيب الحماية التجارية ما حدث أثناء أزمة «كورونا»، حيث تلقت التجارة الحرة ضربة موجعة بإدراك الدول أهمية الاكتفاء الذاتي في الأغذية والمنتجات الطبية وغيرها من الاحتياجات الاستراتيجية. فبدأ كثير الدول يفكر بشكل جدي في فرض رسوم جمركية على عدد من الواردات بهدف حماية صناعتها المحلية وتطويرها.
أما المتحمسون للتجارة الحرة، فيشجعون على التكامل الاقتصادي، ودعم التجارة الحرة العادلة التي تساهم في نمو شمولي للاقتصاد العالمي. وقد ركزت «مجموعة الأعمال 20 (B20)» على موضوع الحماية التجارية في هذا العام، بصفته موضوعاً مؤثراً على الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة. وقدمت «مجموعة الأعمال» – بالتعاون مع شرائكها – دراسة مستفيضة بيّنت من خلالها أن الفارق بين دعم التجارة الحرة ودعم الحماية التجارية قد يصل إلى 10 تريليونات دولار خلال السنوات الخمس المقبلة لمصلحة التجارة الحرة، ورسمت هذه الدراسة احتمالات عدة للاقتصاد العالمي حتى عام 2025 بحسب درجتي الحماية التجارية ودعم التجارة الحرة. وأوضحت أن الحلول لدعم التجارة الحرة تكمن في لوائح منظمة التجارة العالمية، وتقليل الرسوم الجمركية على الواردات، وتوحيد المعايير الصناعية التي قد تفتح آفاق أسواق جديدة للمنتجات. وتنبع أهمية هذه التوصيات من تمثيل دول المجموعة 60 في المائة من حجم التبادل التجاري العالمي، وتزيد هذه النسبة إلى 80 في المائة في حال تضمين دول الاتحاد الأوروبي غير المشاركة بشكل مباشر في المجموعة. أي إن دول المجموعة تملك اليد الطولى في تشكيل التجارة العالمية للسنوات الخمس المقبلة.
إن سياسة الحماية التجارية ضرورية في كثير من الأوقات، وهي حق سيادي للدول، يمكنها من تطوير صناعاتها وتوفير فرص العمل وحماية أسواقها من الإغراق الذي تمارسه بعض الدول. إلا إن الإفراط في هذه السياسة يؤثر سلباً على سلاسل الإمداد والنمو الاقتصادي، ويؤثر بشكل مباشر على المستهلك النهائي الذي يدفع الفارق في السعر على المنتجات. وقد يكون تغيير أنظمة «التجارة العالمية»، خصوصاً خلال الشهرين المقبلين بترشيح رئيس جديد للمنظمة، حلاً لهذه المعضلة. وما يدعو للتفكر في هذه الأزمة، حال بعض الدول الغربية، التي بدأت تطبق سياسات الحماية التجارية والاقتصادية، وانتقادها هذه السياسات في حال مارستها دول أخرى. ولم تكن هذه الدول لتناقش لوائح منظمة التجارة العالمية لو لم تنمُ الصين اقتصادياً، ويبدو أن بعض هذه الدول كانت تدعو للتجارة الحرة حينما كانت حرية التجارة في مصلحتها، ولكن حالما أصبحت الصين منافسة لها في القوانين التي وضعتها هي، بدأت هذه الدول في التذمر من منظمة التجارة العالمية والتصريح بأنه حان الوقت لتغيير هذه الأنظمة، ويبدو أن هذا التغيير وشيك خلال الأشهر المقبلة، للوصول إلى نسخة جديدة من المنظمة تضمن لجميع الدول تجارة حرة وعادلة.

د. عبدالله الردادي.

ما بعد اللقاح!

حيَّت البورصات إنجازات العلم بطريقتها فارتفعت مؤشراتها لأرقام قياسية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي متجاوبة مع إعلان شركتي دواء أميركيتين تطوير لقاحين مضادين لفيروس كورونا بفاعلية عالية، وقرب إتاحتهما في الأسواق بعد مراجعة السلطات الصحية المعنية في اجتماعين لإيجاز استخدامهما، تم تحديدهما في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي للقاح شركتي «فايزر» و«بيونتك»، وفي السابع عشر من الشهر نفسه للقاح شركة «موديرنا». وهناك لقاحات أخرى بتكنولوجيات طبية مختلفة وبفاعليات يجري التبشير بها وتعلن عنها معامل بريطانية وأوروبية وصينية وروسية.
حقَّق العلم إنجازاً غير مسبوق في تطوير اللقاح بسرعة فائقة وجهود شاقة لإنقاذ حياة البشر وتخفيف معاناتهم، بما سيخلد أسماء لعلماء وباحثين في تخصصاتهم، ومع تزايد الإعلان عن قرب تداول اللقاحات انتقلت حالة الترقب من تعلقها بالدوائر العلمية وبما يصدر عن المعامل وعلمائها، إلى الحكومات ودوائرها الصحية للإجابة عن أسئلة عملية: متى سيُتاح اللقاح لعموم الناس؟ ما هي التكلفة؟ ما هو مدى استعداد البنية الأساسية والإنتاجية لتصنيع وتعبئة وتخزين ونقل وتوزيع اللقاح واستخدامه بأمان؟
وفي حين يتلهف البعض ليكونوا في مقدمة الحاصلين على اللقاح، استمعت منذ يومين إلى تقرير تكررت إذاعته عن مسح جرى على البالغين في الولايات المتحدة في شهر أغسطس (آب)، ذكر 42 في المائة منهم فقط أنهم سيستخدمون اللقاح عند توافره، وذكر تقرير آخر انخفاض نسبة المقبلين على التلقيح بين شهري مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول) من هذا العام. كما تظاهرت احتجاجاً ضد اللقاح جموع في مدن أوروبية في وقت يؤكد فيه خبراء الأوبئة ضرورة وصول بلوغ نسبة المناعة ثلثي المجتمع على الأقل لمنع الوباء من الانتشار، بما يتطلب التوسع في استخدام اللقاح والبديل هو التعرض للإصابة بالفيروس كبديل بما في ذلك من مخاطر على حياة ذوي العلل. بما يتطلب الأمر حواراً ونقاشاً وتثقيفاً وتحفيزاً حرصاً على الصالح العام جنباً إلى جنب مع تيسير إتاحة اللقاح لعموم الناس. وفي هذا تختلف السبل:
– تعيين وزير اللقاح: من أساليب تفعيل نشر اللقاح في أسرع وقت ممكن ما لجأت إليه المملكة المتحدة من تعيين وزير مشرف على طرح اللقاح وتأمين وصول 100 مليون عبوة منه للمواطنين؛ تم طلبها بالفعل لتكفي سكان الجزر البريطانية. وسيكون الوزير في حكومة المحافظين نديم زهاوي، الذي شغل حتى تكليفه المهمة الجديدة حقيبة الأعمال والصناعة، مسؤولاً عن مهمة مزدوجة للإشراف على وزارات الصناعة والصحة والرعاية الاجتماعية، مع جدول زمني مكثف لتوفير اللقاح للكافة في خلال 9 أيام من خلال منظومة التأمين الصحي. وقد لقي التكليف ترحيباً من حكومة الظل وإن شدد ممثلوها على القيام بحملة توعية مكثفة تتزامن مع العملية اللوجيستية المعقدة التي سيشرف عليها وزير اللقاح.
– شهادة اللقاح: ومن سبل الحث على نشر اللقاح ما دعا إليه الكاتب الصحافي الإنجليزي جون جايبر، بضرورة حمل كل فرد لتطبيق رقمي على هاتفه يفيد تلقيح حامله من عدمه عند السفر. فبعد تذكيرنا بما كان من أمر المسافرين في القرن الماضي بحملهم شهادات ورقية تفيد بتطعيمهم ضد أمراض معدية ومتوطنة، يشير الكاتب إلى مطالب لشركات الطيران لركابها بإظهار ما يفيد بتطعيمهم من خلال تطبيقات رقمية تحمل البيانات المطلوبة معتمدة من جهة صحية، في شكل كود رقمي يتم التعرف عليه من خلال أجهزة كشف سريعة بالمطارات. وسيكون هذا الإجراء أيضاً ملزماً لمرتادي المباني الحكومية والإدارية والمواصلات والخدمات العامة. ولعلك ترى ما يشبه هذا الإجراء معمولاً به في المطارات وأماكن أخرى في إطار احترازي بقياس درجة الحرارة ولبس الكمامة الواقية وتقديم شهادة تثبت الخلو من الفيروس.
– قوارير اللقاح: لتوفير مئات الملايين من اللقاحات تبرز مشكلة توفير ما يعرف بالأمبولات، أو القوارير الزجاجية الصغيرة المغلقة التي تستخدم لحفظ اللقاحات. ورغم التعارف على تكنولوجيا إنتاجها وتوافر مواد صنعها وتعقيمها، يحتاج اللقاح الجديد إلى مئات الملايين منها في وقت وجيز. كما تتطلب أنواع منه قوارير شديدة التحمل لضغط النقل والتبريد لدرجات تبلغ أكثر من 70 درجة مئوية تحت الصفر. وتتوفر خطوط إنتاج كبيرة في عدد محدود من بلدان العالم لهذه النوعيات بما جعل الطلب عليها يرتفع مقابل أسعار متزايدة. جعل هذا محرر مجلة «نيويوركر» لهذا الأسبوع يصدر مقالة عن سباق مصانع القوارير بقصة الإمبراطور الروماني تيبريوس مع صانع القوارير الذي أتى إلى قصره يعرض اختراعاً لقارورة من زجاج معالج ضد الكسر فيسقطها أمام الإمبراطور على الأرض مستعرضاً قوة تحملها فلم تتهشم. فما كان من الإمبراطور – وفقاً للرواية – إلا الأمر بإعدامه خشية من اختراعه على ما تحويه خزائنه من الذهب التي ستتدهور قيمته مقابل فائدة هذا الاختراع المدهش. وبعد مئات السنين تظهر مجدداً قيمة الزجاج المعالج بتكنولوجيا العصر ليحمل في قواريره ما لا يغني عنه الذهب في حماية حياة الإنسان.
– لقاحات لأوبئة أخرى: عندما أعد عالم الرياضيات آدم كوتشارسكي كتابه عن الأوبئة والأمراض المعدية لم يكن على علم أن توقيت صدوره سيسبق جائحة كورونا بأسابيع. وقد استعرض في كتابه المعنون «قواعد العدوى» أشكالاً مختلفة من العدوى، منها ما يأتي في شكل وباء صحي كما نشهد اليوم مع فيروس كورونا، ومنها ما هو اقتصادي مثلما رأينا من انتقال العدوى في الأزمات المالية والمصرفية، ومنها ما هو إجرامي مثل العنف المسلح، ومنها ما قد يأتي في شكل أفكار سيئة كالعنصرية البغيضة.
ورغم عنوان الكتاب فلا توجد فعلاً قواعد بالمعنى المتعارف عليه للعدوى، ولكنها أنماط تبدأ بظهور العدوى ثم انتشارها ثم استقرارها وثباتها ثم انخفاضها، مع تباين في سرعة الانتشار والانخفاض بين عدوى وأخرى. وتأتي فائدة النماذج الرياضية المستخدمة قواعد البيانات الكبرى في تحليل وفهم ظواهر العدوى وأنماطها، ولكن علاج العدوى يأتي بالسيطرة عليها من داخلها ومن ضبط البيئة المحيطة بها تماماً، كما تطور لقاحات ضد الأوبئة الفيروسية بالتعرف على مكوناتها الحيوية الدقيقة وتفعيل المناعة المضادة لها من داخل الجسم ومنع انتشارها بالتباعد الاجتماعي.
وقد يحتار المرء أي أنواع العدوى والأوبئة أشد ضرراً وفتكاً بالمجتمعات واستقرارها؟ وتأتي الإجابة سريعاً: تلك التي لا لقاح لها!

د. محمود محي الدين.

قصص النجاح الاقتصادية

في عالم اليوم، تسعى جميع الدول إلى التفوق الاقتصادي، سواء كانت دولا متطورة اقتصاديا تسعى للحفاظ على مكانتها، أو دولا ناشئة طموحة تسعى إلى الارتقاء اقتصاديا ومعيشيا. وفي جميع الحالات فإن الدول عادة ما تدرس حالات النجاحات الاقتصادية في دول أخرى لمعرفة ودراسة كيفية ووصفة النجاح. هذه القصص كثيرة، وقد لا تكون بأي حال قابلة للتطبيق في دول أخرى لأسباب كثيرة ومعروفة. إلا أن أبرز قصص النجاح هذه تتمثل في تشيلي وأستراليا وكوريا الجنوبية.
وقصة تشيلي من القصص المشهورة في النجاحات الاقتصادية، حيث خرجت الدولة الصغيرة من حكم عسكري ديكتاتوري في بداية التسعينيات الميلادية، بلغت حينها نسبة من هم تحت خط الفقر 45 في المائة، ولم تزد حينها الطبقة المتوسطة عن 24 في المائة من الشعب. وبعد أن تحولت البلد اقتصاديا، أصبح الفقراء أقل من 9 في المائة وزادت الطبقة المتوسطة لتصل إلى 65 في المائة. وخلال ربع قرن، كان النمو السنوي في تشيلي من أعلى المعدلات في العالم. وكانت خطة الدولة للتحول الاقتصادي تعتمد على تحرير الاقتصاد والتجارة، وخفض الرسوم الجمركية، ولم تترك تشيلي اعتمادها على الموارد الطبيعية، بل على العكس فقد استفادت من ارتفاع أسعار النحاس. وتمكنت تشيلي في عام 2010 من الانضمام إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رغم كونها في أقصى العالم، ورغم أن الكثير من دول أميركا الجنوبية شهدت هبوطا اقتصاديا في العقدين الأخيرين. ومنذ بداية التسعينيات الميلادية وحتى زمن كورونا، لم تشهد تشيلي حالات ركود إلا في ثلاث سنوات فقط!
وليست أستراليا ببعيدة عن تشيلي، وهي التي تقاربها في حالة الانعزال الجغرافي عن العالم، وقد كانت أستراليا في الثمانينيات الميلادية على حافة الانهيار الاقتصادي، وصرح وزير ماليتها في عام 1986 أن الدولة في طريقها لتكون إحدى دول العالم الثالث. لتتخذ الدولة حينها قرارات حاسمة بتعويم الدولار الأسترالي الذي أدى إلى انخفاضه ومن ثم زيادة تنافسية الصادرات الأسترالية. إضافة إلى حزمة من القرارات الاقتصادية مثل خفض الرسوم الجمركية وإعادة تنظيم المؤسسات الحكومية وزيادة شفافيتها. وبعد هذه الإصلاحات التحولية، ومنذ عام 1991 لم تشهد أستراليا حالة ركود واحدة (وكورونا من ذلك استثناء) لتصبح أستراليا اليوم أحد أكبر الاقتصادات العالمية وبأقل نسب بطالة في العالم رغم كم المهاجرين الوافدين إليها.
أما كوريا الجنوبية، وهي مضرب المثل في التحول الاقتصادي، فقد حولت مجراها التاريخي من بلد زراعي مليء بالفلاحين إلى بلد صناعي متطور يعتمد اعتمادا تاما على الصادرات التقنية. وقد سبقت اليابان كوريا في هذه التجربة بتحولها إلى بلد يعتمد على الصناعات التقنية، وتلتهما من بعد ذلك الصين ولكن بنموذج اقتصادي مختلف.
ويلاحظ من قصص النجاحات الاقتصادية للدول اختلاف النماذج الاقتصادية المتبعة، فلم يسبق أحد تشيلي إلى نظامها الاقتصادي، ولم تستطع أي دولة حتى الآن تقليد النموذج الصيني، أو الكوري الجنوبي أو حتى السنغافوري. والسبب في ذلك واضح، أن النموذج الاقتصادي مرتبط ارتباطا تاما بخصائص الدولة، فلا يمكن لدولة أن تقلد الصين في اكتساح الصناعة العالمية دون امتلاك الطاقة الاستيعابية المتمثلة في حجم الدولة وعدد السكان. ولا يمكن لدولة تقليد النموذج الأسترالي دون كونها وجهة للمهاجرين من أنحاء العالم. كما لا تستطيع دولة أن تكون مزارا سياحيا صيفيا إن لم تملك الشواطئ أو الأجواء المناسبة. وخلاصة القول: إن النجاح الاقتصادي ليس له وصفة واحدة، وإن التحول الاقتصادي يعتمد اعتمادا كبيرا على إمكانيات الدولة، هذه الإمكانيات تسهل لها التميز الاقتصادي، سواء كانت هذه الإمكانيات موارد طبيعية أو موقعا جغرافيا مميزا أو غيرهما. ولا شك أن جميع هذه الدول عملت عملا خارقا لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، ولكن هذا العمل استند على نقاط القوة فيها.

د. عبدالله الردادي.

قاعدة السوق

تسعى الجهات المشرفة على أسواق الأسهم الناشئة لتوسيع قاعدة السوق، لذلك تحث الشركات – أياً كان نوعها – للتحول لشركات مساهمة، والبعض يتحول لشركات مساهمة مدرجة في السوق، والبعض يتمنع مبتعداً عن الإفصاح المطلوب كل ربع سنة.
والتحول من شركات فردية أو تضامنية، أو شركات ذات مسؤولية محدودة، إلى شركات مساهمة، قد يطيل في عمر الشركة، ما يعني الحفاظ على الموظفين، وهو ما يهم بقدر أهمية ربحية ملاك أسهم الشركة.
وفي العالم تبدأ الشركات فردية أو عائلية، ثم تتحول لشركات مساهمة، وتحث الجهات المشرفة على الأسواق الشركات على التحول لشركات مساهمة، ولكن ليست كل الشركات المتحولة ناجحة، ويكفي أن نضرب مثلاً بشركة «المعجل» التي تحولت من شركة عائلية عبر التقييم إلى شركة مساهمة، لتفشل ويوقف سهمها عن التداول في سوق الأسهم السعودية، لتغير الجهات المشرفة طريقة تقييم الشركة من المحاسبين والمقيمين إلى طريقة بناء الأوامر، ويبدو أنها الطريقة الأكثر سلامة.
ورغم فشل تجربة «المعجل» في التحول، فإن ذلك لا يعني أن نقف؛ لأن سوق الأسهم السعودية مليئة بقصص التحول الناجحة، فمثلاً «مصرف الراجحي» تحول نحو عام 1989 ميلادية من شركة عائلية إلى شركة مساهمة برأس مال قدره 750 مليون ريال (200 مليون دولار أميركي)، لينمو ويرسمل ليصل رأس ماله إلى 25.250 مليار ريال (6.7 مليار دولار أميركي) وهو نمو مذهل استفاد منه الجميع، المؤسسون والمساهمون.
ثم نعرج على شركة «العثيم»، وهي شركة مساهمة سعودية تعمل في تجزئة الأغذية، نجحت بقيادة ربان الشركة عبد الله العثيم. ولا يزال الحكم مبكراً على شركة الطبيب سليمان الحبيب رغم نجاحها، وهي شركة تعمل في مجال الرعاية الصحية لحداثة دخولها في السوق، ونحن لا نملك سجلاً تاريخياً لأدائها، لذلك سنترك الحديث عنها لحين تكوُّن هذا السجل.
ونحن إذا تحدثنا عن تجارب التحول الفاشلة، فلن نغفل التجارب الناجحة، وعلى رأسها شركة «جرير» للتسويق بقيادة مجلس إدارة ناجح، ربانه محمد بن عبد الرحمن العقيل، لتنطلق في نهاية عام 2003 ميلادية برأس مال قدره 240 مليون ريال (64 مليون دولار أميركي) ليصل رأس المال عبر الرسملة إلى 1.2 مليار ريال (320 مليون دولار أميركي).
كل هذه القصص الناجحة يجب ألا تغفلنا عن مراجعة قواعد الإدراج في السوق وسد ثغراتها؛ لأن التجربة الفاشلة أشد إيلاماً من التجربة الناجحة، ونحن في سوق الأسهم السعودية لا نزال نتذكر تجربة «المعجل» الفاشلة، ونسينا نجاح شركات «العثيم»، و«جرير»، و«الحكير»، و«الدريس»، وغيرها.
كل ذلك يدعو الجهات المشرفة على السوق إلى أن تكون أكثر حرصاً على مراجعة قواعد الإدراج، لضمان إدراج شركات ناجحة توسع قاعدة السوق، وتخلق مجالاً استثمارياً للناس يستفيدون منه، ويضمن عمراً أطول للشركة. ودمتم.

علي المزيد.

الصناعة المصرفية والواقع المطلوب منها

عاد رؤساء البنوك الأوروبية الى المقدمة مرة أخرى. فخلال النصف الأول من عام 2020، تكبد بعض المقرضين خسائر وسط ارتفاع مخصصات القروض المعدومة. لكنهم الآن حصلوا على جرعة من الشجاعة إثر انتعاش أرباح الربع الثالث. ويبدو معظم المصرفيين في المنطقة واثقين من أن أسوأ آلام الوباء باتت خلفهم.
لكن هناك ما يبرر جرعة من الحذر. فنظراً لحرصها على إقناع المنظمين بأنهم مهيأون لاستئناف توزيع الأرباح، فربما تقلل البنوك الأوروبية من التأثير المحتمل للانكماش الاقتصادي. وللحصول على تقييم أكثر واقعية للصناعة، يمكنك النظر الى «البنك التجاري الألماني» الذي تعامل بدرجة أقل مع أعمال التجارة المزدهرة مقارنة بمنافسيه، ورغم ذلك يتوقع أن يتكبد بعض الخسائر العام الجاري.
يقف الحال الكئيب للمقرض الألماني على النقيض من نظرائه، بما في ذلك بنكا «انتيزا سانبولا سبا»، و«يورني كريديت سبا» الإيطاليان، حيث يلتزم بنك «أنتيزا» بتحقيق أرباحه المستهدفة لعام 2021، ويتوقع أن يصل صافي الدخل إلى 5.9 مليار دولار في عام 2022، وهو ما يزيد بنحو الربع عما يتوقعه المحللون. وبالمثل، كرر بنك «يوني كريديت» هدفه في تحقيق ربح لا يقل عن 3 مليارات يورو العام المقبل، وهذا البنك في طريقه لكسب ما يقرب من حوالي 600 مليون دولار العام الجاري.
فحالة اليقين هذه بشأن الكيفية التي يمكن أن يسير عليها الحال عام 2021 أمر مشكوك فيه. فقد استفادت البنوك من ارتفاع عائدات التداول العام الجاري. لكن من يدري ما إذا كانت ظروف السوق ستظل متقلبة بشكل إيجابي.
وإذا تراجعت أرباح التداول الوفير العام المقبل، فستكون البنوك أكثر عرضة لانخفاض دخل الإقراض. فقد شهد «يوني كريديت» انخفاض الإيرادات بنسبة 7.8 % في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، حتى مع ازدهار التداول. فالبنك يراهن على أنه يمكن أن يكرر مبلغ حوالي 14 مليار دولار من صافي دخل الفوائد العام المقبل، مدفوعاً في ذلك إلى حد كبير بنمو القروض مع تعافي الاقتصادات.
لكن لا أحد يعرف مدى عمق الأثر السلبي الذي ستخلفه عمليات الإغلاق الجديدة.
مفتاح تفاؤل المصرفيين الأوروبيين هو أنه – بعد أن خصصوا أكثر من 69 مليار دولار في النصف الأول من العام – فإن الجزء الأكبر من مخصصات القروض المعدومة تقف وراءهم. في ظل هذه الأزمة، وبموجب قواعد المحاسبة الجديدة، كان على البنوك اتخاذ هذا الإجراء بصفة عاجلة للحصول على قروض ربما تفسد.
في هذا الصدد، قال الرئيس التنفيذي لبنك «يورني كريديت» إن الأمور تبدو أفضل بالنسبة للقروض المتعثرة، لكنه يقر بأن تأجيل الدفع المدعوم من الحكومة قد انتهى للتو، وهو ما يجعل من الصعب استخلاص استنتاجات حول العملاء الذين سيستأنفون المدفوعات.
لا يزال البنك التجاري الألماني في حال أكثر خطورة نظرا لأن «الطبيعة سريعة التطور لوباء فيروس كورونا تعني أن شكل وتأثير تدابير الاستجابة» سيحتاجان «إلى المراقبة عن كثب»، وتعني أيضاً أن مخصصات القروض قد تكون أعلى من ملياري دولار التي تستهدفها لعام 2020.
ربما كان البنك التجاري الألماني، في خضم تغيير إداري فوضوي، يقرض العملاء الخطأ، مما يجعله حالة فريدة من نوعها. لكن السيناريو الحاد والمعقول أيضا للبنك المركزي الأوروبي يقدر أن القروض المتعثرة في بنوك منطقة اليورو يمكن أن تصل إلى حوالي تريليوني دولار هذه المرة، متجاوزة بكثير الأزمات السابقة في المنطقة.
سيضع البنك المركزي الأوروبي هذا في الاعتبار، حيث يحاول المقرضون إقناعه بالسماح بإعادة مدفوعات المساهمين الشهر المقبل. لكن المصرفيين يذهبون بعيداً في تفاؤلهم.

اليسا مارتينوزي.

أنفاق وأنوار

مع تفاقم الأزمة الصحية المصاحبة لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ترى العالم وكأنه يتوغل في أنفاق مظلمة يؤدي بعضها إلى بعض. ونحدد هذه الأنفاق في خمسة: أولها، تزايد أعداد المصابين بفيروس «كوفيد – 19» بما يعتبره المختصون بداية لموجة جديدة؛ وثانيها، استمرار تدهور الأداء الاقتصادي بانكماش الناتج العالمي بنحو 5 في المائة، مقارنة بالعام الماضي مع تراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 40 في المائة وانخفاض التجارة الدولية بما يقترب من 20 في المائة وفقدان السياحة إيرادات تتراوح بين 60 في المائة و80 في المائة مقارنة بالعام الماضي؛ وثالثها زيادة المديونية العالمية إلى 258 تريليون دولار بما يعادل 335 في المائة من الناتج المحلي العالمي؛ ورابعها استمرار تدني الأداء في مواجهة تغيرات المناخ وزيادة فجوة التمويل المطلوب لتحقيق للتنمية المستدامة بمقدار 70 في المائة لتصل إلى 4.2 تريليون دولار؛ وخامسها تراجع مساندة منظومة التعاون الدولي متعدد الأطراف في الوقت ذاته الذي يتزايد فيه الاحتياج إليها؛ إذ عانت منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية من تقويض لصلاحياتها وتجاوز آلياتها في فض المنازعات وتنظيم قواعد التجارة الدولية باللجوء للحمائية ودخول في نزاعات وحروب تجارية، كما تعرضت منظمة الصحة العالمية لهجوم عاتٍ على مصداقيتها.
ورغم الظلمة المعتمة في هذه الأنفاق، فقد لاحت أنوار باعثة على الأمل في الخروج منها، وإن تراوحت هذه الأنوار بين خافت بعيد ومبهر قريب للناظرين إليها:
أولاً: نفق الأزمة الصحية وأضواء مبشرة تعجّل بنهايتها: أثار الإعلان عن تطوير للقاح مضاد لفيروس كورونا حالة من الاستبشار أعادت الأمل في قرب احتواء جائحة كورونا والسيطرة على معدلات تزايدها، خاصة مع تأكيد العلماء المطورين له من العاملين في شركتي «فايزر» الأميركية و«بيونتك» الألمانية، أن المرحلة الأخيرة من التجارب تؤكد فاعليته بأكثر من 90 في المائة. ويحقق هذا الإعلان، الذي نوهت عنه مجلة «الإكونوميست» على غلافها بصورة مضيئة للقاح في نهاية نفق، نصرين علميين جديدين بين سرعة غير مسبوقة في تطوير اللقاح، وفاعلية عالية مقارنة باللقاحات السابق تطويرها للتعامل مع أوبئة أخرى. والعبرة الآن بتأمين وصول هذا اللقاح، وغيره من اللقاحات التي أوشكت أن تصل إلى اعتماد الدوائر الصحية إلى جموع الناس، بما يتطلبه ذلك من تغطية فجوة تمويل دعم نشر اللقاح حول العالم؛ فما تم تدبيره 5 مليارات دولار والمطلوب 28 مليار أخرى، وفقاً لما أعلنته منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي.
ولنا في التعامل مع وباء إيبولا عبرة؛ إذ تزامن اعتماد لقاح إيرفيبو المضاد لفيروس إيبولا في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، بعد سنوات من ظهور الوباء في خمس دول أفريقية، طرح أسئلة مهمة لخصها الطبيب النيجيري إيفيني إنسوفور في خمسة أراها ذات أهمية كبرى لتوفير اللقاح، خصوصاً في الدول النامية. أولها أهمية تدعيم النظم الصحية وقدرتها على الكشف المبكر عن المرض ومنع انتشاره والتصدي له؛ إذ تعاني النظم الصحية في الدول النامية من تراجع في «مقياس الاستعداد» الذي يجب ألا يقل عن 80 في المائة، وفقاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية، وهو لا يتجاوز في واقع الأمر 50 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء. ثاني هذه الأسئلة يتمثل في مدى توافر الأمن والاستقرار في عدد من الدول بما يمكّن الطواقم الطبية من القيام بعملها؛ فقد تعرض الكثير من الأطباء والممرضين للقتل والأذى أثناء قيامهم بالعمل في مجتمعات افتقدت الأمن. ثالث هذه الأمور يتعلق بشرح فائدة اللقاح وعدم انتظار انتشار الإصابة وتفشيها ليقبل الناس عليه؛ وقد رأينا مظاهرات ضد التطعيم لأسباب مختلفة، منها أن هناك من يعتقد بأن هذا الوباء وما يدور حوله ما هو إلا مؤامرة نسجت خيوطها بليل لإلهاء الناس أو ابتزازهم؛ وهو ما يستدعي نشر الوعي بالحقائق من قبل أهل العلم والاختصاص. رابع هذه الأمور يتمثل فيما أشرت إليه في مقال سابق عن افتقاد 40 في المائة من المراكز والوحدات الصحية في دول نامية للمياه النقية، وحرمان 35 في المائة من المطهرات والصابون لغسل الأيدي؛ بما يعرض المترددين عليها والعاملين لمخاطر العدوى ونشرها. وأضيف إلى ما سبق، أن هناك متطلبات لوجيستية وتخزينية يتعذر توفيرها في ربوع الدول النامية لتخزين اللقاح عند درجة حرارة تقل عن 70 درجة مئوية تحت الصفر في بلدان محرومة من الكهرباء في قراها وأحيائها، ناهيك عن تكلفة التبريد تخزيناً ونقلاً. قد يمنح هذا فرصة أكبر في المنافسة للقاحات قيد الانتهاء من آخر مراحل اعتمادها، مثل لقاح شركة «موديرنا» الأميركية، فضلاً عما يتردد عن قرب اعتماد لقاحات صينية وروسية مطورة.
ثانياً: نفق الديون وأضواء للدول الأكثر فقراً؛ بعد معاناة الدول النامية الأكثر فقراً ومنخفضة الدخل من أعباء الديون وعدم قدرتها على سداد أقساطها مع تبعات أزمة «كورونا» من نقصان في الموارد وزيادة النفقات ظهرت مبادرات تبنتها مجموعة العشرين، منها تأجيل سداد الأقساط ومد فترة هذا التأجيل حتى شهر يونيو (حزيران) من العام المقبل. ثم جاءت المطالبة بضرورة إعادة الهيكلة للديون المتراكمة حالة بحالة، خاصة مع ارتفاع ديون 73 دولة فقيرة بمقدار 10 في المائة لتصل إلى 740 مليار دولار في الشهر الماضي.
وفي الأسبوع الماضي اتفق وزراء مجموعة العشرين في إطار الرئاسة السعودية الحالية على إطار عمل مشترك بمبادئ معلنة متوافقة مع قواعد نادي باريس للتفاوض مع الدول الفقيرة الراغبة في تخفيض ديونها، ويفتح هذا الاتفاق المجال لدخول الدول الدائنة من غير الأعضاء في نادي باريس في هذا الإطار. يبقى أن دولاً نامية أخرى متوسطة الدخل تتعرض للضرر ذاته، لكنها غير مشمولة في هذا الاتفاق، كما أن هذا الاتفاق غير ملزم للدائنين من القطاع الخاص، سواء من البنوك أو حملة السندات، بما يشير إلى عدم اكتمال إطار إعادة الهيكلة للمديونية الدولية بعد، وأن البنيان المالي العالمي ما زال في حاجة إلى تدعيم وتطوير.
ثالثاً، أنفاق الاقتصاد وأنوار أخرى متباينة القوة والأثر. نترقب مع اقتراب بداية عام جديد ما ستحققه الإدارة الأميركية الجديدة وتفعيلها أولويات حددتها عن مساندة جهود مكافحة تغيرات المناخ والعودة لاتفاق باريس وضخها تريليونين من الدولارات في مشروعات استثمارية في البنية الأساسية متوافقة مع هذا الاتفاق. وفي هذه الأثناء تبدأ المملكة المتحدة السنة الأولى حتى عام 2025 نحو تطبيق قواعد الإفصاح الملزم لمؤسساتها المالية والاقتصادية عن المخاطر المالية المرتبطة بتغيرات المناخ، مع زيادة متوقعة في أعداد الدول التي ستتبع النهج ذاته بما سيغير من مسارات تمويل المشروعات، خاصة المتعلقة بالطاقة والبنية الأساسية والنقل.
كما تظهر بداية ضوء لما سيسفر عنه اختيار قيادة جديدة لمنظمة التجارة العالمية، متزامنة مع تفعيل أكبر اتفاق لتحرير التجارة تم توقيعه منذ أيام في قمة استضافتها فيتنام لتجمع دول «آسيان» العشر مع الصين، واليابان، وكوريا، وأستراليا، ونيوزيلاندا؛ ليضيف 200 مليار دولار سنوياً للاقتصاد العالمي.
وقبل انقضاء هذه السنة التي شهدت الجائحة يتوقع 100 مليون ممن حل بهم الفقر المدقع، ومعهم 250 مليون إنسان تعرضوا للجوع، و495 مليون ممن فقدوا أعمالهم في القطاع الرسمي وأضعاف عددهم في القطاع غير الرسمي، يتوقعون ويستحقون المساندة لإخراجهم من فلك الفقر والجوع والبطالة. وفي هذا، فإن في همة الدولة الوطنية واستثمارات مؤسساتها الخاصة والعامة، وتضامن المجتمع المحلي ومنظماته، لتفعيل الاقتصاد وآليات عمله وإنتاجه ما يغني حتماً عن انتظار معونات وهبات ومساعدات خارجية، قد تأتي أو تضل الطريق في نفق من وعود لا تتحقق. فليس كل ضوء يلمع في نهاية نفق نوراً هادياً للخروج منه.

د. محمود محي الدين

أوروبا تخطط لعملتها الرقمية الخاصة للغاية

من الواضح أن البنك المركزي الأوروبي عاقد العزم بكل جدية بشأن إصدار عملة اليورو الرقمي الجديد. فبعد مرور ما يقرب من شهر على إصدار البنك المركزي الأوروبي تقريره الرئيسي حول الأمر، ثم طرح المسألة أمام المشورة العامة، صرحت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي بأن غريزتها تخبرها بأن منطقة اليورو ربما تحصل على عملتها الرقمية الخاصة بها في غضون فترة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام على الأكثر. وذلك شريطة أن يتفق معها على ذلك بقية أعضاء مجلس إدارة البنك، ومن شأن تلك الخطوة أن تضع البنك المركزي الأوروبي في مرتبة متقدمة للغاية على البنوك المركزية الغربية الرئيسية الأخرى، وعلى رأسها جميعها بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة.
ويبدو حرص كريستين لاغارد بشأن ذلك الأمر حرصاً استراتيجياً قبل أي اعتبار آخر. إذ تواجه منطقة اليورو المخاطر والفرص نفسها التي تواجهها الاقتصادات المتقدمة الأخرى، من حيث إصدار العملات الرقمية. بيد أن الأوصياء النقديين لعملة الاتحاد الأوروبي قد يستشعرون وجود فرصة نادرة تتيح لهم تحدي هيمنة الدولار الأميركي على مجريات الاقتصاد العالمي، ذلك الهدف الذي طال انتظاره. وسوف تكمن المشكلة في استغلال هذه الفرصة السانحة من دون المساومة على سلاسة سير عمليات النظام المالي في أوروبا.
تعد الفكرة الكامنة وراء العملات الرقمية لدى البنك المركزي الأوروبي واضحة بصورة نسبية، لا سيما مع تراجع استخدام العملات النقدية مع تحول المستهلكين إلى الاستعانة بالمدفوعات الإلكترونية في أغلب المعاملات. كما أصبح هناك اهتمام متزايد أيضاً بمدفوعات الند للند، التي لا تعتمد في الأساس على الاستعانة بالبنوك، حيث يعمل بعض موفري الخدمات من القطاع الخاص، مثل شركة «فيسبوك»، بالاعتماد على العملات الرقمية من شاكلة عملة «ليبرا».
ومع اعتبار أمناء العطاءات القانونية والنظام النقدي المعمول به، فمن المنطقي تماماً أن تتدخل البنوك المركزية في سير المعاملات. ومن شأن العملات الرقمية أن تساعدهم أيضاً في تنفيذ أشكال غير تقليدية من السياسات النقدية، بما في ذلك «الإسقاط المروحي للأموال» أو (التوزيع العشوائي للمال المجاني بين المستهلكين لتحفيز زيادة الصرف)، تلك الأموال التي تذهب مباشرة إلى المحافظ الرقمية للأفراد من المواطنين.
ومع ذلك، فهناك مخاطر كبيرة قائمة أمام هذه الفكرة. ومن أبرزها علاقة عملة اليورو الرقمي بالنظام المصرفي الأوروبي بأكمله. إذ قد يعتقد الناس أن المحافظ الرقمية لدى البنك المركزي الأوروبي أكثر أماناً من الودائع المصرفية التقليدية. وبعد كل شيء، لا يمكن للبنك المركزي أن ينهار. وذلك من المحتمل أن تتدفق الأموال عليهم، لا سيما في فترات الضغوط المالية. ومن شأن ذلك أن يسفر عن تدمير النظام المصرفي بالصورة التي نعرفها عليه، أو على أقل تقدير يؤدي الأمر إلى إجبار المقرضين على سداد معدلات أعلى للإيداع من أجل المحافظة على العملاء.
تتحرك بعض البنوك المركزية بوتيرة سريعة على مسار استكشاف جدوى اعتماد العملات الرقمية. ومن رواد تلك المسيرة هو البنك المركزي السويدي، في حين يحتل البنك المركزي الصيني الصدارة في ذلك بين السلطات النقدية الرئيسية على مستوى العالم.
ومن الواضح أن البنك المركزي الأوروبي لا يرغب في أن يتخلف عن الركب بمفرده، على الرغم من أن تلك المسيرة لا يبدو أنها مدفوعة برغبة أصيلة من قبل المواطنين الأوروبيين الذين تتراجع تعاملاتهم مع العملات النقدية على نحو مفاجئ في الآونة الأخيرة. وأظهرت دراسة صادرة عن بنك التسويات الدولية أن سداد المدفوعات باستخدام البطاقات الإلكترونية في منطقة اليورو أقل انتشاراً بكثير عن المناطق الأخرى حول العالم: ففي عام 2016، بلغت تلك المعاملات نسبة 15.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المجمع، وذلك في مقابل نسبة 45.5 في المائة المسجلة بالمملكة المتحدة وحدها، ونسبة 31.7 في المائة المسجلة بالولايات المتحدة الأميركية.
ومن شأن استخدام بطاقات الدفع الإلكترونية أن يتوسع خلال السنوات القليلة المقبلة، لا سيما مع تسارع انتشار وباء كورونا المستجد حول العالم، ولكن لا تزال قيمة المدفوعات الإلكترونية والنقدية في نقاط البيع داخل منطقة اليورو متكافئة على نحو تقريبي، إذ تمثل التعاملات النقدية نحو ثلاثة أرباع أغلب هذه المعاملات.
فلماذا ترغب كريستين لاغارد في التحرك بوتيرة أسرع من البنوك المركزية الغربية الرئيسية الأخرى على هذا المسار؟
منذ أن بدأت في تولي مهام منصبها الجديد قبل عام من الآن، حاولت لاغارد أن تجعل البنك المركزي الأوروبي أقرب ما يكون من المواطنين في منطقة اليورو. ومن شأن العملة الرقمية أن تكون من وسائل إثبات فائدة البنك المركزي للمواطنين في الاتحاد الأوروبي. بيد أن التفسير الأكثر وضوحاً يكمن في تحدي موقف الهيمنة طويلة الأمد للدولار الأميركي. إذ يبلغ متوسط حصة اليورو عبر مختلف مؤشرات الاستخدام العملات الدولية نحو 19 في المائة عام 2019، أي بالقرب من أدنى المستويات المسجلة تاريخياً له. وإذا لاحظ المرء حركة الودائع الدولية، فإن ما يقرب من 20 في المائة من المبالغ المستحقة كانت باليورو الأوروبي فقط، في حين أن أكثر من 50 في المائة من النسبة نفسها كانت بالدولار الأميركي.
وجاء في تقرير البنك المركزي الأوروبي الصادر في الشهر الماضي بشأن اليورو الرقمي، على نحو صريح: «من شأن النظام المصرفي الأوروبي أن ينظر في أمر إصدار عملة اليورو الرقمي بصورة جزئية من أجل دعم الدور الذي يلعبه اليورو على الصعيد الدولي بين المستثمرين الأجانب». وهذا مما يبدو منطقياً للجميع. وهناك ميزة واضحة لمتخذي الخطوة الأولى إزاء العملة الرقمية لدى البنك المركزي، حيث من المتوقع شهود تدفق للمستثمرين الدوليين من أجل تخزين أموالهم لدى البنك المركزي الأوروبي. ومن الواضح أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان أكثر حذراً بشأن إصدار عملة الدولار الرقمية حتى الآن.
هناك دائماً مخاطر لازمة مع تولي زمام المبادرة. إذ ينبغي على البنك المركزي الأوروبي النظر في آثار تلك الخطوة على المصارف التابعة له، التي ربما تفقد إحدى الوسائل الرخيصة في كسب الأموال إذا جرى تهميش أعمال البطاقات الإلكترونية الخاصة بها. ومن باب طرح بعض وجهات النظر الشخصية، اقترح فابيو بانيتا، عضو المجلس التنفيذي لدى البنك المركزي الأوروبي، الذي يتصدر هذه العملية، مع أولريتش بيندسيل، أحد كبار مسؤولي البنك المركزي الأوروبي، فكرة نظام التعويضات بهدف الحد من كميات الأموال المخزنة لدى البنك المركزي الأوروبي، فمن شأن الاحتفاظ بأكثر من 3 آلاف من اليورو الرقمي أن يحمل معدلاً للفائدة أقل جاذبية من البنوك التجارية التقليدية.
وفي حين أن هذه الاستراتيجية سوف تزداد فاعليتها في فترات الهدوء المالي، فليس من المرجح أن تساعد في وقف هروب رؤوس الأموال إلى الملاذات الآمنة في فترات الأزمات المالية. ويتصور المؤلفان سالفا الذكر أن البنك المركزي الأوروبي يمكنه تخفيض سعر الفائدة على الودائع المالية الكبيرة في أوقات الأزمات المالية، بهدف الحد من مخاطر التدافع المصرفي المعروفة. ولكن حتى هذا التصور ربما لا يكون كافياً لإثناء المودعين عن الفرار بأموالهم.
لا يجانب البنك المركزي الأوروبي الصواب عند النظر في إصدار العملة الرقمية الخاصة به، ولكن ينبغي عليه المضي قدماً بوتيرة متأنية ومشمولة بالعناية والحذر. فلن يكون الاندفاع على هذه الطريق مستحقاً لمخاطر انهيار النظام المصرفي.

قمة الهموم المشتركة

قبل ما يزيد على العام بقليل، وفي قمة الدول السبع، اجتمع قادة الدول حينها ولكل منهم أجندته الخاصة، فترمب كان في خضم حربه الاقتصادية مع الصين، وجونسون في معمعة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا في صدام مع الولايات المتحدة بخصوص الضريبة الرقمية. وبدت هذه القمة بلا هموم مشتركة، فكل يغني على ليلاه وهمومه الخاصة. ولم تخرج القمة حينها برؤية واضحة تعبر عن رؤية لتغيير العالم، لا من الناحية الاجتماعية ولا الاقتصادية. ولكن العالم اليوم مختلف تماماً عنه حينها، فالهموم توحدت، والمشكلات أصبحت مشتركة، والحلول لا يمكن أن تأتي بها دولة واحدة. وكأن جائحة كورونا تمكنت من توحيد قوى العالم تحت مظلة واحدة، مظلة هي قمة مجموعة العشرين التي ترأسها المملكة العربية السعودية.
الزمن أعاد نفسه، فقبل 12 عاماً، اجتمع قادة العالم في واشنطن لمناقشة مستقبل العالم بعد الأزمة المالية التي عصفت بالعالم. وتحولت بعدها القمة إلى اجتماع للقادة، بدلاً من وزراء المالية، وتمكن العالم من توحيد جهوده للخروج بنفسه من أزمة اقتصادية أنهكته لسنوات كثيرة. هذا العالم توحد لعدة مرات قبل هذه الجائحة، وقبل الأزمة المالية. ولم يوحده إلا معرفة أن مصيره في خطر، إن لم يتكاتف، وهذا ما حدث بعد الحربين العالميتين، بتأسيس عصبة الأمم بعد الأولى، والأمم المتحدة بعد الثانية.
واليوم، يجتمع قادة هذه الدول بعد أزمة اختلفت عن سابقاتها، أزمة شلت أركان العالم، وأثرت على جميع سكانه، وتعدت الأثر الاقتصادي لتصل إلى التأثير الصحي والاجتماعي. كانت فكرة الخطر المشترك للعالم فكرة أقرب للخيال منها للواقع، ولذلك لم تأخذ كثير من الدول مشكلات كالاحتباس الحراري والتلوث الهوائي والمائي على محمل الجد، لعدم تقبلهم فكرة أن العالم قد يتعرض للخطر بأسره. ولكن هذه الأزمة أكدت أن العالم مصيره واحد، وأن ما يؤثر على دولة لوحدها قد يتعداها لدول وقارات. وأن التصرف الصحيح أو الخاطئ من دولة واحدة قد يمتد أثره لدول غيرها.
ولذلك فقد تميزت هذه القمة عن غيرها من القمم بأنها لا تختص بالدول العشرين فحسب، إنما هي قمة للعالم كله، وذلك من عدة نواحٍ؛ الأولى كانت بتبني المملكة العربية السعودية مبادرة لإطلاق منصة الاقتصاد الدائري الكربوني، تكون منصة للعمل التشاركي بين دول العالم من أجل حماية الكوكب من التغير المناخي، والحفاظ على البيئة من انبعاثات الكربون. والمصلحة في هذه المنصة ليست للدول العشرين فحسب، فكثير من هذه الدول منتجة للنفط المسبب للانبعاثات الكربونية. والهدف الأسمى هو الحفاظ على الكوكب، وذلك من خلال تطوير مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وإيجاد الحلول ذات الجدوى الاقتصادية لهذه المعضلة. وقد أكد الملك سلمان أن المملكة لديها اهتمام وعدد من المبادرات لالتقاط الكربون، وتحويله إلى مواد خام بوجود خطط لشرك
والناحية الثانية هي المسارعة بمساعدة الدول الفقيرة والأكثر تضرراً من جائحة كورونا، وذلك من خلال الصناديق العالمية، كصندوق النقد الدولي وغيره، وحزم المساعدات السريعة لهذه الدول، وتعهد الدول الأعضاء بتمديد اتفاق تخفيف أعباء الديون على الدول الأشد فقراً.
أما الناحية الأخيرة، وهي الأهم، فتشمل مستقبل العالم خلال العام المقبل، وهو عام يتوقع فيه أن يتحصل العالم على لقاح فيروس «كورونا». وقد شدد الاجتماع على أهمية التوازن في حصول جميع الدول على اللقاح الذي يجب أن يدعم من الناحية المادية، وألا تحرم دولة من اللقاح لعدم قدرتها المالية عليه.
وها قد انتهت استضافة المملكة العربية السعودية لقمة الدول العشرين؛ استضافة استثنائية بكل المعاني، فهي استضافة افتراضية للمرة الأولى، وهي قمة ناقشت قضايا تمس السواد الأعظم من العالم، سواء كانوا من الدول العشرين أو من غيرها. قمة لم تلتفت إلى الماضي، بل حملت هم مستقبل الأجيال القادمة، وهموم الأجيال الناشئة والشباب والنساء، وناقشت الحفاظ على الكوكب، وأهمية التعليم حتى في أحلك الأزمات، والتعاون بين الدول الغنية والفقيرة، والحفاظ على الحقوق الإنسانية للدول الفقيرة.
وقد تمكنت المملكة بكل اقتدار، من خلال مجموعاتها الفرعية، من مناقشة هذه المشكلات على مدى الشهور الماضية، والتقدم بحلول كانت ثمار تلاقح الأفكار بين المفكرين حول العالم في مختلف التخصصات؛ أفكار حملتها عقول من أجناس وجنسيات متعددة، جمعتها مظلة واحدة، وهي قمة العشرين التي رأستها المملكة العربية السعودية

د|. عبدالله الردادى

مرونة نماذج الأعمال

يقول الفيلسوف (بيتر دركر)، «إن خطر الاضطراب ليس في الاضطراب نفسه، ولكن في التصرف بمنطق الأمس». والمتأمل في عالم الأعمال اليوم، يجد أن التصرف بمنهجية ما قبل كورونا ليس من المنطق في شيء، بل إنه يعد ضرباً من الجنون في بعض الأحيان. والأمر اليوم تجاوز الحديث عن التغيرات التي «سوف» تحدثها الجائحة، فالجائحة أحدثت التغيرات بشكل فعلي وواقعي، والاقتصاد الذي يتعافى اليوم لن يعود بالشكل ذاته الذي كان عليه قبل الجائحة. ويمكن القول إن من استطاع الصمود حتى الآن فقد تجاوز عنق الزجاجة، ولكن ما لا يمكن تجاوزه هو التغيرات التي يجب حدوثها لتلافي الصدمات المستقبلية المشابهة.
أول التغييرات التي أحدثتها الجائحة هي دخول التقنية في كثير من المؤسسات، تلك المؤسسات التي رفضت التعامل مع التقنية على أنها حل خلال العقد الماضي. فأصبحت الاجتماعات الافتراضية أمراً مقبولاً في غالبية المؤسسات، وزاد استخدام الخدمات السحابية مع ازدياد عمل الموظفين من منازلهم، وتحولت التعاملات الورقية إلى تعاملات إلكترونية، وغيرها من التغيرات التي كانت في السابق خياراً متاحاً، وأصبحت اليوم أمراً مفروضاً لا يمكن إتمام العمل دونه.
ويطلق البعض على هذه التغيرات لفظ «رقمنة» نموذج الأعمال، والواقع أن نماذج الأعمال لم تتغير كثيراً، فمجرى العمل لم يتغير، والأفكار لم تتغير، وما تغير فحسب هو إرسال المعلومات عن طريق البريد الإلكتروني بدلاً من إرسالها ورقياً. ونماذج الأعمال لا تزال تتبنى التفكير السابق دون أي تغيير، ولو انعدمت التقنية لسبب أو لآخر، لجرى العمل كما هو عليه دون أن يتأثر جوهره، وهو أمر تجب دراسته بشكل دقيق لخطورته وتأثيره على التنافسية. وقد أجرى منتدى الاقتصاد العالمي دراسة على 250 مبادرة رقمية حول العالم، خلص فيها على أن الكثير من هذه المبادرات ركزت على زيادة الفعالية وأتمتة العمليات وتحويل العمليات الحالية من شكل ورقي ويدوي إلى عمليات رقمية. هذه المبادرات رغم صحتها، فإنها لا ترقى لكونها تغييراً إلى نماذج الأعمال الرقمية. بل إن هذه العمليات كانت واجبة قبل الجائحة، وهي أيضاً من العمليات التي كانت في وقت سابق خياراً لدى الشركات، وفرضتها الجائحة لتقليل التكاليف وزيادة قابلية الصمود أمام الصعاب المالية.
وما يجب التفكير فيه من الشركات خلال هذه الفترة، هي دراسة العوامل التي ساعدت في الصمود أمام الجائحة. فعلى سبيل المثال، كانت مرونة الأعمال سبباً كبيراً لصمود الكثير من المؤسسات، وتحولت الكثير من الشركات إلى الأعمال الرقمية بسبب ما فرضه التباعد الاجتماعي. وزادت الصعوبات في بعض القطاعات على بعضها الآخر، كقطاع التجزئة والمطاعم اللذين ساعدتهما التقنية بشكل كبير في الصمود ولو بشكل جزئي أمام هذه الجائحة. كما أن مرونة التغيير في النشاطات كانت عاملاً حاسماً ليس للصمود فحسب، بل للتوسع أيضاً. وتحولت العديد من مصانع المواد الكيميائية والعطورات إلى تصنيع المعقمات، كما تحولت مصانع الملابس إلى تصنيع الكمامات، ونشطت شركات النقل في العمل في تطبيقات التوصيل للمنازل بدلاً من العمل بين الشركات. هذه الديناميكية مع سرعة التصرف كانتا الفصل بين الانهيار والصمود أثناء الجائحة.
لقد أثرت الجائحة على قطاعات بأكملها دون أي اعتبار لمدى مرونة نماذج أعمالها كالطيران والسياحة، كما أنها خدمت شركات بسبب طبيعة قطاعاتها لا أكثر. إلا أن إعادة النظر في نماذج الأعمال الحالية أمر ضروري، والشركات الناجحة قامت بهذا التقييم حتى قبل الجائحة نفسها. فعلى سبيل المثال، لم تكن المصانع في حاجة للجائحة لمعرفة أهمية أتمتة العمليات وتقليل الاعتماد على الأعمال اليدوية التي تضررت بسبب التباعد الاجتماعي. بل كان من الواجب عليها تحسين عملياتها بشكل مستمر لضمان استدامتها. والأمر اليوم ينطبق على كثير من المصانع التي عادت اليوم للعمل بنفس منهجية ما قبل الجائحة، دون أي استفادة من هذا الدرس. إن الأزمات القادمة قد تختلف مع هذه الأزمة بطبيعتها، إلا أن المرونة في نماذج الأعمال وتحسين فعاليتها المستمر يساعد في تجاوز الأزمات القادمة. وقد يكون دور الحكومات في هذا الجانب هو إطلاق مبادرات تساهم في زيادة استدامة ومرونة الشركات والمصانع الضخمة التي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الوطني، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة مع اختبار الضغط السنوي التي يُفرض على البنوك والمؤسسات المالية بشكل سنوي منذ الأزمة المالية.

د. عبدالله الردادي

قمة العشرين… دور السعودية الفاعل في عالمنا المعاصر

ينتظر العالم انعقاد قمة العشرين يومي 20 و21 من الشهر الحالي في الرياض. وللأسف، لن تكون القمة بحضور رؤساء الدول والحكومات إلى العاصمة السعودية بسبب استمرار تفشي وباء الكورونا واشتداد «موجته الثانية» التي تضرب العالم أجمع. بيد أن هذا الأمر لن ينتقص من أهمية لقاء قادة أهم اقتصاديات العالم في لحظة حرجة ذات عنوانين رئيسيين: من جهة، يتعين أن تنصب كل الطاقات من أجل تسريع الخروج من هذه الأزمة الصحية التي تصيب الجميع. ومن جهة ثانية، يتعين إعادة إطلاق عجلة الدورة الاقتصادية على أسس جديدة تحترم، أكثر من أي وقت مضى، المعايير البيئية. لذا، فإن المناقشات والمحادثات التي ستحصل في إطار القمة المنتظرة ستوفر فرصة للتداول الضروري على المستوى الدولي من أجل التفاهم بشأن الأسس التي يجب أن تقوم عليها عملية إعادة إطلاق الاقتصاد المستدام.

إن قمة الرياض مهمة بحد ذاتها للعالم أجمع. إلا أن أهميتها ترتدي طابعا خاصا بالنسبة للملكة السعودية والعالم العربي بشكل عام. ذلك أنها ستشكل أول حدث من هذا النوع وبهذه الأهمية يجري برئاسة عربية. وفي نظري، فإنه يعكس الموقع الذي تحتله المملكة السعودية في عالم اليوم إضافة لكونها أصبحت، بمعنى ما، الناطقة باسم العالم العربي.

وفي زمن تتفاعل فيه التوترات على المستوى الدولي وتحديدا في منطقة الشرق الأوسط، فإن قمة الرياض ستوفر المناسبة لقادة المملكة السعودية لكي يعبروا عن مواقفهم ومخاوفهم وتوقعاتهم ومقترحاتهم من أجل إعادة الاستقرار إلى هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة للعالم أجمع.

وتتعين الإشارة إلى أن وصول الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض في الأسابيع القادمة يمكن أن يشكل عاملا يفتح آفاقا جديدة قد تساعد على دفع التعاون الدولي. ولا شك أن القادة المجتمعين سيتداولون بهذه المسألة خلال محادثاتهم على هامش أعمال القمة.

بيد أن هذا اللقاء الدولي الافتراضي على أعلى مستوى سيوفر فرصة استثنائية لإبراز التغيرات والتحولات المهمة التي تشهدها المملكة السعودية أكان ذلك على المستويين الثقافي والاجتماعي أو تحديث المؤسسات أو إطلاق المشاريع الإنمائية الأساسية قيد التنفيذ. وفي نظري، فإن مجمل هذه العناصر من شأنها أن توفر فرصا مهمة ومفيدة للتعاون بين المملكة السعودية وشركائها ويفترض أن تكون حافزا لجذب الاستثمارات الدولية في الاقتصاد السعودي.

من هنا، وبشكل عام، فإن القمة المرتقبة ستكون مفيدة جدا للمملكة السعودية لأنها ستعكس صورتها كدولة مهمة ذات إمكانيات تنموية واستثمارية واسعة ومتنوعة وتشمل جميع القطاعات. والأهم أنها ستبين أن المملكة تلعب بشكل كامل دورها كدولة رئيسية بين الأمم في عالمنا المعاصر.

– سفير فرنسا السابق في الرياض

برتراند بيزانسيو