أرشيف التصنيف: المقالات العامة

ثلاثة أشياء ستجعل العالم أفضل في أعقاب زوال وباء «كورونا»

أدى الحجم الكبير لكارثة وباء «كورونا المستجد» فضلاً عن حالات الإغلاق الاقتصادي العامة الناجمة عنها، إلى ظهور سلسلة من النقاشات والعديد من التساؤلات بشأن الصورة التي سوف يكون عليها العالم فور تخفيف تدابير الإغلاق الصارمة على المجتمع: هل ستنخفض معدلات السفر والرحلات؟ وهل ستتغير المعايير المعهودة سلفاً في المدارس وفي الفعاليات والمناسبات العامة ذات النطاق الأوسع على مدى السنوات المقبلة؟
ومن الأمور الأقل إثارة للانتباه، وإنْ كانت على نفس القدر من الأهمية أيضاً، هي احتمالات أن يتحول وباء «كورونا المستجد» إلى أحد العوامل المحفزة على إجراء الإصلاحات الأوسع نطاقاً في النظام الاقتصادي العالمي. ولقد بدأ النقاش بشأن مَواطن إخفاق الاقتصاد العالمي بالفعل قبيل انتشار الوباء الأخير، والذي تمخض عن إحساس مفاده بأن الاتجاهات الرأسمالية والشركات العديدة قد أصبحت من الطفيليات التي تتغذى على حياة هذا الكوكب.
وينبغي على البلدان الثرية حول العالم، في أعقاب زوال الوباء الراهن، أن تبذل المزيد من الجهود الواجبة وبأكثر من مجرد انتظار الشركات الرأسمالية أن تتخذ خطوات معتبرة على طريق التغيير. كما يتعين على البلدان الثرية أيضاً أن تعمل على إصلاح السياسات النقدية لديها، وتفرض التغييرات على أنماط الاستثمار الخاصة التي تشرع في تحفيزها بين الحين والآخر، فضلاً عن اتخاذ المواقف الواضحة – وربما الصارمة – في تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار على الصعيد الوطني.
وحتى الآونة الراهنة، تواصل السياسات النقدية المعتمدة لدى البلدان الثرية منح المكافآت الخاصة لأصحاب الأصول المالية الكبيرة على حساب أولئك الذين يملكون مخزوناً معتبراً من الأصول الحقيقية المتمثلة في الأراضي، أو المصانع، أو العمالة. ومرجع ذلك إلى البنوك المركزية القوية حول العالم والتي منحت الأولوية القصوى في السيطرة على التضخم الاقتصادي على حساب توسيع الإمكانات والقدرات الصناعية والتوظيف فيما بات يُعرف باسم «الاقتصاد الحقيقي».
ولقد أسفرت حالة الوضع الراهن في البنوك المركزية القوية، تلك الحالة التي ظلت تخيّم على مجريات الأحداث طيلة العقود الأربعة الماضية، عن تشجيع الشركات، لا سيما الشركات الكبرى ذات الأسهم المتداولة في مختلف البورصات العالمية، في التركيز على المكاسب المالية ذات الأجل القصير، وعلى أسعار الأسهم، وكل ذلك على حساب الاهتمام بمتابعة الاستثمارات المهمة ذات الأجل الطويل والتي تؤدي إلى جني المزيد من الثمار والعوائد المشتركة على نطاق أوسع بكثير. ولقد أدت مضاعفة المكاسب لدى أولئك الذين يملكون في الواقع الكثير من رؤوس الأموال إلى شيوع حالة من عدم المساواة في الدخول المتأصلة مع ركود واضح في الأجور أسفر عن معاناة كبيرة يتكبدها المواطنون في عشرات البلدان الأخرى على مستوى العالم.
وفي الولايات المتحدة وحدها، من المتوقع لبنك الاحتياطي الفيدرالي أن يواصل العمل بموجب التفويض ذي الشقين الذي يرمي إلى تعزيز «الحد الأقصى من العمالة» مع العمل على استقرار الأسعار في الأسواق الأميركية (عن طريق الحد من التضخم في الاقتصاد). ومع ذلك، وفي حين أن البنوك المركزية الكبرى – من شاكلة بنك الاحتياطي الفيدرالي – لديها أهداف شديدة الوضوح فيما يتعلق بالتضخم الاقتصادي، فإنها تهدف في الأحوال المعتادة إلى الحفاظ على معدل التضخم العام عند نقطتين مئويتين فقط، غير أنها لا تملك أهدافاً على نفس القدر من الصراحة والوضوح فيما يخص معدلات البطالة العامة في البلاد.
ومن شأن بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة أن يفرض سياسات جديدة تماماً تهدف إلى تخفيض معدلات البطالة في البلاد – أو بصورة أكثر صرامة، معدل البطالة الناقصة – لأن يكون هو الدافع المحفز الجديد فيما إذا كان البنك المركزي الأميركي سوف يقرر دفع أو كبح جماح المحفزات المالية في الاقتصاد الوطني. ومن شأن هذا التحول أيضاً أن يؤدي إلى تفادي مخاطر انخفاض الأجور، وأن يكون مفيداً بالنسبة إلى مجموعات قوة العمل التي تتعرض للتمييز المستمر ضدها أو غالباً ما تكون ضحية شعار «أول المفصولين هو آخر المعيّنين». والأهم من ذلك، أن ذلك التحول سوف يمنح المكافآت للشركات على الاستثمارات ذات الأجل الطويل التي تعمل على تعزيز مجريات النمو الاقتصادي الحقيقي.
ما الوسائل الأخرى التي يمكن الاستعانة بها في تحفيز وتشجيع الأسواق المالية حول العالم على منح الأولوية للاستثمارات الحقيقية البناءة؟ من شأن الحكومات البدء في فرض حِزم الضرائب المرتفعة على دفعات توزيع الأرباح على كبار المساهمين في الشركات الكبرى ذات الأسهم المتداولة علناً مع إقران ذلك بتخفيض حزم الضرائب على الاستثمارات ذات الأجل الطويل.
وليس من المستغرب أن المستثمرين – الذين كانوا خلال السنوات الماضية ينظرون إلى مشهد عام من النمو الاقتصادي البطيء إلى المعتدل على مستوى العالم – كانوا في الوقت نفسه يبحثون على العوائد المالية السريعة بدلاً من الاهتمام بالاستثمارات البناءة ذات الأجل الطويل – وربما المحفوفة بقدر معتبر من المخاطر – في بعض الأحيان. واستناداً إلى طلبات المساهمين، كانت الشركات والأعمال خلال السنوات العشر الماضية تركز جهودها على الوصول إلى العوائد بوتيرة سريعة ومتوقعة من قِبل المستثمرين بدلاً من الاستثمار في مشاريع البنية التحتية ذات الأفق الكبير – مثل الجهود البحثية، وبناء المصانع، وصناعة الآلات – والتي من شأنها أن تسفر في خاتمة المطاف عن المزيد من الابتكار ثم مزيد من تحفيز النمو الاقتصادي بصورة أوسع نطاقاً.
ووفقاً لتقرير صادر في عام 2019 الماضي تحت إشراف السيناتور الجمهوري ماركو روبيو عن ولاية فلوريدا، جاء بعنوان «الاستثمارات الأميركية في القرن الحادي والعشرين»، فإن صافي الاستثمارات المحلية الخاصة في محافظ الأصول الثابتة من شاكلة المعدات، والآلات، والممتلكات، قد تقلص إلى مقدار النصف منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
ومن شأن حزم الضرائب المرتفعة على دفعات توزيع الأرباح الكبيرة وعلى الإعانات الحكومية الفيدرالية في الاستثمارات ذات الأجل الطويل، أن تساعد الولايات المتحدة على عكس المسار الاقتصادي.
كما أننا في حاجة ماسة إلى التعامل مع مواطن تركيز الشركات الكبرى. فمن أجل العمل على إصلاح البنية الاقتصادية العالمية السائدة راهناً، من شأن الحكومات الرائدة حول العالم أن تتعامل مع حقيقة مفادها بأن العديد من قطاعات الاقتصاد – مثل قطاع الطيران، والمصارف، والتكنولوجيا – قد وقعت تحت رحمة التكتلات الاحتكارية التي يهيمن عليها عدد قليل من الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. ومن المعروف أن الأسواق في «عصر التكتلات الاقتصادية» تقل فيها المنافسات مع ارتفاع التركيز على قوة التسعير لدى الشركات الكبرى ذات الاتصالات الوثيقة.
ولقد ثارت عدة دعوات من قبل إلى تقسيم كبريات شركات التكنولوجيا أو العمل على الإقلال من أحجامها الهائلة أو الحد من توجهاتها الاحتكارية الواضحة. ومع ذلك، فإن العديد من الجهات الرقابية والتنظيمية على الصعيد الوطني تتخذ موقف الند بالند من الشركات العالمية الكبرى التي تتمكن بكل سهولة من استخدام قواعد أعمالها المتعددة في المراوغة أو التهرب الصريح من إنفاذ القواعد الرقابية غير الملائمة لها ولأعمالها. لذلك، سوف تكون هناك حاجة أكيدة إلى قيام التعاون الرقابي والتنظيمي الدولي من أجل كبح جماح القوة المطلقة من دون القيود التي تحظى بها تلك الشركات العملاقة ذات الجنسيات المتعددة.
وفي الآونة التي يبدو فيها العديد من الحكومات حول العالم مدفوعة بالنزعات القومية، فإنه يصعب كثيراً تصور قيام حالة من التعاون الفعال عبر الحدود بين البلدان. ومع ذلك، فإن المآثر الواضحة على التعاون العالمي من الماضي القريب – على شاكلة إنشاء نظام بريتون وودز (الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية) – تقدم أبرز الأمثلة على القادة والزعماء الذين يتمكنون من الالتقاء في لحظة ما في خضمّ التحديات العالمية الهائلة من حولهم.
وعليه، فإن أزمة الوباء الراهنة لا توفر لنا الفرصة السانحة من حيث إعادة النظر والتفكير في أفضل سبل العيش والعمل فحسب، بل إنها توفر الفرصة أيضاً لإعادة النظر والتفكير ملياً في الطريقة المثلى التي تعمل بها هياكل الاقتصاد العالمي.

* خبيرة اقتصادية

دامبيسا باميو

الحوافز الاقتصادية لتقويم السلوك العام

تعد الحوافز الاقتصادية إحدى أكبر الأدوات التي تمتلكها الحكومات لتوجيه بلدانها، وسواء كان ذلك لحل مشكلة موجودة أو لمنع حدوث أخرى، فقد أثبتت هذه الأداة فعالية كبيرة في تقويم السلوك العام على مستوى العالم. والأمثلة على هذه الحوافز كثيرة مثل المخالفات المرورية والغرامات التجارية بأنواعها والضرائب المنتقاة على السلع الضارة صحيا. ورغم كون هذا الأسلوب متبعا عالميا، إلا أن نتائج هذه الحوافز تتفاوت، فمنها ما قد لا يغير شيئا أبدا، ومنها ما يأتي بنتائج إيجابية، ومنها أيضا ما قد يأتي بنتائج عكسية تماما.
ولعل المثال الأشهر على النتائج العكسية للحوافز الاقتصادية، ما يعرف بحالة مدارس الأطفال، حيث أقرت إحدى المدارس غرامة على الآباء الذين يتأخرون عن أخذ أبنائهم من المدارس بعد انتهاء وقت المدرسة، وذلك لحث الآباء على عدم التأخر الذي عادة ما يضر بالمدرسين. ولكن نتائج هذه الغرامة كانت عكسية تماما، فبعد 12 أسبوعا من تطبيق هذه الغرامة، اتضح أن تأخير الآباء تضاعف. فقبل تطبيق الغرامة، كان دافع الإحساس بالذنب تجاه المدرسين هو ما يجعل الآباء يسرعون في أخذ أبنائهم، أما بعدها، فقد أحس الكثير من الآباء أن هذا التأخير مدفوع الثمن، ولا داعي للإحساس بالذنب تجاه أمر يدفعون ثمنه نقدا.
في المقابل، من الأمثلة على نجاح الحوافز الاقتصادية (أو الغرامات) في تقويم السلوك العام، ما حدث في إيرلندا عام 2002. حيث أقرت الحكومة الإيرلندية ضريبة على استخدام الأكياس البلاستيكية في التسوق وذلك حماية للبيئة من الآثار السلبية لهذه الأكياس التي قد يستغرق تحللها عشرات الأعوام. وكانت النتيجة أن انخفضت نسبة استخدام الأكياس بنسبة 94 في المائة خلال أسبوعين فقط.
هذا الفارق الشاسع بين الحالتين اللتين يفترض أنهما تستخدمان ذات الأسلوب لتغيير السلوك العام حفز الكثير من الباحثين على التعرف على العوامل المؤثرة على نجاح الحوافز الاقتصادية في تغيير السلوك العام. ويتضح أن الهدف من الحالة الإيرلندية كان هدفا أخلاقيا بحتا، فالحكومة الإيرلندية أرادت التخلص من الأكياس البلاستيكية لأثرها السلبي على البيئة، وتمكنت من خلال مداولات عامة وحملات دعائية من إيصال هذه الرسالة إلى الشعب الإيرلندي الذي يبدو أنه اقتنع أن هذه الضريبة كانت للصالح العام، ولم يكن الهدف من ورائها جني الأموال لصالح الحكومة. أما في حالة مدرسة الأطفال، فالرسالة التي وصلت للآباء هي «بإمكانكم التأخر عن أبنائكم طالما دفعتم الغرامة»، ولذلك فلم يمانع الكثير من الآباء في دفع الغرامة التي يبدو أنها ناسبت ظروفهم. في الحالة الإيرلندية استطاعت الضريبة أن تقوم السلوك السلبي، أما في حالة المدارس فقد أراحت الغرامة ضمير الآباء المتأخرين عن أبنائهم.
والشبه كبير بين هاتين الحالتين وما يحدث اليوم، فالكثير من الغرامات ورغم ارتفاعها وتطبيقها منذ فترات طويلة، إلا أنها لم تتمكن من إنهاء السلوك السلبي، بل تعايش الناس مع هذه الغرامات والضرائب على أنها أمر واقع ومن ضمن التكاليف الدورية. والأمثلة على هذه الغرامات كثيرة، امتدادا من المخالفات المرورية للأفراد إلى الغرامات التجارية على المنشآت المخالفة للشروط الأمنية أو الصحية أو حتى القوانين التجارية البسيطة. وفي بعض الحالات لا يبدو أن أيا من الأطراف منزعج بشكل كبير من هذا الحال، فالجهة المحصلة لا تمانع في تحصيل هذه الغرامة دون النظر في جدوى وجود هذه الغرامة في تخفيف السلوك السلبي، والجهة التي تدفع الغرامة لا ترى تقصيرا في الجانب الأخلاقي لارتكابها السلوك السلبي طالما دفعت الغرامة المترتبة عليها.
إن الهدف الأساسي من وجود الغرامات والحوافز الاقتصادية هو تقويم السلوك العام، واستخدام هذه الغرامات كحافز إضافي للحافز الأخلاقي، وفي حال عدم الالتفات لنتائج الإحصائيات الموضحة للتغير في السلوك سلبية كانت أم إيجابية، فإن وجود

الغرامات لا يتعدى كونه نظاما يطبق ولا يعطي أي نتائج سوى المبالغ المدفوعة. هذه الغرامات لا تحتاج إلى خبراء اقتصاديين فقط لتقييم جدواها ومعرفة الأثر الاقتصادي منها، بل تحتاج بشكل أكبر إلى خبراء نفسيين يدركون تأثير فرض هذه الغرامات ومدى تقبل الناس لها، كما أنها تحتاج وبشكل أكثر إلى توضيح المغزى من ورائها وإيصال رسالتها بشكل واضح لعموم الناس، ماذا وإلا فإن النظرة العامة لها ستكون نظرة سلبية بحتة، ولن تضيف هذه الغرامات إلا أرقاما توضح عدد مرتكبي المخالفات.

د. عبدالله الردادي

صندوق التعافي الأوروبي ولعبة الأمم وعملاتها

كلما مر عام على اليورو كعملة للاتحاد الأوروبي، منذ مولده في عام 1999، تذكرنا بأنه مشروع سياسي في الأساس يأتي التزاماً في إطار للوحدة الأوروبية التي صممت ترياقاً لمائة سنة من الحروب المدمرة بين دولها تخللها فترات سلام متهافت. صدر اليورو مفتقداً للمقومات الاقتصادية والمؤسسية لاستقراره واستدامته؛ فالوحدة النقدية يلزمها وحدة في الرقابة المالية، وليس مجرد تنسيق بين أجهزتها، كما تتطلب نظاماً موحداً لحماية الودائع، وفي المقام الأول فهي تستوجب وحدة في السياسات المالية العامة وليس فقط تشاوراً غير ملزم لوزرائها ومعدي الموازنات الوطنية. وهذه المستلزمات الأولية للوحدة النقدية تحتاج إلى متابعة ورقابة سياسية، بمعنى سلطات أعلى للبرلمان الأوروبي على حساب البرلمانات الوطنية، وهنا تبرز اعتبارات السيادة الوطنية مقابل الاتحاد الإقليمي.
وتأتي الأزمات فتختبر مدى صمود اليورو لأنوائها مثلما فعلت به من قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، فوجدته عارياً من غطاء المالية العامة لضبط التحويلات بين دوله وتحديد أولويات الأنفاق. ولم يكن لموازنة الاتحاد الهزيلة أن تحصل إيرادات ضريبية أو تصدر سندات. فأخذ البنك المركزي الأوروبي على عاتقه مهمة الدفاع عن اليورو وفقاً لسياسة لخصها ماريو دراجي، رئيس البنك السابق، في كلمات «القيام بكل ما يلزم» للتصدي للأزمة، وهو ما تم بتكاليف باهظة.
واليوم تتحدى الوحدة الأوروبية ذاتها، وليس وحدتها النقدية فقط، عاصفة «كورونا» الكاملة ذات الأزمات المركبة المصاحبة لانتشارها بأبعادها الإنسانية والاقتصادية والمالية، بما في ذلك تفاقم مشكلات المديونية. وللتصدي لهذه الأزمة قادت ألمانيا وفرنسا تنفيذ فكرة تأسيس صندوق للتعافي قوامه 750 مليار يورو بما يعادل 5 في المائة من الناتج المحلي الأوروبي يقوم على فكرة التضامن بالاقتراض الجماعي لأول مرة باسم الاتحاد، والإنفاق من موارده من خلال قروض ميسرة مقدارها 360 مليار يورو، ومِنح لا ترد مقدارها 390 مليار يورو. وسيعطي هذا الصندوق إمكانية للموازنة الموحدة للإنفاق بنحو 1.8 تريليون دولار على مدار سبع سنوات لمواجهة تبعات الوباء والكساد المصاحب له، بما اعتبر خطوة في طريق طويل نحو وحدة المالية العامة. وبعد مفاوضات مضنية تمت الموافقة على الصندوق وآليات عمله في اجتماع لقادة الاتحاد وُصف عن حق بالتاريخي في الحادي والعشرين من يوليو (تموز)؛ وإن كان ذلك كله ما زال في انتظار الموافقات البرلمانية للدول الأعضاء، وهو أمر يصعب التكهن بنتيجته في ظل حالات الاستقطاب والتنافر السياسي.
وقد بدأت التكهنات والمضاربات على مستقبل سعر الصرف بين الدولار واليورو وإعادة تقييمهما وفقاً للمعطيات الجديدة في الأجل القصير. وفي الأجل الأطول هناك الأهم، ألا وهو مستقبل اليورو مقابل الدولار كعملة احتياطي، خاصة مع بزوغ مقترحات وترتيبات جديدة لتسوية المدفوعات الدولية، منها ما يستند إلى دور متصاعد لليوان الصيني، وأخرى تدعو للارتكاز على سلة عملات أو وحدات حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، فضلاً عن المناداة بزيادة مكون الذهب في الاحتياطي للنقد الأجنبي، وهو اتجاه متصاعد منذ سنوات.
والعودة للجذور التاريخية للوضع الحالي للنظام النقدي الدولي تعين على فهم الواقع واستشراف احتمالات المستقبل. فقد بدأ الدولار في تمتعه بمصداقية كعملة دولية في العشرينات من القرن الماضي، ذلك عندما عجز الجنيه الإسترليني عن الوفاء بالتسوية الفورية للمدفوعات الدولية في فترة ما بين الحربين واضطراب النظام النقدي لبريطانيا. ثم تحققت للدولار الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان الاقتصاد الأميركي في حالة أفضل بعد الحرب من الاقتصادات المنافسة. ثم جاءت اتفاقية بريتون وودز بترتيبات أعطت للدولار امتيازاً بجعله عملة احتياطي دولي قابل للتحويل بمقدار 35 دولاراً للأوقية من الذهب (السعر الآن 1940 دولاراً!).
كان الاقتصادي فون ميزيس، رائد المدرسة النمساوية، من معارضي ترتيبات بريتون وودز فيما يتعلق بامتياز الدولار، لاحتمالات سوء استغلاله بالتوسع في الإصدار النقدي للدولار. وظهرت مؤشرات أولية لعدم إمكانية استمرار هذا الامتياز مع نهاية الخمسينات. وقد كان من تلاميذ فون ميزيس الاقتصادي جاك روف، مستشار الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول الذي عارض استمرار هذا الامتياز وعبّر عن ذلك في مؤتمر صحافي في عام 1965، واصفاً نظام الصرف الذي رتبته اتفاقية بريتون وودز بـ«المستغل والخطير»، ناصحاً بالعودة لنظام نقدي يعتمد على الذهب. وفي عام 1970 صدر تقرير فيرنر نسبة لرئيس حكومة لوكسمبورغ، بناءً على توصية بإعداده من القمة الأوروبية. وشرح التقرير خطة من ثلاث مراحل لإيجاد عملة موحدة لأوروبا في خلال عشر سنوات، ولكن لم ترَ هذه الخطة النور بضغوط أميركية.
ومع ارتفاع معدلات التضخم الأميركية، بزيادة المعروض النقدي في بداية السبعينات، اهتزت الثقة في نظام التحويل التلقائي للدولار إلى الذهب، وتوالى خروج الدول من نظام صرف بريتون وودز، وكان منها ألمانيا (الغربية وقتها) ثم سويسرا وغيرهما مطالبين بتحويل ما تحوزه من دولار إلى ذهب كما يقضي الاتفاق. وفي عام 1971 قررت إدارة الرئيس الأميركي نيكسون، التي كانت تعاني بلاده من ركود مصاحب بتضخم وتراجع في التنافسية الدولية لمنتجاتها لصالح المنتجات اليابانية والأوروبية، بتعليق التحويل التلقائي للدولار إلى ذهب. وتم إغلاق «نافذة التحويل التلقائي» من الدولار إلى الذهب. وبرر نيكسون في خطاب متلفز لشعبه القرارات التي اتخذها، بعد استشارة خمسة عشر من كبار مساعديه، بأنها للحفاظ على عملتهم. وقرر زيادة التعريفة الجمركية على الواردات بمقدار 10 في المائة لحماية المنتجات أميركية الصنع، مهدئاً من روع مشاهديه بأن هذه الإجراءات سترفع سعر الواردات، لكنها ستحمي المنتج المحلي وتحافظ على سعره.
أما الامتياز الفياض فهو التعبير الذي استخدمه جيسكار ديستان، الذي رأس فرنسا في الفترة من 1974 حتى 1981، في وصف المزايا التي يتمتع بها الاقتصاد الأميركي بفضل تسوية النسبة الأكبر من المعاملات الدولية بالدولار. وجعل هذا الاقتصاد الأميركي قادراً على تمويل عجز الموازنة العامة والحساب الجاري لميزان المدفوعات بتدفق مستمر لرؤوس الأموال إليه. ويزيد ريع الإصدار للعملة الأميركية بتزايد نمو الطلب الدولي عليها؛ فكل حامل للدولار الأميركي مقرض لاقتصادها.
وقد عاد مشروع العملة الموحدة في عام 1989 بتقرير السياسي الفرنسي جاك ديلور أثناء رئاسته للمفوضية الأوروبية، كتتويج للسوق الأوروبية الموحدة وحرياتها الأربع المتضمنة حرية انتقال السلع ورؤوس الأموال والخدمات والعمالة. ودعم هذا التوجه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران والمستشار الألماني السابق هيلموت كول بالدفع بأن هذه الإجراءات مجتمعة من شأنها الوصول بأوروبا إلى اتحاد فيدرالي لا يختلف عن المعمول به في الولايات المتحدة؛ كان هذا هو الطموح الأوروبي وقتها.
بدأ العمل الفعلي بالعملة الموحدة في عام 2002، واعتمدتها 12 دولة من الأعضاء في الاتحاد، وتبعتها 7 دول أخرى لتشكل فيما بينها دول نطاق اليورو. ويتعامل به 340 مليوناً من المقيمين في هذا النطاق الجغرافي، بالإضافة إلى ست من غير الدول الأعضاء. ورغم أن اليورو هو ثاني أكبر عملة في العالم من حيث الحجم والتجارة في العالم، فإنه يحتل المرتبة الأولى من حيث التداول عالمياً لأوراقه النقدية وعملاته المعدنية التي يصدرها البنك المركزي الأوروبي.
وإذا كان بقاء عملة اليورو متمتعة بالقبول هو المقياس الأعلى للنجاح، فإن هذه التجربة الكبرى للوحدة النقدية قد نجحت، حتى الآن، وذلك وفقاً لوصف الاقتصادي المخضرم باري أيكنغرين، الأستاذ في جامعة بيركلي الأميركية. ونتذكر معه أيضاً بأنه في عالم الاقتصاد والاستثمار والتمويل لا تضمن مؤشرات الماضي نتائج المستقبل، وإلا استمرت عملات أخرى كانت معتمدة دولياً، ثم انحسرت واختفت بعد تراجع القوى الاقتصادية والسياسية المساندة لها. واليوم، لن تجد لعملات أصدرتها إمبراطوريات وقوى كانت عظمى، أي أثر دال عليها وعلى ما كانت عليه من شأن إلا في بعض المتاحف وكتب التاريخ.

د. محمود  محيي الدين

عن قيادة الاقتصاد ومؤشرات الأزمة والمرايا المضللة

تقود سيارتك وتطالع لوحة القيادة والتحكم فتفاجأ بأن كل مؤشر يُفترض ارتفاعه في نقصان، وكل دليل يجب الحرص على انخفاضه في ازدياد. هذا هو وضع الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا: فالنمو الذي كان يتباكى مقدروه على انخفاضه في أول العام لأنه سيقل عن 3 في المائة، لن يقل تراجعه عن 8 نقاط مئوية عما كان مقدراً له ليصل إلى سالب 5 في المائة، وفقاً لأفضل تقدير من المؤسسات الدولية الثلاث التي تحدث تقديراتها بانتظام وهي صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي. وقد خفضت كل هذه المؤسسات تقديراتها في شهر يونيو (حزيران) عما قدرته منذ أسابيع معدودة في شهر أبريل (نيسان). وتشير منظمة العمل الدولية إلى خسارة سوق العمل لما يعادل 300 مليون فرصة عمل حول العالم، من العمالة المنتظمة، وهو أكثر بخمس عشرة مرة لخسائر البطالة عما سببته الأزمة المالية العالمية.
وقدرت منظمة التجارة العالمية تراجع التجارة العالمية بما قد يتجاوز 30 في المائة عما كانت عليه في العام الماضي. وذهبت منظمة الأنكتاد التابعة للأمم المتحدة إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر سينخفض بنسبة لن تقل عن 40 في المائة ليقل رقمه عن تريليون دولار لينحدر لما كان عليه منذ خمسة عشر عاماً في عام 2005. وفي هذه الأثناء تتراجع تحويلات العاملين بالخارج بأكثر من 20 في المائة مقارنة بالعام الماضي. أي أنه لم تسلم قناة من القنوات الثلاث للعولمة الاقتصادية، المتمثلة في التجارة والاستثمار وعوائد هجرة العمالة من ضرر بالغ.
وفي ظل هذه الأوضاع تتزايد أرقام الفقر المدقع ليضاف إلى من يعانون منه ما يقدر بحوالي 70 مليونا و100 مليون إنسان، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بما يجعل الرقم الكلي للفقراء وفقاً لهذا المعيار يقترب من مليار إنسان. ويحذر برنامج الغذاء العالمي في الوقت نفسه من تفاقم مشكلة شح موارد الغذاء لتطول 265 مليون من البشر.
وفي هذه الأثناء تطالعك أرقام البورصات المالية العالمية وهي في ارتفاع متراقص غير مبالية بركود أو بتهديد بكساد، فتعوض خسائر شهري فبراير (شباط) ومارس التي تكبدتها مع أنباء الوباء، وتتجاوزها ارتفاعاً. وفي حين يرى البعض أن مستثمري البورصات يرون في المستقبل ما لا يرى عموم الناس، فالواقع يدل على أن مرتادي شارع وول ستريت، حيث تقع بورصة نيويورك، قد انفصلوا عن شوارع أسواق الاقتصاد الحقيقي المصدومة، طلباً وعرضاً، والمواجهة لضغوط إعادة جدولة المديونيات والصلح الواقي من الإفلاس، لمن لم يفلس بالفعل، إذ لم يكونوا من المشمولين بحزم الدعم المعلنة.
فلا توجد هناك أدلة دامغة على أن البورصة مرآة للاقتصاد الحقيقي حتى في الأحوال العادية بعيداً عن الأزمات. فالبورصة سوق لتداول الأوراق المالية ومجال للاستثمار وللتمويل، وكذلك التوسع والتخارج لشركات مسجلة. وفي حالة البورصات العالمية قد تكون الشركات غير متواجدة أصلاً في الاقتصاد الحقيقي للدولة، أو أن أغلب نشاطها خارجها مثل حالة الشركات الأجنبية المسجلة في بورصتي لندن ووول ستريت. كما أن هناك أنشطة اقتصادية هادفة للربح غير ممثلة في البورصات. وفي الدول النامية ينشط القطاع غير الرسمي في الاقتصاد لا علاقة بينه وبين البورصات فهو غائب عن أي سجل معتمد أو تعداد.
فالقول إذن بأن البورصة مرآة للاقتصاد ومؤشراتها تعبر عن أدائه الكلي لا يستند إلى دليل إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن من المرايا أنواعا غير مستوية مقعرة ومحدبة، وهناك أخرى مكسورة ومشوهة. وتظل العلاقة بين الشارع المالي والشارع الاقتصادي أكثر تعقيداً واختلافاً عما يصوره أصحاب المرايا. فما يجب أن تعكسه البورصات هو أداء الشركات المسجلة وتوقعات نشاطها وهذا هو المطلوب من مؤشراتها؛ لكن في الأزمة العالمية الحالية تضطرب المعايير، خاصة مع وجود تمويل رخيص متاح لبعض المستثمرين وضخ غير مسبوق للنقد من البنوك المركزية التي مدد أكبرها قوائمها لتشتري أصولاً تجاوزت 6 تريليونات دولار بما في ذلك من أصول مالية عالية المخاطرة. ويتزايد مع التمويل الرخيص نشاط المقامرين، وليس المضاربين فقط، وأنماط شرحتها، في مقال سابق في هذه الصحيفة الغراء، عن «بونزي وشركائه» ونماذج التمويل الهرمي يفوز فيها من يدخل السوق ويخرج منها مبكراً قبل موجات الانخفاض الحاد أو انفجار الفقاعات المالية مثلما حدث مراراً من قبل في أزمات مالية سابقة. لكن ذاكرة الأسواق تتبدد مع سيطرة سلوكيات الأزمة بين جشع لمحترف قديم وطمع لمستجد غشيم.
والواجب هو الدفع بتطوير سوق المال بالعمل على تنويع محافظ شركاتها المدرجة مع تدعيم الرقابة وإتاحة المعلومات المدققة عن أوراقها المتداولة وتبصير المستثمرين بالمخاطر والعوائد، وحبذا لو اتخذت هذه الإجراءات قبل وقوع الأزمة لا أن تأتي في شكل عظات بعد اندلاعها.
أما الاقتصاد الحقيقي فله محدداته ومؤشراته التي ظهر مدى تأثرها بالأزمة ولا تحسن لها إلا باستكمال إجراءات التصدي لأزمة الوباء الصحية وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية:
وفي هذا أميز بين ستة مجالات للسياسات العامة وتنفيذها بالمشاركة مع قطاع الأعمال والمجتمع المدني:
أولاً، اتخاذ تدابير التعايش مع فيروس كورونا وتكاليف توفير وسائل الوقاية وتدابير التباعد الاجتماعي وتوفير العلاج ومستلزماته، خاصة مع غياب وجود لقاح ضد الفيروس.
ثانياً، مكافحة الركود ومنع تحوله لكساد من خلال الإنفاق الاستثماري في تطوير رأس المال البشري من خلال الرعاية الصحية والتعليم، وتدعيم البنية الأساسية والتكنولوجية، الاستثمار في التوقي من آثار تغيرات المناخ وتمتين قدرة المجتمع على احتواء الصدمات؛ ولا يوجد تناقض بين هذه الاستثمارات وأولوياتها فهي متكاملة يمسك بعضها من أجل التنمية بعضاً.
ثالثا، التصدي لمشكلات زيادة الديون خاصة في شقها الخارجي قبل تحولها لأزمة كتلك التي شهدتها بلدان أميركا اللاتينية في الثمانينات وجنوب شرقي آسيا في أواخر التسعينيات.
رابعاً، تبني التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها كأسلوب حياة وإنتاج وتطور وليس مجرد قطاع منفصل.
خامساً، توطين التنمية المستدامة بدفع الاستثمارات المحلية في أركان اقتصاد الدولة بدأ من الأقل دخلاً ورفاهاً.
سادساً، التعامل المتوازن بين أدوار مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة وتلك المرتبطة بالمجتمع، فلكل مجاله وشأنه لا يجب الافتئات عليه، مع ضرورة مواكبة القواعد الرقابية لمستلزمات العصر وشدة تغير معطياته.
وعلى صناع السياسات في المجالات الستة المذكورة مراعاة تأثر إجراءاتها وكفاءة تطبيقها بفعل عاملين من عوامل أزمة الجائحة يدفعان بعضهما دفعاً. فبعدما جاءت الأزمة كاشفة لمواطن القوة والوهن في الاقتصاد والمجتمع ومؤسسات الدولة، ترى العامل الأول كمعجل لحدوث ما كان ينتظر وقوعه في سنوات فيصير حدوثه في أشهر معدودة. أما العامل الثاني فيرجع لتأثير القصور الذاتي يدفع الأمور لمسارها القديم، ويتصدى للتغيير كأن أزمة لم تقع. ويدفع العاملان بعضهما بعضاً حتى يصير الأمر لواقع جديد في عالم شديد التغير.

د. محمود محي الدين.

الجانب الإيجابي من الحرب الباردة الجديدة مع الصين

اعتقد الآباء المؤسسون للولايات المتحدة أن المنافسات والصراعات الخارجية الطويلة الأمد قد تسفر في خاتمة المطاف عن تقويض وتدهور الديمقراطية في داخل البلاد. وصار العديد من أقوى التحذيرات الصادرة اليوم في الولايات المتحدة تتخذ منهجاً مماثلاً في الترهيب من اندلاع حرب باردة جديدة مع الصين.
وانطلقت صحف مرموقة من شاكلة «نيويورك تايمز» و«الإيكونوميست»، فضلاً عن بعض الكتّاب والنقاد السياسيين البارزين يحذرون من انطلاق «الرعب الشيوعي الأحمر الجديد». وتنطوي تلك التحذيرات في مجملها على أن المخاطر الجيوسياسية الجديدة من شأنها أن تسفر عن تضييق على حرية التعبير السياسي، والملاحقات المحمومة عن الأعداء في الداخل، مع تآكل لازم في الحريات الفردية والمدنية التي من المفترض أن السياسات الخارجية الأميركية تناصرها وتدافع عنها لدى مختلف المحافل الدولية.
ويتسم هذا الخوف بقدر معتبر من المعقولية: إذ برهنت الحرب الباردة السابقة على أن البلدان الديمقراطية الكبرى ليست منيعة تماماً ضد إلحاق الأذى بالنفس تحت أسماء حفظ الأمن. غير أن تاريخ هذا الصراع بالتحديد يعلمنا درساً أكثر أملاً وتفاؤلاً، وهو أن المنافسة والصراع يمكن أن يخلقا قدراً من الضغوط «الفاضلة» للأمة الأميركية كي تخرج بنسخة أفضل كثيراً مما كانت عليه.
تضرب الفرضية القائلة إن المنافسات الاستراتيجية تقوض أركان الديمقراطية بجذورها العميقة في التاريخ. ففي أثناء حرب البيلوبونيز الإغريقية القديمة، أسفر الإجهاد الكبير الناشئ عن طول أمد الصراع ضد إسبرطة عن تقويض أسس السياسات الليبرالية في أثينا القديمة بصورة نسبية. وعند تأسيس الجمهورية الأميركية الحديثة، حذر ألكسندر هاميلتون من أن «حالة الخطر المستمرة قد تقنع المواطنين الأميركيين بالإقدام على مجازفة العزوف عن الحريات الفردية العادية».
وتؤدي الحرب والمنافسة، كما يقول المفكرون، إلى اتخاذ إجراءات منعدمة الليبرالية بطبيعة الحال. ويهيئ الخوف الأجواء للغوغاء والدهماء وأنصار الفوضى الذين يروق لهم تحويل حالة انعدام الأمن إلى مكاسب سياسية آنية.
وكما ظهر من الحرب الباردة السابقة، فإن هذه المخاطر ليست متوهمة، حيث صار الطعم الشيوعي الأحمر من الاستراتيجيات الانتخابية الناجعة. ويستغل أنصار الانتهازية السياسية شعارات معاداة الشيوعية بصورة جد ساخرة كسلاح ماض في المناقشات والجدالات الداخلية بشأن حقوق العمل وغيرها من القضايا المهمة الأخرى. ونجحت النزعة الماكارثية في تضفير كل تلك الخيوط معا كي تميط اللثام عن أسوأ ما تمخضت عنه سياسات الحرب الباردة.
وتركزت هذه الظاهرة حول شخصية سياسية رعناء برزت من خلف الكواليس إلى بقعة الضوء من خلال المزاعم الفاضحة حول الخيانة الوطنية والتخريب الداخلي. ولكنها ما حازت الزخم الكبير الذي عايشته إلا لأنها استغلت الحركة الشعبية الموازية لها أيما استغلال. وكانت تلك الحركة قد استجابت راغمة للمخاوف الحقيقية من انتشار جواسيس الشيوعية، وتداعيات ذلك من ملاحقات الحملة العقابية التي وأدت الحياة، وعصفت بالحريات المدنية، ودفعت العديد من حلفاء الولايات المتحدة آنذاك إلى التساؤل عما إذا كانت واشنطن تؤمن حقاً بالقيم والمبادئ التي تزعم الدفاع عنها ومناصرتها.
ومن حسن الحظ، أن هذا الخط لا يمثل سوى جزء يسير من مجمل تاريخ الولايات المتحدة إبان حقبة الحرب الباردة. وكانت حمى المكارثية قد نشطت في البلاد بحلول منتصف خمسينات القرن الماضي، وبرهنت المؤسسات الوطنية الأميركية على رسوخها وثبات أركانها وأنها كانت أقوى من التحديات التي فرضتها عليها تلك الحركة. وإجمالاً للقول، كان صراع القوى العظمى وقتذاك بمثابة القوة الدافعة من أجل التغيير البنّاء في الداخل الوطني الأميركي.
وعلى نحو محدد، ونظراً لأن الحرب الباردة كانت تعكس المنافسات الآيديولوجية الشرسة بشأن شكل ونوع النظام الذي يمكن أن يلبي تطلعات الجنس البشري على وجهها الأفضل، خلق ذلك الصراع المحتدم حتمية ضرورية للولايات المتحدة لأن ترقى إلى مستوى تلك الصورة الراقية التي صورها لها العالم. كذلك، ولأن المنافسة الشديدة كانت تستلزم من الولايات المتحدة التعبئة والاحتشاد على جميع المستويات من أجل مواكبة الصراع طويل الأمد، فلقد دفعت البلاد دفعا إلى الاستثمار في تحسين وتطوير الذات.
وبإمعان النظر في حركة الحقوق المدنية الأميركية، شكلت بعض النجاحات الكبرى ضد التمييز الذي ترعاه الدولة، وحالات الإقصاء السياسية، ومظاهر العنف العنصري، قدراً من أهم المنجزات المحلية في الولايات المتحدة لا سيما في فترة ما بعد حقبة تلك الحرب الباردة، وكانت ذات ارتباط وصلة وثيقة بهذه الحرب.
أجل، استغل أنصار الفصل العنصري ومكتب التحقيقات الفيدرالية ثيمة معاداة الشيوعية في شن الهجمات الضارية على مارتن لوثر كينغ الابن وعلى غيره من دعاة وزعماء الحقوق والحريات المدنية. لكن وبصفة عامة، كانت الحرب الباردة تمثل قوة من قوى المساواة نظراً لواقع العلاقات العرقية داخل المجتمع الأميركي وغير المتوافقة مع جهود الحكومة الأميركية في كسب تأييد ومناصرة القلوب والعقول في بلدان العالم الثالث.
وصرح الرئيس الأسبق هاري ترومان في عام 1947 قائلا: «لا بد من كسب مناصرة وتأييد شعوب البلدان البائسة التي مزقتها الحروب من أجل أسلوب الحياة الحرة. ولم يعد بإمكاننا تحمل رفاهية شن الهجمات الفارغة ضد التحيز والتمييز العنصري».
وأقرت وزارة العدل الأميركية، في عهد الرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور في عام 1954 أن التمييز العنصري يغذي نهم الدعاية الشيوعية في البلاد. وصرح وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك جون فوستر دالاس في عام 1957 قائلا بلهجة واضحة وقاسية: «إن التمييز العنصري المؤسسي في البلاد يهدد سياساتنا الخارجية تهديدا شديدا».
ومن واقع قرار الرئيس ترومان بإلغاء الفصل العنصري داخل القوات المسلحة الأميركية، إلى التدخل الفيدرالي لوقف الفصل العنصري في المدارس منذ خمسينات القرن الماضي، وحتى تمرير قوانين الحقوق المدنية التاريخية، والتشريعات التي تضمن حقوق الناخبين في الستينات، كانت ضرورة الدفاع عن النظام الأميركي العام في الخارج تشكل قوة دفع قوية للعمل على تحسين هذا النظام ومجرياته في الداخل الأميركي.
ولنطرح على أنفسنا سؤالاً مهماً: لماذا تملك الولايات المتحدة أفضل وأحسن نظم التعليم العالي على مستوى العالم؟ لقد أسفرت تداعيات الحرب الباردة السابقة عن توفير دعم غير مسبوق للجامعات الأميركية في وقت السلم، ولا سيما في أعقاب مفاجأة الاتحاد السوفياتي للعالم بإطلاقه للقمر الصناعي «سبوتنيك» في عام 1957، الأمر الذي دفع الحكومة الفيدرالية الأميركية إلى ضخ المزيد من الأموال فيما نطلق عليه اليوم اسم تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، والتي كانت ذات ضرورة كبيرة في المنافسات العلمية في عصر صواريخ الفضاء.
ومن بين الأمور التي كانت أقل معرفة وإنما أكثر حيوية وحسما كانت رعاية الحكومة الفيدرالية لبرامج التدريب اللغوي وبرامج الدراسات المتخصصة، والعلوم الاجتماعية، وسواها من التخصصات التي تعد ضرورية في بسط التأثير والنفوذ على الصعيد العالمي. وبحلول عام 1961 كان 77 قسماً من أصل 90 قسماً أكاديمياً في جامعة ويسكونسن منخرطة ضمن برامج مسددة التكاليف من جانب الحكومة الفيدرالية. وصارت جامعة هارفارد المرموقة، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبعض المؤسسات الأكاديمية الخاصة الأخرى، من بين أفضل المؤسسات التعليمية والجامعية على مستوى العالم. وكانت حقبة الحرب الباردة بمثابة العصر الذهبي للجامعات الأميركية، نظرا لأنها نجحت في إقناع قادة البلاد بحتمية أن تظل البلاد قوة عظمى على الصعيد الفكري والعلمي والتعليمي حتى تبقى قوة عظمى كذلك على الصعيدين العسكري والاقتصادي.
وباتت العديد من الجوانب الأخرى للازدهار في الولايات المتحدة تدين بالفضل الواضح والكبير لحقبة الحرب الباردة. فلقد أقيمت مشاريع كثيرة للبنية التحتية في البلاد، فضلا عن نظم الطرق السريعة بين الولايات الأميركية، كانت لها أسبابها وتداعياتها الجيوسياسية الواضحة. كما ضمنت النفقات الفيدرالية السخية على جهود البحث والتطوير في ظهور أشباه الموصلات، وشبكة الإنترنت، والتقانات الأخرى الكثيرة التي نجحت في نقل الولايات المتحدة إلى عصر المعلومات. ومن دون الحرب الباردة لم نكن لنعرف معنى «وادي السليكون» في ولاية كاليفورنيا.
وعلى نطاق أكبر، وفر الإنفاق العسكري الهائل إبان حقبة الحرب الباردة محفزات شبه دائمة فضلا عن ملايين الوظائف الجيدة للأفراد في مختلف أفرع القوات المسلحة وقطاع الصناعات الدفاعية في البلاد. وفي خاتمة المطاف، انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة؛ نظراً لأن نظامها المعتمد برهن على أنه أكثر ثباتاً وجاذبية من نظام الاتحاد السوفياتي. ومن بين أبرز أسباب جاذبية النظام الأميركي أن الحرب الباردة استمرت في دفع الولايات المتحدة لمواصلة الاستثمار في ديناميات حياتها ونظامها الخاص.

هال برندز.

الخوف من الوباء والركود

عملت حكومات العالم خلال الفترة الماضية وما زالت تعمل، على إخفاء الأضرار الاقتصادية التي أحدثها الوباء من خلال الدعم الحكومي الضخم. لكن كل ذلك على وشك التغيير الآن وستكشف الأشهر القليلة القادمة عن التأثير الاقتصادي الكامن لفيروس «كورونا» في جميع أنحاء العالم بشكل أكثر وضوحاً مما رأيناه حتى الآن. ورهاني أنه بمجرد أن تشرع الحكومات في سحب دعمها المالي، فإن الصورة الاقتصادية ستبدو أسوأ مما هو متوقع تماماً.
يتطلب تكوين فكرة عما سيحدث قريباً أن نكون واضحين بشأن كيفية وسبب تأثير الوباء على الاقتصاد: هل لأن الحكومات طلبت من الناس البقاء في منازلهم، أم بسبب الفيروس نفسه؟ يُظهر بحث جديد أن الخسائر الاقتصادية جاءت بشكل رئيسي من الخوف، وليس من الإغلاق الحكومي. لذلك فإن إنهاء حالة الإغلاق دون التخلص من الخوف لن يؤدي إلا إلى القليل من التحسن.
يستند أحد التحليلات التي قام بها الباحثان أوستان جولسبي وتشاد سيفرسون من جامعة شيكاغو، إلى سجلات الهاتف الخلوي لزيارات العملاء لأكثر من مليوني شركة. فقد نظر الباحثون في التفاصيل لتقييم كيفية تأثير قواعد الإغلاق على النشاط مثلاً من خلال البحث في المقاطعات في منطقة تنقّل محددة ذات قوانين مختلفة. ووجدوا أن حركة المستهلكين انخفضت بنسبة 60% من بداية مارس (آذار) إلى منتصف أبريل (نيسان)، وأن أوامر الإغلاق الحكومية تسببت في نسبة لم تتخطَّ 7% فقط من هذا الانخفاض، وخلصوا إلى أن الدافع الرئيسي كان الخوف. أحد العوامل المتسقة مع هذه الفرضية هو أن الانخفاض في عدد زيارات العملاء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعدد الوفيات الناجم عن فيروس «كورونا» في المنطقة ذاتها.
قامت مجموعة ثانية من الباحثين بقيادة راج شيتي الأستاذ بجامعة هارفارد، بجمع بيانات تفصيلية من الشركات الخاصة، ووجدوا أن الأثر الاقتصادي في مارس جاء بشكل غير متناسب من الأسر ذات الدخل المرتفع التي خفضت إنفاقها بشكل حاد. وأشار الباحثون إلى أن «هذا الانخفاض في الإنفاق قلل إلى حد كبير من عائدات الشركات التي تلبّي احتياجات الأسر ذات الدخل المرتفع، لا سيما الشركات الصغيرة ذات الرموز البريدية التي توحي بالثراء. قامت هذه الشركات بتسريح معظم موظفيها من ذوي الدخل المنخفض، مما أدى إلى زيادة مطالبات البطالة في المناطق الثرية». وشأن شركات مثل «غوسبي» و«سيفرسون»، فقد خلص إلباث راج تشيتي إلى أن إلغاء أوامر الإغلاق الحكومية لن يكون له سوى تأثير ضئيل على العمالة المحلية.
لا شك أن بعض المراقبين سيتمسكون بإصرارهم على أن تعليمات الحكومة كانت هي المشكلة. لكنّ أولئك الذين يتبنون هذا الرأي ينطبق عليهم إلى حد كبير المقارنة الشهيرة لخبير الاقتصاد البريطاني جون كينيز، التي تقول إن «المقاييس الإقليدية (نسبة إلى إقليدس) في عالم غير إقليدي، هي أن تكتشف بالخبرة أن الخطوط المستقيمة المتوازية لا تلتقي، وأن التوازي هو الطريقة الوحيدة التي تمنع التلاقي أو الاصطدام».
بالنظر إلى أن مشكلة الصحة العامة الكامنة هي المحرك الرئيسي لانخفاض النشاط الاقتصادي وأن مجرد إزالة متطلبات التباعد الاجتماعي لن يعيد النشاط الاقتصادي، فإن تساؤلاً يطرح نفسه بقوة: هل يمكن أن يتبدد الخوف؟ هل يمكن أن يزول الخوف من تلقاء نفسه، هل سنحصل على علاج أو لقاح فعال يكفي للقضاء عليه؟
وفي ظل عدم وجود مثل هذا التغيير للأفضل في الأفق، فإن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكشف عن الألم الاقتصادي الأساسي بشكل أكثر وضوحاً من الأشهر الثلاثة الماضية لأن المساعدة المالية الضخمة التي قدمتها الحكومات عندما ضرب الوباء لأول مرة ستختفي قريباً.
جاءت البرامج الحكومية متفاوتة في مدى فاعليتها، حيث يشير أحد التحليلات التي أجراها «معهد بيترسون للاقتصاد الدولي»، على سبيل المثال، إلى أن النهج المالي للحكومة الفرنسية كان أكثر فاعلية من حيث التكلفة بشكل كبير مقارنةً بالنهج الأميركي (أنا عضو بمجلس إدارة معهد بيترسون). لكن في جميع البلدان تقريباً، تصرفت الحكومات بقوة، إذ يقدر صندوق النقد الدولي أن الحكومات في المجمل خصصت 11 تريليون دولار للمعالجة المالية للوباء. وقد خففت هذه التريليونات من وقع الضربة الاقتصادية إلى حد كبير حتى الآن.
لكن في العديد من البلدان يجري سحب الدعم المالي بالفعل أو أن ذلك على وشك الحدوث. في الولايات المتحدة، يناقش الساسة وصانعو القرارات كيفية تمديد إعانات البطالة الموسعة التي تنتهي في نهاية يوليو (تموز)، وكذلك تقديم مساعدة إضافية لحكومات الولايات والحكومات الفيدرالية، لكن النتيجة المحتملة أن تقدم الحكومة تعويضات بدرجة أقل من السابق. وقد أعلنت حكومة المملكة المتحدة من جانبها عن خطة جديدة لإنعاش الاقتصاد تبلغ قيمتها نحو 40 مليار دولار.

بيتراورساج.

السعودية قائداً للتجارة العالمية

قدمت الدول مرشحيها لرئاسة منظمة التجارة العالمية، بدلاً عن الرئيس الحالي المنتهية رئاسته بنهاية شهر أغسطس (آب) المقبل، ورشحت كل من السعودية ومصر وكينيا وبريطانيا ومولدوفا ونيجيريا وكوريا الجنوبية والمكسيك. وتبدو المنظمة في الآونة الأخيرة في حالة يرثى لها، فالاختلاف مستمر بين كبريات الاقتصادات العالمية، والمفاوضات المطولة أصبحت هاجساً اقتصادياً؛ كل ذلك وسط تشكيكات مستمرة في كون المنظمة قادرة على التعامل مع القضايا الاقتصادية الحالية بالأنظمة نفسها التي لم يتغير بعضها لأكثر من عشرين سنة.
والدور الملقى على منظمة التجارة العالمية في هذا الوقت تحديداً يعد دوراً حرجاً لعدة أسباب؛ أولها أن المنظمة لاقت انتقادات كثيرة من كثير دول العالم في الفترة الماضية، فالاتحاد الأوروبي واليابان والولايات المتحدة لاموا لوائح المنظمة كثيراً فيما سموه تجاوزات الصين التجارية، بل إنهم قدموا مقترحاً بداية هذا العام لتغيير لوائح المنظمة لهذا السبب، والواقع أن الصين من الناحية القانونية لم تخالف لوائح المنظمة، فالصين -في نظر المنظمة- ما تزال دولة نامية، وذلك بسبب نظام طالما انتقدته الدول الغربية، يعطي كل دولة أحقية تصنيف نفسها بصفتها دولة نامية (وهو نظام لم يمس منذ أن انضمت الصين للمنظمة عام 2001).
والنزاعات التجارية الدولية كذلك أصبحت أكثر تأثيراً خلال العامين الماضيين، فكثير من المفاوضات توقفت على أثر هذه النزاعات، وبدأت كل دولة تجنح إلى الاعتماد على نفسها، في خطوة أشبه ما تكون بالعزلة الاقتصادية للدول، إذ بدأت كل دولة بزيادة الرسوم الجمركية على المنتجات المستوردة لدعم منتجاتها المحلية، دون أن يكون للمنظمة دور فعال لمجابهة هذه الإجراءات. وبدا أن العالم يفضل الانغلاق الاقتصادي على التجارة الحرة، ولم يكن هذا التأييد من دول منغلقة غير مستفيدة من الانفتاح التجاري، بل من دول كالولايات المتحدة!
والمنظمة حالياً تشهد تحدياً حقيقياً بعد أزمة كورونا، وهو تحدٍ إضافي زادها أعباء على أعباء، حيث يشهد الاقتصاد العالمي تغييرات جذرية فرضتها الجائحة، سواء على مستويات الأنظمة وسلاسل التوريد. هذه التغييرات، وبناء على الأحداث الحاصلة في أثناء الجائحة، أيدت أن تستغني كل دولة بمنتجاتها عن غيرها، وهو ما قد يهدم كثيراً من الجهود السابقة التي قامت بها المنظمة التي لا تبدو حالياً في وضع صحي يسمح لها بمواجهة هذه الموجة. ولم يكن للمنظمة دور فعال في الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، ولا في مفاوضات «نافتا» بين دول الأميركيتين، وحتى معدل الاستثمار الأجنبي بدأ في التباطؤ في السنوات الأخيرة على ضوء التوجه للانغلاق الاقتصادي.
وفيما قدمت 8 دول مرشحين لقيادة المنظمة، تبرز قوة السعودية بصفتها مرشحة لقيادة المنظمة من عدة أوجه؛ أولها أن المملكة إحدى القوى الاقتصادية في العالم، وهي عضو في مجموعة العشرين التي تشكل دولها 85 في المائة من الناتج القومي لدول العالم. كما أن المملكة ليست متحيزة لقوة اقتصادية ضد أخرى، فهي على وفاق مستمر مع الصين، وهي حليف استراتيجي للولايات المتحدة، وعلاقتها بروسيا كذلك في «أوبك بلس» كانت عاملاً جوهرياً في استقرار أسواق النفط، وهي شريك اقتصادي مهم للاتحاد الأوروبي، بتبادل تجاري عادل ما يزيد على 50 مليار دولار سنوياً، وبعجز بسيط لا يزيد على 350 مليون دولار. هذه الحقائق توضح أن المملكة شريك اقتصادي حالي لكبريات الاقتصادات العالمية. ومن ثم، فإن تولي المملكة رئاسة منظمة التجارة العالمية يبدو منطقياً في هذا الوقت تحديداً، بما تملكه المملكة من مميزات لا يمتلكها مجتمعة أي من الدول المتقدمة بمرشحين. فالمملكة على اطلاع بالقضايا الاقتصادية الحالية بدورها كأحد أكبر منتجي النفط في العالم، وهي عضو في مجموعة العشرين، ورئيس لها في الدورة الحالية، وهي شريك رئيس لكبريات الاقتصادات، ومصلحتها تصب بشكل كبير في ازدهار الاقتصاد العالمي والتكامل بين أطرافه. كما أن مرشحها محمد التويجري وزير اقتصاد سابق للمملكة، وملف ترشيحه يوضح اطلاعه على المشكلات الحالية للمنظمة، وحاجتها الماسة إلى إعادة هيكلة تعيد لها ثقتها بين دول العالم، لا سيما مع إعلان بعض الدول نية انسحابها من المنظمة؛ هذا الدور الذي يبدو أنه يناسب المملكة أكثر من أي دولة أخرى، وأكثر من أي وقت سبق.

د. عبدالله الردادي.

خطة النهوض بأوروبا.. دروس للعالم ولبنان

لا بد من الاطلاع على محاضر اجتماعات القادة الأوروبيين، طوال 90 ساعة من المفاوضات، وعلى مدى أربعة ليالٍ حتى فجر يوم الثلاثاء 21 تموز/يوليو 2020. لماذا؟ لسببين رئيسين.

أولاً، لاستخلاص دروس جديدة في فن التفاوض. للتعلّم كيف يثابر صناع القرار، الشركاء، على المحادثات والتبادل مع الإصرار على تجاوز الخلافات للتوصل إلى اتفاق. كيف يوفّقون بين مصالح يكاد يستحيل التوفيق في ما بينها. كيف يصنعون الحلول معاً. كيف يقدمون التنازلات من أجل تسهيل إبرام تسوية مرضية للجميع. كتلك التسوية التي أبصرت النور أخيراً، وبعد طول انتظار، والمتمثلة في توافق الدول الـ27 الأعضاء على خطة “تاريخية” لدعم النهوض الاقتصادي بعد أزمة “كورونا”، بقيمة تصل إلى 750 مليار يورو.

نحج الأوروبيون إذاً في اختبار الوحدة. وأكدوا أنه يمكن للمصيبة أن تجمع بدلاً من أن تفرّق. ومن دون إنكار واقع أن أزمة كورونا كشفت عن ثغرات ونواقص في البناء الأوروبي، لجهة عدم استباق أزمة صحية بحجم جائحة “كوفيد ـ 19” وعدم الجهوزية لمواجهتها بأقل الخسائر، فضلوا تحمّل مسؤولية الفشل أو الإخفاق أو التقاعس معاً. وقرروا تغليب المصلحة المشتركة على المصالح الذاتية، إدراكاً منهم بأن غرق المركب الأوروبي يعني غرقاً وإضعافاً للجميع في عالم مضطرب. بمعنى آخر، أثبت الأوروبيون مقولة أنهم لا يتوافقون ابداً لكنهم ما زالوا سوياً، بحسب ما يردد الباحث الفرنسي في علم الاتصال والإعلام، مؤسس ومدير مجلة “Hermès La Revue” العلمية، دومينيك فولتون، الذي صودف صدور كتابه الأخير “Vive l’incommunication – La victoire de l’Europe”، في ربيع 2020، أي في أوج أزمة “كورنا”، والذي يحلل فيه أهمية المشروع الأوروبي على الرغم من الاختلافات بين الأوروبيين.

ثانياً، للاتعاظ من تجربتهم في التضامن. فبعدما أعطت الدول الأوروبية إشارات سلبية أثناء إدارتها لأزمة “كورونا” بكثير من الأنانية، عادت وسارعت إلى طي صفحة هذا السلوك المنافي لفكرة الاتحاد الأوروبي القائمة على التعاون والتضامن، وذلك بواسطة خطة النهوض الاقتصادي التي تضع أسساً متينة للتضامن الأوروبي في إدارة عواقب ما بعد أزمة “كوفيد ـ 19”. تنص الخطة على تخصيص مبلغ 360 مليار يورو، ستوزع كقروض، على أن تتولى كل دولة مستفيدة من قرض محدد هنا، تسديد الديون بنفسها. كذلك، تقضي الخطة توفير مبلغ قدره 390 مليار يورو، عبارة عن منح ومساعدات للدول الأكثر تاثراً بتداعيات الأزمة الصحية، لكنها مصنفة كديون مشتركة تتكفل الدول الأعضاء الـ27 بتسديدها بشكل جماعي، وهنا يكمن مغزى التضامن.

خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض

صحيح أن فرنسا وألمانيا ودولاً أخرى كانت تتطلع إلى أن تصل قيمة هذه المنح إلى حوالي 500 مليار يورو بدلاً من 390، لكن دواعي التسوية مع الدول الأوروبية، مثل هولندا والدنمارك…، التي تصنف باعتبارها “مقتصدة” في نفقاتها و”بخيلة”، والتي تتذمر من وضع النفقات العامة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وتحملها مسؤولية عدم ترشيد نفقاتها، اقتضت تقديم تنازل. وهذا التنازل لا يقلل من قيمة الإنجاز الذي حققه الأوروبيون بتحفيزهم لمبدأ التضامن. حتى أن كل الشروط المرافقة لتطبيق خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض.

من خلال حفاظهم على وحدتهم وتعزيزهم لمبدأ التضامن في ما بينهم، وجّه الأوروبيون أيضاً رسالتين، أولى سياسية موجهة إلى الشعبويين والمعادين للاتحاد الأوروبي، ومفادها أنه لا يمكن لدولة بمفردها مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين والأزمات المتوقعة وغير المتوقعة. من هنا، ضرورة الحفاظ على الاتحاد الأوروبي كأداة لتعاون بنّاء، على الرغم من أية ثغرات ونواقص يمكن ملاحظتها هنا وهناك. وكضمانة لسلام دائم في القارة التي شهدت حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. وثانية دبلوماسية إلى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، ومفادها أن رهانات القادة الحاليين لهذه الدول العظمى على تفسخ وانهيار الاتحاد الأوروبي ستبقى رهانات خاسرة!

ثمة رسالة جانبية ضمنية وجهها الأوروبيون إلى دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، ومن ضمنها لبنان، من خلال ذلك الاتفاق التاريخي، عنوانها العريض أنه لا يمكن لحكومات فاسدة، عاجزة عن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية، وممتنعة عمداً عن وقف الهدر في نفقاتها العامة وعن وضع حد لنهب المال العام من قبل السياسيين والأوليغارشيين، أن تستفيد من التعاون مع الاتحاد الأوروبي. بكل ما يحمله هذا التعاون من فرص ونقاط قوة وجاذبية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنمائية والبيئية والتربوية والثقافية. سياق الرسالة نفسها، يشي بأن تعلّموا كيف تتحاورون بين بعضكم البعض وكيف تفاوضون الخارج لأجل مصلحة بلدكم ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته، بدل أن تناشدكم فرنسا وغيرها بأن ساعدوا أنفسكم حتى نساعدكم.

لا بد من الاطلاع على محاضر اجتماعات القادة الأوروبيين، طوال 90 ساعة من المفاوضات، وعلى مدى أربعة ليالٍ حتى فجر يوم الثلاثاء 21 تموز/يوليو 2020. لماذا؟ لسببين رئيسين.

أولاً، لاستخلاص دروس جديدة في فن التفاوض. للتعلّم كيف يثابر صناع القرار، الشركاء، على المحادثات والتبادل مع الإصرار على تجاوز الخلافات للتوصل إلى اتفاق. كيف يوفّقون بين مصالح يكاد يستحيل التوفيق في ما بينها. كيف يصنعون الحلول معاً. كيف يقدمون التنازلات من أجل تسهيل إبرام تسوية مرضية للجميع. كتلك التسوية التي أبصرت النور أخيراً، وبعد طول انتظار، والمتمثلة في توافق الدول الـ27 الأعضاء على خطة “تاريخية” لدعم النهوض الاقتصادي بعد أزمة “كورونا”، بقيمة تصل إلى 750 مليار يورو.

نحج الأوروبيون إذاً في اختبار الوحدة. وأكدوا أنه يمكن للمصيبة أن تجمع بدلاً من أن تفرّق. ومن دون إنكار واقع أن أزمة كورونا كشفت عن ثغرات ونواقص في البناء الأوروبي، لجهة عدم استباق أزمة صحية بحجم جائحة “كوفيد ـ 19” وعدم الجهوزية لمواجهتها بأقل الخسائر، فضلوا تحمّل مسؤولية الفشل أو الإخفاق أو التقاعس معاً. وقرروا تغليب المصلحة المشتركة على المصالح الذاتية، إدراكاً منهم بأن غرق المركب الأوروبي يعني غرقاً وإضعافاً للجميع في عالم مضطرب. بمعنى آخر، أثبت الأوروبيون مقولة أنهم لا يتوافقون ابداً لكنهم ما زالوا سوياً، بحسب ما يردد الباحث الفرنسي في علم الاتصال والإعلام، مؤسس ومدير مجلة “Hermès La Revue” العلمية، دومينيك فولتون، الذي صودف صدور كتابه الأخير “Vive l’incommunication – La victoire de l’Europe”، في ربيع 2020، أي في أوج أزمة “كورنا”، والذي يحلل فيه أهمية المشروع الأوروبي على الرغم من الاختلافات بين الأوروبيين.

ثانياً، للاتعاظ من تجربتهم في التضامن. فبعدما أعطت الدول الأوروبية إشارات سلبية أثناء إدارتها لأزمة “كورونا” بكثير من الأنانية، عادت وسارعت إلى طي صفحة هذا السلوك المنافي لفكرة الاتحاد الأوروبي القائمة على التعاون والتضامن، وذلك بواسطة خطة النهوض الاقتصادي التي تضع أسساً متينة للتضامن الأوروبي في إدارة عواقب ما بعد أزمة “كوفيد ـ 19”. تنص الخطة على تخصيص مبلغ 360 مليار يورو، ستوزع كقروض، على أن تتولى كل دولة مستفيدة من قرض محدد هنا، تسديد الديون بنفسها. كذلك، تقضي الخطة توفير مبلغ قدره 390 مليار يورو، عبارة عن منح ومساعدات للدول الأكثر تاثراً بتداعيات الأزمة الصحية، لكنها مصنفة كديون مشتركة تتكفل الدول الأعضاء الـ27 بتسديدها بشكل جماعي، وهنا يكمن مغزى التضامن.

خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض

صحيح أن فرنسا وألمانيا ودولاً أخرى كانت تتطلع إلى أن تصل قيمة هذه المنح إلى حوالي 500 مليار يورو بدلاً من 390، لكن دواعي التسوية مع الدول الأوروبية، مثل هولندا والدنمارك…، التي تصنف باعتبارها “مقتصدة” في نفقاتها و”بخيلة”، والتي تتذمر من وضع النفقات العامة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وتحملها مسؤولية عدم ترشيد نفقاتها، اقتضت تقديم تنازل. وهذا التنازل لا يقلل من قيمة الإنجاز الذي حققه الأوروبيون بتحفيزهم لمبدأ التضامن. حتى أن كل الشروط المرافقة لتطبيق خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض.

من خلال حفاظهم على وحدتهم وتعزيزهم لمبدأ التضامن في ما بينهم، وجّه الأوروبيون أيضاً رسالتين، أولى سياسية موجهة إلى الشعبويين والمعادين للاتحاد الأوروبي، ومفادها أنه لا يمكن لدولة بمفردها مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين والأزمات المتوقعة وغير المتوقعة. من هنا، ضرورة الحفاظ على الاتحاد الأوروبي كأداة لتعاون بنّاء، على الرغم من أية ثغرات ونواقص يمكن ملاحظتها هنا وهناك. وكضمانة لسلام دائم في القارة التي شهدت حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. وثانية دبلوماسية إلى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، ومفادها أن رهانات القادة الحاليين لهذه الدول العظمى على تفسخ وانهيار الاتحاد الأوروبي ستبقى رهانات خاسرة!

ثمة رسالة جانبية ضمنية وجهها الأوروبيون إلى دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، ومن ضمنها لبنان، من خلال ذلك الاتفاق التاريخي، عنوانها العريض أنه لا يمكن لحكومات فاسدة، عاجزة عن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية، وممتنعة عمداً عن وقف الهدر في نفقاتها العامة وعن وضع حد لنهب المال العام من قبل السياسيين والأوليغارشيين، أن تستفيد من التعاون مع الاتحاد الأوروبي. بكل ما يحمله هذا التعاون من فرص ونقاط قوة وجاذبية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنمائية والبيئية والتربوية والثقافية. سياق الرسالة نفسها، يشي بأن تعلّموا كيف تتحاورون بين بعضكم البعض وكيف تفاوضون الخارج لأجل مصلحة بلدكم ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته، بدل أن تناشدكم فرنسا وغيرها بأن ساعدوا أنفسكم حتى نساعدكم.

نبيل الخوري.

أميركا وتداعيات الوباء على الأسواق

في الوقت الحالي، يبدو أن الولايات المتحدة تقف في الجانب المهزوم في حربها ضد فيروس «كوفيد – 19».
لم ينتهِ منتصف العام بعد، والمؤكد أن تاريخ فيروس «كوفيد – 19»، والسبيل المثلى لمحاربته، لن تجري كتابتهما قبل وقت طويل من الآن. وحتى هذه اللحظة، شهد عام 2020 بالفعل ظهور تكهنات حول أن الوباء سيكتب سطور النهاية للنظام الشيوعي في الصين، وأن نظام الرعاية الصحية الذي يتسم بطابع اشتراكي أو وطني أثبت فشله المؤكد أثناء الكارثة التي ضربت شمال إيطاليا في الشتاء.
وأنا هنا أقول هذا كمقدمة للتحول نحو الحديث عن أزمة فيروس «كورونا» المستجد. في حقيقة الأمر، أنه في هذه النقطة من مسيرة الوباء، يبدو أن الولايات المتحدة ونموذجيها الاقتصادي والسياسي، هم من أخفقوا. والتساؤل الآن: هل هذا صحيح؟ وما التداعيات الاقتصادية والمالية لذلك؟
جدير بالذكر هنا أنه في مارس (آذار)، بالغ الرئيس دونالد ترمب كثيراً في الحديث عن حكمة قراره بمنع دخول الأفراد القادمين من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، وذلك على أساس السجل الرديء للاتحاد الأوروبي في التعامل مع أزمة فيروس «كورونا» المستجد. وحتى هذه اللحظة، لا يزال الحظر سارياً. إلا أنه بدءاً من الشهر المقبل، ربما يحين الوقت المناسب لاجتياح موجة من مشاعر الشماتة أرجاء العواصم الأوروبية، مع احتمالات أن ينقلب الموقف والحظر إلى العكس تماماً.
وفي تلك الأثناء، بدأت تداعيات الإخفاق الأميركي في التصدي للفيروس في الظهور على النشاطات الاقتصادية الجارية. والآن، تميل قدرة الأوروبيين على التنقل إلى الاقتراب من معدلاتها الطبيعية على نحو يفوق بكثير الحال مع الأميركيين.
والتساؤل الآن: هل يمكن أن يؤثر ذلك على الأسواق؟ بالتأكيد هذا أمر محتمل. جدير بالذكر أن أسواق الأسهم الأميركية لطالما فاقت وبفارق واضح في أدائها نظيراتها داخل الاتحاد الأوروبي على مدار أكثر من عقد. وبالنظر إلى نجاح الولايات المتحدة في إنتاج الشركات التي توفر حالياً المنصات المهيمنة بشبكة الإنترنت، وقدرتها على تعزيز نظامها المصرفي بكفاءة تفوق بكثير قدرة الاتحاد الأوروبي، لا يبدو هذا الوضع مثاراً للدهشة.
وينبغي هنا أن نوضح أنه ما من صلة مباشرة بين الوباء وأداء أسواق الأسهم، من الناحيتين النسبية والمطلقة. كما أن هناك كثيراً من العوامل المختلفة الأخرى المؤثرة على هذا الصعيد.
ومع هذا، ثمة مؤشرات توحي بأن مشاعر القلق حيال تفشي الوباء عبر ما يعرف بـ«حزام الشمس الأميركي» تخلق ضغوطاً على الأسهم الأميركية. وإذا نظرنا إلى كيفية أداء شركات الطيران والفنادق وشركات الرحلات البحرية – القطاعات الأكثر تضرراً من الوباء – مقارنة بباقي قطاعات السوق، سنجد أن هناك مشاعر قلق واضحة بدأت في التراكم إزاء فكرة أن إجراءات إعادة فتح الاقتصاد لا تجري وفق خطة واضحة المعالم. وتأتي مشاعر القلق هذه بعد فترة وجيزة في البداية ساد خلالها التفاؤل منذ ثلاثة أسابيع.
من ناحية أخرى، أبدت السوق بوجه عام تردداً إزاء الاستجابة للارتفاع الواضح في أعداد الحالات، الأمر الذي يحمل وراءه مبررات؛ منها أن أحد الأسباب وراء هذه الزيادة يكمن في إجراء الاختبارات على نطاق أوسع، وتراجع معدلات الوفيات بدرجة بالغة عما كانت عليه من قبل.
وبغض النظر عما يحدث من الناحية المطلقة، فإن من الصعب اليوم توقع كيف يمكن أن تحافظ السوق على أداء أفضل بكثير عن نظيرتها الأوروبية، في وقت أظهرت فيه أوروبا قدرتها على إنجاز ما تعجز الولايات المتحدة عن فعله، ونجحت في السيطرة على الفيروس.
ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى: كيف سيؤثر هذا الوضع على الانتخابات الأميركية التي تقف اليوم على بعد أشهر قليلة؟ يكشف تحليل وضعه «معهد التمويل الدولي» أن أكثر الولايات المتضررة اقتصادياً هي تلك الواقعة تحت النفوذ السياسي للحزب الديمقراطي. وأوضح المعهد أن هذا التأثير كان كافياً للقضاء على حالة عدم توازن تاريخية استمرت لفترة طويلة بين الولايات الخاضعة لنفوذ الحزب الجمهوري والأخرى التي تميل سياسياً إلى الحزب الديمقراطي. في الواقع، عادة ما كانت معدلات التوظيف تميل لأن تكون أعلى داخل الولايات الداعمة للديمقراطيين، حتى ضرب وباء «كوفيد – 19» البلاد.
إلا أن هذا الوضع بدأ في التغير الآن. وكشف تحليل صدر حديثاً عن «دويتش بانك» أن الولايات الداعمة للجمهوريين أبدت قدرة أسرع على العودة إلى المعدلات الطبيعية لإمكانية التنقل، لكن هذا المسار بدأ في التحول في الاتجاه المعاكس الآن.
في الواقع، يبدو الواقع الاقتصادي قبيحاً في الوقت الراهن داخل عدد من الولايات الأكبر من «حزام الشمس»، في الوقت الذي تبدو فيه الأوضاع أشد سوءاً داخل بعض الولايات الجنوبية الأصغر، حيث تتعرض مجتمعات الأميركيين من أصول أفريقية لأضرار أكبر عمن سواها.
وينبغي هنا توضيح أن هذا الوضع لا يمكن إيعازه فقط إلى مسألة إجراء مزيد من الاختبارات. في الواقع، داخل أريزونا تبدو نسبة الاختبارات الإيجابية للإصابة بفيروس «كوفيد – 19» مخيفة، وتوحي أن ثمة موجة تفشي للوباء أخطر بكثير في الطريق.
والآن لم يعد من الممكن الشك في أننا نواجه مشكلة مثيرة للقلق. ومع انحسار معدلات الوفيات، وظهور حالات أكثر الآن بين فئات عمرية أصغر أقل احتمالاً لأن تتضرر بشدة من فيروس «كورونا»، فإن النبأ السار هنا أنه لا يزال من الممكن تجنب حدوث تكرار كامل للمشاهد التي سبقت لنا معاينتها داخل ووهان وميلانو ومدينة نيويورك. ومع ذلك، فإن إخفاق السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة وفشل قيادتها يبدو أنه قد أصبح نهائياً داخل أريزونا، التي كانت ذات يوم واحدة من معاقل تأييد الحزب الجمهوري، وطرحت مرشحين رئاسيين جمهوريين؛ هما باري غولدووتر وجون ماكين.
بجانب ذلك، تشهد أريزونا كذلك انتخابات لنيل عضوية مجلس الشيوخ هذا العام، حيث ستسعى السيناتورة الجمهورية مارثا مكسالي للدفاع عن مقعدها. ويرى موقع «بريديكتلت» المعني بالتوقعات أنها في حكم المهزومة بالفعل من الآن.
وفيما يخص معركة الرئاسة، يرى الموقع ذاته أن فرص إحراز الديمقراطيين للفوز أصبحت الآن قرابة من اثنين إلى ثلاثة، ما يعتبر أقوى معدل على الإطلاق. وبالنظر إلى حجم التغييرات التي طرأت على الساحة على مدار الشهور الأربعة الماضية، يبدو من المحتمل للغاية أن نشهد قدراً مكافئاً من التغييرات خلال الشهور الأربعة المقبلة. وفي تلك الأثناء، يبدو الرئيس في مأزق حقيقي.
والآن، كيف يمكن أن يؤثر هذا الوضع على الأسواق؟ بالتأكيد التأثير سيكون سلبياً. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأسهم في الوقت الراهن تقدم مستوى أداء أسوأ بعض الشيء عما تحققه عادة خلال السنوات التي تشهد هزيمة الرئيس الموجود بالبيت الأبيض. ويوحي الأداء الرديء لسوق الأسهم بأن الرئيس سيجابه صعوبة أكبر في الترويج لحزبه خلال الانتخابات. وفي الوقت ذاته، فإن وجود مشكلات سياسية أمام الرئيس القائم يعني خلق مزيد من الشكوك، الأمر الذي لا يروق للأسواق بطبيعة الحال.

جون أوثرز.

العقارات ملاذ آمن للبنانيين

شهد قطاع العقارات في لبنان نشاطا مفاجئا منذ بداية العام الجاري بعد سنوات من الركود، رغم حالة الفوضى الاقتصادية غير المسبوقة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من تسعة أشهر.

وأكدت أوساط القطاع أن عددا كبيرا من المودعين في المصارف اتجهوا إلى تحويل أموالهم لسوق العقارات، وسط مخاوف من احتمال اقتطاع أو تجميد الودائع في ظل الأزمة المالية.

وفي ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي يواجهها لبنان، تجري الحكومة جلسات مفاوضات مع صندوق النقد الدولي على أمل الحصول على مساعدة مشروطة بتنفيذ إصلاحات ضرورية مختلفة.

وقال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال مؤتمر صحافي عقده الأربعاء إن “صندوق النقد سيوفر التمويل اللازم للحكومة اللبنانية إذا قدمت برنامجا إصلاحيا”.

وتعمل الحكومة على تنفيذ الإصلاحات للحصول على المساعدة من الصندوق أو تلك التي كانت أقرتها الدول والصناديق المانحة في مؤتمر (سيدر) الذي استضافته فرنسا في 2018 لتمويل مشروعات البنتية التحتية.

وقال الرئيس التنفيذي لشركة محرم وعيتاني للتطوير العقاري مازن محرم في تصريحات لوكالة شينخوا الصينية، إنه “تم تحويل ما لا يقل عن ملياري دولار من المصارف إلى قطاع العقارات منذ بداية هذا العام”.

وأوضح محرم أن الناس يسحبون ودائع مصارفهم من خلال شيكات مصرفية لشراء شقق سكنية لضمان بقاء مدخراتهم طويلة الأجل آمنة في حالة لجوء السلطات اللبنانية إلى اقتطاع أو تجميد بسبب الأزمة المالية للبلاد.

ويمر لبنان بأزمة مالية فرضت خلالها المصارف قيودا على سحب النقد بالليرة والدولار، بينما توقفت عن تحويل العملة اللبنانية إلى الدولار.

وأثار ذلك الذعر بين المودعين الذين لجأوا إلى سحب بعض أموالهم وتخزينها في منازلهم أو استثمار أموالهم في قطاع العقارات.

وأشار محرم إلى أن مواقع الإنترنت التي تروج لمشاريع عقارية مثل أو.أل.أكس، وهي شبكة أسواق رائدة موجودة في أكثر من 30 دولة، شهدت عددا قياسيا من عمليات العقارات في لبنان منذ يناير الماضي.

وتفاقمت متاعب القطاع في السنوات الأخيرة لتنحدر إلى حالة من الركود في ظل استمرار الاضطرابات السياسية الداخلية التي أرخت بتداعياتها على الاقتصاد المحلي بشكل كبير، وزادت من منسوب المخاوف من انفجار فقاعة عقارية محتملة مستقبلا.

وتضاعفت الأسعار أكثر من 10 مرات منذ 2007، حيث تشير التقديرات إلى أن قيمة بعض العقارات قفزت من 100 ألف دولار إلى مليون دولار، خلال الطفرة التي شهدها السوق.

ويقول خبراء في قطاع العقارات أن تلك الذروة التي بلغتها أسعار العقارات، فرضت حدوث عملية تصحيح وأن موجة الهبوط كانت حتمية.

وأضافوا أن كبار المستثمرين الخليجيين في قطاع العقارات في لبنان وصلوا إلى قناعة بأن الاستثمار لم يعد مجديا، ولذلك تحولوا إلى بيع عقاراتهم بشكل ملحوظ، ابتداء من عام 2011.

وكان اندلاع الحرب في سوريا في ذلك العام، الشرارة التي أطلقت عملية التصحيح، التي نتجت عنها بداية هبوط متسارع لأسعار العقارات في لبنان، بسبب ما رافقها من تهديدات أمنية للرعايا الخليجيين.

ولكن مالك شركة رامكو للتطوير العقاري رجا مكارم، يؤكد أن الطلب زاد على العقارات بشكل كبير منذ يناير الماضي، وقد استفاد المطورون الذين كانوا مدينين للمصارف.

وأوضح أن العاملين في القطاع الذين كانوا مدينين للمصارف تمكنوا من تسوية مستحقاتهم عبر قبولهم شيكات المشترين وتقديمها للمصارف مقابل قروضهم.

وأشار مكارم إلى أن الشركات العقارية التي سددت جميع مستحقات المصارف، توقفت عن بيع العقارات والوحدات السكنية مقابل الشيكات المصرفية خوفا من فقدان أموالهم في المصارف.

ووضع معظم اللبنانيين في السنوات السابقة أموالهم في النظام المصرفي للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة على ودائعهم بدلا من شراء العقارات أو الاستثمار في المشاريع.

ولا يتوقع العاملون في القطاع أن تنطلق مشاريع جديدة في البلاد في وقت قريب بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة في وقت يضطر فيه المقاولون إلى دفع ثمن مواد البناء بالعملة الأجنبية وسط قيود على التحويلات.

وأكد متعاملون أن العملة المحلية ارتفعت في السوق غير الرسمية، لتصل إلى 7300 ليرة للدولار الواحد بعد أن اقترب من 10 آلاف ليرة الأسبوعين الماضيين، لأسباب منها الزائرون الذين يجلبون معهم الدولارات الشحيحة منذ إعادة فتح المطار.

وقال محرم “لن نرى أي مشروعات جديدة قريبا بسبب الشح في الدولار وارتفاع سعره مما زاد بنسبة ثلاثة أضعاف أسعار المواد المستوردة المستخدمة في البناء”.

وأوضح أن مقاولي البناء الذين لديهم مشاريع غير منتهية يعانون حاليا لأنهم لا يستطيعون مواصلة البناء بسبب ارتفاع أسعار المواد إلى حد كبير. وقال إن “لبنان لن يشهد أي مشروعات جديدة قريبا حتى يتم حل أزمة الدولار على الأقل”.

وكان استهلاك الأسمنت الذي يعتبر مؤشرا على حركة البناء قد انخفض وفق آخر تقرير لبنك عودة بنسبة 55.7 في المئة في الربع الأول من العام الجاري بمقارنة سنوية.

ويعاني لبنان من تدهور معيشي متصاعد وشح في السيولة وقيود مصرفية على تسييل الودائع نقدا، ما دفع الحكومة إلى التوقف عن سداد الدين الخارجي في إطار إعادة هيكلة شاملة للدين، الذي تجاوز 92 مليار دولار.

وتفاقمت الأزمة المالية بفعل تداعيات فايروس كورونا وتزايد البطالة وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 80 في المئة.

الخوف من العدوى يضرّ بالاقتصاد أكثر من الإغلاق

حتى وقت قريب، بدا أن الجدل الساخن بشأن عمليات الإغلاق قد انتهى. فبنهاية مايو (أيار)، كانت العديد من الولايات تتحدى تحذيرات خبراء الصحة العامة بإعادة فتح المطاعم ومحال التجزئة والأماكن العامة.
وقد عززت الاحتجاجات الضخمة ضد وحشية الشرطة والعنصرية فكرة أن إبقاء الأميركيين محصورين في منازلهم قضية خاسرة. والآن، حتى سان فرانسيسكو التي تعد من أولى المدن التي أصدرت أمراً بالبقاء في المنزل، تمضي الآن تجاه فتح الأعمال والأماكن العامة تدريجياً.
لكن إعادة فتح الأعمال كانت تأتي دائماً بعلامة استفهام. فمع استمرار وجود فيروس كورونا، هل سترتفع الحالات حال تم رفع أوامر البقاء في المنزل؟ وإذا حدث ذلك، فهل يجب أن تعود عمليات الإغلاق من جديد؟
في حين أن شمال شرقي البلاد قد تضرر بشدة من عمليات السيطرة على انتشار الفيروس، فإن نصف الولايات تقريباً، تحديداً جنوب وجنوب غربي البلاد، تشهد ارتفاعاً في أعداد الحالات الجديدة. وفي ولايات مثل تكساس وساوث كارولينا ونورث كارولينا وفلوريدا وأريزونا، ترتفع نسب الاختبار الإيجابية، مما يشير إلى أن موجة من الإصابات الجديدة وراء الزيادة، وليست زيادة الاختبارات. وقد أثار بعض الخبراء السؤال عن الولايات التي ستكون أول من يعيد فرض الإغلاق، وبالفعل تدرس ولاية «هيوستن» بالفعل طلباً جديداً للإقامة في المنزل.
إن الجدل المثار بشأن عمليات الإغلاق المحلية الجديدة قوي، فالمرض هو نفسه الذي كان عليه في مارس (آذار)؛ لذلك إذا كان الإغلاق منطقياً فلماذا لا يطبق الآن؟ فقد أظهرت الأدلة الوبائية أن أوامر البقاء في المنزل كانت فعالة في كبح المرض في الولايات المتحدة، مما أدى إلى خفض معدل الوفيات في المقاطعة بنحو 60 في المائة بعد ثلاثة أسابيع.
إن أسهل طريقة لمعرفة الفرق هي ببساطة عقد مقارنة بين السويد، التي رفضت الحظر، وجيرانها في الشمال الذين اتخذوا جميعاً قراراً معاكساً. فعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في عدد الوفيات، لم تصل السويد إلى مناعة القطيع، مما يعني المزيد من الإصابات وفقدان الأرواح في الطريق. لذلك اعترف مؤخرا عالم الأوبئة الذي وضع استراتيجية الدولة بخطئه وأسف على اختياره.
ولكن ماذا عن الضرر الاقتصادي؟ من المتوقع أن يعاني الاقتصاد السويدي من انكماش حاد، لكن بدرجة أقل من معظم البلدان الأوروبية الأخرى. فمع تفكير الحكومة الفيدرالية فيما إذا كانت ستحد من تدفق أموال الإغاثة بعد نهاية يوليو (تموز)، فإن الولايات والمدن التي يتم إغلاقها مرة أخرى قد تخاطر بالدمار الاقتصادي.
ومع ذلك، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن معظم الأضرار الاقتصادية الناجمة عن عمليات الإغلاق لم تكن بسبب أوامر البقاء في المنزل، بل بسبب الخوف العام من الفيروس. على سبيل المثال، بدأ الناس في تجنب المطاعم قبل بدء عمليات الإغلاق في أواخر مارس. وقد أكدت تلك النتيجة بعض الأدلة الأكثر صرامة، حيث أظهر بحث حديث، أعده خبراء الاقتصاد ليزا كان، وفابيان لانج، وديفيد ويزر استعانوا ببيانات من موقع إلكتروني للوظائف الشاغرة، وشكاوى البطالة لقياس التوقيت الدقيق للخسائر الاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا، أن عمليات الإغلاق لا علاقة لها بما جرى.
في التوقيت نفسه، انهارت سوق العمل في الولايات المتحدة بغض النظر عن السياسات المفروضة على مستوى الدولة. وهناك القليل من الأدلة على أنَّ أسواق العمل في الولايات التي فرضت أوامر البقاء في المنزل في وقت سابق، قد تأثرت بصورة تختلف عن غيرها من الولايات التي لم تفرض أوامر البقاء في المنزل.
كما أن عمليات إغلاق الدولة لم تؤثر كثيراً على استخدام بطاقات الائتمان، حتى في الدول الإسكندنافية، يرى خبراء الاقتصاد أن عمليات الإغلاق لم تمثل سوى جزء متواضع من ضعف الأداء الاقتصادي في الدنمارك مقارنة بالسويد.
قد يبدو من الغريب أن عمليات الإغلاق يمكن أن تكون فعالة في حماية الناس من فيروس كورونا، لكن تأثيرها على الاقتصاد يظل محدوداً. فهناك أدلة علمية متزايدة على أن فيروس «كوفيد – 19» المسبب للمرض ينتشر بشكل أساسي من خلال الاتصال الشخصي الداخلي الطويل. فمن خلال إجبار الناس على العمل من المنزل والتعامل فقط عبر الإنترنت، بدلاً من المكاتب المزدحمة والتجمعات الاجتماعية، فإن عمليات الإغلاق يمكن أن تحمي الصحة العامة من دون إلحاق ضرر كبير بالاقتصاد.
يشير هذا إلى أن عمليات الإغلاق الجديدة يجب ألا تبقي مقيدة مثل تلك التي عشناها في مارس لحماية الناس. وبدلاً من إلزام الجميع البقاء في المنزل، يمكن ببساطة حظر التجمعات الاجتماعية الداخلية الكبيرة ومنع الجلوس في المطاعم والحانات، وتلتزم الشركات بمواصلة سياسات العمل من المنزل. ويمكن السماح بكل شيء آخر مثل محال التجزئة والتجمع في الهواء الطلق والتفاعل الاجتماعي الداخلي المحدود، مع فرض المتطلبات الإضافية التي يمكن ارتداؤها في المتاجر وفي المناسبات التي تقام خارج البيت.
قد يحقق هذا النوع من الإغلاق أفضل المتاح للولايات والمدن التي تعاني من طفرات في فيروس كورونا، لكنها تحتاج أيضاً إلى أن تقترن باختبارات قوية وتتبع الاتصال وعزل المصابين. لا تزال معظم الولايات إما لم توظف ما يكفي من متتبعي الاتصال لتتبع الإصابات الجديدة، أو لا تجري ما يكفي من الاختبارات، وربما الاثنان.
لذلك يمكن لتلك الحزمة من الإجراءات – الأقنعة والاختبار والتتبع والإغلاق – التحكم في الفيروس إلى حين الوصول إلى علاج أو لقاح، مع تقليل خسائر الاقتصاد إلى الحد الأدنى.

نوح سميث.

أميركا والصين تدخلان الغابة المظلمة

«نقف على أعتاب حرب باردة» – كانت تلك كلمات هنري كيسنجر عندما أجريت معه مقابلة خلال فعاليات «منتدى بلومبرغ للاقتصاد الجديد» في بكين، نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
ولم يكن هذا التعليق الذي أدلى به صادماً تماماً في حد ذاته، ذلك أنه بدا لي شخصياً منذ مطلع العام الماضي أن ثمة حرباً باردة جديدة قد بدأت، لكن هذه المرة بين الولايات المتحدة والصين. ولم يكن هذا الاعتقاد وليد مجرد مقابلات أجريتها مع رجال دولة كبار. في واقع الأمر، ورغم ما قد يبدو عليه ذلك من غرابة، تولدت هذه الفكرة لدي بعد قراءة بعض من أدب الخيال العلمي الصيني.
ودعونا نبدأ بلمحة تاريخية. الملاحظ أن ما قد بدأ مطلع عام 2018 كحرب تجارية حول التعريفات وسرقة حقوق الملكية الفكرية، تحول نهاية العام إلى حرب تكنولوجية حول الهيمنة العالمية لشركة «هواوي تكنولوجيز»، الصينية بمجال شبكات الجيل الخامس للاتصالات عن بعد، ومواجهة آيديولوجية حول معاملة بكين لأقلية الإيغور داخل إقليم شينغيانغ والمتظاهرين الداعمين للديمقراطية في هونغ كونغ، وتصعيد الانقسامات القديمة حول تايوان وبحر الصين الجنوبي.
ومع هذا، فإن إقدام كيسنجر على وجه التحديد على الاعتراف بأننا في مرحلة أولى من «حرب باردة ثانية» جاء مثيراً للدهشة.
منذ زيارته الأولى لبكين عام 1971. عمل كيسنجر بمثابة المهندس وراء سياسة التعاون بين الولايات المتحدة والصين، والتي شكلت على امتداد 45 عاماً عنصراً أساسيا في السياسة الخارجية الأميركية. وكان من شأن هذه السياسة إحداث تغيير جوهري في توازن القوى في منتصف «الحرب الباردة» على نحو أضر بمصالح الاتحاد السوفياتي. وخلقت هذه السياسة ظروفاً جيوسياسية مواتية أمام الثورة الصناعية في الصين، تعتبر الأضخم والأسرع في التاريخ.
التساؤل الأبرز هنا: كيف تردت العلاقات بين بكين وواشنطن بهذه السرعة الكبيرة، لدرجة دفعت حتى كيسنجر للحديث عن حرب باردة؟
تتمثل الإجابة التقليدية هنا في أن الرئيس دونالد ترمب ضرب كالإعصار «النظام الدولي الليبرالي»، وأن «الحرب العالمية الثانية» ليست سوى واحدة من التداعيات السلبية لاستراتيجية «أميركا أولاً» التي رفع لواءها ترمب.
بيد أنه في واقع الأمر تولي هذه الرؤية أهمية مبالغاً فيها للتغييرات التي طرأت على السياسة الخارجية الأميركية منذ عام 2016. بينما لا تولي اهتماماً كافياً للتغييرات التي طرأت على السياسة الخارجية الصينية قبل ذلك بأربع سنوات، عندما تولى شي جينبينغ منصب الأمين العام للحزب الشيوعي. وأعتقد أن المؤرخين مستقبلاً سيدركون أن تراجع وانهيار العلاقات الأميركية – الصينية بدأ في أعقاب الأزمة المالية العالمية، عندما خلص زعيم صيني جديد إلى نتيجة مفادها أنه لم تعد ثمة حاجة لإخفاء الطموحات الصينية.
وعندما صوتت أميركا لصالح ترمب منذ أربعة أعوام، فإن ذلك قد جاء كرد فعل قوي للمزايا غير المتكافئة التي أثمرت عنها سياسة التعاون والعولمة. حصدت الصين قدراً غير متكافئ من المزايا الاقتصادية من وراء التعاون مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي تحمل أبناء الطبقة العاملة داخل الولايات المتحدة ثمناً غير متكافئ نتيجة إقرار هذه السياسة. الأدهى من ذلك، أن نفس هؤلاء الأميركيين اليوم يرون أن قادتهم المنتخبين اضطلعوا بدور أقرب إلى القابلة في ميلاد قوة عظمى استراتيجية جديدة تنافس الولايات المتحدة على الهيمنة العالمية، على نحو أقوى حتى من الاتحاد السوفياتي، بفضل القوة الاقتصادية الأكبر التي تنعم بها الصين.
في الواقع، ليس كيسنجر فقط من يقر بتردي العلاقات مع الصين، وإنما كذلك أورفيل شيل، الذي يعتبر هو الآخر من معسكر المفكرين الذين لطالما آمنوا بجدوى سياسة التعاون. وقد أقر في وقت قريب أن سياسة التعاون مع بكين انهارت بسبب «مخاوف عميقة تساور الحزب الشيوعي الحاكم، من أن التعاون الحقيقي المجدي مع الولايات المتحدة ربما يؤدي إلى مطالب بإقرار مزيد من الإصلاحات والتغييرات وانهياره نهاية الأمر».
في تلك الأثناء، يبدو النقاد المحافظون حريصين على الرقص على قبورهم، مع إصرارهم على ضرورة فرض «حجر» اقتصادي على جمهورية الصين الشعبية، والعمل على تقليص دورها في سلاسل الإمداد العالمية على نحو هائل. وثمة نشاط واضح في تحركات العناصر المناهضة للصين داخل إدارة ترمب، خاصة وزير الخارجية مايك بومبيو ونائب مستشار الأمن الوطني مات بوتنغر، ومستشار الشؤون التجارية بيتر نافارو.
وعلى امتداد الثلاثة أعوام ونصف العام الماضية، شددت هذه المجموعة من المسؤولين على أن أهم عنصر في رئاسة ترمب يتمثل في أنه بدل مسار السياسة الأميركية تجاه الصين، وأحدث تحولاً من التعاون نحو المنافسة، حسبما ورد في استراتيجية الأمن الوطني الصادرة عام 2017. ويبدو أن أحداث عام 2020 أثبتت صحة وجهة نظرهم.
الحقيقة أن وباء «كوفيد-19» تسبب في أكثر من مجرد تصعيد لـ«الحرب الباردة الثانية»، وإنما كشف كذلك النقاب عن هذه الحرب بوضوح أمام أعين من شككوا في وجودها منذ عام فقط. من جهته، يتحمل الحزب الشيوعي الصيني المسؤولية عن هذه الكارثة – أولاً من خلال تعتيمه على الخطورة الحقيقية لفيروس «كوفيد-19»، ثم من خلال تأخير الإجراءات التي ربما كانت لتحول دون تفشيه عالمياً.
ومع ذلك، ترغب الصين اليوم في نيل الإشادة عن إنقاذها العالم من الكارثة التي سببتها في المقام الأول. ومن خلال الانهماك في تصدير أجهزة تنفس، واختبار وأقنعة حماية رخيصة وغير فاعلة تماماً، سعت الحكومة الصينية لاقتناص نصر من فك هزيمة هي المتسبب فيها.
من ناحيته، تمادى نائب مدير قسم المعلومات داخل وزارة الخارجية الصينية لدرجة إقرار نظرية مؤامرة تفيد بأن فيروس «كورونا» ينتمي في الأصل إلى الولايات المتحدة، وأعاد عبر موقع «تويتر» نشر مقال يزعم أن فريقاً أميركياً نقل الفيروس معه لدى مشاركته في دورة الألعاب العسكرية العالمية في ووهان، أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وعلى ذات القدر من انعدام المنطقية جاءت ادعاءات الصين، بأن الولايات المتحدة تقف خلف موجات المظاهرات الحالية الداعمة للديمقراطية في هونغ كونغ. ويأتي ذلك رغم أن المواجهة المشتعلة حالياً حول وضع المستعمرة البريطانية السابقة تحمل من دون أدنى شك شعار «صنع في الصين». ومثلما قال بومبيو، فإن قانون الأمن الوطني الجديد الذي فرضته بكين على هونغ كونغ، «يدمر» فعلياً وضع شبه الحكم الذاتي الذي تنعم به هونغ كونغ، ويقضي على الإعلان الصيني – البريطاني المشترك الصادر عام 1984. والذي نص على احتفاظ هونغ كونغ بنظامها القانوني الخاص بها لمدة 50 عاماً من تسليمها إلى الجمهورية الشعبية عام 1997.
وفي هذا الإطار، لا يبدو من المثير للدهشة أن تصبح مشاعر الرأي العام الأميركية، إزاء الصين أكثر صقورية بوضوح منذ عام 2017. خاصة بين الناخبين الأكبر سناً. في الحقيقة، تبرز الصين اليوم باعتبارها واحدة من القضايا القليلة التي يوجد حولها إجماع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. ومن الدلائل اللافتة هنا تعمد حملة المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن في وقت مبكر التأكيد على رسم صورة لمرشحهم، باعتباره أكثر صقورية إزاء بكين عن ترمب.
من جانبي، كثيراً ما أكدت اعتقادي بأن هذه الحرب الباردة الجديدة حتمية ومرغوبة في الوقت ذاته، لأنها جاءت بمثابة صفعة قوية أجبرت الولايات المتحدة على الخروج من حالة الرضا والتراخي، التي سيطرت عليها ودفعتها نحو العمل بهمة، لضمان ألا تتفوق عليها الصين بمجالات الذكاء الصناعي والمجالات التكنولوجية الحيوية الأخرى.

نيال فرغسون

الآثار الاقتصادية المترتبة على انهيار أسواق النفط في 2020

يواجه قطاع الإنتاج في صناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة مخاطر عدة، منها خسارة نحو 200 ألف وظيفة خلال فترة الستة إلى الاثني عشر شهراً المقبلة. كما يتضح أن الصناعة ستواجه مرحلة من الانكماش خلال الفترة الطويلة المدى. وقد توصل إلى هذه الاستنتاجات الباحثان براد هاندلر ومورغان بازيليان اللذان نشرت دراستهما في شهر مايو (أيار) الماضي في ورقة لمعهد باين للسياسات العامة التابع لمدرسة كولوادو للمعادن، هذه الجامعة العريقة التي تعد واحدة من أهم الجامعات العالمية المتخصصة في الدراسات البترولية. وقد اعتمدت الدراسة في بحثها واستنتاجاتها على تجربة تأثير انهيار الأسواق خلال العامين 2015-2016، وكيفية نمو الصناعة البترولية الأميركية خلال السنوات الماضية. وتكمن أهمية استنتاجات الدراسة في تبيان مدى تأثر صناعة إنتاج النفط بعد انهيار الأسواق الحالي، وما صاحبه من كساد الأسواق بسبب جائحة «كوفيد-19».
وتفيد الدراسة بأن جائحة «كوفيد-19» قد أضفت عبئاً اقتصادياً ثقيلاً إضافياً على الانهيار النفطي لعام 2020. وسيترك هذان التطوران المهمان آثارهما على الاقتصاد الأميركي، المحلي والعام، وأيضاً على المجتمعات المحلية المعتمدة على صناعة إنتاج النفط والغاز. كما أن هناك عوارض سلبية أخرى ستلحق بالصناعة، إذ سيشكل قطاع الإنتاج النفطي أبطأ قطاع اقتصادي في استرداد عافيته. وسيتقلص الإنفاق وإمكانية إعادة التوظيف في هذا القطاع على المدى الطويل. وستواجه الولايات والمناطق الأميركية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذه الصناعة صعوبات عدة عند عودة الصناعة النفطية إلى حيويتها ثانية، تتمثل بمعدلات البطالة العالية، وانخفاض الريع النفطي.
إن صناعة إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة تدعم بشكل كبير اقتصادات عدد من الولايات الأميركية. وتقدر دائرة الإحصاءات في وزارة العمل الأميركية أن عدد الموظفين والعمال في شركات الحفر والخدمات الهندسية (قطاع الإنتاج النفطي) استوعب في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2019 نحو 464 ألف موظف، وشكل نوع العمالة المتخصصة هذه في بعض الولايات نحو 5 في المائة من مجمل الأيدي العاملة في الولاية، ومن بين هذه الولايات شمال داكوتا ووايومنغ. ومن الطبيعي أن الخسائر للولايات المعنية لا تشمل فقط المصاريف والضرائب المحلية للعائلات ذات العلاقة، ولكن أيضاً ضرائب القيمة المضافة والضرائب المتعددة على القطاع النفطي والغازي.
وكما هو معروف، فإن ولاية تكساس هي الأكبر بترولياً في الولايات المتحدة، وقد بلغ مجمل حجم الريع النفطي الذي حصلت عليه الحكومة الفيدرالية من قطاع الإنتاج النفطي والغازي لولاية تكساس في العام المالي لعام 2019 نحو 16.3 مليار دولار، مما يشكل في الوقت نفسه نحو 7 في المائة من مجمل الدخل المالي الذي حصلته الولاية من هذا القطاع النفطي. كما أن هناك ولاية ألاسكا التي بلغ استقطاع الحكومة الفيدرالية من دخلها البترولي في العام المالي لعام 2019 نحو 1.1 مليار دولار، مما شكل بدوره نحو 70 في المائة من دخل الولاية نفسها. وهناك أيضاً ولاية وايومنغ التي استقطعت الحكومة الفيدرالية من دخلها النفطي نحو 2.2 مليار دولار في العام المالي لعام 2017، مما يعادل نحو 52 في المائة من ريع الولاية (ويشمل هذا المبلغ الضرائبي على صناعة الفحم الحجري والمعادن). وهناك ولاية نورث داكوتا التي استقطعت الحكومة الفيدرالية ضرائب على القطاع النفطي بها بنحو 5.1 مليار دولار، مما شكل نسبة 45 في المائة من دخل الولاية في العام المالي لعام 2017.
وتشير الدراسات عن التجربة الأميركية السابقة لفترة تدهور الأسواق 2015-2016 إلى أن مرحلة انتعاش قطاع الإنتاج النفطي والغازي الأميركي التي تلت انهيار الأسواق عندئذ تبعتها مرحلة ازدياد معدل الإنتاج من جهة، إلا أن عدد العمالة لم يعد إلى معدله السابق. والسبب في ذلك هو تحسن تقنية الحفر والتكسير الهيدروليكي لآبار النفط الصخري التي استغنت عن عدد كبير من الأيدي العاملة، إذ تدل المعلومات على أن معدل عدد العمال في قطاع الإنتاج النفطي والغازي في شهر يناير (كانون الثاني) 2019 كان نحو 487.200 عامل، مما يعني 20 في المائة أعلى من المعدل في 2016، ولكن نحو 24 في المائة أقل من المعدل القياسي لعدد العمال في قطاع الإنتاج النفطي والغازي في الولايات المتحدة.
وقد أغلقت بعض شركات الإنتاج أبوابها نظراً للصعوبات المالية التي واجهتها في أثناء كساد الأسواق خلال فترة 2015-2016، وحاولت بعض الشركات تقليص نشاطاتها نظراً للديون المصرفية المترتبة عليها. كما أن سياسة التباعد الاجتماعي الواجب اتباعها بسبب جائحة «كوفيد-19» ستترك آثاراً إضافية على طرق العمل المعتادة. فمن الملاحظ أن أرباح الشركات ستتراجع، رغم زيادة الإنتاج، وذلك بسبب هبوط سعر النفط والغاز إلى مستويات أقل مما كانت عليه قبل جائحة «كوفيد-19».
ويتوقع أن تعاني شركات النفط من هذه العوامل السلبية حتى السنة المالية لعام 2021، إذ إن نحو 1.3 مليون مواطن في ولاية تكساس قد تم الاستغناء عن عمله بنهاية شهر أبريل (نيسان) 2020. وهذا العدد من العاطلين عن العمل في 2020 أعلى بكثير من عدد العاطلين عن العمل خلال تدهور الأسواق في 2015-2016. ويعني هذا أن استعادة هؤلاء العمال لوظائفهم السابقة سيأخذ وقتاً أطول بعد هذه المرحلة. بالذات، إذا وضعنا في الحسبان أن معدل الإنتاج النفطي في الولايات المتحدة سجل معدل 12.2 مليون برميل في اليوم الواحد، وإنتاج الغاز الطبيعي نحو 111.5 مليون قدم مكعب يومياً في عام 2019، مقابل إنتاج نفطي نحو 8.8 مليون برميل في اليوم، و86.0 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز الطبيعي في عام 2014. وهذه الأرقام تدل بكل وضوح على زيادة إنتاج النفط والغاز بين عام 2014 (قبيل انهيار الأسواق) و2019 (بعد الانهيار).
وتلخص استنتاجات الدراسة أن العمالة في قطاع إنتاج النفط والغاز الأميركي لن تعود إلى كامل عهدها بسرعة لأسباب متعددة، منها: عدم اليقين فيما يتعلق بانتعاش الأسعار واستقرارها على معدلات أعلى مما هي عليه في أثناء الجائحة، واستمرار الصعوبات في الحصول على التمويل اللازم، بالذات بعد الضائقة الاقتصادية الناتجة عن الجائحة، ومحاولات الدمج بين بعض الشركات، مما يعني التركيز في العمل وتقليص الأيدي العاملة. ومن المحتمل جداً -كما تدل التجارب السابقة بعد انهيار الأسواق- أن تبادر الشركات إلى تبني نهج تحسين الإنتاجية في وقت تحسين أداء العمالة وزيادة الإنتاج نفسه؛ وهي جميعها خطوات يجب على الشركات تبنيها لدعم الموازنة والأرباح بعد الضربتين الاقتصاديتين اللتين طالتا الاقتصاد العالمي، ومعه طبعاً الشركات النفطية.

وليد خدوري.

* كاتب عراقي متخصص في أمور الطاقة.