أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الصناديق السيادية في عالم شديد التغير

تبدلت ساحة الاقتصاد الدولي بما لم تشهده صناديق الثروة السيادية منذ نشأتها الأولى في الخمسينات من القرن الماضي. فقد غيّرت الأزمات المصاحبة لوباء كورونا، بآلياتها الكاشفة لأوجه الوهن والقوة، معطيات استقرت في أساليب العمل والإنتاج والاستثمار. كما أن الصدمات المترتبة على هذه الأزمات عجّلت ببزوغ ظواهر ومستجدات اقتصادية واجتماعية وسياسية حول العالم وانضواء أخرى. ولم تزد فقط هذه الأزمات من درجات المخاطرة، لكنها ضخّمت أيضاً من حالة عدم اليقين التي اكتنفت العالم منذ سنوات سابقة على اجتياح الوباء ربوع العالم، وما شهده من أزمة في الثقة بين القوى الدولية التقليدية وتلك الصاعدة، وبين بعضها البعض. فعالم ما قبل «كورونا» كان هشاً اقتصادياً ومتوتراً سياسياً، وغير مهيأ للتعامل مع مربكات مفاجئة، وهو ما تشهد به حالات الارتباك والفوضى في التعامل مع الأزمة الصحية التي سبّبها الفيروس، وآثارها الوخيمة على المجتمع والاقتصاد.
ومع تزايد تكلفة التصدي للأزمات الراهنة وأعبائها على موازنات الدول التي لم تتعافَ من آثار الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008، وتبعاتها من انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع في مستويات التجارة والاستثمار التي لم تعد أبداً لمتوسطات ما قبل الأزمة المالية، بات ينظر للصناديق السيادية كمعين للمساندات العاجلة. فوفقاً لبيانات معهد صناديق الثروة السيادية، الصادرة في مارس (آذار) الماضي، هناك 89 صندوقاً سيادياً حول العالم تستحوذ حالياً على ما يزيد على 8.5 تريليون دولار من الأصول المالية والاستثمارية، بما يقترب من 10 في المائة من إجمالي الناتج العالمي.
وقد أطلق مصطلح صناديق الثروة السيادية خبير الاستثمار، أندرو روزانوف، في مقال نشر عام 2005 عن «مَن يحتفظ بثروة الأمم»، مميزاً لها عن دور البنوك المركزية في إدارة الاحتياطي من النقد الأجنبي. وتتنوع أهداف هذه الصناديق بين تراكم المدخرات وزيادة الاستثمارات، وتختلف في استراتيجياتها في إدارة محافظها ومدى ترجمتها للتوجهات السياسية وفقاً لنظم حوكمتها والدول التي تنتمي إليها. وقد أنشئ أول هذه الصناديق في عام 1953 في دولة الكويت، ثم تزايدت انتشاراً في العقود الأخيرة لتحتضنها 51 دولة موّلتها من فوائضها المتراكمة في ميزان التجارة الدولية من تصدير سلع أولية كالنفط، أو من فوائض مالية من النقد الأجنبي تتحقق في الميزان الجاري لميزان المدفوعات. ولا ينبغي الخلط بين الصناديق السيادية ومؤسسات إدارة الأصول المحلية، وإن تسمت باسمها، فلكل أهدافه ومصادر تمويله وأولويات عمله.
وتستثمر هذه الصناديق أموالها في مجموعة متنوعة من الأصول المالية والاستثمارية كأسهم الشركات والسندات الحكومية، كما أصبحت من الروافد المهمة للاستثمار الأجنبي المباشر والاستثمار المؤسسي طويل الأجل. كما عوّلت عليها وثيقة تمويل التنمية المستدامة الصادرة في يوليو (تموز) عام 2015 عن الأمم المتحدة لتمويل برامج التنمية المستدامة، من خلال تخصيص نسبة من محافظها للتمويل طويل الأجل في مشروعات البنية الأساسية.
ولجأت الدول من قبل لصناديقها السيادية في أوقات تقلب أسعار السلع الأولية، كما يحدث الآن، مع انخفاض أسعار النفط، لتعين موازنات الدول في تلبية احتياجات الإنفاق العام العاجل. فوفقاً لمجلة «فورتشن»، أعلنت النرويج على سبيل المثال عن سحب 37 مليار دولار من صندوقها السيادي، وهو الصندوق الأكبر عالمياً، إذ تتجاوز أصوله تريليون دولار. ويعد هذا الإجراء بالسحب من خلال عملية تسييل أصول لتساند متطلبات التعامل مع تعديات الأزمة الصحة التي تزامن معها انخفاض حاد في سعر النفط، تسبب في تراجع تدفقات الدولة النقدية، بما يتجاوز 60 في المائة، ولم تكفِ عوائد استثمارات الصندوق وإيرادات الدولة السيادية الأخرى كالضرائب في سدّ فجوتها.
وفي ذات الوقت، تجد صناديق سيادية أخرى تنتهز فرصة انخفاض أسعار بعض أسهم الشركات، بفعل الأزمة الحالية، فتستثمر فيها، مستندة إلى تقييماتها وما لديها من إمكانات في قطاعاتها، فضلاً عن تميز منتجاتها وكفاءة إدارتها وقدرتها على النمو والتوسع مستقبلاً، في ظل التغيرات المحتملة؛ فالشركات لا تُشترى أسهمها بحكم ما كان لها من اعتبار، بل بما يتوقع أن يكون لها من شأن.
ولا أحسب أن الصناديق السيادية، رغم احتراف وكفاءة القائمين على أكثرها، تسلك اليوم طريقاً سهلاً، فمصادر تمويلها من فوائض، سواء أكانت من السلع الأولية أم غيرها، تعرضت لصدمات شديدة، وجانباً من أصولها انخفضت تقييماته السوقية، وتقلبت أسعارها بشدة من جراء الأزمات الراهنة، كما أن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي العالمية يعوّق فرص استثماراتها القطاعية عبر الحدود. ومع هذا التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي، وعدم السيطرة بعد على انتشار فيروس كورونا، فستقلّ حتماً معدلات النمو الاقتصادي العالمي عن سالب 3 في المائة، وهو الرقم الذي قدّره صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الصادر في شهر أبريل (نيسان) الماضي.
وفي تقديري، فإن هناك 5 محددات رئيسية سترسم خطوط عمل الصناديق السيادية مستقبلاً…
أولاً؛ تزايد دور الدولة في النشاط الاقتصادي المباشر، بما يتجاوز دورها كمشرع ورقيب؛ ولما كانت هذه الصناديق أحد أذرع الدولة، فسيزيد ذلك من أهميتها في هذا الشأن، لكن الأجواء الراهنة تشير إلى ارتفاع مستوى الحساسية للاستثمار الخارجي لاعتبارات جيوسياسية، بما سيضطر بعض هذه الصناديق لاقتفاء مساراتها في الخريطة الاستثمارية العالمية، وفقاً لمؤشرات تزيد في أوزانها اعتبارات المخاطر والاعتبارات السياسية.
ثانياً؛ مع اللجوء إلى إعادة رسم خطوط الإنتاج والإمداد العالمية، في ظل التوترات والحروب التجارية السابقة على «كورونا»، وتزايد التوجهات الحمائية في سبيل حركة التجارة بعدها، مع تصاعد المناداة بإجراءات للتوجه نحو الداخل، ولو على حساب اعتبارات التكلفة والكفاءة، استجابة لتوجهات شعبوية، أو تأميناً لسلع رئيسية تنتج محلياً أو من قبل دول حليفة، سيزيد الوزن النسبي للموارد الاستثمارية المخصصة محلياً بمخاطر أعلى للتركز وإيراد أدنى في العملات الأجنبية.
ثالثاً؛ هناك توقعات شديدة الارتفاع بأن تلتزم الاستثمارات باعتبارات الآثار الاجتماعية والبيئية وضوابط الحوكمة، مع وزن أكبر للوائح والاعتبارات الصحية، وكذلك تغيرات المناخ، بما يتجاوز القواعد التقليدية للتكلفة والعائد. وسيميز هذا بين صندوق استثماري وآخر ومدى قبوله مجتمعياً ورقابياً، وفقاً لتقارير معلنة بشفافية.
رابعاً؛ مع ارتفاع حدة البطالة وشدة الركود، يُنتظر من هذه الصناديق أن يظهر أثرها التنموي في مجالات الاستثمار على النمو، وإتاحة فرص العمل اللائق، والالتزام بالحد الأدنى للأجور، والمناخ الآمن للعمل، والضمانات التعاقدية للعاملين.
خامساً؛ مع تزايد ولوج الصناديق السيادية لأسواق الديون الدولية، مقرضة ومقترضة، فإن مشكلات إدارة الديون عالمياً وتحدياتها، سواء ما تتحمله الدول أو الشركات، يجب أخذها في الاعتبار، خاصة مع زيادة احتمالات التعثر وإعادة الجدولة، في ظل تبعات الأزمة الصحية والركود.
ستُظهر هذه المحددات الخمسة، ومدى قدرة الصناديق السيادية على التعامل معها، مسارات مستقبلها واستثماراتها، في عصر تتعرض فيه الأمم، وليس ثرواتها فحسب، لتحديات غير مسبوقة.

محمود محي الدين

مرحلة مضطربة في أسواق النفط لا تسمح بتوقعات دقيقة

تلقي المرحلة التاريخية الصعبة لفيروس «كورونا» المستجد ظلالها المضطربة والمتباينة على مجمل الاقتصاد العالمي، ومنه القطاع النفطي. فتتناقض أو تتغير المعلومات والتوقعات يوميا خلال هذه الفترة حول أوضاع الأسواق النفطية. فمن ناحية، وكما توقع المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، فإن تقليص إجراءات الحجز المنزلي في دول عدة أخذ يعيد الصحة للأسواق النفطية. لكن حذر بيرول في نفس الوقت أن التحسن في الأسواق هذا هو «تدريجي» و«هش». واستبعد بيرول في تصريحاته لوسائل الإعلام إمكانية إعادة تجربة شهر «أبريل الأسود»، حيث تدهورت أسعار النفط الأميركي المستقبلية إلى أقل من الصفر، وهي الأسوأ في تاريخ الصناعة النفطية.
يتوجب أخذ الحذر من التوقعات القصيرة الأمد. فهناك نقص فاضح في المعلومات عن فيروس «كورونا» المستجد. ولا يتوفر حتى يومنا هذا اللقاح للحد من انتشار الفيروس ولا الدواء لمعالجة المصابين. كما يجب الأخذ بنظر الاعتبار بعض المتغيرات التي ستحصل نتيجة الحجر في البيوت. فهل سيتقلص السفر الجوي لرجال الأعمال خلال هذا العام، وتستبدل الاجتماعات المشتركة من خلال «المؤتمرات الهاتفية» الجارية الآن. وهل ستحاول المؤسسات الدولية تغيير طريقة اجتماعاتها من سفر المشاركين من أرجاء العالم للمساهمة في اللقاءات، أم الاكتفاء بـ«المؤتمرات الهاتفية» لتقليص النفقات في هذا الوضع الذي تعاني منه العديد من المؤسسات من تقليص في موازناتها. وما تأثير هذه المؤشرات المحتملة على السفر الجوي ووقود الطيران. وهل سيعم الاطمئنان لدى السكان في السفر بمركباتهم أو الطيران لمناطق سياحية داخل بلادهم أو خارجها واستخدام الفنادق. لقد بدأت دول الاتحاد الأوروبي تجربة محاولة الانفتاح السياحي داخل مجموعة دول الاتحاد، ومن السابق لأوانه الكلام عن النتائج الآن. فهناك خوف حقيقي عند المواطنين في مختلف أرجاء العالم نتيجة فقدان اللقاح والدواء.
يتوجب الحذر خلال هذه المرحلة الصعبة من التوقعات، إذ يمر العالم بفترة غير مسبوقة من عدم الاستقرار الصحي والنفسي وما نتج عنهما من انكماش اقتصادي عالمي. لكن يتوجب أيضا التمعن بدقة في معنى وأهمية المعلومات المتوفرة. وما النقاش الجاري في مختلف دول العالم ما بين المؤسسات الطبية المتخصصة والمسؤولين السياسيين في هذا البلد أو ذاك حول كيفية ومدى تقليص الحجز إلا مثال لما يمكن أن نشاهده لأشهر مقبلة، في غياب اللقاح والدواء. ومن حسن الحظ أن صحة الإنسان قد أخذت الأولوية هذه المرة. وأن الأطباء المتخصصين يلعبون دورا مهما في اتخاذ القرارات تحت سقف شعار «صحة الإنسان أولا». كما أن هناك النزاع والمنافسة ما بين الدول الكبرى حول تحديد مصير الجائحة وما هو العلاج لها وما مدى التعاون في القضاء عليها عند نشوبها، ما هذه الخلافات إلا مؤشرات لنزاعات جديدة إما داخل الدول الصناعية نفسها، كما هو الأمر داخل الاتحاد الأوروبي، وإما الخلاف المتنامي ما بين الولايات المتحدة والصين وإمكانية تطوره إلى حرب باردة شبيهة بما طرأ على العلاقات الغربية – السوفيتية بعيد الحرب العالمية الثانية. وهناك لا تزال مناطق جديدة يمكن أن تغزوها الجائحة كالدول الأفريقية أو تنتشر بشكل أوسع كما هو الأمر في روسيا. وهناك خوف ألا تتخذ الإجراءات المشددة لفحص المواطنين العائدين من الخارج، كما هو الأمر في بعض الدول، حيث نلاحظ زيادة الإصابات نظرا لعدم دقة الفحوص الطبية اللازمة أو الانكفاء في البيوت للمدة المطلوبة للعائدين إلى بلادهم. هذه جميعها تطورات يتوجب أخذها بنظر الاعتبار عند دراسة تأثير الجائحة على العلاقات الدولية مستقبلا، وما مدى تأثيرها على «العولمة» وانفتاح التجارة الدولية، مقارنة بالدعوات المتعددة لسياسة «الحمائية» الانكفائية النقيضة للعولمة ومدى تأثيرها على التجارة العالمية. إننا أمام انتكاسة اقتصادية عالمية، حيث هناك شح للموارد المالية بسبب معاناة عام 2020، من ثم يتوجب الحذر في دقة التوقعات.
صرح السيد بيرول الأسبوع الماضي، أن أسواق النفط تتجه بسرعة أكثر مما كان متوقعا سابقا للعودة إلى توازن العرض والطلب، هذا التوازن الذي أفقد استقراره فيروس «كورونا» المستجد. وتأكيدا لهذا الكلام، أشار التقرير الشهري الأخير لوكالة الطاقة الدولية لأسواق النفط إلى أن الطلب على النفط بدأ يزداد مرة أخرى، فبدلا من التوقعات السابقة بانخفاض الطلب العالمي نحو 9.3 مليون برميل يوميا، فإن التوقعات الآن تشير إلى انخفاض الطلب نحو 8.6 مليون برميل يوميا لعام 2020.
في نفس الوقت صرح بيرول «نجد مؤشرات أولية لإعادة توازن تدريجي لميزان العرض والطلب في أسواق النفط. والسبب في هذا هو عودة الناس إلى حياتهم الطبيعية وأعمالهم تدريجيا مع التقليص التدريجي للحجوزات في البيوت». كما أخذ يتبين أنه رغم تدهور الطلب على وقود المواصلات من بنزين وديزل ووقود الطيران استمر الطلب مستمرا على المنتجات البترولية في الصناعات البتروكيماوية. وبالنسبة للإنتاج، فقد بدأ تنفيذ اتفاق مجموعة «أوبك بلس» بتخفيض 9.7 مليون برميل يوميا في 1 مايو (أيار) كما كان متفقا عليه. وقررت السعودية تخفيضا طوعيا إضافيا بنحو مليون برميل، مما يعني أن معدل إنتاجها سيكون نحو 7.50 مليون برميل يوميا. كما انخفض الإنتاج النفطي لدول غير أعضاء في مجموعة «أوبك بلس» كالولايات المتحدة وكندا وغيرهما مثل البرازيل والنرويج حوالي 3 ملايين برميل يوميا. يعني هذا أن مجموع انخفاض الإمدادات النفطية منذ بداية الشهر الجاري قد بلغت نحو 12 مليون برميل يوميا ليصبح مجموع الإنتاج العالمي حوالي 88 مليون برميل يوميا (وهو أقل معدل للإنتاج منذ تسعة أعوام)، مقارنة بنحو 100 مليون برميل يوميا قبل نشوب الجائحة.
تزامن الإعلان عن الأرقام أعلاه، مع خفة الضغط على معدلات التخزين، فقد انخفض كثيرا التخزين في الناقلات العائمة، وتوجه التخزين بدلا عن ذلك إلى مستودعات التخزين الاستراتيجي والخزانات التجارية الثانوية، الأمر الذي ساعد بدوره في تحسن الأسعار الأسبوع الماضي.

وليد خدوري.

رهان ترمب

قبل عدة أشهر، كان الاقتصاد الأميركي يبدو في أبهى حالاته، بمعدل بطالة تاريخي وصل إلى 3.5 في المائة في فبراير (شباط) الماضي، وكان الرئيس الأميركي – على كل ما واجهه من ضغوطات لعزله عن الرئاسة – يبدو فخوراً بهذا الرقم التاريخي، ذاكراً إياه في جل خطاباته. ليس ذلك فحسب، بل بدت الأوضاع تسير بحسب ما يريد ترمب، حيث توصل إلى هدنة مع الصين في حربه الاقتصادية معها، وتوصل إلى اتفاقيات مع كندا والمكسيك، وبدا كأن إنجازاته الاقتصادية سوف تكون داعمه الأول في ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة. إلا أن الأمور لم تؤل إلى ما يريده ترمب، فجاءت جائحة كورونا لتضع العالم بأسره أمام أزمات صحية واقتصادية واجتماعية، ولتنسف في شهرين فقط، ما حققه ترمب في ثلاث سنوات.
فإحصائيات البطالة وضحت أن أكثر من 20.5 مليون أميركي غدوا في قائمة العاطلين في شهر أبريل (نيسان) وحده، أي أن نسبة البطالة ارتفعت بأكثر من 10 في المائة في شهر واحد فقط لتصبح الآن 14.7 في المائة! وأصبحت أزمة كورونا رسمياً الأسوأ للولايات المتحدة منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي، حين وصلت البطالة إلى 25 في المائة، لتتجاوز الأزمة الحالية بمراحل أزمة 2007 المالية. ولن يكون تأثير هذه الزيادة المفاجئة في نسبة البطالة سهلاً على الاقتصاد الأميركي، فالاقتصاد الأميركي خسر ما يدفعه 20 مليون أميركي من الضرائب دفعة واحدة، بل وتوجب على الحكومة الآن أن تدفع لهم إعانات شهرية. في وقت أعلنت فيه الحكومة عن دعم زاد على تريليوني دولار للقطاع الخاص لمواجهة أزمة كورونا.
ولذلك فقد أعلنت الحكومة الأميركية خطتها لاستدانة نحو 4.5 تريليون دولار لهذه السنة المالية، أكثر من ثلاثة أضعاف الدين في عام 2019. وقد أشارت توقعات ما قبل كورونا إلى أن الدين العام للولايات المتحدة قد يصل إلى 100 في المائة من الناتج القومي، أما الآن فقد ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 128 في المائة. وقد أشارت التوقعات إلى أن حجم العجز قد يصل إلى 3.7 تريليون دولار. والأسوأ من ذلك كله أن أعداد الإصابات والوفيات في الولايات المتحدة لا تزال في ازدياد مستمر، ولا يبدو الوضع في تحسن حتى هذه اللحظة، خصوصاً مع تصريح الرئيس الأميركي إلى أن الوفيات قد تزيد على 90 ألفاً.
إلا أن المستغرب في الولايات المتحدة هو وضع أسواق المال التي لم تخسر كثيراً من قيمتها في المجمل هذا العام، والمتأمل في السوق المالية الأميركية يرى أنه لا يمانع وصول الدين العام الأميركي إلى مستوى تاريخي. ويبدو أن ردة الفعل هذه تعود لعدة أسباب؛ منها أن الولايات المتحدة الآن غير ملامة في الاستدانة، فهي الخطوة التي اتخذها كثير من دول العالم، لا سيما مع انخفاض تكلفة الديون في هذا الوقت. كما أن نسبة الدين هذه هي نسبة مؤقتة فرضتها الأزمة الحالية، وسرعان ما يعود الوضع كما كان. علاوة على أن الإقبال على السندات الأميركية لم يكن يوماً موضع شك، ولذلك فإن سوق المال الأميركية لا تزال إيجابية حتى هذه اللحظة.
لقد راهن الرئيس الأميركي كثيراً على تحسن الوضع الاقتصادي في بلاده قبل خوضه الانتخابات المقبلة، وقد حاول طوال الشهرين الماضيين الحفاظ على هذه المكتسبات بالتقليل من الجائحة، ومن ثم وصمها بالفيروس الصيني، كل ذلك حتى لا يتأثر الاقتصاد الأميركي سلباً، إلا أن ذلك كله جاء بنتائج عكسية بعد أن أصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة في عدد الإصابات والوفيات.
والآن يسعى ترمب لإعادة فتح الاقتصاد مرة أخرى ولو بشكل جزئي، وهو ما قد يزيد عدد الوفيات اليومي لأكثر من 3000 يومياً بحسب إحدى الدراسات. وفي حال كانت هذه الخطوة غير موفقة، فقد تكون النتائج وخيمة للغاية، وهي تبدو الآن بمثابة مغامرة لترمب لاستعادة مكتسباته، مغامرة إن لم تنجح فسوف يكون ترمب في مأزق في الانتخابات. والظاهر أن سوق المال الأميركية هي الرهان الوحيد المتبقي للرئيس الأميركي، وهو ما سيذكره كثيراً في خطاباته مستقبلاً، تماماً كما فعل سابقاً.

د. عبدالله الردادي.

ثقافة استنزاف العمال

فازت ميليسا ديل، عالمة الاقتصاد بجامعة «هارفارد»، مؤخراً بميدالية «جون بيتس كلارك» لعام 2020. وهي ميدالية يتم منحها لخبراء وعلماء الاقتصاد البارزين ممن تقل أعمارهم عن 40 سنة. يتناول أشهر بحث لديل أهمية المؤسسات في التنمية السياسية والاقتصادية للدولة على المدى الطويل؛ ويتضمن بحثها تحذيراً للولايات المتحدة الأميركية ولدول أخرى أيضاً.
ما تعريف المؤسسة؟ تعني المؤسسة بالنسبة لأكثر الناس المنظمة الراسخة مثل مؤسسة تجارية كبرى أو هيئة مدنية. يستخدم خبراء الاقتصاد هذا المصطلح بوجه عام للإشارة إلى قواعد اللعبة التي تحكم المجتمع الإنساني. قد تكون تلك القواعد رسمية مثل القوانين، أو الأنظمة الانتخابية، أو حقوق الملكية؛ أو غير رسمية مثل العادات الاجتماعية، أو الفساد، أو التطبيق الانتقائي للقوانين.
عمل اقتصاديون مثل دارون أسيموغلو، وجيمس روبنسون، لسنوات طويلة على تطوير نظرية تفيد بأن الاختلافات في المؤسسات تؤدي إلى اختلافات كبيرة في النمو والرخاء القومي على المدى الطويل. حسب كل من أسيموغلو وروبنسون، الدول التي تتبنى ممارسات الاحتواء مثل الديمقراطية وحقوق الملكية وحرية العمل وما إلى ذلك، تصبح أكثر ثراءً على المدى الطويل، في حين أن الدول التي تسيء معاملة عمالها ومواطنيها لتستخلص منهم أكبر قيمة على المدى القصير تصبح أكثر فقراً.
إنها نظرية شاملة ومثيرة للاهتمام عن ثراء وفقر الأمم، لكن من الصعب للغاية إثباتها بالأدلة التاريخية؛ وتلك النقطة هي التي يتضمنها بحث ديل؛ فقد حللت ديل في ورقة بحثية عام 2010 التأثير طويل المدى لنظام عمل بالسُّخرة يسمى «ميتا» كان يتم تطبيقه في بيرو وبوليفيا خلال الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. باتت تلك المناطق، التي طبقت ذلك النظام، أكثر فقراً وأقل اتصالاً بشبكات الطرق اليوم؛ ويعني ذلك ضمناً أن ثقافة الاستنزاف، التي تتبناها أنظمة العمل بالسُّخرة تؤدي إلى تراجع الاستثمار العام بمرور الوقت. كذلك تتضمن بعض الأوراق البحثية الأخرى لديل نتائج مماثلة طويلة المدى لاستغلال العمال في إندونيسيا والمكسيك وأماكن أخرى. رغم أنه لا يمكن حسم أي جدل في تاريخ الاقتصاد، الماضي شديد التعقيد ومن الصعب قياسه، مما لا يسمح بالعثور على أجوبة محددة حاسمة. مع ذلك يخبرنا التاريخ أن النظرية المؤسسية للتنمية لا تزال تجد لها أدلة تجريبية.
لهذا آثار مهمة بالنسبة للولايات المتحدة، فهي دولة كبيرة المساحة وتتسم بالتنوع، حيث يوجد بها الكثير من النماذج المختلفة للمؤسسات الجيدة والسيئة. على سبيل المثال كانت العبودية المؤسسة الأكثر استنزافاً وظلماً للبشر؛ في حين كانت مشاركة المحصول، وهو شكل من أشكال الزراعة التي يقوم بها مستأجرون للأرض الزراعية، أقل استغلالاً. وكانت الهجمات العنيفة على اتحادات العمال شائعة في مناطق صناعية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكذلك كان استغلال العمالة الزراعية المهاجرة في منطقة الجنوب الغربي شائعاً.
سوف يؤدي إجبار الناس على العودة إلى العمل إلى انتشار فيروس «كورونا» وبالتالي إلى المزيد من الوفيات. كذلك من غير المرجح إنقاذ اقتصاد الدولة بسبب غياب العملاء نتيجة خوفهم من الإصابة بالمرض أكثر من التزامهم بأوامر البقاء في المنزل.
لحسن الحظ لدى الولايات المتحدة الأميركية تقاليد مؤسسية ذات طابع احتوائي يمكنها التعويل عليها. يمكن لنظام حرية العمل، الذي كان سائداً في الشمال قبل الحرب الأهلية، وقواعد حماية العمل الصارمة، التي كان يتم تطبيقها في سلسلة البرامج (الخاصة بالرئيس روزفلت)، أن تكون أمثلة ونماذج توضح كيفية إعادة بناء مجتمع فعّال بالكامل. تحتاج الولايات المتحدة خلال العقود التالية إلى صقل مؤسساتها ذات الطابع الاحتوائي، أي إعادة بناء اتحاداتها، وجعل حقوق التصويت عالمية، والتصدي للطرق المختلفة التي يتم استغلال العمال بها. سوف يسمح هذا النهج الشامل ذو الطابع الاحتوائي للولايات المتحدة بأن تظل في مصافّ الدول المتقدمة خلال العقود التالية.

نوح سميث.

العملات الورقية الى إندثار محتوم

 

بعد الأزمة المالية في العام 2008، قامت المصارف المركزية بضخ التريليونات في الاقتصاد الأميركي والأوروبي لتحفيز النمو، بما عُرف بالتيسير الكمّي، وكانت النتيجة أن ارتفع النمو وانتفخت أسعار الأسهم حتى بداية العام 2020.

منذ أشهر قليلة، بدأت الأسواق العالمية بالتردّد بين صعود وهبوط ،وكأنّ يوم الحساب قد اتى. وبعد فترة وجيزة ضربت جائحة «الكورونا» العالم فترنّحت البورصات وارتفعت البطالة الى مستويات غير مسبوقة، وتراجع النمو وطغى على الأسواق المالية اللون الأحمر الداكن. ولكن على أبواب الانتخابات الرئاسية، لم تشأ الإدارة الأميركية مخالفة العادة الشائعة.

تاريخياً، لم تشهد أسواق الأسهم الأميركية اداءً سلبياً خلال سنين الانتخابات منذ العام 1928 الاّ في السنوات التالية، 1932، 1940، 2000، 2008، ما عدا ذلك كان الارتفاع سيّد الموقف. وها اننا نرى إلادارة الاميركية توزّع الأموال بحسب القول الشائع اليوم، «ترمي الأموال بالهليكوبتر»، تيسير كمّي رفع الكتلة النقدية بالدولار الاميركي الى مستويات غير مسبوقة خلال شهر نيسان 2020.

إنّ استراتيجية التيسير الكمّي عبر خلق العملة أو طباعتها لا يمكن الّا أن تقود الى حالات تضخمية بإمتياز، خصوصاً إذا ما ترافقت مع أسعار فائدة شبه معدومة. وعندما نتكلّم عن التضخّم يتجّه كثيرون نحو التحوّط عبر الاستثمار بالذهب والفضة وأخيراً «البتكوين».

لم يعد خافياً على أحد أنّ مستقبل المعادن الثمينة يبدو واعداً وبقوة، وقد نصحنا منذ الصيف الماضي بالاستثمار في الذهب والفضة، ولم نزل نرى أرجحية متابعة الارتفاع في السنين المقبلة. أما الجديد، فهو التوقعات في ما خصّ «البتكوين» وهل تشكّل هذه العملة الملاذ الآمن كالمعادن؟

لقد فشل «البتكوين» حتى الآن بفك مساره عن مسار مؤشرات الأسهم الأميركية، حيث رأيناه يهوي مع هبوطها ومن ثم يعود الى الإرتفاع مع تماسكها. لكن عوامل أساسية عدة تجعلنا نعتقد أنّ تطوراً إيجابياً قد يطرأ على «البتكوين» وعلى العملات الرقمية بشكل عام ومنها:

أولاً: التضخّم والفوائد المنخفضة، هما عاملان يلعبان لمصلحة «البتكوين».

ثانياً: انّ ارتباط عملة «البتكوين» بمؤشرات الأسهم الأميركية قد يقودها الى منحى ايجابي في حال استفادت الأسهم من التيسير الكمّي.

ثالثاً: بعكس العملات التقليدية التي يُفقدها التضخّم من قيمتها، فإنّ «البتكوين» وبحكم الخوارزميات التي تحكمه، يقلّص أية توجّهات تضخمية مرة كل اربع سنوات، عبر تخفيض العوائد على هذه العملة الى النصف، خصوصاً أنّ انتاجها محدود بسقف 21 مليون وحدة «بيتكوين»، وبالتالي لا مجال لإغراق السوق بكميات كبيرة منها، رغم الطلب المتزايد عليها. وما يجدر ذكره، هو أنّ السنوات الأربع إنقضت وسيتمّ خفض العائد على تعدين «البتكوين» مرة اخرى بدءاً من شهر أيار 2020 من 12,5 «بتكوين» لعملية التعدين الواحدة الى 6,25 «بتكوين».

رابعاً: بدأت الصين منذ أيام قليلة في اصدار عملتها الرقمية، والتي تعتزم من خلالها تعميم استعمال اليوان الرقمي كعملة تبادل تجاري في حربها التجارية مع الولايات المتحدة. ويتوقّع البعض ان ترفض أميركا في الجلوس في المقعد الخلفي في مجال العملات الرقمية، وستعمد إلى إصدار الدولار الرقمي لمواجهة، ليس فقط تهديد اليوان الصيني، انما أيضاً عملة «الليبرا» والتي تعتزم شركة «فيسبوك» اصدارها رغم العرقلة الأميركية لهذا المشروع، خصوصاً ان «فايسبوك» يطال 2,5 مليار مستخدم في العالم، مما قد يؤمّن لعملة «الليبرا» انتشاراً سريعاً لا تُحمد عقباه بالنسبة للدولار الأميركي.

طبعاً، في هذا التسابق على العملات الرقمية، من المتوقّع ان يستفيد «البتكوين» من انحسار استعمال العملات التقليدية لصالح هذه العملات الالكترونية، وان كان بعضها مصدّراً من قِبل المصارف المركزية.

يبقى السؤال الأهم، هل تصح توقعات المحللين بأنّ سعر «البتكوين» سيرتفع ما بين 10 إلى 20 ضعفاً في السنتين المقبلتين؟

انّ العام 2022 لناظره قريب، رغم أنّ بعض المراقبين يشترطون لذلك تعافي أسواق الأسهم الأميركية لئلا تؤثّر سلباً على «البتكوين».​

د. فادي خلف.

ستة أشهر من الضبابية

تحسنت أسعار نفط خام غرب تكساس الوسيط، الذي يتم تداوله في بورصة نايمكس في نيويورك، كثيراً، وخرجت من القاع، ولا يوجد قاع أسوأ من وصولها إلى نحو (-40 دولاراً) للبرميل تحت الصفر، الشهر الماضي. ورغم أنها وصلت إلى مستويات فوق عشرين دولاراً هذا الأسبوع، مع زيادة التفاؤل بتحسن الطلب ودخول اتفاق «أوبك+» حيز التنفيذ مطلع شهر مايو (أيار) الحالي، إلا أننا أمام ستة أشهر من الضبابية.
وهناك أسباب دفعتني لهذه النتيجة، من مخاطر نمو الطلب إلى احتمالية عودة النفط الصخري للإنتاج، وبالتالي إعادة الفائض إلى السوق بشكل أكبر من الشكل الذي كان عليه الشهر الماضي عند مستوى 4 إلى 5 ملايين برميل يومياً.
والبداية مع الطلب، إذ لا أحد يستطيع معرفة حاله في العالم والولايات المتحدة تحديداً. نعم سوف تفتح العديد من الدول الأسواق والمجمعات والمطاعم تدريجياً، بدءاً من هذا الشهر، وفي الولايات المتحدة يضغط الرئيس دونالد ترمب، لفتح الاقتصاد مجدداً، إلا أن كل هذه الدول تأخذ مخاطر صحية عالية.
إذ بدون وجود علاج لفيروس كورونا، فإن مخاطر انتشار الفيروس، بعد رفع الحظر الكلي في العديد من الدول حول العالم، قد تساهم في انتشاره مجدداً، ما يعني عودة الحظر الكلي، وقد يكون بصورة أسوأ من قبل. قد يحدث هذا، وقد لا يحدث، وقد يكتشف العالم علاجاً للفيروس، ولكن الحديث هنا عن المخاطر، وستظل هذه الأخيرة قائمة.
وقد يقول البعض، ولكن الوضع في آسيا بدأ في العودة تدريجياً، وتحسنت الحركة الاقتصادية هناك، خصوصاً في الصين، التي في طريقها لتسجيل نمو اقتصادي بنحو 5.7 في المائة في 2020 في أفضل السيناريوهات، مع التحفيز الاقتصادي الحكومي، أو 5.1 في المائة إذا ما استمرت أزمة «كورونا» حتى آخر العام.
وهنا لا يجب أن نغفل أن اقتصاد الصين قائم على التصدير، وباقي العالم لا يستورد كثيراً الآن، والعلاقة لا تزال سيئة مع الولايات المتحدة، وحتى الصفقة التجارية بين البلدين التي تم عقدها قبل أزمة «كورونا» في بداية العام، وساهمت في رفع الأسعار، تبخرت الآن، وهذا ما سيزيد من احتمالية تباطؤ النمو الصيني. وإذا نظرنا إلى الاقتصاد في الدول الغربية، فالوضع سيئ. في الولايات المتحدة، فإن عدد طلبات إعانة البطالة وصل إلى 30 مليوناً منذ بداية أزمة «كورونا».
وحتى مع بدء الثلاثة وعشرين دولة الأعضاء في تحالف «أوبك +» في تخفيض الإنتاج بنحو 9.7 مليون برميل، بقيادة السعودية وروسيا، ومع هبوط الإنتاج العالمي المتوقع بنحو 4.5 مليون برميل يومياً، أي بأكثر من 14 مليون برميل يومياً، فإن السوق لن تتوازن، لأن الهبوط في الطلب في الشهر الماضي وصل إلى 21 مليون برميل، حسب تقديرات «إي إتش إس».
إن اتفاق «أوبك +» في أفضل الأحوال سيوقف بناء المخزونات التي امتلأت الشهر الماضي، بعد وصول إنتاج منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) إلى أعلى مستوى في 30 عاماً. ومع هذا لا يزال هناك تفاؤل بوصول أسعار النفط إلى 50 دولاراً، أو أكثر، من قِبل بعض المصارف مثل مصرف «يو بي إس».
وبما أن وضع الطلب لا يزال في مهب الريح، فإن هذا يجعلني أرى ضبابية عالية في السوق. أما الأمر الأخير، الذي لا يجعل الرؤية واضحة تماماً، فهو إنتاج النفط الصخري.
من المتوقع أن ينخفض إنتاج شركات النفط الصخري بنحو مليون برميل يومياً بين أبريل (نيسان) ويونيو (حزيران)، وإذا ما استمرت الأسعار على ما هي عليه (عند 20 دولاراً فأقل)، فإن الإنتاج قد ينخفض بنحو 2 إلى 3 ملايين برميل يومياً.
وتكمن الخطورة في أن النفط الصخري قد يعود مع بقاء أسعار النفط الأميركي عند مستوى 25 إلى 30 دولاراً، والسبب في ذلك هو صراع هذه الشركات من أجل البقاء، وعدم رغبتها في إقفال أفضل آبارها الإنتاجية.
بصورة عامة، ومن ناحية فنية، فإن إقفال الآبار النفطية ليس أمراً بالسهل، كما يظن الجميع، خصوصاً ما إذا كانت هذه الآبار غير تقليدية، مثل آبار النفط الصخري. بالنسبة للآبار التقليدية مثل التي توجد في السعودية وروسيا والكويت والإمارات ومناطق مختلفة من الولايات المتحدة، فإن هذه الآبار إذا تم إقفالها، يجب صيانتها للحفاظ على الأنابيب داخلها من التآكل والصدأ، وهذا يستوجب عمليات كثيرة مثل ضخ النيتروجين في الآبار وغيرها. هذا يعني أن هناك تكلفة للإبقاء عليها لحين إعادتها للتشغيل.
أما الآبار غير التقليدية، مثل آبار النفط الصخري، فتعتمد على تفجير الصخور تحت الأرض بخليط من الماء بضغط عالٍ ورمل مخصص لهذا ومواد كيمائية، للسماح للنفط بالتدفق في الأنابيب إلى السطح، وهو ما يعرف باسم «التكسير الهيدروليكي». وعند إقفال هذه الآبار، وإعادة تشغيلها، فهذا يعني إنفاقاً رأسمالياً جديداً، وكأنه يتم حفرها لأول مرة.
بالأمس، قال رئيس شركة «إيه أو جي» للنفط الصخري إن عودة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة بعد الظروف الحالية إلى ما كان عليه قبل «كورونا»، قد يأخذ سنوات، والسبب في ذلك هو خروج الكثير من المنتجين، وعدم وجود مستثمرين ومصارف قادرة على تمويلهم حالياً.
وإذا كان حال شركات النفط الصخري في حوض «بيرميان» في تكساس سيئاً، فالوضع في ولاية داكوتا الشمالية، التي قادت ثورة النفط الصخري الأميركية، أسوأ مع قيادة حوض «باكن» تراجع هذه الصناعة في الوقت الحالي. مع انخفاض الإنتاج النفطي في داكوتا الشمالية، بأكثر من الثلث، خلال العام الحالي وحده، وهو انخفاض تجاوز ما سجلته العديد من الدول الأعضاء في «أوبك»، من تراجع في إنتاجها من الخام.
نتيجة لذلك، من المتوقع انخفاض الإنتاج الأميركي من النفط بما يصل إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً من أعلى مستوى سجلته قبل عدة أشهر عند 13 مليون برميل يومياً.
وإذا ما تغلبت شركات النفط الصخري على مشاكلها الفنية، يبقى عامل السعر مهماً. وحسب تقرير لـ«الراجحي كايبتال»، صدر الأسبوع الماضي، فإن هذه الشركات تحتاج إلى 46 دولاراً للبرميل حتى تستمر في الإنتاج. وقليل من هذه الشركات مثل «بايونير» تستطيع مواصلة الإنتاج عند 30 دولاراً، إلا أن الباقين مصممون على إعادته إذا ما وصل سعر غرب تكساس إلى 25 دولاراً. ولهذا فإن أي تحسن في الأسعار،

وائل مهدي.

ازدياد سطوة الشركات التقنية

مَن يَرَ كثيراً من الشركات التقنية اليوم لا يصدق كيف كانت حالها قبيل أزمة 2007 المالية، فباستثناء «مايكروسوفت» التي كانت معروفة، كانت معظم الشركات التقنية اليوم أقرب للنكرات مقارنة بما هي عليه اليوم، فشركة «فيسبوك» لم يتعدَّ عمرها 4 سنوات حينذاك، وشركة «أبل» كانت لا تزال تعتمد على مبيعات الحاسبات قبل انطلاق مبيعات «آيفون». أما «أمازون» فلم تتعدَّ قيمتها عُشر قيمتها اليوم، بينما كانت قيمة «غوغل» لا تزيد على ثلث قيمتها الآن. ولكن الوضع تغير كثيراً خلال هذه المدة، فتسابقت هذه الشركات نحو التقييم التريليوني، وأصبحت هذه الشركات دون أي مبالغة تتحكم في مفاصل الحياة.
ومنذ 2009 وحتى الآن، تسببت هذه الشركات الخمس في رفع مؤشر «ستاندارد آند بورز 500» (وهو مؤشر لأكبر 500 شركة أميركية) أكثر من 400 في المائة، كيف لا؛ ومجموع قيمة هذه الشركات يتعدى 5.2 ترليون دولار؟ تأتي «مايكروسوفت» في قمة هذه الشركات التريليونية بقيمة تزيد على 1.3 تريليون دولار، تليها «أبل» بما يربو على 1.2 تريليون، و«أمازون» بـ1.14 تريليون. وتشكل هذه الشركات الخمس ما وزنه 20 في المائة من مؤشر «ستاندارد آند بورز 500».
وليس ذلك ببيت القصيد، فرغم أن الشركات الأميركية – كما هي الحال في العالم بأكمله – تعاني الآن من انهيارات بسبب فيروس «كورونا»، فإن هذه الشركات الخمس وعلى العكس من ذلك كله، ما زالت تنمو وبشكل متسارع كما أوضحت نتائجها الربعية. فزادت أسعار أسهم «أمازون» بنسبة 30 في المائة، مستندة على متاجرها الإلكترونية، وزيادة الطلب على خدماتها السحابية التي زادت إيراداتها على 10 مليارات دولار لأول مرة في تاريخ الشركة، يذكر هنا أن نسبة كبيرة من أرباح «أمازون» تعود لخدماتها السحابية وذلك لارتفاع هامش الربح فيها. كما نمت إيرادات «فيسبوك» بنسبة 18 في المائة، واستفادت «مايكروسوفت» من خدماتها في الاتصال المرئي لتزيد أسهمها 10 في المائة ووصلت أرباحها إلى نحو 11 مليار دولار. وزادت أرباح «غوغل» 13 في المائة في هذا الربع مقارنة بالربع نفسه عام 2019 مستندة على إعلانات «يوتيوب» التي ارتفعت بنسبة 33 في المائة. هذه الأرقام دلالة على أن الأزمة لم تزد الشركات الخمس إلا قوة، بينما أضعفت مثيلاتها من كبريات الشركات.
ولم تكن الشركات التقنية بحاجة إلى أزمة «كورونا» لتزيد من سطوتها؛ سواء على المستوى المادي وعلى مستوى السيطرة في نطاقاتها، إلا إن أزمة «كورونا» زادتها هيمنة، وأضعفت في المقابل كثيراً من الشركات الضخمة التي قد تكون في هذه الأزمة نهاية لها. ومن يتأمل في أرقام هذه الشركات المهددة بالخسارة الفادحة يدرك لماذا يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإعادة فتح اقتصاد بلاده في أسرع وقت ممكن، فشركة «فورد» صرحت بأن خسارتها للربع الأول وحده قد تزيد على 5 مليارات دولار. أما «بوينغ» فقد أعلنت أنها تخسر 4.7 مليار دولار كل 3 أشهر في هذه الأزمة. وشركات الطيران الأميركية بدأت فعلياً بإعلان إفلاسها، وأسهمها مستمرة في الانهيار، لا سيما بعد أن أعلن وارن بافيت عن بيع شركته جميع استثماراتها في أسهم شركات الطيران، وأنها ستستمر في المعاناة 3 أو 3 سنوات مقبلة. والأمثلة على هذه الخسائر لا تحصى سواء في الاقتصاد الأميركي وغيره.
هذه المشاهد الاقتصادية دلالة على أن شركات التقنية قد تبدأ في التوسع خارج نطاق استثماراتها بسبب تعدد الفرص الموجودة في السوق الآن. فكثير من الشركات العالمية الآن على حافة الإفلاس، والشركات الصامدة قليلة جداً، بينما تشهد شركات التقنية نمواً وربحاً وفيراً. وقد يقول قائل إن الشركات التقنية أذكى من أن توسع محافظها الاستثمارية بالخروج عن نطاق نشاطاتها التقنية، إلا إن هذا القول يمكن رده بشراء «أمازون» شركات غذائية قبل سنتين… أي إننا قد نرى في الفترة المقبلة كثيراً من عمليات الاستحواذ من شركات تقنية، على شركات من قطاعات أخرى، كالطيران مثلاً!

د. عبدالله الردادي.

استثمارات ما بعد «كورونا»

بعد تجاوز عديد من الدول مرحلة الذروة بإصابات فيروس كورونا، بما في ذلك دول أوروبا بمجملها، وإعلان بعض الدول إعادة النشاط الاقتصادي، ولو بشكل جزئي. بدأ التفكير في استثمار التغييرات الممكنة بعد «كورونا»، وبعض هذه التغييرات جلي مثل التغير في منهجيات وتشريعات البحث العلمي في كثير من الدول، وما يصاحبها من تغيير في الاستثمارات، ومثل سياسات الاكتفاء الذاتي في الكثير من الصناعات والقطاعات الاستراتيجية كالأغذية والأدوية والمستلزمات الأساسية، وما يصاحبها من أنشطة اقتصادية. كذلك سيشمل الكثير من القطاعات التي لم تخف أهميتها قبل الأزمة، ولكن التغييرات التي قد تطرأ عليها قد تكون جذرية، مثل القطاعات اللوجستية والمالية والأجهزة الطبية الوقائية والتجارة الإلكترونية وقطاع التجزئة. وأهمية معرفة هذه القطاعات تكمن في التوجه الاستثماري المحتمل لها حال انتهاء الأزمة، وعدم ارتباط استمراريتها بالأزمة.
فالقطاع اللوجستي سوف يواجه الكثير من التحديات في مرحلة ما بعد «كورونا»، وأول هذه التحديات هو تعقيم البضائع الذي قد يستمر لفترة طويلة بعد «كورونا»، فلا وجود لتقنيات تجارية حالية بإمكانها تعقيم البضائع. وإن وجدت هذه التقنية، فيجب أن تعقم البضائع دون إفسادها، وفي ذلك تحدٍ كبير كون السلع المشحونة تختلف من الأغذية المعلبة إلى الورقيات التي قد تفسد من السوائل المستخدمة في التعقيم، وغيرها من البضائع. وهذا يعني أن صناعة جديدة سوف تظهر، صناعة لم تكن موجودة قبل «كورونا». أما على المستويات المحلية، فكل دول العالم الآن أدركت أهمية تنمية القطاع اللوجستي داخلها، وهو ما يعني أن الخدمات اللوجستية المحلية بكل الأطراف الداعمة لها سوف تشهد ثورة في الدول ذات البنية التحتية الضعيفة، يقابل هذه الثورة عدم يقين بمستقبل قطاع التجزئة لم يسبق له تاريخياً أن واجه شللاً، كما يواجه الآن. وحجم قطاع التجزئة يزيد على 25 ترليون دولار عالمياً، وهو قطاع مملوك من شركات كبرى قد لا تسمح أن تواجه موقفاً مشابهاً في المستقبل، ولذلك فمن المتوقع أن يشهد هذا القطاع تغيراً يمكنه من الحفاظ على مكانته. وبالتأكيد فإن التجارة الإلكترونية هي إحدى أكبر الرابحين في هذه الأزمة، ولعل أوضح مثال على ذلك ارتفاع أسهم شركة «أمازون»، بما يزيد على 30 في المائة.
أما بالنسبة للقطاع المالي، فإن لم يكن تفكير الحكومات جاداً في العملات الإلكترونية قبل «كورونا»، فقد يكون كذلك بعد هذه الأزمة، والملاحظ أن الكثير من الدول قللت من التعامل بالعملات الورقية، واستبدلتها بالتعاملات الإلكترونية والمدفوعات عن طريق البطاقات الائتمانية، وذلك لمنع انتشار الفيروس عن طريق تداول العملات النقدية. والعملات الإلكترونية – إن فعلا بالآلية المناسبة – ستكون أقل تكلفة على الحكومات من العملات المحسوسة. وفي الوقت الحالي، لا توجد حكومة مستعدة لإطلاق عملة إلكترونية حكومية باستثناء الصين التي بدأت هذا المشروع منذ 5 سنوات تقريباً، وفيما عداها عملات تابعة لشركات، كان آخرها عملة «فيسبوك» التي قد لا ترى النور بسبب المشكلات التي واجهتها مؤخراً.
إن التركيز في الوقت الحالي ينصب على التقنيات التي تساعد في تجاوز الأزمة، ولكن التقنيات التي ستطور لضمان عدم حدوث الكارثة مرة أخرى قد تفوقها، كمّاً وانتشاراً، خصوصاً مع ارتفاع القيمة الاقتصادية لهذه التقنيات، كون الحكومات ستتسابق لشراء هذه المنتجات بهدف الوقاية من انتشار الفيروس. وإن كان الأطباء وعلماء العلوم الحياتية الآن يسعون للبحث عن لقاح للفيروس، فهناك جانب آخر من البحث العلمي يعمل على إيجاد الفرص الاستثمارية والتقنيات الواعدة لمرحلة ما بعد الفيروس. فالسوق متغيرة لا محالة، وصناعات عدة سوف تظهر لم تكن موجودة من قبل، وأخرى كانت مهددة بالانهيار، وزادتها الأزمة ضعفاً مثل قطاع التجزئة. والمؤكد أن عديداً من الشركات سوف تصبح من كبريات الشركات بعد انتهاء الأزمة، سواء لحسن التخطيط واستثمار الفرص، أو لمجرد الحظ والتوفيق، كما هو الحال لبرنامج «زووم»، الذي زاد مشتركوه بنسبة 700 في المائة في أقل من شهرين. والشركات، وإن لم تمارس نشاطها التجاري، في هذه الأوقات الصعبة، يجب ألا يقف نشاطها التخطيطي وعصفها الذهني للبحث عن فرص الاستثمار لما بعد هذه المرحلة.

د. عبدالله الردادي.

عودة بطيئة للنمو الاقتصادي

من المحتمل، مع اقتراب شهر مايو (أيار)، أن نشهد عودة بطيئة للنمو الاقتصادي في بعض أنواع الأنشطة الاقتصادية التي مُحيت آثارها تماما بسبب إغلاقات فيروس «كورونا» في مارس (آذار) الماضي وأبريل (نيسان) الجاري. وهذا من قبيل الأنباء السارة. أما الأنباء السيئة، وكما شهدنا في قطاع النفط خلال الأسبوع الجاري، لا يزال جانب كبير من الاقتصاد يعاني من فائض كبير في العرض، لقاء مستويات الطلب المحتملة في المستقبل المنظور. ومن المرجح لمجريات الشد والجذب، والتداعيات المتعاقبة المحتملة، أن تحدد المسار القادم للاقتصاد خلال الشهور القليلة المقبلة.
ومن السهل التيقن إلى درجة ما أن بعض أوجه النشاط الاقتصادي قد وصلت بالفعل إلى القاع. وبعد كل شيء، لا يمكن للنشاط الاقتصادي أن يجاوز ما دون الحد الصفري على الإطلاق. وتشير بيانات مؤسسة «أوبن تيبل» البحثية إلى أن حجوزات المطاعم عبر الإنترنت قد انخفضت بنسبة 100 في المائة بسبب قرارات الإغلاق الإلزامية لمختلف المطاعم والمقاهي. ومن شأن ذلك أن يمثل «مُنْخَفَضاً» لأجزاء معتبرة من حياتنا اليومية الأكثر تأثرا – وربما تضررا – من قرارات الإغلاق. وربما لمتاجر البقالة ومنافذ الوجبات السريعة – على سبيل المثال، أن تشهد ارتفاعا طفيفا في حركة الطلب والمرور مع تطبيق التغييرات ذات الصلة بالسلامة التي تبعث على ارتياح العملاء مع ارتداء الأقنعة الواقية والالتزام بإرشادات التباعد الاجتماعي المعروفة.
وحتى قبل رفع القرارات الإلزامية بالبقاء في المنازل، فهناك علامات مؤقتة على التحسن البطيء للغاية في بعض المجالات الاقتصادية. فلقد ازداد الطلب على وقود السيارات للمرة الأولى في الأسبوع الماضي منذ بدء تنفيذ قرارات الإغلاق، مع تطلع الناس الشديد للخروج من المنازل ولو قليلا، حتى مع استمرار الشركات والأعمال غير الضرورية قيد الإغلاق الإلزامي. وتعكس البيانات اليومية الصادرة عن إدارة أمن النقل ارتفاعا طفيفا في عدد المسافرين بالطائرات الذين يمرون عبر بوابات التفتيش الأمنية.
ولقد شهد إجمالي الإنفاق في المطاعم انخفاضا بصورة أقل على أساس سنوي خلال الأسابيع القليلة الماضية، ربما مع شعور العملاء بارتياح أكبر مع خيارات طلبات الطعام الجاهزة، والتوصيل إلى المنازل. وأظهر مسح لبناء المنازل لدى مؤسسة «جون بيرنز للاستشارات العقارية» أسبوعين متتاليين من تحسن معنويات العملاء. كما أظهرت بيانات الأسبوع الجاري لدى «رابطة مصرفيي الرهن العقاري» أول زيادة متتالية في طلبات شراء الرهن العقاري منذ بدء قرارات الإغلاق. ومع التباطؤ الذي شهده النشاط الاقتصادي حتى قبل تطبيق الولايات لقرارات الإغلاق، فليس من المستغرب أن يتعافى النشاط الاقتصادي بصورة طفيفة قبل وقف العمل بهذه القرارات.
ومع التخفيف التدريجي لقرارات لزوم المنازل خلال الشهر المقبل، من المنتظر أن تشهد العديد من أنواع الأعمال التجارية القليل من التحسن. وسوف يقضي الناس المزيد من الوقت في قيادة السيارات واستهلاك الوقود في مايو مقارنة بما جرى في أبريل. ومن شأن السفر الجوي أن يرتفع الشيء القليل أيضا. مع توقعات باستهلاك المزيد من وجبات المطاعم، إما داخل المطاعم نفسها أو عبر خدمات التوصيل إلى المنازل. ومن المتوقع إعادة افتتاح أماكن في لاس فيغاس من منتصف حتى أواخر مايو، مما يعني ارتفاع معدلات الإشغال الفندقي هناك أكثر من شهر أبريل.
وهناك رياح معاكسة قادمة من محيط التحفيز المالي، مع عشرات الملايين من المواطنين الأميركيين الذين يحصلون على شيكات الإغاثة المالية خلال الأسبوع الماضي. وعلى الرغم من استمرار معالجة الأعمال المتراكمة المتأخرة، فإن الملايين من العمال المسرحين من وظائفهم، وغيرهم من العمالة بالأجرة، صاروا يحصلون على منافع البطالة المحسنة التي ترجع إلى تواريخ توقفهم عن ممارسة أعمالهم. كما تحصل الشركات المختلفة أيضا على مئات المليارات من الدولارات عبر برنامج حماية الرواتب.
وهذا أيضا من قبيل الأنباء السارة. ولكن هناك أيضا أنباء سيئة، فعلى النحو المشاهد بصورة بارزة في أسواق النفط العالمية خلال الأسبوع الجاري، فإن العديد من المجالات الاقتصادية لديها قدرات زائدة بشكل مذهل، حتى مع ارتفاع الطلب خلال الشهور القليلة المقبلة. ومن شأن إغلاق السعة المفرطة مع تعديل هياكل التكاليف لقاعدة الإيرادات المنخفضة أنه سوف يرجع بآثار سلبية كبيرة على النمو الاقتصادي الإجمالي.
ومن السهل تصور مقدار الانكماش الكبير في النشاط والاستثمار في إنتاج النفط والغاز الأميركي. فمن واقع بيانات الربع الأخير من عام 2014 وحتى الربع الثاني من عام 2016، انخفضت الاستثمارات الثابتة في عمليات الاستكشاف، وحفر الآبار والأعمدة بنسبة 65 في المائة، الأمر الذي أدى إلى الكثير من الأوجاع الاقتصادية المركزة في ولايات مثل تكساس ونورث داكوتا… ويمكن أن نشهد مثل هذه الأوجاع لعدة أرباع فصلية أخرى أو أكثر مما يماثل ذلك.
وفي الأثناء ذاتها، وعلى صعيد الطيران، فمن المرجح لشركات الطيران أن تعمل على تقليص طاقتها خلال شهور الصيف. وإن لم يشهد هذا القطاع المهم انتعاشا سريعا في الطلب على السفر الجوي بأكثر مما هو متوقع، فسوف تحتاج الشركات في خاتمة المطاف إلى الإقلال من عدد الموظفين أو زيادة رؤوس الأموال.
وتعتبر الآفاق مريعة كذلك بالنسبة لحكومات الولايات والحكومات المحلية في الولايات المتحدة، والتي تعاني من انخفاض كبير في إيرادات الضرائب، مما يتعين عليها اتخاذ خيارات عسيرة فيما يتعلق بالميزانيات المالية لعام 2021، وباستثناء تمرير تشريع جديد للمساعدة المالية من قبل الكونغرس، فمن شأن ذلك التأثير بشدة على النمو الاقتصادي في الربعين الثاني والثالث من العام على أقل تقدير.
لكن على الأقل بعد مرور شهر من الأنباء التي كانت سلبية بصورة مستمرة، فمن شأن الصورة الاقتصادية العامة في شهر مايو المقبلة أن تكون مختلطة. بعض المناطق والصناعات سوف تفيق من الغيبوبة في حين تعاني مناطق وصناعات أخرى من صدمات جديدة بسبب انقطاع القدرات. ولن تكون إعادة فتح النشاط الاقتصادي وحدها كافية لإعفاء صناع السياسات من مسؤولياتهم في الاضطلاع بالمزيد من المهام، لا سيما فيما يتصل بميزانيات البلدات والمحليات المتضررة للغاية. وتحديد مقدار المطلوب يتوقف على مدى تقدم وباء «كورونا» وشكل الانتعاش الاقتصادي المنتظر. ربما يكون أسوأ مراحل العاصفة قد انقضى ولا تزال أمامنا العملية الشاقة لإعادة البناء.

كونور سين

الإغلاق العالمي الكبير وتجاوز التحديات

وضع «كورونا» العالم على مشارف أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، والكساد الكبير (1929 – 1939). فالإغلاق العالمي الكبير الذي شهدته الكرة الأرضية من حجْر منزلي، وحظر تنقل، وتباعد اجتماعي، أدَّى لتوقف قطاعات وأنشطة اقتصادية عديدة، مثل الطيران والفنادق والمطاعم والمتاجر وكثير من الصناعات، واختلالات بأسواق الأسهم والطاقة والتجارة الدولية. وتسبب في تداعيات اقتصادية سلبية على الاستهلاك والادخار والاستثمار وتشغيل اليد العاملة؛ بل إنَّه أصبح ينذر بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة ركود سيستغرق سنوات ليتعافى منه، كما أفادت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فقد أشارت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في 9 أبريل (نيسان)، بتوقع تسجيل معدلات نمو سلبية لدخل الفرد في أكثر من 170 دولة خلال عام 2020، وأنَّ نصف دول العالم طلبت من الصندوق خطة للإنقاذ.
وأورد تقرير الصندوق لآفاق الاقتصاد العالمي الصادر في 14 أبريل، توقعاته بأن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشاً حاداً بواقع 3 في المائة خلال العام الحالي. وقدر انخفاضات إجمالي الناتج المحلي بالاقتصادات المتقدمة بنسبة 6.1 في المائة (أعلاها في منطقة اليورو بنسبة 7.5 في المائة)، وبمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بنسبة 2.8 في المائة، وأميركا اللاتينية بنسبة 5.2 في المائة. وتوقعت منظمة التجارة العالمية ببيانها الصحافي في 8 أبريل انخفاض التجارة الدولية بنسب بين 13 في المائة – 32 في المائة هذا العام. كما أظهر البيان الصحافي الصادر عن منظمة العمل الدولية بتاريخ 7 أبريل، أن الجائحة سوف تؤدي إلى إلغاء 6.7 في المائة من إجمالي ساعات العمل بالعالم بالنصف الثاني من هذا العام، أي ما يقارب 195 مليون وظيفة بدوام كامل، وأنَّ ما يقارب 81 في المائة من القوى العاملة العالمية التي يبلغ عددها 3.3 مليار شخص، تأثرت بسبب الإغلاق العالمي الكبير. ومن الجدير بالتنويه هنا أنَّ عدد الأميركيين الذين فقدوا وظائفهم خلال الأسابيع الأربعة الماضية بلغ أكثر من 22 مليون فرد، وهذا العدد يقارب مجموع العاطلين الأميركيين في ذروة الكساد الكبير عام 1932 الذي بلغ 30 مليون شخص.
وأظهرت تداعيات هذه الأزمة الدولية غير المسبوقة، أنه لا يمكن لدولة أياً كانت أن تقدر على مواجهتها بمفردها، مما يحتم حشد التعاون الدولي. وهذا ما أكده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، في مستهل أعمال قمة مجموعة العشرين الاستثنائية التي عقدت افتراضياً برئاسة المملكة العربية السعودية في 26 مارس (آذار) الماضي؛ حيث قال: «إن هذه الأزمة الإنسانية تتطلب استجابة عالمية، وإن العالم يعوّل علينا للتكاتف والعمل معاً لمواجهتها، ويجب أن نأخذ على عاتقنا جميعاً مسؤولية تعزيز التعاون في تمويل أعمال البحث والتطوير، سعياً للتوصل إلى لقاح لفيروس (كورونا)، وضمان توفر الإمدادات والمعدات الطبية». وأكد بيان القمة هذا الأمر، فتضمن: «إن جائحة (كورونا) غير المسبوقة تعد رسالة تذكير قوية بمدى الترابط بين دولنا ومواطن الضعف لدينا، فهذا الفيروس لا يعترف بأي حدود. وتتطلب عملية التعامل معه استجابة دولية قوية منسقة واسعة المدى، مبنية على الدلائل العلمية ومبدأ التضامن الدولي».
واستجابة لذلك، بادرت المملكة بالإعلان عن مساهمتها بمبلغ 500 مليون دولار لمساندة الجهود الدولية الرامية للتصدي لجائحة فيروس «كورونا» المستجد. وسوف يسهم هذا التبرع للمنظمات الدولية المختصة في تعزيز التأهب والاستجابة للحالات الطارئة، وتطوير أدوات تشخيصية وعلاجات ولقاحات جديدة وتوزيعها، وتلبية الاحتياجات غير الملباة فيما يتعلق بالرصد والتنسيق الدولي، وضمان توفر ما يكفي من إمدادات المعدات الوقائية للعاملين في القطاع الصحي. وانطلقت المملكة في تقديم هذا التبرع غير المشروط من إدراكها لدورها الإنساني. ولم تنغلق على نفسها كبعض الدول التي تتشدق جزافاً بحقوق الإنسان، وتربط دعمها للمنظمات الدولية بفرض إملاءاتها وشروطها عليها.
والمجتمع الدولي اليوم بأمسّ الحاجة لقيادات سياسية واعية حكيمة ذات مبادئ راسخة، تعي أهمية هذه المرحلة، ولا تهدر جهودها في تبادل الاتهامات والتنصل من تعهداتها، وتعي تجارب التاريخ. فقد ساهم انشغال الدول بمعالجة أزماتها الاقتصادية فرادى إبان فترة الكساد الكبير، إلى عدم التنبه لخطورة ما كان يجري على الصعيد العالمي من فورة العنصرية والشعبوية وانتهاك للمعاهدات الدولية، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية.
ولا يعني القول أعلاه أن تركنَ الدول فقط للتعاون الدولي، وتغفلَ عن الاهتمام بمسؤولياتها الوطنية؛ بل يتوجب عليها بلورة وتنفيذ السياسات والبرامج المحلية لاحتواء الوباء، وانتشال اقتصاداتها للتعافي من تبعاته. وأبرز توصيات المنظمات المتخصصة وخبراء الاقتصاد في هذا الشأن، ما يلي:
أولاً: السعي لتعزيز قدراتها الوطنية بتشخيص وعلاج الوباء، والرفع من كفاءة أنظمتها الصحية، وتوفير الغذاء وتوزيعه، وتبني إجراءات مشددة لضبط الأسعار، ودعم تجهيزاتها وخدماتها الأساسية، من كهرباء وماء واتصالات وأمن وخدمات بلدية. كما من المهم عليها توفير الدعم للأسر المحتاجة والأفراد الذين يفقدون دخولهم نتيجة للإجراءات الاحترازية المطبقة. فقد كان أول تشريع اقتصادي يصدره الكونغرس الأميركي في عهد الرئيس روزفلت لمواجهة أزمة الكساد الكبير، يتضمن إيصال المساعدة للشباب العاطلين عن العمل، من خلال انخراطهم في مخيمات للمشاركة في الأنشطة والمشروعات الاجتماعية، مقابل 30 دولاراً للشهر الواحد.
ثانياً: البدء في بلورة وتنفيذ الخطط والبرامج الكفيلة بالأخذ بيد الاقتصاد الوطني، للانتعاش والتعافي سريعاً والنماء.
ويتطلب ذلك تشكيل فريق من المتخصصين الوطنيين المتمرسين بالخبرات الثرية، في مجالات المالية والاقتصاد وإدارة الأعمال، وبرئاسة السلطة العليا بالدولة، لتولي الإشراف على تخطيط وإدارة القضايا الآتية:
1- ترتيب أولويات الإنفاق العام، وضمان الحوكمة والشفافية فيما يتم إنفاقه خلال هذه المرحلة.
2- مراجعة سياسات البنوك المركزية، ومتابعة أداء الصناديق السيادية لضمان جدوى استثماراتها، وتوجيه حجم أكبر من نشاطها نحو الاقتصاد الوطني.
3- دعم الصناعة الوطنية المتصلة بمجالات الغذاء والدواء والمستلزمات والخدمات الصحية، ورفع كفاءة الخزن الاستراتيجي.
4- احتواء المخاطر المالية جراء الزيادة المحتملة في الديْن العام، والسعي لضمان سلامة القطاع المالي الوطني من الاضطرابات.
5- العمل على دعم الطلب بالاقتصاد المحلي، وتحفيز التشغيل بالقطاع الخاص ومعالجة الخلل في ميزانياته.
6- تمديد آجال القروض على مؤسسات القطاع الخاص، وشراء أسهم الشركات الفاعلة ذات القدرة على الاستمرار والمنافسة.
7- دعم الأجور بمؤسسات القطاع الخاص، ووضع قيود على المكافآت وتوزيعات الأرباح لأعضاء مجالس الإدارة والرؤساء التنفيذيين.
ختاماً: أصعب تحدٍّ سوف يواجه الدول في المرحلة القادمة، يتمثل في إعادة الثقة للمستهلك والمستثمر. وهذا الأمر يتأثر بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وإدارية عديدة، ولا بد من التنبه لها جميعاً، والتعامل معها بحذر شديد، لضمان تحقيق الهدف المنشود.

د. يوسف السعدون