أرشيف التصنيف: المقالات العامة

اقتصاد ترمب يدفع الديمقراطيين نحو ارتكاب الأخطاء

يواجه الديمقراطيون تحدياً لم يسبق لهم مواجهته منذ الانتخابات الرئاسية عام 1988، فهم يحاولون إقناع عدد كاف من الأميركيين بطرد رئيس جمهوري من البيت الأبيض رغم أن الاقتصاد يبلي بلاءً حسناً. وقد أخفقوا في ذلك عام 1988 ـ ومثلما كشفت آخر مناظرة رئاسية لهم، يبدو أنهم حتى هذه اللحظة لم يتوصلوا إلى كيفية مواجهة ذلك التحدي هذه المرة أيضاً.
في وقت مبكر من تلك المناظرة، أشارت جودي وودروف التي تولت إدارتها إلى أن «مجمل الاقتصاد الأميركي في الوقت الراهن يبدو قوياً»، وسألت المرشحين عما سيقولونه للناخبين «الذين ربما لا يروق لهم كل شيء يفعله الرئيس ترمب، لكن يروق لهم الوضع الاقتصادي الحالي». وقد نفى كل من المرشحين الأساس الذي صاغت وودروف على أساسه سؤالها، وقالوا إن الاقتصاد ليس قوياً حقاً.
وكان من بين المسارات التي اتخذوها تسليط الضوء على أوجه قصور معينة في الاقتصاد.
من ناحيته، قال السيناتور بيرني ساندرز (من ولاية فيرمونت) إنه لدينا أعلى معدل فقر بين الأطفال «بين جميع الدول الكبرى تقريباً على وجه الأرض»، وأن نمو الأجور خلال العام الماضي، البالغ 1.1% بعد حساب التضخم، «لم يكن عظيماً».
وقال النائب السابق للرئيس جو بايدن إن «معظم الأميركيين سيبيعون أي شيء أو يقترضون المال» لسداد فاتورة غير متوقعة تقدر بـ400 مليار دولار. أما رجل الأعمال أندرو يانغ فقال إن الركود وغياب الأمن المالي وديون قروض الطلاب بلغت مستويات مرتفعة قياسية.
الملاحظ أن الكثير من هذه الشكاوى إما كاذبة أو مبالغ فيها. مثلاً، تبدو معدلات فقر الأطفال في أميركا سيئة عند وضعها في مقارنات دولية فقط إذا نظرنا إلى الفقر النسبي، أي الأطفال داخل الأسر التي تكسب أقل من نصف الدخل الوطني.
ويعتبر هذا المعدل في جوهره مقياساً لانعدام المساواة. أما إذا نظرنا بدلاً عن ذلك إلى مستويات الحرمان المادي بين الأطفال، فسنجد أن الولايات المتحدة متوافقة مع باقي الدول. والملاحظ أن معدلات فقر الأطفال في الولايات المتحدة في تراجع.
وكان نمو الأجور العام الماضي أفضل مما كان عليه على مدار الجزء الأكبر من العقدين الماضيين. وقد شهدنا في هذه الفترة معدلات نمو جيدة في الأجور والعمل.
بجانب ذلك، فإن إحصائية بايدن المفاجئة عن فاتورة الـ400 مليار دولار خاطئة. ويكاد يكون في حكم المؤكد أنه أخطأ في فهم النتيجة التي خلص إليها بنك الاحتياطي الفيدرالي حول أن 61% من الأميركيين سيحتاجون لدفع 400 دولار من كل منهم لسداد الديون. أما الـ39% الباقين فبالفعل سيحتاجون لبيع شيء ما أو الاقتراض، لكن هذا لا يعني أن غالبية السكان «سيلجأون» إلى مثل هذه الإجراءات.
من ناحية أخرى، فإن الأمن المالي للأميركيين يبدو جيداً، حسبما أفادوا بأنفسهم. وجدير بالذكر أن نسبة الأميركيين الذين أخبروا معهد «غالوب» أنهم يشعرون بالقلق إزاء الحفاظ على مستوى معيشتهم، قد انخفضت. وعلى مدار ثلاث سنوات متتالية، قالت أغلبية إن وضعها المالي يتحسن.
وبينما يسعى الديمقراطيون بدأب للعثور على إحصاءت كئيبة، تتحرك جميع المؤشرات الاقتصادية تقريباً في الاتجاه الصائب. وارتفعت معدلات نمو الوظائف والأجور، بينما تراجعت معدلات الفقر.
أما المسار الثاني الذي اتخذه المرشحون الديمقراطيون فكان إنكار أن الأميركيين يعتبرون اقتصاد اليوم جيداً.
وقد انضم إلى بايدن ويانغ، نائبة ماساتشوستس السيناتورة إليزابيث وارين في الادعاء بأنه رغم ارتفاع إجمالي الناتج الداخلي وسوق الأسهم، فإن الأميركيين العاديين لا يشعرون بأن هذه أوقات رخاء اقتصادي.
إلا أنه في الحقيقة أن غالبية الأميركيين لا يراودهم الشعور الذي يتحدث عنه هؤلاء الديمقراطيون. ومثلما أشرنا بالفعل، فقد ذكر غالبية الأميركيين أن «الوقت مناسب للبحث عن وظيفة جيدة»، وذلك بنسبة تفوق 50% حسبما كشف معهد «غالوب» على مدار كامل الفترة التي قضاها ترمب في الرئاسة، بينما كانت النسبة أقل من 50% فيما يتعلق بسنوات رئاسة جورج دبليو. بوش وباراك أوباما. وخلال العامين الماضيين، قال غالبية الأميركيين إنهم يعتبرون الظروف الاقتصادية ممتازة أو جيدة، لكن هذا لم يكن الحال في عهدي الرئيسين السابقين.
بالتأكيد بإمكان الديمقراطيين القول بأن بإمكاننا تقديم أداء أفضل، أو نفي أن تكون سياسات ترمب هي المسؤولة عن الوضع الاقتصادي الجيد، خاصة أن الكثير من التوجهات الاقتصادية الإيجابية استمرت، لكنها لم تتسارع في وتيرتها، خلال فترة وجود ترمب في الرئاسة. إلا أن الادعاء بأن «الطبقة الوسطى يجري قتلها» مثلما ادعى بايدن، فيتعارض بصورة صارخة ليس مع البيانات الاقتصادية فحسب، بل كذلك مع ما يعتقده غالبية الأميركيين عن حياتهم.
وربما تتراجع الأوضاع الاقتصادية بحلول موعد الانتخابات على نحو لا يتوقعه الكثيرون، لكن حال استمرار الأوضاع الحالية، فإن الرئيس ترمب قد يخوض الانتخابات المقبلة بناء على رسالة اقتصادية بسيطة مفادها أنه كان خياراً جيداً من الناحية الاقتصادية، بينما المرشح الديمقراطي خيار سيئ.

 

كيف عاد الاقتصاد الهندي إلى الأرض في غضون عام؟

فقد الاقتصاد الهندي بريقه هذا العام. ومع سقوطه في هوة حالة من التباطؤ العميق وأزمة ائتمانية، انتقلت البلاد من اقتصاد تنهال عليه الإشادة باعتباره عملاقاً في حالة نمو إلى بلد مرشح للخسارة على الصعيد الاقتصادي.
نادراً ما شهد العالم اقتصاداً مني بهذا التحول الهائل. في الربع الثالث من العام، ارتفع معدل الإنتاج الداخلي بنسبة 4.5% عن عام مضى، ما يعادل تقريباً نصف الوتيرة التي كان عليها خلال النصف الأول من عام 2018. كما تراجعت ثقة المستهلك لأقل مستوى لها منذ عام 2014، بينما تتسم سوق العمل، التي تعد مؤشراً حيوياً في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة، بالهشاشة. وقفز معدل البطالة إلى أعلى معدل له منذ 45 عاماً ليصل إلى 6.1%.
على الجانب الآخر نجد أنه في العام الماضي فقط، كانت الهند أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً بالعالم. وعج العقد الماضي بتوقعات بأن الهند ستستحوذ على نصيب متزايد من التجارة العالمية، بجانب الصين وأميركا. ومع ذلك، حققت الفلبين وإندونيسيا نمواً أسرع عن الهند خلال الربع الماضي وجاءت ماليزيا خلف الهند مباشرة. أما الصين، التي تعاني من تباطؤ في اقتصادها، فحققت نمواً جيداً بلغ 6% بينما جاءت فيتنام في مرتبة متقدمة للغاية بتحقيقها نمواً بنسبة 7.3%.
ويعود جزء كبير مما يحدث اليوم إلى النظام المالي المحطم، حيث تناضل البنوك الهندية في وجه أكوام من القروض الرديئة تعتبر من بين الأكبر على مستوى العالم.
وتراجعت جهات الإقراض التقليدية التي حملت أعباء مفرطة لتحل محلها بنوك مشبوهة. وقد اصطدمت هذه البنوك هي الأخرى بالجدار. ومن بين أبرز الأمثلة مؤسسة «ليسينغ آند فايننشال سيرفيسز ليمتد» التي أشهرت إفلاسها العام الماضي، ما تسبب في أزمة سيولة.
وبينما سيطرت الحكومة على المؤسسة في محاولة لاحتواء الأضرار، كانت هذه مجرد البداية. الشهر الماضي، طرد البنك المركزي إدارة مؤسسة «ديوان هاوسينغ فاينانس كورب»، وهي عنصر بارز في سوق الرهون، وبعثت بالمؤسسة إلى محكمة الإفلاس. أما جهات الإقراض، فعملت على كبح جماح مختلف نشاطاتها.
المثير للقلق بالنسبة لبنك الاحتياطي الهندي أن هذه التجلطات في الشرايين المالية للاقتصاد، تعني أن تقليص معدلات الفائدة خمس مرات هذا العام، لم يفلح في دفع عجلة الاقتصاد.
ورغم الإجراءات المبكرة والقوية من أجل تخفيض معدلات الفائدة، لا تتدفق جميع فوائد السياسات النقدية الأكثر ليناً عبر الاقتصاد الحقيقي. في الفترات العصيبة، عادة ما يبقي مسؤولو البنوك المركزية سيطرة قوية على الاقتصاد. ومع هذا، أدهش بنك الاحتياطي الهندي المستثمرين بضع مرات هذا العام.
مثلاً، بدا القرار غير العادي بخفض الفائدة بمعدل 35 نقطة أساسية في أغسطس (آب)، بدلاً عن ربع في المائة مثلما توقع خبراء اقتصاد، تافهاً، وليس ذكياً.
كما بدا قرار آخر بخفض جديد هذا الشهر في حكم المؤكد حتى أعلن المسؤولون رفضهم، الأمر الذي جاء بمثابة خطأ صادم.
وهناك أيضاً مشكلة الاحصاءات غير الموثوق بها. جدير بالذكر أن ورقة صدرت عن مساعد سابق لرئيس الوزراء ناريندرا مودي توقعت أن النمو خلال السنوات القليلة الماضية كان أقرب بكثير إلى النمو الذي تحقق خلال الربع الثالث البالغ 4.5%. والمعروف أن تجميع البيانات خلال فترات التباطؤ يكون صعباً لأنه حتى التقدم التدريجي سيتراجع تحت وطأة المقارنات بعام مضى.
وكثيراً ما يتباهى أنصار الهند لدى مقارنتها بالصين، حيث يرون فيها نظاماً ديمقراطياً يقوم على نظام فيدرالي نشط وسلطة قضائية مستقلة. ويحول ذلك دون إجراء التغييرات الكاسحة التي فرضها دينغ شياو بينغ على الصين والتي حولت الأجزاء الرئيسية منها إلى قوة تصدير وتصنيع عملاقة. وخلال فترات الرخاء، لم يقل القادة الهنود ما يذكر لدحض هذه المقارنة.
وليس من الضروري أن يكون التراجع الحالي نهاية المسيرة الاقتصادية للهند، فقد سبق أن ذاقت «النمور الآسيوية»، إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية، مرارة الأزمة الاقتصادية وخرجت منها أقوى بعد فترات ركود مؤلمة.
وفي تلك الدول عمل المسؤولون على تعزيز الاحتياطيات وتقييد الاقتراض بالعملة الأجنبية ومراقبة مستويات الديون بدأب، بينما أصبحت البنوك المركزية أكثر استقلالاً. ومع أن معدلات النمو جاءت أقل فيما بعد الأزمة، فإنها أيضاً كانت أكثر استدامة.
المؤكد أن الهند ستظل دوماً اقتصاداً أكثر أهمية للعالم عن الفلبين أو ماليزيا. وحتى لو تباطأ نموها لفترة من الوقت، فإن حجمها الضخم يجعل إسهامها في النمو العام أهم بكثير. وبحلول العام المقبل، سيبدأ الزخم الناجم عن المحفزات النقدية والمالية في الظهور. ومن المحتمل أن ينمو الاقنصاد هذا العام بمعدل حوالي 5% ويصل إلى 6% عام 2020، حسبما ذكر شلان شاه من مؤسسة «كابيتال إكونوميكس».
وعليه، فإن الهند قد تستعيد مكانتها الاقتصادية الرفيعة، وإن كان على نحو أكثر هدوءاً واستمرارية. وسيكون هذا التصالح مع الواقع شيئاً يخدم الهند والعالم كله.
دانيال موس.

أهمية مشروع غاز بوتين الكبير

عبر بضعة أسابيع مهمة، اتخذ أحد أكثر مشاريع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهمية وطموحاً – نظام تصدير الغاز الطبيعي الروسي لمواكبة الواقع الجيوسياسي الجديد عوضاً عن واقع حقبة الحرب الباردة القديم – وضعه النهائي. ومن المتوقع أن يستمر، من دون تغييرات كبيرة، حتى نهاية المسار الروسي على قمة أكبر مصدري الطاقة حول العالم.
وتشمل اللمسات الأخيرة على المشروع الكبير، الذي بدأ العمل فيه منذ عام 2001 مع بناء خط أنابيب «بلو ستريم» إلى تركيا، إطلاق خط آخر للأنابيب يحمل اسم «باور أوف سيبيريا» إلى الصين في الثاني من ديسمبر (كانون الأول). وكانت الولايات المتحدة قد فرضت في الأسبوع الماضي عقوبات على خط أنابيب «نورد ستريم 2» المتجه إلى ألمانيا، مع صفقة جديدة لنقل الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا، وتشغيل خط أنابيب «تورك ستريم»، والمقرر له الانطلاق في يناير (كانون الثاني) من العام المقبل.
وساعدت الضغوط الخارجية مع ظروف السوق العالمية على صياغة نظام تصدير الغاز الطبيعي الروسي الجديد، بحيث لا يمكن استخدامه كأداة ضغط شريرة لتعزيز سياسات بوتين الخارجية. وفي الأثناء ذاتها، ينتظم الخط الجديد بصورة تجعل من روسيا بعد بوتين قادرة على الحفاظ على حصتها الهائلة في سوق الطاقة الدولية مع استخدامها كأساس متين لعقد الشراكات التجارية المفيدة. مما يجعل من النظام الروسي جزءاً إيجابياً من إرث فلاديمير بوتين للبلاد، إن لم يكن بفضل الرجل تماماً.
كانت روسيا قد ورثت تعاقدات توريد أوروبا بالغاز الطبيعي عن الاتحاد السوفياتي السابق، مما يعتبر أحد أكبر مصادر العملة الصعبة بالنسبة لاقتصاد روسيا المتهالك لما بعد الحقبة السوفياتية. غير أن خطوط الأنابيب السوفياتية كانت تمر عبر أراضي أوكرانيا وروسيا البيضاء، اللتين كانتا جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية القديمة، ثم تحولتا إلى جمهوريتين مستقلتين وذاتي سيادة، وتطالبان برسوم لعبور الغاز الطبيعي وإمدادات الطاقة منخفضة الأسعار في مقابل المحافظة على إمدادات الطاقة الروسية صوب أوروبا، أو بمعنى آخر، إلى الجانب الشيوعي السابق منها، حيث كان كل ما هو روسي وما يأتي من روسيا غير مرغوب فيه على الإطلاق حينذاك.
وفي الوقت نفسه، شكل موردو الغاز الطبيعي في آسيا الوسطى وفي أذربيجان تهديداً تنافسياً؛ إذ كان من اليسير عليهم نسبياً توصيل الغاز الطبيعي إلى تركيا، مما قد يؤدي إلى توصيله مرة أخرى إلى أوروبا.
وفي العقد الأول من القرن العشرين، عندما اعتنى فلاديمير بوتين ومستشاروه بفكرة جعل روسيا قوة عظمى في مجال الطاقة، أصبح من الواضح لدى خبراء الاستراتيجية في الكرملين أنهم في حاجة ماسة إلى اعتماد المزيد من المرونة لزيادة الإمدادات والحصول على مزيد من النفوذ الاقتصادي على دول الجوار في أوروبا وآسيا. وكان خط أنابيب «بلو ستريم»، الذي يمر عبر قاع البحر الأسود وحتى ميناء سامسون التركي وجرى افتتاحه في عام 2003، بمثابة الخطوة الافتتاحية الأولى في لعبة الغاز الطبيعي لدى الرئيس بوتين.
بيد أن طاقة خط أنابيب «بلو ستريم» الاستيعابية التي تبلغ 16 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام قد تقلصت من واقع 180 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي التي كانت تصدرها خطوط الأنابيب السوفياتية إلى أوروبا عبر أوكرانيا وروسيا البيضاء. وساعد ذلك روسيا على التنافس في تركيا، ولكن لم يعتبر حلاً للمشكلة الأكبر المتمثلة في اعتماد روسيا على خطوط الأنابيب في أوكرانيا وروسيا البيضاء. وتوالى تراجع حصة واردات الغاز الطبيعي التي تصل إلى أوروبا قادمة من روسيا.
وفي عام 2011، تمكنت روسيا من السيطرة الكاملة على نظام نقل الغاز الطبيعي في روسيا البيضاء مقابل إمدادات الغاز الطبيعي الرخيصة إليها. لكن أوكرانيا ظلت تفرض سيطرتها بقوة على خطوط الانابيب التي تمر عبر أراضيها، والتي تمثل نصيب الأسد من طاقة روسيا التصديرية الكلية.
أراد فلاديمير بوتين المزيد من الوصول المباشر إلى جنوب أوروبا وغربها، وأراد امتلاك القدرة على تجاوز عقبة أوكرانيا لأسباب سياسية واقتصادية. وكان نظام خطوط الأنابيب الأوكراني، الخاضع لإدارة إحدى الشركات الوطنية، في حالة سيئة للغاية، وتخشى شركة «غازبروم» الروسية التي تحتكر الصادرات الروسية للغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب، من أن تضطر إلى الاستثمار في إصلاح خطوط الأنابيب الأوكرانية ومن ثم يكون لها تأثير كبير على إدارتها وتشغيلها. وفي الوقت نفسه، أراد بوتين التأثير على الحكومة الأوكرانية لإبقائها ضمن المدار الروسي. وقطعت الحكومة الروسية إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا مرتين في السنوات الأولى من القرن الجديد في محاولة لتركيعها، ولكن في غياب طرق التصدير البديلة لم تسفر هذه الأساليب عن نتيجة تذكر.
وفي عام 2012، اتخذت روسيا خطوة رئيسية أخرى من خلال افتتاح خط أنابيب «نورد ستريم»، الذي يمتد عبر قاع البحر الأسود وحتى شمال ألمانيا، مع طاقة استيعابية بلغت 55 مليار متر مكعب في العام، الأمر الذي عزز من نصيب روسيا في واردات الغاز الطبيعي إلى أوروبا. وفي الوقت نفسه، كانت روسيا تخطط لبناء خط أنابيب كبير يصل إلى جنوب أوروبا، تحت اسم «ساوث ستريم»، يمر عبر البحر الأسود وحتى بلغاريا. ومن هناك يمكن تمديد الخط فرعيا لنقل الغاز إلى اليونان، ثم إيطاليا، وصربيا، إلى وسط أوروبا.
وكان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 قد جعل من الضروري على الرئيس بوتين إعادة رسم خريطة تصدير الغاز الطبيعي الروسي؛ إذ لم تعد أوكرانيا – وفق الأوضاع الجديدة – مجرد شريك مثير للإزعاج، بل تحولت إلى خصم مباشر. وأصبح تجاوزها من الضرورات الجغرافية والسياسية بالنسبة إلى الرئيس الروسي. وكانت أوروبا أكثر قلقاً من أي وقت مضى بشأن زيادة صادرات الغاز الطبيعي من روسيا، والتي يمكن استخدامها في رفع مستوى النفوذ السياسي. ومن جهته، قام الاتحاد الأوروبي في أواخر عام 2014 بعرقلة بناء خط أنابيب «ساوث ستريم» بممارسة الضغوط الكبيرة على بلغاريا. كذلك أصبحت خطط توسيع خط «نورد ستريم» من خلال إلحاق خطين متوازيين من الأنابيب فيما كان يُعرف بخط «نورد ستريم 2»، أكثر سمية ورفضاً من الناحية السياسية، لا سيما في ظل مقاومة الولايات المتحدة الواضحة لهذا المشروع. وفي واشنطن، كانت المخاوف من ارتفاع النفوذ السياسي الروسي على ألمانيا تعززها الرغبة الحقيقية في توصيل المزيد من الغاز الطبيعي الأميركي المسال إلى أوروبا.

ليونيد بيرشيدسكي