تصريحات من الفيدرالي.. الفائدة قد تتخطى الـ 6%

قال نيل كاشكاري، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في مينيابوليس، منذ قليل، إنه يتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي الاستمرار في مكافحة التضخم، مؤكدًا على أن التضخم في خدمات ما زال متأصلاً.

وفي حديثه على قناة سي إن بي سي، أشار كاشكاري إلى أنه قد يكون علينا الذهاب بالفائدة أعلى 6٪ وذلك لإعادة التضخم صوب الهدف 2%، لكن هذا ما زال غير واضح حتى الآن.

وأضاف أيضًا: لا يمكننا حماية الاقتصاد من التخلف عن سداد الديون.

وأكد أيضًا أنه يرى بصمة قليلة جدًا للمشاكل المصرفية في منطقة مينيابوليس الفيدرالية.

وكان كاشكاري قد صرح لصحيفة وول ستريت جورنال أمس أنه من الممكن أن يدعم إبقاء أسعار الفائدة ثابتة في الاجتماع المقبل للبنك المركزي لمنح المسؤولين مزيدًا من الوقت لتقييم آثار الزيادات السابقة في أسعار الفائدة وتوقعات التضخم.

وقال كاشكاري للصحيفة: “أنا منفتح على فكرة أنه يمكننا التحرك بشكل أبطأ قليلاً من هنا”.

ومع ذلك، حذر كشكاري، عضو لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي، من أن رأيه لم يحسم بعد: “سأعارض أي نوع من التصريحات التي انتهينا منها”. Investing

سقف الديون الحكومية

يترقب العالم هذا الشهر المفاوضات في الولايات المتحدة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول رفع سقف ديون الحكومة الأميركية. ويطالب الرئيس بايدن برفع الحد الأعلى لديون الحكومة دون أي شروط، بينما يطالب الطرف الآخر بخفض الإنفاق لكيلا تغوص الحكومة في مزيد من الديون. وفي حال لم تصل هذا المفاوضات إلى حل، فإن الولايات المتحدة، وبحسب تصريح وزير الخزانة الأميركية، لن تتمكن من سداد الديون المستحقة عليها في بداية الشهر القادم، أي بعد أقل من أسبوعين. فكيف وصلت أميركا إلى هذا الموقف؟ وما هو سقف الديون الذي أصبح أداة ضغط بين الحزبين السياسيين؟

يهدف نظام سقف الديون إلى الحد من الإنفاق الحكومي المبالغ فيه، والحكومات عادة ما تنفق من الضرائب أو من السلع التي تصدّرها، وتقترض في حال كانت الحاجة إلى الإنفاق أكثر من الدخل، ولكن هذا الاقتراض قد يوقعها في دوامات اقتصادية تعاني منها الأجيال القادمة. وصراع الاقتراض يبدو وكأنه صراع للأجيال، فالجيل الحالي يرى ضرورة الاقتراض للنمو وزيادة الإنفاق العام الذي قد يستفيد منه الجيل الحالي والقادم، أما الأجيال القادمة فسترى أنها ورثت ديونا ضخمة لا سبيل لسدادها إلا بزيادة الضرائب التي ستؤدي إلى انخفاض رفاهها المعيشي. وتطبق عدد من الدول نظام سقف الديون لحماية الأجيال القادمة من الأعباء الضريبية التي تسببها كثرة الديون، ولعل الدنمارك إحدى أشهر هذه الدول، رغم أن هذا النظام لم يسبق له أن سبب أي مشاكل هناك. كما يطلب الاتحاد الأوروبي من دوله ألا تتجاوز ديونها 60 في المائة من الناتج القومي، رغم أن الجائحة سمحت ببعض التجاوزات في إصدار السندات لتغذية حزم المساعدات التي أعلنتها الدول. وفي كل الأحوال فإن قرار سقف الديون هو قرار اقتصادي بحت، تحتمه الأوضاع الاقتصادية واستراتيجيات الدول التي قد ترى فرصا اقتصادية لا يمكن استثمارها إلا من خلال الديون.

أما الولايات المتحدة فالوضع مختلف، فتدريجيا أصبح سقف الديون لعبة سياسية بين الحزبين وقد تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم في هذا الأمر. وقد أقرت أميركا نظام سقف الديون عام 1939، حينها كانت الديون لا تتجاوز 870 مليار دولار، وكان السقف أعلى من هذه الديون بنسبة 10 في المائة. ولكن الأرقام التي تلت هذا الرقم مخيفة جدا وقد لا توجد في دول متقدمة في العالم إلا في الولايات المتحدة. فمنذ 1960، رفع الكونغرس الأميركي سقف ديون الحكومة 78 مرة، أي بمعدل أكثر من مرة سنويا، وزادت ديون الحكومة الأميركية بشكل متسارع. وهذه بعض الحقائق عن ديون الحكومة الأميركية خلال العقود الثلاثة الماضية. فقد وصلت الديون إلى 73 في المائة من الناتج القومي عام 1998، وزادت إلى 93 في المائة عام 2017، وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد وصلت هذه النسبة إلى 128 في المائة عام 2021. ومنذ عام 2009، تضاعف الدين العام للولايات المتحدة 3 مرات. ووصلت ديون الولايات المتحدة (بعد أن كانت 870 مليار عام 1939) إلى نحو 31 تريليون دولار في يناير (كانون الثاني) 2023.

هذه الزيادة المرعبة في الديون خلال السنوات الأخيرة جعلت البعض يبدأ في التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على الإيفاء بالتزاماتها، وهو تشكيك كان يدعو للضحك لو طرح قبل عقد أو عقدين. وما يعزز هذا التشكيك أن الفجوة بين الحزبين الأميركيين تتسع مع الزمن. وتاريخيا فإن الرؤساء الجمهوريين هم أكثر من رفع سقف الديون (49 مرة) منذ 1960، بينما كان الديمقراطيون وراء 29 زيادة. هذه الأرقام بدأت بالانتشار الآن مدعومة بالصراع بين الحزبين والذي جعل سقف الديون أشبه باللعبة التي يحاول الحزبان التنافس فيها.

ولكن الحكومة إن لم تتوصل إلى اتفاق خلال الأيام القادمة فالنتائج وخيمة، بل إن التأخر في الوصول إلى اتفاق له نتائجه كذلك، كما حدث في عهد أوباما عام 2011 حين كان الاتفاق قبل يومين فقط من التاريخ الذي حددت فيه وزارة الخزانة نفاد الأموال، وعانت الأسواق المالية حينها من تقلبات رهيبة في فترة ما قبل الاتفاق، وزادت تكلفة الاقتراض بنحو 1.3 مليار دولار بسبب التأخر في الوصول إلى اتفاق. أما نتائج عدم الوصول إلى اتفاق فهي تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأكمله وتحتاج إلى تفصيل في مقال منفرد.

د. عبدالله الردادي

قوى سياسية تسعى الى مكاسب عبر الفوضى المالية

إرتفع منسوب الفوضى والعشوائية في ادارة الشأن المالي، في الفترة الأخيرة، وبات من غير المعروف، كيف ومن يتّخذ القرارات. كما أن بعض القرارات تتحوّل أحجية، لا أحد يعرف ما اذا كانت موجودة فعلاً، ام انها مجرد اشاعة او بالون اختبار أطلقتها غرف سوداء ترغب في الاستفادة من الفوضى، لتثبيت مكاسب للمستقبل.

لم يعد المشهد الاقتصادي والمالي فوضوياً فحسب، بل أصبح في جانب منه يُلامس مستوى التآمر، خصوصاً لجهة الخطوات التي قد تترك آثارها الكارثية على المستقبل، بحيث قد تصعّب مهمة الانقاذ، وتُعيد البلد الى مراحل خطيرة.

هناك مجموعة نماذج يمكن تقديمها، من ضمنها ثلاثة امثلة حديثة، تثير اشكاليات وتساؤلات، ولا تبدو الاجوبة عنها واضحة.

نموذج اول – مسألة الترخيص لخمسة مصارف جديدة. هذه المسألة أخذت الكثير من الجدل، ليتبيّن لاحقاً انها غير دقيقة، وغير محسومة حتى الآن. وقد ساد الانطباع في البداية، أو هكذا فهم البعض، ومن ضمنهم نواب، انّ المقصود هنا الترخيص لمصارف أجنبية راغبة في الدخول الى السوق اللبناني في هذا التوقيت بالذات. طبعاً، من يعرف طبيعة العمل المصرفي العالمي، يستطيع ان يدرك، من دون ان يسأل، ان لا مصلحة لأيّ مصرف أجنبي بالقدوم الى لبنان، حتى لو قدّمت له السلطات المختصة كل انواع التمايز والتمييز والتشجيع والتحفيز. هذا الواقع تكشّف لاحقاً، ليتبين ان المقصود الترخيص لمصارف لبنانية جديدة. هذا الامر أثار التحفظات والتساؤلات، خصوصاً في غياب الانتظام السياسي، وفي ظل غياب رئيس للجمهورية، ووجود حكومة تصريف اعمال، ومجلس نيابي تحول هيئة ناخبة لا يشرّع سوى لدى الضرورة القصوى. وكان السؤال: من هي الجهات السياسية التي تنوي تقاسُم رخص مصرفية جديدة، مستفيدة من الظروف الفوضوية القائمة. وكان المستغرب اكثر، انه فيما كان نواب يؤكدون انّ مشروع الترخيص لمصارف جديدة مطروح، كان حاكم مصرف لبنان يؤكد لمن يراجعه انّ الامر غير صحيح، وان لا علم له بمشروع تراخيص مصرفية جديدة!

نموذج ثانٍ – التعميم 165 الذي يقضي بإعادة تشغيل مقاصّة محلية لحسابات الفريش دولار. هذا القرار أثار ايضاً تساؤلات مشروعة في شأن أهدافه وخلفياته. وفي حين ان التبرير الرسمي لإصداره هو اعادة الحيوية الى حركة الشيكات المصرفية، إلا أن البعض تخوّف من أهداف أخرى قد تشكّل مخاطر اضافية على سمعة البلد، وامكانية التعاون مع قطاعه المالي في المستقبل. اذ يرى البعض انّ هذا التعميم يسهّل عمليات تبييض الاموال، ويتيح خلق كتلة نقدية بالدولار الحقيقي، لا يمكن تحويلها الى الخارج، بل ينحصر التداول فيها في السوق المحلي. وبهذه الطريقة قد نصبح امام ثلاثة انواع من الدولارات: دولار محلي (لولار)، دولار حقيقي للسوق المحلي حصراً ولا يمكن تحويله الى الخارج، ودولار حقيقي فريش صالح للتداول المحلي وللتحويل الى الخارج.

ومن البديهي في هذه الحالة، أن يسأل من يعنيهم الامر، ما هو الهدف الحقيقي من التعميم 165 ؟.

نموذج ثالث – قرار دعم سعر صرف الليرة عبر منصة صيرفة اتّخَذ منحى مغايراً للفترات السابقة، وبات ضخّ الدولارات يتمّ بوتيرة دائمة، ويزداد او ينخفض استنادا الى العرض والطلب، لضمان نوع من الاستقرار في سعر صرف الليرة. لكن هذا القرار، ورغم انه يريح الناس في هذه المرحلة، الا أنه يؤدي الى استمرار النزف في احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، ويقلّص فرص اعادة الودائع الى اصحابها. وبالتالي، ليس واضحاً اذا ما كانت السلطة السياسية هي التي توعِز الى مصرف لبنان بِتبنّي هذه الخطة، مع علمها المسبق بالمخاطر والنتائج، ام ان المركزي يعتمد هذا النهج، لإرضاء الناس، ولو على حساب مواطنين آخرين يخسرون يومياً جنى العمر كلما تراجع مستوى الاحتياطي الالزامي المُتبقّي في مصرف لبنان.

ويبقى السؤال، لماذا يتم اعتماد هذا النهج الفوضوي والمُدمّر؟

لا توجد تفسيرات منطقية لهذا النهج، لكن يوجد شكوك مبرّرة في ان ما يجري يعكس مخططاً يتم تنفيذه لضمان مكاسب لبعض القوى السياسية في المرحلة المقبلة. وعلى سبيل المثال، من هي الجهات التي قد تستفيد من الرخص المصرفية التي جرى الحديث عنها؟ وهل سيتم توزيعها كجوائز ترضية على قوى سياسية لها «مونة» على المركزي؟ وهل ان استمرار دعم الليرة، واستنزاف الاحتياطي هدفه تمرير مرحلة سلامة، بأقل اعتراضات ممكنة، وبعد ذلك، الطوفان؟

كلها تساؤلات مشروعة، خصوصاً انّ هناك من يعتقد ان سلامة باقٍ في البلد، ولن يغادره، وقد تبيّن له ان لبنان «قطعة سما» لا بديل منها، وسيُمضي تقاعده في ربوعه، على غرار كارلوس غصن.

 

أنطوان فرح

المهاجرون قادمون… واللاجئون أيضاً

تشكل الهجرة تحدياً كبيراً وفرصاً متنوعة في عالم اليوم، فبها ارتقت اقتصادات وبسببها سقطت حكومات، وحيالها يواجه صناع القرار خياراً بين جعل الهجرة معيناً على زيادة النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية ومكافحة الفقر، وبين جعلها مصدراً للتوتر والاحتقان ونزيف العقول وهدر الفرص.

وصدر عن البنك الدولي الشهر الماضي التقرير السنوي الأهم عن التنمية في العالم، تحت عنوان «المهاجرون واللاجئون والمجتمعات». ولعل أهم ما ورد في هذا التقرير تحديث لحقائق تدفقات الهجرة، فأرقام المهاجرين الذين جرى تعريفهم بأنهم يعيشون خارج بلدانهم التي يحملون جنسيتها، تقدر بحوالي 184 مليون إنسان بما يعادل 2.3 في المائة من سكان العالم، ويتضمن هذا الرقم 37 مليوناً من اللاجئين. ويستقر 43 في المائة من المهاجرين في بلدان نامية منخفضة ومتوسطة الدخل. وتزداد حالات الدول التي تتجاوز التقسيم التقليدي بين دول مصدرة ودول مستقبلة للمهاجرين. فبسبب التغيرات في التركيبة السكانية وتفاوت معدلات الزيادة، والنقصان أيضاً، في أعداد السكان؛ فضلاً عن تغيرات المناخ والصراعات الجيوسياسية تزداد ظاهرة الهجرة تعقيداً، لتصبح دولاً كثيرة مصدرة ومستقبلة للمهاجرين في الوقت ذاته، بغض النظر عن مستوى الدخول فيها.

ويتعرض التحليل الاقتصادي والسياسي المعاصر لظواهر قديمة، باستعراض قوالب ونماذج جديدة، ولكن تظل دوافع الطرد والجذب على أسسها، فالناس منذ خُلقوا بين حل وترحال وحراك عبر الحدود وقبل تعريف الحدود. وقديماً حددت دوافع السفر والهجرة أيضاً في خمسة وُضعت شعراً في بيت مشهور تجده في ديوان الإمام الشافعي، حيث حدد فوائد التغرب عن الأوطان في «تفرُّج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد».

وقد يسبق أحد هذه الدوافع غيره أهمية عند المهاجرين؛ لكن تظل الأسباب الاقتصادية للهجرة هي الأهم بين عوامل الجذب إلى بلدان المهجر والطرد من أوطان المهاجرين، بسبب فروق الدخل. ففي عام 2020 استقر 84 في المائة من المهاجرين في بلدان أكبر دخلاً وأكثر ثراءً من بلدانهم الأصلية.

ثلاث مربكات تشكل ظاهرة الهجرة المعاصرة وموجاتها: بالاطلاع على التقرير يسهل عليك تحديد ثلاثة عوامل مهيمنة ومربكة تشكل موجات الهجرة وأنماطها: وهي تغير أعداد السكان وتركيبتهم الديموغرافية؛ وتغيرات المناخ؛ والصراعات والتحديات الجيوسياسية.

أولاً: يشكل البعد السكاني وتغيراته منافسة في طلب المهاجرين، ودافعاً من دوافع الهجرة أيضاً. وكما استعرضت من قبل في هذه الصحيفة الغراء، فمن «المربكات» في سبيل التنمية والتقدم، تلك التغيرات المهمة في أعداد السكان والتركيبة الديموغرافية التي تشهد زيادة في توقعات الأعمار عند الولادة، مع شبابية التركيبة السكانية في بلدان الجنوب، مع نقصان في معدل تغير أعداد السكان وميل تركيبتهم إلى الشيخوخة في بلدان الشمال. ويشير التقرير على سبيل المثال إلى أن إيطاليا ذات الـ59 مليون نسمة سينخفض عدد سكانها إلى 32 مليوناً مع نهاية هذا القرن، مع ارتفاع نسبة الأكبر سناً من 65 سنة إلى 38 في المائة من السكان، مقارنة بحوالي 25 في المائة حالياً. أما في حالة نيجيريا، أكبر البلدان الإفريقية عدداً للسكان، فستتضخم من 213 مليون نسمة إلى 791 مليون نسمة، لتصبح ثاني أكبر الدول على مستوى العالم بعد الهند في عام 2100.

من الناحية الإحصائية، قد تجد مشكلة السكان حلاً وفقاً لآليات الأواني المستطرقة، حتى يتحقق التوازن بين حالات الفائض والعجز السكاني؛ لكن اعتبارات الاقتصاد السياسي والقيود الاجتماعية والثقافية تذكرنا بأن الأمر ليس بهذا اليسر. ولا يمكن إغفال ما قد تسهم فيه إيجابياً الهجرة الشرعية والمنظمة من علاج للاختلالات السكانية والمتطلبات المحددة لدول المصدر والمهجر على السواء، لتلبية احتياجاتها الاقتصادية، وتوفير الخدمات الأساسية لمواطنيها؛ وهي من الأمور التي لا تلقى حقها من الاعتبار؛ خصوصاً في بعض دول المهجر في الشمال لاعتبارات سياسية. كما تتطلب الاستفادة من الذخيرة السكانية في دول الجنوب استثماراً في البشر؛ خصوصاً فيما يتعلق بالتعليم والمهارات والرعاية الصحية.

ثانياً: من المربكات أيضاً ما نجده من آثار شديدة لتغيرات المناخ على الحياة والنشاط الاقتصادي ومن ثم الهجرة، وبداية ظاهرة اللجوء المناخي. ويشير التقرير إلى تغيرات تزيد من الأسباب الاقتصادية الدافعة للهجرة حيث يعيش 40 في المائة من سكان العالم بما يقدر بنحو 3.5 مليار نسمة في أماكن أكثر عرضة لتأثيرات تغيرات المناخ، كشح المياه والجفاف وموجات الحرارة اللافحة، وحرائق الغابات، وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وكثرة التعرض للفيضانات والأعاصير. وهناك بقاع في الأرض تزداد صعوبة الحياة فيها اليوم، حتى قبل الزيادة المتوقعة لارتفاع درجة حرارة الأرض؛ ولننظر فيما يعترض أقاليم متباينة، مثل منطقة الساحل الأفريقي أو الأراضي المنخفضة في بنغلاديش، فضلاً عن الجزر الصغيرة المهددة.

وتشير جايا فينس، في كتابها المعنون «عصر الرحل: كيف ستشكل الهجرة المناخية عالمنا؟»، إلى أن تدهور المناخ سيدفع بزيادة حالات الهجرة الاضطرارية واللجوء المناخي من المناطق التي تزداد حرارتها في الجنوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى دول الشمال التي عليها أن تستعد لتدفقات بشرية غير مسبوقة من لاجئي المناخ، ما دامت استمرت الانبعاثات الضارة بالمناخ بأنماطها الراهنة من دون تخفيض جذري.

ويستلزم الأمر نهجاً متكاملاً وتعاوناً دولياً باستثمارات، للتعامل مع تغيرات المناخ، سواء للتوقي منها أو التوافق معها، في مجالات التخفيف والتكيف والتعامل مع ملف الخسائر والأضرار، مع توفير اللازم لها من تمويل ميسر طويل الأجل، واستثمارات في مشروعات تبني على التكامل بين العمل المناخي وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي ينبغي رسم سياسات الهجرة -سواء للدول المصدرة أو المستقبلة- في إطارها.

ثالثاً: مع انتشار الحروب والصراعات الأهلية وعمليات العنف والإرهاب والحروب، ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، زادت تدفقات المهاجرين من اللاجئين إلى أماكن يأمنون فيها نسبيّاً على حياتهم، وأصبحت بأعداد غفيرة ظن الناس أنهم لن يشهدوا لها مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد ارتفعت أعداد اللاجئين إلى الضعف خلال العقد الماضي، حتى بلغت نسبتهم 20 في المائة من إجمالي المهاجرين؛ هذا فضلاً عن أعداد أكبر من المهجرين والنازحين داخل حدود بلدانهم. ويتركز اللاجئون في بلدان أقرب لحدود بلادهم الأصلية، كما يشكل الأطفال نسبة لا تقل عن 40 في المائة من الإجمالي. وقد أشرت في مقال سابق لارتفاع في متوسطات سنوات مكوث اللاجئين في أماكن لجوئهم، بما يتجاوز 17 عاماً في المتوسط، بما يتطلب التعامل مع مجموعة متشابكة من الخدمات والمساعدات الإنسانية العاجلة، جنباً إلى جنب مع توفير الاحتياجات الأساسية والتنموية والأمنية.

ويقدم تقرير البنك الدولي إطاراً للتعامل مع الهجرة، يطلق عليه عوامل «التوافق والدوافع» يستند إلى اقتصاديات سوق العمل من ناحية والقانون الدولي من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بجانب التوافق يركز على مدى ملاءمة مؤهلات عمل المهاجرين ومهاراتهم وخصائصهم الاجتماعية والاقتصادية مع احتياجات بلدان المقصد. وبدهياً كلما زاد هذا التوافق ارتفعت احتمالات المنفعة على بلد المقصد ودخل المهاجر، وبلده الأصلي من خلال التحويلات. أما فيما يتعلق بالدوافع، فتشير إلى الأحوال التي سببت الهجرة التي قد تكون في سبيل البحث عن فرص أفضل للمعيشة والعمل، أو تدني الأوضاع الأمنية والاقتصادية في بلد المهاجر، وخشية تعرضها لمزيد من التدهور، أو الخوف من الصراعات وازدياد العنف والاضطهاد، بما يتطلب حماية تنظمها الاتفاقات الدولية. ثم يجمع التقرير بين عوامل التوافق والدوافع لتحديد أولويات السياسات والإجراءات المطلوبة في البلد الأصلي للمهاجر وبلد المقصد، وكذلك في بلدان الترانزيت، في الحالات التي تتطلب مروراً بها طالت أو قصرت مدته.

ويوصي التقرير بضرورة فهم الأشكال المختلفة لحركة المهاجرين، ومدى تحقق شروط التوافق والدوافع من أجل زيادة منافع الهجرة على أطرافها، وتقليل خسائرها إذا انخفضت أو غابت الشروط المبتغاة للتوافق وساءت الدوافع. وعلى سبيل التبسيط نفرق بين أربع حالات:

الحالة الأولى: وهي أفضل الحالات، والتي تمثل السمة الغالبة في الهجرة؛ حيث تتوفر المهارات المطلوبة في المهاجر وتتوافق مع احتياجات بلد المهجر مع توفر دوافع مقبولة للهجرة، وفيها تتجاوز المنافع لأطراف عملية الهجرة تكاليفها. ومن أمثلتها المهندسون الهنود في وادي السيليكون في كاليفورنيا.

الحالة الثانية: وفيها تكون المهارات المطلوبة مفتقدة مع عدم استفحال تعقد ظروف الهجرة ودوافعها، وهنا تزيد تكلفة الهجرة على منافعها؛ ومن أمثلتها المهاجرون قليلو المهارة على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.

الحالة الثالثة: حالة اللاجئين ذوي المهارات العالية التي اضطرتهم ظروف بلدانهم لتركها. ويضرب التقرير مثلاً بأرباب المشاريع السوريين، والأطباء من فنزويلا. ويحتاج الأمر معالجة خاصة لزيادة فرص الانتفاع بهذه المهارات، مع توفير الأمن والضمانات القانونية.

الحالة الرابعة: وهي الأسوأ؛ مثل حالات اللاجئين من غير ذوي المهارات، والنازحين نجاة بحياتهم، وغير مسموح لهم بالعمل، كحالات الأطفال غير المصاحبين بأهاليهم في أفريقيا، واللاجئين المضطهدين عرقياً، مثل الروهينغا الفارون من ميانمار. وهنا تتغلب الاعتبارات الإنسانية والأمنية على الاعتبارات الأخرى.

يستلزم التعامل مع الهجرة تعاملاً يستند إلى الحقائق، وبقدر عالٍ من المرونة، وضبط الحوار حوله بتخفيف حدة تسييسه التي تعتريها في أحوال كثيرة اعتبارات آيديولوجية وانتهازية وعنصرية. فحتى يستبين النفع والمكاسب من أوجه التكلفة والأذى من انتقال البشر، نحتاج لتحليل موضوعي وسياسات منضبطة للحالات المختلفة للهجرة بأنواعها، وتضمين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية المصاحبة لها، لكي تصبح مصدراً للنفع المتبادل لأطرافها. فالهجرة بأنماطها المختلفة ستزداد موجاتها، للاعتبارات السكانية والاقتصادية والمناخية والجيوسياسية، بما يستوجب نهجاً واعياً لتعظيم منافعها واحتواء مثالبها، من خلال سياسات متكاملة في بلدان المصدر والمرور والمهجر، وتعاوناً أراه حتمياً بينها؛ فعواقب دفن الرؤوس في الرمال وخيمة.

د. محمود محي الدين

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات