الدولار والذهب والنفط وتداعيات الحرب

العلاقة بين أسعار الذهب والنفط والدولار وثيقة، إذ إنه كلما ارتفعت أسعار النفط، زاد في المقابل سعر الذهب، بينما يرتبط سعر الذهب بعلاقة عكسية مع الدولار، ويرتبط النفط والدولار بعلاقة عكسية، كما توجد علاقة متينة بين الذهب والنفط، وهذه العلاقة نتجت عن ارتباطهما بالدولار، ومن ناحية أخرى سعر النفط له علاقة بإنتاجية معظم السلع، لأنه يمثل جزءاً من مكونات التكلفة الأساسية لأي سلعة. وتتميز العلاقة بين النفط والذهب بأنها طردية، وصعود أسعار النفط يؤدي إلى ارتفاع حصيلة الدخل، ويمكن القول إن العلاقة بين النفط والذهب علاقة منطقية، فارتفاع أسعار النفط يُحدث زيادة في أسعار الذهب. على النقيض من العلاقة بين النفط والذهب، العلاقة بين الذهب والدولار علاقة عكسية، يمكن أن نسميهما مادتين بديلتين. فعندما يزداد الطلب على إحداهما ينقص سعر الأخرى.
هذه البداية وجدتها ضرورية لفهم طبيعة العلاقة بين الدولار والنفط والذهب والانعكاسات على الاقتصاد العالمي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل هيمنة روسيا وأوكرانيا على إنتاج وتصدير الغاز، وهذه العلاقة فتحت آفاقاً واسعة أمام روسيا لاستخدامها في المناورة في التعامل مع هذه الحرب. في ظل الجهود الدولية التي تحاول النهوض من تداعيات انتشار فيروس كورونا، واستعادة نشاطها الاقتصاديّ، جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتفرض واقعاً جديداً، إذ مع استمرار هذه الحرب وتداعياتها في ظلّ حالة عدم اليقين الجيوسياسي، تزداد عمليّات هروب المُستثمِرين من الأسهم والأصول الخطرة، واندفاعها نحو الديون السيادّية التي يرونها مضمونة على الرّغم من وجود مخاطر قليلة، ولذلك يبرز الذهب الأكثر أماناً كملاذٍ للمُستثمِرين والمُدّخرين.
دَخل الذهب بقوّة في حروبٍ عالميّة للتجارة والعملات، وتداعياتها على سعر النفط، كونه سلعة استراتيجيّة على مستوى الاقتصاد العالمي. وتمّ التركيز على الذهب لأنه ملاذ آمن للمُستثمِرين ومدّخراتهم، وكذلك لاحتياطات الدول في مصارفها المركزية، في ظلّ توتراتٍ جيوسياسيّة واضْطراباتٍ أمنيّة في مناطق عدّة من العالم. إذا كان للذهب أهميته، ويتمّ شراؤه كسلعة فاخرة وزينة للرفاهيّة الاجتماعيّة، فجاذبيّته الكبيرة لدى المُستثمِرين، تكمن في النظرة إليه كسلعة استراتيجية، ومن أكثر الأصول التي تلعب أدواراً أساسيّة في أي محفظة استثمارية.
إذا كان شراء الذهب يمثِّل الخيار المُفضَّل للمُستثمِرين عند حصول ارتباك في أسواق الأسهم والنفط، لتفادي توظيف السيولة في تلك الأسواق، وما يحيط بها من خسائر ومخاطر، كما حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالميّة عام 2008، وأزمة تفشّي وباء «كورونا» عام 2020. فإنّ كلّ التوقّعات اليوم تبقى رهينة متغيّراتٍ عسكرية وسياسيّة واقتصادية، في ضوء مستقبل تداعيات الحرب في أوكرانيا ومدّتها، إضافة إلى مَساراتٍ تتعلّق بالملفّ النووي الإيراني. وأيضاً يرتبط مُستقبل الذهب بمتغيّراتٍ تفرضها طريقة تعامُل المصارف المركزية مع الأزمة، والخيارات المرتبطة بأسعار الفوائد وسياسات التيسير المالي. وفي سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، قرَّرت روسيا الهروب من العملة الأميركيّة في علاقاتها الدوليّة وتعاملها المالي والمصرفي، ووجدت في الذهب ملاذاً آمناً لمُدّخراتها.
ووفق الإحصاءات الرسميّة، تتكوَّن الاحتياطيّات الروسيّة من صناديق العملات الأجنبيّة وحقوق السحب الخاصّة مع صندوق النقد الدولي والذهب، وقد بلغت قبل الحرب نحو 643.2 مليار دولار، ولكنّها انخفضت بحلول 25 مارس (آذار) إلى 604.4 مليار دولار، ومن الطبيعي أن يستخدم هذا الاحتياطي في تمويل الإنفاق الروسي العامّ، وبخاصّة الإنفاق الدفاعي وما تقتضيه متطلّبات الحرب مع أوكرانيا. وإذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة ودول الاّتحاد الأوروبي وجَّهت ضربة قوّية للاقتصاد الروسي، وجمَّدت نحو 300 مليار دولار من احتياطه النقدي، فإّنها لم تستهدف بشكلٍ مباشر احتياطي الذهب، لذلك تسعى أميركا وحلفاؤها إلى تشديد الخناق المالي على روسيا، وإصدار قانون يمنعها من التصرُّف في السيولة الموجودة في خزائنها، بما فيها استخدام الذهب، ويستهدف كذلك الأطراف التي تساعد روسيا في تمويل حربها من خلال شراء أو بيع الذهب، ومع تراكُم التداعيات السلبيّة للعقوبات وخسائر الحرب، بدأ سعر الروبل يتراجع حتّى وصلَ إلى نحو 150 مقابل الدولار الواحد، وفَقَدَ بذلك نصف قيمته، ولكنّ موسكو ردَّت بخطّة دفاعيّة، شملت سلسلة إجراءات وضوابط ماليّة، أهمّها الحدّ من خروج الأموال والاستثمارات الأجنبيّة، إضافة إلى إجراءَين. أولهما، دفْع ثمن مبيعات النفط والغاز بالروبل، والثاني إعلان بنك روسيا المركزي عن ربط الروبل بالذهب.
وهكذا يكون الروبل قد حقق بعض التقدم في مرحلة الدفاع عن قيمته أمام الدولار ولو بحدودٍ معيّنة، لكنّ احتمال انتقاله إلى مرحلة تحدّي الدولار هو أمرٌ مُستبعَد كلّياً لصعوبة تحقيقه، وخصوصاً أنه وفق الحسابات المالية، لا يوجد حالياً أي عملة قادرة على استبدال الدولار المُسيطِر على النظام المالي العالمي، وهو سلاح بوجه الدول التي تتحدّاها، وهي لا تزال قائدة للاقتصاد العالمي ومَصدراً رئيساً للسيولة العالميّة. وربّما يكون البديل تكتُّل قوى اقتصادية عالميّة مُتّحدة تواجِه النظام القائم، فهل يستطيع تكتُّلُ دول «البريكس» الذي يضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وُيمثّل 24 في المائة من الناتج المحلّي العالمي، أن يقود أحلافاً تجارّية عدّة إلى إنشاء آليّات دفع خاصّة بها، وأن تكون مستعدّة للقيام بتبادُلاتها التجارية بالعُملات المحليّة.
حاولت مجموعة البريكس بمُبادراتٍ لفكّ الارتباط بالدولار، مثل الصين التي أصدرت منذ سنوات قليلة عقوداً آجلة للنفط مقوَّمة باليوان ونظام تحويلات لليوان عبر الحدود، كما أسست روسيا نظاماً يوازي نظام «سويفت»، ونظاماً آخر خاصاً بالروبل. إنّ كلّ هذه الإنجازات محاولة للخروج العالمي عن هَيمنة الدولار. وفي ظل التحديات التي تواجها أميركا من خلالها الدولار، فإن التساؤلات ما زالت تطرح حول وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهل سيمكن الاحتفاظ بذلك أمام مجموعة من العملات المنافسة الأخرى، العملة الأوروبية (اليورو)، العملة الصينية (اليوان)، نظام حقوق السحب الخاصة والعملات المشفرة الافتراضية. إن صعود الصين واستمرار عجز أميركا عن معالجة الاختلالات الاقتصادية الكبيرة، سيجعل المستقبل بالتأكيد متعدد الأقطاب، خاصة في ظل التزام الصين والعمل على أن تكون قوة عالمية بحلول عام 2050 واستمرارها في تحقيق نمو اقتصادي قوي وممارسة مزيد من نفوذها الاقتصادي في الخارج وبشكل خاص مع مجموعة البريكس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا)، إذ استفادت روسيا في حربها مع أوكرانيا من خلال مجموعة البريكس ودعم الصين الاقتصادي لها، الذي لا يظهر بشكل واضح للعيان، ومن خلال تراجع فرنسا وألمانيا عن الاعتراف الفوري لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والناتو وخضوعهما لسلسلة إجراءات قد تأخذ سنين لإكمال مراحل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهذا يعزز من الموقف الاقتصادي والعسكري لروسيا على حساب أوكرانيا.
وفي الختام، إن هيمنة الدولار على العملات ليست حتمية في ظل المنافسة بين الدولار والذهب والنفط والغاز؛ حيث إن الحفاظ على وضع الدولار يحتاج إلى إرادة سياسية واقتصادية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة في عالم اليوم، من قبل أميركا، لتخفيض العجز المالي والتجاري، والحكمة في التعامل مع النزاعات والحروب التي تحدث في العالم، ومنها الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الصراعات، بجانب هذا، أدت المرونة التي تعاملت بها روسيا مع العلاقة التفاعلية بين الدولار والذهب والنفط والغاز، إلى تحييد مواقف دول مهمة مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي بقيت على الحياد أو مع روسيا في التعامل بالملف الاقتصادي والمالي بالضد من أميركا وبعض حلفائها الغربيين.

د. ثامر محمود العاني

* أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد، مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية سابقاً

أين اختفت الدولارات؟ ومَن «التهمها» بسرعة؟

الاجراء الاستثنائي الذي اتخذه مصرف لبنان في الايام القليلة الماضية لجهة ضَخ الدولارات في السوق بلا سقف، لتلبية الطلب على العملة الخضراء بهدف خفض سعر الصرف، لا يزال يتفاعل بسبب التساؤلات التي يثيرها.

كثيرة هي الاسئلة التي يثيرها قرار ضخ الدولارات من الاحتياطي المتبقي، ومن أهمها، التالي:

أولا – حجم التداول عبر منصة صيرفة ارتفع بنسبة كبيرة عما كان عليه قبل القرار، بحيث انه تم تداول حوالى نصف مليار دولار في غضون اربعة ايام. مما دفع البعض الى التساؤل عن كمية الاموال المتبقية من الاحتياطي الالزامي في مصرف لبنان.

ثانيا – ليس معروفاً بعد الى متى سيستمر تنفيذ هذا القرار، ومتى قد يبدأ المركزي الهبوط التدريجي، ام أنه قد يضطر الى وقف التنفيذ كلياً، وبشكل مفاجئ.

ثالثا – من اتخذ قرار الضَخ شبه المفتوح للدولارات في السوق.

رابعا – بالاضافة الى المواطن العادي الذي استفاد جزئيا من القرار، من هم المحظوظون ومن هي الجهات التي تستفيد من هذا الوضع لتحقيق ارباح خيالية وغير شريفة على حساب مستقبل البلد؟

من أجل تسليط الضوء على النقاط الآنفة الذكر، لا بد من توضيح مسألة مهمة تتعلق بحجم التداول. اذ يعتبر البعض انّ المبالغ التي تعلن عنها صيرفة يمكن اعتمادها لتقدير حجم المبالغ التي ضَخّها المركزي. لكن الواقع انّ مصرف لبنان يعمد الى اعادة شراء قسم من الدولارات من السوق. وبالتالي، فإنّ المركزي لم يخسر من احتياطه نصف مليار دولار في ٤ أيام لكنه خسر حتماً مبالغ محترمة على اساس انه اشترى الدولار في هذه الفترة على سعر وسطي بلغ ٣٢ الف ليرة، وباعَه على سعر ٢٤ الف ليرة.

النقطة الثانية المتعلقة بالفترة التي سيستمر خلالها ضخ الدولار خلالها غامضة، وقد تكون مرتبطة بحسابات سياسية وشخصية. وحتى الآن، ليس واضحاً بعد من يتخذ قرار ضخ الدولارات. هل هو حاكم المركزي منفرداً، ام انه يلبّي رغبة سياسية من طرف يَمون عليه؟ وهناك شبهة دائمة في التوقيت.

لكن النقطة الأخطر تتعلق بالمستفيدين من هذا الوضع الشاذ. وعندما يتحدث صندوق النقد الدولي عن نمو الفساد بسبب تعدّد اسعار الصرف، إنما يكون المقصود بشكل خاص المضاربين الذين يجنون ثروات من اموال المودعين، ويحرمون اصحاب الحقوق الأمل في استرداد حقوقهم المالية. وهناك من يسأل في صندوق النقد، عن آليات المراقبة المعتمدة لضبط حركة بيع الدولارات وشرائها. بمعنى آخر، من يضمن انّ المضاربين الكبار لا يبيعون الدولار في السوق السوداء على سعر مرتفع ومن ثم يعيدون شراءه عبر صيرفة. وقد يكررون العملية مرات عدة، ويجنون ثروات غير شرعية؟

وللعلم، إنّ قضية المضاربة بالكاش صارت رائجة عند الكثير من التجار الكبار، لا سيما المستوردين منهم. هؤلاء استساغوا تجارة العملة النقدية سواء بالليرة او بالدولار. واللافت انّ بعضهم يبيع الكاش الى مصارف ينقصها النقدي. ويبدو ان هذه التجارة تعود بأرباح على هؤلاء تفوق نسبة أرباحهم في مشاريعهم التجارية.

وفي عودة الى مسألة إفساح المجال امام المضاربة بالدولار من خلال الفارق بين سعرَي السوق السوداء وصيرفة، فإنّ السؤال الأهم هو: ما دام مصرف لبنان قرر ضَخ الدولارات في السوق لوقف تدهور الليرة، لماذا لم يضخ كميات كافية لخفض الدولار في السوق السوداء الى مستوى سعر منصة صيرفة؟ فبهذه الطريقة فقط يمكن إغلاق الطريق على المضاربين. الا اذا كان الامر مقصودًا، وهنا تكون المسألة أشد خطورة من تهمة تبديد ما تبقّى من احتياطي وطني، الى تهمة «سرقة» هذا الاحتياطي من خلال تقديمه على طبق من فضة الى المضاربين.

أنطوان فرح

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات