القواعد المالية لأوروبا عفّى عليها الزمن

إحدى نتائج «كوفيد – 19» كانت التنسيق الوثيق بين السلطات النقدية والمالية. وقد أدى ذلك إلى ثورة في سياسة الاقتصاد الكلي يتعين على البلدان مواصلة البناء عليها.
فمثلما كانت البنوك المركزية تعيد التفكير في أطرها، فهناك حجة قوية لأن تعيد الحكومات النظر بالمثل في نهجها تجاه السياسة المالية. لدى أوروبا الآن فرصة مثالية للقيام بذلك، فقد تم تعليق القواعد الصارمة لاتفاق الاستقرار والنمو الأوروبي الذي يحد من السياسات المالية للدول الأعضاء في منطقة اليورو حتى عام 2022. وهو ما يمنح الاتحاد الوقت لتأسيس نظام مالي جديد يساعد على تحقيق استقرار النشاط الاقتصادي ومعالجة التحديات الطويلة الأجل مثل تغير المناخ.
ما من شك في أن الحكومات يجب أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً في إعادة اقتصادات أوروبا إلى مسارها الصحيح. فقد أدى الانخفاض المستمر في أسعار الفائدة المتوازنة إلى تقليص ما يمكن أن يفعله البنك المركزي الأوروبي، ومن الصعب تصديق أن هذه الأسعار سترتفع بشكل كبير في القريب العاجل.
هذا هو المكان الذي يمكن أن يعاق فيه سبيل «اتفاق الاستقرار والنمو». فرغم الإصلاحات والتوسيعات المجزأة المختلفة، لا يزال الاتفاق عبارة عن مجموعة من القواعد المالية الصارمة التي عفّى عليها الزمن بشكل متزايد والتي تحد من عجز الدول الأعضاء إلى 3 % من الناتج المحلي والديون إلى 60 % من الناتج المحلي. وكان هذا الحد منطقياً عندما تم تصميم الإطار المالي لأول مرة قبل 3 عقود.
واليوم، يتجاوز النمو أسعار الفائدة بهامش كبير، ما يقلل تكاليف خدمة الديْن حتى عند المستويات المرتفعة. ومن ثم يبدو أن مستويات الدين الحكومي الآن يمكن تحملها عند أعلى بكثير من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. في الواقع، في المرحلة الحالية يمكن للقواعد الحالية أن تطلق تقشفاً مالياً مبكراً كما حدث بعد الأزمة المالية العالمية، عندما فرضت تخفيضات في الخدمات العامة وأخرجت الانتعاش عن مساره.
ويمكن لمثل هذا التقشف السابق لأوانه التراجع عن الفوائد التي رأيناها في عمل السياسة النقدية والمالية معاً خلال هذه الأزمة. على سبيل المثال، هناك قدر أكبر من تقاسم الأعباء بين البلدان على مستوى الاتحاد الأوروبي، مع خطة الميزانية البالغة 2.2 تريليون دولار، بما في ذلك مبلغ 750 مليار يورو مودعة في «صندوق الاتحاد الأوروبي للجيل القادم»، كما يتضمن برنامج الشراء الطارئ للوباء الموسع التابع للبنك المركزي الأوروبي التزاماً أكبر بمزيد من المرونة في شراء الأصول. وعند النظر في كل تلك العناصر مجتمعة، يمكن القول إن هذه المبادرات كانت ضرورية لتهدئة المخاوف في أسواق الديون السيادية حول محيط منطقة اليورو.
مع نشر اللقاحات في أنحاء القارة، يكون لدى الحكومات حافز أقوى لمواصلة سد الدخل حتى يتم التعافي من الوباء. فالنهاية تلوح في الأفق، وسيضمن اللقاح أن جزءاً من التدابير المالية غير المسبوقة سيثبت أنها مؤقتة بطبيعتها.
غالباً ما تدفع الحوافز المالية الجيدة التصميم تكاليفها، عن طريق تعزيز النشاط الاقتصادي على المدى الطويل. ومع ذلك، فإن مثل هذا الإنفاق العام يحتاج إلى التنفيذ الجيد، وهذا هو السبب في أن «برنامج الجيل القادم للاتحاد الأوروبي» يطلب من الحكومات تقديم «خطط انتعاش وطنية» تحدد كيف تنوي إنفاق هذه الأموال.
ويمكن للبنك المركزي الأوروبي أيضاً الضغط من أجل تنسيق أوثق بين السلطات النقدية والمالية من خلال مراجعة إطار السياسة الخاصة به، والتي تنتهي في النصف الثاني من هذا العام. من وجهة نظري، فإن الخطر الأكبر الذي يهدد استقلال البنك المركزي الأوروبي ليس ارتفاع مستويات الدين العام، بل حقيقة أن أوروبا لا تزال تفتقر إلى اتحاد مالي مكتمل. حتى الخطوة الإضافية نحو إنشاء اتحاد مكتمل ستكون موضع ترحيب. وبدون إحراز بعض التقدم في الاتحاد المالي، قد تستغرق الجراح الاقتصادية لأوروبا وقتاً أطول بكثير.

الغا بارتش

لبنان أصعب حالة سيتعامل معها صندوق النقد

«خبصة بإدارة جَهَلة». بهذه العبارة يصف أحد المسؤولين الدوليين ما يحصل في لبنان حالياً، من ناحية كيفية إدارة الوضع الاقتصادي والمالي، مؤكّداً انّ الوضع سيشهد مزيداً من التدهور، لأنّ كل الاجراءات المتّخذة مجتزأة وعشوائية، ولا تعتمد أية استراتيجية واضحة للاقتصاد الكلي او برنامج اصلاح شامل، «وما يدور من نقاش اقتصادي في لبنان محزن ومؤسف».

يعتبر أحد المسؤولين الدوليين، انّه في ظلّ التشريح الجاري لمشروع قانون موازنة 2021، والذي لن تتمّ مناقشته او يبصر النور قبل تأليف حكومة جديدة، فإنّ هذا المشروع خالٍ من أي رؤية للاقتصاد الكلي في 2021، ولا يحدّد استراتيجية واضحة لكيفية التعامل مع الافتراضات الممكنة والمتعلقة بسعر الصرف او اسعار الفوائد والدين العام المتعثر والسندات السيادية، تقديرات حجم الناتج المحلي الاجمالي، نسبة التضخم… علماً انّ هذه العوامل الرئيسية، بالإضافة الى برنامج الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي، تشكّل إطار العمل الذي يجب على اساسه إعداد اي مشروع موازنة.

وبما انّ مشروع الموازنة من المفترض ان يكون الركيزة الاساسية لأي مشروع اصلاحي شامل، يرى المسؤول الدولي انّ الاعتراضات عليه من قِبل موظفي القطاع العام طبيعية ومتوقعة، شارحاً انّه في اوقات التضخم وانهيار سعر صرف العملة المحلية، من المفترض اعتماد برنامج اصلاحي، تكون تداعياته بمثابة تعديل للرواتب والاجور، وليس تعديل الرواتب والاجور في الموازنة وزيادة وضع الموظفين بؤساً وتخفيض قدرتهم الشرائية بشكل اكبر.

اما ضريبة التضامن الوطني الواردة في مشروع الموازنة، فهي بالنسبة له هروب من الواقع والطريقة الأسهل لتحقيق الايرادات الضريبية، من دون اي مجهود او اصلاح، كون الدولة عاجزة عن منع التهرّب الضريبي او ضبطه، وقد لجأت بدلاً من ذلك الى ما يمكنها تنفيذه وتطبيقه، وهو فرض مزيد من الضرائب على المودعين العاجزين عن سحب ودائعهم، التي فقدت اكثر من 80 في المئة من قيمتها.

من جهة اخرى، يستغرب المسؤول الدولي استمرار لبنان بسياسة الدعم القائمة، لافتاً الى انّ كافة دول العالم تعتمد على سياستين للدعم، الاولى من خلال منح الطبقة الفقيرة دعماً مباشراً، يوازي قيمة الارتفاع الذي سيطرأ على سعر السلة الغذائية التي يستهلكونها بعد رفع الدعم. والثانية، من خلال تخصيص موازنة للدعم ضمن موازنة الدولة. مشدّداً على انّ ما يحصل حالياً في ملف الدعم عبر اسعار صرف متعددة، ومن خلال دعم السلع وليس الأسر، يؤدي الى تشوّهات وهدر مالي ضخم، «مع ذلك لا يجرؤ أحد في لبنان للأسف على اتخاذ قرار رفع الدعم».

ويشير الى انّ الحكومة تعاملت فقط مع العواقب الناتجة من انهيار سعر صرف العملة، وتجاهلت التداعيات الايجابية على الصناعة المحلية التي أصبحت اكثر تنافسية، لافتاً الى انّ كافة دول العالم، عند انهيار سعر صرف عملاتها المحلية، تلجأ الى دعم الصناعة المحلية وليس دعم السلع المستوردة التي يوجد بديل محلي منها.

وبالنسبة للتدقيق الجنائي الذي يعوّل عليه كثيرون، يقول انّه لن يُظهر او يحدّد السياسات الخاطئة التي تمّ اعتمادها على مرّ السنين، والتي أدّت الى حصول الأزمة الحالية، على غرار سياسة تثبيت سعر الصرف ومنح فوائد مرتفعة وغيرها وغيرها من السياسات المالية… «بل قد يكشف عن بعض العمليات والممارسات غير الشرعية، والتي رغم اهميّتها لا تُعتبر «لبّ المشكلة».

وفيما يؤكّد انّ لا مخرج للبنان لا اليوم ولا بعد سنة، سوى عبر التوصّل الى برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي، يجزم بأنّ لبنان سيكون من دون شك واحداً من أصعب الحالات التي سيتعامل معها صندوق النقد الدولي، مشدّداً في المقابل على انّ البرنامج لا يمكن ان يؤدي الى النتيجة المرجوة، من دون وجود قرار سياسي والتزام كامل للسير بالاصلاحات.

رنى سعرتي

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات