تتطلب قراءة بداية الأزمة تعميق الاقتران بين الظواهر المختلفة التي هيّأتها والقيود التي طغت على السياسة النقدية طوال الفترة السابقة، بما في ذلك على وجه الخصوص عدم استدامة الدين العام، والذي يمثل ثلثه الدولار الأميركي، والذي يحتفظ به إلى حد كبير في النظام المصرفي اللبناني، الدولرة القوية للاقتصاد اللبناني بأكمله بعد الحرب والتي استمرت على الرغم من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية عند 1507.5، والتدهور الحاد في ميزان المدفوعات منذ عام 2011 ونتيجة لذلك تَنامي العلاقة بين الودائع بالدولار والموجودات بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي – أي تلك التي تحتفظ بها المصارف مع مراسليها الأجانب لتسوية المعاملات بالعملات الأجنبية واحتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي. فعلام تم الاستناد لدولرة الدين العام تدريجاً وزيادة طبع النقد؟ وكيف انعكست كل هذه الخيارات على الجهاز المصرفي؟ وأي خلاصات للمستقبل؟
من المعروف أنّ المَيل لدولرة جزء متزايد من الدين العام يستند على كون إصدار سندات اليوروبوندز يتم بأقل فائدة من تلك المعتمدة لسندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظراً لهامش المخاطرة بين العملتين).
وتجدر الإشارة إلى أنّ الدول الناشئة التي تلجأ إلى زيادة حصتها من الديون بالعملات الأجنبية لتقليل تكلفة خدمة الدين وتأمين المشتركين في الأسواق الخارجية، مثل لبنان، لا تستطيع بسهولة جذب الدولار، خاصة إذا كانت الدول تعتمد على الواردات وكانت صادراتها منخفضة… فيتعيّن عليها بالتالي جذب تدفقات النقد الأجنبي باستمرار حتى تتمكن من تسوية ديونها الخارجية على أساس السياحة وجذب رأس المال والاستثمار الأجنبي، على الأقل من المغتربين. وبالتالي، فإنّ فائض ميزان الرساميل يجب أن يعوّض باستمرار العجز التجاري التقليدي للحفاظ على توازن إيجابي لميزان المدفوعات الذي شهد عجوزات متراكمة في لبنان منذ عام 2011، لا سيما منذ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2019.
في الوقت نفسه، كلما زادت مخاطر سداد الدين العام في أعين وكالات التصنيف الدولية (فيتش وموديز وستاندرد آند بورز)، كلما تدهور التصنيف السيادي الممنوح لسندات اليوروبوندز اللبنانية (وهي بالدولار الأميركي)، ما يتطلّب زيادة أخرى في أسعار الفائدة لإقناعها الدائنين المستقبليين للاشتراك في الإصدارات الجديدة، ما يساهم في نمط يعرفه بونزي بالتوازي مع الحفاظ على تأثير سقاطة الدولرة مدعوماً بذاكرة الأزمة السابقة في الثمانينات والفارق المنخفض في العائد بين الجنيه الدولار اللبناني والدولار الأميركي، بالإضافة إلى عجز تراكمي في ميزان مدفوعات لبنان منذ بداية الأزمة في سوريا عام 2011، ممّا نتج عنه تدفّق صافٍ سنوي للعملة الأجنبية من البلاد ما حَدّ من هامش التدخل.
البنك المركزي في السيطرة على استقرار الصرف
من المعروف أنه في بيئة «استنسابية»، من الممكن بشكل خاص للحكومة إعادة تحسين سلوكها والحفاظ على معلومات أكثر من القطاع الخاص الذي يتوقّع سياسة نقدية متساهلة. تتعدد أسباب التراخي النقدي المتوقّع بين خلق فرص التوظيف، التمويل النقدي لعجز الميزانية عن طريق خفض قيمة العملة أو تحقيق التوازن الخارجي عن طريق تخفيض قيمة العملة بشكل تنافسي.
بالنسبة للبنان، كان اللجوء إلى التراخي خلال سنوات الحرب يرجع بالدرجة الأولى إلى التمويل النقدي لعجز الميزانية بسبب تدهور إيرادات الموازنة في ما يتعلق بزيادة الإنفاق خلال هذه الفترة الاستثنائية وغياب التحصيل الفعّال لجميع الضرائب والرسوم، وفي غياب الاحتمالات الواسعة للجوء إلى الديون في حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لا يشجّع على اكتساب الثقة في المَلاءة المالية للدولة في نظر أي مُقرض مقيم أو غير مقيم. ثانياً، كان التساهل النقدي خلال سنوات الحرب اللبنانية مدفوعاً بإحياء النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل في ظل تدهور النشاط في مختلف القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بشدة في الأحداث. بعد الحرب، شهد لبنان حالة من المديونية المفرطة، ومنها جزء متزايد بالدولار الأميركي وسياسة جذب رؤوس الأموال بالعملة الأجنبية لتزويد الاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بقدرته على الحفاظ على ربط سعر الصرف.
وقد ظل الوضع مقبولاً حتى عام 2011 عندما اندلع الصراع في سوريا وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين على لبنان مع تدهور النمو الاقتصادي وبدء منحى تراكم عجز ميزان المدفوعات. منذ عام 2011، ارتفعت نسبة الدين العام/الناتج المحلي الإجمالي بشكل مستمر لتتجاوز 176 % في نهاية عام 2019 مع تدهور وضع المالية العامة وزيادة الدين العام مع تراجع معدل النمو الاقتصادي من حوالى 8.5 % في 2011 إلى أقل من 1 % في نهاية 2019. في الواقع، يظهر التفاوت الكبير في أوضاع الدين العام عبر العالم صعوبة تحديد عتبة لإفلاس أو عدم استدامة المالية العامة، ويتعلق اثنان من «معايير ماستريخت» الخمسة بالمالية العامة: سقوف بنسبة 3 % من الناتج المحلي الإجمالي للعجز العام و60 % من الناتج المحلي الإجمالي للدين العام.
وقد أظهرت الدراسات أنّ حافز مفاجآت التضخم يزداد مع زيادة حجم الدين العام. من هذا المنظور، يمكن للدين العام أن يواجه أي التزام بمكافحة التضخم بمشاكل المصداقية؛ ستكون مسألة دراسة مصداقية مزيج السياسات وليس فقط مصداقية السياسة النقدية.
وبذلك انّ أي محاولة أحادية الجانب لتثبيت التضخم من خلال السياسة النقدية وحدها سيكون مصيرها الفشل، عاجلاً أم آجلاً، طالما بقي هناك عجز في الميزانية. وفي غياب التنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية، ستكون السياسة النقدية مسؤولة عن ضمان خلق النقد لمنع عدم استدامة الدين العام، ويمكن في أحسن الأحوال تأخير التضخم.
وتؤكد الدراسات الكلاسيكية الجديدة لسارجنت ووالاس (1981) أنه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو المعروض النقدي على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تثير توقعات خلق نقد لإيفائه. وبالتالي، المزيد من التضخّم وتدهور القدرة الشرائية للمداخيل، وهو ما يعكس أحد أكثر المقاربات ملاءمة لحالة لبنان في الفترة الأخيرة من التسعينات الى اليوم.
إنّ إصدار الدين العام ناتج عن وجود عجز في الموازنة، أي عدم كفاية الإيرادات الضريبية مقارنة بإجمالي إنفاق الدولة خلال فترة معينة. من ناحية أخرى، إذا تجاوزت الإيرادات الإنفاق العام (فائض الميزانية)، ستكون الدولة قادرة على سحب مبلغ معادل من الدين العام القائم. وتسمّى هذه العلاقة بين إصدار / سحب الدين العام وحالة الميزانية في كل فترة: قيود ميزانية الدولة من حيث التدفق المالي.
يُذكر أنّ الإطار الطبيعي لتحليل العلاقة بين عجز الميزانية والديون هو قيود ميزانية الدولة. إحدى النقاط المهمة هي إمكانية الدولة تسييل عجزها (من خلال إصدار العملة المركزية). من أجل مراعاة هذه القدرة على خلق النقد، من الممكن بشكل مسبق النظر في قيود الميزانية الموحدة للدولة والسلطات النقدية. ومع ذلك، في هذه الحالة، سيكون من الضروري دمج كلّ من الموجودات والمطلوبات، وهذا يعني على وجه الخصوص دمج المطلوبات التي يحتفظ بها البنك المركزي بشأن الاقتصاد (ولكن ليس المطلوبات على الدولة).
ويلاحظ أنه كلما انخفضت الفجوة بين معدل النمو وسعر الفائدة، كلما ارتفعت نسبة الدين / التوازن طويل الأجل. وفي هذه الحالة من النمو القوي، لا يعاني الاقتصاد قيود الملاءة الزمنية. وفي هذه الحالة، لا نشهد مشكلة تتعلق بالقدرة على تحمّل الدين العام، ولكن على العكس من ذلك سنشهد حالة توازن تُعرف باسم حالة Ponzi». إنّ عدم وجود مخطط Ponzi، الذي يتكوّن من الاقتراض، لِدَفع، على وجه الخصوص، رسوم الفائدة على الديون القديمة المستحقة، ضروري لمواجهة قيود الميزانية بين فترات زمنية. إذا كان سعر الفائدة الحقيقي أعلى من معدل النمو، فإنّ نسبة الدين/الدخل تكون في البداية على مسار متفجّر، وبالتالي غير مستدام، وتعني قيود الملاءة المالية للدولة أنّ الدين العام الحالي يحتاج إلى فوائض أولية للموازنة.
في ظل ظروف الأزمة المالية والدين العام غير المستدام، ستكون هناك زيادة في الفائدة على الدين العام في شكل تأثير «كرة الثلج»، ما يؤدي إلى انفجار الدين العام، وقد يؤدي أيضاً إلى فقدان الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها لسداد ديونها. من هنا يكون اللجوء إلى الديون لتمويل القطاع العام صعباً، وتكون النتيجة الوحيدة الممكنة هي تحويل جزء من الدين العام إلى نقود ما يؤدي إلى تضخم مفرط. وتُظهر معايير القدرة على تحمّل الديون التي تم تطويرها سابقاً أنّ تضخم التوازن الأعلى يتيح مجالاً أكبر للمناورة في السياسة المالية. وبالتالي، مع النمو غير المتغيّر ومعدلات الفائدة الاسمية، يسمح ارتفاع التضخم بتطبيق سياسة مالية أقل صرامة (السياسة المالية وسياسة الإنفاق) من دون أن يصبح الدين العام غير مستدام. لذلك نشهد «ضريبة تضخمية»، حيث يوفّر التضخم إيرادات ضمنية للدولة عن طريق تخفيض الدين العام القائم بالعملة الوطنية.
يبقى أنّ ثمن «إطفاء» الدين العام بالعملة الوطنية، عبر طباعة النقد من جهة والإعلان عن التخلّف عن سداد ديون العملات الأجنبية من جهة أخرى، ينعكس تراكماً في الخسائر في النظام المصرفي ككل بين خسارة قيمة دَينه بالليرة اللبنانية للدولة وعدم القدرة على تحصيل دينه لها بالعملات الأجنبية ولا حتى شهادات إيداعه بالعملات الأجنبية في الوقت الحالي لدى المصرف المركزي… صحيح أنّ استعراض تراكم عدم استدامة الدين العام وسُبل تمويله كانت تُهيّء لانهيار دراماتيكي للقصر المبني من رمل أمام أمواج البحر، إلّا أنّ العبرة تبقى في اتخاذ الخلاصات لإعادة البناء السليم والصخري للمستقبل.
د. سهام رزق الله.