انتهت رئاسة ترمب، على الأقل هذا ما يبدو ظاهراً حتى هذه اللحظة، إلا إذا حصلت المعجزة وتمكن ترمب من التوصل إلى حل قانوني يشكك في نزاهة الانتخابات، وهو أمر غير محتمل بناء على المعطيات الحالية. ترمب لم يرشح لفترة ثانية، آخر مرة حصل فيها ذلك كان في عهد بوش الأب، الذي خسر أمام المرشح الديمقراطي بيل كلينتون. امتلأت حملة ترمب الانتخابية بوعود على مستويات عدة، سياسية وأمنية وتجارية واقتصادية. ولما جاء وقت الحساب، وجد الناخب الأميركي أن كثيراً من هذه الوعود لم ينفذ، بل على العكس فقد ساء الوضع في بعضها.
أول وعود ترمب كان الملف الأول الذي ابتدأ به، وهو العجز التجاري بين الصين وأميركا. فترمب كان على قناعة أن الصين «تغتصب» الاقتصاد الأميركي على حد تعبيره. وكثرت المفردات الشبيهة في خطاباته، فهي تستغل الولايات المتحدة، وتسرقها، وتستفيد من طلب مستهلكيها. وحين تسلم ترمب كرسي الرئاسة، كان العجز في التبادل التجاري بين البلدين 347 مليار دولار، وفي نهاية 2019. كان هذا العجز قد وصل إلى 345 مليار دولار، أي أنه نقص ملياري دولار فحسب! هذه هي القصة القصيرة للعجز التجاري بين البلدين. والذي من أجله أقيمت حرب اقتصادية شرسة احتوت على تصاريح نارية ومفاوضات طويلة. والمثير بالأمر أن ترمب طالب ناخبيه قبل تسلمه كرسي الرئاسة أن يقيّموه بناء على هذا الرقم عند نهاية فترته الرئاسية. ولكن الأمر لا يتوقف على الفارق بين هذين الرقمين، فالعجز في 2018 وصل إلى 418 ملياراً قبل أن ينخفض في العام الذي يليه 74 ملياراً أي بنسبة 18 في المائة. ذلك أن معظم فترة ترمب كانت في مفاوضات وأخذ ورد بينه وبين الصينيين، الذين حرصوا كل الحرص على أن تطول فترة المفاوضات بينهم وبين الولايات المتحدة، بأمل ألا يتحصل ترمب على فترة رئاسية ثانية، وكان لهم ما أرادوا.
وكان من المتوقع لو تحصّل ترمب على فترة رئاسية ثانية أن يستمر هذا العجز بالانخفاض ليصل إلى 21 في المائة في منتصف 2020. ولكن الجائحة حدثت وكان لحيثياتها تأثير جوهري في خطط ترمب. وترمب نفسه أدرك في وقت ما أن ملف الحرب الاقتصادية مع الصين ليس في مصلحته، فتوقف عن الحديث عن الصين وعن التبادل التجاري معها، وكأنه لا يريد للإعلام أن يستكشف هذا الملف ويثيره، ولم يعد يذكر الصين في الأشهر الأخيرة إلا بالتسبب بالجائحة. هذه الجائحة تمكنت وبكل نجاح من نسف غالبية المكتسبات الاقتصادية التي حققها ترمب، وأول هذه المكتسبات هي معدل البطالة التي وصلت أثناء الجائحة إلى 14 في المائة بعد أن وصلت إلى مستوى منخفض لم تصله منذ خمسين عاماً، لتستقر الآن على 8 في المائة. ولم يستطع ترمب استغلال هذه الورقة بسبب الجائحة وما فعلته.
انتقد ترمب أثناء حملته الانتخابية الرئيس السابق أوباما بسبب العجز ميزانية البلد، ولكن في آخر سنة له، تعدى العجز في ميزانية بلده التريليون دولار، أي ما يوازي 5 في المائة من الناتج القومي الأميركي. وهو أعلى حد بلغه العجز منذ فترة أوباما في سنوات ما بعد الأزمة المالية. أما من ناحية الدين العام على أميركا، فقد وعد ترمب قبل رئاسته بنسف هذه الديون، والتي كانت 10 تريليونات في عهد بوش الابن، وارتفعت إلى 20 تريليوناً في فترتي أوباما، ووصلت في 2019 إلى 26 تريليوناً، أي 79 في المائة من الناتج القومي الأميركي، وليس للجائحة علاقة بارتفاع الدين العام إلى 26 ترليوناً، فهذا الرقم كان قبل الجائحة. أما بعدها، فيتوقع أن يصل الدين العام في نهاية 2020 إلى 98 في المائة. وعن النمو الاقتصادي، فبلغ معدل النمو السنوي للاقتصاد 2.5 في المائة لترمب، بينما كان هذا الرقم 2.1 و2.3 في المائة في عهدي بوش الابن وأوباما. أي أن الفارق في النمو لم يكن كبيراً، مع ذكر أن الاقتصاد كان أكثر صعوبة في عهد أوباما منه في حقبة ترمب.
راهن ترمب على الاقتصاد قبل تسلمه الرئاسة، وعمل طيلة فترته الرئاسية لرفع الاقتصاد الأميركي، نجح في بعض من خططه، وفشل في بعضها الآخر ولم تتغير الخريطة التجارية لأميركا كثيراً في فترته. وجل ما نجح فيه مسحته الجائحة بشكل شبه تام. ولم تشفع له إدارته الداخلية للبلاد بترشيحه رئيساً لفترة ثانية، فلم يتعامل مع انتشار الفيروس بشكل جدي في البداية، مما أدى إلى تفشيه بشكل مروّع، ولم يستطع امتصاص غضب المتظاهرين في حادثة مقتل «فلويد». والعالم اليوم يتطلع للرئيس الجديد «بايدن»، لا سيما الشركاء الاقتصاديون أمثال الصين وكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي، والذين عانوا طيلة السنوات الأخيرة من ضغوطات ترمب عليهم. ولكن من السذاجة الظن أن «بايدن» سيتخلى عن سياسة ترمب التجارية بهذه البساطة، لا سيما أن ترمب تجاوز مراحل المفاوضات بهذه السياسات إلى المراحل الأولى من التطبيق، وسيكون من المثير للاهتمام مرأى «بايدن»، وهو يستمر بهذه السياسة.
د.عبدالله الردادي