استعارة مؤذية!

ليست الاستعارة المقصودة في العنوان مما يُدرس في علم البيان والبلاغة من أنواع للاستعارة المعروفة، التي تُجمل بها العبارات باستعمال اللفظ في غير ما وُضع له، كالاستعارة المكنية والتصريحية. «فالاستعارة المؤذية» هي التي تعاني بسببها عملية تحليل وتصميم السياسات الاقتصادية في كثير من البلدان العربية، وتنجم عن الاكتفاء بالاعتماد الغافل على بعض مصادر مجتزأة من تقارير دولية، والنقل المسرف عن دراسات معدة في الأصل لنصح متخذ القرار في بلدان بعينها شديدة الاختلاف والتباين.
فعند الاستعانة بالتقارير الدولية، يتطلب الأمر مراجعتها بعد استبيان أولويات مصدريها وافتراضاتهم والتعرف على قدراتهم التحليلية. ويجب إدراك أن جانباً كبيراً من التفاصيل المهمة قد يختزل لأغراض عقد المقارنات أو بتجميع الدول في مجموعات وشرائح وفقاً للدخول، على سبيل المثال، لتبسيط تقديم المعلومات.
وقد يسهو الناقلون عن أنَّ كثيراً من توصيات هذه التقارير قد يأتي على غرار قوائم الطعام المطولة، بها بنود متنوعة بتكاليف مختلفة للاسترشاد بها وفقاً للأوضاع الاجتماعية المبدئية لكل دولة وآليات عمل اقتصادها السياسي، إلى غير ذلك من اعتبارات.
أما عن استسهال الناقلين لدراسات معدة لدولة معينة، وتعليب ما جاء بها جاهزة مع عدم مناسبة محتواها، فحدث ولا حرج عن حالات انتهت بالأذى وبخذلان عموم الناس. وهذا كله يرجع إلى عدم التمحيص عند النقل عن هذه الدراسات والتبشير بتوصياتها ونتائجها وكأنها الإكسير الشافي من العلل في كل زمان ومكان، وهي الموصوفة أصلاً لحالات بعينها بشروط محددة.
ومع تصميم سياسات جديدة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لجائحة كورونا تبرز ثلاثة موضوعات ذات علاقة بمواجهة الجائحة ثم التعافي منها، وترتبط بمستقبل العولمة والتمويل والديون. فقد صدرت دراسات مهمة عن مستقبل العولمة وتأثيراتها ومنها دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي بواشنطن. وقد حدد المعهد تأثيرات العولمة فيما يأتي:
– توفير سلع أكثر بأسعار أقل من خلال المنافسة.
– توسع قطاع الأعمال خاصة لشركات التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات.
– تحسين النوعية وزيادة التنوع للمعروض من السلع والخدمات.
– زيادة مجالات الابتكار والتطوير.
– التأثير المتباين على سوق العمل بين إتاحة فرص جديدة في المجالات ذات التنافسية والمهارات العالية في قطاع الخدمات المتقدمة، وضياع فرص عمل أخرى في قطاعات منخفضة الإنتاجية خاصة في صناعات تحويلية غير متطورة.
– تأثير سلبي محدود على عدم العدالة في توزيع الدخول بمقياس الأجور يتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة.
وتفسر الدراسة أن الجانب الأكبر من التأثير السلبي على عدالة توزيع الأجور يعزى إلى تأثير التكنولوجيا على الأنشطة ذات المهارات المحدودة باستبعادها، وعدم فاعلية السياسات المالية العامة وعدم العدالة في إتاحة الفرص من خلال الاستثمار في رأس المال البشري. كما تنتقد غياب سياسات متكاملة للتشغيل ومكافحة البطالة بما في ذلك الإجراءات المساندة للتدريب التحويلي والإنفاق على التعليم والمساعدة في البحث عن عمل، فضلاً عن قصور برامج التأمين ضد البطالة ومنح حوافز ضريبية للتشغيل والتأمين الصحي على العاملين. وتفضل الدراسة تبني هذه السياسات بدلاً من اللجوء للإجراءات الحمائية لتكلفتها التي تتجاوز منافعها المحدودة والمؤقتة.
ولمنع «الاستعارة المؤذية» فعلى قارئ مثل هذه الدراسة قبل أن ينقل عنها، خاصة إذا كان من مقدمي الاستشارات والنصائح للاقتصادات العربية، أن يدرك أن بيانات هذه الدراسة ومحل اهتمامها هو الاقتصاد الأميركي دون سواه. وربما تنتفع بها، بضوابط محددة، بعض دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تضم الاقتصادات الأعلى دخلاً. أما بالنسبة للدول العربية فيجب أن يُفتح هذا الصندوق الأسود للعولمة وتأثيراتها على محاور أربعة:
– الأول، هو محور التجارة، وهو المحور الوحيد الذي تناولته دراسة معهد بيترسون المذكورة، مع أهمية تحليل هيكل الإنتاج في الاقتصادات العربية لكل دولة على حدة.
– الثاني، هو محور تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات الداخلة والخارجة لكل دولة، علما بأن الخارج من رؤوس الأموال العربية أكبر.
– الثالث، هو محور انتقال العمالة وما يرتبط به من تحويلات للعاملين بالخارج إلى بلدانهم.
– والمحور الرابع، الذي عادة ما يهمل ربما لصعوبة قياسه، يرتبط بـ«نقل التكنولوجيا» وفرص الابتكار والتطوير واكتساب المعارف والبحث العلمي والحصول على براءات الاختراع والملكية الفكرية وحمايتها وضمان عوائدها.
فيجدر بالمنادين بالعولمة والمتصدين لها وكذلك جبهات المصلحين لمساراتها تقديم الأدلة والبراهين على المكاسب والخسائر، قبل دخولهم في مباريات التوصية بالانفتاح والإغلاق، أو المناداة بإجراءات لتحرير أو كبح حركة التجارة والاستثمار والعمالة والمعرفة. فأذى الاستعارة هنا قد يطول مُصدراً والعاملين معه، أو يضر منتجاً بارتفاع تكلفة الخامات والآلات المستوردة، أو يعيق استثماراً يسهم في النمو، أو يمنع البحث عن عمل لاكتساب معيشة، أو يغيض أنهار المعرفة بسدود من الموانع والعراقيل.
ولا يقل خطورة عما سبق ما يُنقل عن دراسات للتوسع في التمويل بزيادة العجز في موازنات الدول وزيادة الديون. وقد يستشهد البعض بكتابات الاقتصادي بول كروجمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، عن التمويل بالعجز لمواجهة متطلبات الإنفاق العام، أو أعمال الاقتصادي أوليفييه بلانشارد، الرئيس الأسبق للبحوث بصندوق النقد الدولي، عن تحفيز الاستدانة مع انخفاض أسعار الفائدة. فالاستعارة المؤذية لهذه التوصيات تنتزعها من سياقها وافتراضاتها المحددة انتزاعاً؛ فهي قائمة بالأساس على تحليل أوضاع الاقتصادات المتقدمة القادرة على تمويل العجز دون آثار تضخمية أو إزاحة للقطاع الإنتاجي من أسواق التمويل والائتمان. كما تتناول قدرات الدول المعنية، عالية الدخول، على الاقتراض بعملاتها الوطنية وبتكلفة اقتراض شديدة الانخفاض تيسر إحلال قروض جديدة بأسعار فائدة تقترب من الصفر محل تلك القديمة عالية التكلفة، وبدون أي مخاطر ترتبط بتغيرات سعر الصرف.
فإذا ما توافرت هذه الشروط المحددة فهنيئاً للموصين بها والمستفيدين منها، إذا ما أحسن تنفيذها، أما إذا غاب شرط واحد مما سبق فليحذر المنصوحون من اضطراب اقتصاداتهم بزيادة الديون وبتراجع النمو والتشغيل تأثراً بزيادة العجز وزيادة التضخم مع التوسع في طبع النقود وانفلات أسعار الصرف.
وحري بالناصحين، قبل مزيد من الانغماس في استعارات مؤذية، الاطلاع أولاً على أوضاع التنمية في العالم العربي، التي شرحها بتفصيل التقرير العربي عن التنمية المستدامة 2020. الصادر منذ أيام عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا). فقد أورد التقرير حقائق وتطورات مهمة لمؤشرات التنمية الأساسية بتحليل كمي ونوعي للبيانات. وقد أشار إلى انفراد المنطقة العربية بزيادة الفقر المدقع وتربعها على قمة عدم العدالة في توزيع الدخل، والانخفاض النسبي لمؤشرات التعليم والرعاية الصحية، وتعرضها لمزيد من الفقر المائي ومؤثرات سلبية لتغيرات المناخ والتلوث البيئي، وعدم توازن النمو الاقتصادي وقصور شمول عوائده، وتراجع مؤشرات الحوكمة. هناك حقاً استثناءات إيجابية في بلدان عربية في مجالات بعينها، ولكنها تظل استثناءات من أداء عام يهدد بعدم بلوغ أهداف التنمية المستدامة، بما يستوجب بذل جهود أكبر بتنسيق أشمل، لا فصل فيها بين سياسات التصدي لأزمة كورونا وتداعياتها والتعافي منها بسياسات للنمو الشامل للكافة، فالإمكانات العربية متوفرة لكنها تتطلب كفاءة في استغلالها بما يحقق العدالة بين عموم الناس.

د. محمود محي الدين.

الاقتصاد العالمي بعد الجائحة: نظرة مستقبلية

بادر الكثير من المؤسسات الاقتصادية الدولية لدراسة تأثير «كوفيد – 19» على مستقبل الاقتصاد العالمي. كما بادرت، من جانبها أيضا، مؤسسات وشركات عربية متخصصة، لدراسة تأثير الجائحة على الاقتصاد العربي، والصناعة النفطية الإقليمية. ودرست أيضا مؤسسات عربية ودولية مدى تأثير فيروس «كورونا» المستجد على نمو بدائل الطاقة. وقد بدأت تصدر بالفعل بعض الأبحاث التي تلقي ضوءا على المسار المستقبلي لهذه القطاعات الاقتصادية. وسنحاول هنا أن نلخص تدريجيا وبإيجاز توقعات واستنتاجات بعض هذه الدراسات.
تبحث دراسة صدرت للبنك الدولي خلال شهر يونيو (حزيران) الجاري عن «النظرات المستقبلية للاقتصاد العالمي». وتحذر الدراسة من الأزمة التي لا سابقة مثلها والتي ضربت العالم بأجمعه. فقد أدت الأزمة الصحية، بالإضافة إلى الخسائر البشرية التي وقعت ضحية لها، قد أدت أيضا إلى انحسار وتراجع اقتصادي لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية (منذ حوالي ثمانية عقود تقريبا). لكن تنبه الدراسة أنه في حين من غير الممكن توقع الآثار المترتبة على مسيرة النمو الاقتصادي العالمي، أو حتى التصور بدقة إذ يمكن أن تكون هناك سيناريوهات أسوأ أمامنا في حال عدم السيطرة على الجائحة في الوقت القريب، إلا أنه رغم ذلك، فإن الجائحة التي اجتاحت العالم خلال النصف الأول من عام 2020 ستؤدي إلى تقلص ضخم في اقتصادات الدول النامية، بالإضافة إلى ذلك، فمن المتوقع أن ينتج عن الجائحة خسائر كبرى ودائمة لبعض الأساسيات الاقتصادية في الدول النامية، مما سينتج عنه أضرار لإمكانيات النمو الطويل المدى في الدول النامية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى انخفاض مستوى المعيشة في هذه الدول إلى مستويات أدنى مما هي عليه الآن ولفترة طويلة. تتوقع الدراسة انخفاض ناتج الدخل القومي العالمي 5.2 بالمائة في عام 2020، وفي حال استمرار شيوع الجائحة لفترة طويلة أكثر مما هو متوقع، سينخفض الدخل الفردي في معظم الدول النامية، هذا بالإضافة إلى انكماش اقتصادات معظم هذه الدول. من نافل القول، إن الانكماش الاقتصادي العالمي سيصبح بدوره أكثر شدة مع استمرار الجائحة لفترة طويلة غير متوقعة في الوقت الحاضر.
تعتبر الأولويات في الأجندات القريبة المدى توفيرا أوسع دعم ممكن للمؤسسات الصحية والخدمات الإنسانية، هذا في نفس الوقت الذي يتوجب أن تشمل الأجندات في المدى المتوسط والبعيد الانتباه لمعالجة التدهور الاقتصادي للدول النامية، بالإضافة إلى توفير العناية الاقتصادية والاجتماعية للمجموعات المهمشة .
لقد وجه «كوفيد – 19» ضربة قاسية ومؤلمة لاقتصاد عالمي منهك وضعيف. إن سياسات الإغلاق للعمل والتباعد الاجتماعي التي تم تبنيها من أجل الحفاظ على الصحة العامة للبشر، شكلت هزات غير مسبوقة للمجتمعات في مختلف أرجاء العالم، إذ نتج عن هذه السياسات انحسار وتراجع لاقتصادات كل من الدول المتقدمة والنامية. فبعض من الدول النامية التي تعتمد على نظم ومؤسسات صحية ضعيفة، والتجارة العالمية لمواردها الأولية، والسياحة، أو التحويلات من مواطنيها الذين يعملون في الخارج – فقد تضررت هذه الدول بشكل كبير. فبالإضافة إلى هذه السلبيات على المدى القصير، هناك احتمال وإمكانية حدوث انحسار اقتصادي كبير على المدى المتوسط والبعيد المدى في مثل هذه الدول، مما سيترك آثارا سلبية إضافية مثل انحسار الاستثمارات الجديدة، وتزايد البطالة للمهنيين والأيدي العاملة. ستؤدي هذه الخطوات السلبية بدورها إلى تقلص التجارة الدولية وصعوبة الحصول على الإمدادات الدولية. الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تضاؤل الإنتاجية في العمل واضمحلال الحوكمة والمناخ اللازم لتشجيع الحركة الاقتصادية والتجارية وتشجيع الاستثمار في التعليم والصحة العامة.
وعند تضاؤل آثار الجائحة، سيكون من الضروري الالتزام بسياسات مالية وإصلاحات اقتصادية من قبل الدول المصدرة للنفط، التي تضررت في نفس وقت الجائحة بانهيار أسعار النفط أيضا. أدى تفشي الجائحة عالميا والسياسات التي تم تبنيها لمواجهتها وتقليص آثارها إلى تبني سياسات قلصت الطلب على النفط وزادت من المخزون النفطي. لقد لعب هذان العاملان دورا كبيرا في انهيار أسعار النفط خلال شهر مارس (آذار)، حيث انخفض سعر النفط خلال شهر واحد إلى مستوى قياسي. لجأت الدول المصدرة للنفط، ومعظمها من الدول النامية، إلى إنفاق مبالغ طائلة لدعم جهازها الصحي. وقد كانت تعاني بعض الدول النفطية النامية هذه مشاكل اقتصادية ومالية ضخمة قبل الجائحة وتدهور أسعار النفط. وفي المستقبل، ومن أجل أن تستطيع الدول النفطية الحصول على قروض وتمويل من المؤسسات المالية يتوجب عليها تبني التزامات ذات مصداقية. ومن المتوقع أن توفر فرصة أسعار النفط المتدنية والريع النفطي لبعض هذه الدول إمكانية تبني سياسات تسعير داخلية للطاقة تؤدي إلى ترشيد الاستهلاك، كما تساعد إلى تحسين المردود المالي في المدى المتوسط.
ينوه البنك الدولي، أن الاقتراحات المذكورة أعلاه، للتعامل مع إصلاح الأضرار والتراجع الاقتصادي الذي طرأ على ضوء نشوب الجائحة، تتطلب تعاونا وتنسيقا دوليا لنجاحه.

وليد خدوري.

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات