هذا ما ينتظرُ لبنان في صندوق النقد

مع بداية التواصّل الخجول بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، هناك مزيج من التوجّس والارتياح على المستوى الشعبي، في انتظار الاتجاه الذي سيسلكه هذا التواصل، والى أين يمكن أن يؤدّي. هل هو بداية انفراج، أم مجرد سراب؟

يكثر الحديث في هذه الحقبة عن الشروط القاسية التي قد يفرضها صندوق النقد الدولي بالتعاون مع البنك الدولي، في حال قرّرت الحكومة اللبنانية طلب خطة إنقاذ من هاتين المؤسستين الدوليتين التابعتين للأمم المتحدة. لكن، في الموازاة، ليسوا كثراً من يتحدثون عن طبيعة الخطة التي قد يتمّ وضعها، ماذا تشمل وكيف تعمل وما هي الأسس التي تُبنى عليها. كذلك، هناك من يتحدث عن احتمال تعرّض السيادة اللبنانية للخرق من قِبل هذه المؤسسات الدولية من خلال فرض شروط يُفترض انّها تدخل ضمن مفهوم السيادة التي ينبغي ان تبقى فوق أي مسٍ بها.

لا بدّ للمتابعين أن يعرفوا أنّ مفهوم المساعدة التي يقدّمها صندوق النقد أو البنك الدولي تغيّرت عبر السنين. وهناك مراحل كثيرة مرّت بها عمليات إنقاذ الدول المفلسة والفقيرة، تبدّلت في خلالها، الاساليب المُعتمدة من قِبل هاتين المؤسستين في دعم الدول. وما هو ايجابي في هذا التطوّر، يرتبط بأنسنة هذه المساعدات. ومنذ العام 1999 أدخل البنك الدولي في مفهوم عمله، وبمبادرة من رئيسه في ذلك الحين جيمس وولفنسون، ما يُعرف بـ«استراتيجية الحد من الفقر» (Poverty Reduction Strategy Paper).

هذه الاستراتيجية تقضي بإلزام الدول التي تحصل على حزمة مساعدات إنقاذية من صندوق النقد ومن البنك الدولي، بتوقيع خطة لمساعدة الطبقة الفقيرة في المجتمع في موازاة دعم الاقتصاد. وتطبيق هذه الاستراتيجية اصبح جزءاً من الشروط التي على أساسها يمكن استكمال دعم الدول. وقد بدأت دول عدة في تطبيق هذه الاستراتيجة، التي أثبتت حتى الآن جدواها في تخفيف الضغط على الطبقات الدنيا، في فترات تنفيذ برامج إنقاذية غالباً ما تكون قاسية لجهة ما تطلبه من تضحيات يقدّمها المواطنون.

لكن الاهتمام بحماية الطبقات الفقيرة، لا ينفي وجود شروط قاسية ينبغي الالتزام بها للحصول على حزمة مساعدات دولية.

على المستوى الاقتصادي، لا توجد وصفات جامدة، كما يدّعي المعترضون، لكن هناك اساليب مُجرّبة ومبادئ عامة يتمّ اعتمادهما. ولأنّ صندوق النقد، مثل اي مُقرض في العالم، يسعى الى ضمان استرداد امواله، فإنّه يركّز على هدف خفض العجز في الموازنة، من خلال إجراءات مضمونة النتائج في توقيتها. لذلك يتمّ التركيز على تطبيق مبدأ رفع الدعم عن كل السلع، لتخفيف الضغط عن الموازنة.

ومن هنا تنطلق نظرية تحرير سعر صرف العملات، على اعتبار انّ سعر أي عملة ينبغي أن يعكس وضع الاقتصاد على حقيقته. وفي حالة تثبيت سعر الصرف اصطناعياً، فهذا يعني انّ الدولة، عبر المصرف المركزي، مُضطرة الى دعم العملة عندما يتراجع وضع الاقتصاد. وهكذا تصبح العملة بسعرها الاصطناعي أقوى من الاقتصاد، ويؤدي هذا الخلل، الى مشاكل متنوعة، لا تخدم فكرة خفض العجز في الموازنة العامة.

الى ذلك، يسعى صندوق النقد الى تأمين موارد مضمونة للخزينة، ومن هنا فكرة فرض رسم على البنزين، رفع تعرفة الكهرباء، خفض حجم أو رواتب القطاع العام… كل هذه الشروط، لا تعني انّ الصندوق لا يشترط اصلاحات بنيوية، مثل خفض منسوب الفساد والهدر على كل المستويات، ومن ضمنها وقف التهرّب الضريبي، منع التهريب، القضاء على كل اشكال الاقتصاد الرديف، تنظيم الإنفاق خصوصاً لجهة المشتريات الحكومية والمناقصات والتلزيمات… كل هذه الإصلاحات تقع ضمن الشروط، لكن الصندوق، ومن خلال تجاربه مع الدول المنهارة، وحيث نِسب الفساد تكون مرتفعة، ومرتبطة بالمنظومة السياسية، يُدرك انّه لا يمكن الرهان على هذه الإصلاحات لإنقاذ الموازنة، لذلك يصرّ على إجراءات قد تكون قاسية في حق المواطنين، لكنها مضمونة النتائج الفورية. في المقابل، تأتي الإصلاحات، وفي حال تنفيذها بجدية، لتساعد لاحقاً في دعم اضافي للموازنة، ويصبح في الإمكان التخلّي عن بعض الإجراءات اللاشعبية التي أدخلتها خطة الانقاذ.

وهنا ينبغي ان يكون معروفاً أنّ خطة الانقاذ، والتي قد تمتد على 10 سنوات، ليست بلوكاً واحداً. انّها مجموعة بلوكات، كل سنتين أو ثلاث تنتهي حزمة، ليبدأ تنفيذ حزمة أخرى. وفي العادة تكون الحزمة الاولى هي الاقسى، لأنّها تشمل اجراءات موجعة للناس. في حين انّ الحِزم الاخرى، قد تشهد البدء في إلغاء او تخفيف هذه الإجراءات، في حال تمّ الالتزام بالإصلاحات التي تبدأ في اعطاء ثمارها.

وفي هذا الاطار، تندرج خطة البنك الدولي (PRSP) لمساعدة الطبقة الفقيرة في هذه المرحلة في الدول التي تطلب خطط انقاذ مالي.

هل يستطيع لبنان أن يخوض هذه التجربة القاسية؟

عندما تواجه أي دولة أزمة مالية وتصل الى مرحلة العجز عن الدفع، وتطلب من صندوق النقد خطة إنقاذ، يتمّ اجراء تقييم لوضع هذه الدولة لتصنيفها ضمن خانتين:

اولاً- أزمة سيولة، تحتاج الى وقت اضافي لتتمكّن من تسديد ديونها.

ثانياً- أزمة تعثّر، لا تستطيع دفع ديونها لا الآن، ولا في المستقبل.

في الحالة الاولى، (illiquidity) يُصار الى وضع خطة لإعادة جدولة الدين على فترات أطول.

في الحالة الثانية، (Insolvency) تتجّه الامور نحو خطة لخفض حجم الدين، عبر إعادة الهيكلة وإعادة الجدولة.

في الحالة اللبنانية، تبدو المشكلة معقّدة وذات طابع خاص. لأنّ ديون لبنان، في القسم الاكبر منها، تحملها المصارف ومصرف لبنان، وبالتالي، ينبغي البحث عن خطة تراعي هذا الواقع. وهذا الامر مُتاح طبعاً، وقد يستند الى فكرة شراء قسم من هذه السندات من السوق الثانوية بواسطة قرض من صندوق النقد…

الخطط الإنقاذية متنوعة، والقاسم المشترك بينها انّها توصلُ الى برّ الأمان اذا طُبقّت والتزمت بها الحكومات، ولا تؤدي سوى الى مزيد من التعقيدات والأزمات اذا جرى التشاطُّر، ولم يتمّ تنفيذ ما هو مرسوم بجدّية ودقةّ وصدق. وعلى الحكومة اللبنانية أن تختار، أي طريق تريد أن تسلك في هذا المضمار.​

انطوان فرح.

أزمة لبنان: إعادة الجدوَلة أمر واقع… على رؤوس الجميع!

حِملُ الدين العام يُثقل كاهل المواطن… والوطن

تبلغ قيمة خدمة الدين العام سنوياً نحو 6 مليارات دولار وهي تُشكّل 36 في المئة من حجم النفقات العامة وتمتصّ نصف قيمة الإيرادات. وعليه فإن لا حلّ للأزمة الإقتصادية والنقدية إلا بطَرق هذا الباب أو “تكسيره”، وهذا ما يبدو لغاية اللحظة صعب المنال نتيجة تشابك العوامل السياسية مع المنافع المصرفية.

يظهر من خلال البيان الوزاري أن ضبط الدين العام والتصدّي لخدمته الهائلة، والتي يقع من ضمنها استحقاقات “اليوروبوندز” المتلاحقة هذا العام، قد استعصى على حكومة مواجهة التحديات. فالمعالجة اقتصرت على تكرار عناوين التعاون بين ثلاثية: الدولة، المصارف التجارية ومصرف لبنان، أما الحلّ برأيهم فهو ببساطة: تخفيض الفوائد. فهل ما زال هذا المرهم يشفي من علّة تضخّم الدين العام المترافق مع أسوأ أزمة نقدية، وتلاحق مخاطر العجز عن تأمين أبسط مقومات العيش في سبيل خدمة الدين؟

القصّ والتخفيض… واحد

الخبراء لا يفصلون بين “قص الديون” وتخفيض الفوائد عليها، فالطريقتان تقودان إلى نتيجة واحدة على ميزانيات المصارف والمستثمرين، وهو ما كانت المصارف ترفضه رفضاً قاطعاً في أيام الرخاء بحجة إلحاق الخسائر، فكيف الحال في ظل هذه الأزمة؟

المصرف المركزي والمصارف التجارية يمثّلان الدائنين الأكبرين بالنسبة إلى الدولة، وأي سياسة جدية لخفض كلفة الدين العام يجب أن تمر عبرهما وبواسطتهما. إلا ان المشكلة هي ان القطاع المصرفي، وبغض النظر عن الغوص في الأسباب، قد حمل على مدار السنوات أكثر من طاقته، وقد تورط في أربعة مجالات أساسية أصيبت كلها بالتعثر، وأبرزها:

سندات الخزينة، شهادات الإيداع في مصرف لبنان، أو بمعنى آخر الدين العام الذي يشكل حوالى 70 في المئة من موجودات المصارف، تمويل القطاع العقاري بأكثر من 20 مليار دولار وتمويل القطاع الخاص وبعض القطاعات الإنتاجية.

إعادة الجدوَلة

“لم يعد من مهرب من تحمّل القطاع المصرفي خسائر إعادة جدوَلة الدين العام سواء من خلال تخفيض الفوائد أو عبر إعادة هيكلة الدين” يقول رئيس مجلس إدارة FFA Private Bank جان رياشي.

الدولة تواجه مشكلتين أساسيتين: الأولى قريبة المدى، تتمثّل في المفاضلة بين دفع استحقاق آذار على سندات “اليوروبوندز” البالغة 1.2 مليار دولار والتي يحمل المستثمرون الأجانب من صناديق وأفراد قسماً كبيراً منها، وبين توفير السيولة الضئيلة الموجودة في القطاع المالي بشكل عام من أجل تأمين حاجات الإستيراد الاساسية.

والثانية متوسطة وطويلة المدى، وتتلخّص في خفض حجم الدين العام عبر إعادة جدوَلته وتخفيف عبئه من أجل الوصول إلى توازن الموازنة.

الاقتصاد اللبناني برأي رياشي “لن يتحمّل حجم الدين العام وطريقة تعاظمه في السنوات القادمة. إذ انه كلما زادت خدمة الدين كلما زاد حجم التضحيات في الموازنة، والتي تنعكس بشكل مباشر على المستهلكين وعلى القطاعات الانتاجية من خلال زيادة الضرائب”.

العلاقة الطردية بين متغيري “الدين العام” و”التضحيات في الموازنة” لا تقلل من حجم الخسارة التي تفوق 60 مليار دولار تبحث عمن يتحملها. وبحسب رياشي فإن “الخسارة يجب ان تتوزّع على أساس العدالة الإجتماعية، أي تحميل الفئات الضعيفة أقل من الفئات القادرة، وان تأخذ بعين الإعتبار إمكانية إعادة النهوض بالإقتصاد في المستقبل”.

تداعيات المرحلة المقبلة المالية والقانونية تتطلّب من وجهة نظر مختلف الآراء الإقتصادية ضرورة الإستعانة بالخبرات الدولية المتخصصة التي اختبرت هذه الحالات في غير بلدان. وعلى الخبراء أن يمتلكوا النظرة القانونية العميقة للتفاوض على ديون لبنان الخارجية بشكل أساسي.

التركيز على الديون الخارجية يفترض ان الخسارة على الديون المحلية واقعة حكماً، ولكن هذا لا يعني إقتصادياً عدم مقاربة تخفيض الديون بميزان الجوهرجي. إذ انه مع غياب إمكانية اعادة إصدار سندات جديدة يصبح دفع أصل الدين يتطلب الإستدانة بفوائد أعلى، ويفرض خفض الديون من جهة أخرى إبقاء أموال المودعين لدى المصارف محجوزة.

الداء… والدواء

خبير اقتصاد النفط وتنمية الموارد البشرية فادي جواد يعتبر ان “لا مفرّ من اعتماد الحكومة، وبشكل فوري، على القطاع المصرفي الذي استفاد من مردود الفوائد الهائل من سندات الخزينة والديون الحكومية، لتحمّل المسؤولية بدلاً من تسديد فاتورة خدمة هذا الدين من جيب المواطن المحجوزة امواله اصلاً”.

ويلفإلى أن القطاع المصرفي “يمثّل 5 في المئة من الناتج المحلي اللبناني، وأرباحه وصلت في السنوات العشر الماضية لأكثر من 10 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز قبل عشرين سنة 436 مليون دولار. وبالمقارنة مع المصارف الأجنبية فإن صافي أرباح كل من بنك لبنان والمهجر وعودة مثلاً بلغت في العام 2018 ما يقارب 510.42 ملايين دولار و 500.56 مليون على التوالي، وهذه الارباح توازي ارباح كبريات البنوك العالمية مثل “ستاندرد تشارترد” في بريطانيا التي يبلغ عدد سكانها 65 مليون مواطن. وهذا يُظهر ان المستفيد الاكبر من الوضع القائم هي المصارف والقائمون عليها من سياسيين وعائلات حاكمة”.

هذا الواقع يتطلّب معالجة جدّية يجب على الحكومة حصر عناوينها النقدية بالإجراءات التالية: “ايقاف اصدار سندات جديدة لوقف النزف لحين معالجة الفساد المستشري، عدم اقتراض دين جديد لخدمة دين قديم، إيقاف الفوائد المستحقة للمصارف لمدة 3 سنوات ما سيوفر حوالى 3 مليارات دولار تقريباً عن كل سنة، فرض ضريبة بنسبة 50 في المئة على أرباح المصارف البالغة حوالى 2,8 مليار دولار في العام 2018 وهو ما يؤمن 1,4 مليار دولار في السنة لخزينة الدولة، وقف التوظيف الحكومي لمدة 5 سنوات، خفض النفقات الحكومية، معالجة وضع الكهرباء عبر مشاريع PPP، ووقف الهدر الذي سوف يحقق وفراً يصل الى 35%”، يختم جواد.

خالد أبو شقرا.

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات