الاقتصاد مع «كورونا» ركود أم كساد؟

توقع تقرير البطالة في الولايات المتحدة لشهر مارس (آذار)، بالأرقام السيئة القادمة، إذ إن التوقف المفاجئ للاقتصاد تسبب في تهميش قطاعات كاملة. ويثير احتمال معدلات البطالة المكونة من رقمين أن يصبح ما يعرف الآن بـ«الركود العظيم» هو الكساد الكبير التالي. ويطرح هذا سؤالاً مهماً للمشاركين في السوق: ما الذي يفصل الركود عن الكساد؟ نقطة البداية هي النظر في ثلاثة أمور للركود وهي: العمق والمدة والانكماش.
ومن المؤكد أن عمق الانكماش خلال الربع الثاني سيحدد ملمحاً واحداً للركود. وتم إيقاف تشغيل الأضواء حرفياً في أجزاء كبيرة من الاقتصاد. وقد ينخفض الناتج بنسبة تصل إلى 33% وقد ترتفع البطالة فوق 30%، وفقاً لتقديرات بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس. وفي حين أن الأرقام الدقيقة لن يتم الكشف عنها إلا بعد إدراك الأمر متأخراً، إلا أنه كان هناك انهيار في النشاط الاقتصادي بدون شك.
والعمق، مع ذلك، ليس سوى جزء واحد من قصة الركود. والمدة هي شأن آخر. ونحن لا نصنف عمليات الإغلاق على المستوى المحلي الناتجة عن الكوارث الطبيعية على أنها كساد، أو حتى ركود، لأن النشاط يمكن أن ينتعش بسرعة إلى حد ما. ولا ينبغي لنا ذلك على المستوى الوطني أيضاً. ولا يمكننا التنبؤ بدقة بمدة الانكماش لأنها تعتمد على مسار الفيروس. دعنا نَقُلْ، بتفاؤل، إننا إذا امتلكنا تحكماً كافياً في الفيروس وانتشاره سنبدأ في رفع القيود على النشاط الاقتصادي. في هذه الحالة، يمكننا أن نتوقع انتعاشاً للنشاط بدءاً من الربع الثالث.
ومع ذلك، لن يكون أي تعافٍ اقتصادي مشابهاً ببساطة لقلب مفتاح الضوء مرة أخرى إلى الوضع «تشغيل». وسيكون الأمر أشبه بتشغيل قرص ربما بسرعة في البداية ولكن ببطء أكثر بعد ذلك. ومقدار السرعة التي سنتمكن من تحقيقها بادئ الأمر ستحدد بعد ذلك فترة التعافي. وقد تتعافى أجزاء معينة من الاقتصاد بسرعة، وقد توفر إعادة بناء المخزون دفعة للمصنعين، على سبيل المثال. وقد يساعد الطلب المتفجر في مسح السلع من على الرفوف لدى تجار التجزئة. ويجب بوجه عام أن نتوقع تعافياً عند رفع القيود.
ومع ذلك، لن يكون هذا التعافي بمثابة انتعاش كامل. فهناك عائقان واسعان أمام الانتعاش الحقيقي. أولاً، توقع بعض الضرر المستمر للاقتصاد نتيجة إفلاس الشركات وانقطاع العلاقات بين صاحب العمل والموظف. ويساعد قانون CARES، مع إعانات البطالة المعززة ومساعدة الأعمال، على تقليل هذا الضرر إلى الحد الأدنى، لكنه لا يزال غير كافٍ لوقف النزيف تماماً.
وثانياً، إلى أن يكون هناك علاج أو لقاح للفيروس، فإن بعض قطاعات الاقتصاد ستتضرر لفترة طويلة في المستقبل. وستظل التجمعات لأكثر من 50 شخصاً، سواء مؤتمرات أو أحداثاً رياضية أو عروضاً فنية… إلخ، محدودة لفترة طويلة. وسوف تكافح صناعات الترفيه والضيافة في عالم يتحول فجأة إلى مكان أصغر للجميع. وحتى بعد تطوير لقاح، فإن الاستخدام الواسع النطاق لمؤتمرات الفيديو ستكون له آثار طويلة الأمد على أعمال السفر.
وأخيراً، من المحتمل أن يتطلب الكساد انكماشاً لتوليد انهيار ذاتي قابل للتحمل في الطلب، حيث يصبح دعم الديون الحالية أصعب مع انخفاض الدخل الاسمي. وتعتمد قدرة الانكماش على توطيد وجوده على نجاح الدعم المالي والنقدي للاقتصاد. ولحسن حظه، فقد تبنى بنك الاحتياطي الفيدرالي بسرعة استراتيجية «كل ما يتطلبه الأمر» للحفاظ على القطاع المالي سليماً، وبالتالي تجنب بالفعل كارثة واحدة ساهمت في الكساد الكبير. ونأمل أن نواصل نجاحنا في تجنب هذا المأزق.
وبالمثل، تحولت السياسة المالية إلى إجراءات لدعم الطلب مع إعانات البطالة المعززة، والتي ستوفر في بعض الحالات دخلاً بديلاً للعمال. والنتيجة الإيجابية غير المقصودة لهذه الفوائد العالية هي منع انكماش الأجور، ونأمل في تعزيز التوقعات الإيجابية لتحديد الأجور خلال مرحلة التعافي.
ولا يزال الانتعاش الناجح يتطلب المزيد من الدعم المالي. على سبيل المثال، برامج التأمين ضد البطالة على مستوى الولايات غير قادرة على التعامل مع حجم المطالبات، ما يؤدي إلى تأخير المساعدة. وعليه، يحتاج الكونغرس إلى تزويد الولايات كاملة بحزمة مالية ضخمة لمنع موجة أخرى من عمليات التسريح من العمل.
إن نتائج سيئة خلال ربع واحد لا تسبب الركود. وفي الواقع، تعتمد صحة الاقتصاد على المدى الطويل على السيطرة على الفيروس. وما إذا كان هذا الانهيار الاقتصادي سيتحول إلى كساد أم لا، لا يزال يعتمد على تصرفات صانعي السياسة في الأشهر المقبلة.

الدول ما زالت قادرة على الثراء من خلال التصنيع

منذ أن بدأت الثورة الصناعية، أصبحت كل الدول، التي لم يحالفها الحظ في امتلاك احتياطيات نفطية ضخمة، ثرية من خلال طريقة واحدة هي الاستفادة من التصنيع، حيث أصبحت دول مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية جميعها من الشركات المصنّعة العالمية قبل وقت طويل من بدء اقتصاداتها في التحول نحو تقديم الخدمات. وفي الآونة الأخيرة، قام عدد جديد من البلدان التي تعد إلى حد كبير متقدمة، بما في ذلك ماليزيا وبولندا والصين ورومانيا وتايلند والمكسيك، أيضاً بتعزيز قدراتها التصنيعية.
وقد جادل خبراء اقتصاديون مثل هاهون تشانغ وداني رودريك، وكتَّاب مثل جو ستادويل، بأن الترويج للصادرات الصناعية هو أمر حاسم لهذا النوع من التنمية، وفي ورقة بحثية في 2008، تحدث رودريك عن الكثير من الحالات التجريبية والنظرية التي تصب في صالح السياسات الصناعية، وقال، في الورقة، إن «التنمية تتعلق بشكل أساسي بالتغيير الهيكلي نحو إنتاج منتجات عالية القيمة قابلة للتصدير، والتي يميل معظمها إلى أن يكون سلعاً مصنَّعة»، كما أن المنافسة في أسواق التصدير تُجبر منتجي البلاد على زيادة الإنتاجية، وتمكّنهم من اعتماد تكنولوجيات أجنبية متقدمة.
ويحاول عدد من الدول الفقيرة وضع هذه الفكرة في حيز التنفيذ، وهناك مثالان بارزان هما فيتنام وبنغلاديش اللتان شهدتا نمواً هائلاً في السنوات الأخيرة، حيث يبدو وضعهما الصناعي مناسباً تماماً للبلدان الموجودة في الدرجة الأولى من سلم التصنيع، وأهم صادرات فيتنام هي الإلكترونيات والملابس، في حين أن أهم الصادرات في بنغلاديش هي الملابس والمنسوجات.
ولكن ما يثير القلق هو أن رودريك ظل يجادل منذ عدة سنوات بأن فرص التنمية الناجحة المدفوعة بالتصنيع قد انتهت. وفي ورقة في 2016 بعنوان «هل انتهى عصر معجزات النمو؟»، قال رودريك إن دولاً مثل الصين وماليزيا ستكون آخر من استخدم التصنيع للقفز من الفقر إلى الثراء.
ولاحظ رودريك أنه في الوقت الذي تحول فيه معظم البلدان في نهاية المطاف من التصنيع إلى تقديم الخدمات بعد أن أصبحت دولاً غنية، فإنه في العقود الأخيرة، كان هذا التحول يحدث في وقت أبكر بكثير، حيث إن العديد من البلدان الآن قد بدأت في التحول بالفعل بعيداً عن التصنيع قبل أن تصبح دولاً صناعية بشكل كامل.
ويبدو أن هناك أبحاثاً أخرى قد وثّقت ظواهر مماثلة، فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أعدها الاقتصاديون دوغلاس غولين، وريمي جداب، وديتريش فولراث، في 2015، أن التحضر في كثير من البلدان النامية يعني انتقال الفقراء من العمل في المزارع للعمل في الخدمات المحلية لا في المصانع.
وبالنسبة إلى دول مثل فيتنام وبنغلاديش، فهذه تعد أخباراً سيئة، ففي حال كان رودريك على حق، فإنه قد يتبخر التفوق البارز في مجال التصنيع الموجود لديهما في الوقت الحالي، كما أنهما ستجدان نفسيهما على خطى بلدان مثل إندونيسيا ونيجيريا والبرازيل، والتي تتراجع فيها نسبة التصنيع من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن ما سبب هذا التراجع في الصناعة؟ هناك تفسير واحد واضح وهو الأتمتة (أي استخدام الكومبيوتر والأجهزة المبنية على المعالجات والبرمجيات في مختلف القطاعات)، فإذا حلّت الروبوتات محل الطرف الأخير من سلسلة التوريد، فإن العمال الفقراء وغير المهرة الذين عادةً ما يشغّلون الصناعات البسيطة، مثل صناعة الملابس والألعاب وتجميع الإلكترونيات، لم يعد لديهم ميزة نسبية في التصنيع، ولذا فإن البلدان الفقيرة قد باتت تهتم بتصدير الموارد الطبيعية والخدمات المنخفضة القيمة مثل مراكز خدمة العملاء، تاركةً للبلدان المتقدمة التي لديها الأدوات والآلات والروبوتات عملية تصنيع المنتجات.
ولكن هناك أسباب وجيهة للتشكيك في حقيقة حدوث ذلك، فالصلة بين الأتمتة والعمالة تبدو ضعيفة، حيث وجدت بعض الدراسات أنه صحيح أن الروبوتات الصناعية يمكنها أن تحل محل العمال البشر، ولكن ترى دراسات أخرى أن هذه الروبوتات تزيد من فرص العمل أيضاً، بما في ذلك بين العمال من ذوي المهارات المنخفضة.
والأهم من ذلك، فإنه بالنظر إلى توقيت تراجع الصناعة فإننا ندرك أن فكرة رجوع هذا التراجع في بعض البلدان إلى التكنولوجيا هو أمر خاطئ، وذلك لأنه قد حدث الكثير من حالات تراجع التصنيع المبكرة، والتي سجّلها رودريك، بما في ذلك في نيجيريا والبرازيل، في الثمانينات والتسعينات، ولكن في نفس الوقت بالضبط، كانت الصين تزيد من قدراتها التصنيعية في الصناعات الكثيفة العمالة، كما كانت تبدأ معجزة النمو الخاصة بها، ولذلك فإنه يبدو من المرجح أن هناك أسباباً أخرى في البلدان التي انخفض فيها التصنيع.
وقد يكون لدى كثير من هذه البلدان ببساطة تصنيع مختلّ وظيفياً أو غير مكتمل، ففي أفريقيا، على سبيل المثال، استخدم عدد من البلدان سياسة الاعتماد على الواردات، حيث قامت بالاعتماد على التجارة ومحاولة تصنيع سلعها الخاصة فقط، وغالباً ما تستخدم المصانع غير الفعالة المملوكة للدولة في ذلك، وقد استخدمت البرازيل نهجاً مماثلاً، ولكنّ هذا يختلف تماماً عن نوع السياسة الصناعية التي تركز على الصادرات، والتي تدعم الإنتاجية، والتي يوصي بها رودريك أو تشانغ أو ستودويل، فعندما تخلت البلدان الفقيرة عن العوامل الدافعة للتصنيع، فإنها قد فتحت حدودها أمام الواردات، مما أهلك الصناعة المحلية غير الفعالة.
وبالإضافة إلى الأخطاء السياسية، فإنه ربما تكون الصناعة في الصين قد لعبت دوراً في ذلك، حيث إنه ربما تسببت هذه الصناعة الضخمة في هذا البلد الضخم في تحول الشركات متعددة الجنسيات بعيداً عن المنافسين الأبطأ مثل إندونيسيا، مما أدى إلى خنق صناعاتها الناشئة، حيث وجد رودريك أنه في المتوسط، لم تشهد دول شرق آسيا تجربة تراجع التصنيع بشكل مبكر مثل نظيراتها في مناطق أخرى من العالم.
وقد تكون النظرية الاقتصادية التي ابتكرها ماسيسا فوغيتا وأنتوني فينابلز، هي المفتاح لفهم سبب حدوث ذلك، حيث توقعا أنه مع تطور الاقتصاد العالمي، فإن المناطق المختلفة تتجه إلى التصنيع، واحدة تلو الأخرى، وإذا كان هذا صحيحاً، فإنه لن يكون لدى الدول الأخرى أي خيار سوى الانتظار حتى تنتهي الصين من معجزة النمو الخاصة بها قبل بدء معجزتها الخاصة.
واليوم بفضل الارتفاع السريع في تكاليف الصناعات الصينية، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ورغبة الشركات المتعددة الجنسيات في التنويع في مواجهة تهديدات مثل فيروس «كورونا»، فإنه قد حان الوقت لبلدان مثل فيتنام وبنغلاديش لتبني الكثير من الصناعات كثيفة العمالة، وحتى البلدان التي تم تراجع التصنيع فيها، مثل إندونيسيا، فقد تحصل الآن على فرصة ثانية، فحتى اليوم يجب على الدول الفقيرة ألا تتخلى عن حلمها في التنمية القائمة على التصنيع.

أزمة لبنان المالية: 63 مصرفاً ليس أمامها إلا الدمج أو التصفية الذاتية

في أواخر العام الماضي، طلب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من المصارف زيادة رأسمالها بنسبة عشرة بالمئة ففعلت. وبموجب التعميم ذاته كان يفترض أن تزيد المصارف عشرة بالمئة ثانية قبل حزيران المقبل، لكن الحاكم وفق بعض المصادر جمّد مفعول التعميم بعدما تبيّن أن المصارف لن تستطيع تلبية طلب الحاكم، لعجزها عن تأمين مستثمرين جدد لا سيما في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.

مشكلة المصــارف لا تقتصــر على عدم قدرتها على استقــطاب مستــثمرين جـــدد، بعدما دخلـت منذ السابع عشر من تشرين الأول الفائت مرحلة جديدة من تاريخها. القطاع المصرفي الذي كان مصدراً لـ”ثقة الخارج في لبنان”، وتغنى طويلاً بقدراته على جلب الودائع والاستثمارات، صار متهماً من قبل الكثيرين. ساءت علاقته بالمودعين بعدما حجر على أموالهم وصار يقنّن مصروف يومهم من حسابهم بوسائل وصلت إلى حد الإهانة. يكفي استطلاع آراء العشرات كي نعرف كيف تحول موقف المواطنين من المصارف، وصار أي فرد منهم يفضل اللجوء الى أساليب أجداده القديمة للإدخار على أن يؤمن على أمواله في مصرف. ولم يكن مصرف لبنان أسلم وضعاً وقد صارت مصداقيته على المحك.

إزاء هذا الواقع، يواجه القطاع المصرفي معضلتين عليه معالجتهما، تتعلق الأولى بإعادة الهيكلة الشاملة التي بات الحديث عنها جدياً وضرورياً، والثانية إعادة ترميم ثقة المواطنين بالمصارف بعد كلّ الذي حصل.

أظهرت الوقائع في الآونة الاخيرة وجود نحو 63 مصرفاً (بينها 3 مصارف لا تعمل) يملك معظمها نحو عشرين متمولاً. وبيّنت الأزمة عجز المصارف عن الاستمرار، وحاجتهـــا إلى الدمج بنـاء على قانون. هـذه المصارف لم تعد قادرة على جلب مستثمرين جدد فصار الاندماج المصرفي إجراء لا بد منه. ومن هنا يتوقع أن تلجأ بعض المصارف غير القادرة على الاستمرار ضمن المستويات المطلوبة من الرسملة، إلى القيام بتصفية ذاتية أوالتوجه نحو خيار الدمج مع مصارف أخرى. غير ذلك لا ملامح واضحة بعد لخطة إعادة هيكلة المصارف وإعادة هيكلة مصرف لبنان التي تحدثت عنها خطة الحكومة أخيراً، علماً أن إعادة الهيكلة باتت ضرورة ملحة ولكنها محاطة بجملة من الأسئلة: من سيكون قيماً على ورشة إعادة هيكلة المصارف ومصرف لبنان التي اوصلتنا الى الخسائر الفادحة التي منينا بها؟ بالاضافة الى السياسات المالية والنقدية عبر سنوات ومن يعوض على الناس حقوقهم البديهية والتي نصت عليها مقدمة الدستور؟ يسأل وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش.

الهيكلة لا تكفي

أي نقاش بالموضوع يفرض ان يذكر الوزير بطيش بالمستحقات المترتبة على الدولة، بدءاً من أرقام الدين العام الذي بلغ 92 مليار دولار لغاية 31 كانون الأول 2019، تضاف إليه الإلتزامات المترتبة على الدولة، غير المدفوعة، لصالح الضمان الاجتماعي (ما يعادل حوالى 2,2 مليار دولار)، ولصالح مؤسسة ضمان الودائع ولصالح المتعهدين والمستشفيات، وغيرها والمقدّرة كلها بنحو 5 مليارات دولار. كما تضاف خدمة الدين العام للفصل الأول من العام 2020 بما فيها الكوبونات (فوائد نصف سنويّة) على محفظة اليوروبوندز. استناداً الى كل ذلك، يقدّر بطيش “إجمالي الدين العام حاليّاً بحدود 150 مليار دولار، بما فيها فجوة مصرف لبنان التي لم يكن احد في وارد الحديث عنها سابقاً، والتي أشرت اليها قبل عام”.

من يتحمّل مسؤولية كل تلك الخسائر؟ ومن استفاد من كل هذا الواقع غير بعض السياسيين والمصارف وكبار المودعين ومنهم مودعون غير مقيمين؟ ومن يتحمل تلك الخسائر الناجمة عن العجز المتراكم في الميزان التجاري، نتيجة النموذج القائم منذ التسعينات وعجز الكهرباء والهندسات المالية، التي طمست الحقائق والفوائد العالية التي دفعت بالدولار لا سيما لغير المقيمين، الذين قبضوها عملياً من ودائع الناس وحولوها الى الخارج.

لا تُحسد الحكومة على وضعها، “تبذل جهدها في مواجهة أزمة إقتصادية مالية نقدية مصرفية، نتج عنها ازمة اجتماعية وكلها على مستوى الخطـــــورة ذاتهــا لوبــــاء الكورونا”. أرقـام بالجملة ورواتب ومخصصــات خيالية يسردها بطيش، لينتهي منها الى وجوب إعادة النظر بالواقع الحالي من أساسه لكل من المصارف ومصرف لبنان.

ينتقد وجود أربعة نواب لحاكم مصرف لبنان بينما لحاكم مصرف فرنسا المركزي نائبان، يتقاضى كل منهما راتباً سنوياً يبلغ نصف الراتب الحالي لنائب حاكم مصرف لبنان! ويتساءل عن الاعداد المرتفعة لكبار المسؤولين في مصرف لبنان وفي هيئة الاسواق المالية؟

ويكشف بطيش أن راتب نائب حاكم مصرف لبنان 33 مليون ليرة شهرياً مضروبة بـ16 شهراً مع بدل سفر يبلغ 2000 دولار يومياً، بينما يتقاضى الحاكم 3000 دولار يومياً عن بدل سفر!

لا يوافق بطيش قول حاكم مصرف لبنان في ما يتعلق بوجود إحتياط “لأن هذا الاحتياط غير موجود في مصرف لبنان، وهو سلبي لانه جرى التصرف بحدود الخمسين مليار دولار من ايداعات المصارف لديه، والتي هي جزء من ودائع الناس في المصارف وقد تبخر”.

ويوضح ان “ودائع الناس في المصارف بالدولار كانت تقارب 118 ملياراً حتى نهاية العام الماضي، يضاف اليها ما يعادل 40 مليار دولار بالليرة اللبنانية (على اساس 1500 ليرة سعر صرف الدولار). وصرح وزير المال والحاكم انه لم يعد هناك الا 22 مليار دولار، فأين ذهب الاحتياط إذاً وقد اصبح سلبياً، وأين أموال الناس؟ من شروط إعادة الهيكلة ان يكون هناك هبوط آمن ورؤية مستقبلية واضحة، ينفذها رجالات دولة بعيداً من المناكفات السياسية، وفي إطار قانون النقد والتسليف”. وفي حال حصل ذلك بعيداً من المناكفات السياسية، هل من مفاعيل لإعادة الهيكلة؟

تنظير ولا خطط

يستذكر خبير مصرفي التجربة الأميركية التي حصلت العام 1930، حين أعادت الولايات المتحدة هيكلة مصارفها، لكن بناء على إجراءات سليمة وسياسة نقدية للسلطات المعنية لم تؤثر سلباً على المودعين. “لكن الحاصل اليوم أن مسألة اعادة الهيكلة خاضعة للتنظير، فيما الكل ينتظر البرنامج الاصلاحي الكامل المتكامل للحكومة”.

برأيه، لا يستند الحديث عن إعادة الهيكلة إلى دراسة علمية، هي أفكار ومواقف سياسية “بدليل المذكرة التي أرسلها وزير المال غازي وزني الى الحاكم يسأله فيها عن موضوع تخفيض الرواتب”. ويقول المعنيون بشؤون مصرف لبنان إن الحاكم ليست لدية صلاحية البت في مثل هذا الطلب، وإذا تم تطبيقه فستكون له تبعات على رواتب سائر الموظفين نظراً لسلسلة النسب التي تخضع لها الرواتب في الفرق بين راتب وآخر.

“التنظير” يصف به الخبير أيضاً الكلام عن رفض وجود أربعة نواب للحاكم، مبدياً خشيته من ان يكون الهدف من إثارة الموضوع تقليص صلاحيات الحاكم، “كما ان بقاء الحاكم من دون نواب يجعل صلاحيته منقوصة ويفقده القدرة على اتخاذ القرارات”.

لكن بطيش “الضنين بالمصارف” يرفض ما يحصل اليوم، مبدياً حرصه على إعادة هيكلة المصارف وتحديثها لتكون في خدمة إقتصاد الريع، وتعود الى لعب دور في تطوير اقتصاد الانتاج وليس خادماً لاقتصاد الريع. يقول: “ما يهمني ان تلعب الدولة دورها في إطار نظام اقتصادي حر قائم على المنافسة الحقيقية، ولا تسيطر عليه الاحتكارات من اي نوع كانت”.​

غادة حلاوي

هل مَن يسمع الخوارزمي والكندي؟

واجه انتشار وباء كورونا قادة الدول الكبرى بامتحان كان بعيداً عن الاذهان. آلاف القتلى من فيروس بالكاد يمكن رؤيته في ايطاليا، واسبانيا، وفي الصين حيث ظهر الوباء وإن حققت اجراءات الاحتياط ضبط انتشاره بسرعة كان منها انشاء مستشفى خاص بطاقة 1200 سرير واجهزة تنفس خلال اسبوعين.

اليوم تعتبر مجلة “الايكونوميست” ان وباء كورونا يشكل اكبر قضية انسانية، وفي الوقت عينه سيدفع البلدان الصناعية الى جبه مشاكل اقتصادية ومالية كبرى لن يكون من السهل تجاوزها، وعلى صعيد التقلبات الجيوسياسية والاقتصادية تبدو الصين مرشحة لاحتلال الموقع الاقتصادي والتقني الأهم عالمياً مع حلول العام 2030، والولايات المتحدة التي بدأت تعاني من مشاكل اقتصادية ومن قيادة ترامب المتأرجحة ومحاولته تخفيف اجراءات الحماية كي لا ينخفض الدخل القومي الاميركي بنسبة 5-8 في المئة اذا استمر الوباء فترة ثلاثة اشهر، وحينئذٍ لن يكون انتصار ترامب الجمهوري على بايدن الديموقراطي سهلاً، وقد تنكفىء الولايات المتحدة عن مواجهة الدول الصناعية والنفطية بمطالب فوقية.

 

وبحسب “الايكونوميست” ان الخسائر الاقتصادية فرضت على الحكومات المعنية تخصيص مبالغ ضخمة لانقاذ المصارف والكثير من المؤسسات الصناعية، وان الكونغرس أقر تأمين تريليونَي دولار لأهداف التغلب على الازمة المالية والاقتصادية. وكانت فرنسا من اوائل الدول المتقدمة التي خصصت 330 مليار أورو او ما يعادل 360 مليار دولار لمواجهة اعانة الموظفين على حيازة معاشاتهم او النسبة الاهم منها، مع تفشي البطالة، كما اقرت السوق الاوروبية برامج دعم للعمال والمؤسسات والمصارف بقيمة 880 مليار أورو اي ما يزيد على 960 مليار دولار.

اضافة الى الخطوات المقررة، ترى “الايكونوميست” ان معالجة الازمة ستفرض توافر قروض ميسرة وتسهيلات لشركات رئيسية متعثرة في العالم الصناعي تقترب من 18.6 تريليون دولار، وهذا مبلغ يتجاوز ما خصصته البلدان المعنية لمواجهة الازمة المالية التي تفجرت عام 2008 وأدت الى تخصيص 5.5 تريليونات دولار في الولايات المتحدة لانقاذ المصارف وشركات التأمين وشركات تصنيع السيارات والطائرات. وبلغت تسهيلات المصرف المركزي الاوروبي 5.6 تريليونات دولار. وكانت اليونان حصلت على 330 مليار أورو معظمها من المصرف المركزي الاوروبي للتغلب على ازمتها المالية والاقتصادية، وقد بدأت بالفعل في السنتين المنصرمتين الخروج من ازمة المديونية وتفشي البطالة. وكان لموسم السياحة عام 2019 تأثير ايجابي كبير. المصارف السويسرية الرئيسية، احتاجت الى الانقاذ وكذلك مصارف ايطالية كثيرة وشركات استثمارية ترسّخت في لندن من الولايات المتحدة، والمانيا، وفرنسا وحتى الدول العربية حيث كان ولا يزال للكويت صندوق الاجيال المقبلة المؤسَّس من الستينات، وقرض لانقاذ “بنك بركليز” بلغت قيمته 12 مليار جنيه استرليني.

استناداً الى تقديرات “الايكونوميست” فان القطاع الوحيد الذي سينجو من الضمور بل سيحقق نجاحاً ملحوظاً هو شركات التحكم بالذكاء الاصطناعي. فهذه الشركات باتت لديها برامج لتأمين الخدمات المنزلية وخدمات التسوق واستكشاف الامراض الرئيسية، وكل ذلك حصيلة التحكم التقني بالذكاء الاصطناعي.

طبعاً نحن لا نطمح الى تكريس الذكاء الاصطناعي لمواجهة ازمتنا. فالعقل السياسي اللبناني لم يتفق على خطة انقاذ سوى اعتماد وسائل السطو المقونن على مدخرات اللبنانيين وكأن هذه المدخرات تحققت من نهب الثروات في لبنان، والواقع ان ثروات الناهبين اصبحت في الخارج وليس من السهل استعادتها حتى من البلدان التي عانت عام 2008 مصاعب مالية واقتصادية مثل سويسرا وانكلترا. وسويسرا استعادت ثقة العالم بسياساتها ونظامها المصرفي ووضوح قوانينها بحيث صارت تحتوي على ثلث الثروة النقدية والذهبية العالمية.

تقدير “الايكونوميست” ان استمرار ازمة الوباء شهرين او ثلاثة سيؤدي الى انتقاص الدخل القومي في البلدان الصناعية بأكثر من 20 في المئة والى ضخ 18-20 تريليون دولار في العمليات الانقاذية للعمالة والخدمات العامة والصناعات الاساسية كصناعات الادوية، والطائرات، والسيارات والعناية بشؤون البيئة.

بالطبع السياسيون اللبنانيون بعيدون عن تلمّس فرص النجاح التكنولوجي عبر الانخراط في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد صدر كتاب حول تطورات الذكاء الاصطناعي وضعته اختصاصية اميركية شابة اسمها Amy Webb وهي متمرسة في علوم برامج الذكاء الاصطناعي، وقد اعطت الكتاب الواقع في 320 صفحة تسمية تعبّر عن محتواه، اي العمالقة التسعة The Big Nine. وبحسب تحليل المؤلفة هنالك تسع شركات مندمجة في برامج تطوير الذكاء الاصطناعي للانتقال من البرامج الاولية التي تمحورت على تطوير ادوات التحليل الرقمي التكنولوجي الذي يطاول عشرات آلاف المعطيات للوصول الى آلات التحليل التي يمكنها ان تتجاوز البرامج الموضوعة من الاختصاصيين، والتي ترتكز على التحليل الذاتي، اي الانتقال من الذكاء الاصطناعي الاولي، الى الذكاء الاصطناعي الواسع واخيراً الى الذكاء الاصطناعي العلمي، وهي تعتبر ان المرحلة الاخيرة، اي تطوير ادوات التفكير الذاتي ووضع البرامج المتقدمة، سيستغرق 70 سنة على الاقل.

كي لا يتفاجأ القارىء بتصورات المؤلفة فهي تعتبر ان بداية الذكاء الاصطناعي كانت في الستينات مع تطوير القدرات الرقمية والتحليلية للمنتجات الالكترونية. وكان ذلك عبر جمع 60 من علماء الادمغة الالكترونية في جامعة Dartmouth في الولايات المتحدة، وبعد تحقيق خطوات في تطوير ما يسمى الـ Algorithm توقف التطوير.

العودة الى محاولة توسيع قدرات ادوات الذكاء الاصطناعي بدأت من جديد بعد فوز جهاز مصنّع من شركة IBM بمسابقة مع بطل العالم في لعبة الشطرنج عام 1996، وكانت هنالك محاولات سابقة للتغلب على اصول لعبة مشابهة ألّفها الصينيون منذ 3000 سنة، وهذه الرياضة الفكرية كانت تستدعي التركيز على مختلف اوجهها لسنوات، ولم يتم التغلب على اختصاصي اللعبة الصينية المسماة Go إلا في اواخر التسعينات حين استطاع جهاز متطور للذكاء الاصطناعي يشمل مرونة التفكير بعدد من الحلول في الوقت ذاته واختيار الحل التلقائي، ومذذاك اصبح هناك شركات صينية ثلاث تنافس الشركات الاميركية. والشركات الاميركية المنصبة جهودها على تطوير الذكاء الاصطناعي هي: IBM, Microsoft, Google, Apple, Amazon, Facebook. في المقابل الشركات الصينية الثلاث هي Tencent, Baidu, AliBaba. وجدير بالذكر ان شركة AliBaba الصينية هي التي ساهمت في اطلاق شركة Google ولا زالت تحتفظ بـ22 في المئة من اسهمها، وهي الشركة المساهمة الاساسية.

يمكننا الخوض بمعلومات كثيرة نطلع عليها في الكتاب، ونكتفي هنا بالاشارة الى بعض استخلاصات الكتاب وعدد من معلوماته الرئيسية.

بحسب المؤلفة ان فريق الشركات الصينية سيربح معركة التنافس وسيحتل المركز الاول بين الشركات التسع عام 2030 وذلك لان الحكومة الصينية توفر الدعم المعنوي والمالي، واقرت برنامجا لاستقبال العلماء الصينيين من مختلف بلدان العالم وخصوصا من الولايات المتحدة، وهم يوفرون معاشا سنويا لكل عالم على مستوى 150 الف دولار، والسكن وتوفير العمل لزوجته إن كان متأهلاً، وميزانية لابحاث كل عالم تراوح ما بين 440 الف دولار و800 الف دولار. وقد اعلن الرئيس الصيني في خطاب عام 2017 ان الصين تخطط لاحتلال الموقع الرقم 1 في جميع مجالات عمل الذكاء الاصطناعي، وربما يهم اللبنانيين معرفة الامر التالي الا وهو كيفية استعادة الاهتمام بالذكاء الاصطناعي عبر نشاط ثلاثة افراد احدهم استاذ لعلوم الكومبيوتر في جامعة تورونتو، والثاني خبير في علوم الذكاء الاصطناعي يعمل لدى شركة IBM، والثالث شاب من اصل سوري اسمه مصطفى سليمان، والده كان سائق تاكسي في لندن ووالدته تعمل في النظام الصحي البريطاني.

وُلد مصطفى سليمان عام 1984. درس في Mansfield College في اوكسفورد وترك الكلية قبل التخرج ومن ثم تشارك مع الخبيرين المذكورين في تأسيسس شركة اسمها Deep Mind تعمل في برامج الذكاء الاصطناعي، وقد توصلت الى انجاز اتفاق خدماتي موسع مع نظام التغطية الصحية في بريطانيا، ولفت هذا العقد شركة Alpha Bet الصينية التي ابتاعت الشركة بـ 400 مليون جنيه استرليني.

قبل الانتهاء من هذا السرد نلخص ما تتوقعه مؤلفة الكتاب من مراجعتها للبرامج الاميركية والصينية في مجالات الذكاء الاصطناعي.

تقول المؤلفة ان مسيرة تطوير الذكاء الاصطناعي تتماشى مع مساعي الصين الحثيثة لاحتلال موقع الصدارة في هذا المضمار عالميا. تحاول الصين تجاوز مشاكل العلاقات التجارية والحصول على مركز الصدارة في النجاح الاقتصادي بتجاوز الاميركيين، وتطوير قدرات التصنيع واحتلال موقع رئيسي في الخريطة الجيوسياسية في العالم سواء بالنجاح الكبير او القوة العسكرية، او اعطاء مثال اجتماعي وتكريس الجهود لانجاح مساعي الحفاظ على البيئة عالميا.

نقرأ كل هذا في مجلة “الايكونوميست” وفي كتاب Amy Webb ولا نحرك مساعي التواصل والتفاهم مع الصينيين في مجالات تسيير المرافىء، بناء المصافي، امدادات الكهرباء، جعل بيروت المركز المالي لتجارة الصين مع المنطقة وبناء حقل كبير مع مصرف لبنان لانتاج الكهرباء من الالواح الزجاجية في البقاع.

هل مَن يقرأ…هل مَن يسمع؟!

مروان اسكندر

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات