مستقبل العملة النقدية في العالم

الهدف من تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة (اليورو)، كان يتعلّق بتقوية الدور الذي يضْطلع به الاتّحاد الأوروبيّ على الساحة الدوليّة من خلال خلق منافس قويّ للدولار الفارض هيمنته على العلاقات النقديّة الدوليّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، في مجالي الإنتاج والتجارة والاستثمار. فقد ظنَّ كثيرٌ من الاقتصاديّين أنّ اليورو سيكون منافساً قويّاً للدولار وسيهدد موقعه كعملة مهيمنة على منظومة النقد الدوليّ، وأنّه سيُغيِّر شكلَ منظومة النقد الدولي، ويُعيد توزيع القوّة بين الدولار واليورو؛ إذ إن تأسيس العملة الأوروبيّة الموحّدة هو لحظة مصيرية.

لقد كان إطلاق اليورو أهمّ تطوُّر عرفته منظومة النقد الدولي منذ تبنّي أنظمة الصرف العائمة؛ إذ إنّه بات أوّل مُنافِس حقيقي للدولار، بالنّظر إلى أنّ العملة الأوروبيّة تستند إلى اقتصادٍ قويّ، وإحدى أكبر أسواق الرأسمال في العالَم، فإنه من الممكن في خمس إلى عشر سنوات أن تكون كافية لليورو ليتحوَّل عملة دوليّة، على القدر نفسه من الأهميّة كالدولار. إذ إنّ نظاماً نقديّاً قائماً على عملتَيْن رئيسيتَيْن سيظهر، وسيحلّ مكان النظام السائد والقائم على هيمنة الدولار على بقية العملات، حسب اعتقادي.

وقد أظهرت الأحداث، أن الدولار عاجز عن أداءِ دَوره كمخزنٍ للقيمة في ظلّ اقتصادٍ تطبعه الأزمات الماليّة ويفتقر إلى الاستقرار. ولذلك، فقد كان من المُفترض أن يَمنح اليورو للفاعلين الاقتصاديّين الدوليّين، إمكانيّة تنويع محافظهم الماليّة وتوزيع استثماراتهم على نحوٍ يَضمن إدارة المخاطر بشكلٍ أكثر فاعليّة.

غير أنّ استعمال اليورو في التعاملات الدوليّة يبقى متواضعاً للغاية خارج مناطق النفوذ التقليديّة لبعض دول منطقة اليورو. لذلك؛ فإنّ حصّة اليورو في احتياطيّات المصارف المركزيّة عبر العالَم لا تتجاوز نسبة 20 في المائة، بينما تَصِلُ حصّة الدولار إلى نحو 60 في المائة وبقية العملات الأخرى 20 في المائة، ومنها اليوان، وفقاً لإحصائيّات صندوق النقد الدولي في 2022.

لقد أَثبتت التطوُّرات الحاصلة خلال العقد الأخير، أنّ اليورو غير قادرعلى كسر هيمنة الدولار الأميركي، على الرّغم من كلّ المقوّمات الاقتصاديّة التي تملكها منطقة اليورو باعتباره أكبر مصدِّر للسلع والخدمات في العالم. إذ إنّ الاعتبارات الاقتصاديّة لا تكفي وحدها وإن كانت ضروريّة، لتحديد موقع أيّ عملة في منظومة النقد الدولي، وأنّ ثمّة اعتبارات سياسيّة ينبغي أخذها في الاعتبار. إذ إن القدرات المحدودة جدّاً للدول الأعضاء في منطقة اليورو على المستوى العسكري، وتوفير المظلّة الأمنيّة، خارج مناطق نفوذها التاريخيّة، من شأنه أن يفسِّر الأداء الحالي لليورو، والذي لا يرقى إلى مستوى المطلوب عند الأوروبيين. إذ يخلق هذا الوضع موقعاً ضعيفاً لدى الكثير من الدول حول العالَم لإعطاء دور أكثر أهميّة لليورو في شؤونهم النقديّة، على الرّغم من علاقاتهم التجاريّة والماليّة المتميّزة مع دول منطقة اليورو.

و تُعَدّ دول منطقة اليورو الشريكَ الاقتصادي الأوّل لكثيرٍ من الدول النامية المصدّرة للموارد الطبيعيّة الخامّ في أفريقيا وآسيا، وتسجِّل الموازين التجاريّة لهذه الأخيرة عجوزاتٍ كبيرة لمصلحة منطقة اليورو. ومن المفروض نظريّاً أن تقبل هذه البلدان تسوية تعاملاتها التجاريّة مع منطقة اليورو بالعملة الأوروبيّة المُشترَكة، بدلاً من المرور عبر عملة دولة أخرى هي الدولار الأميركي، مع ما يعني ذلك من تحمُّل مخاطر الصرف من الدولار إلى اليورو؛ إذ عند استحضار الجوانب الأمنيّة، والبُعد الجيو – سياسي لعلاقة الأنظمة في هذه الدول مع أميركا، يصبح من المفهوم لماذا تبقى هذه الدول متمسكة بالدولار، للمحافظة على استمرار مظلّتها الأمنيّة التي لا يُمكن للاتّحاد الأوروبي أن يقدّم بديلاً عنها، أو خوفاً من نقمة أميركا عليهم.

ومن أجل هذه الاعتبارات تحديداً، نرى أن بعض الدول، تتّجه نحو استبدال الدولار باليوان الصيني أو غيرها من العملات باستثناء اليورو، في تسويةِ صادراتها النفطيّة. إذ تردد من رد فعل أميركا، وما قد يترتّب عن ذلك من عواقب على أمنها القومي. والسؤال هنا، هل من المُمكن أن تأتي الصين لحمايتها من أميركا، في حال أَقدمت على عملٍ عسكريّ ضدّها تحت أيّ ذريعة؟ أرى ذلك صعباً على الأقلّ في الوقت الرّاهن، لكنه ليس مستحيلاً.

وفي ضوء التغيير الذي يحصل في العالم، وفي إطار سعي الصين وروسيا ومجموعة «بريكس» لبناء نظام اقتصادي دولي جديد؛ إذ إن الصين ثاني اكبر اقتصاد في العالم، حيث قدمت نموذجاً يعتمد على استنهاض قواها ويطور بناها التحتية، وربطت أرجاءها الواسعة بشبكة فعالة للمواصلات والاتصالات، وتتبنى أنماط العمل ووسائل الإنتاج الأنسب لأوضاعها وقدراتها، ولتصبح بضائعها العالية الجودة والرخيصة الكلفة أساساً لتقدمها في العالم. إذ أعجب العالم الثالث بالنهضة الصينية وبمشروع الحزام والطريق، الذي هو ليس مشروعاً جديداً للسيطرة على العالم، بل هو المشروع الدولي الذي انتظمت فيه علاقات القارات والشعوب منذ زمن بعيد.

وقد سعت الصين وروسيا للتعاملات التجارية من خلال اليوان والروبل، حيث إن هذا الاتفاق يعد مؤشراً مهماً لأسباب عدة، منها أن التبادل التجاري بين الصين وروسيا شهد تطوراً كبيراً منذ بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، لا سيما في النفط والغاز. كما يعد هذا القرار في مصلحة جميع الأطراف وبشكل خاص في مصلحة روسيا الساعية إلى الابتعاد عن عملات الدول غير الصديقة بحسب وصفها منذ فرض العقوبات عليها. إذ يساهم في الابتعاد عن الدولار واليورو والإسترليني، كما أنه عامل مساعد في استقرار الروبل والأنظمة المصرفية التي بدأت بالفعل بإصدار قروض باليوان الصيني واستغنى بعضها عن نظام التعامل المالي (سويفت).

وفي الختام، لا بد من تجديد الدعوة، إلى إنشاء آلية دولية بديلة عن مؤسسات بريتون وودز، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إضافة إلى إنشاء منظمة تجارة دولية جديدة تستوعب كل المتغيرات الاقتصادية الحاصلة في العالم، تحل محل منظمة التجارة العالمية. وهذه هي مقدمات لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد؛ إذ إنّ العملة المُهَيْمِنة في العلاقات الدوليّة تبقى هي عملة الدول الأقوى اقتصادياً وعسكريّاً.

د. ثامر محمود العاني

الاقتصاد الألماني على المحك

الاقتصاد الألماني تحت الضغط، هذا هو عنوان هذا العام في ألمانيا، فالتوقعات الاقتصادية تشير إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 0.5 في المائة ليصبح البلد صاحب أسوأ أداء اقتصادي ضمن الدول الصناعية الكبرى، والعام المقبل قد لا يختلف كثيرا عن هذا العام لاستمرار نفس مسببات الوضع الحالي. وألمانيا ليست دولة هامشية، فهي إحدى مجموعة دول السبع وهي الصخرة التي يتكئ عليها الاقتصاد الأوروبي بأكمله. فكيف وصلت ألمانيا للوضع الحالي؟ وما هي المؤشرات التي دللت على وضعها الاقتصادي؟ وكيف لها أن تخرج من هذا المأزق؟

البداية مع التجارة أو الصادرات الألمانية، حيث استفادت ألمانيا وبشدة من نمو الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، ففي حين لم تزد صادراتها للصين عن 6.6 مليار دولار في منتصف التسعينات الميلادية، زادت هذه الصادرات سنويا بنسبة 11 في المائة لتصل إلى 121 مليارا في عام 2021. وعلاقة ألمانيا التجارية مع الصين فريدة من نوعها، فهي قائمة على الصناعة من نواحٍ متعددة، فهي تصدّر إلى الصين المنتجات الاستهلاكية، والآليات التي تستخدم في الصناعة، كما تبيع هذه الآليات كذلك للدول التي تصدّر السلع الاستهلاكية للصين. وهذه العلاقة جعلت ألمانيا ثالث أكبر مصدّر عالمي وساهمت في نموها الاقتصادي بشكل عام ونموها الصناعي بشكل خاص. وعندما عانت الصين اقتصاديا خلال العامين الماضيين، تأثرت ألمانيا وبشدة كما لم تتأثر دولة أخرى، كونها عانت من جميع هذه النواحي الثلاث.

والصناعة الألمانية تضررت كذلك كما كان متوقعا من الأزمة الروسية الأوكرانية، فقد أدمنت ألمانيا على الطاقة الرخيصة المولّدة من الغاز الروسي، وألمانيا تعتمد بشكل كبير على الصناعات ذات الاستخدام الكثيف للطاقة مثل البتروكيماويات، ويكفي معرفة أن مصنعا واحدا ألمانيا وهو (بي أي إس إف) في مدينة لودفيغسهافن الألمانية يستهلك يومياً من الطاقة ما تستهلكه سويسرا بأكملها. ولذلك فمن غير المستغرب أن تتأثر الصناعة الألمانية سواء كثيفة الاستخدام للطاقة أو غيرها، فنقص إنتاج الأولى نحو 17 في المائة مقارنة بإنتاج بداية عام 2022، بينما انخفض الإنتاج الصناعي لألمانيا بأكملها نحو 7 في المائة مقارنة بمنتصف عام 2019. ولذلك فإن العديد من المصانع الألمانية حاليا تبحث عن بدائل للانتقال خارج البلاد بحثا عن مناطق تقل فيها نسبة عدم اليقين، وتزيد فيها فرص الوصول الآمن للطاقة ذات السعر المعتدل. وتشير الإحصائيات إلى أن معدل الاستثمارات الأجنبية انخفض في العامين الأخيرين بنسبة 50 في المائة، وهي نسبة مخيفة دون أدنى شك، وهي مؤشر على أن الوضع الراهن جعل الشركات تحجم عن الاستثمار في ألمانيا.

والنموذج الألماني يعتمد بشكل كبير على الصناعة، وعلى رغبة المستهلكين في الصناعات الألمانية، وهو ما جعل الصناعات الألمانية خاضعة ومرتبطة بشكل شبه كامل بنمو الطلب العالمي. ولذلك وعندما تأثر العالم بعدد من المشكلات التي جعلته تحت الضغط الاقتصادي، كانت الصناعات الألمانية في طليعة القطاعات المتضررة. وما زاد الطين بلة أن ألمانيا وضعت ثقلها في هذا القطاع دون أن تنوع في قطاعات أخرى. فقطاع التقنية في ألمانيا على سبيل المثال متأخر مقارنة بالدول الأوروبية، وجاءت ألمانيا في المركز العاشر في الابتكار خلف دول مثل سويسرا والدنمارك. والسبب في ذلك ليس قلة الأفكار الابتكارية في ألمانيا، فهي أكبر دولة من ناحية إنتاج براءات الاختراع في أوروبا، ولكن تحويل هذه البراءات إلى أعمال تجارية لا يتناسب مع دولة صناعية متقدمة، والسبب في ذلك هو ضَعف الدعم الحكومي لهذه الابتكارات. وتأسيس الأعمال التجارية نفسها معقدة في ألمانيا حيث تبلغ المدة المطلوبة لإنشاء شركة نحو 120 يوما من الإجراءات الحكومية، مقارنة بـ40 يوما في دول مثل إيطاليا واليونان.

وليست الصناعة الألمانية وحدها التي تأثرت، فقطاع الإنشاءات في ألمانيا نال نصيبه من الوضع الاقتصادي، لأسباب منها ارتفاع نسبة الفائدة. وتكمن أهمية هذا القطاع في أنه يشكل نحو 6 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي، ويوظف واحدا من كل عشرة موظفين. وتشير الدراسات إلى أن أداء هذا القطاع انخفض إلى أقل مستوياته منذ منتصف عام 2005، وقد ألغيت نحو 22 في المائة من المشاريع السكنية في ألمانيا هذا العام وهي أكبر نسبة منذ بداية التسعينات الميلادية، كما انخفضت الطلبات الجديدة للإنشاءات. وقد عانى هذا القطاع في السابق من البيروقراطية الحكومية، حيث تستغرق تصاريح الإنشاءات في ألمانيا أطول من مثيلاتها في الدول الصناعية بنحو 50 في المائة. كما أن ارتفاع معدل الديون الحكومية وتشديد الدول على معايير الديون وضع قطاع الإنشاءات في حرج لكونه أحد أكثر القطاعات اعتمادا على الديون.

إن الوضع الاقتصادي في ألمانيا لا يتناسب مع طبيعتها كأقوى اقتصاد أوروبي، وأسباب الوضع الاقتصادي لا ترتبط بالأحداث العالمية، بل بهيكلة الاقتصاد الألماني نفسه والسياسات الحكومية المتبعة في السنوات الماضية. فألمانيا لم تستثمر في اقتصادها كبقية الدول الأوروبية، ولذلك فإن العام المقبل لن يختلف عن هذا العام كثيرا مهما كانت التغيرات العالمية. والخيار الوحيد لألمانيا للخروج من هذا المأزق هو إعادة هيكلة اقتصادها ليتناسب مع التوجهات المستقبلية للعالم، بالطبع دون إنكار أهمية صناعاتها الجوهرية.

 

د. عبد الله الردادي

بديل التعميم 151، «بلومبرغ»… ورفع سعر الصرف

ثلاث قضايا على المستوى النقدي والمالي، تستأثر بالاهتمام الشعبي في هذه الفترة، الاولى تتعلق بالتعميم 151 الذي انتهى مفعوله في نهاية 2023، ولم يتمّ تجديده. الثانية تتعلّق بقرب موعد بدء عمل منصّة «بلومبرغ» وتأثير ذلك على سعر الصرف. والقضية الثالثة، اعتماد سعر منصّة صيرفة الوارد في موازنة 2024، كسعر رسمي موحّد للدولار في كل المعاملات.

منذ اندلاع أزمة الانهيار رسمياً في آذار 2020، مع إعلان الدولة اللبنانية التوقف عن دفع سندات دينها بالدولار (يوروبوند)، كان يُفترض ان تتولّى الدولة زمام الامور، وأن تباشر الإجراءات الآنية المطلوب اتخاذها في حالات من هذا النوع، لكنها لم تفعل وتقاعست، وتركت للمصرف المركزي ان يتصرّف بما يراه مناسباً. وهكذا باشر مصرف لبنان في حينه، اتخاذ الاجراءات التي اعتبر انّها ضرورية لتسيير الامور بالتي هي أحسن، بانتظار خطة الدولة للخروج من الأزمة. وجاءت معظم الإجراءات على شكل تعاميم، او حتى قرارات كانت تتبلّغها المصارف، وتعمل بموجبها.

ومن ضمن هذه التعاميم، صدر التعميم 151 لتنظيم سحب الاموال من الودائع الدولارية في المصارف. وكان الهدف المُعلن منه، تسهيل امور الناس. وللتوضيح فإنّ المركزي هو من قرّر ان يكون السحب بالليرة وليس بالدولار، وهو من حدّد سعر السحب.

اليوم، هناك نقاش في احتمال إصدار تعميم بديل. ويبدو انّ مصرف لبنان يريد ان يتمّ السحب بالدولار، وفق سقف شهري لا يتجاوز الـ150 دولاراً من كل حساب. لكن الإشكالية في هذا الموضوع، تكمن في النقاط التالية:

اولاً- أي قرار بتنظيم سحب الدولارات من دون وجود أفق لخطةٍ توضح المسار المالي، قد يعني ببساطة الاستمرار في النزف وصولاً الى مرحلة نضوب الاموال، وفقدان الامل بأية خطة لضمان حقوق المودعين، او حتى على الاقل صغار المودعين.

ثانياً- انّ تعميم السحب على كل الحسابات المصرفية، المؤهل منها وغير المؤهل، يعني ببساطة انّ كل الذين اشتروا شيكات مصرفية بـ11% من سعرها، سوف يجنون ارباحاً غير مستحقة، مقابل خسائر غير مبرّرة سيتعرّض لها المودع الذي باع الشيك. وهنا لا بدّ من الاشارة، الى انّ البعض كان ينصح في الفترة الاخيرة بشراء شيكات مصرفية، مُلمّحاً الى انّ قراراً ما سيصدُر وسيسمح لهم بتحقيق أرباح كبيرة.

ثالثاً- اصبح اي اجراءٍ ترقيعي خارج إطار الخطة الشاملة، لا يخلو من الاضرار الجانبية الجسيمة، وبالتالي، اذا لم تواكب «الدولة» الإجراءات الاستثنائية الناتجة اصلاً من استمرار غياب دورها، لن تكون النتائج ايجابية في المحصلة.

في موضوع منصّة «بلومبرغ»، لا شيء استثنائياً، ما دامت المنصّة مجرد وسيلة لتنظيم العرض والطلب. ويعمل المركزي حالياً على تجاوز العرقلة التقنية التي ارتبطت بتداعيات حرب غزة. وفي كل الأحوال، لن تكون المنصّة مسؤولة عن ارتفاع او انخفاض سعر الصرف، بل انّها قد تساهم في مزيد من الشفافية في السوق المالي، وقد تخفّف قليلاً من مخاطر الاقتصاد النقدي (cash economy).

في موضوع تغيير سعر الصرف الرسمي للدولار، واعتماد دولار منصّة صيرفة، اصبح واضحاً انّ مصرف لبنان ينتظر صدور موازنة العام 2024، لكي يتبنّى واقع تغيير وتوحيد سعر الصرف. وهذا الامر مطلوب من قِبل صندوق النقد الدولي. لكن الإشكالية هنا تكمن في زيادة الضغط المعيشي على المواطنين، بسبب ارتباط بعض الضرائب والرسوم بسعر الصرف الرسمي. بالاضافة الى ذلك، لا بدّ من اجراءات تمنع حصول ثغرات في ميزانيات الشركات والمؤسسات المالية. وهناك من يسأل عن جدوى رفع سعر الصرف في هذا التوقيت، إذا كان الاتفاق مع صندوق النقد مؤجّلاً، بما يعني انّ الخطة الاقتصادية الشاملة لن ترى النور قريباً. وبالتالي، ليس مفيداً ان تتعرّض المؤسسات لأي خلل بنيوي يعيق استمرارها.

في المحصّلة، لا تكمن المشكلة في الإجراءات التي قد يتخذها مصرف لبنان، بل في تقاعُس الدولة عن القيام بدورها. وبعد 4 سنوات على الانهيار، لم يعد ممكناً اتخاذ اجراءات مجتزأة، بل صار المطلوب صدور سلّة متكاملة تشمل كل الخطوات التي ينبغي ان تواكب الخطة الشاملة. وبعد تقرير «الفاريز» الجنائي، وبعد الدراسة الصادرة عن جامعة «هارفرد»، وبعد البيان الاخير لمصرف لبنان في شأن تبيان وضعه المالي حتى نهاية العام 2023، لم يعد متاحاً صدور اية خطة لا توضح فيها الدولة قرارها في شأن كيفية التعاطي مع ديونها ومع المستحقات المتراكمة عليها لمصرف لبنان، لأنّه في ضوء هذا القرار يمكن تحديد مصير الودائع والمودعين، ومصير الاقتصاد في السنوات المقبلة.

أنطوان فرح

شروط استدامة الدولرة الشاملة: دروس دولية مفيدة للبنان…

صحيح أنّ نظام «الربط الصارم» وتحديد منه الدولرة الشاملة هو خيار يصله البلد المعني يحصل بعد استنزاف فعالية أي نظام آخر قادر على إعادة الاستقرار النقدي، إلا أن الرهان على نجاحه يحتاج سلسلة عناصر:

• المصداقية السياسية

من الممكن أن تستفيد البلدان التي عانى فيها صناع السياسات تاريخياً من الافتقار إلى المصداقية السياسية، وخاصة في المجال النقدي، من الانضباط الذي يفرضه نظام «الربط الصارم» Hard Peg.

نظام نقدي متشدد مثل مجلس النقد أو الدولرة الشاملة يفرض قمة الانضباط للمالية العامة لأنه يمنع اللجوء الى المصرف المركزي وتغطية العجوزات المالية أو تمويل الدين العام عبر طباعة العملة الوطني… فذلك يلتزم صناع السياسات بمصداقية بالاستقرار النقدي والانضباط.

• تجربة التضخم

البلدان التي تتجه نحو الدولرة هي بمعظمها تعاني تجربة تضخّم مفرط يفقد الثقة بالعملة الوطنية.. إنّ دولاً مثل بلغاريا وغيرها اختارت إنشاء مجلس نقد كحل فيما بلدان من الاكوادور اعتمدت الدولرة الشاملة الرسمية بنجاح.

• نظام سعر الصرف الحالي

حتى لو تمكنت دولة ما من الدولرة باستخدام أي نظام لسعر الصرف، فإنّ نجاح مجالس النقد أو أسعار الصرف الثابتة بشكل موثوق تشير إلى أن البلد قد أثبت بالفعل التزامه بعملة مستقرة.

وبالتالي، تكلفة التحول الإضافية من أسعار الصرف الثابتة أو مجالس نقد نحو الدولرة الشاملة أقل من تلك التي يتم الحصول عليها من أنظمة أسعار الصرف الأكثر مرونة.

• تغطية احتياطيات القاعدة النقدية

الحد الأدنى من معايير الدولرة هو أنّ احتياطيات النقد الأجنبي للدولة التي تعتمد على الدولرة يجب أن تغطي على الأقل القاعدة النقدية (أو العملة المتداولة). ومع ذلك، فإنّ بعض البلدان التي قد تكون مرشحة جيدة للدولرة قد لا تحقق هذا الهدف، وفي هذه الحالة قد تفكر في اقتراض الاحتياطيات اللازمة من مصادر رسمية أو دائنين من القطاع الخاص.

• صلابة النظام المصرفي

إنّ وجود نظام مصرفي قوي وتنافسي وخاضع للإشراف والتنظيم الجيد هو شرط مهم لنجاح الدولرة الشاملة. إنّ التواجد الكبير للمصارف الأجنبية في اقتصاد يعتمد على الدولار يمكن أن يساعد لأنه: (أ) سوف يقلّل من مخاطر الأزمات المصرفية؛ (ب) سوف يقدم الدعم الضمني لمقرض الملاذ الأخير.

• مدى الدولرة غير الرسمية

كلما زادت الدرجة الحالية من الدولرة غير الرسمية، زادت فوائد تخفيض قيمة الصرف وزادت الفوائد المحتملة للدولرة الرسمية. وإذا تم استخدام الدولار بالفعل كوحدة حسابية ووسيلة للدفع ومخزن للقيمة، فسيتم تقليل تكاليف التحول إلى الدولرة الرسمية إلى الحد الأدنى. كما انّ دولرة الالتزامات تزيد من فوائد الدولرة الكاملة. وعلى وجه الخصوص، فإنّ البلدان غير القادرة على الاقتراض طويل الأجل بعملاتها الخاصة (بلدان «الخطيئة الأصلية» في المصطلحات الهوسمانية) من الممكن أن تستفيد أيضاً.

• القدرة على العمل كمقرض الملاذ الأخير بعد الدولرة

على الرغم من أنّ الدولة التي تعتمد على الدولار تكون بشكل عام أكثر محدودية في قدرتها على تزويد مُقرضي الملاذ الأخير بالخدمات لنظامها المصرفي، إلّا أن مثل هذه الوظيفة يمكن القيام بها حتى في سياق الدولرة.

أولاً، إذا تجاوزت احتياطيات النقد الأجنبي ما هو مطلوب لتغطية القاعدة النقدية. ثانياً، تستطيع الدولة المعتمدة على الدولار أن تعمل على بناء احتياطيات من السيولة عن طريق الاقتراض من القطاع الخاص (خطوط الائتمان الخاصة الطارئة) أو المؤسسات المالية الدولية.

ثالثاً، يمكن للتغيرات في نسَب متطلبات الاحتياطي أن توفّر المزيد من السيولة للنظام المصرفي.

رابعاً، بموجب اتفاقية تقاسم عائدات رسوم سك العملة، من الممكن استخدام القيمة المخفضة لتدفق مدفوعات رسوم سك العملة في المستقبل كضمان لخطوط الائتمان مع الدائنين من القطاع الخاص و/أو العام.

• تكلفة الإيرادات من فقدان رسوم سك العملات seigneuriage

إنّ الدولرة التي تحدث من دون تقاسم رسوم سك العملات مع الولايات المتحدة ستعني ضمناً خسارة إيرادات هذه الرسوم. وبالنسبة للبلدان حيث تمثّل هذه الرسوم جزءاً كبيراً من الإيرادات العامة، فإنّ مثل هذه الخسارة تخلّف عواقب وخيمة على الميزانية. أما إذا كان البلد أساساً جداً مدولر بأكثر من حوالى 90 % كما هي حال لبنان فهذا يعني أن خسارة سك العملة ضئيلة لأنها تقتصر على 10% من السيولة المتبقية بالعملة الوطنية.

• ملاءة البنوك المركزية في غياب تقاسم رسوم سك العملات

هناك جانب آخر لخسارة رسوم هذا السك يجب مراعاته، وهو كيفية تأثير هذه الخسارة على ملاءة البنك المركزي في الاقتصاد المدولر. القيمة الحالية لرسوم سك العملات المستقبلية هي أحد الأصول للبنوك المركزية التي لا تظهر في الميزانيات العمومية الحالية للبنوك المركزية. ومن المهم المحافظة على وظائف المصارف المركزية (مثل الإشراف/التنظيم، وتأمين الودائع، ومقرض الملاذ الأخير، وتحديد متطلبات الاحتياطي) يجب ضمانها حتى في الاقتصاد المدولر بشكل شامل.

• حالة المالية العامة

كلما انخفض عجز الموازنة وحجم الدين العام، كلما انخفض خطر فشل الدولرة. والواقع أنّ الظروف المالية غير المستدامة من الممكن أن تدفع السّاسة وصنّاع السياسات إلى عكس اتجاه الدولرة، والعودة إلى العملة الوطنية حتى يتمكنوا من استئناف الطباعة (إستعادة القدرة على الوصول إلى ضريبة التضخم). ومن الممكن أن تؤدي المشكلات المالية الخطيرة أيضًا إلى تقويض ثقة الجمهور في السلطات المالية وتؤدي إلى أزمة مالية مرتبطة بأزمة الديون الخارجية (وهي نقطة يتم تناولها بمزيد من التفصيل في القسم التالي). ويمكن أيضا أن تحد من القوة المالية.

• الدين الخارجي واحتياجات التمويل

إنّ رصيد الديون الخارجية للدولة التي تعتمد على الدولرة وخدمة ديونها الخارجية سيؤثران على نجاح الدولرة. وفي حين أنه من الممكن الحد من ظواهر مثل «التوقف المفاجئ» لتدفقات رأس المال والانتكاسات المفاجئة لتدفقاته إذا تخلى بلد ما عن عملته الوطنية، فإنّ احتمال حدوث أزمات مالية مرتبطة بالصرف المفرط لا يمكن استبعادها مع الديون الخارجية.

• القدرة على اتّباع سياسة نقدية لمواجهة التقلبات الدورية بنجاح

إنّ معيار نجاح الدولرة في المساهمة بالاستقرار يَكمن في تقييم ما إذا كانت ستقلّل من القدرة على تهدئة تقلبات الإنتاج. ولذلك فهو معيار مناسب لتقييم الفرصة (إن لم يكن مدى استعداد البلاد) للدولرة. وستعتمد هذه القدرة على عدد من العوامل: درجة الدولرة غير الرسمية للاقتصاد، ومصداقية صانعي السياسات، ودرجة ربط الأجور، ودرجة تأثير أسعار الصرف على الأسعار المحلية.

• إرتباط دورة الأعمال بدورة الأعمال الأميركية

تنخفض الحاجة إلى تعديل سعر الصرف إذا كانت الدورة الاقتصادية لبلد يعتمد على الدولار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدورة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية. وتعتمد درجة التزامن الاقتصادي بدورها على عوامل هيكلية، مثل درجة التكامل التجاري والتشابه في هيكل الإنتاج.

• التكامل التجاري مع الولايات المتحدة

إنّ أفضل مرشّح للتبادل التجاري والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية هو البلد الذي يلجأ إلى الدولرة. إنّ المزيد من التكامل التجاري يعني ضمناً قدراً أعظم من التزامن بين الدورة الاقتصادية للاقتصاد المعتمد على الدولار مع الدولة الرئيسية. علاوة على ذلك، يرتبط التكامل التجاري عمومًا بزيادة النمو المالي ورأس المال.

• التعرّض لصدمات شروط التجارة

تؤدي القابلية للتأثر بصدمات معدلات التبادل التجاري دورًا غامضًا، فمن المُحتمل أن تكون فوائد الدولرة أكبر بالنسبة لتلك الاقتصادات الصغيرة المفتوحة التي تتقبّل الأسعار في الأسواق الدولية. ومن ناحية أخرى، قد تكون هناك حاجة إلى صدمات كبيرة لشروط التبادل التجاري (وسيتم استيعابها بنجاح) من خلال التعديل النقدي إذا كانت الدولة تتمتّع ببعض القوة السوقية عند التصدير (و/أو إذا لم يكتمل انتقال انخفاض الأسعار المحلية).

• الانفتاح على التجارة

إنّ المزيد من الانفتاح على التجارة، قياساً بنسبة الصادرات/الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي، من الممكن أن يؤدي (مع بعض المحاذير) إلى تعزيز حالة الدولرة لعدد من الأسباب. أولاً، الاقتصادات التي تتمتع بحصة كبيرة من التجارة الدولية هي عموماً اقتصادات صغيرة ومفتوحة وليس لديها قدرة تذكر على التأثير على شروط التبادل التجاري. ثانياً، كلما كان الاقتصاد أكثر انفتاحاً، كلما انخفض تأثير انخفاض القيمة الاسمية على الأسعار المحلية، وبالتالي انخفضت الفوائد المترتبة على انخفاض القيمة الاسمية – التعديل النقدي. ثالثاً، كلما زادت حصة القطاع المتداول، زاد التنويع.

• مرونة أسواق العمل

في غياب آلية لسعر الصرف، إنّ الصدمات الخارجية التي تتطلب تغييرا في القيمة الحقيقية للأجور و/أو تنقل العمالة بين القطاعات لن يكون لها آثار دائمة على معدل البطالة إذا كانت أسواق العمل مَرنة بما فيه الكفاية. وقد تحتاج هذه المرونة إلى أن تأخذ شكل مرونة هبوطية في الأجور الاسمية (للحَث على تخفيض الأجور الحقيقية إذا لزم الأمر).

• درجة هجرة اليد العاملة

قد تكون درجة تنقّل العمالة مهمة لأن عددًا من الدول الأميركية لديها أعداد كبيرة من العمّال المهاجرين القانونيين (وغير القانونيين) المؤقتين والدائمين الذين يمكنهم التنقل بين الولايات المتحدة وبلدهم الأصلي.

إنّ انتشار مغتربين للبلد المدولر كلياً يسهم في إدخال تحويلات دولارية إليه تعزز السيولة بالعملة الصعبة.

• درجة حركة رأس المال

من الممكن أن يعوّض الحراك الدولي لرأس المال الحقيقي، جزئياً، عن الافتقار إلى قدرة اليد العاملة على الحركة عبر البلدان. ويمكن تعديل الصدمات التي تتطلب حركة العمالة عبر الحدود جزئياً من خلال تحركات رأس المال الحقيقية.

• العوامل السياسية

يتطلّب نجاح الدولرة الشاملة مستوى عالياً من الدعم الشعبي؛ مساحة واسعة ومفتوحة من النقاش المسبق والشفافية في إعلان آلية وروزنامة الانتقال التدريجي اليها.

في الواقع، يصعب أن يكون الدعم السياسي للدولرة واسع النطاق علناً نظراً لحرص القوى السياسية على إظهار خطاب السياسة النقدية والتمسّك بالعملة الوطنية. لذا، تتجّه البلدان المماثلة الى ترك السوق يفرض الدولرة شبه الشاملة بشكل غير رسمي ويصبح الإقرار بها نوعاً من مواكبة مطلب شعبي لتسهيل التعامل في الاقتصاد…

يبقى القول، انّ نظام «الربط الصارم» إنْ كان عبر «مجلس نقد» أو «دولرة شاملة» يصبح أحياناً ضرورة ملحّة للاستقرار النقدي، إلا انه ليس عصا سحريا بل انّ نجاحه يتطلّب سلة شروط إصلاحية مواكبة مثلما سبق ذكره. في لبنان، اختيار نظام سعر صرف جديد باتَ حاجة ملحّة كما أنّ الاستعداد الى مواكبته بالاصلاحات الضرورية التي من شأنها السماح بنجاحه وفعاليته أمر أكثر إلحاحاً…

د. سهام رزق الله

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات