صناعة الطاقة العالمية قبل عام 2023 وبعده

تشكل الفترة الزمنية الحالية مرحلة تغيير مهمة في تاريخ صناعة الطاقة العالمية. وقد بدأت بالفعل تتغير هذه الصناعة تدريجياً وبطيئاً منذ قرارات «مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ (كوب)» في باريس عام 2015.

انعقد «مؤتمر باريس» في ظل حملة عالمية ضخمة لا تدعو فقط لمكافحة تغير المناخ؛ بل ضمت أيضاً حملة لوقف استهلاك الوقود الأحفوري (النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم الحجري) دون إعارة اهتمام كافٍ لمصادر الطاقة الأخرى؛ إذ جرى اعتبار الوقود الأحفوري السبب الرئيسي والأساسي للتلوث العالمي، مما أدى إلى تبني معايير غير متوازنة لمعالجة مكافحة تغير المناخ. فقد استثنيت مصادر طاقوية أخرى من مسؤولية التلوث، أو همشت تأثيراتها على تغير المناخ، مما أدى إلى تمييزها عن الوقود الأحفوري بعدم شمولها بإجراءات منع استعمالها في عصر «تصفير الانبعاثات».

تغيرت وجهات النظر نحو الوقود الأحفوري تدريجياً منذ «مؤتمر باريس» عام 2015، نتيجة التجارب العالمية الصعبة مع جائحة «كورونا»، ثم نشوب حرب أوكرانيا، والآن معركة غزة. والتغيير الأول الذي حدث هو الزيادة المستمرة في الطلب والإحساس العالمي المادي بضرورة استعمال البترول (النفط والغاز) بالذات لتلبية الارتفاع المستمر في الطلب العالمي السنوي على الطاقة، وأن الطاقات المستدامة (مثل طاقتي الشمس والرياح) مفيدة ومساعدة، لكن غير وافية أو مرنة لتلبية الطلب العالمي المزداد على الطاقة، خصوصاً خلال الأزمات والتقلبات الجوية. لكن هذا الشعور بالحاجة الماسة للبترول لم يكن وحده كافياً للإقرار بالحقائق الجديدة الصعبة إثر جائحة «كورونا» وإغلاقاتها أو ارتباك الأسواق إثر نشوب حرب مدمرة في أوروبا. ولم يكن سهلاً على الدول الصناعية الغربية الاعتراف علناً بتقصيرها في محاولة إيقاف استعمال البترول، بل استمرت هذه المجموعة من الدول، مستغلة شعار مكافحة التغير المناخي، في محاولتها «تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 من دون البترول».

على أثر ذلك، تحملت الدول المنتجة والشركات المسؤولية في توفير الدليل بأنه «بالإمكان إنتاج بترول منخفض الانبعاثات» ويجري هذا حالياً وبالفعل عبر تشييد وتطوير صناعة «تدوير الكربون». من ثم؛ يستنتج أنه من الممكن استمرار الاعتماد على البترول مع انبعاثات منخفضة لثاني أكسيد الكربون من خلال التقاط الكربون من البترول المنتج، فتخزينه في الآبار والكهوف الفارغة، وهي الوسيلة التي تبنتها بعض كبرى الدول النفطية والشركات، التي عبدت الطريق المتعثرة سابقاً أمام التوصل إلى قرار مؤتمر «كوب28» في دبي لاستمرار استعمال البترول منخفض الانبعاثات.

وهذا سيعني أننا أمام مرحلة طاقة جديدة؛ فبعد هيمنة الفحم الحجري خلال القرن التاسع عشر والبترول في القرن العشرين، فإن العالم اليوم سيبدأ التنافس بين البترول منخفض الانبعاثات والطاقات المستدامة (الرياح والشمس) من خلال المجال السعري، عبر الاحتياطات المتوفرة لكل مصدر طاقوي والتفوق العلمي بالذات لتطوير صناعة تدوير الكربون وتخفيض تكلفتها، بالإضافة إلى إمكانية الدول المنتجة في توفير الإمدادات بطرق مستمرة دون انقطاعات.

كما أن هذا سيعني أيضاً أنه سيتوجب على أكبر عدد من الدول المنتجة للبترول تبني صناعة «تدوير الكربون» لاستعماله لاحقاً دون انطلاق الانبعاثات جواً. وهذه عملية صناعية حديثة العهد؛ لكن تحت التشييد والتطوير. وهي ضرورية نظراً إلى ضخامة الاحتياطات البترولية التي لا تزال كامنة تحت الأرض، وإلى المنشآت التي قد جرى استثمار مليارات الدولارات فيها عالمياً.

يأتي الاعتراف في «كوب28» بتقليص الانبعاثات الكربونية للبترول بفاتورة بالغة التكاليف للدول المنتجة، لكنها مهمة لاستقرار الصناعة والاعتراف بها وبمستقبلها رسمياً، بعيداً عن استمرار الاحتجاجات والضغوط.

كما تأتي هذه المرحلة الجديدة مع مسؤوليات جمة على الدول الأخرى أيضاً؛ خصوصاً الصناعية منها، التي انطلق التلوث المناخي منها مع بدء الحرق الواسع للفحم الحجري مع نشوء الثورة الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة قبل قرنين من الزمن.

لكن، في الوقت نفسه، ستستمر الصعوبات للفترة المستقبلية، فهناك اختلالات في موازين القوى العالمية، مع تعدد الدول الكبرى الطامحة لاحتلال المركز الأول اقتصادياً وسياسياً عالمياً، ومع تقدم اقتصادات عدد من الدول النامية.

وكذلك في الدول الأوروبية، التي لا تجد ضرورة إلى التحول نحو الاستثمار في الطاقات المستدامة قبل أن تحصل على الوقود التقليدي للكهرباء، ومن ثم تطالب بزيادة فرصها في استكشاف وإنتاج البترول محلياً لمساندتها في التمويل، هذا بالإضافة طبعاً إلى عدم كفاية المساعدات والقروض الميسرة من الدول الصناعية لتمويل برامجها للطاقات المستدامة، في حال إقرار تشييدها عندها.

وفي مجال مكافحة التغير المناخي، تكمن مسؤولية كبرى على الدول ذات الغابات الشاسعة في العناية بهذه الغابات التي تساعد أشجارها في توفير الأكسجين واحتواء ثاني أكسيد الكربون. أما بالنسبة إلى الدول العربية، فإن هذا التحول في صناعة الطاقة يوفر فرصة مهمة للدول النفطية، وغير النفطية منها، لما لعبه البترول من دور في التنمية العربية خلال القرن الماضي، رغم الفرص الضائعة الكثيرة بسبب الحروب الدولية والإقليمية والداخلية التي نكلت بشعوب المنطقة دون هوادة حتى يومنا هذا. وعليه؛ فإن الاعتراف الجماعي الدولي بإمكانية استعمال البترول منخفض الانبعاثات هو مناسبة وفرصة يتوجب انتهازها في الدول العربية.

وليد خدوري

كيف سيكون أداء الأسواق في 2024؟

لقد تحدى عام 2023 العديد من التوقعات، إذ أن الركود في أميركا لم يتحقق، بل سجلت البلاد معدل نمو بلغ 4.9% في الربع الثالث. فالنمو الممتاز دفع أسواق الأسهم لأداء إيجابي وأفشل الارتباط السلبي بين الأسهم والسندات.

كما أن إعادة فتح الصين في مرحلة ما بعد كوفيد-19 لم يحفز النمو أو التضخم العالمي، وأنهى اقتصاد الصين العام مع انكماش وأزمة عقارية متفاقمة.

الأسهم

كان التطور البارز هذا العام هو ظهور ChatGPT، الذي دفع الذكاء الاصطناعي إلى واجهة حياتنا اليومية. وأنهى مؤشر ناسداك 100 العام عند أعلى مستوى له على الإطلاق، مدفوعًا بشكل كبير بقطاع الذكاء الاصطناعي، مع ظهور إنفيديا كأفضل أداء لهذا العام. حيث ارتفعت أسهم الشركة بنسبة تزيد عن 350%، متفوقة حتى على أداء البتكوين.

وكان أداء 72٪ من الأسهم في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 أقل من أداء المؤشر هذا العام. وهذه هي أعلى نسبة لمكونات المؤشر التي كان أداؤها أقل من أداء المؤشر منذ عام 1980، وحتى في ذروة فقاعة الدوت كوم لم يتجاوز هذا المقياس نسبة 70%.

يأتي هذا مع ارتفاع مؤشر “ماجنيفيسنت 7” (مايكروسوفت وأبل وأمازون وميتا وجوجل وتيسلا وانفيديا) بأكثر من 20 مرة مقارنة بمؤشر ستاندرد آند بورز 493 في عام 2023.

وتمثل أكبر 10 أسهم في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الآن 35% من المؤشر بأكمله، وهو ما يعني أن هناك عدد قليل من الأسهم تقود السوق بأكمله. كما أدى أداء هذه المجموعة إلى تحقيق مؤشر ناسداك 100 أنجح عام له منذ عام 1999، مسجلاً زيادة قدرها 7 تريليونات دولار. بينما مؤشر ستاندرد آند بوروز 500 فسجل مكاسبه للأسبوع التاسع على التوالي – وهي أطول سلسلة منذ 20 عامًا.

وارتفع سهم أمازون بنسبة 83% في عام 2023 بعد أن خسر نصف قيمته في عام 2022.

من المقرر أن يكون أداء الأسهم  مرتبطاً تماماً في عام 2024 بتحركات الفيدرالي، إذ تتوقع الأسواق أن يبدأ البنك خفض أسعار الفائدة في وقت مبكر مع احتمال يزيد عن 85٪.

ويعطي تخفيض الفائدة الإيجابية عادةً لأداء المؤشرات، خاصةً بعد التخفيض الأول لسعر الفائدة، لكن استدامة المكاسب ستعتمد على الأساسيات الاقتصادية الأساسية.

وتعد المعدلات المنخفضة أمرًا جيدًا لتقييمات المؤشرات باستثناء عندما يدخل الاقتصاد في حالة ركود خلال الـ 12 شهرًا القادمة. أي أن انخفاض عائدات الولايات المتحدة سيكون داعمًا لتقييمات المؤشرات طالما بقى الاقتصاد قويًا، وصمدت توقعات الأرباح.

العملات

وفي سوق العملات، شهد الدولار الأميركي عامه الأسوأ منذ عام 2020، فيما أنهى الذهب العام بالقرب من أرقامه التاريخية.

ووصل اليورو مقابل الدولار الأميركي فوق 1.10، فيما اختبر الدولار مقابل الين الياباني ولكنه لم يتمكن من تجاوز مستوى الدعم 140.

ومن المقرر أن يكون عام 2024 متأرجحاً بالنسبة للعملات. إذ أن الأسواق تبدأ تسعير تخفيض أسعار الفائدة، لكن يبقى السؤال من سيخفض الفائدة أولاً وكم ستصل أسعارها؟

يبقى الطرح مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً مع أرقام التضخم من ناحية والنمو من ناحية آخرى. إذ أن النمو الاقتصادي السلبي في بريطانيا وأوروبا قد يضغط على سياسة البنوك المركزية خوفاً من دخول الركود. بينما قد يمتلك الفدرالي الأميركي الوقت لمتابعة حالة الاقتصاد خاصة وأنه على ضفاف الأرقام الإيجابية.

فقد تكون كلمة السر في عام 2024 هي الركود لتحريك السياسات النقدية نحو التيسيرية، وستكون بريطانيا والاتحاد الأوروبي تحت المجهر أولاً.

من ناحية آخرى، فورقة الصين الرابحة هي الاعتماد على دورة تسهيلية في السياسة النقدية، إذ أن كل ما يحيط بالاقتصاد سلبياً حالياً، لذلك فإن تخفيض الفائدة هو الحل الأمثل.

أما في اليابان، فقد يخرج بنك اليابان من الفائدة السلبية ويعتمد رفع الفائدة بعد وجود التضخم أعلى من مستهدفات البنك لأكثر من عام. ففي حال اعتماد رفع الفائدة سيكون هو البنك الوحيد بين الاقتصادات الكبرى الذي يعتمد التشديد في الوقت الذي ستتجه فيه البنوك للتيسير، لذلك قد يكون الين الياباني هو الحصان الأسود في عام 2024.

النفط

وفي مجال الطاقة، سجل النفط الخام أول انخفاض سنوي له منذ عام 2020؛ إذ استمرت جهود أوبك للحد من الإنتاج والتوترات الجيوسياسية المتزايدة في الشرق الأوسط غير فعالة لتعزيز الشهية للنفط هذا العام.

وتبقى إمدادات الخام العالمية والطلب في 2024 هما المحركان الأساسيان للنفط، إذ أن اختناق الإمدادات جراء التوترات في البحر الأحمر ونمو الطلب والتزام أوبك+ بالتخفيض الطوعي قد يكونون دافعاً إيجابياً لتحركات النفط المستقبلية.

أحمد عزام
محلل أول لأسواق المال في مجموعة إكويتي

3 نصائح مالية قبل أن تدخل 2024

مع التوجه إلى العام 2024، يتعين على المستهلكين وضع ميزانياتهم وسداد الديون وتوفير المال، وذلك من أجل تعزيز مواردهم المالية الشخصية، كما تقول كبيرة الاقتصاديين في The Conference Board، دانا بيترسون.

تشير بيترسون إلى خطة عمل مكونة من ثلاث نقاط، وتعتقد بأنها مهمة للأسر نظرًا لوجود “خطر كبير للركود” في العام 2024، ربما في النصف الأول من العام. ومع ذلك، من المحتمل ألا يستمر هذا الركود طويلاً، فقدرت أنه سينتهي في النصف الثاني من العام.

أولاً- الميزانية:

تبعاً لبيترسون، فإن المستهلكين يمكنهم الاقتصاد، من خلال النظر في ميزانياتهم الأسبوعية وتقليص النفقات حيثما أمكن ذلك.

وترى أن ذلك قد يشمل إعادة النظر في شراء العناصر ذات العلامات التجارية، علاوة على التحول إلى أنواع مختلفة من الترفيه، مثل بث الأفلام في المنزل بدلاً من الخروج إلى السينما، على سبيل المثال.

أثر التضخم في عصر الوباء على ميزانيات الأسر بأسرع وتيرة منذ 40 عامًا. وعلى الرغم من انخفاضه بشكل كبير من ذروته في صيف 2022، فمن المرجح ألا يتراجع التضخم بالكامل إلى المستوى المستهدف عند حوالي 2% حتى وقت ما من العام المقبل.

ثانياً- سداد الديون:

رفع بنك الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة بقوة لكبح جماح التضخم. وقد أدى ذلك إلى زيادة تكاليف الاقتراض بشكل كبير بالنسبة للأسر، لكل شيء بدءًا من القروض العقارية وحتى قروض السيارات وقروض الطلاب وديون بطاقات الائتمان.

تقول بيترسون: “ضع أي أموال إضافية لسداد الديون”.. ويوصي الخبراء الماليون عمومًا بإعطاء الأولوية للديون ذات الفائدة الأعلى أولاً، ودفع الفواتير في الوقت المحدد وبالكامل كل شهر، إن أمكن، بحسب CNBC.

ثالثاً: ادخر ما استطعت

أما النصيحة الثالثة التي تقدمها كبيرة الاقتصاديين في The Conference Board، فهي “حتى لو لم يكن لدى المستهلكين الكثير من الدخل المتاح لادخاره، فإن ”كل دولار له أهميته”.

أهم التحدّيات الاقتصادية للعام 24

أضحت العوامل الاقتصاديّة العالمية وتأثيراتها الجانبية الحدث الأبرز في جزء كبير من العالم، ولبنان من الدول الواقعة تحت المجهر الاقتصادي، بخاصة بعد دخوله في نفق الأزمة الاقتصادية التي انفجرت في 17 تشرين الأول 2019.

ومع انقضاء أكثر من أربع سنوات على هذه الأزمة التي أطاحت باقتصاد البلاد وأموال المودعين والعملة المحلية، وتسببت بأزمة معيشية خانقة وارتفاع معدلات الفقر وزيادة حجم التضخّم، يبدو أنّ العام 2024 سيحمل معه تحدّيات اقتصادية بارزة، منها القديمة وأخرى مستجدة، فما هي هذه التحدّيات؟

1- انتخاب رئيس للجمهورية: قد يرى البعض أنّ انتخاب رئيس للبلاد هو عنوان سياسي محض، إلا أنّ هذا الاعتقاد ليس دقيقاً، فلهذا الاستحقاق أبعاد عدّة مرتبطة حكماً بنوع الاقتصاد المستقبلي والدور المقبل للبنان. وبهذا لن تكون أهمية الانتخاب محصورة بانتظام المؤسسات، خصوصاً أنّه يأتي بعد انهيار العام 2019 وانفجار المرفأ وانتهاء الدور الذي كان منوطاً للبنان منذ العام 1945 إلى بداية الألفية الثانية.

2- إقرار موازنة 2024: التحدّي هنا يكمن في تمكّن الحكومة والمجلس النيابي من إقرار موازنة عادلة في ظلّ فراغ رئاسي قد يعقّد الأمور. إنّ هذا الأمر بالغ الأهميّة وفقاً للمنطق العلمي والاجتماعي، وهو يمهّد لاستعادة الدولة هيبتها وقرارها المالي ودورها في الخدمات، ويجب إقرار الضرائب الجريئة والمفيدة، على أن يكون الاقتصاد المحلّي في الوقت نفسه قادراً على تقبّل الموازنة والتكيّف معها.

3- سعر الصرف: التعامل مع سعر صرف، وطريقة توحيده في الموازنة وتأقلم القطاع العام وتقبّل الاقتصاد يعدّ معضلة أساسية، بحيث أنّ ثبات سعر صرف الدولار عند عتبة الـ 89500 ليرة لبنانية حتى الآن يمثّل تحدّياً للمصرف المركزي، وإيقاف طبع الليرة هو التحدّي الأكبر لحماية الاقتصاد ومعالجة التضخم، كذلك إيقاف الاستنزاف لاحتياطي العملات الأجنبيّة وحقوق المودعين.

4- قانون هيكلة المصارف: السنة المقبلة هي «سنة المصارف» بامتياز، وستكون مفصليّة بالنسبة لهذه المؤسسات المالية، إذ أنّ اقتصاد البلاد يحتاج إلى بناء نظام مصرفي جديد يلتزم بالقوانين ويأخذ في الاعتبار دعم القطاعات التي تساعد في تكبير الاقتصاد خارج التحاصص السياسي. والسؤال الأهم: هل تريد المصارف العودة إلى الأسواق في لبنان؟ حيث سنشهد في هذا الإطار نزاع شروط بين صندوق النقد الدولي والمصارف، على أمل ألّا يدفع المودع ثمن هذا الخلاف.

5- الكابيتال كونترول: أصبح عنواناً أساسيّاً للمرحلة، لكنّ التحدي الأكبر يكمن في طريقة إقرار قانون «الكابيتال الكونترول» في ظلّ اقتصاد نقدي وحسابات نقديّة جديدة. وبعد سنوات من الأزمة الطويلة أصبح هذا القانون لزوم ما لا يلزم، إلاّ في حالة اعتماده لحماية المتبقي من الاحتياطات في المصرف المركزي، والتي تبلغ 9 مليارات دولار.

6- الكهرباء: أزمة قطاع الكهرباء يمكن وصفها بالتحدّي الدائم والعبء الاقتصادي والمخرج في الوقت عينه، فهل سنستطيع بناء مصانع حديثة واستجرار الطاقة؟ هذا ملف في ظاهره تقني وفي باطنه الكثير من السياسة والمنافع.

7- الانتظام المالي العام: مصطلح اقتصادي فضفاض وحديث في اللغة العربيّة، والمقصود به كيفية توزيع الخسائر بالنسب بين الدولة والمصارف ومصرف لبنان المركزي، ومن سيتحمّل الجزء الأكبر منها.

8- حماية أصول الدولة: عنوان سيتصدّر المرحلة في ظلّ صراع داخلي بينّ مؤيّد لبيع أصول الدولة وممانع لذلك، مع بروز طرف ثالث يؤيّد تأجير هذه الأصول واستثمارها. لكنّ المشكلة أنّ التجارب السابقة في لبنان أثبتت أنّ «مالنا لنا ومالكم لنا ولكم» على مبدأ «الشراكة الحلبية» الاقتصادية.

9- النفط والغاز: تحدّي النفط والغاز والاستكشاف مستمرّ، مع إصرار بعض الجهات على تسييس هذا الملف، إذ أصبح من الواضح أنّ العراقيل ليست تقنيّة بل مرتبطة بشروط سياسيّة.

10- النزوح السوري: الملف الذي يستنزف الاقتصاد اللبناني بعدما فاقت كلفة النزوح الـ28 مليار دولار منذ العام 2011، كما يُستخدم كورقة ضغط سياسية على سوريا ولبنان، ويدخل ضمن إطار الحلّ الشامل للصراع في المنطقة.

ختاماً، لا يمكن اعتبار لبنان جزيرة معزولة عن العالم، خصوصاً في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزّة وما له من تداعيات لن يكون بلدنا في بمنأى عنها. وحتى لا يكون اقتصاد سنة 2024 امتداداً للسنة الجارية لا بدّ من عقد مؤتمر إنقاذ اقتصادي يحدّد دور لبنان في المستقبل القريب والبعيد، بدلاً من أن يُفرض عليه دور معروف النتائج مسبقاً.

 

زياد ناصرالدين

كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية

2023… والتأقلم مع الوضع الراهن

شارف العام 2023 على نهايته، ولم يتغيّر المشهد اللبنانيّ إلى الأفضل، لكنّه ما زال يتأقلم، ويجاهد، ويقاوم بطريقةٍ إعجازيّة في وجه جميع العوامل الّتي تحطّ من عزيمته الاقتصاديّة، وتأخذ بانهياره الماليّ إلى مستويات أدنى، فنرى اللبنانيّ قادرًا على الابتكار والفرح طورًا بما هو قليل، والتهكّم على الفشل الإداريّ، والضحك على حاله المأساويّ كنوع من تخطّي المصاعب ولو إلى حين.

فعلى الصعيد المصرفيّ، تأقلم المواطن إلى حدٍّ بعيد مع حقيقة تلاشي مدخّراته، ولم يعُد يطالب بها إلّا في مرّاتٍ اضطرّ فيها إلى استعمال القوّة للحصول على مستحقّاته، وأصبح مثل هذا الخبر يمرّ مرور الكرام، كأيّ خبرٍ رياضيّ فيه فائز وخاسر في جولة من لقاءات عديدة، على أمل تغيير قواعد اللعبة بحيث يستطيع المودِع سحب مبالغ «أكبر».

من ناحية أُخرى، تمّ إغلاق منصّة صيرفة بعد أن رفعت الراية البيضاء أمام السوق السوداء، وكانت خطوة «ناقصة» من مصرف لبنان كبّدت الدولة خسائر كبيرة في احتياطيّ النقد الأجنبيّ. وأكّدت على أنّ لا خطط مدروسة تُنفّذ، إنّما مجموعة من التعميمات تفيد مجموعة على حساب غيرها، ولا تُرسي أي حلول مستدامة للنهوض بالأزمة الاقتصاديّة.

وفي الحديث عن الاستدامة، ارتفع الطلب على الطاقة البديلة وخصوصًا على تركيب الخلايا الكهروضوئيّة، واختفى معه السجال على مشاريع الطاقة التقليديّة ومعامل الكهرباء، فلربّما وجدت الأطراف المتصارعة مصدرًا آخر للكسب عن طريق تسهيل ترخيص تركيب أجهزة الطاقة الشمسيّة والعاملة بالرياح، من دون ضوابط أو شروط. فاكتسى لبنان حلّة خضراء في اعتماده على الطاقة النظيفة «مجبرٌ لا بطلٌ»، تؤمِّن معظم تكلفة تركيبها الباهظ أموال المغتربين، رغبةً منهم أن يعيش أهلهم في ظروف أفضل. بالطبع، من دون أن ننسى مسلسل رفع الدعم عن المشتقّات النفطيّة، وغياب الحديث عن أزمة استيراد الوقود أو تهريبه.

وفي الحديث عن البدائل، لم يجد لبنان بديلًا عن الطبقة المستقيلة الّتي كانت تمسك بزمام الأمور، فكرسي الرئاسة ما زال فارغًا، وحاكم مصرف لبنان انتهت مدّة حاكميّته، وكان الاكتفاء بنائب يسيّر الأعمال… ينطبق الأمر كذلك على مراكز حيويّة كثيرة، منها قيادة الجيش، ورئاسة الحكومة، وتطبيق الحلول المؤقّتة بتمديدٍ من هنا، ومماطلة من هناك…

فالبلد «ماشي» بالعناية الإلهيّة، إذ أصبح عبارة عن «أعجوبة» يعيش مواطنوه مبدأ «كلّ يوم بيومه» من دون خطط اقتصاديّة تُعنى بالشؤون الجيوسياسيّة للمنطقة وتغييراتها الجذريّة، ولا يوجد رأس ينظّم السياسات النقديّة الّتي تضمن الاستقرار الاقتصاديّ وتعزيز النموّ المستدام.

من جهة أُخرى، نجد أنّ الحوكمة في لبنان لم تتقدّم، فلا خطوات واضحة نحو اندماج ماليّ شامل، ولا تسهيل في الوصول إلى الخدمات الرسميّة الأساسيّة للمواطنين مع اتّساع رقعة الحرمان، ولا تحديث في البُنى التحتيّة، وخصوصًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات مع انتشار الذكاء الاصطناعيّ في الفترة الحالية في جميع دول العالم، والخدمات الحيويّة بأجمعها.

هذه الأمور الّتي ذكرناها، أدّت إلى انكماش اقتصاديّ حادّ، أفضى إلى تقلّص كبير في الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا فاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقاد من جديد إلى فتح أبواب الهجرة لدى اللبنانيّين على مصراعيها، في ظلّ انخفاض الاستثمارات الأجنبيّة وهروب رؤوس الأموال إلى أماكن أكثر أمانًا من «سويسرا الشرق»، وغابت عن المشهد المطالبات المدنيّة المحقّة، وتلاشت الرغبة في التظاهر، أو حتّى إبداء الامتعاض «أقلّ الإيمان».

بالإضافة إلى الأمن الاقتصاديّ المتزعزع في لبنان، برز خطر تضعضُع القطاع التربويّ في البلد، وخصوصًا الحكوميّ منه. فيعيش اليوم النظام التعليميّ بسياسة «جود بالموجود»، واختفت معه حدّة الصراع بين لجان الأهل، والمدرّسين، والإداريّين… فاقتنع كثيرون أنّ الاستسلام للواقع هو الحكمة، واللجوء إلى الهجرة والبحث عن فرص بديلة هو الوسيلة «الأشرف» من الاحتدام على «شي فاضي»… فلم تعُد الرسالة التربويّة قضيّة لدى الكثيرين، لأنّها لم تضمن لهم قوتهم اليوميّ، وحياتهم الكريمة، وبقيت دروس المواطنة والتربية المدنيّة مجرّد حصص في البرامج الأسبوعيّة، مجرّد حبر على ورق، أسوة بكثير من القرارات والقوانين في هذا «الوطن».

بالطبع، مع غياب القضايا المحقّة والجوهريّة، ظهرت على الساحة قضايا سخيفة، «تُختَرع» لضمان جوّ من التوتّر الطائفيّ والاحتقان الحزبيّ، كان أحدها أنّ لبنان في العام 2023 عرف لبضعة أيّام منطقتين زمنيّتين. وكان هذا الواقع الهزليّ يعكس ما سبق أن رصدناه من حوكمة غير رشيدة لمنظومة قادت لبنان عبر سنين طويلة إلى حالة الفوضى غير الخلّاقة الّتي تفرض وزرها عليه اليوم، ولم تعرف من معنى الحوكمة سوى الحكم الديكتاتوريّ المقنّع، بدل أن تسعى إلى خدمة الدولة ومواطنيها بأسمى درجاتها، وتقود لبنان إلى الأمام، بدل أن ترجعه عقودًا إلى الوراء.

في العودة إلى المشهد الجيوسياسيّ، لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن تحرّك عالميّ نحو إيجاد قطبٍ اقتصاديّ عالميّ جديد، مع استمرار الحرب الأوكرانيّة -الروسيّة «المنسيّة» وبروز قوّة البريكس، وتهافت دول المنطقة للانضمام إليها. بالطبع، لم يؤدِّ لبنان أيّ دور فاعل، فهو خارج هذه اللعبة في وضعه الحالي، وما زال يرزح تحت وطأة تبعات اقتصاديّة ضيّقة، يكون فيها منفعلاً وحسب. ولم يعُد لبنان يقدّم أيّ ثقل ديبلوماسيّ، لشلله السياسيّ الداخليّ، وتشتت القوى بين مكوّناته الداخليّة، وارتهانها لمصالح غير لبنانيّة.

كذلك، لا يمكن أن نعيد قراءة هذا العام من دون المرور على الحدث الأبرز إقليميًّا وعالميًّا، أي حرب غزّة الّتي غيّرت الصورة التقليديّة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ، والّتي رسَخت في العقود المنصرمة. بالطبع، كشف هذا الصراع مدى حساسيّة الموقع الجغرافيّ والاقتصاديّ للبنان في المنطقة، وتعرّت معه خطط لتهميشه اقتصاديًّا وسياحيًّا، بعد أن خُطِّط لسلبه ثرواته الطبيعيّة، المائيّة والنفطيّة… لا يعرف لبنان اليوم أيّ موقفٍ يخدم مصالحه الداخليّة، وتبقى جبهة الجنوب مشتعلة، مع تأثيرها النفسيّ والاقتصاديّ أكبر بكثير من تأثيرها السياسيّ على حياة اللبنانيّين.

أخيرًا، شهد العام 2023 في بداياته هزّة أرضيّة شديدة ضربت المنطقة، وكان مركزها في أنطاكيا (هاتاي) في تركيا. وقد تأثّر اللبنانيّ بها، أقلّه أنّها أرجعت إليه شعوره بعدم الاستقرار بعد ضربات الكورونا، وتفجير مرفأ بيروت، وغيرها من الضربات الّتي جعلت من المواطن في كثير من الأحيان فاقدًا للحسّ، وقصير الذاكرة، في حين أنّ آثارها تنخر في كيانه وتهلكه في مسيرته اليوميّة لكسب قوت عيشه.

ختامًا، نجد أنّ السنة المنصرمة غيّبت الكثير من الصراعات الداخليّة «الكلاسيكيّة» كما ذكرنا، وأصبح المشهد العامّ أكثر «رواقًا»، لا لأنّ الأمور تحسّنت، والأموال استُرجعت، والكهرباء عادت، والسياحة ازدهرت، والحركة الاقتصاديّة توسّعت، والحروب تلاشت، والأجيال كبرت، والمصالحات نجحت… بل لأنّ اللبنانيّ على حافّة الاستسلام لسياسة الأمر الواقع، والبحث عن الحلول البديلة خارج البلد… وهذا ما نرغب في أن يُعاد إغلاقه في العام الجديد 2024، ونفتح معًا حلولًا خارج الصندوق… صندوق التحزّبات، والأمر الواقع، والمصالح الضيّقة…

البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات