كيف يستقبل الفدرالي نتائج “بلاك فرايداي”؟

  • رغم أن مبيعات “سايبر ويك” لا تعد مرجعاً للفدرالي لكنها تظل مهمة للإشارة للقدرة الإنفاقية والآفاق التضخمية

  • من المتوقّع أن يدر “سايبر ويك” 37,2 ملياراً من المبيعات عبر الإنترنت، بزيادة نسبتها 5,4% عن العام الماضي

  • قوة الإنفاق الاستهلاكي وتعزيز النمو من الإنفاق الحكومي لا تجعل مهمة الفدرالي أسهل خلال الأرباع المقبلة

  • محضر الفدرالي أظهر أن المسؤولين لم يُبدوا أي ميل نحو خفض الفائدة في أي وقت قريب

 

بدأ أسبوع “سايبر ويك” الاستهلاكي الشهير في الولايات المتحدة، والذي يمتد من عيد الشكر، مرورا بـ”بلاك فرايداي”، وصولا إلى “سايبر مونداي”… وهو الأسبوع الأخير الكبير للمبيعات في العام قبل موسم “الكريسماس” و”رأس العام”.

ويعد “سايبر ويك”، وقمته في “بلاك فرايداي”، أحد أهم مواسم شراء السلع والهدايا في أميركا بالنسبة للمستهلكين والتجار على حد سواء، نظرا لأنه يسبق موسم الأعياد الأكبر في العام، كما أنه يشهد عروض خصومات لا تتكرر طوال السنة.

ورغم أن نتائج أعمال ومبيعات “سايبر ويك” لا تعد مرجعا رئيسيا للاحتياطي الفدرالي في حساباته المعقدة لموازنة التعامل مع التضخم والحفاظ على النمو، إلا أن النتائج تظل مهمة من حيث الإشارة القوية إلى القدرة الإنفاقية والشرهة الاستهلاكية والآفاق التضخمية.

وفي أحدث توقعاته التي صدرت نهاية الشهر الماضي، يرى مسؤولو الفدرالي أن التضخم، وفقًا لمؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، سيبلغ 3.3% بحلول نهاية العام، مقارنة بتوقعات يونيو (حزيران) البالغة 3.2%.

ويشير أولو سونولا، رئيس قسم الاقتصاد الأميركي في وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، إلى أن قوة الإنفاق الاستهلاكي وتعزيز النمو من الإنفاق الحكومي لا تجعل مهمة الفدرالي أسهل خلال الأرباع المقبلة. وأضاف: “لقد تحول النمو الاقتصادي من المرونة إلى إعادة التسارع في هذا الربع، متحديًا دورة التشديد العدوانية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي والظروف المالية الأكثر صرامة”.

محضر اجتماع الفدرالي

وأظهر محضر اجتماع الفدرالي الأخير، الذي عُقد في الفترة من 31 أكتوبر (تشرين الأول) إلى 1 نوفمبر (تشرين الثاني)، إجماع الأعضاء حول استراتيجية المضي قدماً بحذر بشأن تحركات أسعار الفائدة في المستقبل، وربط أي تشديد إضافي بمدى التقدم نحو هدف التضخم عند 2 في المائة.

كما أظهر المحضر أن المسؤولين لم يُبدوا أي ميل نحو خفض الفائدة في أي وقت قريب، لا سيما أن ‏التضخم لا يزال فوق المستهدف، وأنهم ما ‏زالوا قلقين بشأن التضخم واستمرار بقائه مرتفعاً، وأن هناك حاجة للمزيد من ‏الإجراءات التي يجب اتخاذها لكبحه.‏

وأكد أن صناع السياسة يسعون لإجراء توازن بين تفادي رفع الفائدة، بما قد يدخل الاقتصاد الأميركي في ركود من جهة، وعدم تشديد السياسة النقدية بما يكفي لتهدئة الاستهلاك وتخفيض التضخم إلى المستهدف عند 2 في المائة. ورغم ذلك، لم يشر المحضر إلى أن الأعضاء ناقشوا متى قد ‏يبدأون في خفض أسعار الفائدة.

نتائج الـ “سايبر ويك”

هنا يجب النظر إلى أن تقييم نتائج الـ “سايبر ويك” سيكون ذي دلالة للفدرالي، خاصة أنه سيعد اختبارا حقيقيا للقدرة الشرائية للأميركيين، وما إذا كانت بلغت “نقطة المقاومة” أم لا، حيث يخشى كثير من المراقبين أن يكون الأميركيون قد استنفدوا كل مدخراتهم السابقة مع زيادة التضخم وتراجع مستويات الدخل الحقيقي.

وفي مقابل نظرة الفدرالي، فإن نظرة الجماهير أيضا شديدة الأهمية، إذ يسيطر عليهم الارتياب من استمرار ضغوط رفع الفائدة لفترات أطول، ما يسهم في تراجع “الرغبة الاستهلاكية” في مقابل “الخوف من المستقبل”.

وهناك عنصر ثالث شديد الأهمية لا يجب أن ننساه، وهو تجار التجزئة أنفسهم، والذين يعولون على هذا الموسم بشدة لزيادة حجم المبيعات، وبالتالي يحسن من موازناتهم وقدرتهم المالية على استمرار الصناعة والأرباح… ما يجعلهم يقدمون على وضع “عروض لا تقاوم” من أجل جذب المزيد من الزبائن “المترددين”.

ووسط هذه الصورة العامة، فإن ارتفاع حجم إنفاق الأميركيين على التجارة الإلكترونية في الـ”بلاك فرايداي” بنسبة 7.5%، مقارنة بمستويات العام الماضي، يعد أمرا هاما وشديد الدلالة.

حجم الإنفاق

وبلغ حجم الإنفاق مستوى قياسياً عند 9.8 مليار دولار في الولايات المتحدة، بحسب البيانات الواردة في تقرير Adobe Analytics . وتعكس تلك البيانات رغبة المستهلكين في الإنفاق على أفضل الصفقات، ومن خلال بحثهم عن تلك الصفقات عبر الإنترنت… ومع ذلك، لا يزال المتسوقون حساسين للأسعار، ويديرون ميزانيات أكثر صرامة بسبب التضخم القياسي وأسعار الفائدة في العام الماضي.

وفي المجمل، من المتوقّع أن يدر “سايبر ويك” 37,2 ملياراً من المبيعات عبر الإنترنت، بزيادة نسبتها 5,4% عن العام الماضي.

وقدّر الاتحاد الوطني للبيع بالتجزئة عدد الذي سيُقبلون على الشراء من المتاجر، أو عبر الإنترنت خلال ما يُعرف بالـ “سايبر ويك”، بأكثر من 182 مليوناً، مما يمثل ارتفاعاً بنحو 16 مليوناً عن معدّل العام 2022 ورقماً قياسياً منذ بدء تسجيل هذه الأرقام عام 2017.

ولم يوفّر الاتحاد أرقاماً عن المبيعات المتوقّعة لهذه الفترة، لكنّه ذكر أنّ المبيعات خلال موسم الأعياد في شهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) قد تدر ما يصل إلى 966,6 مليار دولار، بزيادة نسبتها 4% عن العام الماضي.

عمليات الشراء الاندفاعية

ووفق المحلل الرئيسي في Adobe Digital Insights  فيفيك بانديا، فإن “عمليات الشراء الاندفاعية ربما لعبت دورًا في نمو مبيعات الـ Black Friday، بالنظر إلى أن 5.3 مليار دولار من المبيعات عبر الإنترنت جاءت من التسوق عبر الهاتف المحمول”.

وكشف عن أن “المؤثرين والإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي، هي عوامل سهلت على المستهلكين الحصول على إنفاق مريح على أجهزتهم المحمولة”.

وفقًا لاستطلاع  Adobe، جاءت 79 مليون دولار من المبيعات من المستهلكين الذين اختاروا طريقة الدفع المرنة “اشتر الآن، ادفع لاحقًا” بزيادة قدرها 47٪ عن العام الماضي.

وعند هذه النقطة تحديدا يجب أن نتوقف برهة ونلقي نظرة على بعض البيانات. إذ قال الاقتصاديون في مجلس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك الأسبوع الماضي، إن ديون بطاقات الائتمان الأميركية استمرت في الارتفاع في الفترة من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول) من هذا العام، مسجلة الربع الثامن على التوالي من الزيادات على أساس سنوي.

وأشار التقرير إلى أن أرصدة بطاقات الائتمان ارتفعت بمقدار 48 مليار دولار، أو بنسبة 4.7% عن الأشهر الثلاثة السابقة، وبمقدار 154 مليار دولار على أساس سنوي، وهي أعلى زيادة منذ بدء التسجيل في عام 1999.

وبذلك وصل إجمالي ديون بطاقات الائتمان المستحقة إلى مستوى قياسي جديد بلغ 1.08 تريليون دولار، ونما إجمالي ديون الأسر بمقدار 228 مليار دولار خلال الفترة المشمولة بالتقرير، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى بطاقات الائتمان وقروض الطلاب، ووصل إلى 17.29 تريليون دولار… وهي مؤشرات قد تثير قلقا حول القدرة على سداد الديون والتعثرات التي قد تسفر عن أزمة ائتمانية لاحقة، ويشير الاقتصاديون إلى أن المزيد من الأسر تواجه صعوبة في إدارة ديونها وسط استمرار ارتفاع التضخم وارتفاع أسعار الفائدة.

رهانات الأسواق

وبعدما كانت رهانات الأسواق ترجح بلوغ مستويات الفائدة الأميركية ذروتها، وازدياد احتمالات خفضها في المدى المتوسط، قوضت تصريحات جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي آمال الجميع بشأن وصول معدلات أسعار الفائدة ذروتها.

وعبّر مسؤولون في المركزي الأميركي من بينهم باول في وقت سابق من الشهر الجاري، عن شكوكهم في أن معركتهم لمكافحة التضخم انتهت، وأضافوا أنهم سيواصلون تشديد السياسة النقدية إذا اقتضت الحاجة. وقال باول إنه وزملاءه في مجلس الفدرالي «غير واثقين» من أن السياسة لا تزال مشددة بما يكفي لكبح التضخم.

وتتزايد التوقعات الآن أن يكون أول خفض محتمل من المركزي الأميركي لسعر الفائدة في يونيو (حزيران) من العام المقبل، بدلاً من التوقعات السابقة لخفضه في مايو (أيار).

لمياء نبيل

التكامل الاقتصادي الآسيوي

تسعى الكثير من الدول إلى التعاون مع جاراتها من البلدان للوصول إلى تكامل اقتصادي يحقق الازدهار لشعوبها، ويعطيها الثقل الاقتصادي الذي يمكّنها من تحقيق مصالحها ككتلة واحدة. ويبرز الاتحاد الأوروبي بوصفه أقوى كتلة إقليمية متعددة الدول وصلت إلى ذروة التكامل الاقتصادي في ما بينها. كما تبرز مجموعات أخرى لم تصل إلى هذه المرحلة من الاكتمال، ولكنها حققت مبتغاها مثل دول «نافتا» وهي اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية. وهناك نموذج آخر فريد من نوعه، هو لدول آسيا التي حققت تكاملاً اقتصادياً بطريقة منفردة، مكنتها من إخراج عدد كبير من سكانها من تحت خط الفقر خلال العقود الأخيرة، وهو إنجاز لم يتحقق في أي منطقة أخرى من العالم. فكيف نجحت دول آسيا في تحقيق هذا التكامل الاقتصادي في زمن شهد أزمات مالية وجيوسياسية خانقة؟

بداية، يعرّف التكامل الاقتصادي على أنه تحرير وتسهيل تدفق التجارة والسلع والخدمات والاستثمار وحركة الأشخاص عبر الحدود. هذا التعريف شبه شمولي، وقد يتحقق التكامل الاقتصادي دون تحقيق جميع عناصره. فعلى سبيل المثال، لم تلتزم مجموعة «نافتا» ببعض هذه العناصر، ولكنها نجحت في الوصول إلى بعض أهدافها، بينما التزم الاتحاد الأوروبي بكامل العناصر، ووصل إلى مستوى لم تبلغه كتلة اقتصادية من قبل. عدم الالتزام بشروط التكامل الاقتصادي لا يعني عدم النجاح فيه، وفي الحالة الآسيوية خير مثال على أن النجاح ليست له وصفة محددة، بل هو مزيج من العمل المشترك والسعي الدؤوب خلف المصالح المتبادلة، وإيجاد الحلول للعوائق التنظيمية التي تحول دون التبادل التجاري عبر الحدود.

وتختلف الدوافع لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول المتجاورة، فعلى سبيل المثال كان أحد الدوافع لتأسيس الاتحاد الأوروبي يكمن في الرغبة في تجنب حرب قارية أخرى، بعد سلسلة من الحروب بين هذه الدول. أما آسيا، والتي عرفها العالم خلال العقود الأخيرة بـ «مصنع آسيا»، فقد كان الدافع هو تكامل السوق لتحقيق مصالحهم الاقتصادية. وخدم ذلك الاستراتيجية المشتركة لهذه الدول وهي القائمة على التوجهات التصديرية والاندماج في سلاسل القيمة الإقليمية والعالمية.

ولم تكن طريق الدول الآسيوية في تحقيق تكاملها الاقتصادي سهلة، فصحيح أنها واجهت عالماً نامياً منفتحاً أمام التجارة العالمية وهو ما يسّر لها مهمتها، لكن العوائق الداخلية شكّلت تحدياً كبيراً لها، فالدول الآسيوية على عكس الأوروبية شديدة الاستقلالية، وحساسة للتدخلات الإقليمية فيها، وتملك إرثاً من الحروب الداخلية والكراهية المتبادلة في ما بينها تغذي هذه الرغبة الاستقلالية. كما أن أنظمتها السياسية متنوعة ومتناقضة، ففيها أنظمة ديمقراطية وعسكرية وشيوعية وملكية، وهو ما يجعل الرغبة في التعاون محل تشكك مستمر.

ومع كل ذلك، فإن نمو الدول الآسيوية والذي تؤكده أرقام النمو المذهلة لهذه الدول، لم يتحقق بفعل تجارة دول آسيا مع العالم الغربي أو الدول غير الآسيوية فحسب، بل جاء وبنسبة كبيرة بفعل التبادل التجاري بين الدول الآسيوية في ما بينها. وهذه بعض الأرقام التي تؤكد ذلك والتي نشرها بنك التنمية الآسيوي في تقريره هذا العام؛ فالتبادل التجاري داخل آسيا وصل إلى 46 في المائة في 2010، وزاد إلى 58 في المائة عام 2021، والاستثمارات الآسيوية البينية زادت من 48 في المائة إلى 59 في المائة بين هذين العامين. وزاد تدفق الاستثمارات المباشرة بين الدول الآسيوية بضعف مثيله من الاستثمارات الغربية. وحتى مع الأزمات المالية، زادت نسبة الإقراض المصرفي من 40 في المائة بُعيد الأزمة المالية إلى 54 في المائة اليوم.

ولا تزال الدول الآسيوية حتى اليوم تسعى في زيادة هذا التكامل لإزالة الحواجز التجارية من خلال اتفاقات جديدة مثل الشراكة الإقليمية الشاملة، ولعل قمة الرياض لدول «الآسيان» ودول الخليج أحد هذه المساعي من الدول الآسيوية لزيادة شراكاتها مع الدول لزيادة تبادلها التجاري، وتحقيق الازدهار لشعوبها.

إن الدول الآسيوية، وعلى الرغم من كل نزاعاتها العسكرية الدموية التاريخية، ورغم عدم امتلاكها ثقافة مشتركة، أو لغة موحّدة، أو حتى تاريخاً وكفاحاً مشتركاً، تمكنت من تجاوز ذلك كله لتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعوبها، وتمكّنت من إخراج مئات الملايين من تحت خط الفقر بالنظر إلى المصالح الاقتصادية، ودون المساس بسيادتها الداخلية. فما الذي ينقص الأقاليم الأخرى والتي ليس لديها حتى نصف هذه الصعوبات، والتي تمتلك من الثروة الطبيعية والبشرية والإرث التاريخي، ما لا تمتلكه الكثير من الدول الآسيوية، ولا حتى الغربية؟

د. عبد الله الردادي

إقتراحات في التداول تثير القلق والريبة

هناك حركة غير اعتيادية على المستوى المالي والنقدي، في محاولة لابتكار معالجات مؤقتة، وطرح اقتراحات تسمح بإعادة بعض الحيوية الى الوضع الاقتصادي. لكن هذه الحركة لا تخلو من الخطورة، رغم النيات الحسنة، لأنها قد تكون بديلاً هجيناً من الحل الشامل والجذري، والمنتظر منذ اكثر من أربع سنوات.

من خلال الاعمال التمهيدية الاولية التي بدأها صندوق النقد الدولي قبل اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الاول الماضي، تحضيراً للتقرير الذي يُفترض ان يصدر في العام 2024، وفق المادة الرابعة، تبيّن انّ معطيات كثيرة تبدلت في المشهد الاقتصادي اللبناني. وكان يُفترض استكمال الاعمال تمهيداً لزيارة وفد من الصندوق الى بيروت في آذار المقبل، لإنجاز كل الاعمال لإصدار التقرير المنتظر حول الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان. لكن النشاطات توقفت، وتمّ إخلاء مكتب صندوق النقد الدولي في لبنان. وبالتالي، أصبحت معظم النشاطات معلّقة، بانتظار سكوت المدفع، وعودة الوضع الى طبيعته. وبالمناسبة، مكتب صندوق النقد في بيروت هو مكتب اقليمي لدول المنطقة، وهذا يعكس بطبيعة الحال، موقع بيروت المميّز، رغم الكوارث والأزمات، بحيث انها لا تزال تُعتمد كمقر اقليمي لمؤسسات دولية. لكن استمرار الأزمات والاضطرابات قد يؤدّي الى تغيير هذا الوضع ايضاً.

في عودة الى تقرير المادة الرابعة، وفي حال تعذّر إصداره العام المقبل، في حال طال أمد الحرب في غزة، وتعذّر استكمال الدراسات المطلوبة لإصدار التقرير، فهذا يعني انّ فرص الحل الشامل ستكون مؤجّلة، على اعتبار ان مضمون هذا التقرير يُبنى عليه في تقدير الوضع المالي والاقتصادي، لإنجاز اي اتفاق مع صندوق النقد.

وما هو خطير في عمليات التأجيل المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، انها تشجّع على الاجراءات المؤقتة، والتي يمكن ان تكون مُضرّة، في حال تمّ اعتمادها كبديل من الخطة الشاملة. على سبيل المثال، جاء قرار مصرف لبنان بتوسعة قاعدة المستفيدين من التعميم 158، ليُنصف شريحة مظلومة من المودعين. لكن هذا القرار قد يصبح مشكلة في حد ذاته، في حال تبيّن ان بعض المصارف عاجزة عن تنفيذه، وفي حال تبيّن لاحقاً، انه قد يؤثّر سلباً على امكانات الحل الشامل لمشكلة الودائع.

وبالتالي، من الضروري ان يكون كل اجراء مؤقت يُتخذ اليوم، متناسقاً مع مبدأ عدم التأثير السلبي على الحل الشامل، ومن الاهم ألا تشكّل هذه الاجراءات المُجتزأة بديلاً من الحل الشامل. اليوم، هناك في الكواليس اقتراحات يتمّ درسها، تهدف الى تنشيط الوضع المالي من دون انتظار الحل النهائي. هذه الاقتراحات التي تجري تحت عنوان معالجات الضرورة، تصبح خطيرة ومميتة اذا كانت نية من يقترحها هي الاستغناء عن الحل الشامل، اي التخلي عن مشروع خطة متكاملة للتعافي تشمل الى جانب الاتفاق مع صندوق النقد، معالجة الخسائر في مصرف لبنان، واعادة تطبيع الوضع المصرفي، والتوافق على مسار حل لمشكلة الودائع. وحتى اذا كانت النية حسنة، فإنّ الخطر يكمن في ان تستفيد الدولة من الاجراءات المجتزأة، وتصرف النظر نهائياً عن المعالجات الشاملة.

وفي الحديث عن تقرير صندوق النقد تحت البند الرابع، لا بد من طرح اسئلة حول طريقة تعاطي الدولة بكل أجهزتها مع هذا التقرير الذي صدر في حزيران 2023، وكان يُفترض ان يشكّل مادة دسمة للمراجعة واتخاذ القرارات، واذا به يدخل غياهب الاهمال والنسيان، تماماً كما حصل مع تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز اند مارسال».

في تقرير صندوق النقد، ما يفيد بأن حجم الفجوة المالية في بداية العام 2020، كانت في حدود الـ20 % فقط، بما يعني ان 80 % من الودائع كان مغطّى. فهل كانت هذه الفجوة تستحق اعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020 ؟ والاهم، من المسؤول عن وصول هذه الفجوة اليوم الى ما نسبته 85 %، بما يعني ان الودائع صارت مُغطاة بنسبة 15 % فقط، بانخفاض قدره 65 %. وهل من دليل اوضح على مسؤولية «الدولة» في الافلاس والانهيار؟

وفي تقرير «الفاريز اند مارسال»، ورد انّ القرارات في مصرف لبنان كانت تُتخذ بالاجماع في المجلس المركزي، اي بموافقة مفوض الحكومة، وممثلي الدولة مثل المدير العام لوزارة المالية، ومدير عام وزارة الاقتصاد. بما يعني انّ «التمويه» في القيود المحاسبية، والذي كان يهدف الى إخفاء خسائر مصرف لبنان، كان يتمّ بموافقة المجلس المركزي مجتمعاً، بدليل انه كان يجري استبدال الخسائر بأرباح وهمية تُمنح سنوياً الى وزارة المالية، وهي حصّتها القانونية في الارباح. وهذا الامر لم يكن يجري لدعم وزارة المال، بل للتمويه ايضا، لأن الدولة كانت ستضطر الى اعادة رسملة مصرف لبنان، وفق قانون النقد والتسليف، في حال اعترفت بوجود خسائر. وهكذا يتبيّن ان الدولة ومصرفها المركزي كانا شريكين في جرم تزوير الحقائق، بهدف الاستمرار في استنزاف الاموال، وتكديس الخسائر من دون محاسبة.
يبقى السؤال، ما نفع التقارير المحاسبية والجنائية، التي تصدر تباعاً، اذا كان التعامل معها يتم على قاعدة انّ مكانها في سلّة المهملات.

اشتداد الأخطار الجيوسياسية والآثار على الصناعة البترولية

صرّح لورينزو سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لشركة «بيكر هيوز»، بأن المخاطر الجيوسياسية حالياً على أشدها مقارنةً بأحداث نصف القرن الماضي، الأمر الذي أخذ يؤدي إلى «مخاوف متزايدة بخصوص إمدادات النفط من ناحية، والطلب المتزايد على الغاز المسال من ناحية أخرى».

حسب سيمونيللي، الرئيس التنفيذي لواحدة من ثلاث شركات خدمات هندسية كبرى عالمياً (شلمبرجير – هاليبورتون – بيكر هيوز)، في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز»، هناك اعتقاد سائد عند البعض أنه «إذا رجعنا إلى المقاطعة النفطية لعام 1973 سنجد الكثير من الأمور المتشابهة». لكن، أضاف رئيس شركة «بيكر هيوز» أنه «خلال فترة عملي، لم يكن الوضع الجيوسياسي هشاً بهذه الدرجة… هذا من الناحية السياسية، حيث الوضع متقلب جداً».

تأتي أهمية تقييم «بيكر هيوز» من أن الشركة الهندسية تعمل في الأغلبية الساحقة من الحقول النفطية حول العالم، فهي على اطِّلاع دقيق على ما يجري في الدول البترولية والمجريات السياسية فيها. كما تتزامن تصريحات سيمونيللي مع الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية في الشرق الأوسط، التي تتزامن بدورها مع الحرب الروسية – الأوكرانية في أوروبا التي هي الآن في عامها الثاني.

قفزت أسعار النفط إلى أكثر من 130 دولاراً للبرميل عند الغزو الروسي لأوكرانيا. وارتفعت الأسعار خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى نحو 100 دولار للبرميل بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر، وبعد انخفاض القلق الأولي من توسع الحرب إلى دول شرق أوسطية أخرى، وفي غياب عوامل اقتصادية تدفع إلى زيادة الأسعار، انخفضت الأسعار إلى نحو 79 – 80 دولاراً للبرميل.

إسرائيل، من جهة، دولة غير منتجة للنفط، حتى الغاز الذي تُنتجه ضئيل الحجم. من ثَمَّ، فأهميتها محدودة جداً في الأسواق العالمية. لكن من جهة أخرى، تبقى الأسواق حذرة من تدخل مباشر لإيران في الحرب، نظراً إلى علاقتها بحركة «حماس»، إذ إن احتمال تدخلها المباشر، سيؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار. وذكر سيمونيللي في هذا الصدد أن «المتوقع في استمرار التطورات على حالها المؤسف والحزين، سيعني بقاء الأسعار مضطربة. ولكن في نفس الوقت، فإنه من الواضح أيضاً، إذا تصاعدت أو توسعت الحرب ستؤدي إلى ما هو أسوأ، إذ ستتغير الأمور».

لقد أدت حرب أوكرانيا إلى تغييرات جذرية في صناعة الغاز المسال، نظراً لمقاطعة أوروبا غاز الأنابيب الروسي وتركيز روسيا على صناعة الغاز المسال. كما توسعت بسرعة صناعة الغاز المسال، بالذات في الولايات المتحدة، التي زادت صادراتها الغازية لأوروبا، إذ تلعب شركة «بيكر هيوز» دوراً في تزويد الخدمات الهندسية والأدوات الفنية.

تشير توقعات «بيكر هيوز» إلى أن مجمل الطلب على خدماتها وأدواتها الفنية في مجال صناعة الغاز المسال خلال عامي 2022 و2023 سيبلغ نحو 9 مليارات دولار، ويشكّل هذا الطلب زيادة ثلاث مرات على ما كان عليه لشركة «بيكر هيوز» في صناعة الغاز المسال خلال السنتين السابقتين 2020 و2021. ويتوقع سيمونيللي إمكانية ارتفاع الطاقة الإنتاجية العالمية للغاز المسال إلى 800 مليون طن سنوياً بحلول نهاية هذا العقد، مقارنةً بنحو 410 ملايين طن سنوياً في عام 2023. ويكمن السبب في ارتفاع صناعة الغاز المسال عالمياً في إمكانية شحن الغاز المجمَّد عبر مسافات طويلة من البحار والمحيطات، ومن ثم الاستفادة لاستغلال الغاز في أسواق جديدة وبعيدة، غير الأسواق الإقليمية والمحلية فقط. وهذا ما يحدث بتصدير غاز الخليج مسالاً إلى الأسواق الآسيوية أو الغاز الأميركي إلى الأسواق الأوروبية.

وأضاف سيمونيللي أن «بيكر هيوز» لديها «عقود في مجال صناعة الغاز المسال حتى عام 2050، في الوقت الذي لا يتوقع فيه نهوض قطاع غاز الأنابيب الروسي في المدى القصير كمنافس للغاز المسال، حتى في حال انتهاء الحرب الأوكرانية».

ارتفعت أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية إلى أكثر من 300 يورو للميغاواط-ساعة بعد غزو أوكرانيا. وتبقى الأسواق قلقة للمنافسة الأوروبية في حال تعويض الغاز الروسي. وقد ساعد الشتاء قليل البرودة في أوروبا السنة الماضية في الحفاظ على مخزون عالٍ من الغاز. أما بالنسبة إلى الشتاء المقبل، فأجاب سيمونيللي: «ساعد الشتاء المعتدل العام الماضي على التقاط الأنفاس في أوروبا. ويتضح لحد الآن، أن فصل الشتاء المقبل سيكون قليل البرودة أيضاً. لكن، إذا كان قارس البرودة، فسيترك بصماته على أوروبا».

وليد خدوري

الذكاء الاصطناعي يعزز الاقتصاد الرقمي

يعرف الاقتصاد الرقمي بأنه هو النشاط الناتج عن الاتصالات اليومية عبر الإنترنت، كما أن العمود الفقري له هو الارتباط التشعبي، ويعني ازدياد الارتباط والترابط بين الأشخاص والمؤسسات والآلات، وتكنولوجيا الهاتف المحمول وإنترنت الأشياء، وهو عموماً عبارة عن تصور ل‍قطاع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة ب‍التقنية الرقمية. وهو ذلك النوع من الاقتصاد الذي يقوم في مجمل عملياته على المعلومات، ويستند في أغلب خطواته على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي ألغت كل الحدود والحواجز أمام تدفق المعلومات والسلع والخدمات، وحركة رؤوس الأموال من وإلى أي نقطة في العالم، وفي أي وقت. يتميز الاقتصاد الرقمي بدخول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف الأنشطة الاقتصادية.

من ناحية أخرى، لقد أصبح الذكاء الاصطناعي مصطلحاً شاملاً للتطبيقات التي تؤدي مهام مُعقدة كانت تتطلب في الماضي إدخالات بشرية، مثل التواصل مع العملاء عبر الإنترنت. ويُستخدم غالباً هذا المصطلح بالتبادل مع مجالاته الفرعية، والتي تشمل التعلم الآلي والتعلم العميق، ومن المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من أن كل سُبل التعلم الآلي ما هي إلا ذكاء اصطناعي، فإنه ليس كل ذكاء اصطناعي يُعد تعلماً آلياً، والحصول على القيمة الكاملة من الذكاء الاصطناعي.

وتعمل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء المؤسسات وإنتاجيتها، عن طريق أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتطلب القوة البشرية فيما مضى، كما يمكن للذكاء الاصطناعي فهم البيانات على نطاق واسع لا يمكن لأي إنسان تحقيقه، وهذه القدرة يمكن أن تعود بمزايا كبيرة على الأعمال، وفيما يتعلق بالعوامل الدافعة لاعتماد الذكاء الاصطناعي، فهناك 3 عوامل تحث على تطوير الذكاء الاصطناعي عبر الصناعات، وهي توفر إمكانية الحوسبة عالية الأداء بسهولة، وبأسعار معقولة، مع وجود كميات كبيرة من البيانات المتاحة للتعلم، إضافة إلى أنها توفر تقنية الذكاء الاصطناعي التطبيقي، وتعطيه ميزة تنافسية.

وجاء إنشاء مركز خاص بالذكاء الاصطناعي ليعزز الاقتصاد الرقمي في السعودية، على خلفية ارتفاع الطلب على الذكاء الاصطناعي الذي يلعب دوراً متزايد الأهمية في دفع الاقتصاد السعودي في المستقبل، وفي محاولة لتسريع نمو التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، إذ جاءت الحاجة بإنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات هذا القطاع، من شأنه أن يعزز دور الدولة إقليمياً وعالمياً؛ حيث إن المركز الجديد جاء عقب إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) في 2019.

إن «رؤية السعودية 2030» و«برنامج التحول الوطني 2020»، يحددان التحول الرقمي هدفاً رئيسياً لتنشيط القطاعات الاقتصادية، ودعم الصناعات وكيانات القطاع الخاص، والدعوة إلى تطوير نماذج الأعمال بين القطاعين العام والخاص، والحد في نهاية المطاف من اعتماد السعودية على عائدات النفط من خلال تنويع الاقتصاد؛ إذ إن إنشاء المركز الجديد يعزز دور السعودية القيادي الإيجابي الفاعل في الصناعة التي تكتسح العالم، ويعزز الاقتصاد الرقمي، إلى جانب تحسين الجهود البحثية وتحقيق الاستخدام المسؤول.

إن إنشاء المركز الدولي الجديد يؤكد اهتمام السعودية الجاد بتبني التقنية وتطبيقاتها وتحدياتها، ويؤكد أيضاً دورها القيادي الإيجابي الفاعل في هذه الصناعة؛ إذ إن السعودية من خلال مؤسساتها المعنية، بما فيها «سدايا»، وهيئة الحكومة الرقمية، تبنّت واستغلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في كثير من الخدمات والتحليلات والاستنتاجات، والأتمتة، والقياس وغيرها، إذ إن القطاع الحكومي في السعودية هو القائد الفعلي والمستخدم الرئيسي لهذه التطبيقات بجانب القطاع الخاص.

يذكر أن التقنية، بقدر ما توفر من فرص، فهي تجلب كثيراً من التحديات الجديدة التي لم تكن معروفة سابقاً، وبالتالي أدركت السعودية تلك المخاطر بإنشاء مركز الذكاء الاصطناعي، ليساهم في معالجة هذه المعضلة ذات الوجهين، إذ إن التوجه العالمي للمركز جاء بناءً على طبيعة التقنية، ويعنى بالبحوث والأخلاقيات، وسيكون تركيزه على دعم الأبحاث وتبنّي نتائجها عالمياً، كما أن إنشاء مركز دولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يأتي في إطار الجهود المتواصلة للبقاء في طليعة الابتكار والتقدم؛ إذ يعد المركز الأول من نوعه في العالم، ويعزز التوجه نحو تسارع الخطوات لاستشراف المستقبل، والاستفادة الكاملة من التقنيات الحديثة.

وفي الختام، يتسق وجود المركز مع مُستهدفات «رؤية 2030» في ظل الدعم غير المحدود لجعل السعودية مركزاً تقنياً عالمياً لأحدث التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، إذ أطلقت السعودية خلال أعمال القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في نسختها الثانية بمدينة الرياض، مبادئ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ضمن حزمة من المشروعات والمبادرات التي تسهم في تعزيز ريادة السعودية عالمياً في الصناعة، وتحقيق أهداف «رؤية 2030»، بما يعزز الاقتصاد الرقمي.

د. ثامر محمود العاني

توطين التنمية في عالم شديد التغير (2)

تجاوز العالم نصف المسافة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تم الاتفاق عليها في عام 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة على أن يتم الانتهاء منها في عام 2030. وفي تقرير أممي صدر مؤخراً عن الوضع العالمي لما تم إنجازه من الأهداف السبعة عشر للتنمية التي تتفرع إلى 169 هدفاً تفصيلياً تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية، فضلاً عن التصدي لتغيرات المناخ، اتضح أن الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140 هدفاً، كان منها 12 في المائة فقط على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن أكثر من 50 في المائة من أهداف التنمية منحرفة عن جادة المسار، بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 في المائة من هذه الأهداف بما في ذلك تلك المعنية بمواجهة الفقر والجوع.

دفعت هذه النتائج المفجعة الأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه نداء لسرعة تحفيز التمويل الموجه للتنمية بأن تخفض أعباء الديون الخارجية التي باتت تشكل عبئاً يلتهم حصيلة صادرات الدول النامية وتتجاوز فيها خدمة الديون من أقساط وفوائد ما ينفق على التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية للمواطنين. إذ ارتفعت نسبة الديون الخارجية للدول النامية من 71 في المائة من إجمالي صادراتها في عام 2010 لما يتجاوز 110 في المائة في عام 2022. ومع ارتفاع نسبة الديون الخارجية من مقرضي القطاع الخاص إلى 62 في المائة مقابل 24 في المائة من المؤسسات الدولية و14 في المائة من القروض الثنائية بين الدول، ازدادت نسبة الفائدة المدفوعة لتبلغ في المتوسط 12 في المائة في أفريقيا مقارنة بنحو 1.5 في المائة تدفعها ألمانيا قبل الزيادات الأخيرة.

لا غرو إذن أن البلدان النامية إلا قليلاً أمست في مواجهة أزمات وكوارث لديونها الخارجية، وأن نصف البلدان النامية أصبحت مطالبة بتخصيص ما لا يقل عن 7.4 في المائة من صادراتها لخدمة الديون، وأن منها ما هو مطالب اليوم بدفع مضاعفات هذا الرقم.

ومن عجب أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية طالبها المجتمع الدولي بما لا يتجاوز 5 في المائة من صادراتها لسداد ديون الحرب؛ حتى لا تتعثر جهودها في إعادة البناء وفقاً لاتفاقية لندن المبرمة في عام 1953. ولا نعلم أي حرب شنّتها البلدان النامية حتى تكبل بأصفاد الديون الخارجية التي انتهى بعضها في كثير من الحالات إلى سداد ديون سابقة، والبعض الآخر تسأل عنه تدفقات مالية غير مشروعة إلى ملاذات آمنة خارج البلدان النامية، وما تبقى وجه لمشروعات بعضها بعوائد اقتصادية وأخرى بلا عائد اقتصادي أو اجتماعي يذكر؛ ولا نغفل أن من هذه المشروعات بمكون استيرادي مرتفع تستفيد منه أيضاً بلدان دائنة. فمن أين سيأتي السداد إذن إلا خصماً من الاستثمار الموجه للتنمية وعلى حساب الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، ومن فرض أعباء تنوء بها كواهل المواطنين والقطاع الخاص العامل في البلدان النامية. فلا سبيل لتنمية تذكر إلا بتمويل ضخم ليس منه حتماً هذا النوع من الديون الذي جلب شراً أكبر من أي نفع، ولو زُينت الأرقام بحيل أكروباتية لتجمل واقعاً لبلدان في الجنوب أمست فيه أقرب للتخلف منها إلى التنمية.

ويذكر أن مشروع الإعلان، الذي سيعرض على قمة التنمية المستدامة التي ستعقد في إطار الجمعية العامة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل يتضمن مطالبة عاجلة بزيادة تمويل التنمية إلى 500 مليار دولار سنوياً مع مطالبة بتدعيم صناديق مواجهة الطوارئ. تزامن مع هذه المطالبات لمنع جهود التنمية من الانزلاق إلى هوة الفشل دعوة ملحة لإصلاح (النظام) المالي العالمي، الذي من قبيل المبالغة أن نطلق على الترتيبات المتناثرة المعمول بها في المعاملات الدولية وصف نظام أصلاً.

ولكن هذه المطالب، المنتظر عرضها في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة القادمة ما زالت تواجَه برفض وتحفظات من دول متقدمة على النحو الذي لخصه الكاتب الصحافي كولوم لينش في مقال صدر في مطلع هذا الشهر دورية «ديفيكس» المتخصصة في شؤون التنمية الدولية. ويبدو أن ممثلين لدول متقدمة ما زلوا منشغلين برغبات قديمة في الإبقاء على الحدود البيروقراطية الفاصلة بين مؤسسات التمويل والمنظمات الدولية مع الإبقاء على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لضمان استمرار الهيمنة والسيطرة على حوكمتها ومقدراتها وأولياتها. ولكن مثل هذا التعنت قد يكون من معجلات التغيير في نظام دولي هرم لم يعد ملائماً لتوازنات القوى الجديدة.

وتأتي هذه المطالب بزيادة التمويل المدعومة من البلدان النامية، خاصة مع التراجع النسبي في المساعدات الإنمائية وركود التمويل المقدم من بنوك التنمية الدولية عند أرقام متواضعة مقارنة بفجوة التمويل. فرغم زيادة محدودة في التمويل المقدم من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذه الزيادة وُجّهت لمواجهة تبعات الحرب في أوكرانيا في مساعدات إنسانية وغوث اللاجئين إلى غير ذلك. كما أن رؤوس الأموال المدفوعة لبنوك التنمية الدولية لم تواكب زيادة حجم الاقتصاد العالمي والنواتج المحلية للبلدان النامية فصار القادم منها لتمويل التنمية هزيلاً، خاصة فيما يتعلق بالبلدان متوسطة الدخل التي أصبحت أسقف التمويل المتاحة لها منخفضة وبشروط تمويل غير محبذة من حيث التكلفة وعمولات الارتباط وفترات السماح ومدد السداد.

وتأتي هذه المطالب أيضاً وفقاً لوثيقة تمويل التنمية المتفق عليها في أديس أبابا في عام 2015 التي تعهدت البلدان المتقدمة أثناء مناقشتها بمساندة تحقيق أهداف التنمية المستدامة وهو ما لم يتم، ووعدت المؤسسات المالية الدولية بزيادة قدراتها التمويلية وهو ما لم يحدث؛ واستخدام أسلوب الرافعة وتخفيف المخاطر وتقديم الضمانات لدفع الاستثمارات الخاصة للمشروعات التنمية وهو ما لم يتحقق منه إلا النذر اليسير.

 

د. محمود محيي الدين

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات