الذكاء الصناعي… هل يخذل البشرية؟

من مفارقات الحياة الكبرى أن صناع الشيء هم أول من يكتوي بناره. الشركات العملاقة في مجال الذكاء الصناعي آخذة في تسريح عمالها في حدود 10 في المائة أو أعلى قليلاً. الأرقام المعلنة من شركات مثل «أمازون» و«غوغل» و«مايكروسوفت» وغيرها، تشير إلى أزمة كبرى في مجالات عمل تلك الشركات، وهي التي تصنع الكثير من تطبيقات الذكاء الصناعي بدرجاته المختلفة، والتي كثيراً ما بشّرت بأن نشر تلك التطبيقات في مجالات الحياة المختلفة سيؤدي إلى تغيير نمط الحياة البشرية من جانب، وتحسين أوضاعها من جانب آخر، عبر تيسير إنجاز الأعمال القائمة أساساً على التعامل مع البيانات المفرطة، ويصعب على البشر أن يتعاملوا معها بسرعة وكفاءة، بينما تطبيقات الذكاء الصناعي تفعل ذلك في أسرع وقت وبكفاءة عالية. والأهم من ذلك كله هو أن بعض تلك التطبيقات يمكنها أن تتنبأ أو تتوقع في ظروف معينة بسيناريوهات أو تطورات محددة، تمثّل تنبيهاً لأصحابها لاتخاذ خطوات استباقية منعاً للخسارة أو احتوائها.
شركات التكنولوجيا الكبرى تمتلك مثل هذه التطبيقات الذكية القادرة على التوقع بناءً على تحليل إحصائي معقَّد لكمٍّ هائل من البيانات المتراكمة عبر سنوات طويلة، فلماذا لم تتوقع تلك التطبيقات حدوث أزمة قد تسبب لها خسائر بشكل أو بآخر؟ يمتد هذا التساؤل إلى أن تلك الأزمات ليست مرتبطة بقدرات الشركة وحسب، بل أيضاً بقدرات المنافسين القادرين على ابتكار برامج ذكية تفوق ما لدى الشركات العملاقة، والأمران معاً يفسران إلى حد ما قرارات تسريح نسبة لا بأس بها من العاملين المخضرمين من المبرمجين والمخترعين والمنظمين والإداريين في تلك الشركات العملاقة.
كل البيانات الصادرة عن تلك الشركات العملاقة تؤكد أن تراجع الاقتصاد هو السبب الرئيسي، وتلك إجابة منطقية إلى حدٍّ ما، ولكنها ليست إجابة كاملة الأركان، والسبب في اعتقادي أن ثمة خللاً كبيراً بات يصيب تلك الشركات من حيث اعتمادها على تطبيقات ذكية من صنعها، قدم لها تطمينات مستقبلية بأن عملها سيظل في صعود أياً كانت البيئة الكلية التي تعمل فيها تلك الشركات، ومن ثم أخذت في التوسع وفي الإسراع بإبداع برامج وتطبيقات أكثر ذكاءً تقترب من مستوى التعلم الذاتي الأولي، في حين أن البيئة الكلّية من مجتمع وقيم وأنماط حياة مختلفة ومتناقضة أحياناً، ومنافسات قاسية مع الفاعلين الآخرين، تبدو ليست مؤهلة لكل تلك التطبيقات الذكية التي يتم العمل عليها بهدف نشرها وجعلها نمط حياة جديداً للبشرية كلها، وليس فقط لمجتمعات الدول الصناعية.
يُذكر هنا أن مستوى التعلم الذاتي لبعض البرامج وتطبيقات الذكاء الصناعي قائمة أساساً على فكرتين رئيسيتين؛ الأولى أن الآلة من خلال خوارزمية معقدة ومتشابكة ومعادلات إحصائية تتوالد ذاتياً، يمكنها أن تكتسب معارف جديدة توجه عملها دون تدخُّل بشري، وهو ما يدخل في نطاق الآلات المستقلة، وأبرز استخداماتها المستقبلية يُخطط لها أن تكون عسكرية بالأساس كالروبوت المقاتل، وهناك نماذج أولية منه لدى الصين وروسيا والولايات المتحدة. أما الثانية فهي الآلات والتطبيقات التي تعتمد معادلاتها الخوارزمية أساساً على كمِّ البيانات التي تتوفر لها، سواء من خلال ما تجمعه وفقاً للتصميم الأساسي الذي أنشأ عملها، أو من خلال قاعدة بيانات خاصة تمتد لمسافة زمنية معينة ولا تتجاوز تلك المدة الزمنية، ويتم توفيرها مسبقاً بتدخل بشري. وكلا النوعين يقوم بما تُعرف بالتغذية الارتجاعية الذاتية، وهو ما يوفر مساحات من الاستجابة تختلف وفقاً لطبيعة البيانات التي تعتمد عليها. وبالتالي فإن حجم البيانات وطريقة الوصول إليها والمدى الزمني يجعل النتائج مختلفة. ففي أحد التطبيقات الذكية التي يمكنها تحرير النصوص بدقة ويُدعى «أبوت»، وهو امتداد لتطبيق «شات جي بي 2»، والذي أظهر قدرة على تقديم إجابات منطقية لمدى واسع جداً من الأسئلة البشرية، اعتمد على قاعدة بيانات تقف عند عام 2021، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلة حدثت بعد هذا التاريخ. مما يؤكد أن التطبيق الذكي، حتى وإن تعلم ذاتياً، فهو رهْنٌ بما يتاح له من بيانات يتعامل معها بقدر من الحرفية الإحصائية التي تمكّنه من استنساخ إجابات سبق أن توصل إليها البشر في حياتهم الطبيعية.
النوع الأول الذاتي يثير بدوره مشكلات أخلاقية وفكرية وفلسفية كبرى، من قبيل: هل يعاقَب الروبوت المقاتل إن أتى بفعل مُجرَّم وفق القوانين والمعاهدات الدولية التي تنظم الحرب مثلاً؟ وما هذا العقاب لآلة صماء؟ وهل يخضع مبرمجو هذه الآلة للعقاب؟ وما حجمه؟ وقِسْ على ذلك الكثير من الجدل بين العلماء في غيبة عن الرأي العام إلا فيما ندر.
القاعدة الرئيسية هنا تتعلق بحجم البيانات، ومَن يجمعها، وكيف يصل إليها، وقواعد تنظيمها، ومَن يستغلها، ولماذا؟ البيانات هي بذور المعلومات المتناهية الصغر، وعبر تراكمها تتحول إلى غنيمة كبرى، ووفقاً لعالم ذكاء صناعي صيني، فهي نفط العالم الجديد؛ تُمكِّن مالكها من تحقيق السبق في القيادة والهيمنة مع منافسيه. ومن جانب آخر فإن تلك البيانات عند معالجتها بتطبيقات الذكاء الصناعي ليس بالضرورة أن تنتج النتائج نفسها، فحجم التحيز والشفافية والشمول والهدف الضمني الذي صيغت على أساسه الخوارزمية الذكية في التطبيق المعنيّ، تلعب الدور الأكبر في تحديد النتائج المرجوّة. ولعل التطبيق الأكثر حضوراً في هذا المجال المتعلق بالتعرف على الوجوه، الذي طوّرته شركات صينية للتحكم في انتشار وباء «كوفيد» مطلع 2020 واستهدف أساساً مراقبة الجموع في كل تحركاتهم، ووفّر ذلك كماً هائلاً من البيانات للحكومة الصينية عن كل مواطن صيني تقريباً. مما يدعم الشمولية بمعناها الواسع. إيران من جانبها، بدأت تطبيق هذا البرنامج للتعرف على المحتجين والوصول إليهم واعتقالهم، مما يدعم بقاء النظام وشموليته من جانب، ويسرع إجراءات الاعتقال للمحتجين من جانب آخر، ومن ثم يُنهي أي تمرد على المدى القريب. لكنه لا يفيد في إصلاح النظام على المدى المتوسط.
بهذا المعنى يمكننا أن نفهم القلق الذي يجب أن يعتري البشر كلهم، ويدفعهم إلى البحث الجماعي لصياغة اتفاقية أو معاهدة دولية لحماية البشرية من التحيزات المقصودة في تطبيقات وبرامج الذكاء الصناعي. وبالقطع فإن الدور الأكبر الذي ستلعبه الدول الصناعية الكبرى في صياغة مثل هذه المعاهدة سيكون مشفوعاً بمصالحها ومصالح شركاتها العملاقة المدنية والعسكرية بالدرجة الأولى. أما الدول والمجتمعات الأضعف في صناعة الذكاء الصناعي فسيقلّ، إن لم ينعدم، دورها تماماً. وهنا تبدو معضلة الأطراف الأخرى، لأن أي معاهدة دولية لمجالات لا تختبرها الغالبية العظمى من الدول والمجتمعات لن تكون ذات معنى، ومن ثم ستقل فاعلية هذه الوثيقة الدولية إن تم التوصل إليها، وغالباً ستكون مجالاً لابتزاز تلك الدول لاحقاً من قِبَل الدول المحتكرة للذكاء الصناعي.

 

د. حسن أبو طالب

احتمالات ركود الاقتصاد الأميركي في 2023 تصل لـ61%..ما تأثير ذلك على محفظة الأسهم؟

العديد من الاقتصاديين توقعوا أن يكون 2023 هو عام الركود، على سبيل المثال أظهر مسح لوول ستريت جورنال أن فرص ركود الاقتصاد الأميركي هذا العام تصل لـ61%.

ألان جرينسبان الرئيس الأسبق للاحتياطي الفدرالي أكد أن الركود هو النتيجة الأكثر احتمالاً في ظل المسار الاقتصادي الحالي.

والوضع الاقتصادي الحالي يتلخص في بحث الاحتياطي الفدرالي عن طرق لمحاربة التضخم الذي دمر الموارد المالية للمستهلكين طوال 2022.

وعلى الرغم أن التضخم بدأ يتراجع والاحتياطي الفدرالي ألمح إلى أنه سيبدأ خفض وتيرة زيادة الفائدة، يرى العديد من الاقتصاديين أن سياسات الفدرالي أدت إلى تباطؤ أوسع نطاقاً للاقتصاد والإضرار بقطاع الإسكان والنشاط الصناعي.

وفي ظل تلك المتغيرات، ماذا تعني تلك الأوضاع بالنسبة لمحفظتك الاستثمارية وفقاً لخبراء اقتصاديين؟

الأسواق قد تكون مسعرة وفقاً لركود ضحل وقصير الأجل

الاقتصاديون ليسوا الوحيدين الذين يقلقون بشأن الركود، المستثمرون كانوا قلقين من وضع الاقتصاد لعدة أشهر، مما أدى لانخفاض مؤشر S&P 500 بنحو 18% وبنسبة 25% في مرحلة ما وذلك من أعلى مستوياته على الإطلاق المسجلة في مطلع 2022.

وقال سام ستوفل رئيس استراتيجيي الاستثمار لدى CFRA لـ CNBC make it إن المستثمرين والاقتصاديين على السواء يتوقعون نوعاً معتدلاً من الركود.

فيما ذكر روس مايفيلد محلل استراتيجية الاستثمار لدى Baird Private Wealth Management أن مسألة الركود المعتدل نسبياً وقصير الأجل يمكن حدوثها بالنظر إلى البيانات الاقتصادية الحالية التي تشمل الإنفاق الاستهلاكي وسوق العمل القوي.

وأضاف: هذا ضمن بعض الأشياء التي ينظر الاحتياطي الفدرالي بها..والتي لم نراها قبل أن نتوجه نحو الركود.

وفي حالة تحقق هذا التصور بالنسبة للركود، فإنه من غير المتوقع حدوث موجة بيعية حادة أو زيادة كبيرة في أسعار الأسهم في أي وقت قريب، بدلاً من ذلك وجه تركيزك على الأسهم التي ستخترق مستويات الدعم والمقاومة حينما يعكس الاحتياطي الفدرالي مساره بشأن أسعار الفائدة.

وتابع مايفيلد: اللحظة التي سيعلن فيها الفدرالي أنه سيعكس مسار سياسته هي المرحلة التي سيلتقطها السوق على الأرجح ويتعامل معها.

ماذا لو كان الركود أكثر عمقاً ولفترة زمنية أطول؟

وقالت ليز يونج رئيسة استراتيجية الاستثمار لدى SoFi: لا أعتقد أن الركود مسعر في سوق الأسهم، وبالنظر إلى أن متوسط انخفاض السوق خلال فترة الركود هو 44%، فإنه يجب أن ينخفض على الأقل بنسبة 30% من المستويات المرتفعة الأخيرة.

أما العامل الرئيسي الذي يمكن أن يشير إلى ركود أعمق فهو تراجع كبير في أرباح الشركات وهو ما أشار يونج إلى أنه سيكون له تداعيات على الأسهم.

أما الجانب الإيجابي في هذا السيناريو هو أن المستثمرين تجاوزا بعض هذه المتاعب بالفعل ما يعني أن الركود لن يكون صدمة كبيرة للمحافظ المالية.

واحتمالات انخفاض مؤشر S&P500 بنحو 30% تشير إلى تراجع إلى 3357 نقطة وهو ما يشكل انخفاضاً بنحو 16% من المستويات الراهنة.

وشدد يونغ أن ذلك لا ينبغي أن يثني المستثمرين عن الاستثمار الآن، على العكس فمن الحكمة استثمار الأموال في محفظة متنوعة ومواصلة الاستثمار حتى إذا عانى السوق من بعض الاضطرابات.

وعند القيام بذلك فإنك بالفعل تشتري المزيد من الأسهم بسعر رخيص وهو ما سيفيد حال استمرار السوق في صعوده طويل الأجل.

هكذا يفكرون: نستطيع الصمود لسنوات

يزداد المشهد المالي والاقتصادي تعقيداً، ربطاً بالمشهد السياسي العقيم. ومن خلال المؤشرات القائمة حالياً، يمكن القول انّ البلد ماضٍ الى مصير أشدّ سواداً في المرحلة المقبلة، اذا لم يحصل خرق على الجبهة السياسية، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية.

في الكواليس، هناك ما يشبه القناعة المطلقة بأنّ كل ما يجري اليوم، سواء في الداخل او على جبهة صندوق النقد الدولي، هو مجرد مضيعة للوقت، لأنه لا يوجد قرار او قدرة على الانتقال الى مرحلة جديدة.

هذه القناعة بات يشعر بها المُتعاطون في الشؤون المالية والاقتصادية، الذين هم على تماس مع الدوائر السياسية الفاعلة والمقررة. ومن خلال ما يمكن لمسه من هذه الدوائر، يُستنتج وجود ارادة بالابقاء على الامور كما هي، بانتظار ما في الغيب.

ما يغذّي احتمال الاستمرار من دون أي حل او تغيير، انّ بعض مَن يقبع في موقع القرار، بدأ يروّج لفكرة قدرة البلد على التأقلم مع الوضع القائم، لسنوات طويلة الى الامام. ويقدم هؤلاء مقاربة غريبة عجيبة لتبرير الاستمرار، تستند الى المعطيات التالية:

اولاً – انّ حجم الدولارات التي تدخل الى البلد، والمقدّرة بحوالى 8 مليارات دولار، بالاضافة الى ملياري دولار قد تؤمّنها القطاعات المنتجة، (صناعة، زراعة…) قد تكون كافية لخلق نوع من التوازن المقبول الذي يسمح لمصرف لبنان بامتصاص جزء من هذه الدولارات وإعادة ضخّها في الاقتصاد بطريقة او بأخرى.

ثانياً – مع الوقت، سيتمّ خفص الاستيراد بحيث يخفّ الضغط على ميزان المدفوعات، لأنّ بلداً بوضع لبنان وحجمه، ينبغي ألا يزيد حجم استيراده السنوي عن 10 مليارات دولار، مع احتساب الحاجة الى الاستيراد الاضافي بسبب وجود النازحين السوريين في لبنان.

ثالثاً – اقتصاد الفريش دولار، أي المؤسسات والمهنيين والموظفين الذين يتقاضون اموالهم بالفريش، والذين لم تتأثر مداخيلهم كثيراً بالأزمة، وباتوا يشكلون ما يُعرف باقتصاد الـ20 في المئة، سيساهمون في تحسين الدورة الاقتصادية. وهذا الامر بات واضحاً من خلال الحركة في مجموعة واسعة من القطاعات، من ضمنها القطاع السياحي والمطعمي. ومؤشرات المطاعم «المفوّلة» طوال ايام الاسبوع، ليست لوحدها ما يُبنى عليه للادعاء بأنّ اقتصاد الـ20 في المئة يكفي لتشغيل قسم من القطاعات، بل تُضاف اليه مؤشرات عودة بعض الاستثمارات، منها على سبيل المثال لا الحصر اعادة افتتاح فنادق كانت مقفلة منذ سنوات. صحيح انّ اصحاب هذه الفنادق قلّلوا من قيمة عامل الجدوى الاقتصادية لقرار اعادة العمل، وركّزوا على رغبتهم في مساعدة اللبنانيين على إيجاد فرص عمل اضافية، لكن ذلك لا ينفي وجود جدوى اقتصادية، وإلا لكنّا شهدنا اعادة الافتتاح قبل هذا الوقت، بل لما كانت هناك حاجة للاقفال أصلاً.

رابعاً – في هذا المشهد، الدولة هي الاشد فقراً، وعاجزة عن تسيير شؤونها. وبالتالي، لا بد من التركيز على ابتكار وسائل للحصول على اموال اضافية من اقتصاد الـ20 في المئة تحديداً. وقد تكون محاولة رفع ضرائب الدخل على اصحاب الرواتب بالدولار هي أول الغيث، ضمن محاولات كثيرة سوف تتكرّر في المرحلة المقبلة، بهدف تحسين الاوضاع المالية للدولة.

ضمن هذه الحقائق، يعتقد بعض مَن في يدهم القرار، انهم يستطيعون الاستمرار كما هو الوضع اليوم، لفترة طويلة قد تستغرق سنوات. ومثل هذا التفكير ليس عقيماً فحسب، بل ينطوي على مخاطر تغيير وجه لبنان الى الابد. الموضوع لا يرتبط بالقدرة على تأمين توازن بين الدولارات الداخلة والدولارات الخارجة، بل بالهيكل العام للبلد. اذ عندما يسقط قطاع التعليم، على سبيل المثال لا الحصر، يتغيّر شكل البلد من أساسه. كذلك عندما يسقط قطاع الاستشفاء وسواه من القطاعات المرتبطة بالكادرات البشرية المميزة. هذه القطاعات، ومن ضمنها القطاع المالي، هي التي منحت لبنان تَمايزه، وهي التي سمحت اليوم بدخول 8 مليارات دولار من اللبنانيين في الخارج. وإسقاط نقاط القوة هذه بذريعة انّ لبنان يستطيع ان يتحاشى المجاعة، وان يأكل ممّا توفّره له التحويلات، هو ضرب من الجنون والاجرام في حق اللبنانيين.

لكن أخطر ما في هذا التوجّه، هو انّ احتمالات استمراره كبيرة، وان البلد قد يخضع فعلاً لإرادة هؤلاء، ويستمر كما هو، متّجهاً نحو الدمار الشامل، من دون أن تكون لدى أصحاب النيات الحسنة والرؤية الصائبة القدرة على التدخّل لمنع هذه المأساة.

انطوان فرح

عن مستجدات اقتصاد العالم وفخ الوسط

ربما قضيت الأيام الأخيرة من السنة الماضية، والأيام الأولى من العام الحالي، متابعاً بتعجب ما تناقلته وسائل الإعلام عن أوضاع الاقتصاد العالمي، وكيف أنه يتعرض لأزمات شتى متعددة ومستمرة، لم تترك مصدراً لها أو بعداً إلا شملته. وشرع المحللون يصنفون حدتها وأوجه تأثيرها على حياة الناس وأسباب معيشتهم. ثم ها هي صحف اقتصادية واسعة الانتشار، مثل «فايننشيال تايمز» اللندنية، تزف فجأة أخباراً وتقارير عن أجواء للتفاؤل، انتقلت عدواها بين جنبات منتجع دافوس السويسري؛ حيث عقد الأسبوع الماضي المنتدى الاقتصادي العالمي. وانتشرت روح الأمزجة المبتهجة؛ خصوصاً مع ارتفاع البورصات المالية العالمية بنحو 4 في المائة منذ بداية العام.
دعم هذا التوجه المتفائل نسبياً قرار الصين -كثاني أكبر كيان اقتصادي عالمي- بإنهاء سياسة «صفر- كورونا» وإعادة فتح البلاد للحياة العادية، ومعاودة النشاط الاقتصادي إنتاجاً واستهلاكاً. واحتفى البعض أيضاً بانخفاض أسعار الغاز الطبيعي بنحو 80 في المائة، بما سيخفف العبء عن ثالث أكبر تجمع اقتصادي تمثله أوروبا التي عانت أزمة طاقة حادة وتقلباً في أسعارها. وكان السبب الأخير للانطباعات الإيجابية هو أثر قانون تخفيض التضخم للولايات المتحدة الأميركية واستثماراته الموعودة والمدعومة بسخاء لتنفيذ برامج التحول الأخضر؛ خصوصاً في مجالات الطاقة والبنية الأساسية. مثل هذه المؤشرات عن الاقتصادات الثلاثة الأكبر عالمياً ستدفع المؤسسات المالية الدولية إلى تحديث لمؤشرات الاقتصاد العالمي، لتتوقع اقتصاداً عالمياً يتحاشى في مجمله فوهات الركود، ويسيطر على التضخم.
ويجب ألا نتعجب من سرعة تغير التوقعات وتوجهاتها، فقد تطرقت في مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغراء في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلى أن «ظروف اللايقين التي يعيشها العالم تجعل احتمال حدوث التوقعات المعلنة من أنواع التخرص، وإن صدقت بعض هذه التوقعات فهي من المصادفات غير المحسوبة. ولمن لديه شك، فليراجع توقعات المؤسسات الدولية على مدار السنوات الثلاث الماضية، منذ اندلاع جائحة (كورونا) عن نمو الاقتصاد العالمي، ومعدلات التضخم، وأسعار السلع الرئيسية، كالنفط ومواد الطعام والمعادن النفيسة، وأسعار صرف العملات الرئيسية، وليحدد مدى اقترابها من الواقع المعيش».
على الرغم من ذلك، ليس لدي من شك في أن الاقتصاد الأميركي سيخرج في النهاية من أزمة التضخم الراهنة بإجراءات السياسة النقدية المتبعة، وقد يضطر البنك الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة بمقدار يتراوح بين 25 و75 نقطة أساس، أي بأقل من نقطة مئوية حتى نهاية العام، ثم سيأخذ فترة لمراجعة حقيقة ما يحدث في سوق العمل بين مؤشرات تظهر متانته، ومؤشرات أخرى متعارضة تتعلق بتسريح أعداد كبيرة من العاملين في بعض الشركات الكبرى من السوق، كما سيتابع مؤشرات نمو الاقتصاد ليدفع به بعيداً عن تهديدات الركود، وسيتحقق من مدى صمود المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع العقارات، وسلامة القطاع المالي من التعرض لمخاطر زيادة القروض المتعثرة.
أما الصين، فبعد ثلاثة أعوام من الإغلاق بسبب «كوفيد» ستكون لسرعة عودتها للحياة الطبيعية آثار حميدة، برفع معدلات النمو والتشغيل بعد فترة قد يتطلبها التكيف مع الواقع الجديد، من حذر وتحفظ على مدار الشهور الأولى من هذا العام، ولكن إذا تركت الأمور تسير في أعنتها على النحو المتوقع فسيرتفع معدل نمو الاقتصاد الصيني بتأثير إيجابي على متوسط نمو الاقتصاد العالمي. ولكن هذه الزيادة في نمو الاقتصاد الصيني ستصحبها زيادة في الطلب على الطاقة والسلع الرئيسية والخامات وأسعار النقل والسفر، بما يستوجب حساب الأثر الصافي، وفقاً لمدى استجابة قطاعات الإنتاج والعرض والتوزيع، بافتراض سلامة سلاسل الإمداد من أي مربكات طبيعية، أو مفتعلة، من جراء تبني سياسات حمائية مقيدة من جانب بعض شركاء الصين التجاريين.
ربما تبدد زيادات أسعار الطاقة -بسبب معاودة الاقتصاد الصيني مسيرة نموه- مظاهر الابتهاج المبكر باحتمالات انخفاض معدلات التضخم في أوروبا؛ خصوصاً مع أجواء الحرب الدائرة في أوكرانيا، بما سيحفز استمرار البنك المركزي الأوروبي في السياسات التقييدية؛ بل سعيه للضغط على السياسات المالية العامة، حتى لا تتبنى سياسات توسعية تقوض جهوده في مكافحة التضخم. وربما ستتكرر الحالة الأوروبية مجدداً بالتأخر في التعافي؛ ليس فقط لمشكلات الطاقة والحرب، ولكن لما تعانيه القارة العجوز من تحديات ديموغرافية، بزيادة نسبة الشيخوخة، وتراجع معدل نمو السكان، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض نسب الإنفاق على الابتكار والبحث والتطوير باستثناءات محدودة.
ما يعنينا هو الأثر الصافي لهذه التغيرات، والتدافع بين الاقتصادات العالمية الكبرى، على البلدان النامية. فقد أفصحت سجلات الأزمات العالمية الأخيرة عن أن الدول النامية؛ خصوصاً ذات الدخل المتوسط منها، هي عادة الخاسر الأكبر فيها إلا قليلاً، كما أن الأشد اضطراباً وعرضة لمخاطر هذه الأزمات داخل هذه الدول متوسطة الدخل هي أسر الطبقة الوسطى. فالشرائح الغنية لديها ما يحميها من هذه الأزمات؛ بل قد تستفيد منها وفقاً لمصادر ثرواتها ودخولها، أما الشرائح الأقل دخلاً فأصبحت لها منظومة متعارف عليها لشبكات الحماية الاجتماعية والدعم العيني والنقدي، بتكاليف محددة في موازنة الدولة، والتي يمكن أن تحمي هذه الشرائح شريطة تفعيلها المبكر بكفاءة، قبل زيادة تأثير احتدام الأزمات عليهم.
وما أقصده بفخ الوسط يشمل الدول متوسطة الدخل، والتي تشكل ثلث اقتصاد العالم، وتضم 75 في المائة من سكانه، ويعيش فيها أكثر من 60 في المائة من فقراء العالم. وتنتمي إلى هذه المجموعة أغلب البلدان العربية، وأعداد متنامية من البلدان الأفريقية تشكل الثقل السكاني للقارة السمراء. وقد أشرت من قبل إلى أن الدول متوسطة الدخل لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة في الاقتراض الرخيص بعملاتها المحلية من الأسواق الدولية بلا مخاطر في سعر الصرف وتقلباته. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كالذي تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلاً. فقد حُرمت الدول متوسطة الدخل من جل التمويل الميسر بافتراض مضلل وفضفاض بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية، من خلال مواردها المحلية واستثمارات القطاع الخاص، والنفاذ إلى الأسواق المالية الدولية. فسبل التيسير لحياة الفقراء ومتوسطي الدخل مطلوبة بما يتجاوز اعتبارات التصنيف العقيمة للدول، وفقاً لشرائح دخول تختزل واقع التنمية في متوسطات مضللة، لا تأخذ في الاعتبار التفاوت الحاد في توزيع الدخل، أو مدى الهشاشة عند التعرض للصدمات.
إذن لدينا معضلتان يلخصهما فخ الوسط: مرة إذا وقعت فيه الدول متوسطة الدخل، ومرة أخرى إذا تناولنا أوضاع الطبقة الوسطى بهذه البلدان في الاعتبار. وأضيف إلى ذلك ما قد نلاحظه أيضاً من تحديات تتعرض لها المشروعات المتوسطة، فالشركات الكبرى لها الحظوة في التمويل بمعاملات تفضيلية من البنوك والأسواق المالية، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تتوفر لها حزم مساندة بدعم محلي أو خارجي، أما المشروعات المتوسطة في كثير من البلدان النامية فلا سند لها أو معين في أجواء الأزمات، فلا هي طالت حظوة الشركات الكبرى، ولا هي أصابها إغداق الداعمين للمشروعات الصغرى. ولهذا ينتشر تعبير الوسط المنسي لوصف حال من وقع تصنيفه في خانات الوسط؛ سواء كانت دولة أو شركة أو أسرة منتمية للطبقة الوسطى.
ويستلزم الأمر مراجعة لسبل تيسير التمويل في وقت الأزمات. ففيما يتعلق بالبلدان النامية تجب إعادة النظر فيما تحصل عليه من المؤسسات المالية الدولية، وشروط اقتراضها المغالية، بتيسير هذه الشروط؛ سواء من حيث التكلفة أو فترة السماح أو مدة التمويل. وقد اقترحت على سبيل المثال ألا تزيد تكلفة تمويل العمل المناخي على 1 في المائة، بفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات، وفترة سداد لا تقل عن عشرين سنة، ويمول هذا الدعم من تعهدات المائة مليار دولار الموعودة من البلدان المتقدمة التي لم تصل بكاملها أبداً للبلدان النامية. وبالنسبة للشركات المتوسطة فتجب مساندة الواعدة منها ذات المكون التكنولوجي الرائد، وصاحبة الإسهام الملموس في التشغيل والابتكار والتصدير. أما أسر الطبقة الوسطى فينظر لها على أنها سند الاستقرار المجتمعي، المحافظة على قيمه، وبين شرائحها يحدث الحراك الاجتماعي المطلوب للتقدم.
وفي عهد صعود الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية، كان إذا سئل الشباب عن أي مركز اجتماعي يرغبون فيه مستقبلاً، تأتي الإجابة تلقائية برغبتهم في أن يكونوا مثل سائر الناس. ففي المجتمعات التي تشكل الطبقة الوسطى غالبية مكونات هرمها السكاني والاقتصادي، يكون طموح الفرد وتوقعه أن يكون مثل عموم الناس دون نقصان.

د. محمود محيي الدين

من إدارة الأزمة إلى التطور في صُلب الأزمات

 

منذ نحو ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، يحاول الإقتصاد اللبناني ومؤسسات القطاع الخاص، وسيدات ورجال الأعمال والرياديون إدارة الأزمات المتوالية والمتراكمة والمستعصية، التي تضرب لبنان وتهزّه، وتعصف باقتصاده، وتوازنه الإجتماعي. لكن لا يُمكن الحديث عن إدارة الأزمات على المديين المتوسط والبعيد، لأن هذه الهزّات أصبحت من صلب حياتنا اليومية.

يجب ألاّ ننسى أو نتناسى، أن لبنان واجَه في السنوات الثلاث الماضية، ثلاث أكبر أزمات في تاريخه وتاريخ الكون:

الأزمة الأولى التي لا نزال نعيشها وندفع ثمنها، وهي أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية ومالية ونقدية، والتي لا تزال تتفاقم يوماً بعد يوم، أو بالأحرى ساعة بعد ساعة، والنزف مستمر.

الأزمة الثانية التي هزّت العالم وسائر اقتصاداته، هي جائحة كورونا (كوفيد-19)، والتي لا يزال العالم يُبلسم جروحاتها، وإعادة هيكلة كل اقتصاداته، واستراتيجياته، والتحالفات، فيما نواجه منافسة لإدارة العالم الجديد، وندفع ثمن التشنّجات والصراعات الداخلية للقيادة الجديدة.

أما الكارثة الثالثة، فهي لا شك انها ثالث أكبر انفجار في تاريخ العالم، والتي نسفت عاصمة لبنان، ودمّرت البيوت والأحلام، وما تبقى من الثقة والصمود والمثابرة.

في ظل هذه الأزمات المتتالية، يُحاول رجال وسيدات الأعمال اللبنانيين، القيام بإدارة هذه الأزمات والخضات الدراماتيكية، ونفخر بأن بعض القطاعات إستطاعت المواجهة، وحتى اليوم إعادة البناء والتطوُّر والإنماء من جديد.

لكن علينا أن نُشدّد على أن إدارة الأزمات ينبغي أن تكون على المدى القصير، لكن عندما تطول الأزمة لا نستطيع أن نتحدث بعدئذ عن إدارة الأزمات التي أصبحت في صلب أرضيتنا وبيئتنا وحياتنا اليومية، فعلينا أن نُحوّل استراتيجيتنا إلى الإدارة والتطور في صُلب الأزمة وفي ظل البيئة المتغيّرة والمتأزّمة. فهناك مسؤولية كبيرة على الطلاب والرياديين وقياديي الشركات بتكيّف أفكارهم وابتكار الإستثمارات واكتشافها.

الإستراتيجية الإدارية التي نقترحها مبنيّة على ثلاثة أركان هي: التطوير، والتنويع والتفويض، في ظل الأزمات، التي ينبغي اعتمادها، لأن أفضل هجوم مضاد هو الهجوم الإستراتيجي والمدروس والمُخطط.

التطوير، وفق الإستراتيجية الأولى، يبدأ بتكيُّف الأفكار والإدارة والريادة. وعندما نتحدث عن التطوير، نعني تطوير الأسواق، والسلع، والموارد والوجود الجيوغرافي. فالتطوير في البيئة المتغيّرة، يسمح على المدى القصير بوقف النزيف، ومواجهة الصعوبات، لكن في المدى المتوسط والبعيد، يسمح بالإنماء من جديد.

أما الإستراتيجية الثانية المعتمدة على التنويع، فتركّز على تنويع الأسواق أيضاً، والسلع، والخطط والإستراتيجيات، والمعارف، والخبرات، للتخفيف من المخاطر، وبناء أركان جديدة، وأسس لإنماء جديد في هذا العالم المتغيّر.

أما الأولوية الثالثة، فتكمن في استقطاب أهم الموارد البشرية أو بالأحرى استقطاب أفكارها الخلاّقة، والمبتكرة، والمبدعة، وتفويضها قسماً كبيراً من الإدارة، وخلق التآزر بين الأفكار والخبرات، وبين أفكار الجيل الجديد وخبرات الجيل القديم، لوضع الحجر الأساس لإعادة الإستثمار والبناء والإنماء الجديد.

في الخلاصة، علينا أن نكون واقعيين وموضوعيين، ونقبل بالحقيقة المُرّة، بأن الأزمة والأزمات باتت في حياتنا اليومية، وفي صُلب بيئتنا المأزومة. فنحن على مفترق طرق، إما الإستسلام للإفلاس التام، وإما المواجهة عبر التطور والتنويع والتفويض، وللإنماء والإستثمار في ظل العواصف، لنكون جاهزين عندما ستشرق الشمس من جديد.

د. فؤاد زمكحل

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات