تخلّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها: مقاربة قانونية للمنازعات بين المستثمرين والدول

بتاريخ ٩ اذار ٢٠١٠، أصدرت الجمهورية اللبنانية سندات يوروبوند بقيمة ١،٢مليار دولار أميركي مدّتها عشر سنوات مع قسيمة (فائدة) بنسبة ٦،٣٧٥% تستحق في شهر آذار ٢٠٢٠، و ذلك من ضمن برنامج سندات عالمية متوسطة الأجل (“البرنامج”) بقيمة ٢٢ مليار دولار أميركي.

بالإضافة إلى هذه السندات، تستحق في شهري نيسان وحزيران من هذا العام، مجموعتين إضافيتين من السندات التي اصدرتها الجمهورية اللبنانية بقيمة اجمالية تبلغ ١،٣ مليار دولار أميركي.

في ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يمرّ بها لبنان، يدور النقاش في الشهور الأخيرة حول ما إذا كان ينبغي على الجمهورية اللبنانية سداد سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ (و/أو سندات اليوروبوند الأخرى المستحقة في وقت لاحق من هذا العام). لهذه المسألة أهمية كبيرة إذ أن أكثر من ٢٥٪ من السندات المستحقة في اذار ٢٠٢٠ هي مملوكة من غير اللبنانيين وفقاً لتقارير غير رسمية.

إن الغاية من هذا المقال هي دراسة أثر تخلف الدولة اللبنانية عن سداد الديون بالاستناد الى قانون الاستثمار الدولي وبشكل خاص ايضاح الإجراءات القانونية التي قد يلجأ إليها بعض حاملي السندات غير اللبنانيين ضد الدولة اللبنانية في حال عدم سداد السندات المستحقة في ظل هذه القوانين.

نظراً لندرة الأحكام القضائية والقرارات التحكيمية الدولية في المنازعات الناشئة عن الديون العامة (ديون الدول)، لا يزال يشوب القانون الدولي المتعلق بهذا الموضوع الكثير من النواقص حيث انه لا وجود لإجراءات قانونية محددة مسبقاً يمكن ان تلجأ إليها الدول لأجل إعادة هيكلة ديونها. نتيجة لهذا الفراغ القانوني، لجأت الدول الى الحلول التعاقديّة لدعم اجراءات إعادة الهيكلة خاصةً عبر استخدام ما يسمى “بنود اجراءات جماعية” Collective Action Clauses CACs على الرغم من أنه لم يتم تقييم فعالية هذه الاجراءات بعد.

يتضمن البرنامج” الذي تم بموجبه إصدار سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ “بنود إجراءات جماعية” يمكن بموجبها تعديل شروط السندات (بما فيها شروط الدفع والمبالغ المستحقة) وذلك شرط موافقة حاملي السندات الممثلين لـ٧٥٪ على الاقل من القيمة الاجمالية للإصدار على أي تعديل، و يكون القرار المتخذ في هذا السياق ملزماً لجميع حاملي السندات.

في الوقت الذي يتبين مما سبق أنه بالإمكان الارتكاز على بنود الاجراءات الجماعية للتوصل إلى حل حبي أو بالتراضي مع مجموعة حاملي السندات قبل التخلف عن سداد الديون، إلا أن ذلك لا يمنع أن يصار إلى الاتفاق على هذه البنود في مرحلة لاحقة على التخلف عن السداد.

بالتالي، تهدف “بنود الاجراءات الجماعية” الواردة في سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ إلى تفادي احتمال رفض أقلية من الدائنين المشاركة في إعادة هيكلة السندات وأن تختار عوضاً عن ذلك تنفيذ شروط السندات بأي وسيلة كانت، من ضمنها البدء في الإجراءات القانونية ضد الدولة المدينة.

في حال اختارت الدولة اللبنانية التخلف عن تسديد سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠، تصبح أمام خيار من إثنين: (١) إما ان تنجح في التفاوض مع ٧٥٪ او اكثر من حاملي السندات على إعادة هيكلة لاحقة لهذه السندات تكون ملزمة لسائر الدائنين، و (٢) إما ان تفشل بالتفاوض، وعندها قد تضطر لمواجهة الاجراءات القانونية التي قد يقيمها بوجهها دائنوها.

يبقى السؤال: ما هي الإجراءات القانونية التي يجب على الدولة اللبنانية توقّعها من حاملي السندات غير اللبنانيين في حال عدم سداد سندات اليوروبوند؟

بداية، تجدر الإشارة الى أن هذه السندات كانت قد نصت على أن الإصدار خاضع لقوانين ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، كما نصت على الاختصاص غير الحصري لمحاكم ولاية نيويورك أو أي محكمة اتحادية أخرى يكون مركزها ضاحية منهاتن في هذه المدينة، للنظر بأي نزاع ينشأ بين الدولة اللبنانية وحاملي السندات.

هنا، يتبين من عدد من الحالات المماثلة أن لجوء الدائنين إلى محاكم دول غير تلك التابعة للدولة المصدّرة للسندات كان غير ذي فعّالية ولم يؤد إلى النتيجة المرجوة والتي هي عادةً التنفيذ على ممتلكات الدولة المتخلفة خاصةً تلك الممتلكات الموجودة خارج الدولة المعنية. خاصةً ومن المعلوم أن الدولة اللبنانية تملك عدداً محدوداً من الأصول والأموال خارج اراضيها حيث لا يمكن استبعاد أن تقوم بالتذرع بالحصانة السيادية من أجل عرقلة تنفيذ القرارات القضائية المؤيدة للدائنين من حاملي السندات.

وبالفعل، جاءت الفقرة الأولى من المادة ٨٦٠ من قانون أصول المحاكمات المدنية لتمنع الحجز على اموال الدولة وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة مما يعني عملياً أن أي قرار يستحصل عليه حاملو السندات أمام محاكم نيويورك أو أي محاكم أخرى لا يمكن تنفيذه في لبنان. وقد نصت السندات على ذلك بوضوح حيث ورد فيها: “يجب على المستثمرين التنبه إلى أنه من الأرجح أن التنازل عن الحصانة هو اجراء غير فعال فيما يتعلق بالأصول والممتلكات التي تقع ضمن حدود الجمهورية اللبنانية”.

من هنا، ونظراً لعدم فعالية الإجراءات القضائية أمام المحاكم الوطنية، ظهر التحكيم الاستثماري كخيار محبّذ للمستثمرين وحاملي السندات السيادية وذلك عقب الركود الاقتصادي الذي ضرب الارجنتين بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٢.

لا بد من الإشارة إلى أنه لكي يتم اللجوء إلى التحكيم الاستثماري ضد أي دولة متعثرة، يجب أن تكون الدولة المدعى عليها قد تخلفت عن سداد ديونها العامة، إضافةً إلى انها فشلت في التقيد بالتزاماتها الدولية لجهة حماية الاستثمارات الأجنبية على أراضيها.

وفي هذا الإطار، طرح السؤال ما إذا كان شراء سندات سيادية يعتبر “استثمارا أجنبياً” بحد ذاته حيث أن اجتهادات التحكيم الدولي لا تجمع بعد على ذلك. إلا أنه يتبين أن عدداً متزايداً من المحكمين الدوليين يتجهون نحو اعتبار هذه العمليات استثمارا أجنبياً جديراً بالحماية مثله مثل أي استثمار أجنبي آخر.

وبالفعل، فقد رفعت العديد من الدعاوى التحكيمية خلال العقدين الماضيين من قبل حاملي سندات اجانب ضد دول متعثرة، مثل الارجنتين، فنزويلا، ومؤخراً اليونان، وقبرص حيث غالباً ما كان آلاف من حاملي السندات يتّحدون في هذه الدعاوى التحكيمية فيما يمكن اعتباره “دعاوى جماعية (Class Action Suit). في هذا الإطار، صدر قرار تحكيمي حديث في شهر شباط ٢٠٢٠ اعتبرت فيه هيئة التحكيم انها مختصة للنظر في دعوى رفعها (٩٥٦) مستثمراً يونانياً ضد دولة قبرص لاسترداد (٣٠٠) مليون يورو من السندات والودائع المصرفية التي تمت مصادرتها من قبل المؤسسات الاوروبية كجزء من الخطة المالية لإنقاذ الدولة القبرصية. ويتطابق هذا القرار مع قرار سابق صدر ضد الارجنتين قررت بموجبه هيئة التحكيم، بالأغلبية، أنها مختصة للنظر في “دعاوى جماعية” رفعها أكثر من (٦٠) الفاً من حاملي السندات من الجنسية الإيطالية.

في هذا السياق، يعد المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) الهيئة القضائية الأمثل لإقامة دعاوى التحكيم ذات الطابع الاستثماري وذلك كونه مؤسسة تحكيم دولية تابعة لمجموعة البنك الدولي وقد تأسست عام ١٩٦٦ بموجب ما يعرف باتفاقية واشنطن للعام ١٩٦٥. وتظهر أحدث البيانات ان ١٥٣ دولة متعاقدة (بما فيها لبنان) قد وافقت على تنفيذ قرارات التحكيم الصادرة وفقاً لاتفاقية ICSID والتقيد بها.

يقترن عادةً انضمام الدول إلى اتفاقية ICSID بمعاهدات استثمار ثنائية (Bilateral Investment Treaties) تكون مبرمة بين دولتين منضمتين إلى معاهدة واشنطن. تحدد هذه المعاهدات الشروط والأحكام التي ترعى الاستثمار الخاص من قبل مواطني وشركات الدولة الاولى (دولة المنشأ) في الدولة الثانية (الدولة المضيفة). بحكم معاهدات الاستثمار الثنائية هذه، توافق كل من دولة المنشأ والدولة المضيفة على تسوية أي نزاع ينشأ عن استثمار المستثمر الأجنبي عن طريق التحكيم. حتى تاريخه، ابرمت الجمهورية اللبنانية معاهدات استثمار ثنائية مع حوالي خمسين دولة مختلفة منها سويسرا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والمانيا والكويت والامارات وغيرها من الدول.

تمنح معاهدة الاستثمار الثنائية، بفضل الحماية الممنوحة للاستثمارات الأجنبية وخيارات التقاضي المدرجة فيها، خياراً قضائياً بديلاً عن المحاكم الوطنية يمكن لحاملي السندات اللجوء إليه من أجل تحصيل ديونهم، وهذا ما يفسر ازدياد اللجوء إلى هذه الهيئات التحكيمية البديلة عن المحاكم الوطنية حيث تمنح قرارات ICSID فرصة جديّة للتنفيذ ضد الدول المتخلفة عن سداد ديونها.

في الواقع، يجوز للدائن أن ينفذ اي قرار صادر عن ICSID في أي دولة متعاقدة، كما يجوز له التنفيذ في نفس الوقت في أكثر من دولة. تاريخياً، كان امتثال الدول لقرارات ICSID مرتفعا بسبب مخاطر المس بسمعتها، وبسبب الضغوطات الديبلوماسية والسياسية من قبل البنك الدولي والمجتمع الدولي كي تبادر الدولة المتعثرة بإيفاء موجباتها تجاه المستثمر الأجنبي. لذا، عندما رفضت مثلاً الأرجنتين الامتثال لقرارات ICSID الصادرة ضدها، علّقت الولايات المتحدة وضعها التجاري ضمن نظام الأفضليات المعتمد في الولايات المتحدة وهددت بعرقلة اتفاق مع أعضاء نادي باريس لإعادة هيكلة ديون الأرجنتين. بالإضافة إلى ذلك، قام البنك الدولي ومصرف التنمية للبلدان الأميركية بالتوقف عن اعادة جدولة القروض. ان هذه التدابير أرغمت الأرجنتين على الدخول في اتفاقات تسوية مع العديد من دائنيها.

في الخلاصة، هناك احتمال كبير أن يلجأ الدائنون حاملي السندات من غير اللبنانيين، والذين ترتبط دولهم باتفاقيات استثمار ثنائية مع لبنان، إلى تطبيق اتفاقية ICSID وإقامة دعاوى تحكيم استثماري ضد الدولة اللبنانية، نظراً إلى أن الدولة اللبنانية تمتلك عددًا محدودًا جدًا من الأصول التي يمكن التنفيذ عليها في حال مقاضاتها أمام المحاكم الوطنية، بينما هي مرغمة للامتثال لقرارات ICSID الصادرة ضدها. بالتالي، في حال السير في دعاوى التحكيم الاستثماري، يمكن لحاملي السندات من غير اللبنانيين التنفيذ على أموال الدولة اللبنانية وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة وهذا ما يجب أن تحتاط منه الدولة اللبنانية نظراً لجديّة وخطورة الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي قد تصيب لبنان واللبنانيين.
المصدر: المركز اللبناني للدراسات

وضع حد للنمو الاقتصادي من الأخطاء الفادحة

من بين الأفكار الخبيثة التي تجد رواجاً هذه الأيام واحدة تتعلق بأنه يتعين على المجتمعات التدخل طواعية لإيقاف نموها الاقتصادي. وفي مقالة نشرتها مجلة «نيويوركر» الأسبوعية الأميركية يسرد جون كاسيدي ظهور حركة تراجع النمو المزعومة. وتجد هذه الفكرة اهتماماً من جانب دعاة حماية البيئة الذين تساورهم المخاوف بشأن تدمير الكوكب، ودعاة المساواة الذين يخشون من النمو الذي يقضي على الفقراء في طريقه، ودعاة المستقبل الذين يتصورون المجتمع الترفيهي المثالي، وما إلى ذلك. وربما يكون تراجع النمو وسيلة من وسائل المواطنين الأثرياء، والبلدان المتدهورة للحفاظ على فخرهم من خلال ملاحقة ركب المجتمعات الصاعدة، حيث إنها تضفي طابع الفضيلة المثالية على التباطؤ الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن حركة التراجع الاقتصادي تشتمل على بعض شذرات من الحكمة، إلا أنها تستند بالأساس إلى عدد من المفاهيم الخاطئة بشأن ماهية النمو الاقتصادي الحقيقية ولماذا يعتبر مرغوباً فيه على الدوام.
أولاً، من المهم أن نتفهم اهتمام الساسة الهائل بالنمو الاقتصادي. بالنسبة إلى الدول النامية، يتعلق الأمر برفع مستويات المعيشة. لكن بالنسبة إلى البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة، فإن السبب الكبير في اهتمام الساسة المنتخبين بالنمو الاقتصادي يكمن في ارتباطه بانخفاض معدلات البطالة. فإن النمو السريع يعني المزيد من الاستهلاك والاستثمار، ويعني زيادة الطلب على العمالة، مما يعني أيضاً المزيد من الوظائف وارتفاع الأجور. لذلك، عندما يتحدث رؤساء الولايات المتحدة أو المشرعون عن النمو الاقتصادي، فلا يتعلق الأمر بارتفاع مستويات المعيشة وإنما يتعلق بالوظائف في المقام الأول.
والمفهوم الخاطئ الثاني بشأن تراجع النمو يتعلق بأن النمو يتطلب استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية الخام لتغذية الصناعات التحويلية والنهم الذي لا يشبع. وفي واقع الأمر، يعني النمو في المعتاد صناعة الكثير بالقليل من الموارد. وفي العقود الأخيرة، وحتى مع النمو المستمر في اقتصاد الولايات المتحدة، ظل استخراج العديد من الموارد الطبيعية على منوال ثابت تقريباً وربما منخفض بعض الشيء. على سبيل المثال، ارتفع استخدام المعادن في الصناعات الأميركية وبلغ ذروته القصوى مرتين فقط خلال العشرين عاما الماضية.
ويحدث هذا الأمر لعدة أسباب. تتحول طلبات المستهلكين من السلع المادية إلى الخدمات، بما في ذلك الخدمات الالكترونية عبر الانترنت. ويسمح الابتكار بالمزيد من الاستخدامات الفعالة للموارد. ويمكن للتقنيات المستدامة مثل الطاقة الشمسية أن تحل محل التقنيات الملوثة للبيئة وغير المتجددة مثل استخدامات الفحم والغاز الطبيعي. وفي بعض الأحيان يكون النمو هو السبب الرئيسي في انخفاض الاعتماد على الموارد، مثلما يقوم المزارعون بتطبيق تقنيات الري الحديثة أو عندما يجري استبدال المصانع التي تعمل بالطاقة الشمسية بأخرى تعمل بالفحم.
وذلك هو السبب في أن فكرة عدم استمرار النمو الاقتصادي إلى الأبد هي فكرة خاطئة بالأساس. فسوف تنفجر الشمس في نهاية الكون، ولكن قد يستمر النمو لفترات طويلة جداً حتى حدوث ذلك.
ولكن لا تعني إمكانات استدامة النمو أن محاولات تعظيمه للغاية من الأفكار الحكيمة على الدوام؛ إذ يعد الناتج المحلي الإجمالي من المقاييس العديدة لحساب رفاهية الإنسان، وغالباً ما يكون من المنطقي أن يركز المجتمع على تحسين الصحة، أو مكافحة عدم المساواة، أو تشجيع الترفيه. وكما يوضح أحد خبراء الاقتصاد، فإن تباطؤ النمو قد يكون علامة على النضج الاقتصادي بدلاً من الضعف. وفي الاقتصاد العالمي السليم، تميل الدول المتقدمة إلى النمو البطيء أكثر من البلدان النامية. والخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي يميل الناس في البلدان الغنية إلى الزيادة فيها، يكون نموها الإنتاجي منخفضاً في البلدان النامية.
ومع ذلك، هناك سبب مهم للغاية في متابعة النمو الاقتصادي البلدان الفقيرة في حاجة إليه. وعلى الرغم من أن أغلب العالم قد نجا من الفقر المدقع بصورة من الصور، فإنه لا يزال موجوداً بعض الشيء، ويتركز في بلدان مثل نيجيريا التي تعاني من النمو الاقتصادي البطيء. ولا يزال العديد ممن يعيشون في مثل تلك البلدان لديهم مستويات معيشية يمكن اعتبارها منخفضة بصورة غير معقولة من زاوية البلدان المتقدمة، فربما يملكون ما يكفي من الموارد الغذائية، ولكنهم غالباً ما يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، وإلى الكهرباء، والسكن المناسب، والرعاية الصحية، ووسائل النقل الفعالة، والعديد من الأمور الأخرى.
لذلك، ومن أجل الشعوب، تحتاج البلدان النامية إلى مواصلة النمو الاقتصادي. ومن أجل البيئة أيضاً، يسهل على البلدان الغنية تحمل تكاليف انخفاض التلوث، والتوقف عن حرق الغابات، وحظر استخدام المواد الكيماوية التي تسمم الحياة البحرية، وما شابه ذلك. ومن المفارقات، أنه كلما انخفضت ثروة أي بلد، ارتفعت الاحتياجات الاقتصادية وتأخذ الأولوية على حساب حماية الموارد البيئية.
لكن البلدان الفقيرة لا تنمو في الفراغ، إذ توفر الاقتصادات المتقدمة المصدر الحيوي للطلب على السلع المنتجة في البلدان الفقيرة مثل بنغلاديش، وفيتنام، وإثيوبيا، الأمر الذي يساعد هذه البلدان على زيادة الإنتاجية والانتقال إلى مصاف الدول الغنية. كما أن النمو في البلدان المتقدمة يخلق التقنيات الحديثة – مثل الطاقة الشمسية، والبطاريات، والمواد الكيميائية الصديقة للبيئة – والتي تسمح للبلدان النامية بإنتاج المزيد بأقل الخامات والموارد.

نوح سميث.

المسار القانوني لمرحلة ما بعد الإمتناع عن الدفع: لا حصانات للبنان

لمعضلة دفع او عدم دفع سندات الدين المُصدَرة من الجمهورية اللبنانية بالعملات الاجنبية (يوروبنودز – Eurobonds) والمكتتبة في الأسواق المالية الدولية جوانب عدّة، من اهمها، النتيجة القانونية للتخلّف عن الدفع بشكل غير منظّم (Disorderly) اي من دون اتفاق مع الدائنين حاملي السندات. وبغياب سلطة دولية تلعب دوراً مماثلاً لمحكمة الإفلاس في القانون الداخلي، وبوجود طرف سيادي في المعادلة وهو الدولة اللبنانية، هناك نقاط قانونية عدّة من الضروري التوقف عندها، ونتيجتها، انّه لا يمكن التكهن بما قد يحصل، ولا اعتبار انّ هناك حلّاً او استشارة او رأياً موحّداً، مما يشرّع الباب واسعاً امام اكبر خطر يهدّد المدين المتخلّف عن الدفع، وهو المجهول، لعدم وجود حصانات للبنان

تنازل لبنان عن حصانتي المقاضاة والتنفيذ

تتمتع الدول بحصانات دبلوماسية تمّ قوننتها في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961، من ضمنها حصانة المقاضاة (Immunité de juridiction) وحصانة التنفيذ (Immunité d’exécution). الاولى تحمي الدولة ضدّ مقاضاتها امام محاكم دولة اخرى، والثانية تحميها ضدّ اجراءات التنفيذ على اصولها الموجودة خارج اراضيها.

الاّ انّه يمكن للدولة ان تتنازل عن حصانة المقاضاة، وهذا ما تفعله عادة بإدخال بند تحكيمي في عقد دولي تُبرمه، او بند يمنح الاختصاص لمحكمة اجنبية. لكن هذا التنازل لا يؤدّي حكماً الى التنازل عن حصانة التنفيذ التي يجب التنازل عنها صراحةً وبشكل منفصل. من الطبيعي ان تتنازل الدولة عن الحصانتين عندما تلجأ الى الاسواق المالية العالمية وتستدين، اذ لا يُعقل ان يديّنها أحد من دون ان يحق له مقاضاتها في حال تخلّفها عن الدفع ومن ثم تنفيذ الحكم على أموالها. وهذا ما فعلته الدولة اللبنانية في عقود إصدارات سندات اليوروبوندز: تنازلت عن حصانتها ضد المقاضاة، بمنحها الاختصاص القضائي غير الحصري (non-exclusive) لمحاكم نيويورك الاميركية للبتّ بكل خلاف ينشأ بشأن السندات. وتنازلت ايضاً عن حصانتها ضد التنفيذ، لأبعد حدّ ممكن (fullest scope)، عملاً بأحكام القانون الاميركي للحصانات السيادية لعام 1976 (Foreign Sovereign Immunities Act of 1976)؛ وقد جاء هذا البند واسعاً ومفصّلاً جداً، بحيث حدّدت الدولة انّها لم تُبقِ من حصانتها سوى ما يتعلق حصراً بسفاراتها وقنصلياتها.

حقوق حاملي سندات اليوروبوندز ضد الدولة اللبنانية

في حال تمنّعت الدولة عن الدفع بشكل غير منظّم، وبعد إعمال كافة بنود الإصدارات لجهة الاغلبية (CAC وأغلبية 75%) والاستحقاق (Default and Acceleration) وغيرها، يحق لكل حامل سند ان يقاضيها في اي بلد في العالم، وليس فقط امام محاكم نيويورك، إذ انّ بند الاختصاص جاء غير حصري. فله ان يختار انسب محكمة في العالم بما يُعرف بـ Forum shopping، شرط ان تكون هذه المحكمة مختصّة وفق قواعدها لتنازع الإختصاص القضائي (Conflit de juridictions). الاّ انّه يعود لهذه المحكمة ان تطبّق على أصل النزاع قانون ولاية نيويورك، إذ انّه القانون المختار في عقود اليوروبوندز، مما يحلّ مسألة تنازع القوانين (Conflit de lois). في حال صدور حكم عن هذه المحكمة ضدّ الدولة اللبنانية، يعود لحامل السند ان ينفّذه، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل ايضاً في اي بلد في العالم توجد فيه اصول للدولة اللبنانية.

تحديد أموال الدولة اللبنانية القابلة للتنفيذ

لا يمكن لحامل سند الدين ان ينفّذ في لبنان الحكم الأجنبي الصادر ضدّ الدولة اللبنانية. فيتوجب عليه اولاً الاستحصال على الصيغة التنفيذية (Exequatur) عملاً بأحكام المادة 1009 وما يليها من قانون اصول المحاكمات المدنية، وفي حال استحصاله عليها، سيصطدم بعدم قابلية إلقاء الحجز على اموال الدولة اللبنانية وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة وفق احكام المادة 860. عليه اذاً ان يبحث عن اموال الدولة اللبنانية الموجودة خارج لبنان، وان يدرس إمكانية حجزها، عملاً بالقوانين المرعية الإجراء في بلد تواجد هذه الاموال. فلا يكون القانون الاميركي لعام 1976 معمولاً به في حال حصل التنفيذ خارج الولايات المتحدة، ويمكن ان يكون اطار التنفيذ المحدّد في القانون المحلي المعني اوسع او اضيق مما هو الحال عليه في القانون الاميركي. تأخذ الفقرة 1610 من القانون الاميركي بالتنازل عن الحصانة، وتمنح الفقرة 1611 الحصانة فقط للاصول التي تحوزها المصارف المركزية الأجنبية لحسابها الخاص (Held for its own account) اي الاموال التي تستعملها لتسيير اعمالها، وكل ما عداها هو غير مشمول بالحصانة وقابل للحجز. اما خارج الولايات المتحدة، فيجب العودة الى القانون المعمول به في البلد الذي يتمّ تنفيذ الحكم فيه، مما سيعقّد بشكل كبير إمكانية حصول لبنان على استشارة قانونية موحّدة تطمئنه لجهة بتّ مسألة الحجز سلباً او ايجاباً، إذ انّ الحل يختلف من بلدٍ الى آخر.

مصرف لبنان هو شخص معنوي من القانون العام، ويتمتّع بالاستقلال المالي عملاً بأحكام المادة 13 من قانون النقد والتسليف. وهو يملك ،على سبيل المثال لا الحصر، ذهباً مودعاً في الولايات المتحدة وغير قابل للبيع عملاً بأحكام القانون اللبناني رقم 42/86، كما ويملك اسهم شركتي MEA وIntra. سيحاول الدائنون حجز الأصول المملوكة مباشرة من مصرف لبنان كالذهب، وتلك المملوكة منه بشكل غير مباشر، وذلك باختراق حجاب الشركات (Pierce the veil) التي يملكها وحجز اصولها، كالطائرات وغيرها. هل يحوز مصرف لبنان الذهب او اسهم الشركات لحسابه الخاص ام لحساب الدولة اللبنانية؟ من المؤكّد انه لا يستعمل أسهم الشركتين المذكورتين لتسيير اعماله، اما بالنسبة للذهب، فالمسألة اكثر تعقيداً. الى ذلك، فإنّ حامل سند الدين قد يحاول حجز كافة الاموال المنقولة العائدة للدولة اللبنانية خارج لبنان، من حمولات بواخر متجهة الى لبنان ومنتجات مصدّرة (من نفط وغاز وغيرها).

اخذ صندوق النقد الدولي بنظرية الـDisenfranchisement التي تحظّر على الجهات التي تحمل سندات دين من ان تمارس حق التصويت عند اتخاذ قرارات إعادة الهيكلة، اذا كانت هذه الجهات لا تتمتع بحرّية القرار (Autonomy of decision) تجاه الدولة المُصدِرَة لهذه السندات. فمصرف لبنان هو بالتأكيد خاضع لهذه النظرية، مما قد يحول ببعض المحاكم الاجنبية ان تعتبر ذلك قرينة تسمح لها بحجز امواله، باعتبارها تعود لصاحب القرار، اي للدولة اللبنانية. انّ علاقة مصرف لبنان بالدولة عضوية، وهذا يظهر من كيفية تعيين حاكم مصرف لبنان ونوابه، وتكوين المجلس المركزي، ومراقبة المصرف المركزي من قِبل وزارة المالية، وايضاً من الدور الذي لعبه مصرف لبنان خلال العقود المنصرمة في إصدارات سندات الدين. فلا يمكن استبعاد ان ترى محكمة ما في كل ذلك إثباتاً على امتلاك الدولة لمصرف لبنان او على الاقل لتشابكهما (Intertwining).

بالمحصّلة، لا يسعنا الّا التأكيد على انّه يتوجب على الدولة امّا تنفيذ موجباتها تجاه دائنيها واحترام تعهداتها الدولية (Pacta sunt servanda)، وامّا التفاوض معهم لإعادة هيكلة ديونها بشكل منظّم وتوافقي. فحان وقت المحاسبة وايضاً وقت التعاضد، بعيداً من الشعبوية وتقاذف المسؤوليات. لقد أُسقِطَت الحصانات القضائية الخارجية، وليت تسقط الحصانات الداخلية.

البروفسور نصري دياب

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات