البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 1 ) ا

البورصة : للنخبة أم للجميع ؟ ( 1 ) –  – 20th  January 2006

 

وعدت منذ فترة غير وجيزة قراء موقع ” بورصة إنفو ” بالاجابة عن هذا السؤال ، وكنت في كل مرة أفكر فيه أؤثر التأجيل ، ليس فقط رغبة في تقديم ما هو أكثر أهمية ، بل أيضا رغبة عن ولوج باب يودي بطارقه الى شعاب قد تكثر من خصومه .

أنا أعرف جيدا أن مقدمي خدمة التجارة في البورصة وفي سوق العملات ( الفوركس ) – أو أكثرهم على الأقل –  يعملون على إقناع كل من يصادفون في طريقهم للإقبال على هذه التجارة ، وإغرائه بكونها أفضل أنواع التجارة على الإطلاق ، وإن هم أبرزوا المخاطر فإنما خضوعا لأحكام القانون ، لا غيرة على مصلحة العميل .

أنا اعرف أن بعض هذه الشركات باتت تستعمل خبراء في الدعاية لتعريف أوسع جمهور ممكن على مبادئ هذه التجارة ، فإذا بهم يسمونها مصلحة ، ويبرزون سهولة تعلمها ، وسهولة ممارستها ، وسهولة الربح فيها . وإن هم توقفوا في برامجهم الدعائية لفاصل إعلاني ، فالفاصل هو في معظم الأحيان سلعة لا بد من تحقيق ثروة لشرائها ، مثل سيارة رياضية أو شقة فخمة في حي راق . هذا جزء من الطُعم بحيث ان الاقناع يصير سهلا : انت تمتلك مبلغا صغيرا من المال . لشراء السيارة أو الشقة ، أنت تحتاج لمبلغ كبير . ألمبلغ الكبير لا يمكن تكوينه الا من التعامل في البورصة إنطلاقا من المبلغ الصغير . نحن نعلمك وندربك على الطريقة ؛ يقول مقدم الدعاية .

إن ما ينقص هؤلاء المروجين في كلامهم هي كلمة صغيرة اسمها ” قد ” .

هم يقولون : نحن نعلمك مصلحة تستطيع منها تكوين ثروة .

كان عليهم أن يقولوا : قد تستطيع منها تكوين ثروة .

ولو قالوا ، لانخفض مباشرة عدد الزبائن الى النصف ، وكانت لتكون كارثة بالنسبة لهم.

هؤلاء قوم محنكون ، يعرفون موضع الوتر الحساس ، فيتعمدون الضرب عليه . أسمعهم فأفكر مباشرة بمسوقي البضائع في المخازن الكبرى .  يرتبون البضائع التي تلفت نظر الاولاد في الرفوف السفلى من الخزائن ، على مستوى مناسب لعيون الأطفال ، وغالبا قرب صناديق الدفع . يتعلق الطفل بما يراه فتتحاشى أمه حرمانه منها ، إستحياء وخجلا من موظفة الصندوق التي ترميها بابتسامة تستعجل فيها قدومها اليها ،  فتضم السلعة الى المشتريات ، وتدفع .

أنا أعرف ذلك وأتحفظ على بعض هذه التصرفات ، وأسعى على الدوام الى فصل الخيط الأبيض عن الأسود . أنا أوافق على بعض ما يقوله هؤلاء المروجون . هذا صحيح : قد يمكنك ، أخي القارئ ، تكوين ثروة مما انت قادم عليه ، ولكن ، قد يمكن أيضا – وبنسبة لا يستهان بها من الخطر – أن تفقد ثروتك الصغيرة .

حذار ، حذار ، لا تصدق كل ما يقال لك . كن حريصا لبيبا نبيها . تجارة البورصة – بما فيها الفوركس طبعا – قد لا تكون مؤهلا لممارستها . أنت وحدك يمكنك أن تقدّر ما تقوى عليه ، وما لا تقوى عليه  . وفّ الموضوع حقه من التفكير والدرس .

 

– هل يعني أن تجارة البورصة لا تزال اليوم في عصر الانترنت للنخبة ولا علاقة للعامة فيها ؟

هل يعني انك حسمت الموضوع قبل البداية بالبحث ؟

هل هذا ما تريد أن تقوله لنا ؟

 

أكاد أسمع آلاف الأصوات المعترضة ، ومن ضمنها العشرات المتضررة الشاتمة !

– نعم ، أخي القارئ ، أنا أعني ما اقول . أرى الكثيرين مؤهلين لهذه التجارة ، وأرى الكثيرين أيضا غير مؤهلين لها .

أرى أن تجارة البورصة هي للنخبة ، لن أخفي قناعاتي ، ولكن نخبتي هي غير النخبة المتعارف عليها . النخبة التي أعترف بها لها مميزاتها ، وهي، هي وحدها المؤهلة لتعلم هذه التجارة ؛ وهي ، هي وحدها المرشحة للبراعة في ممارستها .

إن رغبت بالتعرف على نخبتي تابع قراءة البحث واسأل نفسك في آخر المطاف عما اذا كنت واحدا منها ؛ وإن لم ترغب ، فانصرف عن موضع لا شأن لك فيه لتوفرَ على نفسك جهدا ، وأقلع عن تجارة لم تولد لها  فتوفرَ على جيبك خسارة . ( أقول هذا ، وأنا عارف أن الشتيمة ستكون من نصيبي من ناحية صيادي العملاء الباحثين عن رزقهم كيفما كان .. المعذرة .)

 

إنه لمن السائد عند العامة من الناس ، كما عند علية القوم منهم ، أن العمل في البورصة ، وامتلاك فنونها هو مدعاة للفخر والإعتزاز .

 كم رجلا شمخ برأسه زهوا ، ورفع أنفه اعتزازا ، إن هو شاء الرد على سائل خطر له أن يستفسر منه عن نوع عمله ، فيقول : أنا أعمل في البورصة !

 كم امرأة أغاظت امرأة ، إثارة لمشاعر الغيرة في نفسها ، باستعجالها الحديث عن الاعمال ، ووسائل الكسب ، فقط لتقول : أنا زوجي يعمل في البورصة !

البورصة ، البورصة ، البورصة ، يا لسحرها !

أنا أعمل في البورصة . أنا زوجي يعمل في البورصة .

هل يعني ذلك : أنا أعلى منك شأنا ، أو زوجي أعلى من زوجكِ شأنا ؟

هل العمل في البورصة يعني مباشرة : نحن نفوقكم مرتبة ونعلوكم قدرا ؟ هل يعني نحن من النخبة وأنتم من العامة ؟

سؤال جدير بالطرح ، وبالاجابة ، لكنه من الحرج بمكان .

حسنا لنأتِ الامرَ من باب آخر . لنقل : من هي النخبة ؟

لا يخفى أن البعض يرى في النخبة طبقة المتنفذين ، الممسكين بالثروات ، المصيبين للغنى ، القادرين المقتدرين ، الآمرين الناهين . هم في الغالب أولي الأمر وأصحاب القرار .

البعض الآخر يذهب في تحديده للنخبة بحصرها في طبقة من المؤهلين علميا ، باكتسابهم معرفة تبقى عصية على غيرهم من أبناء العامة ، وهم بذلك يوفرون لأنفسهم أسلوب حياة متميز يوصف عادة بالرفاه والترف . هؤلاء الممسكين إذا بمفاتيح المعرفة هم بنظر الجميع أقدر على بلوغ قمة ، وأبرع بتحقيق ثروة ، وأسرع في بلوغ هدف . هؤلاء إذا بحسب المفاهيم السائدة هم النخبة .

 

هل نسلم بهذا القول  ونقبل بهذا المذهب ؟

هل يصح فعلا حصر النخبة بمن امتلكوا العلوم والمعارف العالية ، أو بمن امتلكوا الثروات والنفوذ وفرض القرار ؟

حسنا ، لنتروَ  قليلا في أحكامنا ، ولنتلمس بهدوء طريقنا .

ان سلمنا جدلا بأن الفئات السابق ذكرها هي نخبة الخلق وأميزها فماذا نقول برجلين :

 

برجلين اثنين ، متعلم وأمي ، – والقصد هنا رجل أو امرأة طبعا – صادفا نملة تناضل في سحب حبة حنطة ، فتعمد الأول ان يدهسها تحت حذائه واجدا في ذلك لذة جهنمية شهوانية  ، وتحاشى الآخر أن يؤذيها شاعرا في ذلك بلذة سماوية ناعمة . ألم يمتلك الثاني كل الشروط التي تؤهله لان ينتسب الى نادي النخبويين ، بينما افتقر السها الأول على تعلمه وتمدنه ؟

 

برجلين اثتين ، أمي ومتعلم ، – والقصد هنا رجل وليس امرأة – سمعا كلاهما عصفورا يطلق تلاحينه على غصن شجرة قريبة ، فطرب الأول للنغم ، وتفاعل مع اللحن الى حد السمو ، فإذا هو يرتقي من سماع  الترنيمة الى حد رؤية موسيقاها تتمايل تقاطيعها ألوانا عبر الاثير ؛ أما الآخر فما رأى في العصفور المسكين إلا كتلة من اللحم ، تطحنها أضراسه وتذوب في لعابه ، فتمنى لو كان يحمل بندقيته . رجلان اثنان ، أمي ومتعلم ، ألم يمتلك أولهما كل الشروط التي تؤهله ان ينتسب الى نادي النخبويين ؟

 

حسنا لن نطيل ، ألفضاء هذا رحب ، وللطيران فيه لذة ، لكن لنعد الى أرض البشر ونعالج موضوعنا .

هل يجب أن يُفهم من كلامي أن الرجل الذي تعمد إبعاد قدمه عن النملة هو مؤهل للعمل في البورصة ،  بينما زميله الذي داسها بحذائه يفتقر بالمقابل الى المعطيات التي تؤهله لذلك ؟

أو هل أريد الإيحاء بأن من وُهب نعمة رؤية لحن الكنار وليس فقط سماعه هو الذي سيكون بمقدوره ، ودون سواه ،  سماع ما يختبئ وراء رموز الرسم البياني لليورو أو الدولار من أصوات ؟

لا ، لست من السذاجة ، اخي القارئ ، بحيث أظن أن بامكانك أن تقبل مثل هذا الإدعاء ، ولكن ، أستطيع أن أؤكد بكل اليقين ، وبكل الثقة والخبرة والمعرفة والممارسة ، أن الرجلين المذكورين هما أقدر من غيرهما على فهم ما يصعب فهمه ، وإدراك ما لا يستساغ إدراكه ، واستيعاب ما يثقل استيعابه . هما اقدر على كل ذلك لما وُهبا من نعمة ، وما أوتيا من هبة ، وما خُصا به من مكانة ، وما فُتح لهما من أبواب .

 

وبعدُ ، فمن هي النخبة إذا ؟ وكيف لنا أن نحدد شروط الإنتماء اليها ؟ ومن هو القادر ان يدخل الى حيث نحن ؟

غريب أمر هذا البحث ، فهو يحملني تباعا الى استطرادات . ثمة حادثة لفتتني ولن أمر دون التوقف عندها .

 

ما زلت أحمل ذكرى قديمة من زمن دراستي الثانوية . أستاذ الادب العربي كان وقتها من المميزين العقلانيين الموضوعيين الباحثن دوما عن الحقيقة ، باعتماد المناهج العلمية القائمة على المقارنة والقياس والاستنباط . كان رحمه الله – بحسب ما ذكراي له – من نخبة النخبة.

حدثنا يوما عن شاعر عربي قل من طلاب المدارس الثانوية من لا يعرفه قال :

ابن الرومي هو…. ….. ….. كان شاعرا مبدعا  … …. ….. ويقال إن وزير المعتضد القاسم بن عبيد الله كان يخاف من هجائه فدس له طعاماً مسموماً فمات.

من قصة ابن الرومي كلها تهمني فقط الجملة الاخيرة . هذا ما ورد في كتب الادب كلها . هذا ما تعلمه طلاب الادب كلهم . الوزير خاف من هجاء ابن الرومي فدس له السم فمات .

استاذ الادب العربي الذي أقدر ، توقف عند هذه الحادثة . رأى فيها خللا . هي تناقض منهجه العلمي . لم تقنعه . مضى يبحث عن كلام مقنع . وجد التفاصيل التالية الثابتة :

لابن الرومي قصيدة أبدع فيها في وصف الحلوى ، وبدا منها مقدار حبه لأصنافها ، واستساغته لأنواعها : منطلق جيد للبحث والتدقيق المنطقي . المنطلق للبحث عن الحقيقة هو من كلام قاله المغدور- المفترض – نفسه ( قصيدة شعر ) .

العوارض التي نقلها المؤرخون عن مرض ابن الرومي قبل موته ومرحلة احتضاره ، تقارب ، ان لم نقل تطابق العوارض التي تصيب مرضى السكري في مثل هذه الحالات : نقطة ثانية تدعم البحث العلمي .

ابن الرومي كان معروفا بحبه للوحدة . هو ككل الرومنطيقيين مكتئبا . زاد من حاله فقدُهُ لأولاده الثلاثة واحدا تلو الآخر . كان يقفل داره أياما على نفسه فلا يخرج منها . كان يحب الحلوى ويأكل منها كلما سنحت له الفرصة ، لم يكن يقوم بأعمال جسدية تتطلب مجهودا ، كل هذه النقاط تجعل من إصابته بالسكري إحتمالا عاليا .

مرض السكري لم يكن معروفا في ذلك العصر . التفسير الأقرب للتصديق بالنسبة لناقلي الخبر من مؤرخين ورواة  : خوفٌ من الهجاء ، مؤامرة ، دس السم ، الموت .

 

تفسير استاذي – الذي أظنه واحدا من الذين زرعوا في نفسي حب البحث  المنهجي الموضوعي العلمي في تفسير النتائج الصادرة عن مسببات ، والذي لازمني طيلة حياتي – هو اذا :

وزير المعتضد أراد أن يأمن شر هجاء ابن الرومي المحتمل ، فلجأ الى إكرامه والإفراط في إطعامه ، فقدم له أشهى الحلويات وأغناها بالسكر . الرجل الذي نقدر إصابته بالسكري ،أكثرَ من طعام يُمنع اليوم منعا تاما عن كل مصاب بهذا المرض . فكان ان وافته المنية .

الفارق كبير بين الاحتمالين : إحتمال الإغتيال ، واحتمال الإكرام .

أنا لا اتردد أبدا في ترجيح الاحتمال الثاني ، ليس حبا بمن أطلقه ، بل إحتراما لمبدأ الاعتماد على العقل في كل أحكامنا .

أنا لا يهمني اليوم سبب موت ابن الرومي ، أنا لا أتوقف عند حادثة جرت منذ قرون ، سيّان عندي إن كان خبر المؤرخين هو الأصح أم تحليل أستاذي ، أنا أهتم فقط إلى طريقة جديدة علمية في التفكير والبحث والتدقيق قبل إصدار الأحكام .

أنا على يقين بأن أستاذي لمادة الأدب العربي منذ ما يقارب الاربعين عاما ، كان سيكون تاجرا مبدعا في البورصة لو قدر له أن يتعرف على هذه التجارة فيمتهنها .

آه منك أمتي !

منذ اربعين عاما ، سمعت هذا الكلام . لو انك اعتمدت منذ اربعين عاما مثل هذا المنهج في اختيار نُخبك ! ترى أين كان سيكون مقامنا اليوم ؟

آهاتي عليك أمتي !

 

والى استطراد ثان ، ألمعذرة فقد أطلنا !

 

كنت منذ فترة وجيزة أتابع حوارا على إحدى القنوات الفضائية حول موضوع سياسي يتعلق بأحداث مأساوية يعيشها واحد من البلدان العربية في المرحلة الراهنة . الحوار بين اثنين من حملة شهادة الدكتوراه . كلاهما يحمل لقب دكتور .

بدأ الحديث هادئا ومضت الدقائق الأولى على خير . وفجأة ثارت ثائرة واحد من السيدين المحترمين لكلمة تلفظ بها زميله لا تتماشى مع معتقداته ، فكال له ما تيسر من التهم والشتائم ، وما صمت إلا وقد سال لعابُه على شفتيه وبدت الرغوة بيضاء بشعة عند نقطتي التقائهما . 

وجاء دور الثاني فأمِلت أن يكون نموذجا للدكتور العقلاني الهادئ المتزن ولكن الخيبة كانت من نصيبي . كان همّ الرجل  أن يثأر لا أن يُقنع . ألثأر ، ثم الثأر ، ثم الثأر . وهكذا كانت له جولات وصولات استعمل فيها يديه في حراك مستديم ، وعينيه في جحوظ مقيت ، أكثر من استعماله للسانه ، وبلغ به الحنق أن وقف وانحنى فوق الطاولة التي تفصله عن زميله – عفوا عن غريمه –  لعله يُسمعه بشكل أفضل فيتمكن من إقناعه بسلامة وجهة نظره .

وفي كل هذه الحفلة المضحكة ، كان الأكثر سخرية موقف مقدم البرنامج – هو دكتور ايضا – . إن صراخه لم يكن أقل وقعا ولا أضعف حدة من صراخ ضيفيه .

جاء الوقت المخصص لاتصالات المشاهدين . خطرت لي خاطرة . أسرعت الى الهاتف . طلبت الرقم وانتظرت طويلا . أردت أن أسأل الضيفين ، كما مقدم البرنامج سؤالا .

أحجمت في اللحظة الأخيرة عن طرح السؤال . لم أشأ أن أحرج العناتر الثلاثة في بث تلفزيوني مباشر   .

 

هل تريد أن تعرف ، أخي القارئ ، أي سؤال كنت أريد طرحه ؟

حسنا لن أبخل عليك  . وددت أن أتحدى الدكاترة الثلاثة بأن يبرهن واحدٌ منهم على الأقل معرفته لعدد أسنانه . كنت على ثقة تامة بأن كل واحد من الثلاثة سوف يسارع الى إدخال أصبعه – على الأرجح أبهامه –  في فمه متلمسا أسنانه ساعيا لإحصاء عددها . 

 

لا ، لا يمكن باي حال من الأحوال ، لأي واحد من الثلاثة ان يكون تاجرا في البورصة ، كلهم غير مؤهلين لهذه الصفة ، كلهم غير جديرين بهذه المرتبة ،  حتى ولو حمل الواحد منهم عشرة ألقاب ، إلى جانب لقب ” دكتور ” الذي يحمله .

يا ثلاثة يسارع واحدكم قبل كل شيء ، وفي كل رد الى الثأر !  

يا ثلاثة لا يحتمل واحد منكم القدرة على تقبل نقد ولو بناء !

يا ثلاثة لا يعرف واحد منكم أن يجري نقدا ولو ذاتيا !

يا ثلاثة يعتقد كل واحد منكم أنه دوما على حق !

يا ثلاثة لا يقبل واحدكم رأيا مخالفا لما يراه !

يا ثلاثة ، أنتم السوقة والنخبة منكم براء !

يا ثلاثة ، أنتم السوقة والنخبة هي نحن !

 

النخبة إخواني هي نحن ، جماعة القادرين على تمييز الصواب من الخطأ . هكذا بالإختصار كله ، وبالبساطة كلها  .

النخبة إخواني هي نحن ، أهل الصفاء القادرين على اتخاذ القرار الصائب ، القرار المبني على التحليل والتدقيق والاختبار والمقارنة والقياس والاستنتاج والاستنباط ، بصرف النظر عن أهواء النفس وميولها ، وعن تسلط المشاعر وشذوذها .

ألنخبة إخواني هي نحن ، أهل الواقعية القادرين على الأعتراف بالخطأ إن عثرنا ، والساعين الى تصحيح الخطأ إن قدرنا .

النخبة إخواني هي نحن ، أهل الهوى والعشق ؛ هوى العقل ، وعشق المنطق . هوى الموضوعية في البحث ، وعشق المنهجية في إصدار الأحكام .

النخبة لا تعترف بألقاب أو مراتب . عرفت في حياتي الكثيرين من أصحاب العلم والفكر الذين لم ينطقوا الا بالكفر والضلال ، كما عرفت الكثيرين من الأميين المتواضعين الذين إن نطقوا أصغى الى كلامهم أعقل العقلاء .

 

قلنا حتى الان الكثير ، ولم نقل بعد ، اخي القارئ ، ما تتشوق لسماعه عمن هو مؤهل ، ومن هو غير مؤهل للعمل في البورصة .

أعذرني  فقد تقدم الليل ، وتمكنت من نفسي بعد ما مر من أفكاروأقوال كآبة ، قد تحول دون الحكم الذي أطمح اليه . فإلى القسم التالي من المقال  ، في الاسبوع القادم أو الذي يليه ، حيث نبدي في الأمر رأيا ، نأمل أن يقارب الصواب ، إن شاء الله .

 

السوق دوما على حق

السوق دوما على حق – 13th  January 2006

 

كان السوق أمس صعب المراس ! السوق دوما صعب المراس . كان السوق أمس معدوم الشفافية ! السوق دوما معدوم الشفافية . ليس من العدل ان تعج كلمة ” تريشه ” بالايجابيات ثم نفاجأ بتراجع اليورو ! صحيح في الامر ظلم للكثيرين . ليست كلمة ” تريشه ” هي التي تحدد مسار السوق بل فهم السوق لها وتفاعله معها . ما يحرك السوق باتجاه معين هي الرساميل التي تصب بهذا الاتجاه أو ذاك ، وغالبا ما يحصل ذلك لسبب عاطفي أكثر منه عقلاني . هذه هي البورصة وهي دائما على حق . حدثان شديدا الشبه يوم أمس :

تراجع اليورو الذي سبب خسارة للبعض ، وتدافع الحجاج في مكة المكرمة الذي سبب مأساة للكثيرن . كلاهما نتيجة لسبب واحد . في الحالتين هناك من يهرب ولا يعرف من أي خطر ، هذا هو السوق . وان صار كامل الشفافية بطل كونه سوقا . لو صار كامل الشفافية لأمسى كل داخل اليه رابحا ، ولأفتقرنا الى من يصنع الخبز والثياب والبيوت وغيرها من حوائج الحياة . بوضوح أكثر : تكلم السيد ” تريشه ” رئيس المركزي الاوروبي .

 ألقى بيانه بكل هدوء . كل شيء تقريبا إيجابي . لا مدعاة للقلق . جاءت ساعة أسئلة الصحافيين الذين غالبا ما يتحولون الى محققين عدليين . ظهر على السيد تريشه بعض التردد حيال بعض الاسئلة الحساسة . هو غير واثق من كون النمو قد خطا الخطوات الكاملة لتعدي دائرة الخطر . هو لا يستطيع ان يؤكد وان يحدد متى سيأتي وقت الخطوة التالية لرفع الفائدة . هو لا يستطيع أن يسمي الامور بأسمائها . يريد ان يكون متحررا من التزام ما . أسقطه الصحافيون في الامتحان وتعلق المتعاملون بكلمتين تحملان معنى السلبية متناسين كل الايجابيات التي سبقت . هكذا هو السوق !! ولكن هل يصح القول بأن ارتفاع الدولار وتراجع اليورو وغيره من العملات الرئيسية كان فقط لهذا السبب ؟ طبعا لا ! لا يجب نسيان الميزان التجاري الاميركي الذي أظهر تراجعا للعجز بنسبة فاقت ما كان السوق يتوقع لها اذ تراجعت الى ما دون ال 65 مليارا . اذن الحيرة كانت قائمة والميزان يتأرجح . يتأرجح بين ايجابيات البيان الاميركي الذي يسمح بارتفاع الدولار وبين بيان المركزي الذي يسمح بارتفاع اليورو . في هذا الوقت جاءت كلمات ” تريشه ” المترددة فغلبت كفة الدولار على اليورو ورجح الميزان الى ناحيته . هل هذا فقط ؟ طبعا لا . بل كما يحصل دوما في مثل هذه الحالات فقد تفعلت ستوبات كثيرة كانت تتواجد تباعا في السوق فوق المقاومات المتتابعة وتحت الدفاعات المتتالية فكان الهلع وكانت كرة الثلج وكان ما كان .

 هل يعني ذلك ان الدولار قد استعاد شبابه وجدد عافيته ؟ لنكن واقعيين . طبعا الجواب نفيا . ان تراجع العجز التجاري بضع المليارات ليس كافيا للذهاب هذا المذهب . لا بد من انتظار مؤشرات أكثر تعبيرا . مؤشرات توحي بالثقة إنتاجا وبطالة واستهلاكا وهذا ما سيعطي الاسابيع القادمة أهمية متجددة لعلها تحمل الخبر اليقين . حتى الان لا نزال في نطاق التخمين . التخمين على الصعيدين الاميركي والاوروبي . ما هو مؤكد الان ان نهاية الجاري سترفع الفائدة مرة واحدة على الدولار . ما هو مرجح جدا انه في مارس سترفع الفائدة مرة واحدة على اليورو . البيانات القادمة ستنبئ اذا بما يلي .

 

 

حصبة الفوركس

حصبة الفوركس  – 9th  December 2005

 

قد يبدو العنوان غريبا للوهلة الأولى ، خاصة للعتاق الذين يعرفون الحصبة ، سمعا أو معاناة .
” دريد لحام ” أو ” غوار ” كما يعرفه الكثيرون ، واحدٌ من أذكياء الأمة .. أحترمه ! أحب فنه !
أبٌ سوريٌ ، أمٌ لبنانية .
” دريد ” سبكة لبنانية سورية .
سبكة ؟
نعم سبكة نفيسة ، أوليس الفنان الملتزم من الذهب أغلى ؟
سأحاولُ ألا أطيل !
في شبابي المبكّر ، كنت أحب ” غوار ” ومقالبَه . اليوم بتّ أحب ” دريد ” أكثر من غوار .
سألت نفسي تكرارا عن مردّ محبتي له . لم أجد جوابا .
ترى ألأنه سبكة لبنانية سورية ؟ – أو سورية لبنانية – لا فارق – لا أعرف ، قد يكون هذا واحدا من الأسباب .
من الأسباب بالتأكيد ايضا ، أن الرجل طريف ، ظريف ، لكن ما يعنيني فيه كونه ملتزم شريف .
نكتته تضحِك دوما الى حدّ الحسرة . لا تخلو ابدا من البعد السياسي . نقدُهُ تلميحي لطيف . فيه صفعة ، خال من اللسعة . خرّاقٌ للجلود السميكة ، يٌشعرُ ولا يؤلم !
سمعته يحكي عن طفولته . أعجبني اعتزازه بمنبته المتواضع . قرأت نفسي في كلماته . دمعت عينه إذ تحدث عن أمه . دمعت عيني لصدق كلامه !
غفِلت عن متابعة الحديث . عدت اليه بعد سفرٍ في الماضي للحظات . فاتني سماع كلام دمعت له عينه مرة ثانية . رأيته ينزع نظارتيه ليمسح دمعة . دمعت عيني لرؤية عينه دامعة ، دون أن أعرف السبب . نزعت نظارتي ومسحت عيني أيضا – ليس بمنديل كما فعل ، بل بكُم القميص – ، كما عندما كنت ولدا !
لا لا ! لسنا امة عقيمة ! عندنا الكثير الكثير من المبدعين . ليت المفسدين يتنحّون ، ليتهم يسلمون مبدعينا الدفة . لو قٌدر لهم ، لكانوا رعاة صالحين !
أطلنا !
لا بأس سنصل في حديثنا الى ” الفوركس ” .
سماعُ حديث ” غوار ” حملني الى الماضي ، والماضي الى الحصبة ، والحصبة الى الفوركس .
حديث ” دريد ” أثار فيّ ذكريات ، سافرت في الماضي ، إلى أيام السعادة والبراءة . أحداث وأحداث . عذابات ولذائذ في الحياة . لا أعرف سبب توقفي أمام أيام ” الحصبة ” .
” ألحصبة ” صارت اليوم من أمراض الماضي ، أوجد الطب لقاحا لها . في أيامنا كانت من هموم العائلات ، وبخاصة الأمهات ، فيما لو دخلت البيت .
حرارة عالية ، حبيبات وردية صغيرة تكسو الجلد في كل أنحاء الجسد . تذهب وتعود ، مرات ومرات ، إلى أن ينظف الجسم منها . الحصبة يجب أن يصاب فيها الانسان ، مرة واحدة في حياته ، غالبا في طفولته .
عندما دخلت الحصبة بيتنا ، أصابتنا جميعا ، أخوتي وأنا . كان علينا ملازمة الفراش ما يقارب الشهر . غذاؤنا الوحيد شوربة العدس . هكذا سمّوها ، ولكنها ليست من الشوربة بشيء . عدس مسلوق بالماء ، يمنع عنه الزيت أو أي نوع من السُمون ، حتى الملح كان ممنوعا .
 أولاد يأكلون هذه الوجبة ما يقارب الاسابيع الثلاثة . أمّ ملهوفة تحتار في لفلفة أجسادهم الطرية ، مخافة البرد . ” الحصبة ” زارتنا في الشتاء . كنت الحلقة الأضعف بين أخوتي . خوفها علي كان دوما لا يقاس . كنت أعرف ذلك . صرت أقدر ذلك اليوم أكثر . العمر يعلم .
 
شبعت نفسي من الذكريات . عدت الى هموم العمل . تداخلت الأفكار ، ولاحظت أن ” الحصبة ” مرض يغزو سوق ” الفوركس ” . 
كل متعامل في هذا السوق ، يصاب مرة بهذا المرض ، لا مهرب له من ذلك . لا لقاح مجدٍ له . لا دواء مجدٍ له . فقط الحمية في الطعام . والحمية في الطعام بالنسبة ل ” الفوركس ” فصلناها في مواضع عدة . عدم تحميل النفس أكثر مما تستطيع .
كل متعامل في هذا السوق ، عليه أن يحسب ل “حصبة الفوركس ” حسابا ، فإن زارته  ، عليه بالعدس المسلوق شهرا كاملا ، وبالدفء والصبر والرفق بنفسه . وقبل كل شيء عليه بالحرص على رضى أبويه ، والطلب اليهما أن يُكثرا له من الدعاء  .
وإن لم يفعل ، فسيكون من الصعب عليه أن ينجوَ من ” حصبة الفوركس ” . والحصبة إن لم تدارى فهي قاتلة !
 
هذه حصبة الفوركس الوردية ، أما الحمراء فالويل منها ، وهي أشد  أشد خطورة . فماذا تراها تكون ؟
الحصبة الحمراء يصاب بها قلة من المتعاملين وليس كثرة . وهم إن أصيبوا صار خطرُهم على غيرهم أشد وأكبر من خطر المسعور ، أبعده الله عنكم وعنا . وإليكم التفصيل فيها .
أخبرني أحد العاملين في ” عرب أونلاين بروكرز ” قال :
حادثني يوما أحد المهتمين بالفوركس . بعد السلام ، أراد أن يطمئن الى مصداقية الشركة فركز على هوية العاملين فيها ومنبتهم ، ثم انتقل للسؤال عن القائمين على إدارة شؤونها وأخلاقياتهم ومقدار الثقة التي يمكن إيلاءهم إياها .
بعد أن اطمأنت نفسه الى كل ذلك ، وأنِست للتوجه العام ، عرض حاجته . قال :
أعجبني موقعكم ، انا أتدرب على العمل منذ فترة ،أريد أن أعمل معكم ، ليس كمتعامل بل كمسوق ، أعرّف العملاء على شركتكم وأربح من جراء عملي هذا . وأنا أقنعت لتوي أحد معارفي ، وهو يريد أن يفتح حسابا بمبلغ عشرة آلاف دولار . الأمر مبتوت ، ولكن لي شرطٌ واحد لعقد الإتفاق . – أقنع أحد معارفه –
قالها حتى قبل أن يسمع الجواب فيما إن كان ثمة موافقة على طلبه .
أشرط ، قال محدثه .
أريد أن أحتسب لنفسي مبلغ عشرة دولارات ، تحسم لي عن كل عقد يجريه الزبون ، تحولونها الى حسابي . شرطي ألا يعرف او يشعر أو يطلع الزبون على ذلك .
أخبرني من كان محادث الرجل . قال :
ما استطعت عليه صبرا ، ولكنني كتمت غيظي ، أبلغته بأن شيم وأخلاقية ومصداقية القيمين على العمل والعاملين فيه – هذه الصفات التي ارتحت لها في بدء حديثنا – لا تسمح لنا بالتعامل بهذا الاسلوب . وأنهيت الحديث معه . ذهب مغتاظا .
عزيزي القارئ  . ألآتي أعظم !
ألامر يدعو الى السخرية ، أو الى الإشمئزاز ، أو الى القرف . أنا أعرف ذلك .  ألمعذرة لا أريد ان أعكر يومك إن كنت مصبحا ، او أحلامك إن كنت ممسيا ، لكن الأمانة تدعو الى السرد ، وليس العجب في ما سلف من  ، بل في ما سيأتي  .
كان الرجل مصابا بحصبة الفوركس الحمراء ، وكان المرض قد اشتد عليه . أبى إلا ان يكون مسيئا . أراد ببساطة أن ينتقم لنفسه . إتصل بعد ما يقلّ عن الشهر . طلب نفس الشخص الذي حادثه في المرة السابقة . شاء أن يفقأ حصرمة في عينه . أعطاه اربعة عناوين لأربعة مواقع  قال بفخر واعتزاز : هذه كلها لي .
تصفحنا المواقع فكان العجب .
الرجلُ صار مسوقا لاربع شركات في الفوركس دفعة واحدة ، يعرض خدماته على خلق الله ، وخلقُ الله غير دارين ما يمكن أن تجره الحصبة الحمراء من ويلات .
 
عزيزي القارئ . لن أكثر عليك من الامثلة التي لا تحصى ، منها المبكي ومنها المضحك ، لكنّ ثمة واحد يحرق شفتي ، ألبوح به يريحني  ، وقد يكون فيه منفعة لك .
 
إتصل بي أحد المتعاملين معنا وهو من معارفي القدامى . أعطاني عنوان موقع . قال : هل هذا الموقع تابع ل ” عرب أونلاين بروكرز ” ؟
فتحت الموقع  ، وجدت نفس النصوص ، نفس الإخراج ، نفس الصور ، نسخ عن موقع ” عرب أونلاين بروكرز ” ولصق على الموقع الآخر . قرصنة الزمن الجديد .
هززت رأسي . استعذت بالله . كدت ان اقفل الموقع لأعود الى محدثي فأجيبه عن استفساره . وقع نظري على اسم الموقع . القرصنة أيضا في هذا المكان . أخذ الرجل – بل الرجال ، هم ثلاثة –  اسم ” عرب أونلاين بروكرز ” حذف منه الكلمة الأخيرة . ركز مكانها كلمة أخرى . لقصر نظره لم يعرف ان التركيب قد تشوّه ، صار يتضمن خطأ لغويا . صفق لنفسه للاكتشاف الجديد . هو مستعجل في كل شيء ، مستعجل حتى في خداع الناس وتضليلهم . ألأخطاء اللغوية في اسم موقعه غير ذات أهمية . ألمهم أن يقدم نفسه للناس على أنه عرب أونلاين . الكلمة لها رنة ومصداقية …
عزيزي القارئ . لقد أخبرتك بجزء من العجب في هذا الموقع والجزء الأكثر سخرية آت :
كنت قد أخبرتك إنني هممت على ترك الموقع والعودة الى صديقي ، لكن رؤيتي للقرصنة في إسم الموقع أثارت حشرية جديدة في نفسي . عدت الى الموقع من جديد . ضحكت كما لم أضحك منذ زمن .
على ماذا ؟
إليك الخبر . قرأت في الموقع ما معناه :
إن كل  من يجلب زبونا ليفتح حسابا للتعامل في ” الفوركس ” عبر هذا الموقع يأخذ عشر دولارات تدفع له نقدا من أصحاب الموقع . وأضاف : تخيل لو أنك تجلب عشر من الزبائن فانت ستربح مئة من الدولارات .
اخي القارئ !
لا أنكر أنني ضحكت . ضحكت كثيرا . ولكنني في قرارة نفسي حزنت . حزنت كثيرا .
 
حزنت لأشياء كثيرة كثيرة .
حزنت لمصير هؤلاء الذين سيغرر بهم من أجل عشرة دولارات .
حزنت من أجل الشركات التي ترتضي ان تسقط الى هذا الدرك تسويقا .
حزنت للمستوى الذي حمل إليه بعض المسيئين العمل في ” الفوركس ” .
حزنت لتحول ” الفوركس ” لسلعة تباع على طبق يحمله بائع على رأسه ويدورمناديا : معانا فوركس …. .
وكل ذلك لم يحل بيني وبين الضحك  .
ضحكت للإبداع الغريب في التسويق المتماشي مع القرن الواحد والعشرين .
ضحكت لأنني تذكرت أحد معارفي . كان اسمه عبدالله ، لم يوفق في تجارة ” الفوركس ” ، لعله صار صاحب واحد من هذه المواقع المنتشرة على النيت !!
إشتقت لعبدالله ، تحدثت عنه مرة في واحد من مقالاتي ، مضى عليّ زمن غير يسير لم أسمع منه كلاما .
ضحكت وضحكت ، لأن الذاكرة عادت بي  خمسين عاما الى الوراء ، الى مشهد بائع كنت أراه يحمل سلة كبيرة على رأسه ويدور بها في الأحياء ، إلى جملة كنت قد ظننت إني نسيتها وها هي تستيقظ في ذاكرتي .
كان الرجل ينادي على بضاعته : ” كراكير، مناكير، زيت شعر، وبكر ” .
وما استطعت ان أقفل الموقع المشؤوم دون ان أتخيل اليوم الذي سيرسل فيه أصحاب المواقع هذه مندوبيهم الجوالين الى الاحياء الشعبية  للمناداة فيها ترويجا لبضاعتهم  : ” فرنكات ، ينات ، يوروات ، دولارات . قرب يا ابو العيال  ، وينك يا ابو الولاد .  “
 
اللهم هوّن على خلقك ، وعلينا !!!!!
 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار – 5 – ا

كيف يكون اتخاذ القرار  – 5 – 18th November 2005

راس الحكمة منع الخسارة

كنت قد تركت قارئي لايام مضت ومحدثي يسوح بين حرقة وأمل ، وعدت فالتقيته اليوم وهو على ما كان عليه . بادرته بالسؤال البديهي الاول ، قلت :

– ما الحُكم الذي تصدرُه على نفسك من حيث فتحك لصفقاتك ؟

– استطيع أن أجزم وبكل تأكيد ان قراراتي في فتح الصفقات هي صائبة بنسبة 75% . إن تحليلي للسوق هو في معظم الأحيان موضوعيا ومنطقيا ، يستند على ما يتوفر لي من الأخبار المستجدة على الساحة والمؤثرة في هذه العملة أو تلك ، كما يستند الى ما استطعت توفيره لنفسي من مبادئ التحليل التقني ، وفي غالب الأحيان أوفق في احكامي .

– مشكلتك في إقفال صفقاتك اذا . 

– اقفال الصفقات هي مشكلتي . لقد أصبت في تقديرك .

– أنا لم اقدّر ، أنا اعرف ذلك ، هي ليست مشكلتك ، بل مشكلة السواد الأعظم من الداخلين الى هذا السوق . أنت تجني أرباحا قليلة وتقع بخسائر كبيرة .

– بالضبط ، هذا ما يحصل معي . أفتح الصفقة وأحددُ لها هدفا ، ولكنني نادرا ما ألتزمُ بما حددتُ ، بل أراني وبخطوة غير شعورية مسرعا الى جني ربح قليل من صفقتي خوفا من أن يضيع علي . بينما أتصرف عكس ذلك حيال الوقف لتحديد الخسارة التي أكون قد قررته للصفقة ، فما أن يقترب السوق من الوقف المحدد ، حتى تتملكني رغبة غريبة بعدم التضحية بالربح الذي حققته في الصفقة السابقة ، وأحس بقوة داخلية قوية تدفعني لالغاء هذا الستوب اللعين الذي لا بد أن يأكل ربحي السابق . أسارع الى إلغائه معتمدا على رغبة ، متعاملا معها بثقة كلية عمياء على انها واقع حقيقي ، رغبة ان يعود السوق للسير في مصلحتي بعد أن يتجاوز الوقف بنقاط قليلة . ولتدعيم رغبتي أسعى للبحث عن معطيات تصب في هذا الاتجاه بأية وسيلة ، وأنا أجدها في معظم الأحيان . أنا لا ألغي الستوب ولكنني ادفعه صعودا أو نزولا ، وما أن يقترب السوق منه مرة جديدة ، حتى ادفعه ثانية ، أو الغيه ، مستكثرا ومستهولا مقدار الخسارة التي سأقع فيها إن انا سمحت بتفعيله ، ومتعلقا الآن بحبال الأمل وحدها ، وأنصرف الى المراقبة والانتظار ، مربوط اليدين ، معدوم الحيلة ، ولا أنسى الدعاء للسوق ولنفسي … ولكن هذه الصفقات غالبا ما تكون سببا لخسارة كبيرة تأكل كل ما أحقق في غيرها .

– إذن فقد وضعنا الأصبع على الجرح ، ووجدنا مكمن الداء . علينا أن نعالج هذه المعضلة . معضلة جني الأرباح القليلة ، والوقوع في الخسائر الكبيرة . 

– صدقت ولكنني لا أجد السبيل الى العلاج ، فهل تقول شيئا في هذا السبيل ؟ 

– اقول ، وأرجو أن يكون مفيدا . 

 – سأخبرك قصتك مع البورصة بكل تفاصيلها وإن أخطأت ارجو أن تنبهني على خطأي .

– وهو كذلك . 

– لقد بدأت عملك وفي ذهنك قناعة راسخة وثقة تامة بأنك ستصبح في أسابيع قليلة من الأثرياء لأن الله فتح عليك بابا كان موصدا في وجهك ، ودلك على سبيل كان غريبا عنك . بدأت عملك بثقة الواثق ، وإقبال الطامع ، ونهم الجائع ؛ بدأت تضرب في السوق ضربات عشواء ، يمين وشمال ، بيعا وشراء ، متأملا في الربح ، واثقا منه ، محققا الخسارة ، ولا شيء غيرها . هل هذا صحيح ؟ 

– هذا صحيح . 

– لقد شددت في بدايتك على نقطة واحدة : كلما ارتفع عدد العقود التي اشتريها ، ارتفع معه مستوى المبلغ المقروض الذي اتاجر به ، وبالتالي الربح الذي أحققه . فكرت بهذا ، وركزت عليه ، واغلق طمعك عينيك عن الوجهة الاخرى للحقيقة : إن ارتفاع العقود بشكل جنوني ، يمكن له أن يحقق لك ربحا هائلا ، هذا أمر صحيح ، ولكنه غير مضمون الحصول . فهناك الوجه الآخر للحقيقة ، إن ارتفاع العقود بشكل جنوني قد يوقعك في خسارة هائلة إن كانت صفقتك غير موفقة .

أنت رأيت وجه الحقيقة الذي تتمناه ، الذي تريده ، وحولته بحركة غير موضوعية الى واقع أكيد حاصل  ، وتعاملت مع الحقيقة على كونها ذات وجه واحد ، ومع البورصة على كونها طريق ذات اتجاه واحد ، ضاربا عرض الحائط بكل مبادئها .

– لا انكر ان هذا صحيحا .

قد تكون صفقتك الاولى موفقة . أنا لا أعرف ذلك . لكن ما أعرفه ، وأؤكده بالثقة كلها ، وبالجزم كله ، هو أنك بعد هذه الصفقة الاولى التي لربما كانت موفقة ، قد ازددت عبادة لنفسك ، وثقة بعبقريتك ، فعمدت الى رفع مستوى العقود مرة جديدة ، طمعا بربح جديد مضاعف .

هنا وقعت في الخطأ القاتل ، لقد حكمت على نفسك بالإعدام ، خسرت صفقتك ، وكانت الخسارة موجعة جدا .

– هذا ايضا ليس بوسعي ان انكره ، ولكن ما علاقة كل هذا بما يصيبني اليوم . لماذا تصر على نبش ماضي ، وكشف زلاتي ؟

– أنت يا صديقي تعتقد أن ماضيك قد مضى ، ولكنني أقول لك إن ماضيك هو ما يعمل حاضرك ، ان كل نفَس يدخل اليوم صدرك ، ليس إلا ابنَ نفَس خرج منه في ماض قريب أو بعيد  . إن كل حرقة أو ندامة تعاني منها اليوم ، ليست سوى بنت تسرع أو غلطة وقعت بها بالامس . إن ما تعانيه اليوم ليس إلا نتيجة مباشرة لما وقعت به في الماضي من أخطاء قاتلة ، وما تقع اليوم به  من أخطاء لن يكون سوى السبب المباشر لما سوف تعانيه في غدك من عراقيل ومصاعب .

– أوضح لي أكثر ، بربك . ولا تحدثني بالأحاجي .

– بعد وقوعك في هذا المأزق ، آلمك الحدث كثيرا ، فكرت به مليا ، عرفت أنك مخطئ في ما اقدمت عليه ، آليت على نفسك ألا تعيد الخطأ مرة ثانية . ولكنك للاسف وقعت فيه مرة ثانية وثالثة وما زلت تقع فيه حتى الان . أليس هذا صحيحا ؟

– هذا صحيح .

– قطعت وعدا على نفسك بان لا تقع بنفس الخطأ . لكنك لم تعالج ، وحتى لم تفكر بمعالجة ، سبب الخطأ . كان عليك ان تذهب الى الجذور ، لا أن تكتفي بالقشور . كان عليك أن تقنع نفسك بمخاطر المحاولات التي تعتمدها بالانتقال الى مراتب المجد بايام قليلة . عوض ذلك كان عليك ان تسعى الى اكتساب فن هذه التجارة من خلال الرضى بالربح القليل ، أو حتى بالخسارة القليلة ، مقابل تعلم مهنة ، واكتساب خبرة ، وسلوك معارج النجاح ، خطوة وراء خطوة . كان عليك أن تحدد مبلغا يحق لك خسارته ، وهو لا يتجاوز بأية حال ال 10% من المبلغ الذي رصدته لهذه التجارة . وكان عليك ان تحدد زمنا ، لا يقل بأية حال عن الاشهر الثلاثة ، يحق لك فيها خسارة هذا المبلغ .

 خسارة قليلة لمبلغ يمكنك ان تحتمله ماديا ونفسيا ، مقابل تعلم لفنون في فسحة زمنية كافية لذلك .

أنت لم تفعل ذلك . ما فعلته هو أنك نويت ان لا تقع في نفس الخطأ مرة جديدة ، وعدت نفسك ، ولم تلتزم بوعدك . هدفك الخاطئ بقي هو نفسه ، هدفك الخاطئ كان ، واستمر ،  ولا يزال الى الآن ، تحقيق قدر كبير من الربح في أقصر مدى ممكن من الزمن . هدفك الخاطئ الذي أوقعك في ما انت فيه هو : أريد ان أصير غنيا ، أريد ان أصيره بين ليلة وضحاها .

– صدقت ، هذا ما حصل معي ، وماذا كان علي أن افعل ؟

– كان يتوجب عليك  :

أن تبدأ التعامل بمبلغ يعتبر جزءا غير كبير مما تملك ، بهدف تعلم كل ما يتعلق بهذه التجارة من فنون وأسرار . التعلم له ثمن . عليك أن ترتضي دفعه . عليك أن تسعى لتقليل هذا الثمن قدر الامكان ، لا أن تضع لنفسك أهدافا خيالية . هدفك الاولي في ايامك الأولى يجب أن يكون : تحقيق خسائر غير عالية ، ومحتملة ، وغير موجعة ، وفي أحسن الاحوال عدم الخسارة ، لا تحقيق أرباح غير واقعية .

اعلم ، وليعلم كل داخل الى هذا العالم السحري ، انك ، وانه لا يجب أن ينسحر به الى درجة الغياب عن الواقع أو غفلان الحقيقة . المال جذاب جدا . المال غاية الجميع . بين ربحه وخسارته خيط رفيع . اسع الى امتلاك القدرة على رؤية هذا الخيط لعبور الحدود ، الحدود الفاصلة بين جمهرة الخاسرين وجماعة الرابحين .

لا تبدأ العمل اذا بنفسية القادر على عمل المعجزات ، غيرك لا يقل ذكاء عنك ، لا تدع ثقتك بنفسك تستحيل غرورا قاتلا .

لا تبدأ العمل  وقد بنيت في الهواء القصر الذي ستبنيه من المال الذي ستجنيه من الربح المؤكد ، وان فعلت فان الخسارة ستكون مدمرة لك فيما لو حصلت .

لا تبدأ العمل مأخوذا بالشعارات التي كثرت على مواقع تقديم هذه الخدمة – الجدية منها وغير الجدية – الشعارات التي تصور لك الربح مضمونا ، والغنى ميسورا ؛ وذلك باستعمال كلمات معسولة ، وشعارات مبرمجة تتوجه الى مشاعر القارئ او السامع لا الى عقله . إرمِ كل هذا وراء ظهرك  واعمد الى تحكيم عقلك بكل نفس من انفاس صدرك . أكتمها حيث يجب أن تكتم ، وأطلقها بتؤدة وتروٍ حيث يجب أن تطلق .

ان التزامي الفكري والاخلاقي والديني يحتم علي أن اقول لك – ولكل من يطمح لهذا العمل – إن النجاح  يكون بالسهر على منع الخسارة قبل وأكثر من العمل على تحقيق الربح ، في بداية تعلمك للعمل ، وفي ممارستك اللاحقة له كمهنة اساسية . تحقيق الربح ليس صعبا . لكن الصعوبة تكمن في تحقيق الربح لتعويض الخسارة . إن لفي هذا مرضا للجسد وللنفس في آن . ركز اذا على منع الخسارة ، وبخاصة في بداياتك ، وان فلحت في ذلك ، فقد فلحت في كل شيء .

إن كل خسارة يصاب بها المتعامل – وبخاصة المبتدئ – انما هي صدمة يأس تصيب النفس وصفعة تشاؤم تتحكم بالمزاج ، وقبضة تشكك تمسك باليد ، فإذا القرار مستحيلا ، والتردد سيد الموقف ، والتنفيذ لكل صفقة يقود من فشل الى فشل .

وليست كل خسارة ككل خسارة . ان خسارة لصفقة تم إجراؤها بعقود أتخمت الحساب وأرهقته لهي خسارة مدمرة ، لا منجاة بعدها الا بالكثير الكثير من الجهد والدعاء .

أما الآن وقد وقعت في ما وقعت فيه فلتكن لك فسحة من الوقت ، تطول الى الحد الذي تراه ، عُد فيها إلى نفسك ، داوِ ما استطعت من الجراح ، بالانصراف عن السوق وهمومه . إنسَ كل شيء . وإن وُفقت في ذلك ، فعُد الى العمل بذهن جديد وفكر جديد وهدف جديد .

مع كل صياح ديك وطلوع كل  فجر ، في كل حين وساعة ، قبل اتخاذ كل قرار ، عليك – وعلى كل من شاء ان ينجح – أن تتلو على نفسك أنشودة الرفق بنفسك ، وان تحملها فقط ما تستطيع .

ولنا في ما سوى ذلك كلام وكلام .

 

 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 4) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 4)   –  4th October 2005

السفر في القطار والاتجاه  الخطأ .

ويعود محدثي الى سرد وقائع جولة جديدة من جولاته  مع السوق . يقول :

بعد هذه الحادثة ، أو بعد حادثة مشابهة ، آخذ على نفسي ألا أقفل صفقة إلا في الوقت والمكان المحددين لها ، وأن لا أدع الستوب اللعين من الإيقاع بي . أتحين فرصة أراها مناسبة . ألأخبار اليوم تشير الى امكانية تفوق اليورو على الدولار ، بيانات اميركا لا يرى المحللون لها تأثيرا إيجابيا على الدولار . أفتح صفقة شراء على اليورو ، أزيد عقودها أكثر من صفقة الأمس ، أحدد كعادتي للصفقة هدفا ، أتردد في تحديد الستوب ، أعود فأقرر تحديده تحسبا لطارئ كارثي .

أديت عملي ، وما عليّ الان إلا الإنتظار . أترقب السوق وفي نفسي رغبة بالإنتقام من السوق على فعلته السابقة بي ، أنوي مسبقا عدم السماح له بسرقة صفقتي مني بأي ثمن .

في البدء تسير صفقتي بحسب ما اشتهيت ، أحقق منها عشرين نقطة في دقائق قلائل ، أقرر ألا أقع في ما وقعت به بالأمس من خطأ ، أقول لن أقفل صفقتي قبل بلوغ الهدف .

في هذا الوقت يصدر تصريح عن عضو في المركزي الاوروبي ، هو يحذر من تباطؤ في النمو بحيث يكون قاصرا عن بلوغ الهدف المحدد له . بعد دقائق يرد نبأ فشل المحادثات بين الحزبين الكبيرين في ألمانيا لتأليف الحكومة الجديدة . يرتد السوق في الاتجاه المعاكس . أعرف انه من الافضل أن أعمد الى منع الخسارة عن صفقتي . أحاول التحرر من الأجواء التي كنت أعيشها لحظة فتح الصفقة ، أحاول التخلص من دغدغات الأمل  في إمكانية ردّ الخسارة التي تكبدتها بالأمس ، من الثقة الراسخة في كون هذه الصفقة مميزة ، وهي كفيلة بالتعويض لي ان انا صمدت فيها حتى النهاية . لا اقوى على ذلك !

أتعلق إذن بصفقتي ضاربا عرض الحائط مرة جديدة بقاعدة ذهبية كنت قد تعلمتها ، وهي تقضي بضرورة تغيير رأيي في اللحظة التي ترد فيها أخبار مستجدة ، أو تبدو على الشارت مؤشرات جديدة ، تحتم عليّ أن أعدل المخطط الذي أكون قد انطلقت منه .

أتعلق إذن بصفقتي مستعيضا عن الحكمة بالرغبة ، وعن الحنكة بالأمل ، وعن الاقتناع بالعناد ، وعن الموضوعية بالهوس . وكيف لي أن أحقق ربحا إن كانت هذه حالتي !

ويعود السوق الى المستوى الذي فتحت فيه صفقتي ، ويشتد أملي بان الإرتداد سيكون قريبا . أقول في نفسي : لن أضيع الصفقة ، سأصمد ولن أكرر غلطة الأمس .

ولا يفلح محيط فتح الصفقة على وقف التراجع الذي يتتابع . تحقق صفقتي خسارة عشرين نقطة . ألوم نفسي أشد اللوم . أقول : لو انني جنيت عشرين نقطة ربحا ، أما كان أجدى لي وأفيد ؟

ومن اللحظة التي أطرح فيها هذا السؤال ، تسوء أحوالي ، وتزداد كلّ لحظة سوءا .

السعر يقترب من الستوب الذي أكون قد حددته . أقول : ألغي هذا الستوب ، لا بد للسوق أن يرتد في الاتجاه المعاكس ، لن أدعه يسرق صفقتي مني .

ألغي الستوب على أمل ان يتم ما أرغب فيه ، وليس على ثقة أن يتم ما رسمت له .

ألغي الستوب اذا ، ألستوب الذي أكون قد حددته في لحظة وعي سليم مخطط ، ألغيه في لحظة إنفعال شعوري مستسلم .

أعرف في عقلي المفكر أنني أرتكب خطأ لا يُغتفر ، أعرف أنني أهمّ في ولوج النفق المظلم . رغم ذلك فأنا لا أقوى على التحرر من قوة الجذب العاطفي الشعوري الذي يشلّ قدرتي على تحويل يقيني الى فعل ، وصهر عمق معرفتي وقوة إرادتي ، بحيث أكون قادرا على تحويل المشيئة الى قرار،  والقرار الى واقع نافذ .

يجتاز السوق حاجز الستوب .  يتابع اليورو جريه ، وتتابع صفقتي جريها ، في الخسارة طبعا . لقد وقعت في فخ جديد ، أشد قساوة وأدهى .

مئة نقطة خسارة . أقول : لن أقفل صفقتي بالخسارة ، سوف أنتظر ان يعيد لي السوق ما سرقه مني . أقرر الانتظار ، ويطول انتظاري .

السوق لا يعود ، أنا لم يعد بمقدوري إقفال صفقتي الآن . العقود كثيرة ، الخسارة كبيرة . ما تبقى في حسابي لا يمكنه تغطية تراجع جديد للسوق إن حصل .

أنا ، صرت عاجزا عن التدخل في السوق لانقاذ شيء ما . صار دوري مقتصرا على التأمل ، والمراقبة ، والدعاء . ألآن كل شيء بات بيد القدر . الحظ هو الذي سيقرر النتيجة .

ويفعل الحظ فعلته بي . يقرر عني ما كان عليّ أنا تقريره . يتراجع السوق بعض النقاط القليلة . تسقط صفقتي في ما يسمى ال ” مارجن كولل ” ، أي نفاد الإحتياط اللازم في حسابي لتغطية خسارة اضافية .

صفقة جديدة فتحتها !

حماقة جديدة ارتكبتها  !

خسارة جديدة حققتها !

لو اني اكتفيت بالربح القليل لحصلت ربحا عوضا عن الخسارة .

لو اني منعت الخسارة عند مستوى فتح الصفقة ، لكنت قد منعت الخسارة .

لو اني اقفلت الصفقة على مستوى الستوب ، لكنت وفرت على نفسي هذه الخسارة .

لو ، لو ، لو !

كلمة لا يرددها الا الحمقى ، وها أنا أبرهن مرة جديدة على انتسابي الى ناديهم .

 

أصغيت لمحدثي في هذه المرة كما لم أصغي إليه في المرات الماضية . أخذتني بعضٌ من رحمة . رثيت لحاله .

رأيت بمواجهتي نفسا حائرة متألمة ، تبحث عن النجاح ولا تجده ، رغم كونها قد اجتازت مسافة غير قليلة إليه .

أحسست ولأول مرة رغبة عميقة بمحاورته ، لعلها رغبة مدفوعة بشعور خفي ينبئني عادة بوجود إمكانية للمساعدة . الحالة ليست من الحالات الميئوسة .

شعر هو أيضا بهذا التحول المفاجئ في موقفي . رأيت في عينيه بريقا لم أعهده في ساعات السرد .

أيكون قد استبشر بنجاحه في فك الخواتم عن لساني ؟ 

أيكون قد استبشر بسماع ما قد يفتح له أبوابا تعينه في تلمس الطريق ؟

 

لا اعرف إن كنت قد نجحت ، أو إن كنت سأنجح في مساعدة محدثي للخروج من النفق الذي أدخل نفسه فيه .

أنا أعرف بحق أنني سألته وأخبرته ، نبهته و حذرته ، خففت عنه وأشرت اليه ، نهيته عن أمور ووافقته على أخرى .

 

لا اعرف حتى الآن إن كنت قد نجحت في إقناع محدثي بصوابية مذهبي وأحقية آرائي .

لا أعرف إن كنت قد بلغت مرادي في خنق شخصية المضارب فيه وخلق شخصية التاجر .

 

لكنني اعرفُ !

 

أعرف أنني ما ضننت عليه بالحقيقة التي أعرف .

أعرف أنني ما اخفيت عنه سرا كان خفيا عنه . 

أعرف أنني حاورته .

 

وحواري مع محدثي سيكون له سرد قادم في مقال قادم ، إن أذن الله وأعان .

 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 3) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 3)   –  19th September  2005

 

 
الحرامي بالمرصاد .

 
كنت قد تركت صديقي في الجلسة السابقة واقعا في فخ صفقات الحظ ، عارفا ان الربح الممكن منها نادر وقليل ، متوقعا تعليقا مني على ما سرد ، غير ظافر بما توقعه .
وعُدت فالتقيته في هذه الجلسة على ما تركته فيه من همّ ، وبما هو عليه من غمّ . ان شيئا لم يفلح بعد في جعله على الدرب السليم ، ولا هو نفع في حمله الى الهدف القويم .
أكمل محدثي سرده قال :
سمعت في الأسبوع الفائت خبرا ينبئ بان الدولار يتعرض لضغط هائل بفعل إعصار ” كاترينا ” الذي ضرب ولاية ” لويزيانا ” . أدركت انه من الصواب ان أكون في السوق بائعا للدولار . أسرعت الى حسابي . أمرت ببيع عشرة عقود دفعة واحدة . حددت 50 نقطة وقفا لها . مفضلا عدم المخاطرة بما قد يفاجئني من أمور .
شعرت بكوني قد أديت واجبي بكل أمانة . جلست هادئا ، منتظرا ما سيكون .
الدولار يرتفع ببطء . أقول : دقائق وتنقلب الصورة . لا بد من تحقق ما رسمت له .
الدولار يتابع الزحف ارتفاعا . أقول : أتركُ الجهاز لفترة ، رحمة باعصابي .
أحددُ هدفا لصفقتي . أغيب ساعة . أعود . أجد الدولار وقد انخفض أكثر مما رجوت له أن ينخفض .يأخذني الطمعُ . أندم لتحديد هدف لصفقتي . أقول : ليتني أبعدت الهدف أكثر مما فعلت .
أتلهف لرؤية ربحي المحقق . أبحث عنه في خانة الصفقات المقفولة . أتحضر للخبر السار . أصاب بصدمة .
يا لخيبتي ! لقد سرقها السوق مني قبل ان يتراجع . لقد سقط الستوب وضاع كل شيء .
أرمي محدثي بنظرة . اريدها مواساة ، ويظنها شماتة . يأخذه الغيظ  . يثور ، يصيح .
 أهدئ من روعه  . أقول : كان تحصل معي في أول عهدي بالتجارة ، يوم كنت أحتمي وراء حليف خائن ، إسمه الستوب . كنت أثور وأشتم وأهدد وأسعى الى الثأر . ألمؤكد أني لم افلح مرة في الثأر من السوق . الغلبة دوما له . يعطيك راضيا . ولا يعطيك مطلقا مرغما .
 
 
 
النزول في المحطة الخطأ . 
 
صمت محدثي مرة جديدة . بدت علائم القهر على محيّاه . رأيت ان استفزه ليكمل السرد . فعلت . اتهمته بالفشل . قلت : دع ما ليس لك ، أعط خبزك للخباز .
لعل محدثي أصيب في كبريائه . عاد فورا الى السرد . نجحت في ما رميت اليه . بلغت مقصدي . قال :
مضى علي وقت غير يسير مع السوق ، صرت أحسّ غالبا انه مني ، واني منه . بتت أشعر بقدرة على فك رموز كانت تعصي علي في ما مضى .
أنا اراقب تحركات بعينها . انتظرها . أشعر بنبض في السوق اعتدت عليه . أعرف أن هذا وقت شراء . أسمع هاتفا داخليا يهمس اليّ : الآن ، الآن ، علامَ تنتظر ؟
هو يدفعني ، يزرع الثقة في نفسي ، ينزع كلّ شكّ منها .
أراني مقداما . أعملُ ما يجب عمله . انتظرُ . لا يخيب ظني . تسير صفقتي في الربح المرتجى . أحقق نقاط عشرة ،  ثم خمس عشرة نقطة . تزداد دقات قلبي . يملأني شعور بالخشية والرغبة . خشية من فقد ما تحقق ، والرغبة بالحفاظ على برهان نجاحي .
بلا شعور مني ، وبحركة تنطلق من لاوعيي ، وبقرار متسرع ارتجالي أكسر به كل ما أكون قد رسمت من خطط ، أعمد الى اقفال الصفقة ، مهللا للخمس عشرة نقطة المحققة ، مفضلا إياها على النقاط المئة التي أشعر انها آتية . أقول : عصفور باليد خير من عشرة على الشجرة . أما كها علمونا في المدرسة الابتدائية ؟
ومن يحقق نقاط عشرة ، ألا يستحق كأسا من الشاي ؟
وما ان ارشف الرشفة الاولى حتى يبدأ السوق بالجري ، نقاطي العشرة كانت ستكون خمسين ، لو انني لا ازال صامدا ، وبعد لحظات ، كانت ستكون مئة ، ومئة وخمسين ، يا لحظي التعس .
أغضب وأثور . أقفل الجهاز . أخرج من البيت الى حيث لا سوق ولا تجار في سوق .
يتوقف محدثي عن الكلام . أتقصد ألا أؤذي مشاعره . أحاول أن أخفي عنه ابتسامة . أخشى أن يسيء فهمي . لا أستطيع !
أحول الابتسامة الى ضحكة مدوية . استدرك قائلا : وانا ايضا في اول عهدي كنت اعيش هذه اللحظات .
 
 
الصعود في القطار الخطأ .
 
وهذه غلطة الغلطات ، قد تكون مدمرة ،  سردها لي محدثي ، وساسردها لمن يحب الاتعاظ في الحلقة التالية .
 
 

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 2)ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 2)   –  15th August  2005

صفقات المتعة .
وما هي إلا لحظات حتى فعل جوابي في نفس محدثي ما شئتُ له أن يفعلَ ، فبان الارتياح على محياه ، وأشرق وجهُهُ ،  وعلت الابتسامة ثغرَه ، وعاودته الرغبة في معاودة السرد ، قال :

أعرف لحظاتٍ تتحكم بي فيها رغبة جامحة في دخول السوق ، وتتملكني احاسيس غريبة لا يسهلُ علي التفلتُ منها . أحاسيس تملأ علي مشاعري ، وتشل أفكاري ، وتعطل كل قدرة فيّ على التحليل . احاسيس تستحيل صوتا ، بل أصواتا ، تطن في اذني : ألآن ، ألآن ، إشترِ ، علامَ تنتظر ؟

ودون إرادة مني ، ودون شعور واعٍ ، –  وهنا تكمن المشكلةُ –  أجدُ نفسي قد ضغطت على حيث يرسَلُ أمرُ الشراء الى السوق ، وتتم لي العملية . وما إن تتمّ لي العمليةُ ، حتى أبدأ بالخوف منها ، وأشرعُ في كرهها . وما من عملية مكروهة يمكنها أن تحقق الربحَ ، هي ساقطة لا مهربَ من ذلك .

ألأحاسيس هذه تحملني إلى طفولتي ، إلى الفرحة التي كانت تمتلكني إن فزتُ بلعبة جديدة ألهو بها ، هي تذكرني بالنشوة التي كانت تتحكمُ بي عندما كنت أركب دراجتي الصغيرة ساعيا لإظهار مقدرتي  . هي تذكرني بفترة شبابي ، في أول عهدي بالقيادة ، بالمتعة التي كنت ابحث عنها وراء مقود السيارة ، فخورا بقدرتي على توجيهها حيث أشاء ، مزهوا بتميزي عن أقراني وتقدمي على رفاقي .

هذه اللذة ذاتها ، وهذه المتعة ذاتها ، وهذه النشوة ذاتها ، وهذه الفرحة ذاتها ، هي التي أبحث عنها الآن دون وعي مني ، في بحثي عن صفقة أفتحها . هي لذة التغلب على شيء ما ، هي متعة التميز عن شيء ما ، هي نشوة امتلاك شيء ما ، هي رغبة تحقيق الغلبة والنصر والإمتلاك .

هذه اللذة ، وهذه المتعة ، وهذه الفرحة التي أبحث عنها ، كلما كانت هي السبب في فتحي لصفقة ، كانت الصفقة خاسرة لا مُحال !!

نعم ، أنا اعرفُ بيتَ الداء ، ولا اجدُ له الدواء !

أنا اعرفُ أن الصفقات التي أفتحها إرضاء للذة ، وإشباعا لرغبة ، وتحقيقا لنشوة ، إنما هي كلها صفقات خاسرة . أنا اعرفُ ذلك ، ولا أستطيعُ للبلية ردا .

  

صفقات الحظ .

أنهى محدثي السرد ، مال الى فنجان كان قد نسيه على طاولة مجاورة ، ارتشف منه شيئا من القهوة ، صمت برهة ، ثم قال :

أقرأ احيانا تقارير الصحف الاقتصادية ، أبحث فيها عن المؤثرات التي يمكن ان توجه السوق أو تتحكم فيه ، أدقق في كل خبر وكل نبأ ، فلا يلفت ناظري شيئا بعينه ، ولا يرجح في تقديري رأي على رأي . أعمد الى التحليل الفني وأبحث فيه عن ضالتي . أريد صفقة تقنعني وأضمن الربح فيها . أدقق في كل المؤشرات . أرسم الخطوط وأحدد مناطق الدفاع والمقاومة . لا يلفت ناظري وجود حالة تستحق الوقوف عندها . حالة يصعب علي وصفها ، لكنني أعرفها، أعرفها جيدا ، فيما لو رأيتها   . حالة أصر على العثور عليها الآن ، ولكنها تعصي علي . أستنفذ صبري . أقول : هذه مقاومة تبدو لي جيدة . أجرب البيع عليها . وأفتح بيعا عليها .

أفتح عملية البيع بعد أن أكونَ قد أدنتُ نفسي من فمي ،  دون شعورٍ مني  .

أما قلت : أجرب البيع عليها . أليست التجربة ضربا من ضروب الحظ ؟ أليس الإتكال على الحظ أسوأ أبواب التعامل وأشدها خطرا ؟

بلى هو كذلك . أنا أعرف ذلك . ورغم معرفتي ، لا أقوى على التملك برغبتي ، فأقع في الفخ .

 صفقتي حظها في الربح قليل . هي صفقة حظ .

توقف محدثي عن الكلام ، ونظر الي كأنه يطلب رأيي في ما سمعت ،  لم يأنس في  رغبة في التعليق ، عاودته الرغبة في الحديث . قال :

 

وما قاله ، وما قلته يتبع سرده في الاسبوع القادم بإذن الله وعونه .

 

 

كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 1) ا

كيف يكون اتخاذ القرار ؟  ( 1)   –  8th August  2005

 

 
” إجعل لحظة اتخاذ القرار نتيجة تحليل وتدقيق ، إجعلها خلاصة تشوّف وتكشف ، لا دُفعة شهوة جامحة لتحقيق ربح  ، أو شُحنة رغبة متمكنة لممارسة لعبة البوكر . “
 
حادثني أحد معارفي ، قال :
ما فتحت عملية بيع أو شراء إلا وتحكم بي فور فتحها شعورٌ غريبٌ ، يكون أحيانا دغدغة ناعمة واثقة مريحة واعدة ، فيدخل ُ الأمل ُ الى نفسي ، والراحة الى أعصابي ، وأجدُني مستلقيا أراقب السوق بكل هدوء ، وهو يجري كمياه سبيل صافٍ في الاتجاه المُراد . وإذا الربح يتحقق بسهولة ، ويزداد بمرونة . يا لها من لحظات !
ويكون هذا الشعورُ أحيانا في اللحظة التي أفتحُ فيها العملية شعورَ تشككٍ وترددٍ وتخوفٍ ، يكون شعورا تشوبُه الضبابيةُ ويغلفه التشويش ُ ، أسمع صوتا من أعمق اعماقي  يناديني : لا ! لا تفتح هذه العملية . هو صوت تشوّفي وتكشّفي . أعرفه جيدا . أكرهه ، لانه لا ينصاع لي . أمقته ، لانه يعاندني دوما ، ويقف حائلا دون تنفيذ ما أخطط له .  أسارعُ الى إسكاته . أقتله في أعماقي . أخنقه في مهده . أفتح العملية رغما عن أنفه . أزرع  في غرفتي خطوات تخايل وشغف .
وتمرّ لحظات .
وتدقّ لحظة الحقيقة . يتسرب الندم الى نفسي . أدرك أنني أخطأت . لقد فعلت ما لم يكن عليّ فعله . لقد فتحت الصفقة إشباعا لرغبة ، وإطفاء لنارطمع ، وإخمادا للهيب شهوة .هذه هي الحقيقة .
تدقّ لحظة الحقيقة بعد دقائق على فتحي العملية ، وأحيانا بعد ثوانٍ . ولكن بعد أن يكون الأوانُ قد فات .
 لقد فتحت العملية لأنني انتظرت طويلا . انتظرت منذ الصباح ، إنتظرت اللحظة التي يجب عليّ أن أنقضّ فيها على السوق ، اللحظة التي أعرفها جيدا ، اللحظة التي طالما حققت لي الارباح ، ألكثيرالكثير من الارباح .
ولكن انتظاري طال . اللحظة لم تأت . غلبني طمعي . نسيت كلّ ما كنت قد رسمت لنفسي من حدود . أهملت مبادئ تشوفي وتكشفي . دخلت المعركة دون سلاح . انا أعرف اني خاسر . وهكذا يكون . صفقتي خاسرة ، لا أملَ منها يُرتجى .
أنهى محدثي كلامه . صعّد نفسا كان قد احتبسه صدرُهُ .  طأطأ رأسا كان قد رفعه في سردِهِ . تحسّرعلى علّة لا يجد لها دواء .
رأيت من واجبي مواساة محدثي ، قلتُ :
وأنا أيضا ينتابني هذا الشعور ، وكلّ عامل في هذا السوق ينتابه هذا الشعور . أنا أيضا أعيش هذه اللحظات ، وكل عامل في هذا السوق يعيش هذه اللحظات . أنا ايضا أبلغ نفس المبلغ ، وكلّ عامل في هذا السوق يبلغ هذا المبلغ .
أنا ايضا أدخل السوق ، وسرعان ما أدرك بعد دخولي ، إن كان من الصفقة ربحٌ يُرتجى ، أم ان كان منها خسارة لا بدّ من تاديتها . أدرك ذلك غالبا لحظات بعد فتحي العملية .أدركُ ذلك في اللحظة التي يكون فيها الفكر قد تحرر كليا  من وسوسات شيطان الطمع ، وتفلّت نهائيا من هلوسات غليان الجشع .
قلت ذلك لمحدثي مواساة له ، وتخفيفا عنه ، ورفقا به .
ولو وُهِبَت لي الحِدّةُ الواجبة في الكلمة ِ ، ولو قدّرَت لي القسوة اللازمة في الموقفِ ،  ، ولو رُميتُ باللامبالاة تجاه مشاعر محدثي .
لو كان لي كلّ هذا ، لكنت صَدَقتُ محدثي القولَ ، ولكنت أضفتُ :
كان ذلك يحدثُ لي في أوّل عهدي بهذه التجارة ، أما اليومَ فهو نادرا ما يحدثُ لي .
ولو اني قلت هذا ، لكان عليّ أن أضيف غير ممالق :
وأنت أيضا بعد فترة من التمرّس والدُربَةِ والدراية ، ستكونُ متحررا من هذه الآفة ، بإذن الله وعونه .
 
وللجلسة مع محدثي تابع في الاسبوع المقبل .
 

 

 

أدب التشوّف والكشف ، أو فن اتخاذ القرار

أدب التشوّف والكشف ، أو فن اتخاذ القرار    11th June  2005

 

 

التجارة شطارة !
قبل تعريف التجارة ، أما وجب تحديد الشطارة ؟
الشطارة نبالة ، أم نذالة ؟
الشطارة تشوفٌ وكشفٌ ، وكل ما سوى ذلك فانتهازية وحقارة !
التشوف والكشف يُفرَض أن يكونا أشرف آداب التجارة على الإطلاق ، لأن كل نتيجة متحققة ، سلبية كانت أم إيجابية ، إنما هي بلوغ لرسم تمّ تخطيطه ، وخلاصة لتدبير تمّ اعتماده .
التشوف والكشف يُفرَض أن يحملا أبعاد كل حقيقة ، وأن يكشفا كل مستور ، وأن يبلغا بمن نجح في إدراك مرماهما مبلغا هو الى نواة الامور لأدنى بل الى  الرؤيا لأقرب .
إن كل من امتلك أدب التشوف والكشف ، إنما هو قد امتلك أدبا يجرد التجارة ( وبخاصة تجارة سوق المال ) عن مفاهيم خاطئة التصقت بها في عصرنا التصاقا جعلها الى الانتهازية والشعوذة أقرب منها إلى الذكاء الصافي والفهم النقي والبلوغ الفكري الصادق .
إن كل من امتلك أدب التشوف والكشف ، إنما هو قد اختبر بعد معاناةٍ ، وأوقن بعد شكٍ ، وأدرك بعد اختبارٍ ، أن التجارة ( وبخاصة تجارة سوق المال ) ليست شطارة ، وليست لباقة ، وليست لعبا على الحبال ، كما يحلو للبعض ان يصورها .
التجارة ليست شطارة ، ولو أن الشطارة النبيلة المهذبة الايجابية الراقية الشريفة هي خيط من خيوطٍ مكونةٍ لنسيج شخصيةِ كلِ من عمل في التجارة .
 
التجارة في سوق المال تشوفُ أبعادٍ ، وكشفُ أسرارٍ ، وسبرُ أغوارٍ ، وبُعدُ رؤىً .
التجارة في سوق المال سياسة وسلوك وتدبير .
التجارة في سوق المال تشوف وتكشف .
التجارة في سوق المال خطة طريق .
نعم ، هي خطة طريق !!
 
التجارة في سوق المال فنٌ .
هو فن اتخاذ القرار .
هنيئا لمن بلغ  فن اتخاذ القرار .
اذ به ، وبه فقط ، بلوغ المُراد ! 
————————————
 كيف يكون اتخاذ القرار ؟
كيف أحدد ان كنت ناجحا أم فاشلا ؟
كم يجب علي أن أحقق من الربح حتى أصنف من الناجحين ؟
هل هناك استراتيجية محددة يجب ان أتبعها حتى ابلغ النجاح ؟
ما دور توصيات الخبراء في ذلك ؟
اين تكمن خطورتها ؟
اين هي ايجابياتها ؟
الباب الضيق الذي يوصل الى النجاح . اين هو ؟
كيف تكون تجارة أسواق المال مقامرة ؟
كيف تكون تجارة أسواق المال أرقى المهن  ؟
هل تجارة أسواق المال هي للعامة أم للنخبة ؟
من هي النخبة ؟
ان كانت للنخبة هل أستطيع أن أكون من النخبة ؟
هذه وغيرها من الاسئلة التي تدور في خلد كل راغب في دخول هذا العالم سيصار الى مقاربتها وبحثها في مقالات متتابعة إن شاء الله وأذن .
 
 
 

 

 

أدب الجلوس إلى الخوان ، أو فنّ اللا ” يوفوريا ” ا

أدب الجلوس إلى الخوان ، أو فنّ اللا ” يوفوريا ” –   27th May  2005

 

 

أدبُ تناول الطعام . أدبُ ترتيب المائدة والجلوس اليها . أدبُ الدخول في السوق . أدبُ الاشتراك في واحدة من أرقى التجارات .
أوجهُ الشبه عديدة ، ألمقاربة بين الحالتين قد تبسط الامور وتجعلها أكثر جلاء ووضوحا ، نظرا لاشتراك العوام من الناس في الوجه الأول ، وتوقِ البعض من نُخبهم إلى امتلاك فنون الوجه الثاني .
 
كنت منذ فترة غير وجيزة قد عقدت العزمَ على كتابة هذا الفصل والعمل على مقاربة فن دخول السوق من أدب الجلوس الى المائدة . وكأن الصدفة شاءت أن تضع قبالة نظري مشهدا تلفزيونيا يؤدي فيه واحدٌ من كبار نجوم السينما المصرية دور واحد من الباشوات الأكولين أمام مائدة امتدت عليها أطباقٌ حوت كل ما لذ وطاب .
كان الباشا يوشك أن يباشرَ بتناول الطعام ، وكانت عيناه قد جحظتا ، أو كادتا . كان ينظرُ إلى الفراخ المحمرة وقد تملكت وعيَه شهوةٌ جارفة ، وأخذت من جوارحه لذةٌ جامحة ، بحيث إن كل ملمح من ملامح وجهه عكس خشيته العارمة من أن ينبتَ الريش في هذه الفراخ المشوية ، وتعودَ لها الحياة ، ، فتهبّ من الطبق مصفقة بجناحيها ، ناجية بنفسها ، مفوتة عليه ما كان قد منى النفسَ به من شعور بالتلذذ والتنعم والشبع .
 
إستوقفني المشهدُ – وقد برع الممثل في تأديته خير براعة – فخفت ألا تتركَ عينا الرجل من الأطباق لفمِهِ نصيبا . قررت أن أتابع ما تبقى فكان العجبُ .
 
يدان تحملان ما قُدر لهما أن تحملاه ، ثم تعملان على إفراغ حمولتيهما في فم يصعب عليه استيعاب ما أُلقي فيه ، فاذا به يمضغ مقدارا ويبتلع مقدارا ، وهو بين المضغة والمضغة يرمي بقية الأطباق بنظرات تفضحُ كل ما يجول في نفسه من بقية لاحاسيس شهوانية فارغة من كل ما هو غير الطمع والشراهة والنهم والفجع .
أطلت عليك صديقي القارئ في أمر قد تراه غير ذي علاقة بما يفيدنا هنا في موضوعنا ، وأراه غير بعيد عما يشغَل بالك ويشغل بالي على وجه سواء . أطلتُ عليك ولكني لأصدقك القول أني ما فعلت إلا لكون أهمية هذا المشهد بالنسبة لي ليست قائمة بذاتها ، ولكنها كائنة بما يمثل من إقبال مفرط على الشيء ، وشراهة متطرفة في امتلاكه ، ونهم طريف في التهامه ، حتى ولو قارب ذلك حد الضرر ، وانعكاس النتيجة المرجوة  توعكا أو مرضا أو علة أو خسارة أو دمارا . إن أهمية هذه المقاربة تكمن أيضا في ما يمثل الأمرُ من مشابهة حية ظريفة كوميدية ، لحالة من حالات التصرف المحظورة في إدارة شؤون المحافظ التجارية في سوق المال الذي نحن من صلبه وهو هدفنا ومنانا .
 
ثق صديقي القارئ ، وأنا ما توجهت اليك إلا وقد صدقتك القول ، ثق إن آداب تجارتنا لا تقل أهمية عن آداب حياتنا في مختلف وجوهها . فكما أن هذه كفيلة بتمييز عضو إجتماعي عن أعضاء آخرين ، ورفعه الى درجة تفوقهم قيمة وعزة ، وقدرة على التاثير ، إن هو ألم بكل تفاصيل هذه الآداب ، وعمل على احترام كل دقائقها ، وتطبيق كل أوامرها ، وتحاشي كل نواهيها ؛ فكذلك إن آداب السوق كفيلة أيضا ، إن هي أُوليت ما تستحق من الاهتمام والإحترام ، كفيلة بتمييزه عن غيره من جمهرة المتعاملين العاديين ، المتعثرين في خطوات طمعهم ، المتدثرين بعباءات فشلهم .
 
وكما للجلوس الى الخوان آداب كفيلة برفع الجالس الى مصاف المختارين من الحضر ، أو بخفضه الى درك الهمج المتخلفين عن امتلاك أصولَ اللياقة والذوق السليم ؛ فإن للدخول في السوق آدابا كفيلة برفع الداخل الى مصاف الفالحين الناجحين الواصلين ، أو بخفضه الى مصاف الفاشلين الخائبين اليائسين .
وكما أن عينَ الآكل لا يجوز لها أن تلتهم الطعام قبل فمه . وكما ان تناولَ الطعام ومضغَ الادام يختلف عن الافتراس والإلتهام . فكذلك لا يجوز لعين المتعامل أن تقبل على السوق ملتهمة كل ما فيه ، مهللة للربح قبل حصوله ، محولة الأمنية حقيقة قبل تحققها ، بانية الأمجاد قبل الشروع فيها ، محتلة مكانا مخصصا لغيرها ، عارفة بكل شيء الا بذاتها ، سليمة من كل آفة إلا من أشدها خطرا : عنيت ال ” يوفوريا ” .
 
وكما أن يدَ الآكل يجب أن تكونَ رفيقة بمعدته رحيمة لها ، تحملها ما بوسعها ، وتوفر عليها عبء الضار من الاحمال ، فلا تدفع الى جوفها ما لا تتسع اليه ، وما ليس للجسم حاجة به ؛ فكذلك ترى المتعاملَ الحضاريَ مضطرا لأن يقيس بمقياس العقل ما يمكن أن يكون هو محتاجا اليه ، قادرا عليه ، وان يزين بميزان الحكمة ذلك الحد الفاصل بين ما يكفيه ، وبين ما تتسبب به قرارات جشعه  ونبؤات طمعه ، من أحمال ،لا وسع لأعصابه ولا حيلة لحسابه على تحمل تبعاتها . إن على كل داخل في هذا السوق أن يُحسن التفريق بين ما هو له ، وما هو لسواه  ؛ بين ما يمكن أن يكون له مفيدا ، وما يمكن أن يكون به ضارا ؛ بين حِمل يمكنه القيام به والسير فيه بتؤدة الى الهدف ، وحملٍ يتحول عبئا عليه ، فيَحُول بينه وبين ما خطط له . إن على كل داخل الى هذا العالم التجاري الفائق الأهمية أن يحسنَ تحاشي ال ” يوفوريا ” وكل ما تستتبعه من كوارث ، وأن يتمكن من فن اللا ” يوفوريا ” فيستوعبه كلية، ويجعل منه بندا أساسيا من بنود دستوره ، وقانونا رئيسيا في شرائع سياسته .
 
وكما أن آداب الجلوس الى المائدة تحتم على الآكل أن يأكل بموجب الحكمة الذهبية القائلة ” علي أن آكل لأعيش لا أن أعيش لآكل ” ؛ فإن آداب الدخول الى السوق ، وفن اللا ” يوفوريا ” يحتمان على كل متعامل أن يعمل بهدي مقولة مماثلة ، أراها من الأهمية بحيث انها تستحق أن تكتب بغير حبر ، وعلى غير ورق ، وأن تعلق حيث لا يغيب نظر . عنيت : ” إن قانون اللا  يوفوريا يحتم علي أن أتاجر لأعيش ، لا أن أعيش لأتاجر ” . والفارق شاسع بين الحالتين ، ولا أظنه يغيب عن كل لبيب . ومَن غير اللبيب من الإشارة يفهم .
 
 
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، إن هو اخطأ في المضغ لتعجلٍ أو ارتباكٍ ، فعض طرف لسانه ، ألا يثور ويغضب ، فيقلب الطاولة على الجالسين بمعيته ،  أو يعكر صفو الجلسة بولولة وشتم وتهديد . فإن فن اللا ” يوفوريا ” تفرض على المتعامل ألا يغذي مشاعر الحقد على السوق إن هو اُصيب بخسارة ، أو وقع في مأزق ، وأن لا يسعى بأية حال الى الإنتقام  منه في محاولة يائسة تهدف الى استرداد ما يعتبره حقا سليبا . وإن هو انزلق الى هذا الدرك فانما يعرض نفسه الى هزيمة نكراء مزدوجة ، والى خسارة شوهاء مضاعفة لن تكون له من السهل القيامة منها ، لان معاداة السوق لا تورث الى الخسارة ، ولان المندفع وراء إرادة الانتقام والثأر فإنما هو قد حكم على عقله بالتجمد ، وعلى أعصابه بالشلل ، وعلى إرادته بالتوقف ، وعلى مصيره بالفشل .
 
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، أن لا يجلسَ على المائدة إلا بعد أن يكونَ قد اهتم بنظافة يديه وفمه وكل ما يدخل اليه من غذاء ، حرصا على سلامة جسمه ومكونات بدنه ؛ فإن آداب دخول السوق تفرض على المتعامل أن لا يقاربَ جهاز عمله وأن لا يباشرَ نشاطه – حتى ولو كان يمارس عمله من جهاز في غرفة نومه – إلا إن هو عمد الى ايفاء جسده حقه ، وإن هو لبس رداء العمل النظيف ، نظرا الى كون النظافة الخارجية تعطي صاحبها شعورا خفيا بالنظافة الداخلية ، و لما في ذلك من إضفاء لحيوية وإدخال لفرح وإفاضة لبهجة  على النفس والروح ، ومن تيقظ للعقل ومن توقد للفكر ومن تحفيز لشدة الانتباه ودقة الملاحظة وقدرة المقارنة وصوابية الحكم ، من خلال ما يوفر للاعضاء من راحة ومناخ .
 
وكما ان آداب الاكل أن لا يُدخل الآكلُ طعاما على طعام فلا يأكلُ إلا عند إحساسه بالجوع ، ولا يشربُ إلا عند إحساسه بالعطش ، كي لا يُفسدَ نظام جسده ، السائر وفق وتيرة تأليف مبدع في سمفونية موسيقية تنسجم فيها كل اعضاء الجسد مؤدية لوظائف محددة . فإن آداب الدخول في السوق تقضي كذلك عدم الأفراط في الهجوم على السوق ، بصفقات قد تصيب المتعامل بتخمة ترهق اعصابه ، وتتعب فكره ، فيضل في غياهب لا يجد لنفسه منها نجاة . ومن هنا فالوصية هي إعطاء النفس فترة من الراحة بعد كل صفقة سواء كانت صفقة ربح أو خسارة ، لتهدأ الأعصاب وتستقيم دورة الدم ويصير الفكر مهيئا لمعاودة التخطيط والتحليل . هذا هو النظام الطبيعي السليم ، وكل ما سواه إنما يصنف ضمن قانون ال ” يوفوريا ” البغيض .
 
وإذا كانت النباتات والأزهار  ، بما تفوح به من روائح زكية ومناظر مريحة ، تُدخل على المائدة جوا مؤنسا لطيفا يساعد النفس على الانشراح ، ويساهم في تسهيل عملية الافادة مما يتناوله الجسم من طعام كثيف بتمرير جزيئياته الى ألطف اللطيف من الاعضاء ؛ كما أن ذلك صحيحا ، فإن تزيين مكان العمل بلوحات فنية مشرقة ، وتخصيصه بزهيرات وردية وأخرى سماوية أو بيضاء نقية ، يُدخل الفرحَ الى النفس ، والمرحَ الى الطباع ، فيتم التغلب على آفة ال ” يوفوريا ”  ويحضر روح الخير مرفرفا على المكان ساكنا فيه .  ولا يخفى ما لروح الخير من أثر في جعل البركة تحل والنعمة تُطل ، فتفتح أبوابُ الرزق ، وتُشرع نوافذُ الخير .
 
ولا يستهينن أحدٌ بما تقدم ، فإن مداواة العلة غالبا ما تكون بلمسة تحمل الشفاء ، أو بهمسة تطرد البلاء ، أو ببسمة تستدرج قبسا من النور المحيي . ومَن غيرُ النور المحيي قاهرٌ لظلمات النفس التائهة ، وملقنٌ لفنٍ اسمُهُ : فن ال ” لا ي و ف و ر ي ا ” .
 
 
 
 
 
 
 

 

 

أدب الرفق بالأعصاب (3) أو فن منع الخسارة

أدب الرفق بالأعصاب (3) أو فن منع الخسارة .   11th April  2005

 

 
حتى ولو سعى الكلّ لتضليلك ، بإخفاء ما دسُم وسما ، وإبراز ما وَضُع وتفه ، فأنا لن أفعل .
حتى ولو راوغ الجمعُ في ما ينصحون ، وكُذِبَ الكلّ في ما يصرّحون ، فصدّقني .
أنا لم أصرّح إلا بما خبرت ، ولن أبلّغ إلا بما عملت .
هذا السوق يبدوللكثيرين – إن لم أقل للجميع – غامضة حقائقه ، مبهمة تفاسيره  ، مشفرة مفاتيحه ، مرصودة أبوابه ، عميقة لججه ، خطرة مراكبه .
هذا السوق يبدو لي – وللكثيرين غيري – جليّة صفحاته ، بهيّة طلعاته ، حريريّة لمساته ، ورديّة بسماته ، محمولة عثراته ، مقبولة صفعاته ، مأمونة مواعيده ،  مأمومة موارده .
أنت وهو ، أنتم وهم ، الكلّ قادرون على أن يكونوا حيث أنا ، ليس في الأمر استحالة ، إن في الأمر لدقة .
المتعاملون في هذا السوق – من حيث الهدف الذي يسعَون اليه –  فريقان ، لا ثالث لهما .
يسعى الفريق الأول ، ومنذ يومه الأول ، وفي خطوته الاولى ، إلى التعجيل في إجراء ضربة العمر ، ضربة تنيله المبتغى كلّ المبتغى ، وتميزه عن أقرانه  كلّ أقرانه ، وتحمله الى النعيم ، والغنى ، والثروة ، والجّاه ، والعزّة ، والنفوذ ، والسّلطان .
 ضربة العمرِ ، ويا لها من كذبةٍ مُخمليّةٍ ندّاها إبليسُ بعطورٍ جناها من بستانٍ مَكرِه ، وحبكها بشِباكٍ حاكها من أحابيل مُغرياته .
ويسعى الفريق الثاني ، إمّا منذ يومه الأول ، أو، بعدَ أن يكون قد استخفّ بالنصيحة ، وتلقى الصفعة ، وتلقن الدرس ، وفهم السرّ ، وفكّك الرموز ،  وأدرك الأحجية ، وأشرك العقل ، وعطّل الجنون .
يسعى الفريق الثاني هذا الى تحويل العمل من مراهنة الى تجارة ، يسعى الى اتخاذ هذه التجارة مهنة أساسية ، يمتهنها ، يتقنها ، يمارسها ، يكسب رزقه منها . 
يسعى الفريق الثاني هذا الى رزقه كلّ يوم ، راضيا بما قسمه الله له من رزق ، مُوسّعا كان أو مُقترا عليه به ، فترى الواحد راضيا بالدينار ، وممتنا للقنطار ،قانعا بالقليل  ، راغبا بالكثير .
الى الفريق الثاني أتوجّه بحديثي ، واليه أسِرّ خفايا قلبي .
ألفريق الأول لا أعرفه ، أنا براء مما يفعل . أمقت غنى الظروف والمناسبات . أحِبّ جَنى فكري . أستلذ رغيفا دوّرته يداي .
 
أن تكون البورصة مهنتك ، يعني نجاحَك في أن تؤمن دخلا ثابتا لك منها ، دخلا يكون ثمنا لمجهود فردي فكري وروحي في آن ، دخلا يتراوح بين القلة والكثرة بحسب ما منّ الله عليك من رصيد مادي ، وما وسّع عليك به من حنكة ودراية وذكاء .
أن تكون البورصة مهنتك ، يعني بكل بساطة أن تكسب منها رزقا . ولتكسب منها رزقا ، لا بد أن تحقق منها ربحا . ولتحقق منها ربحا ، لا بد أن تمنع عن نفسك الخسارة .
 
نعم أخي المتعامل . لكي تنجح في تحقيق الربح في هذا السوق الهائل العجيب ، يجب أن تبدأ من حيث انتهى غيرك – قصدت من حيث فشل – ، يجب أن تهتمّ في الدرجة الأولى بمنع الخسارة . كلّ خسارة ، كبيرة كانت أو صغيرة . فإن نجحت في ذلك ، فقد نجحتَ في المرحلة التالية ، عنيتُ تحقيق الربح .
 
نعم أخي المتعامل . إليك سرّي :” إنّ تحقيق الربح يبدأ من النقطة التي لا يجوز أن تصل إليها ، وليس من النقطة التي يجب أن تصل إليها .”
 
إنّ السواد الأعظم من المتعاملين يبدأون عهدهم مع هذا السوق بالبحث عن الوسيلة المثلى التي تحقق لهم الربح . انهم يسعون الى دراسة كل المؤشرات المتوفرة ، الكل يبدأ بالبحث عن وسيلة تؤمن له فهم أسرار الدفاع والمقاومة السحرية . ألكل يريد ان يشترك بسباق باريس داكار . ألسواد الأعظم من المتسابقين يسعون الى امتلاك أفضل سيارة توصل الى الهدف . ألسواد الأعظم يسعى الى ال IBM او ال APPLE . ألسواد الأعظم  يفخر بال WINDOWS XP او ال NT . ألسواد الأعظم يفضل اليوم الشاشة المسطحة FLAT DISPLAY . ألسواد الأعظم ينطلق من باريس ويريد بلوغ داكار قبل غيره . ألقلة تهتم بكل المعوقات التي يمكن أن تحول دون الوصول الى الهدف . ألقلة انكبت قبل ساعة الصفر على هذه المعوقات وأوجدت حلا لكل منها . هذه القلة هي المؤهلة بالوصول الى الهدف . هذه القلة هي التي وصلت فعلا . هذه القلة بوسعها ان تصير هي الكثرة .
 يصل الى الهدف من أدرك موقع المنعطف ولم تنحرف سيارته عن الطريق . من استبق وجود حفرة ولم ينزل فيها متسببا بعطل يحتاج الى ساعات من التأخير . من لم يتجاهل عن قصد وعورة مسافة يعرف مخاطرها . من لم يركب مراكب هوسه وسار على رمال متحركة .
في السوق سباق ولا أمرّ . ليس بالضرورة أن يكون النصرُ من نصيب الأسرع . النصرُ هو غالبا من صنع الاذكى ، ألأدهى ، . ألحظ يمكن أن يكون من نصيبك مرّة لكنّ عقلك وفطنتك معك دوما . 
اخي المتعامل . إن روحَ نخوتنا العربية ، وأعرافَ فروسيتنا العربية ، وذهنية بطلنا عنترة ، لا فائدة لها في هذا المكان . نصحت واحدا من محدثيّ مرة بشعر عربي شاع واشتهر الى أن صار مثلا ، قلتُ :
ألعقل قبل شجاعة الشجعان ———  هو أوّل ٌ وهي المحلّ الثاني .
أعجبه كلامي كقول ، أثنى عليه ، أيدني في ما أرى ، هنأني على مبدأي . مضت دقائق خمس ، خاطبني بقوله : راهنت على صفقة كبيرة ضد الدولار ، في الصباح اكون قد خسرت كلّ ما في حسابي ، أو اكون قد ضاعفته . سألته : هل راهنت ضد الدولار ؟ أم تراك بعت الدولار ؟ أدرك صاحبي ما رميت اليه . لم يجبني . خفت عليه .
 عاد في الصباح  ليقول : ليتني عملت بما أشرت عليّ . لم أفاجأ بما أسرّ إليّ . واسيته . أمِلت أن يفلح في التغلّب على هَوَسِهِ .
 
مُحدّثي كنت قد حدّثته بمشهد قلّ من لم يشاهده على شاشة التلفاز . غزال يرعى في مرج أخضر ، هو يتلذذ عشبا طريا ساهيا عن كلّ ما سواه . على مسافة غير بعيدة أسدٌ يتربص اللحظة المناسبة للإنقضاض ، هو يمني النفس بلحم طري منصرفا عن كلّ ما سواه . في السماء جماعة من الكواسر تبحث عن حصّة في رزق قد يكون المولى ادخّرهُ لها في جعبة كرمه وإحسانه .
اللحظة دنت . ألأسد ينقضّ . الغزال ينهار . جماعة الاسود تشارك . جماعة الطير تنزل إلى الأرض . تتجمع على بعد امتار قليلة . هي تعرف قدرها . تعرف انها غير مدعوة . تقدّر الخطر .
البعض منها يغلبها طمعها ،  تسيطر عليها شهوة غريزية ، تندفع الى المغامرة ، تحبّ المخاطرة ، تقترب من الفريسة مستغفلة شبلا ، تلتقط حينا ما تستطيعه من رزق ناجية من شرّ انتقام  ، وتقع حينا في وزر جنونها فما تصيب إلا جروحا في عنق أو جناح عوضا عن نصيب في وليمة .
ألطيور المجرّبة تتصبر وتنتظر . هي تعرف أن ساعتها لم تأتِ بعد . هي تراقب بدقة العالم الفهيم . هي تدرك أنها ستصيب من الغذاء ما تحتاج اليه . هي لا تطمع بأكثر مما تحتاج اليه .
دقّت الساعة . شبعت الأسود . انصرفت عن المكان . تسابقت الكواسر الى الفريسة . نالت كلها ما تحتاج اليه ، كل بحسب قدرته وحاجته .
 
أخي المتعامل . إن شئت أن تلقى نصيبك في هذا السوق ، عليك :
1 – بالدرجة الاولى أن تسعى بكل ما أوتيت من حيلة وقدرة وحنكة ، حتى لا تكون الغزال .
2 – بالدرجة الثانية أن تقتنع بكل جوارحك ، وتدرك بكل مداركك ، أنّه ليس باستطاعتك أن تكون الأسد ، هذا دور غيرك من اللاعبين .
3 – بالدرجة الثالثة أن تعرف أنه قدّر لك أن تكون الطير الكاسر في هذا السوق ، فتشكرَ الله على نعمته ، وتراقبَ بدقة جماعة الطيرفي هذا المشهد التلفازي ، وتركزَ على كل حركة من حركاتها ، وتعملَ على التمثل بها ، وتقليد كل تصرّفاتها .
إن غامرت فكن طائرا سريع الحركة ، يحسنُ الإستعانة بجناحيه إن خانته قدماه ، كن حريصا على منع الخسارة ، أو  في أسوأ الأحوال على تقليلها . وإن لم تغامر فانتظر ساعتك ، إذ لن يفيدك بشيء أن تلبس جلد أسد . ألأسود تعرف بعضها .
أخي المتعامل . إن كنت مبتدئا في السوق فاعلم !
إنّ اول شرط لتحقيق الربح في هذا السوق هو تحاشي الخسارة ، التقليلُ منها ، منعُها كليا إن أمكن . وكن على ثقة ، إن نجحت في ذلك ، فإن نصيبك من الربح لا بد ان يكون محفوظا .
أخي المتعامل .
أخبرني أحدُ معارفي قال : لقد سمعت نشرة الأحوال الجويّة في الصباح ، كانت تبشر بيوم ربيعي مشمس . بعد ساعتين رأيت الغيوم الدكناء تغطي صفحة السماء . هي تتكاثر بحيث انها حجبت كلّ نورٍ من الشمس . ظللت واثقا بأن خطر العاصفة بعيد . ألم يؤكد مذيعُ الأخبار في الصباح إن النهارَ سيكون ربيعيا بامتياز ؟  لقد كنت أحمقا ، وما عرفت ذلك إلا بعد أن تبللت ثيابي ، وعدت الى منزلي في منظر جُرَّذٍ يخرج لتوّه من بركة ماء آسنة .
كُن  شديدا في التنبّه ، سريعا في القرار ، حازما في التنفيذ . إيّاك والعناد ! . إيّاك وبلادة الذهن !
 
أخي المتعامل .
إن مصير صفقتك يتحدّد فور فتحها ، بل قبلَ فتحِها . إعلم – وبخاصة إن كنت مبتدئا – إن فتحت صفقة ودخلت بها السوق دون أن تكون قد حدّدت كل ما يحيط بالصفقة من مخاطر، ومن حظوظ ، فانت قد ارتكبت أشدّ الأخطاء ، ووقعت في أخطر المحظورات .
 إعلم – وبخاصة إن كنت مبتدئا – إن قدرتك الذهنية تكون حرّة من كلّ قيد ، متحرّرة من كل ضغط ، قادرة على كل قرار ، عارفة بكل قاعدة ، واعية لكل خطر قبل أن تفتحَ الصفقة وتصيرَ داخل اللعبة . فإن فعلت ، فاعلم – وبخاصة إن كنت مبتدئا – إن قدراتك العقلية هذه يختلف مردودُها ، فهي لا تلبث أن تصيرَ أسيرة المشاعر المدمّرة ، ولا يمكن لها أن تلبيَ النداء ، إن انت شعرت بحاجة ماسة لعونها .
خطّط لصفقتك قبل فتحها ، حدّد مسالكَ الكرّ ، أرسم مخارجَ الفرّ ، واحرص على ان يكون هدفك الأول في كلّ ذلك : منعَ الخسارة بأي ثمن .
 
أخي المتعامل .
هذا غيضٌ من فيضٍ . ولنا في الأمر كلامٌ وفير . أرجو لك التوفيق كلّه والخيركلّه . 
 
 
 

 

 

أدب الرفق بالأعصاب . ( 2 ) أو فن تحقيق الربح

أدب الرفق بالأعصاب . ( 2 ) أو فن تحقيق الربح . 

   14th March 2005

 

ألأعصاب ! وما أدراك ما الأعصاب !

إن نحن بحثنا في المكونات البشرية البيولوجية والشعورية ، وسعينا الى كشف المستور من أبواب التمييز، وفصل المرئي من عناصر التمازج بينهما ، فلقد يتبين لنا أن الأعصاب من أقرب الكثيف الى اللطيف ، في ما يكوّن هذا المخلوق البديع الذي نسميه إنسانا . بل هي أقربها على الإطلاق .

والمتعامل في أسواق المال ، هو أشدّ الممتهنين لأية تجارة أخرى  حاجة لإدراك هذه الحقيقة ، والغوص في أعماقها ، والعمل على تدريب طباعه ، لتكون أكثر تناغما مع حقائقها ، واستفادة من مسلّماتها .

ما من شكّ على الإطلاق ، في كون كل متعامل في هذا السوق  يسعى من خلال تجارته الى تحقيق ربح ، وتسجيل نصر ، وإدراك فوز . ولا يختلف امرؤ مع امرئ على كون الربح مبعثا للّذة ، ومصدرا للفرح ، ومنبعا للسعادة ، يستلذه كل من حققه ، ويفرح به ، ويسعد لامتلاكه . ومن لم يظفر بتحقيق مراده ، فما نصيبه الا النقيض : ألم ومرارة وشعور بالإنخداع .

هنا بدأت لعبة الأعصاب ، وإن هي بدأت ، فلن يكون لنهايتها من مجال . 

 

وإن بدأت لعبة الأعصاب ، فلن يكون من السهل بلوغ المراد ، ولن يكون من المستساغ تذوق لذة الإنتصار .

وكيف يمكن منع لعبة الأعصاب ، والحؤول دون انطلاقتها ؟ وهل لهذا من سبيل ؟

أنا ، علمتني الأيام انه ما من سبيل الى تحقيق أي ربح في هذا السوق ، إلا بعد إقفال كل الأبواب ، أو معظمها ، على لعبة الأعصاب المؤذية ، وكرّة الإنفعالات المدمرة .

أنا ، علمتني الأيام ألا أنخدع باللذة الخارجية ، معتقدا إنها قائمة في الأشياء المحيطة بي ، بما فيها الربح .

أنا ، علّمتني الأيام أن لا أنجذب إلى لذّة  ممتطيا جواد جهلي ، متمثلا بحشرة تمّ وضع قطعة صغيرة من الزبدة فوق أنفها ، فتندفع في كل اتجاه ، باحثة عن مصدر هذه الرائحة ، مفترضة وجودها في كلّ مكان ، في كلّ مكان ، إلا حيث هي .

أنا ، علمتني الأيام أن ابحث عن اللذة في كلّ مكان إلا خارج ذاتي ، وبعيدا عن نفسي . اللذة في داخلي ، والسعادة في وجداني ، والفرح في قلبي .

أنا ، لم أستطع تحقيق ربح ، أو تسجيل نصر ، إلا بعد أن ادركت كلّ بارقة فكر في أنوار مفكرتي ، واقتنعت كلّ نبضة حياة في نسيج وجودي ،  بأنه لا جدوى ، لا جدوى على الإطلاق من البحث عن الفرح ، واللذة ، والسعادة ، والنشوة ، والنصر ، والتميز ، في الربح الذي أسعى لتحقيقه .

أنا ، لم أستطع تحقيق ربح ، أو تسجيل نصر ، إلا بعد أن تمّت لي الحقيقة كاملة : أن إفرح بالخسارة ، وأقبلها ، وهلّل لها ، ورحّب بها ، وأوسع لها مكانا في صدرك ، بالتمام ، كما أنت فاعل بالربح !

نعم أيها الأكارم . أنا ، ما إن تمّت لي هذه الحقيقة ، حتى بدأت أحقق الربح ، وراء الربح ، دون أن أستشعر فيه  لذة ، ودون أن انجذب إليه باشتهاء .

نعم أيّها الأكارم . أنا ، ما إن تمت لي هذه الحقيقة ، حتى زالت لعبة الأعصاب عن مسرح عملي ، وسقطت من مفردات علمي ؛ فاذا بحلبة المصارعة مع السوق التي كنت أعيش عليها ، تتحول من تلقاء ذاتها الى فضاء فسيح  تتناغم  فيه الأصوات والألحان ، بحيث لا يمكن ان يكون مصدرا للفرح  ، أو ينبوعا للسعادة ، لأنه هو الفرح عينه ، والسعادة عينها .

نعم أيها الأكارم . أنا ، ما ان تمت لي هذه الحقيقة ، حتى أمسيت محققا للربح في الغالب ، وللخسارة في النادر ؛ دون أن أفرح به ، أو أحزن لها .

نعم أيها الاكارم .

إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتمّ ، إلا ان ساوينا بين الربح والخسارة وقبلناهما على أرض سوية ، وتحت سقف سويّ  .

إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتمّ ، إلا ان عملنا من أجل العمل ، ومن أجل العمل فقط ، عنيت : ليس من أجل الربح . 

إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتم ، إلا ان عملنا من أجل الربح ، أو – أقول أو – من أجل الخسارة على السواء .

إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتم ، إلا ان امتلكنا آدابا جليلة رفيعة سامية ، أسّها أدب الرفق بالأعصاب .

 

 

 

أدب الرفق بالاعصاب

أدب الرفق بالاعصاب .  

   14th February 2005

 
مقالتي اليوم هي وليدة صدفة نتجت عنها زحطة لسان في حديث جمعني مع عزيز .
قلت : عليك ان تمتلك وأن تتشبث بفنٍ ، إسمه فن التعامل مع الأعصاب ، فتحافظَ بذلك على كلّ فلس تحققه في تجارة البورصة وتزيد عليه .
ما ظننت أن كلمتي ستفعل في نفسه ما فعلت ، ولا ستقع منها حيثما وقعت ، إذ طالعني في اليوم التالي بقول حرّك في نفسي رغبة بالكتابة .
قال : كلمتك بالإمس أنبتت فيّ بذرة كانت لا تزال غافية ، وهي تتنامى ، وأنا أتنعم بفيئها .
طربت لما سمعت من العزيز ، كعادتي عندما أسمع من عزيز قولا يوحي بانه نجح ، بطريقة ما ، في زيادة لبنة ولو واحدة على ما يبني .
أدركت أهمية الكلمة ، واستشعرت إهمالا مني بعدم تفصيلها حتى اليوم . غفرت لنفسي الإهمال وسمّيته تأخيرا ، لكوني كنت قد نويت كتابة سلسلة مقالات عنوانها  ” أدب البورصة ” ، وكان هذا المقال ليحتلّ مكانه في السلسلة المذكورة دونما شك . وها أنا ، ولأن الحادثة حرّكت فيّ رغبة بالتقاط قلمي ، والبحث عن ورقة ، أراني قد بدأت بالحديث عن واحد من فصول ” أدب البورصة ” قبل أوانه ، إيفاء بوعدي ، وإرضاء لأنانية الرغبة في الكتابة ، وإفادة لمن يهمه هذا الامر .
وعدت العزيز بكتابة مقال أعنونه ” فن التعامل مع الاعصاب ” ، وها أنا أشعر برغبة في تعديل العنوان ليكون ” أدب الرفق بالأعصاب ” ، ظناً مني بأهليته في نقل أبعاد وأعماق ، وفي غرس بذور لأحاسيس ونبضات ، ما كان ليستطيعَها العنوان الأول .
هدفي كان ، وسيبقى ، شيئا من التنوير في درب مَن هدف الى اتخاذ العمل بالبورصة مهنة له . وما انحرافي الآن الى بعض اللقطات المعبّرة المقتبَسة من المسرحية السياسية التي يجري تمثيلها حاليا على المسرح السياسي اللبناني ، إلا رغبة في إلقاء الضوء على كيفية تحاشي الأخطاء ، توفيرا لتحمّل عبئا لا بد أن تورثنا اياه .
اقتبس لقطات من المسرحية السياسية لشدة قربها من حياتنا ، نحن العرب . نحن سياسيون بالفطرة . كلنا سياسيون . نهتم بالسياسة ونعمل بها ونتلهّف لها ، بطريقة تختلف كليا عن عمل وتلهف أهل الغرب ، هي خبز يومي لنا .
نحن كلنا سياسيون ، فإلى إيضاحاتنا التي لا أرمي منها إلى انتقاد ، ولا إلى نصرة فئة على أخرى ، من الفئتين المتصارعتين على مسرح الساحة اللبنانية الحالية ، مع تقديري ومحبتي لهم جميعا ، ومع إعجابي وذهولي بهم جميعا ، لما يتمتعون به من لياقة ، في الأبدان  بتحويلهم المسرح الى حلبة ، وفي الأذواق بامتلاكهم كلّ آداب السياسة وفنون الحكم الراقي والمعارضة الخلاقة .
اقتباسي لمشاهد من المسرحية اللبنانية هذه ، ليست انتقاصا من المسرحيات الأخرى التي يقوم بها ممثلون آخرون في أمكنة أخرى من عالمنا العربي . أرجو التكرم بالنظر اليها من زاوية الأهمية البالغة لما يجري اليوم على المسرح اللبناني ، واختصاره المعبّر لما يجري على المسرح العربي عامة . افتباسي هذا له علاقة ايضا بقناعة كون لبنان في قلب كل مواطن عربي ووجدانه .
أطلنا ، ولنعد الى صلب ما نحن فيه . ألأعصاب وفن التعامل معها ، مسجلين الآتي :
في السجال الدائر منذ فترة حول الأكثرية والأقلية في تكوين نسيج المجتمع اللبناني ، أسجل دعوة أحد الاقطاب الفاعلين في السياسة اللبنانية الى إجراء استفتاء عام حول القضايا المختلف عليها . أسجل أن هذه الدعوة بحد ذاتها كانت إنفعالية الى حدّ ما لكونها غير متناسبة مع الواقع اللبناني الطوائفي .
في رد على الدعوة المذكورة ، إنبرى إبن أحد الاقطاب المعارضين الكبار ، وهو ورث السياسة عن جدّه ، وسار على خطاه ، ويتدرب حاليا على يد أبيه . إنبرى ليقول :  “الكلمة ليست للأكثرية الكميّة ، بل للأكثرية النوعيّة “.
الكلمة هذه خير مثال على عدم إتقان الرجل فنّ التعامل مع الأعصاب واللطف بها ، ممّا أثار في وجهه عواصف من الردود والإتهامات ، إضطرته أخيرا الى محاولة التوضيح لما قصد من كلامه ، دون أن ينجح في ذلك . الكل فهم أن مقاصده هي نفسها ما كان جده يعمل بموجبه ، ويُختصر بالقول أن المسحيين متفوقون على المسلمين في لبنان بامتلاكهم الثقافة الغربية ، رغم تفوق المسلمين بعددهم حاليا . صاحبنا لم يسمع بعد بحقيقة التحولات الأخيرة والتي جعلت من المسلمين في العقود الثلاثة الماضية ، قوّة ثقافية وعلميّة شمولية لا تقلّ عن قوّة المسيحيين الفاعلة . يبدو انه لم يستطع التخلص من المعادلة التي كانت سائدة في السبعينات والتي سمعها من جدّه في طفولته ، وهو في لحظة فلتان لغرائز معينة ، وفي ظل غياب ” فن الرفق بالاعصاب وأدب التعامل معها ” ، أوقع نفسه في مأزق كبير وخسارة كبرى ، أظن أنها ستلازمه تعييرا طيلة حياته السياسية . هذه الحالة من الفلتان لغرائز معينة ولغياب لحالة  ” الرفق بالاعصاب وفن التعامل معها ” ، هي ذاتها التي توقع التاجر في البورصة في مآزق تسبب له الكثير من الإحراج والأسف والندم . وما كان كلامنا عن السياسة ، إلا توسلا للوصول الى النتيجة التي تهمنا في تجارتنا .
 
رئيس حكومة لبنان الحالي عمر كرامي ، وبعد اشتداد الضغوط عليه من طرف المعارضة ، بان عليه التوتر والإنفعال ، قال في تصريح مقتضب : ” باليومين القادمين منفرجيهم ” يقصد المعارضة . الصحف تندرت كلها على دولة الرئيس – الديمقراطية وحريّة الرأي في لبنان تسمحان بذلك – الكلّ انتظر نهاية اليومين ، دولة الرئيس نسي تهديده عندما هدأت أعصابه .  الرأي العام لا يرحم  . لم ينس تصريح دولة الرئيس . الصحف تذكره به بين الحين والحين ، هي تعرف انه لن يجيب ، هو يعرف انها لا تريد جوابا . المسرحية تجري  ، نحن في الصالة نضحك ، إضحكوا معنا . ما يهمني من الأمر هو أن دولة الرئيس في لحظة مهمة من لحظات حياته السياسية ، غابت عنه لفتة الى فصل أساسي من فصول قاموس آداب السياسة ، ما كانت لتغيب عن أخيه الرشيد رحمة الله عليه . هذا الفصل له عنوان متكرّر : ” أدب الرفق بالأعصاب ” . صفقة رئيس حكومة لبنان كانت خاسرة .
 
وزير الداخلية وفي مواقف عديدة ، خرج عن المألوف في الحديث ، ووصل الى حد الشتم بكلام غير لائق . ألكل أجمع على كون معاليه متوتر الاعصاب ، والبعض استرسل في نصحه بوصفات طبية شعبية مختلفة . رئيس طائفته أنبه ناعما . معاليه افتقد في تلك اللحظات ” فن التعامل مع الأعصاب ”  . أخطأ وكان خطأه كبيرا . هذا أمر سيعيره به الكثيرون ، وسيستغله أخصامه ، إن هو ترشح آجلا أو عاجلا الى رئاسة الجمهورية . صفقته كانت خاسرة .
 
زعيم معارض كبير في معرض اندفاعه اتهم حزبا ذا نفوذ مميز بقتل والده قبل ثماني وعشرين سنة ، دون أن يملك برهانا على ذلك . ألأمر ورّطه بدعاوى قضائية  أقامتها عليه الجهة المُتهَمَة . الزعيم المشهود له بالحنكة أخلّ في عمله هذا بقانون أساسي يقضي بالتناغم الدائم مع ميزان الاعصاب الشديد الحساسية . صفقته كانت خاسرة  .
 
كفانا انتقادا ، وللقوم حسناتهم أيضا ، هيا بنا اليها .
 
في قراءتي اليوم لاخبار أمس السبت الموافق ل 12 فبراير 2005 ، لحظت موقفا إيجابيا يستحق رئيس الحكومة التهنئة عليه  .
الخبر التالي قرأته في إحدى الصحف : ” السلطة أقدمت أمس على احتجاز أربعة ناشطين من جمعيات خيرية في العاصمة من الصباح لتفرج عنهم في التاسعة ليلاً، بححة التحقيق معهم في قضية إقدام “جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية” على توزيع صفائح من الزيت على العائلات المحتاجة”.
والمجهود القضائي الذي تبذله النيابة العامة التمييزية وقسم المباحث الجنائية المركزية على هذه القضية لم يتوقف عند هذا الحد، بل تمّ استدعاء الناشطين الأربعة الى التحقيق مجدداً، غداً الاثنين.” انتهى الخبر .
التوقيف كان بتهمة رشوة الناس لاغراض انتخابية . اي اطعام الناس زيتا ليصوتوا في الانتخابات النيابية القادمة التي ستجري بعد شهرين مع الجهة التي تطعمهم اليوم وهي جمعية خيرية تابعة لمؤسسات الرئيس رفيق الحريري .
ليس هذا ما يهمني بالخبر وهو لا علاقة له ببحثنا .
المهم أن القضية تطورت ، نواب جبهة الرئيس الحريري قصدوا قصر العدل لمقابلة المحتجزين . تمّ منعهم من ذلك .  مما دفع بمفتي الجمهورية اللبنانية للاتصال برئيس الحكومة تعبيرا عن رفضه لمنع ايصال الزكاة الى مستحقيها تحت أي ذريعة .
سماحة المفتي اتصل مرة ومثنى وثلاث ورُباع وخُماس ، ورئيس الحكومة لا يجيب . في المرة السادسة وُفق في ذلك . حصل على وعد بالتدخل وإجراء اللازم . 
أيضا ليس هذا ما يعنيني في الأمر . ما يعنيني أنا فيه هو أن الرئيس كرامي قد نجح هذه المرة بامتلاك ” فنّ التعامل مع الاعصاب ”  فأعطى نفسه المهلة الكافية بتأخير المحادثة وتاجيلها والمماطلة بها ، ريثما تكوّنت لديه القدرة النفسيّة الإيجابية ، وريثما تجمّع عنده المخزون الفكري اللازم ، لمواجهة صاحب السماحة بما يمليه عليه الأمر من توازن في الحديث ورصانة في التعبير ، فوفّر على نفسه ردّة فعل متسرعة من نوع : ” منفرجيهم باليومين القادمين ” . رئيس الحكومة أجرى بتصرفه هذا صفقة رابحة .
مع تسجيلي للرئيس عمر كرامي حكمته وحسن امتلاكه هذه المرة – وبايحاء من روحية أخيه المرحوم رشيد – ل ” أدب الرفق بالأعصاب ، وفن التعامل معها ” ، أدعو أعزائي المتعاملين في تجارة البورصة الى التشبه به ، بتأجيل الهواتف التي تأتي في أوقات غير مناسبة داعية بفتح صفقة معينة ، إن سيطر على المتعامل جوّ من انعدام الشفافية ، وكثافة الضبابية في الرؤية ، وبالأخص ان كان الهاتف الداخلي ملحاحا على القول : ” ماذا تنتظر يا هذا ، إشترِ ! ها قد بلغ النهار نصفه ، وأنت لم تعقد صفقة واحدة الى الآن . “
وطالما إني قد سجلت لرئيس حكومة لبنان الحالي هذه الحكمة ، وأقريت له بهذا الأدب السياسي الملتزم ، فلا بدّ من الإتيان على ذكر ما طالما أُعجبت به من مواقف للرئيس السابق لحكومة لبنان . مواقف توحي بأن الرجل يمتلك أدب الرفق بالأعصاب وفنّ التعامل معها بامتياز .
لقد حاولت أن أسجل عليه موقفا أو زلة تساويه هو بغيره ، وتجعلني انا بعيدا عن الانحياز في بحث موضوعي  ، فما استطعت . ما وجدت هذه الزلات على الأقل في المسرحية السياسية التي تدور رحاها الآن على المسرح اللبناني ، والتي بدأت بفصل تعديل الدستور في سبتمبر الماضي .
فن الرفق بالأعصاب الذي يمتلكه رفيق الحريري قد يكون عنصرا مهما وأساسيا من عناصر نجاحه الفائق سياسيا وماليا واقتصاديا . وهو الراوي عن نفسه : ” كانت أمي تجري لنا – أنا وأخوتي – حمامنا الأسبوعي في اللكن المعدني ، وفي نفس الغرفة التي نجلس وننام فيها . وفي صباي عملت صانع دكان يبيع الحلوى ، وهو ما زال موجودا الى الآن ويثير فيّ ذكريات طيبة “. “
أنا على ثقة بأن امتلاك الرجل أدب الرفق بالأعصاب كان ولا يزال من أهم العوامل التي حققت له هذه النقلة النوعية على جميع المستويات .
أخي المتعامل ، لقد أطلت في أمثلة أرجو أن تكون على شيء من التعبير الكافي لتجعلك مستعدا لتفادي مخاطر الاستخفاف بما يجب ان أن يُجَلّ في مهنتنا هذه . وعدي أن نُتبع بحث اليوم بآخر يوسع ما يعنينا نحن في السوق من هذا الموضوع . رجائي من الله أن يفتح ما قد يكون موصدا في وجهك من أبواب تقود الى المزيد من النجاح . ولا نجاح بدون معرفة .
 
 
 

 

 

بائعو التوصيات استنادا الى تحليلات خاصة

2

  –  بائعو التوصيات استنادا الى تحليلات خاصة .    30th January 2005

 
وما أكثرهم !
وما أشق التفريق بين الغثّ والثمين منهم !
وما أصعب من إصدار حكم لهم ، أو عليهم !
كلّهم يتوخون الربح ، كما كلّ واحد في هذا السوق الهائل . فماذا تُراهم يكونون ؟  طهاة مهرة ، أم رماة مكرة ؟
ألاتهامات لهم كثيرة كثيرة ، وقد تختصر في واحدة يرددها الكثيرون : لو كان هؤلاء فعلا طهاة مهرة ، فعلام يلجأون الى بيع توصياتهم ؟ ألا يكفيهم أن يطبقوها بيعا وشراء ، فيحققوا بذلك ثروات طائلة ؟
تهمة سمعتها من أكثر من مصدر ، وفي أكثر من مناسبة ، فلنحاول التأني والتبصروالتدقيق ، ثم نعمد الى إصدار المناسب من الأحكام .
 
في بادئ الأمر ، وقبل كلّ طرح لإشكال ، وقبل كل تعميم لتساؤل ، وقبل كلّ تدقيق بأمر ،  وقبل كل إصدار لحكم ؛ لا يجب الأغراق ، ولا يجوز الغوص في غياهب الشك الذي إن تكاثرت خيوطه بدون رادع علمي منهجي موضوعي ، تحولت الى حبال خشنة تلتف حول أعناقنا وتحوّلنا الى دمى مؤتمرة لكل ما هو ضلال وضياع .  ، إلى ذلك لا يسمح الإنصراف أيضا ، ولا يصحّ الإغراق أيضا في نظرية المؤامرة الغريبة الدائمة التي تحاك ضدنا ، من خصوم نعرفهم حينا ، ونجهلهم أحيانا ، فنحارب ضدهم ،حتى ولو كانت معركتنا ضد طواحين الهواء . الشكّ المتطرف هو مدخل الى سراديب الضلال ، والدخول الى غياهب الضلال خسارة لا منجاة منها ، ولا منقذ من تشعباتها .
 
انا لا اريد ان أتخذ موقفا مسبقا من الأمر قبل الشروع ببحثه ، فيكون مَثلي مَثلُ الطبيب الذي وصف الدواء ، ثم عاد للكشف على المريض وارسال عينات دمه الى المختبر . أنا لا أريد أن أعمل ما أكره ، وأن أسلك مسالك التعصب لرأي في سعي للبحث عن الحقيقة ؛ لكنني لا أخفي سرا إن أنا صرحت بحقيقة تملك عليّ نفسي ، وتشغل كل ذرة في كياني . أنا لا أستطيع أن أرمي الإتهامات جزافا ، أنا أكره الظلم موجها إليّ وأمقته موجها لغيري . فلنسلك دروب الحقّ في بحثنا الدؤوب عن الحقيقة ، ولنا في ذلك من الله العون والتوفيق ، إن هو شاء وأذن .
 
أن يكون بين بائعي التوصيات المنتشرة بين البنوك والمؤسسات والأفراد أناس متطفلين على هذه المهنة ، أو حديثي الوجود فيها ، او أصحاب مصلحة في توجيه القراء من خلال تبليغهم لتوصيات معينة ، لهو أمر من المسلمات الأكيدة التي لا يمكن لصاحب عقل راجح ان ينكر وجوده أو أن يدافع عن نقيضه ، دون أن يكون كلامه موضع شكّ وريبة . إننا نشهد كلّ يوم ، ونتعرف كلّ أسبوع على محلّل جديد  للسوق ، أو مقدم حديث  لخدمة التوصيات أو غيرها ، ثمّ لا يكاد وقت ينقضي ، فنتعرف بطريقة ما على الشخص المذكور ، فنعرف أنّه حديث العهد بهذه المهنة ، وقليل الخبرة فيها ، فهو في الأمس القريب كان لا يزال يسأل عن معاني كلمات من أمثال : ” ترند ”  و ” دفاع ”  و  ” مقاومة ” و ” مؤشر” . وهو في الامس القريب كان لا يزال يستفسر عن الفارق بين كلمتي  ” ترايدر ”  و ” بروكر”  ، وعن الفارق بين هاتين الكلمتين وكلمة  ” ترند “.
نعم يا سادة ، إنّ هؤلاء الأخوة موجودون على كثير من المواقع المستحدثة ، يصولون ويجولون ، يتحفون القراء بنصائح لا تحصى ، يهاجمون من طاب لهم مهاجمتهم ، ويثنون على من طاب لهم الثناء عليه ، وكل ذلك في إطار مصلحتهم الخاصة ، فهم إما قد قرروا ان يصيروا مقدمي مساعدة في الفوركس ، او إنهم قد نظموا أمورهم ، وتمكنوا بكلفة لا تزيد عن الألف من الدولارات ، أن يفتحوا لانفسهم موقعا على الانترنت ، وأن يصيروا مستضيفين لجملة من المهتمين في هذه الأمور . وها هم الآن يتبارون في إصدار الفتاوى ، ويتسابقون في التحريم والتحليل ،  فهذا بنظرهم صليبي متآمر لا يجوز السماع له أو التحدث إليه ، وذاك بنظرهم يصدر توصيات خدمة لبروكر معين وليس مساعدة للمتعاملين ، وذانك برأيهم فاشل عديم الفائدة ، لأنهم لم يسمعوا بعد أن أحدا قد نجح في تحقيق ثروة من توصياته المزعومة .
نعم يا سادة ، إن سيئي السمعة ، حديثي العهد ، قليلي الحظ هؤلاء قد جربوا في بادئ الامر حظهم في التداول وفشلوا  – أقول جربوا حظهم ، وأنا اعني ما اقول ، وما من داخل لهذا المجال تجربة لحظ إلا وقد لاقى الفشل  –  جربوا حظهم ففشلوا ، وها هم يتحولون الآن الى عمل آخر ، ومهنة أخرى ، لقد صاروا صيادي عملاء . إنهم يرمون  شباكهم على كل ماء ، وينصبون فخوخهم على كلّ برّ ، لا همّ لهم  سوى اصطياد عميل  دسم ، ويا للحظّ إن كان العميل غرّا ، كبير الثروة ، كثير المال ، وفير الخير ،  قليل الخبرة ، نادرالتجربة ، لم يفقه الكثير بعد من أسرار هذه المهنة وخفاياها ، فهو سريع في تصديقه ، قليل في سؤاله ، سهل إغراؤه ، متيسر إغواؤه  .
وهذه الفورة المستجدة في نشر المواقع على شبكة النت ، هذا الكمّ الهائل من البائعين والموصين والخادمين ، يستأهل وجودهم حالة من التيقظ والتنبه ، لا أنكر ذلك .
أذكر في هذا المجال رجلا تعرّف على العمل بالفوركس من فترة لا تزيد على السنة ، وهو قد اتصل بي منذ أيام متفاخرا . قال : أنا أملك اليوم أربع مواقع على النت ، وأقدم عليها خدمة الفوركس للمتعاملين . دعائي له : زاده الله من خيره ، وفتح له كنوز الأرض وأبواب المجد .
صاحبنا هذا ، لن يحتاج في حال سقوطه إلى أكثر من إلغاء مواقعه هذه إن اصيب بخيبة ، ثم المبادرة الى فتح مواقع جديدة ، بأسماء جديدة ، وحلية جديدة .
تصل الى مسامعي في كل يوم أخبار مستجدين من الذين ينشرون توصيات على منتديات عربية وأجنبية ، تُطرح علي الأسئلة حول ما اقول فيهم وفي توصياتهم . رأيي واحد : قد يكون بينهم الغثّ ، وقد يكون بينهم الثمين . إن من يفشل بينهم ، لن يكون مضطرا لأكثر من تغيير اسمه ، والاشتراك مجددا بإسم مستحدث ، وإطلاق موجة من التوصيات والتحاليل جديدة ، مجربا لحظه ، ومغامرا على حساب غيره .  
نعم يا سادة ، أمام واقع من هذا النوع لا بد من التحفّظ والتيقظ ، لا بد من التنبه والتفقه ، ولكن حذار من التعميم وإلا بتنا مرضى أوهام تكبّلنا ولا نقدر على الإفلات منها .
وإن نحن عدنا الى صلب موضوعنا ، ودققنا النظر في القول القائل : لو كان بائعو التوصيات طهاة مهرة ، فعلام يبيعون توصياتهم ؟ إن تطبيقها على السوق لكفيل بتوفير الثروة لهم . فماذا ترانا نقول ؟
نقول إنه كلام خطير ، واتهام جائر ، إن هو عُمّم بشكل قطعي .
إذا نحن عممنا القول بأن مقدم التوصيات ، أو بائعها ، لا يرمي من فعلته هذه إلا الكسب  والربح المادي فقط ، فهذا بدء الخطأ ورأس الضلال .
أحبائي !
هل يصحّ أن ننظر الى العتيق المجَرّب الذي حقق نجاحا واضحا في هذا السوق وكوّن خبرة عميقة عبر سنوات طويلة ، هل يصحّ أن ننظر اليه ونحاول الحكم على دوافع تصرفه بعين المبتدئ الباحث عن وسيلة للربح أو الإثراء ؟
هل يصحّ الظن أن نفس الأحاسيس التي تتملك الثاني في تعامله اليومي مع السوق ، هي نفسها وعينها الاحاسيس والدوافع والاهداف التي تملأ وجدان الأول ، فتكوّن مبررات اتصاله بالعالم المحيط به والمتكوّن من متعاملين قديمي العهد او حديثي الدخول في هذا السوق ؟
هل يصحّ الاعتقاد بأن هدف كلّ من نجح في رسم الدرب المؤدي الى النجاح ، وفاز في ترجمة هذا السبيل الى مال تحقق بصورة ربح مادي حقيقي ، هل يصحّ الأعتقاد بأن هدفه مقتصر ، أو يجب أن يكون مقتصرا على تحقيق الربح فقط ؟
 ألا يمكن تصوّر وجود أناس يرغبون في مدّ يد العون لغيرهم من المبتدئين ، لا طمعا باستفادة مادية يحققونها ، بل خضوعا لأنوار شمس أشرقت في نفوسهم ، وتجاوبا مع أحاسيس خير ملأت عليهم قلوبهم ،  فقللت نسبة الأنانية فيها  بقتل سوسة الأنا المسيطرة على النفس البشرية ، وأحلّت محلها رغبة لذيذة  في نشر المعرفة وتعميم العلم وزرع بذور الخير ؟
هل يصحّ الظنّ انّ هذه الفئة من البشر غير موجودة ، لمجرّد كوني أنا ، أو ربما أنت ، أخي القارئ ، غير منتمين لها ؟
أحبائي !
لنعد قليلا الى الوراء ونتبصر في حقائق الامور ، انطلاقا من تساؤلات قد تفتح لفكرنا آفاق علم جديد ، وتزرع فيه بذور قناعات خيّرة .
ماذا لو أنّ أبقراط أو ابن سينا أو غيرهم من آباء الطبّ الاوائل قد قرروا يومها الاحتفاظ بعلمهم لانفسهم ، وحملوا ما حققوه من نجاحات واكتشافات معهم الى القبر ؟
 ماذا لو ان هؤلاء قرروا ألا يختاروا نخبة من المميزين ليكونوا تلامذة لهم يحملون الراية بعدهم ويكملون الطريق ؟  لو أنّ هؤلاء العظماء قرروا الإصغاء الى صوت الأنا دون غيره ، هل كنا لنعيش اليوم ما نعيشه من إنجازات في عالم الطبّ الحديث ؟
ماذا عن بيتاغور وعلومه في الرياضيات ؟ ماذا عن جابر بن حيان ؟ ماذا عن الخوارزمي ؟ ماذا عن مريديهم ومساعديهم وتلامذتهم ؟ ماذا لو أنّ هؤلاء العمالقة قد بخلوا على الانسانية بما علموا ؟
إخواني !
أعذروا تبسطي في ما قد يكون مملا لمن يريد ان يلقى جوابا مختصرا ، جوابي : حذار من الوقوع في فخوخ المدّعين للعلم وهم فيه هواة . هؤلاء كانوا موجودين منذ القدم وسيبقون موجودين الى الازل . هم يعممون ما يعرفون ، ولا يعرفون إلا القليل .
ولكن هل يجوز أن نطلب من كلّ مُصدر لتوصيات ، أو كلّ مُحلل لسوق ، أن يكون قادرا على تحقيق ثروة من توصياته ؟
جوابي على الامر واضح ومختصر : لا يمكن أن نطلب منه ذلك بشكل تعميمي مطلق . قد يستطيع وقد يصطدم بمعوقات تمنعه من ذلك .
ان محلّل السوق قد يكون ناجحا في جمع المعلومات اللازمة لاصدار الحكم الصحيح ، وإصابة الهدف بدقة كاملة ؛ ولكنه لسبب من الاسباب ، نفسيّ أو عصبيّ أو ماديّ ، قد لا يستطيع النجاح في تنفيذ مايراه ، وتحويل علمه ومعرفته وتحليله الى نجاح مادي مترجم بربح مال من صفقات يعقدها بشكل يومي .
 إن محلل السوق هذا قد لا يمكنه وضعه المادي من تأمين المال الكافي للمتاجرة وتحويل علمه الى ربح . ومن أمثال هؤلاء أعرف الكثيرين .
 إن محلل السوق هذا قد لا يمكنه وضعه النفسي من المتاجرة الفعلية ، فهو يعرف ولا يستطيع . ومن أمثال هؤلاء أعرف الكثيرين .
وكما هو الحال في ساحة المعركة ، قد يفشل القائد إن هو تحوّل الى جنديّ  فلا يستطيع تنفيذ الخطة التي كان قد وضعها ، ويستحيل طبعا على الجنديّ أن يضع الخطة اللازمة لتحقيق النصر . هنا ايضا ، لا أشترط على المنفذ ان يكون قادرا على إصابة العمق في التحليل والدراسة كما يستطيعه الخبير المجرّب . ولا أشترط على الخبير المحنّك أن يكون قادرا ، وبكلّ حذاقة ، أن ينفذ كلّ خطة وضعها بنفسه ، كما قد يستطيعه مساعد له ، او تلميذ عنده ، أو متعامل واثق بعلمه ومتلق لرأيه .
والخبير المُحلّل والمُجَرّب ، هل أطلب منه أن يقدم لي كمتعامل ما أراه أنا في السوق ؟
لا طبعا ، هو سيقدم ما يراه هو من أمور .
والخبير المحلل والمُجَرّب ، هل عليّ أن التزم بما يراه بشكل أعمى ، وأنفذ دون اعتراض ؟
هذا يعود لي كمتعامل ، ولنسبة الخبرة التي تكونت عندي ، ولنسبة الثقة التي أوليه إياها . قد أنفذ ما يقول ، وقد أستنير فقط  بما يقول .
والخبير المُحلل والمُجَرّب ، هل أطلب منه أن يقدم لي كمتعامل توصية مصيبة في كل يوم وفي كل ساعة ؟
لا طبعا ، هو سيصيب في آن ، وسيخطئ في آن . المهم أن يصيب في كثير من الأحيان .
إخواني !
إن كلّ هذه الأمثلة التي ورد ذكرها ، إنما هي متواجدة على كل ساحة ، وفي كل بلد ، وفي كل لغة ، ولا يقتصر وجودها على لغتنا العربية أو مواقعنا العربية . بائعو التوصيات ومصدروها ، بينهم الطهاة المهرة ، وبينهم الرماة المكرة ، نرجو الله أن يمنّ علينا كلنا بنعمة البحث والتدقيق ، منجاة من الفخوخ ، ووصولا الى ما تصبو اليه النفس ويتمناه الفؤاد . 
 
 

 

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات