ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات ! (1) ا

ألني ثقتك , أصنعْ منك صيّاد صفقات !  (1) –  – 16th  March 2006

 

ومن منا ان قارب الستين لا يحنّ الى عهد الشباب !

انا أفتقده في كل يوم ، ويزيد افتقادي له مع كل غياب شمس , أرجو ان يعود مع كل إطلالة فجر .

للشباب روعة ، وله مذاق , وله بهاء , وله نقاء ,  وله فتنة , لا يدرك قيمتها إلا الكهول .

 يا لروعته – الشباب – ان طغى فيه السعي على الكسل !

 يا لفتنته – الشباب – ان كان كلّه , أو جلّه ، بناء وجنى !

 

تلك الأيام الحلوة التي كانت لا تعرف فشلا إلا لتتكلل بعده  بنجاحات . تلك الأيام الساحرة المصطبغة بأرجوان انتصارات ما تحققت الا اغتصابا للحقيقة , والحقيقة إن نجحت في اغتصابها تنسكبُ على قدميك سائلا أرجوانيا دافئا ، غيرُ عينك وغيرُ فؤادك لا تبصرُه عين ولا يشعرُ به فؤاد .

نعم أيها الأكارم , كل واحد منكم  مدعو لفعل اختراق نوراني لغشاء الحقيقة النوراني ؛ وإن تمّ فعل الإختراق  فقد تكشف الأفق النوراني ،  وإذا بك لا ترتضي العيش مع ذاتك جريحَ الفشل , أسيرَ الخيبة ؛ ولكن فارسا مقداما , راجيا أن تغلبهما على الدوام , قادرا أن تغلبهما في غالب الأحيان .

نعم أيها الأكارم , ألوني ثقتكم , وأنا صانع منكم صيادين مهرة !

نعم أيها الأفاضل , انا لا أنظم شعرا , حتى ولو تجلببت أفكاري بالمختوم من الكلام .

 

أيام الشباب التي ذكرت أفقدتنا الكثيرَ من رونقها أيامُ الحرب . الحرب التي لعبها هواة حمقى في أواسط السبعينات في لبنان . حرب لبنان عرفنا يوم اندلاعها أنها عبثية عاهرة , عرفنا أنها تفتقر لشرف يجب ان يتوفر لكل حرب لتستحق أن تخاض بإسم وطن أو من أجل شعب . عرفنا ذلك , وخالفنا بقدر استطاعتنا أن نخالف مَن خاضوها من أصحاب وخلان وأحبة , إتهٍمنا وعُيّرنا وطورِدنا  وخوِننا وحوصِرنا . كل ذلك لأننا رفضنا ال ” نعم ” لحرب سخيفة قذرة ملوثة . وها هم اليوم فرسان تلك الحرب يطأطئون الرؤوس :  ” لقد اخطأنا يوم تقاتلنا ” ، هكذا نسمعهم يصرحون .

 

إندلعت الحرب قبيل منتصف العام 1975 , وكانت بدايتها في بيروت , فما كان منا إلا الإنكفاء عنها واللجوء إلى ريفنا الذي ما أحببت شيئا في الأرض مقدار حبي له  .

 وفي ريفنا  ترابٌ تفوح منه رائحة من المسك أعطر , ترابٌ ينسيك زفت بيروت .

 وفيه صخرٌ وجبلٌ وتلة ومنحدرٌ ومُتسلقٌ ومُنبسطٌ  وواد .

 وفي ريفنا أحراجٌ مدروزة شجرا من كل صنف ونوع .

 وفي ريفنا بساتينٌ مغروسة شجرا من كل ما لذّ وطاب .

 وفي ريفنا نبعٌ وسبيلُ ماء يسمونه عينا , وفيه ساقيةٌ ,  ونهيرٌ يسمونه نهرا .

وفي ريفنا سنونوة تحمل إليك بشائرَ الربيع , وديكٌ بشارة النهار . 

وفي ريفنا طيرٌ مهاجرٌ وطيرٌ مقيم .

وفي ريفنا – ولعلها أخير وأطهر ما فيه – فلاحة , حَرَمُ فلاح , وبنت فلاح . سرقت الحرب ابنها , أو سرقته المدينة , أو سرقه البحر . ما عاد ابنها فلاحا . خسرته الأرض . 

وفي ريفنا – ولعله أكبر وأشرف ما فيه –  فلاحٌ يزمجرُ كأسد ويأبى كنسر . هو , هو وحده يملك حق اغتصاب الارض وسره ؛ وهي , بقدرة قادر , تسلّم ذاتها وتكشف ثدييها, بكل ما فيهما من جمال واكتمال ؛ وهو , هو بما يشبه عفافا ألوهيا , يتدحرج بينهما كملهَم , غير مبصر سوى عضوي غذاء ونبعي خير وبركة , فإذا هو يغفو في حضن التراب مع كل ربيع , ولا يملك إلا ان يتجدد بأفواج متكررة من الاحلام .

أيها الأكارمُ . إن – أو لو – أعطيتم ريفا كما أعطينا , أكان يمكن لقلوبكم إلا أن تهيمَ به حبا ؟

نحن , أحببنا ريفنا وانكفأنا إليه يوم طُردنا  – أو هربنا – من بيروت , انا لا أجد فارقا بين الحالتين , فقد تنازلنا عنها يومها للمتحاربين – أو قل للمتناحرين المتذابحين – الذين يسمون أنفسهم أخوة . وهناك الى اهتمامنا  بالحقل والكتاب والصحيفة اليومية ونشرة الأخبار المسائية ، أخذنا الصيد , فكانت به متعتنا المُثلى .

موسم صيد السّمّن في لبنان يبدأ في أواسط التشارين ويمتد الى أواخر الكوانين , تتدفق فيه أفواج الطير عابرة للبحر الأبيض المتوسط سعيا الى الدفء والغذاء الذي تجده أكثر ما تجده في أشجار الزيتون التي تكون  قد أنضجت ثمارها – وبكم من المجهود والصبر  –  وحان قطافها , بعد أن اختزنت هذه الأخيرة أكبر قدر ممكن من الزيت .

كان طير السّمّن مفتونا إذا بحصوص الزيتون المستوية اليانعة ألبابه يتلذذ بطعمها , وكنا نحن مجموعة من الصيادين من مختلف الأعمار مفتونين بطير السّمّن المدهِنة مؤخرته المكتنزة صدوره نتسابق الى صيده . وفي صيد طير السّمّن كان لواحدنا طريقته وللآخر استراتيجيته , لواحدنا خطته وللآخر مدرسته . فحين يفضل البعض الجري في الأحراش سعيا وراء ما قد يصادفه في طريقه من طير على غصن أو فوق صخرة , كان البعض الآخر يؤثر الوقوف في مكان مشرف على وادٍ سحيق تعلوه بساتين الزيتون راسما استراتيجيته على أساس أن جماعات الطير لا بد لها أن تخرج في الصباح من مكان مبيتها في الأحراش الى البساتين سعيا الى الغذاء فيكون هو لها في المرصاد ان مرّت تجهد في الطيران صعودا في مرمى بندقيته .

وكان بيننا في تلك الفترة رجلا جاوز الستين  , وكان الى مجاوزته لنا عمرا قد جاوزنا أيضا  حنكة وتبصرا مما أهله لأن يكون لنا مرشدا وموجها . كان الرجلُ  يرافقنا كل يوم من الضيعة التي نسكنها , ولكنه يفارقنا عند وصولنا الى باب الغابة خلسة , أو قل تسللا , متعمدا ألا يثير ضجة , حريصا على ألا يستدعي انسحابُه سؤالا مُحرجا من أحدنا عن المكان الذي يقصده . والحقّ يقال أن واحدا منا , نحن الشبان الأغرار غير المحنكين  كفاية في الحياة , غيرالمجربين كفاية في الصيد , لم يرَ في طريقة انصراف الرجل غرابة , ولم تثره طريقة افتراقه كل يوم عن المجموعة في نفس المكان سالكا نفس الوجهة , كما لم تثره وفرة الطيور التي كان يعود بها , ظنا منا أنها نتيجة طبيعية للهالة التي كانت تحيط بصاحبنا بحكم سنه وخبرته .

ولكن الأمر تكرر وطال وما عاد يقع في نفسي موقع التصديق والاستساغة , وما عدت أصدق أن الأمر نتيجة شطارة فقط ,  ففي حين كان يطلق كبيرنا  بين عشرة وخمس عشرة طلقة ليعود بعشر الى خمسة عشر طيرا ,كنا كلنا مجتمعين – وكان عددنا يزيد أحيانا على خمسة شبان – نطلق ما يزيد على مئتي طلقة لنعود بما يقل عن عشر طيور . لا بد من أن يكون في الأمر سرّ , ثارت فيّ حشرية البحث والتدقيق , فقررت أن أتجسس على رفيقنا بحثا عن السرّ الذي تقصّد إخفاءه عنا .

اتخذت قرار التجسس  مساء يوم غنم فيه صاحبنا ضعف ما غنمناه مجتمعين , فما غمض لي جفن في تلك الليلة ولا هدأ لي بال , وأنا من ذلك الصنف العنيد الذي إن استقر قراره على شيء يصعب عليه ألا يناله . إنتظرت الصباح وما ان بدأت عساكر العتمة بالانهزام وطلائع الضوء بالظهور, حتى كنت في طريقي الى الغابة , هدفي البحث عن أثر ما ,  والتدقيق في دليل ما ,  والتحليل لمعطيات ما قد أقع عليها وتكون كفيلة بإرشادي  الى ضالتي ووضع حد لتساؤلاتي .

انطلقت في مهمتي التي انتدبت نفسي لها , وبدأت بتنفيذ خطة أمضت مخيلتي الليل بكامله في رسمها . عليّ أن أبحث عن كومة من الطلقات الفارغة يكون صاحبي قد تركها في مكان ما يكمن أو يقف فيه . عليّ أن أبحث عن مكان أزيلت منه نباتات شوكية مزعجة ليتسنى للصياد أن يتحرك فيه براحة  وهدوء . علي أن أبحث عن رماد خلفته نار قد يكون مريدنا أوقدها ليدفأ في يوم بارد غابت شمسه . علي أن أبحث عن معلبات بلاستيكية او معدنية قد يكون الرجل تناول غذاءه منها وخلّفها وراءه . علي أن أبحث عن آثار حذاء تسلق كان صاحبنا ينتعله .

انطلقت في مهمتي , وبحثت عن كل ما سبق تعدادُه , لكني فشلت في العثور على أثر يفيدُني , فالرجل كان من الدهاة , لعله يكون قد أزال عن عمد وتصميم كل الآثار التي يمكن ان تفضح سرّه . كدت أن أيأس من إمكانية النجاح لولا فكرة ( ذكية) خطرت لي وكان فيها بارقة أمل . عملت بموجبها . بحثت وبحثت , حللت ودققت , رسمت وحذفت .  وجدت ضالتي . وكان لي في ما وجدته تجربة وأمثولة أفادتني كثيرا في عملي في السوق في ما بعد , بحيث أن واحدة من أفضل استراتيجيات العمل فيه قستها عليها واستنبطتها منها  . .

نتيجة تجسسي على صاحبي الذي كان يكبرني سنا ويفوقني حنكة , كما بند مهم من بنود خطتي التي قستها عليها لأطبقها في فتح الصفقات , سوف لن أخفيها عنكم أيها الأكارم – كما فعل كبيرنا معنا – ولكنها تأتي في الحلقة التالية التي أرجو وآملُ أن يكون موعد نشرها قريبا .