مصير الاقتصاد والدولار بعـــد «فك الحصار»

لم تكن هناك عبارة أسهل لتبرير الافلاس المالي من عبارة انّ لبنان مُعرّض لحصار دولي. ولكثرة تَرداد هذه المقولة كاد البعض ان يصدّق أنّ الانهيار الاقتصادي تسبّب به هذا الحصار الجائر. واليوم، هناك من يروّج لنظرية فك الحصار بعد زلزال العنبر رقم 12، وتدمير بيروت، ويحاول أن يبيع الوهم بأنّ إنقاذ الاقتصاد قد ينبعث من قلب الفاجعة.

يراقب البعض بأمل ورجاء حركة التضامن الدولي والعربي التي يحظى بها لبنان في هذه الفترة، على اعتبار أنها قد تكون بداية رحلة الانفراج المالي والاقتصادي بعدما وصل الوضع الى حقبة متقدمة من الانهيار المستمر. ويظنّ البعض، أو يروّج لذلك على الأقل، انّ البلد كان مُحاصراً، وصدر اليوم قرار بإنهاء الحصار، وبدء مرحلة جديدة.

 

في الواقع، من كان مُحاصراً، ولا يزال، هي المنظومة السياسية الحاكمة. ومفهوم فك الحصار لا علاقة له بزيارة الرئيس الفرنسي، ولا باتصال الرئيس الأميركي بنظيره اللبناني. وهؤلاء المتفائلون قسراً، بعضهم يدرك، وبعضهم يتعمّد تَقمُّص دور المُغفّل، انّ التضامن الدولي بعد الكارثة التي تسبّب بها على الأرجح، الاهمال والفساد والغباء، لا علاقة له بملف فك الحصار عنهم. ولو راجَع هؤلاء ما يجري بعد كوارث بحجم كارثة مرفأ بيروت، لأدركوا أنّ كل الدول تحظى بهذا النوع من التعاطف الدولي في زمن الكوارث.

 

حتى ايران، التي كانت في حال عداء مع المجتمع الدولي، لا سيما مع الأميركيين، حظيت في العام 2003 عندما ضربها زلزال مُدمّر، بمساعدات دولية وعربية من كل حدب وصوب. ولو لم تعلن طهران في حينه انها تقبل المساعدة من كل دول العالم باستثناء اسرائيل، لكانت وصلت اليها ايضاً مساعدات اسرائيلية. وفي خلال تلك الكارثة، تجاوزت واشنطن قرار مقاطعة طهران، وأجرت اتصالات مباشرة معها لتنسيق المساعدات لدعم المتضررين من الزلزال، والمساهمة في بَلسمة جراح الناس. ولم يوصل هذا الانفتاح العالمي على ايران في زمن الكارثة الطبيعية الى تغيير النهج أو العلاقات لاحقاً بينها وبين المجتمع الدولي، ولا ساهَم هذا الانفتاح في إنقاذ الاقتصاد الايراني من الانكماش والصعوبات المستمرة حتى اليوم.

 

هذه الحقائق ينبغي أن تعيد الواهمين أو بائعي الوهم الى صوابهم. العالم قرّر بلسمة جراح اللبنانيين المفجوعين بالكارثة، لكنّ ذلك لن يساهم، لا من قريب أو من بعيد، في تغيير المشهد المالي والاقتصادي في البلد، لأنّ هذه الأزمة لا علاقة لها بحصار شبه وهمي حمّلوه بهدف التعمية مسؤولية الافلاس.

 

حتى الآن، لم تظهر مؤشرات على اتخاذ قرار بتغيير المشهد المالي، من خلال وقف الفساد. ومن دون هذا القرار، لن يخرج البلد من دائرة الافلاس الذي ستتفاقم تداعياته مع الوقت. ومن يشكّك في هذا الواقع، عليه أن يراجع ما جرى ويجري منذ سنوات حتى اليوم في بوتوريكو.

 

لدى بوتوريكو 4 قواسم مشتركة مع لبنان: عدد سكانها (حوالى 3,2 ملايين نسمة)، مساحتها (9 آلاف كلم2)، منظومتها السياسية فاسدة، والجزيرة مفلسة. وأخيراً، نستطيع أن نضيف انّ الاثنين لديهما درجة تصنيف واحدة (C حسب مقياس موديز)، وأصابتهما كارثة زادت في حجم الكارثة القائمة. (إعصار Mari عام 2017).

 

المفارقة هنا انّ بوتوريكو أرض أميركية أمّا مواطنوها فهم أميركيون، ولم يَحمها ذلك من الافلاس، لأنها غير مكتملة المواصفات لتكون ولاية من الولايات الأميركية. وبالتالي، إنّ نظامها لا يتمتع بالشفافية التي يفرضها النظام الفدرالي الأميركي، وقد تآكلها الفساد، ولم يحمها اقتصادها المنتج، الذي يستند الى الصناعة والزراعة والسياحة من الافلاس، لأن لا علاج للفساد، ولا مناص من الانهيار، سواء كان الاقتصاد منتجاً أم خدماتياً، النتيجة واحدة. مع الاشارة هنا الى انّ الناتج في بوتوريكو أهم وأكبر من الناتج اللبناني، إذ يبلغ حوالى 100 مليار دولار (مقابل 55 للبنان قبل الانهيار)، ويصل متوسط الدخل للفرد (GDP (PPP) per capita) حوالى 23 ألف دولار (مقابل حوالى 12 ألف دولار في لبنان قبل الانهيار).

 

إنطلاقاً من هذه الوقائع، لا يمكن الرهان على المساعدات الدولية التي ستصل لبنان لتغيير الواقع الاقتصادي. لا سعر الدولار سيتغيّر، ولا حجم الدين سيتراجع، ولا الماكينة الاقتصادية ستتحرّك. وفي أحسن الاحوال، سيتم فتح خطوط ائتمان ذي طابع إنساني، لن تنقُذ بطبيعة الحال الاقتصاد الوطني.

 

في بوتوريكو، وهي ليست دولة بل مجرد أرض أميركية لديها طابع خاص واستثنائي، يُمازح فيها الحاكم الفاسد المقرّبين منه بالقول: «ألا يوجد أي جثة متبقية بعد الاعصار لإطعام الغربان»؟ وفي لبنان، هناك من يقول للناس «رب ضارة نافعة».

انطوان فرح.

توقعات إقتصادية مرعبة بعد كارثة المرفأ

أكّد كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي (Institute of International Finance IIF) غربيس ايراديان، انّ استمرار حكومة تصريف الاعمال والدخول في فراغ سياسي لفترة طويلة سيؤدي إلى تأخير الاتفاق المحتمل على برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي وبالتالي تأخير الحصول على التمويل الخارجي باستثناء المساعدات الإنسانية، مما سيؤدي الى انهيار سعر صرف الليرة في السوق الموازية بشكل أكبر ويسرّع وتيرة زيادة نسبة التضخم إلى ما فوق 100 في المئة، ويعمّق الانكماش الاقتصادي من -24 في المئة (المتوقعة بعد الانفجار) إلى -30 في المئة.

اعتبر ايراديان إنّ الانفجار الهائل الذي حصل في مرفأ بيروت يسلّط الضوء بشكل أكبر على ثقافة الإهمال والفساد لدى الطبقة الحاكمة، والتي أغرقت البلاد في أسوأ أزمة اقتصادية ومالية، مقدّراً الاضرار الناتجة من الانفجار بأكثر من 10 مليارات دولار (ما يعادل 30% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع للعام 2020).

 

وعدّل إيراديان توقعاته للاقتصاد اللبناني بعد الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، مرجّحاً زيادة نسبة الانكماش الاقتصادي من -15 في المئة المتوقعة للعام 2020 إلى -24 في المئة. وقال لـ«الجمهورية»: «انّ لبنان كان يعاني بالفعل من أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ استقلاله في العام 1943، ونظراً إلى الانكماش الكبير في الإنتاج والانخفاض الهائل في سعر الصرف الموازي، فقد يتقلّص الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في العام 2019 إلى 33 مليار دولار في العام 2020، في حين انّ الأجور آخذة في الانخفاض بشكل حاد، نتيجة تراجع القدرة الشرائية للمواطن، بسبب انهيار سعر الصرف الموازي». لافتاً الى انّ معدّل التضخم السنوي لمؤشر أسعار الاستهلاك قد يكون تجاوز 110% الشهر الماضي. وبالتالي، قد تتجاوز نسبة البطالة والفقر 35 و 50 في المئة على التوالي.

 

وذكّر إيراديان انّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والجهات المانحة الرسمية الأخرى جمّدت الدعم المالي بشكل أساسي بسبب الفشل المتكرّر للطبقة السياسية (الممثلة في البرلمان والحكومة) في تنفيذ الإصلاحات، بما في ذلك اقرار مجلس النواب لقانون استقلالية القضاء، تعيين هيئة ناظمة لقطاع الكهرباء ومجلس إدارة لمؤسسة الكهرباء وقانون المشتريات العامة.

 

وقال: «بدلاً من ذلك أهدرت الحكومة والبرلمان الكثير من الوقت في مناقشة حجم خسائر النظام المصرفي، وفي إلقاء اللوم على الأحزاب السياسية المعارضة، وعلى الحكومات الأجنبية لعدم مدّها بالدعم المالي الدولي».

 

في المقابل، رأى انّ الانفجار قد يؤدي إلى عهد سياسي جديد وإصلاحات اقتصادية حقيقية. وقد تؤدي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة إلى بيروت بالاضافة الى ضغط الشارع والاحتجاجات، إلى اتفاق سياسي جديد وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها والتي ستطلق الدعم المالي الدولي. معتبراً انّه يمكن التغلّب على هذا المأزق من خلال المناقشات بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي عبر فريق اقتصادي لبناني مختصّ جديد ودعم الأغلبية في البرلمان لتنفيذ إصلاحات حاسمة.

 

وعدّد ايراديان الإجراءات الرئيسية التي يتوقع صندوق النقد الدولي من السلطات تنفيذها قبل الاتفاق على اي برنامج إنقاذ:

 

-1 تعزيز الحوكمة والمساءلة.

-2 استدامة الدين العام كشرط للإقراض، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنفيذ التدابير المالية المدرجة في خطة الحكومة.

-3 اقرار قانون لفرض ضوابط على رأس المال.

-4 إلغاء نظام سعر الصرف المتعدد للمساعدة في حماية احتياطيات لبنان الدولية.

5. تقاسم الأعباء. تنفيذ إجراءات لمساعدة النظام المصرفي في استعادة ملاءته. ويمكن أن يشمل ذلك تخصيص جزء من العوائد المفرطة التي حققها كبار المودعين في إعادة رسملة البنوك لحماية مدخرات غالبية المودعين اللبنانيين العاديين.

 

الاقتصاد بعد 2020

 

نظراً الى عدم اليقين في شأن رغبة السلطات في تنفيذ الإصلاحات اللازمة للتوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، أعدّ ايراديان سيناريوهين لتقييم الآفاق الاقتصادية للبنان على المدى المتوسط:

 

-1 السيناريو الأول، والمرجّح حصوله بنسبة 60 في المئة، يعتمد على تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية والحصول على برنامج انقاذ من قبل صندوق النقد الدولي وبالتالي على تمويل خارجي كافٍ.

 

في هذا السيناريو أفترض حدوث تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية حقيقية. ويشمل التغيير السياسي تشكيل حكومة جديدة مستقلة عن الانتماءات الطائفية، تلبّي تطلعات شعبها، تليها انتخابات نيابية مبكرة لنزع فتيل أزمة سياسية متصاعدة. ويفترض السيناريو «1» أيضاً تنفيذ الإصلاحات التي أبرزها صندوق النقد الدولي والتي تمّ تضمينها في البرنامج الاقتصادي للحكومة، والتي واجهت حتى الآن مقاومة قوية من مجموعات المصالح الخاصة في الحكومة والبرلمان. في هذا السيناريو، قد يرتفع سعر الصرف الموازي إلى أقل من 6000 ليرة مقابل الدولار الاميركي في حلول أوائل العام 2021، وينخفض ​​معدل تضخم مؤشر أسعار الاستهلاك تدريجياً، مما يمكّن البنك المركزي من توحيد أسعار الصرف المتعددة بحلول منتصف العام 2021.

 

ومن شأن انضباط أي حكومة جديدة قد يتمّ تشكيلها أن يحسّن ثقة المستثمرين المحليين والأجانب، ويمهّد الطريق لتدفقات رأس المال بشكل رسمي بما في ذلك الحزمة المالية البالغة 11 مليار دولار التي تمّ التفاوض عليها في مؤتمر «سيدر» في باريس في العام 2018، و 8.5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وربما عدة مليارات من دول مجلس التعاون الخليجي.

 

مثل هذه النتيجة من شأنها تجديد الاحتياطات، ودعم الانتعاش الاقتصادي بشكل قوي، وتضييق العجز المالي المزدوج بشكل كبير، ووضع الدين العام في مسار هبوطي ثابت إلى أقل من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

-2 السيناريو الثاني، والمرجّح حصوله بنسبة 40 في المئة، يعتمد على سياسة الوضع الراهن وعلى امكانية تنفيذ إصلاحات اقتصادية محدودة وعلى غياب أي برنامج لصندوق النقد الدولي، بل فقط مساعدات طارئة يمكن أن يبلغ حجمها أقل من مليار دولار.

 

وشدّد ايراديان على انّه من دون تغيير سياسي وإصلاحات اقتصادية حقيقية، ستستمر البلاد في الغرق، «في هذا السيناريو، نفترض عدم وجود تغيير سياسي كبير وإصلاحات اقتصادية محدودة، مما سيؤدي في النتيجة الى اقتصار التمويل الخارجي على المساعدات الطارئة من فرنسا / مؤتمر الأمم المتحدة الذي عُقد في 9 آب الماضي. ونظراً لحجم المشاكل، فإنّ الإصلاحات المحدودة ستؤدي إلى استمرار تدهور الثقة».

 

ورجّح في ظلّ عدم وجود أسباب ملموسة للتفاؤل، أن يستمرّ سعر الصرف في التدهور بشكل اكبر، مما سيُبقي نسبة التضخم عند مستويات مرتفعة ويستنفد احتياطي العملات الاجنبية بحلول نهاية العام 2022، ويؤدّي الى استمرار الانكماش الاقتصادي، في حين ستبقى نسبة الدين العام أعلى بكثير من 120 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024.

 

رنى سعرتي.