انطلقت السوق السوداء لتسعير الدولار الاميركي مقابل الليرة اللبنانية في بيروت، مع اعلان حاكم مصرف لبنان عن بداية ازمة شح الدولار، اعتباراً من شهر آب 2019. وقد اعتبر الحاكم وقتذاك، انّه من الطبيعي ان يكون هناك فارق بين سعر الصرف الرسمي مقابل سعر السوق السوداء، محدّداً ايّاه بـ10 في المئة.
من المفهوم عموماً انّ السوق السوداء او السوق الموازية للسلع والخدمات كما العملات، ينشأ بسبب زيادة الطلب على العرض المؤسس دائماً على اسباب اقتصادية ومالية وسياسية ونفسية.
هكذا لعب سعر الصرف في السوق السوداء دور «الباروميتر» للاقتصاد، عبر اختصار هذه العناصر الاربعة في سعر واحد. الوجه الآخر لمشكلة وجود سوق موازٍ او سوق سوداء في اي عملة، يعود الى فرض سعر مشوّه للعملة بقوة القانون، يخلق الفارق بين اسعار الصرف في سوق واحدة، لأنّ السوق لا يستطيع ان يلبّي كل حاجاته بالسعر المشوّه.
عادةً ما يكون للسلطة النقدية اسباب مختلفه وراء القبول بهذا الفارق. اهم هذه الاسباب هي انّ هذه السلطة لا تريد او لا تستطيع الاستغناء عن سعر الصرف الرسمي، وفي الوقت عينه تريد ان تخفّض حجم الطلب على العملات الاجنبية.
في الاقتصادات التي لا تتعرّض (او تتعرّض بشكل هامشي) للاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، يلعب سعر الصرف العائم الدور المانع لوجود اسواق موازية. مثال ذلك، العملات العائمة التي تختزل كافة المؤشرات المؤثرة في سعر الصرف الرسمي، بما يلغي عملياً اي حاجة للسوق السوداء.
يحتاج ذلك الى بنوك مركزية قوية بما يكفي، والى تنسيق السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في الدولة. وعدم وجود هذين الشرطين، وبخاصة الضعف في احتياطات البنك المركزي، يسمحان بنشوء مراكز خارج السلطه النقدية تتحكّم بسعر الصرف في السوق السوداء.
انّ المشكلة التي تعاني منها السيولة في لبنان اليوم، بالعملات الاجنبية كما بالليرة اللبنانية، حوّل هذه المراكز الى سلطة او سلطات نقدية بديلة، في ظلّ ضعف البنك المركزي، وهو ما كنا قد حذّرنا منه منذ انطلاق ازمة شح الدولار وأزمة شح الليرة (التي برزت مع التعميم الوسيط الرقم 573).
يُعتبر الهبوط الاخير في سعر صرف الدولار في السوق السوداء من حوالى 9000 ليرة الى ما دون 7000 ليرة، اختباراً قوياً لميزان القوى في السوق السوداء. فإذا كنت قادراً على احتكار السيولة بالدولار ولديك مخزون واسع من السيولة بالليرة، فأنت تستطيع ان تتلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء.
يقول حاكم مصرف لبنان، انّ حجم السوق السوداء لا يتجاوز 10 الى 15% من مجموع السيولة المتوفرة. اي انّ هذه النسبة الضئيلة من حجم المبادلات باتت قادرة على السيطرة على اتجاه تقلّبات سعر الصرف. ماذا يعني ذلك؟
هبوط إصطناعي
لقد شكّك الاقتصاديون والمحلّلون في شؤون المال في بيروت، بهذه القدرة العجيبة لتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، على تأمين هذا الانخفاض الواسع في السوق السوداء، معتبرين ايضاً انّ هناك مراكز مالية تحرّكت في لحظة، ما لفرض هذا الهبوط الاصطناعي في سعر الصرف في السوق الموازية.
دعونا هنا نأخذ حالة اخرى للدراسة. ماذا لو وجدت هذه المراكز (أو ما أُسمّيه السلطة النقدية الخفية) انّ من مصلحتها ان تنزع بسعر الدولار في الاتجاه المعاكس؟ نحو العودة الى 9000 ليرة للدولار او الى 15000 او اكثر او اقل؟ فما دام هذا الجزء القليل من السيولة قادراً على تسعير السوق السوداء بمجملها، وقادرًا على قلب توقعات المتعاملين، فما الذي يمنع تحول هذا التسعير من باروميتر للاقتصاد الى باروميتر للسياسة؟ ماذا لو حاول احد الاطراف المحليين الوازنين الاعتراض على حصّته في التركيبة الحكومية او على قرارات قد تتخذها الحكومة المزمع تشكيلها؟ ماذا لو تعقّدت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية؟ الجواب: انظر ماذا فعلت، انظر الى سعر الصرف!.
هناك عدد كبير من العِقد سوف يظهر مع تطور الاوضاع، وقد يحتاج الى تدخّل «تسهيلي» ما في السوق السوداء.
قد لا يكون صحيحاً ما يتمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، من انّ حاكم مصرف لبنان بالاتفاق مع المصارف الكبرى، ضخّ دولارات سخية في السوق من اجل دعم ترشيح الحريري، والإيحاء بأنّ تشكيل الحكومة سوف يدفع الى مزيد من انخفاض سعر الصرف في السوق السوداء. لكن ما تُتهمّ به المصارف اليوم ممكن ان تمارسه هذه المصارف او اخصام لها، فليس هذا هو الاساس. الاكيد انّ استخدام هذه التقنية من قبل مراكز المال الكبرى امر ممكن، لتوجيه سعر الصرف في السوق السوداء، بما يخدم أجندات سياسية محلية وخارجية، ومن اطراف ربما تكون متناقضة.
نحن نعيش في ظلّ اسوأ أشكال ادارة الاقتصاد، واسوأ أشكال ادارة المالية العامة، والآن في أخطر مراحل إدارة النقد.