أدى «كوفيد – 19» إلى تغييرات عالمية كبرى، وقد تركت هذه المتغيرات بصماتها على الصناعة النفطية، واحدة من كبرى الصناعات العالمية. فقد تقلص الطلب على النفط بسبب الإغلاقات المتكررة للمتاجر، ولصعوبات السفر بسبب أنظمة الطوارئ الصحية المتعددة. وقد نشرت الدورية الشهرية لمنظمة «أوبك» حول أسواق النفط في عددها نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 دراسة مسهبة حول الآثار المترتبة لـ«كوفيد – 19» على المخزونات النفطية العالمية، وانعكاساتها على الأسواق العالمية.
تشير دراسة «أوبك» إلى أن «كوفيد – 19» قد أدى إلى ارتباكات عدة في توازن العرض والطلب في الأسواق خلال عام 2020، منها زيادة المخزون النفطي العالمي إلى مستويات قياسية؛ نظراً إلى الفروق الجديدة في توقيت وصول الإمدادات ومعدلات الانخفاضات العالية للطلب. كما تؤكد «أوبك» أن المعلومات الدقيقة لمستوى المخزون النفطي متوافرة بشكل وافٍ في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (الدول الصناعية الغربية)، وذلك من خلال المعلومات التي توفرها المؤسسات الحكومية لهذه الدول، هذا بينما المعلومات المتوافرة من بقية الدول (الأقطار النامية ودول العالم الثالث) مستمدة من معلومات رسمية وأخرى تقديرية؛ مما يترك أسئلة كثيرة على دقة التقديرات والمعلومات.
انخفض المخزون النفطي في البداية بسبب قرار الأقطار الأعضاء في منظمة «أوبك» تخفيض الإنتاج نحو 3.50 مليون برميل يومياً، مقارنة بمعدل إنتاج المجموعة للفترة نفسها للعام السابق، هذا بينما قرر أعضاء مجموعة «أوبك+» غير الأعضاء في «أوبك» تخفيض الإنتاج 1.2 مليون برميل يومياً مقارنة بالفترة نفسها عن العام الماضي. وقررت أيضاً دول منتجة خارج المجموعة و«أوبك» تخفيض الإنتاج لأسباب مختلفة (الولايات المتحدة، كندا، البرازيل والنروج) بما مقداره 0.6 مليون برميل يومياً.
لكن، رغم محاولات تخفيض الإنتاج هذه من دول متعددة، ارتفع مستوى المخزون العالمي إلى معدلات قياسية. إذ تشير أرقام المخزون لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى ازدياد بنحو 290 مليون برميل، بينما ازداد مخزون الأقطار النامية ودول العالم الثالث بنحو 540 مليون برميل. كما ازداد المخزون على الناقلات في أعالي البحار خلال الأشهر التسعة الأولى لعام 2020 بنحو 162 مليون برميل، أو نحو زيادة 600 ألف برميل يومياً. من ثم، فقد ارتفع مخزون النفط العالمي منذ بداية العام وحتى نهاية الشهر التاسع منه نحو مليار برميل.
وعلى ضوء هذا الاتجاه في ارتفاع المخزون النفطي العالمي، قررت مجموعة «أوبك+» اتخاذ قرار مهم في أبريل (نيسان) 2020 بتعديل الإنتاج مرة أخرى؛ نظراً لضرورة ذلك في وضع حد لزيادة المخزون. شكّل الهدف الأساسي من هذا التخفيض محاولة تقليص المخزون لأجل إعادة توازن العرض والطلب في الأسواق.
من ثم، انخفض مخزون النفط الخام والمنتجات البترولية خلال الفترة ما بين نهاية الفصل الثاني وحتى نهاية الفصل الثالث من العام نحو 250 مليون برميل. ومن الواضح أنه دون مساهمة تخفيض الإنتاج هذا من قبل مجموعة «أوبك+» لما تسارعت المحاولات لإعادة التوازن لأسواق النفط ولما انخفض المخزون، بل لاستمر الارتفاع العالي، ومن ثم تدهور الأسعار لمستويات منخفضة جداً.
على ضوئه، انخفض معدل المخزون التجاري لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، من نهاية الربع الثاني لعام 2020 إلى نهاية الربع الثالث لعام 2020 نحو 44 مليون برميل.
ويعتبر مؤشر المخزون التجاري لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤشراً مهماً للأسواق العالمية؛ نظراً لمصداقيته وشفافيته. كما انخفض معدل التخزين للفترة نفسها للأقطار النامية ودول العالم الثالث نحو 55 مليون برميل. وانخفض في الوقت نفسه، معدل المخزون البحري على الناقلات نحو 150 ألف برميل.
أدت هذه التخفيضات للمخزون خلال عام 2020 إلى الحد من الزيادة المتوقعة له مع بداية عام 2021، ومن ثم الأخطار على المعدل السعري. لكن رغم هذه المحاولات الاحترازية المتعددة لتخفيض الإنتاج، فإن الإغلاقات المستمرة مع موجات زيادة الجائحة «كوفيد – 19» تتطلب المراقبة المستمرة والإجراءات اللازمة للحفاظ على ميزان معتدل للعرض والطلب. وهذا ما سيتم النظر فيه في الاجتماع الوزاري لمنظمة «أوبك» ومجموعة «أوبك+» في نهاية شهر نوفمبر والأول من ديسمبر (كانون الأول).
بالإضافة إلى تقرير «أوبك»، يتوجب التنويه إلى أن الأرقام والتنبؤات أثناء الأزمات تختلف كل الاختلاف عن المعدلات المعتادة في الأوقات الطبيعية؛ الأمر الذي يجعل من الصعب جداً على المسؤولين في منظمة «أوبك» وبقية الدول المنتجة مراقبة الأسواق وإحلال التوازن في ميزان العرض والطلب دون اللجوء إلى قرارات من نوع جديد يتم تمام الالتزام بها.
كما واجهت وتواجه الأقطار المنتجة منذ تأسيس منظمة «أوبك» في عام 1960 صعوبة كبرى في اتخاذ وتنفيذ القرارات المتعلقة بتخفيض الإنتاج. وتشير التجارب في هذا المجال إلى عدم التزام بعض الدول بالقرارات، إما للوضع الاقتصادي الداخلي في الدولة المعنية وحاجتها إلى أموال إضافية، رغم موافقتها على التخفيض، أو لالتزام الدولة بعقود طويلة المدى مع الشركات العاملة على إنتاج معدلات معينة من النفط الخام. وفي كلتا الحالتين، فإن الدولة المعنية المخالفة لاتفاق تخفيض الإنتاج تضر بمصلحتها ومصلحة الأقطار الأعضاء الآخرين في المنظمة أو المجموعة. إذ إن مخالفة اتفاقات التخفيض تنفضح بسرعة من قبل وسائل الإعلام المتخصصة؛ الأمر الذي يؤدي إما إلى استمرار الأسعار على مستويات متدنية في أحسن الأحوال، أو انخفاضها إلى معدلات دنيا. وفي كلتا الحالتين ستخسر الدولة التي تخالف الاتفاقات، حالها حال الدول الملتزمة بالاتفاقات والتي تشعر بالغبن لالتزامها بما وقّعت عليه في حين تجد أن دولاً أعضاء آخرين معها في المنظمة أو المجموعة تخالف بما وقعت عليه، أو أنها وقّعت مع كامل العلم عند التوقيع عن عدم نيتها التنفيذ.
تواجه منظمة «أوبك» ومجموعة «أوبك+» تحدياً كبيراً خلال جائحة «كوفيد – 19». فمن غير المعروف بعد حتى يومنا هذا، ورغم الأخبار اليومية عن احتمال اكتشاف لقاح يعالج الجائحة، ما هو مدى نجاح كل من هذه اللقاحات بعد، والأهم من ذلك، ما هي إمكانية معظم دول العالم الثالث الحصول على اللقاح الناجح لشعوبها؛ مما يعني ما هي فترة الانتظار لكثير من هذه الدول تلقيح مواطنيها ضد الجائحة، وهذا الأمر يعني بدوره التخوف من حالات الإغلاق مستقبلاً في الدول النامية إلى أن تتضح إمكانية هذه الدول شراء اللقاح الناجح. وهذا الأمر يعني بدوره، ما هي احتمالات استمرار انخفاض الطلب على ضوء استمرار الإغلاقات في دول العالم الثالث.
استمرت الأسواق مستقرة إلى حد ما خلال الأشهر الماضية في ظل تراوح سعر نفط برنت ما بين 40 و45 دولاراً للبرميل. لكن، فجأة انخفض المعدل تحت معدل 40 دولاراً، وسجل سعر النفط نحو 37 دولاراً؛ مما أثار الكثير من المخاوف لأيام معدودة. من ثم، فالطريق لا تزال وعرة في المستقبل المنظور، بالذات أن معظم الدول بصدد رسم موازنات عام 2021، والتنبؤات بمعدل سعري نحو 60 دولاراً للبرميل. فهذا المعدل الجديد سيتطلب قرارات جديدة من قبل منظمة «أوبك» ومجموعة «أوبك+».
وليد خدوري
– كاتب عراقي متخصص في أمور الطاقة