ما الخيارات المُتاحة بعد 9 أشهر على الإفلاس؟

بعد حوالى 9 أشهر على اعلان حكومة تصريف الاعمال اللبنانبة التوقّف عن دفع «ليوروبوند»، أين أصبح الوضع المالي؟ ما هي فرص إنقاذ الودائع؟ ما هو الثمن الذي لا بدّ منه للخروج من النفق، وكم قد تستغرق عملية الخروج؟

مع إقتراب العام 2020 من نهايته، سوف تبدأ الارقام في الظهور تباعاً، والتي على أساسها يمكن إطلاق تقديرات في شأن الوضع المالي، وفرص الإنقاذ المُتاحة انطلاقاً من الحقائق الجديدة.

رغم أنّ الأجهزة الرسمية عاجزة عن اعطاء أرقام دقيقة للقطاعات وفي مجالات كثيرة، إلّا أنّ بعض المعطيات التي فرضت نفسها حتى الآن، تؤكّد أنّ الاقتصاد يعاني نكسة تُعتبر خطيرة في ميزان الدول التي تواجه أزمات تعثّر وإفلاس. ويمكن هنا إيراد مؤشرين خطيرين يمكن البناء عليهما لتقدير خطورة الوضع.

المؤشر الاول، يتعلق بحجم الاقتصاد (GDP) الذي تراجع بنسبة قاربت الـ70% في غضون بضعة أشهر. وانخفض من حوالى 52 مليار دولار، الى حوالى 18 مليار دولار. هذه النسبة تُعتبر قاسية جداً. وعلى سبيل المثال، ومن خلال المقارنة مع اليونان والارجنتين، يتبين انّ الاولى لم تشهد في أزمة الافلاس، هذه النسبة من الانخفاض في حجم اقتصادها. وسجّل الاقتصاد اليوناني التراجع الأكبر بين 2014 و2015، حيث انخفض من 237 مليار دولار الى 196 ملياراً، أي ما نسبته حوالى 18%. في المقابل، سجّل الاقتصاد الارجنتيني أسرع انخفاض له في العام 2001، حيث تراجع بنسبة تقارب الـ70%، (من 268 مليار دولار الى 98 ملياراً) وهي شبيهة بالنسبة التي سجّلها الاقتصاد اللبناني.

وهنا تنبغي الاشارة، الى أنّ الاقتصاد الارجنتيني استعاد زخمه من حيث الحجم بسرعة اكبر من الاقتصاد اليوناني. وفي تفسير هذه الظاهرة، إنّ الارجنتين عمدت الى تجميد سحب الودائع من المصارف في قرار أُطلق عليه مصطلح «كوراليتو» Corralito . وكان ذلك بمثابة تمهيد لتعويم سعر صرف البيزو. وخسر المودعون من خلال هذه العملية نسبة مرتفعة من ودائعهم.

في مقارنة النموذجين اليوناني والارجنتيني، يتبين انّ المودعين دفعوا الثمن في الارجنتين على عكس اليونان. لكن هذا الوضع ساهم لاحقاً في مساعدة الاقتصاد الارجنتيني في النمو بسرعة اكبر. في حين انّ اليونان حافظت على الودائع، مع «هيركات» بسيط واختياري على طريقة الـBail-in. وبطبيعة الحال، لم تلجأ أثينا الى تعويم عملتها، لأنّها تستخدم اليورو المحمي من البنك المركزي الاوروبي. وهذا ما يفسّر لماذا استغرقت اليونان وقتاً أطول لإعادة تكبير حجم اقتصادها، على عكس الارجنتين، التي نما اقتصادها بسرعة. لكن الفرق ايضاً، انّ اليونان نجحت في فترة زمنية قصيرة نسبياً في العودة الى الاسواق العالمية للاقتراض، في حين انّ الارجنتين، ورغم نمو اقتصادها النسبي، ظلت تعاني من عزلة على مستوى الاسواق، وظلت تعاني من هبوط وصعود، بحيث يمكن القول، انّ أزمتها المالية امتدت لثلاثين أو اربعين سنة، ولا تزال.

خلاصة القول، في هذا الموضوع بالنسبة الى لبنان، انّ هبوط حجم الاقتصاد بهذه النسبة الكبيرة يجعل الامل في الإقلاع مجدداً، من دون «هيركات» أشد تعقيداً. وسيكون الخيار، اذا وصلنا الى مرحلة بدء تنفيذ خطةٍ للانقاذ بالتعاون مع صندوق النقد، بين الانتظار لسنوات طويلة، قبل استعادة حجم الاقتصاد الحالي، أو التضحية بقسم من الودائع لإعادة حجم الاقتصاد الى ما هو عليه في غضون 3 أو 4 سنوات.

المؤشر الثاني، يتعلق بوضع المصارف التي ستكون الركيزة التي سيتمّ الاعتماد عليها في تنفيذ أية خطة للتعافي. وهنا يُطرح السؤال حول التعميم الذي أصدره مصرف لبنان، وأعطى فيه المصارف مهلة حتى شباط 2021 لزيادة رساميلها، واستعادة قسم من الاموال التي خرجت من النظام المصرفي منذ العام 2017. واذا اعتبرنا انّ القسم المتعلق باستعادة نسبة من الاموال التي خرجت لن ينجح، كما تفيد المعلومات المتوفرة حتى الآن، فإنّ السؤال سيكون حول جدوى تنفيذ الشق المتعلق بزيادة الرساميل، اذا كان الوضع باقياً على ما هو عليه اليوم؟ وكيف سيتمّ تحفيز المستثمرين على ضخ اموال اضافية في قطاع يتعرّض لأزمة غير مسبوقة؟ وهل يمكن جذب أي قرش اضافي، الى مصارف وصلت اسعار اسهمها (GDR) في بورصة لندن الى مستويات مُرعبة، بحيث هبطت الى ما دون الـ20 سنتاً، (كانت قبل الأزمة فوق الـ6 دولارات)، في مؤشر يؤكّد انّ الوقت الضائع يلتهم الثقة يوماً بعد يوم، وكلما أفرطت الدولة في تبذير الوقت، كلما ساهمت في ضرب القطاع المصرفي وقضت عليه. وهي بذلك تقضي على أي أمل باستعادة الودائع، أو بالاقلاع والخروج من الأزمة في فترة منطقية.

هذا الواقع يعني انّ الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون، اذا هبط الوحي وبدأ الانقاذ غداً، سيكون باهظاً. اما اذا لم يهبط الوحي، وهذا هو المرجّح، واستمر الوضع على ما هو عليه لفترة أطول، فهذا يعني انّ الخيارات ستصبح محصورة بين مصيبةٍ ومصيبةٍ أكبر، ولا شيء غير ذلك.

انطوان فرح

أوروبا تخطط لعملتها الرقمية الخاصة للغاية

من الواضح أن البنك المركزي الأوروبي عاقد العزم بكل جدية بشأن إصدار عملة اليورو الرقمي الجديد. فبعد مرور ما يقرب من شهر على إصدار البنك المركزي الأوروبي تقريره الرئيسي حول الأمر، ثم طرح المسألة أمام المشورة العامة، صرحت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي بأن غريزتها تخبرها بأن منطقة اليورو ربما تحصل على عملتها الرقمية الخاصة بها في غضون فترة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام على الأكثر. وذلك شريطة أن يتفق معها على ذلك بقية أعضاء مجلس إدارة البنك، ومن شأن تلك الخطوة أن تضع البنك المركزي الأوروبي في مرتبة متقدمة للغاية على البنوك المركزية الغربية الرئيسية الأخرى، وعلى رأسها جميعها بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة.
ويبدو حرص كريستين لاغارد بشأن ذلك الأمر حرصاً استراتيجياً قبل أي اعتبار آخر. إذ تواجه منطقة اليورو المخاطر والفرص نفسها التي تواجهها الاقتصادات المتقدمة الأخرى، من حيث إصدار العملات الرقمية. بيد أن الأوصياء النقديين لعملة الاتحاد الأوروبي قد يستشعرون وجود فرصة نادرة تتيح لهم تحدي هيمنة الدولار الأميركي على مجريات الاقتصاد العالمي، ذلك الهدف الذي طال انتظاره. وسوف تكمن المشكلة في استغلال هذه الفرصة السانحة من دون المساومة على سلاسة سير عمليات النظام المالي في أوروبا.
تعد الفكرة الكامنة وراء العملات الرقمية لدى البنك المركزي الأوروبي واضحة بصورة نسبية، لا سيما مع تراجع استخدام العملات النقدية مع تحول المستهلكين إلى الاستعانة بالمدفوعات الإلكترونية في أغلب المعاملات. كما أصبح هناك اهتمام متزايد أيضاً بمدفوعات الند للند، التي لا تعتمد في الأساس على الاستعانة بالبنوك، حيث يعمل بعض موفري الخدمات من القطاع الخاص، مثل شركة «فيسبوك»، بالاعتماد على العملات الرقمية من شاكلة عملة «ليبرا».
ومع اعتبار أمناء العطاءات القانونية والنظام النقدي المعمول به، فمن المنطقي تماماً أن تتدخل البنوك المركزية في سير المعاملات. ومن شأن العملات الرقمية أن تساعدهم أيضاً في تنفيذ أشكال غير تقليدية من السياسات النقدية، بما في ذلك «الإسقاط المروحي للأموال» أو (التوزيع العشوائي للمال المجاني بين المستهلكين لتحفيز زيادة الصرف)، تلك الأموال التي تذهب مباشرة إلى المحافظ الرقمية للأفراد من المواطنين.
ومع ذلك، فهناك مخاطر كبيرة قائمة أمام هذه الفكرة. ومن أبرزها علاقة عملة اليورو الرقمي بالنظام المصرفي الأوروبي بأكمله. إذ قد يعتقد الناس أن المحافظ الرقمية لدى البنك المركزي الأوروبي أكثر أماناً من الودائع المصرفية التقليدية. وبعد كل شيء، لا يمكن للبنك المركزي أن ينهار. وذلك من المحتمل أن تتدفق الأموال عليهم، لا سيما في فترات الضغوط المالية. ومن شأن ذلك أن يسفر عن تدمير النظام المصرفي بالصورة التي نعرفها عليه، أو على أقل تقدير يؤدي الأمر إلى إجبار المقرضين على سداد معدلات أعلى للإيداع من أجل المحافظة على العملاء.
تتحرك بعض البنوك المركزية بوتيرة سريعة على مسار استكشاف جدوى اعتماد العملات الرقمية. ومن رواد تلك المسيرة هو البنك المركزي السويدي، في حين يحتل البنك المركزي الصيني الصدارة في ذلك بين السلطات النقدية الرئيسية على مستوى العالم.
ومن الواضح أن البنك المركزي الأوروبي لا يرغب في أن يتخلف عن الركب بمفرده، على الرغم من أن تلك المسيرة لا يبدو أنها مدفوعة برغبة أصيلة من قبل المواطنين الأوروبيين الذين تتراجع تعاملاتهم مع العملات النقدية على نحو مفاجئ في الآونة الأخيرة. وأظهرت دراسة صادرة عن بنك التسويات الدولية أن سداد المدفوعات باستخدام البطاقات الإلكترونية في منطقة اليورو أقل انتشاراً بكثير عن المناطق الأخرى حول العالم: ففي عام 2016، بلغت تلك المعاملات نسبة 15.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المجمع، وذلك في مقابل نسبة 45.5 في المائة المسجلة بالمملكة المتحدة وحدها، ونسبة 31.7 في المائة المسجلة بالولايات المتحدة الأميركية.
ومن شأن استخدام بطاقات الدفع الإلكترونية أن يتوسع خلال السنوات القليلة المقبلة، لا سيما مع تسارع انتشار وباء كورونا المستجد حول العالم، ولكن لا تزال قيمة المدفوعات الإلكترونية والنقدية في نقاط البيع داخل منطقة اليورو متكافئة على نحو تقريبي، إذ تمثل التعاملات النقدية نحو ثلاثة أرباع أغلب هذه المعاملات.
فلماذا ترغب كريستين لاغارد في التحرك بوتيرة أسرع من البنوك المركزية الغربية الرئيسية الأخرى على هذا المسار؟
منذ أن بدأت في تولي مهام منصبها الجديد قبل عام من الآن، حاولت لاغارد أن تجعل البنك المركزي الأوروبي أقرب ما يكون من المواطنين في منطقة اليورو. ومن شأن العملة الرقمية أن تكون من وسائل إثبات فائدة البنك المركزي للمواطنين في الاتحاد الأوروبي. بيد أن التفسير الأكثر وضوحاً يكمن في تحدي موقف الهيمنة طويلة الأمد للدولار الأميركي. إذ يبلغ متوسط حصة اليورو عبر مختلف مؤشرات الاستخدام العملات الدولية نحو 19 في المائة عام 2019، أي بالقرب من أدنى المستويات المسجلة تاريخياً له. وإذا لاحظ المرء حركة الودائع الدولية، فإن ما يقرب من 20 في المائة من المبالغ المستحقة كانت باليورو الأوروبي فقط، في حين أن أكثر من 50 في المائة من النسبة نفسها كانت بالدولار الأميركي.
وجاء في تقرير البنك المركزي الأوروبي الصادر في الشهر الماضي بشأن اليورو الرقمي، على نحو صريح: «من شأن النظام المصرفي الأوروبي أن ينظر في أمر إصدار عملة اليورو الرقمي بصورة جزئية من أجل دعم الدور الذي يلعبه اليورو على الصعيد الدولي بين المستثمرين الأجانب». وهذا مما يبدو منطقياً للجميع. وهناك ميزة واضحة لمتخذي الخطوة الأولى إزاء العملة الرقمية لدى البنك المركزي، حيث من المتوقع شهود تدفق للمستثمرين الدوليين من أجل تخزين أموالهم لدى البنك المركزي الأوروبي. ومن الواضح أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان أكثر حذراً بشأن إصدار عملة الدولار الرقمية حتى الآن.
هناك دائماً مخاطر لازمة مع تولي زمام المبادرة. إذ ينبغي على البنك المركزي الأوروبي النظر في آثار تلك الخطوة على المصارف التابعة له، التي ربما تفقد إحدى الوسائل الرخيصة في كسب الأموال إذا جرى تهميش أعمال البطاقات الإلكترونية الخاصة بها. ومن باب طرح بعض وجهات النظر الشخصية، اقترح فابيو بانيتا، عضو المجلس التنفيذي لدى البنك المركزي الأوروبي، الذي يتصدر هذه العملية، مع أولريتش بيندسيل، أحد كبار مسؤولي البنك المركزي الأوروبي، فكرة نظام التعويضات بهدف الحد من كميات الأموال المخزنة لدى البنك المركزي الأوروبي، فمن شأن الاحتفاظ بأكثر من 3 آلاف من اليورو الرقمي أن يحمل معدلاً للفائدة أقل جاذبية من البنوك التجارية التقليدية.
وفي حين أن هذه الاستراتيجية سوف تزداد فاعليتها في فترات الهدوء المالي، فليس من المرجح أن تساعد في وقف هروب رؤوس الأموال إلى الملاذات الآمنة في فترات الأزمات المالية. ويتصور المؤلفان سالفا الذكر أن البنك المركزي الأوروبي يمكنه تخفيض سعر الفائدة على الودائع المالية الكبيرة في أوقات الأزمات المالية، بهدف الحد من مخاطر التدافع المصرفي المعروفة. ولكن حتى هذا التصور ربما لا يكون كافياً لإثناء المودعين عن الفرار بأموالهم.
لا يجانب البنك المركزي الأوروبي الصواب عند النظر في إصدار العملة الرقمية الخاصة به، ولكن ينبغي عليه المضي قدماً بوتيرة متأنية ومشمولة بالعناية والحذر. فلن يكون الاندفاع على هذه الطريق مستحقاً لمخاطر انهيار النظام المصرفي.