متابعة قراءة بريطانيا تتوقع أسبوعا “مهما للغاية” في محادثات خروجها من الاتحاد الأوروبي
الأرشيف اليومي: 29/11/2020
أنفاق وأنوار
مع تفاقم الأزمة الصحية المصاحبة لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ترى العالم وكأنه يتوغل في أنفاق مظلمة يؤدي بعضها إلى بعض. ونحدد هذه الأنفاق في خمسة: أولها، تزايد أعداد المصابين بفيروس «كوفيد – 19» بما يعتبره المختصون بداية لموجة جديدة؛ وثانيها، استمرار تدهور الأداء الاقتصادي بانكماش الناتج العالمي بنحو 5 في المائة، مقارنة بالعام الماضي مع تراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 40 في المائة وانخفاض التجارة الدولية بما يقترب من 20 في المائة وفقدان السياحة إيرادات تتراوح بين 60 في المائة و80 في المائة مقارنة بالعام الماضي؛ وثالثها زيادة المديونية العالمية إلى 258 تريليون دولار بما يعادل 335 في المائة من الناتج المحلي العالمي؛ ورابعها استمرار تدني الأداء في مواجهة تغيرات المناخ وزيادة فجوة التمويل المطلوب لتحقيق للتنمية المستدامة بمقدار 70 في المائة لتصل إلى 4.2 تريليون دولار؛ وخامسها تراجع مساندة منظومة التعاون الدولي متعدد الأطراف في الوقت ذاته الذي يتزايد فيه الاحتياج إليها؛ إذ عانت منظمات دولية مثل منظمة التجارة العالمية من تقويض لصلاحياتها وتجاوز آلياتها في فض المنازعات وتنظيم قواعد التجارة الدولية باللجوء للحمائية ودخول في نزاعات وحروب تجارية، كما تعرضت منظمة الصحة العالمية لهجوم عاتٍ على مصداقيتها.
ورغم الظلمة المعتمة في هذه الأنفاق، فقد لاحت أنوار باعثة على الأمل في الخروج منها، وإن تراوحت هذه الأنوار بين خافت بعيد ومبهر قريب للناظرين إليها:
أولاً: نفق الأزمة الصحية وأضواء مبشرة تعجّل بنهايتها: أثار الإعلان عن تطوير للقاح مضاد لفيروس كورونا حالة من الاستبشار أعادت الأمل في قرب احتواء جائحة كورونا والسيطرة على معدلات تزايدها، خاصة مع تأكيد العلماء المطورين له من العاملين في شركتي «فايزر» الأميركية و«بيونتك» الألمانية، أن المرحلة الأخيرة من التجارب تؤكد فاعليته بأكثر من 90 في المائة. ويحقق هذا الإعلان، الذي نوهت عنه مجلة «الإكونوميست» على غلافها بصورة مضيئة للقاح في نهاية نفق، نصرين علميين جديدين بين سرعة غير مسبوقة في تطوير اللقاح، وفاعلية عالية مقارنة باللقاحات السابق تطويرها للتعامل مع أوبئة أخرى. والعبرة الآن بتأمين وصول هذا اللقاح، وغيره من اللقاحات التي أوشكت أن تصل إلى اعتماد الدوائر الصحية إلى جموع الناس، بما يتطلبه ذلك من تغطية فجوة تمويل دعم نشر اللقاح حول العالم؛ فما تم تدبيره 5 مليارات دولار والمطلوب 28 مليار أخرى، وفقاً لما أعلنته منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي.
ولنا في التعامل مع وباء إيبولا عبرة؛ إذ تزامن اعتماد لقاح إيرفيبو المضاد لفيروس إيبولا في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، بعد سنوات من ظهور الوباء في خمس دول أفريقية، طرح أسئلة مهمة لخصها الطبيب النيجيري إيفيني إنسوفور في خمسة أراها ذات أهمية كبرى لتوفير اللقاح، خصوصاً في الدول النامية. أولها أهمية تدعيم النظم الصحية وقدرتها على الكشف المبكر عن المرض ومنع انتشاره والتصدي له؛ إذ تعاني النظم الصحية في الدول النامية من تراجع في «مقياس الاستعداد» الذي يجب ألا يقل عن 80 في المائة، وفقاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية، وهو لا يتجاوز في واقع الأمر 50 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء. ثاني هذه الأسئلة يتمثل في مدى توافر الأمن والاستقرار في عدد من الدول بما يمكّن الطواقم الطبية من القيام بعملها؛ فقد تعرض الكثير من الأطباء والممرضين للقتل والأذى أثناء قيامهم بالعمل في مجتمعات افتقدت الأمن. ثالث هذه الأمور يتعلق بشرح فائدة اللقاح وعدم انتظار انتشار الإصابة وتفشيها ليقبل الناس عليه؛ وقد رأينا مظاهرات ضد التطعيم لأسباب مختلفة، منها أن هناك من يعتقد بأن هذا الوباء وما يدور حوله ما هو إلا مؤامرة نسجت خيوطها بليل لإلهاء الناس أو ابتزازهم؛ وهو ما يستدعي نشر الوعي بالحقائق من قبل أهل العلم والاختصاص. رابع هذه الأمور يتمثل فيما أشرت إليه في مقال سابق عن افتقاد 40 في المائة من المراكز والوحدات الصحية في دول نامية للمياه النقية، وحرمان 35 في المائة من المطهرات والصابون لغسل الأيدي؛ بما يعرض المترددين عليها والعاملين لمخاطر العدوى ونشرها. وأضيف إلى ما سبق، أن هناك متطلبات لوجيستية وتخزينية يتعذر توفيرها في ربوع الدول النامية لتخزين اللقاح عند درجة حرارة تقل عن 70 درجة مئوية تحت الصفر في بلدان محرومة من الكهرباء في قراها وأحيائها، ناهيك عن تكلفة التبريد تخزيناً ونقلاً. قد يمنح هذا فرصة أكبر في المنافسة للقاحات قيد الانتهاء من آخر مراحل اعتمادها، مثل لقاح شركة «موديرنا» الأميركية، فضلاً عما يتردد عن قرب اعتماد لقاحات صينية وروسية مطورة.
ثانياً: نفق الديون وأضواء للدول الأكثر فقراً؛ بعد معاناة الدول النامية الأكثر فقراً ومنخفضة الدخل من أعباء الديون وعدم قدرتها على سداد أقساطها مع تبعات أزمة «كورونا» من نقصان في الموارد وزيادة النفقات ظهرت مبادرات تبنتها مجموعة العشرين، منها تأجيل سداد الأقساط ومد فترة هذا التأجيل حتى شهر يونيو (حزيران) من العام المقبل. ثم جاءت المطالبة بضرورة إعادة الهيكلة للديون المتراكمة حالة بحالة، خاصة مع ارتفاع ديون 73 دولة فقيرة بمقدار 10 في المائة لتصل إلى 740 مليار دولار في الشهر الماضي.
وفي الأسبوع الماضي اتفق وزراء مجموعة العشرين في إطار الرئاسة السعودية الحالية على إطار عمل مشترك بمبادئ معلنة متوافقة مع قواعد نادي باريس للتفاوض مع الدول الفقيرة الراغبة في تخفيض ديونها، ويفتح هذا الاتفاق المجال لدخول الدول الدائنة من غير الأعضاء في نادي باريس في هذا الإطار. يبقى أن دولاً نامية أخرى متوسطة الدخل تتعرض للضرر ذاته، لكنها غير مشمولة في هذا الاتفاق، كما أن هذا الاتفاق غير ملزم للدائنين من القطاع الخاص، سواء من البنوك أو حملة السندات، بما يشير إلى عدم اكتمال إطار إعادة الهيكلة للمديونية الدولية بعد، وأن البنيان المالي العالمي ما زال في حاجة إلى تدعيم وتطوير.
ثالثاً، أنفاق الاقتصاد وأنوار أخرى متباينة القوة والأثر. نترقب مع اقتراب بداية عام جديد ما ستحققه الإدارة الأميركية الجديدة وتفعيلها أولويات حددتها عن مساندة جهود مكافحة تغيرات المناخ والعودة لاتفاق باريس وضخها تريليونين من الدولارات في مشروعات استثمارية في البنية الأساسية متوافقة مع هذا الاتفاق. وفي هذه الأثناء تبدأ المملكة المتحدة السنة الأولى حتى عام 2025 نحو تطبيق قواعد الإفصاح الملزم لمؤسساتها المالية والاقتصادية عن المخاطر المالية المرتبطة بتغيرات المناخ، مع زيادة متوقعة في أعداد الدول التي ستتبع النهج ذاته بما سيغير من مسارات تمويل المشروعات، خاصة المتعلقة بالطاقة والبنية الأساسية والنقل.
كما تظهر بداية ضوء لما سيسفر عنه اختيار قيادة جديدة لمنظمة التجارة العالمية، متزامنة مع تفعيل أكبر اتفاق لتحرير التجارة تم توقيعه منذ أيام في قمة استضافتها فيتنام لتجمع دول «آسيان» العشر مع الصين، واليابان، وكوريا، وأستراليا، ونيوزيلاندا؛ ليضيف 200 مليار دولار سنوياً للاقتصاد العالمي.
وقبل انقضاء هذه السنة التي شهدت الجائحة يتوقع 100 مليون ممن حل بهم الفقر المدقع، ومعهم 250 مليون إنسان تعرضوا للجوع، و495 مليون ممن فقدوا أعمالهم في القطاع الرسمي وأضعاف عددهم في القطاع غير الرسمي، يتوقعون ويستحقون المساندة لإخراجهم من فلك الفقر والجوع والبطالة. وفي هذا، فإن في همة الدولة الوطنية واستثمارات مؤسساتها الخاصة والعامة، وتضامن المجتمع المحلي ومنظماته، لتفعيل الاقتصاد وآليات عمله وإنتاجه ما يغني حتماً عن انتظار معونات وهبات ومساعدات خارجية، قد تأتي أو تضل الطريق في نفق من وعود لا تتحقق. فليس كل ضوء يلمع في نهاية نفق نوراً هادياً للخروج منه.
د. محمود محي الدين